كانت تسير بخطى متخاذلة باتجاه بوابة المنزل الداخلية بعد ان اجتازت البوابة الخارجية بصمت قاتم ونظراتها معلقة بالأرض والتي تدوس عليها بهدوء كهدوء الليل من حولها ، وهي تشعر بكل الأعباء والتي كانت تتحملها لسنوات تزداد حملا على ظهرها حتى كادت تقسمه لنصفين وجميع خيوط الأمل والتي كانوا يملكونها من قبل قد بدأت بالتسرب من بين ايديهم تدريجيا حتى لم يتبقى لهم شيء يتشبثون به للنجاة بهذه الحياة .
توقفت بهدوء امام درجات السلم القليلة للباب وهي ترفع كفها بارتجاف لتمسح عينيها الخضراوين بتشوش اصبح يغيم على نظراتها بعد يوم شاق طويل من التنقل بين المدارس الواحدة تلو الأخرى املاً بالوصول للمدرسة والتي تتقبل وجودها فيها ، اخفضت بعدها كفها لترفع قدمها بثبات وهي تحاول صعود الدرجات بكل ما تستطيع من اتزان فقدته بأثقال الحياة ليتحول لاختلال احتل كل طرف من اطراف جسدها المنهك .
لم تنتبه عندما توقفت بسبب الجسد والذي اعاق عليها الطريق وهو يظهر امامها فجأة عند آخر عتبة صعدتها لتوها ، ليختل عندها توازنها تلقائياً وهي تتراجع للخلف درجتين من السلم ودوارها بدأ يلفها بقوة مانعا لها من استرجاع توازنها والتشبث بالأرض والتي بدأت تشعر بها تطير بعيدا عن قدميها .
"روميساء افيقي ! هل انتِ بخير ؟"
تغضنت ملامحها بشحوب عندما اخترق الصوت الهادئ بصرامة غمامة دوارها والتي شوشت ذهنها تماما ، لتفتح بعدها عينيها بضيق نصف انفتاح لتواجه عينان رماديتان مظلمتان بقتامة تنظران لها بقوة اخترقتا هشاشة عينيها الشاحبتين وبعض الاحمرار كان يغزو زاويتهما ، بينما كان (احمد) شارد بشحوب ملامحها الواضح وهالات سوداء طفيفة تحتل اسفل عينيها وفوق جفنيها الواسعين وهي تحيط حدقتيها الخضراوين مع الاحمرار والذي زاد فتنتهما .
انتفضت (روميساء) بسرعة وهي تفتح عينيها على اتساعهما بانشداه لتخفض عندها نظرها للأسفل وهي تكتشف بأنها محمولة بين ذراعيه بدون ان تشعر ، لترفع نظراتها بلحظة بارتباك وهي تقول بضيق وببعض الوجل
"لو سمحت هلا انزلتني للأرض رجاءً ! لأستطيع الوقوف لوحدي"
افاق (احمد) من افكاره قبل ان ينظر للأسفل بتفكير وهو يتمتم بوجوم
"هل حقا تستطيعين الوقوف لوحدكِ الآن لأنك كدتِ تقعين عن درجات السلم من صدمة رؤيتكِ لي ؟ وانا حتى لم ألمسكِ بجسدي بعد !"
تنفست بإنهاك وهي تلعن حظها والذي يجعلها دائما تتقابل مع نفس الشخص وبكل مرة تصطدم به لتكتمل صورتها الخرقاء امامه ، قالت بعدها بحدة خافتة وهي تحاول التلوي بضعف بين ذراعيه
"ارجوك يا سيد احمد انزلني ، منظرنا هكذا لا يليق ابدا بسمعة عائلتك وقد يظنون بنا السوء !"
تجهمت ملامحه وهو يشدد من ضم جسدها اكثر وكلمة سيد تضرب لباقته معها بالصميم ، ليقول عندها بجفاء وهو ينظر لها بقوة
"ولكنها عائلتكِ انتِ كذلك ! وهذا يعني بأن سمعتكِ انتِ ايضا ستتأثر"
اتسعت عينيه الرماديتين بتركيز وهو ينظر لارتجاف احداقها بخضار باهت قبل ان تهمس بشرود حزين استشفه بصوتها المنكسر
"لن تتأثر اكثر مما هي متأثرة به يا سيد احمد !"
عاد لعبوسه من جديد وهي تصر على مناداته بلقب سيد وبكل مرة يشعر بنفس الصدمة وكأن احدهم قد ضربه على رأسه للتو بمطرقة من حديد ، ليقول بعدها بتصلب وهو يبتسم بصعوبة امام نظراتها الحائرة
"إلى متى ستبقين تناديني بلقب سيد وكأني شخص غريب عنكِ ؟"
انفرجت شفتيها الممتلئتين بإغراء ببلاهة وهي تهمس بانشداه
"ماذا ؟!...."
قاطعها صوت انثوي بارتفاع وهو يقول من خلفه عند مدخل المنزل بقوة
"احمد ماذا تفعل ؟....."
ابتلعت (سلوى) المتبقي من كلامها بصدمة وملامحها تتحول بلحظة للغيظ الشديد والذي ينبأ على نواياها بأحراق الاخضر واليابس من حولهما وهي تنظر لزوجها يحمل ابنة خاله بين ذراعيه بكل اريحية ! بينما تمالكت (روميساء) نفسها وهي تتملص من بين ذراعيه بشراسة وقوة تداهمها لأول مرة من فعل الصدمة والخوف من هيئة زوجته الشرسة والتي تبدو عليها إمارات الجنون ، ليفلتها بعدها رغما عنه بهدوء وهو ينزلها على الأرض برفق شديد ، وما ان فعل حتى ابتعدت عنه بسرعة وهي تدفع كلتا ذراعيه بعيدا عنها لتعدل من خصلات شعرها السوداء للخلف بارتباك شديد .
تقدمت (سلوى) نحوهما عند مدخل المنزل بخطوات جامدة ونظراتها ما تزال معلقة ب(روميساء) بتركيز حاد ، لتقف بعدها امامهما وهي تنقل نظراتها بينهما ببرود جليدي يخفي من خلفه الكثير ، وما ان كانت على وشك الكلام بجنون ظاهر بوضوح على ملامحها حتى قاطعتها (روميساء) وهي تقول بخفوت لبق بدون ان تنظر أليهما
"عن اذنكما"
انسحبت بعدها بسرعة من امام نظراتهما قبل ان تسمع اي تعليق منهما وهي تشعر بأن قوتها قد خارت تماما امام كل هذا الضغط والذي تعرضت له لليوم ، ولا ينقصها المزيد من الشد والعطا مع اي فرد من افراد العائلة الغريبة بكل شيء يصدر منهم !
صرخت (سلوى) فجأة وهي ما تزال تتابع مسار خطواتها من مكانها
"توقفي بمكانكِ يا ابنة المجرم فأنا لم ابدأ بالكلام معكِ بعد ! إياكِ وأن تتجاهليني....."
قاطعها (احمد) وهو يمسك بذراعها بصرامة جادو
"اتركيها وشأنها يا سلوى فهي لم تفعل شيء لتحقدي عليها هكذا"
استدارت نحوه بعنفوان مشتعل وهي تدفع كفه بعيدا عنها وبعد ان اختفت (روميساء) عن انظارهما بداخل البهو الواسع ، قالت بعدها باستهزاء واضح وحدقتيها تنظران له باشتعال ناري
"ومن الذي فعل إذاً ؟ هيا اجبني يا احمد من الذي كان يحمل تلك الفتاة بين ذراعيه وامام مدخل المنزل ايضا وكأنه كان ينتظر مجيئ الاميرة للمنزل بفارغ الصبر ؟!"
امتقعت ملامحه فجأة من كلامها السافر بحقهما قبل ان يقول باستنكار حانق
"اخرسي يا سلوى واسمعي ما سأقوله لكِ قبل ان تحكمي على ما حدث من تفكيرك المريض وما يوهمه لكِ به عقلكِ الصغير ! فهذا الكلام لا يخرج ابدا من زوجة محترمة تثق بزوجها اكثر من نفسها !"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها لتهمس بعدها بعصبية بالغة
"وماذا تتوقع مني ان افعل مثلا وانا أرى زوجي يحمل فتاة أخرى بين ذراعيه ؟!"
حرك عينيه بعيدا عنها بملل وهو يقول بتصلب مشتد
"كان عليكِ الاستفسار اولاً والسؤال قبل ان تطلقي لسانكِ الأحمق كالمبرد ، وبالمناسبة تلك تكون ابنة خالي وليست فتاة غريبة"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بحقد دفين بدون ان تمنع نفسها
"ولكنها بالرغم من ذلك تبقى فتاة غريبة عن العائلة ومن بيئة ومستوى مختلف عنا تماما ! وهذا النوع من الفتيات يستطيع جذب اعجاب الجنس الآخر له بكل سهولة وباستخدام حيلهن الرخيصة والمقنعة للرجال الاثرياء"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يستمع لصوتها الساخر بعدم تصديق ! ليقول بعدها بشراسة وهو يرفع كفه ليمسك بذقنها بقسوة ليديره نحوه بقوة
"أتسمعين نفسكِ وانتِ تتفوهين بمثل هذا الكلام والذي لا يخرج ابدا من امرأة محترمة ؟ لقد سامحتكِ على لقب ابنة المجرم والذي اطلقته عليها ولكن اي تجاوزات أخرى بحقها لن ارحمكِ بها ابدا يا سلوى ! وإذا كررتِ هذا الكلام امامي مرة أخرى فلن تتوقعي عندها ردة فعلي"
ردت عليه من فورها بعبوس حانق
"كل هذا من اجل ابنة المجرم ! انا لم اقل شيئاً سوى الحقيقة والتي عليكم جميعا تقبلها....."
قاطعها بصراخ مرتفع ارجف بدنها وهو يخرج منه لأول مرة
"كفى"
صمتت (سلوى) بالفعل ليدفعها الآخر من ذقنها للجهة الأخرى بقسوة قبل ان يسير بعيدا عنها بثبات ، وهو يحاول ضبط اعصابه والتي انفلتت منه لأول مرة بالرغم من انه معتاد على وقاحة زوجته وطول لسانها منذ فترة طويلة ليفقد عندها اعصابه دفعة واحدة ما ان اخطئت بالكلام بحق (روميساء) امامه ! بينما كانت (سلوى) تصرخ من خلفه بانفعال هادر
"انتظر يا احمد واسمع ما سأقوله ارجوك ، فأنت لا تفهم ما اريد ان اوصله لك !"
ولكن (احمد) كان قد تجاهلها تماما وهو مستمر بالسير بعيدا عنها قبل ان يختفي عن نظرها تماما بداخل ظلام البهو الموحش ، لتضرب بعدها أرض المدخل بقدميها بغيظ مشتعل وهي تتنفس بقوة ولهيب حارق ، ولأول مرة بحياتها تشعر بالنقص بجانب زوجها المثالي والذي لن يكمله سوى وجود طفل صغير يحمل اسمه ويضمن بقاءها معه بهذه العائلة ، فيبدو بأن تهديد خسارته قد اصبح قريبا جدا بعد خمس سنوات من العيش معه بثبات وهدوء وبدون اي اطفال يحملون لقب العائلة !
______________________________
فتحت باب الغرفة بهدوء ليقابلها سريرين منفصلين بجانب بعضهما البعض مع ردهة واسعة بالغرفة والتي اقل ما يقال عنها بأنها اجمل غرفة رأتها بحياتها ، وهي تجمع منزل بأكمله بغرفة واحدة والمتناقضة تماما عن شكل غرفتهما السابقة والتي لا تصل لربع هذه الغرفة ، استمرت بالتنقل بنظرها بزوايا الغرفة بانشداه منبهر قبل ان تصل بنظرها للتي كانت تتوقع رؤيتها بأية لحظة وهي تأخذ حيزا كبيرا بحياتها ومن لم تبارح تفكيرها منذ خسارتها للعمل ، فكل آمالهما والتي رسماها معا ضاعت بخسارتها للعمل نهائياً .
ابتسمت بحزن وهي تنظر لجلوسها المتكور بمنتصف السرير كعادتها وهي تدفن وجهها بين ساقيها لتطوقهما بين ذراعيها وشعرها متحرر حول رأسها ، وكأنها بهذه الطريقة تفصل نفسها عن العالم من حولها بدون ان تعرف السبب لتعلقها بهذه العادة ! وهي من طلبت من الخدم تجهيز غرفة مشتركة لهما بدلا من فصلهما كل واحدة بغرفة فهي لن تستطيع ان تنام براحة قبل ان تطمئن على شقيقتها الصغرى والجزء الملتصق بها دائما منذ ولادتها .
تقدمت (روميساء) بخطواتها نحو سريرها بحذر قبل ان تقف بجانبها تماما لتمسك بعدها برأس شقيقتها بذراعها وهي تعيده للخلف ببطء لتسنده بالنهاية على الوسادة خلفها برفق شديد ، استقامت بعدها وهي تمسك بساقيها بيديها معا لتحنيهما على استقامتهما بهدوء وتريحهما على ملاءة السرير من تحتها .
تنهدت بتعب وهي تحدق بوجهها المتصلب الساكن حتى بنومها والذي لم يمنع جمال ملامحها الباردة من الظهور امامها ، ليذكرها دائما بصورة والدتها والتي حفرت بداخل شقيقتها الصغرى كوصم لا يزول ، جلست بعدها على طرف السرير لترفع كفها نحوها وهي تربت على خصلات شعرها بصمت قاتم دام لدقائق ليتضامن مع سكون المكان من حولها بالغرفة الموحشة والشبيهة بغرف القصور ، وما ان كانت ستبعد كفها عن رأسها حتى شعرت بكف تمسك برسغها بقوة دفعتها للالتفات نحوها بسرعة حتى صدمت باستيقاظها ، وهي التي نسيت بأن (ماسة) غير معتادة على النوم بوقت مبكر جدا وقبل موعد منتصف الليل .
استقامت (ماسة) بجلوسها من على السرير وهي تنظر لها بأحداق قاتمة بتركيز قبل ان تفلت رسغها وهي تهمس بجمود خافت
"لما تأخرتِ بالعودة للمنزل ؟"
اشاحت بوجهها بعيدا عنها وهي تقول بابتسامة شاحبة
"لقد تأخرتُ بالعمل ، ولم يكن عليكِ انتظاري لهذه الساعة بل كان عليكِ الخلود للنوم من اجل الاستيقاظ مبكرا للذهاب لجامعتك غدا"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تقول بوجوم مستاء
"لما تكذبين عليّ ولا تصارحيني بالحقيقة ؟ وبأنكِ قد خسرتِ عملكِ بالمدرسة بسبب سمعة بنات المجرم !"
زمت شفتيها الممتلئتين بمرارة وهي تشعر بنفس الألم والذي شعرت به عندما اعلموها بطردها من العمل بكل دناءة واجحاف وبدون سماع اي تبرير يخصها وكأنهم قد سلموا بالأمر وبأنها مجرمة مثل زوج والدتها ، لتلتفت بعدها بسرعة نحو (ماسة) ما ان نطقت بكل شر وكل الحقد متجمع بحدقتيها القاتمتين
"إذاً فقد فعلوها الأنذال وهذا ليس بعيد عنهم ! ما ان خسرتِ دعم قيس والذي ضمن لكِ الوظيفة حتى تخلوا عنكِ فورا وبدون أي تفكير بالعشرة وكل الوقت والذي قضيته بخدمة مدرستهم العتيقة ! فما كان يدفعهم لتوظيفكِ هو الخوف من بطش قيس فهو بالنهاية رجل عصابة لا يستهان به وليس من الجيد قلبه ضدهم ، فكل ما يهمهم هي السمعة والمظاهر بدون ان ينظروا لماضيهم الأسود والملطخ بالعار !"
اتسعت عينيها بجزع قبل ان تمسك بكتفيها بقوة وهي تتمتم بصرامة حادة
"إياكِ وان تفكري بفعل اي حركة خرقاء نحوهم ! فهذه ليست المدرسة الوحيدة بالعالم والتي سأتوظف بها ، وخسارتي للعمل عندهم ليس نهاية العالم"
عبست ملامحها بغضب وهي تقول بجفاء بارد
"حقا ليست المدرسة الوحيدة ! اراهن بأنكِ لم تجدي للآن المدرسة والتي توافق على توظيفك"
ضيقت عينيها الزرقاوين بحدة وهي تنظر لملامح شقيقتها الحزينة والقريبة للانكسار والتي كانت تتوقعها طول اليوم فهذه هي نتائج السمعة السيئة والتي عانوا منها كثيرا فيما مضى وللآن ما تزالوا تؤثر على حياتهما بسلبية ، قبضت بعدها على كفيها بقوة وهي تهمس بلا تعبير فقط حدقتيها تنظران بعيدا بشرود
"لقد قررت يا روميساء ، انا سأعمل"
رفعت نظراتها نحوها بعدم تصديق لما تسمعه منها لأول مرة ! لتنطق بعدها باستنكار واجم وهي تشدد من القبض على كتفيها
"هل جننتِ يا ماسة ؟ تريدين ان تعملي بهذا السن بدلا من ان تهتمي بدراستكِ الجامعية والتي تكون أهم عندكِ من كل اعباء العمل !"
ردت عليها (ماسة) ببرود وهي تدير احداقها نحوها بجمود
"وما لمانع وانتِ كنتِ تعملين بالماضي بمحلات بقالة بسن الخامسة عشرة فقط ؟"
صمتت (روميساء) بوجوم حزين للحظات والذكريات السوداء بدأت باجتياحهما لتكون ثالثهما بالغرفة الموحشة بسكون ، قالت بعدها قاطعة الصمت الطويل بقوة وحزم
"ولكنكِ تعلمين جيدا ما لظروف والتي كنا نمر بها بوقتها والتي ارغمتني على العمل ثمن العيش بمنزل يحتوينا بسلام ! ام تظنيني كنتُ سعيدة بذلك العمل ؟"
احنت عينيها بهدوء وهي تتمتم بابتسامة غامضة
"ولكنه يبقى افضل من العمل خادمة تحت اقدامهم حتى اصبحتُ بساط قذر تحت افعالهم الدنيئة !"
عقدت حاجبيها بارتياب وهي ما تزال تدلك على كتفيها بهدوء هامسة بخفوت
"ماذا قلتِ للتو ؟"
رفعت رأسها بسرعة وهي تبعد كفيها عن كتفيها بصمت قبل ان تهمس بتصلب
"كنتُ اقول بأنني سأعمل وهذا القرار لا رجعة فيه ، وحتى تجدي عمل جديد بمدرسة أخرى انا لن افكر بترك العمل ابدا ، فهذا الحال لم يعد يطاق ابدا فأما ان نرحل من هنا بمهلة اسبوع لا اكثر ، وأما ان نعود لمنزل قيس فأنا اُفضله اكثر من هذا القصر الموحش كأصحابه والذي لا يمت بالبيئة الوضيعة والتي تربينا عليها بصلة !"
زفرت (روميساء) انفاسها بإجهاد وهي ترفع كفها لجبينها لتمسد عليه بهدوء وتفكير ، قالت بعدها بلحظات بابتسامة هادئة بوهن
"حسنا يا ماسة سأدعكِ تنفذين ما برأسكِ ، ولكن هذا سيحدث بشرط وهو بأنكِ لن تحاولي العمل بأي مجال قبل ان نفقد الأمل تماما بإيجاد مدرسة توظفني عندها"
اومأت برأسها بشرود صامت بدون ان تنظر لها وهي ساهمة بعالم آخر بعيدا عن الجميع ، لتنهض بعدها عن طرف السرير وهي تنظر لها بأسى قبل ان ترفع كفها لتربت على رأسها بصمت وهي تهمس بخفوت باسم
"تصبحين على خير يا ماسة"
لم تردّ عليها (ماسة) بشيء وكأنها لم تعد تسمع اي شيء مما يدور من حولها وهي تنظر بعيدا عنها بتجمد حول ملامحها للرخام البارد ، لتنسحب بعدها ببطء وهي تخفض كفها عن رأسها قبل ان تخلع الحقيبة عن كتفها لتلقي بها على السرير بإهمال ، بينما عادت (ماسة) لتطويق ساقيها بذراعيها بقوة وهي تتنفس باضطراب متهدج ملئ سكون الغرفة بصوت انفاسها الباردة .
مرت لحظات واجمة على كليهما قبل ان تحيد بنظراتها نحو (روميساء) والتي كانت تُخرج ملابس مريحة من حقيبة ملابسهما والملقاة ارضا بزوايا الغرفة لتتجه بعدها للحمام الملحق قبل ان تقفل الباب من خلفها بهدوء ، اخفضت بعدها نظراتها بضعف لا تظهره سوى امام نفسها عندما تحاصرها هموم الحياة ومشقاتها وعندما تلفها الوحدة لتكون انيسها الوحيد طول الليل ، فلن يستطيع اي احد ان يفهمها اكثر من وحدتها والتي تعاملت معها منذ سنوات وهي تُخرج لها كل ما يعتمل بصدرها بدون اي خوف بعيدا عن حياة شقيقتها والتي دائما ما تكون حافلة بمواجهة العالم من الخارج بينما هي محبوسة بجدران خدمة ابشع المخلوقات على سطح الأرض .
رفعت ذراعها بارتجاف نحو نظرها واكمام قميصها تكشف ساعدها وهي تبتسم بهدوء لعلامات طبعت بداخلها لتبقى آثارها على ذراعها ، وهي عبارة عن حروق صغيرة منتشرة على طول بشرتها بفعل سيجارة كان يطفئها ببشرة ذراعها كعقاب على عصيان اوامره ، حتى تحولت لخريطة ستلاحقها لبقية حياتها القادمة لتذكرها بدناءة البشر وما يحملونه بقلوبهم من بشاعة سيفيض بها سطح الكوكب بأكمله !
______________________________
خرجت من الحافلة بسرعة وهي تسير بثبات بطرقات الحيّ والتي حفظتها عن ظهر قلب بينما كانت تمسك بأطراف اصابعها مقدمة قبعتها الخاصة بالفتيان وهي تتنقل بنظرها بجميع من حولها بحذر وبكل من تصطدم بهم عن قصد وبدون قصد ، فكل ما يهمها الآن ان لا تُكشف هويتها امامهم بعد ان اصبحت معروفة بالسمعة السيئة والتي اهداها لهم زوج والدتها قبل دخوله للسجن ، ولن تخرج من هذا الحيّ قبل ان تحصل على ما أتت من اجله .
وصلت بالنهاية للشقة القديمة والخاصة بزوج والدتها وهي ما تزال كما هي على حالتها والذي يرثى لها ، فيبدو بأنها بالنهاية لم تعجب احدا لتأجر له من قاطنين الحيّ ، وهذا كان من حسن حظها فما تزال هناك امور عالقة بالمنزل وعليها استعادتها والتي لم تجد لها أثر بالحقائب والتي احضروها معهم .
سارت بسرعة باتجاه مدخل الشقة قبل ان تفتح الباب الصدئ والموصد بمفتاح الشقة والذي ما يزال بحوزتها للآن قبل ان تدسه بجيب بنطالها الجينز وهي تدخل للشقة بصمت ، لتشعر بعدها بغمامة حزن غريبة مترافقة مع غيوم من الغبار وهي تحوم بالمكان وكأنها قد غابت عن المنزل لمدة سنين وليس مجرد يومين ، اغلقت الباب من خلفها بهدوء لتسير من فورها نحو بهو المنزل الصغير وهي تشعر بأنفاسها ستزهق من رائحة غبار الطّلع والذي يملئ المكان على غير العادة ، بالرغم من حرصها اليومي على تنظيف هذا المكان وتعزيله فيما مضى ولكنه يعود ويتحول لمكان قذر ولا يطاق العيش فيه ابدا فهذا عائد للبناء المتهالك والضعيف بأقذر مكان على وجه الأرض .
تنفست بهدوء وهي تحاول حبس اكبر قدر من الهواء النظيف والمتبقي بهذه الأجواء ، لتتجه بعدها لغرفتها وهي تفتح بابها بهدوء قبل ان يقابلها الفراشين بجانب بعضهما واللذان كانا ينامان عليهما من قبل ، تجاهلت النظر لمحتويات الغرفة والمليئة بالغبار وهي تلوج للداخل بحذر قبل ان تجثو على ركبتيها امام فراشها بهدوء ، لترفع بعدها يدها بحذر وهي تدسها داخل بطانية الفراش الناعمة قبل ان تُخرج منها مفكرة صغيرة بلون الوردي الشاحب وبعض الغبار يحتل غلافها الباهت وقد كانت تكتب عليها كل ذكرياتها واحداث الأيام منذ طفولتها وهي تتنقل معها لكل مكان تذهب إليه ومن منزل لآخر وستلحقها الآن لمنزل المدعو خالها ، فلم تستطع النوم جيدا باليومين السابقين بسبب عدم كتابة ما يدور برأسها بمفكرتها الصغيرة .
شددت من القبض على مفكرتها بكفها وهي تتصفح بأوراقها بكفها الاخرى قبل ان تتوقف عند الصفحة والتي تحوي شفرة صغيرة حادة بشكل مستطيل تستطيع تمزيق اي شيء تلمسه وقد كانت دائما سلاح فعال تستخدمه بطفولتها لتحمي نفسها من دناءة البشر والتي لم تتركها وشأنها لسنوات ، وخاصة من اصدقاء (قيس) والذين كانوا دائمين المجيئ لمنزله لتضطر عندها لتحمل كل مضايقاتهم وخدمتهم بكل طيبة قلب مرغمة عليها فهذا كان دورها الثابت بمنزله ، نقلت نظرها لأوراق المفكرة وهي تلمح بعض الأوراق المالية والظاهرة من بين صفحات المفكرة والتي كانت تخبئها بمكانها السري لوقت الأزمات بدون ان يعلم عنها احد ، لتخفض بعدها اصابعها وهي تدس الأوراق المالية بقوة لداخل صفحات المفكرة بجمود حتى اختفت عن مرأى نظرها تماما .
انتفضت واقفة على قدميها وهي تغلق المفكرة على الشفرة بقوة ما ان سمعت صوت خطوات خافتة قادمة من خارج الغرفة ، لتعقد بلحظة حاجبيها بتوجس وهي تفكر بهوية المزعج والذي تجرأ على دخول المنزل مع عدم وجود اصحابه ! فهي تعلم علم اليقين بأن صاحب البناية لا يأتي للاستطلاع على شققه بنفسه بل الزبائن هم من يذهبون لمنزله للاتفاق معه على تأجير الشقق لهم ، فمن معرفتها عنه انه اكسل واطمع من ان يأتي ليلقي ولو نظرة واحدة على شققه والمستأجرين فيها وقد عرفت هذا بسبب تحملها مسؤولية دفع الإيجار له !
تقدمت بخطواتها بجمود لباب الغرفة وهي تخرج السكين من جيب بنطالها الخلفي بهدوء ، وما ان خرجت من الغرفة حتى قابلها الصمت القاتم والذي خيم على كل زوايا الشقة بغموض ، زمت شفتيها بجزع وهي تشعر بارتجاف يحتل كل اطراف جسدها كعلامة غير مبشرة وغير محمودة العواقب ، وما ان التفتت برأسها جانبا حتى شعرت بذراع تطوق عنقها برفق من الخلف وانفاس تهدر فوق رأسها وهو يهمس بانفعال خافت
"لقد تأخرتِ كالعادة وانا قد سبقتكِ بخطوة ، لذا اعلني عن انهزامك بسرعة وألقي بسلاح الجريمة"
تصلبت ملامحها بجموح وهي تحاول التلوي بعيدا عن ذراعه الخانقة لعنقها ، لتشعر بعدها بسكين حادة تلامس اذنها بهدوء والصوت يعود ليهدر بأذنها بفحيح
"إياكِ وان تفعلي اي حركة خرقاء ستعاقبين عليها بشدة ، أنسيتِ قوانين اللعبة والتي وضعتها بنفسكِ ذات يوم ؟"
زفرت انفاسها بهدوء قبل ان تلقي بالسكين بعيدا بجمود ، ليقول بعدها بابتسامة عريضة شعرت بها بصوته
"احسنتِ هكذا اريدكِ دائما"
ابتسمت ببرود قبل ان ترفع ذراعها برفق لتدس مرفقها بمعدته من الخلف بكل قوة حتى أفلتها اخيرا وهو يتراجع للخلف ضاحكا باستمتاع مستفز ، لتستدير بعدها بسرعة بعنفوان وهي ترفع كفها لتعدل من اتجاه قبعتها من فوق رأسها وهو ما يزال مستمر بضحكه الساذج ويقول بابتسامة جانبية مهتزة
"لقد خرقتي قوانين اللعبة عندما استخدمتِ سلاح آخر من اطراف جسدك ضد خصمك !"
ادارت رأسها بعيدا وهي تنحني على ركبتيها وتلتقط السكين من على الأرض لتتمتم بعدها بلا مبالاة
"انا من وضعتُ قوانين تلك اللعبة ، لذا من حقي ان اعدل من قوانينها كما يحلو لي"
توقف (مازن) عن الضحك وهو يحاول ضبط انفاسه ناظرا لرأسها المحني وللقبعة الرجالية من فوق رأسها ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة بتباطء
"وانا لا امانع هذا من الطفلة والتي غلبتني ذات يوم بمصارعة الأيدي ، فكل شيء رائع من دمية قيس !"
تجمدت ملامحها ببرود كالصخر وقبل ان تعود لتقف على قدميها كان قد سحب القبعة من فوق رأسها بخفة وشعرها معقود لفوق رأسها بأحكام بدون ان تسقط منه اي خصلات ، لتتسع عينيها بغضب جحيمي وهي تمد يدها لتلتقط قبعتها منه والتي ابتعد بها بلمح البصر وهو يقول بتسلية ملوحا بالقبعة بكفه
"اريد ان افهم امرا واحدا لما ترتدي دمية قيس قبعة للفتيان ؟ ام اختفت كل القبعات الخاصة بالفتيات من العالم ! ولما تحتاجين اصلا لارتدائها ؟ هل يعقل بأنكِ تتخفين بها ؟"
عضت على طرف شفتيها بغيظ من وقاحته الا متناهية معها والمعتادة عليها منه منذ سنوات وهي تقبض على المفكرة مع السكين بقبضة واحدة بقوة ، عادت بعدها لمد كفها الحرة نحوه بحزم وهي تقول ببحة غاضبة لا تظهر بصوتها ألا عندما يصل الغضب عندها لأوجهه
"اعد لي قبعتي فورا يا مازن ، وإياك وان تحشر نفسك بما لا يعنيك فليس لديك الحق بسؤالي عن اي شيء يخصني يا ابن جلال"
اتسعت ابتسامته باستفزاز وهو يفترسها بنظراته قائلا بانبهار مصطنع
"كم اعشق نبرة صوتكِ الغاضبة وانتِ تنطقين باسمي ! فهي تشكل لدي نغمة عذبة تخترق روحي على الفور"
ردت عليه بعبوس متجهم وهي تخفض كفها بقوة
"لا فائدة ترجى منك فالمختل سيبقى مختل طوال حياته ! ولن احاول مجاراتك اكثر من هذا فأنت لست من مستواي"
قال (مازن) وقد عبست زاوية من شفتيه بغموض
"هل افهم من هذا الكلام بأنكِ الآن لم تعودي من مستواي بعد ان انتقلتِ لمنزل قريبك الثري ؟ ولكنك نسيتِ بأنه مهما حاولتِ تغيير اصلك ومكان سكنك فستبقى طبيعتك الثائرة والتي تربيتِ عليها معي تسيطر عليكِ وليس هناك مهرب منها ! وهذا واضح من طريقتكِ باستقبالي يا دمية قيس"
كانت (ماسة) تنظر له بتصلب جمد احداقها الزرقاء حتى تحولت لأحجار منحوتة بالرخام بدون ان تظهر اي مشاعر وهو يذكرها بطبيعتها والتي اعتادت عليها منذ الصغر وليس من السهل ترويضها مجددا فقد عانت كثيرا لتصبح على هذه الصورة الصلبة والتي لا تهزها شيء ، بينما كان (مازن) ما يزال يراقبها بتمعن خبيث قبل ان يرفع كفيه ليمسك بهما كتفيها بقوة وقسوة وهو يقرب وجهه امامها مباشرة ، ليقول بعدها بأنفاس باردة لفحت وجنتيها
"لا تحزني من كلامي ولكنها الحقيقة ، وعليكِ تقبلها بروح مرنة ، ومهما حاولتِ تغييرها بشتى الطرق فلن تستطيعي تغيير روحكِ الشرسة البدائية والتي اعشقها منذ زمن واحاربها لسنوات ، لذا ألا ترين بأنه قد حان الوقت المناسب لتعلني السلام على روحكِ الأبية !"
انتفض (مازن) وهو يبعد كفيه بعيدا عن كتفيها ما ان شعر بنصل سكين تغرز بين اصابعه بدون ان ينتبه ، لترفع بعدها السكين لمستوى وجهه وهي تقول بتهديد مشتد
"هذا سيكون بأحلامك يا مازن جلال ! ويمكنك ايضا الاحتفاظ بالقبعة فلم اعد اريدها بعد ان تلطخت بقذارة يديك"
وما ان استدارت بعيدا عنه وهي تنوي الاتجاه لباب المنزل حتى سد عليها الطريق بسرعة وهو يقف امامها بكل همجية ، وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها وهو يضع القبعة فوق رأسها بهدوء قائلا وهو يعود للابتسام مجددا
"اهدئي فكل شيء يهون ألا غضبكِ عليّ ، وتذكري بأني لن انسى لكِ هذه الحركة المباغتة وسأردها لكِ قريبا"
ما ان انهى كلامه حتى اخفض كفه عن القبعة ليلامس مقدمة انفها بأصبعه بخفة قبل ان تدفع اصبعه بعيدا عنها ببرود ، ليرفع بعدها ذراعيه عاليا بابتسامة باردة ما تزال تحتل محياه وهو يرجعهما لخلف رأسه بكسل ، بينما كانت (ماسة) تحدق به بتركيز لعينيه الناعستين بلون العسل القاتم والقريب من لون عيون شقيقته (صفاء) ولكنها دائما ما تلاحظ اختلاف واضح بدرجة لون احداقهما .
عادت بعدها للسير بعيدا باتجاه باب المنزل بثبات قبل ان تعود للتوقف بلحظة لتلتفت برأسها نحوه وهي تهمس بوجوم
"فقط سؤال ، ما لذي تفعله بشقة قيس بهذا الوقت ؟ واكيد ليس لتستطلع ان كان عمك قيس قد عاد من السجن ام لا !"
كان يبتسم لها بسخافة وهو يتمتم ببرود واثق
"ألا تعلمين بآخر الاخبار ؟ لقد قررتُ السكن بشقة قيس حتى عودتكما وقد وافق السمسار على تأجير الشقة لي ، لأنه ليس من العدل ان تؤجر هذه الشقة لأناس لا نعرفهم وعندها لن تستطيعي انتِ وشقيقتك العودة للسكن بها ، لذا ضمنتها لكِ حتى عودتكِ ، فأنا اعرف بأنكِ ستعودين أليها بنهاية المطاف فهذا مكانكِ ومنزلنا المستقبلي"
اعادت وجهها للأمام بقوة وهي تزفر انفاسها بنشيج خافت متجاهلة تلميحاته الواضحة ، لتسير بعدها بسرعة بخطوات جامدة لخارج الشقة بأكملها بدون ان تعلق على كلامه وهي تشدد من الإمساك بمقدمة قبعتها بقوة ، بينما كانت النظرات المتسلية ما تزال تلاحقها بترقب وهو يقبض على كفيه بجانبي جسده بتصلب ، قبل ان يرخيهما بلحظة وهو يهمس بشرود هائم
"ستعود ، إلى اين ستهرب مني ؟"
____________________________
دخلت للمنزل بهدوء وهي تسير باتجاه السلالم بصمت وبخطوات متمايلة بعض الشيء وهي تحاول الارتكاز قدر الإمكان على كعبي حذائيها المسننين واللذان حفرا بقدميها بسبب السير الطويل عليهما ، لتصعد بعدها درجات السلم بتثاقل قبل ان تصل بالنهاية لأروقة الممرات لتقف بعدها بمحاذاة الغرفة والتي كان يخرج منها الصراخ والعويل والذي اخترق سكون المكان من حولها وهو يصلها بعض من الصراخ المترافق مع النواح المزعج
"ماذا افعل يا أمي لقد انهارت حياتي الزوجية بأكملها ؟ فمنذ دخول تلك الساحرات للمنزل وقد ألقوا بلعنة على جميع ساكني المنزل ! وكل الأنظار تلتف من حولهما فقط ، وخاصة الفتاة ذات العينان الخضراء والتي تنوي على سرقة زوجي مني والمسحور بها وكأنه لم يرى فتيات بالعالم غيرها !"
ردت عليها المقابلة لها باتزان تحسد عليه
"هدئي من نفسكِ يا عزيزتي فهذا الضعف والهراء والذي تقولينه لن يفيدكِ بشيء ، بل سيزيد من حالتكِ سوءً وستدفعين زوجك للهروب منكِ اكثر بغبائك هذا وبحالتكِ المثيرة للشفقة !"
ازدادت دموع الجالسة امامها بانهمار وبحقد دفين وهي تصرخ بانفعال حاد
"إذاً ماذا تريدين مني ان افعل يا امي بعد كل ما شاهدته امامي من خيانة وانا اكاد اجن بكل مرة يتقابل فيها معها ؟ حتى انه صرخ بوجهي وتجاهلني لأول مرة بحياته !"
كانت والدتها تضع كفها على ذقنها وحاجبيها الرفيعين مرفوعين بحدة وهي تقول بتفكير
"ولماذا تصرف معكِ هكذا ؟ تكلمي"
ابتلعت ريقها بارتجاف وهي تقول بابتسامة شرسة وما تزال دموعها تسقي وجنتيها
"لأني نعتُ ابنة خاله بكلمات لا تجوز ، لذا ثار عليّ وغضب مني"
ردت عليها والدتها باستنكار وهي تمسك بشعرها بقسوة
"غبية ومتسرعة ولا تفكرين بعواقب لسانكِ الطائش والذي سيوصلكِ بالنهاية لحافة الهاوية بعلاقتك الزوجية مع زوجك ! فلا تنسي من يكون زوجك وعائلته ومن نكون نحن وانتِ تنزلين لمستوى منحدر اقل منكِ بكثير ، فقط لترضي غروركِ وغيرتكِ الحمقاء !"
اخفضت رأسها بخنوع امام والدتها وهي تعود للعويل والبكاء قائلة بإحباط
"ولكني لم اتحمل يا أمي ، لم اتحمل ! لقد فقدتُ زمام السيطرة على نفسي بسبب تلك الشاذة ! وجعلتُ احمد يغضب مني ، واكيد سيفكر جيدا بسير علاقتنا والانفصال عني بما انه ليس هناك اي طفل يربطه بي !"
افلتت والدتها خصلات شعرها بهدوء وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة ناظرة لرأس ابنتها المنكس امامها وبكاءها يعلو اكثر وأكثر مع نواح مؤذي للأذن ، بينما كانت ما تزال الواقفة خارج الغرفة تراقب الأجواء الخانقة بالداخل والمعتادة عليها بكل مرة تأتي بها شقيقتها بزيارة لمنزلهم لتقلب حياتهم لمواجع ونواح .
تنهدت بهدوء وهي تعود للسير بعيدا قبل ان توقفها والدتها بآخر لحظة وهي تقول بحدة صارمة
"غزل تعالي إلى هنا ، وسلمي على شقيقتك سلوى ، فليس من الأدب تجاهل وجود شقيقتك الكبرى بمنزلنا"
زمت (غزل) شفتيها المتكورتين بحنق طفولي وهي تفكر بالمصيبة والتي وقعت على رأسها لتجعلها تواجه والدتها وهي بهذه الحالة المزاجية من العصبية على مشاكل شقيقتها الزوجية ، لتلتفت بعدها برأسها بهدوء نحو والدتها وهي تحاول طبع ابتسامة صغيرة على شفتيها قائلة بمودة
"لا اعتقد بأن شقيقتي بحالة تسمح لها بأن تستقبل سلامي ، لذا سأترككما لحل مشكلتكما العويصة وبعدها سنتكلم معاً"
زاد عبوس والدتها واتساع عينيها الحادتين بطريقة تنبؤ بالشر ، لتزفر بعدها انفاسها بغيظ وهي تهمس ببرود ناظرة بعيدا عنهم
"كيف حالكِ يا سلوى ؟ اتمنى ان تجدي عندنا ما اتيتِ من اجله ، وان لا تطول زيارتكِ مثل المرة السابقة !"
وعندما لم تجد اي ردّ من الساكنة بجلوسها منكسة الرأس بانهيار لا تشعر بما يدور من حولها حتى انسحبت بسرعة بعيدا عن الغرفة ، وامام نظرات والدتها المصدومة باستنكار من كلامها الأخير الوقح ! بينما وصلت (غزل) لغرفتها اخيرا لتفتح الباب من فورها وهي تتقدم للداخل قبل ان تغلق الباب من خلفها بقوة وتتنفس بلهاث وتعب بعد هروبها من مصيرها الحالك مع والدتها .
عضت على طرف شفتيها بألم سرى بكل إنحاء جسدها وهي ترفع ساقيها لتخلع الحذاء العالي عن قدميها الصغيرتين بقوة لتلقي به بعيدا عنها ، لتسير بعدها للداخل وهي تخلع هذه المرة الحقيبة عن كتفها لتلقي بها فوق السرير الواسع بإهمال ، وصلت لطاولة الزينة لتقف امام المرآة كالعادة كلما مرت بجوارها بدون ان تمنع نفسها من النظر لشكلها بنظرة تقييمية ومطالعة نفسها بدقة .
كانت تنظر لعينيها العسليتين والمائلتين للون الغروب المخضر ولشكلها البسيط والمتناقض تماما عن شكل شقيقتها الكبرى وصاحبة صوت العويل ، لطالما كانت هناك فروقات شاسعة بينهما والتي تظهرها دائما اقل بكثير من شقيقتها الفاتنة والتي كان يتمناها الكثيرون من قبل فهي تمتاز بالكثير من المميزات والتي تأهلها لتكون افضل منها ، بينما هي تعاني من العيوب الخلقية والتي ماتزال تلاحقها منذ طفولتها فهي بالنهاية عليلة القلب وستبقى هكذا دوما للمتبقي من حياتها .
رفعت كفها بهدوء وهي تتخلل بأصابعها شعرها القصير بنعومة والذي لا يصل لكتفيها وهي تعيده لخلف اذنيها بشرود ، لتفكر بعدها بحزن بأنها قد تقبلت بساطتها بالفعل ولم تعترض عليها ووجدت من يناسب ويكمل بساطتها تلك ، ولكنهم مع ذلك افسدوا كل شيء عليها ولم يهنئ لهم بال حتى كسروا قلبها العليل وحولوه لشظايا متناثرة من المستحيل إعادتها كما كانت ! فما يتحطم لا يعود كسابق عهده ومهما حاولوا ترميمه بشتى الطرق !
اخفضت كفها باهتزاز ما ان لمحت دمعة صغيرة عالقة برموشها السفلية بدون ان تفارقها ، لتتلمس بعدها بيدها على سطح الطاولة بارتجاف حتى وجدت مبتغاها ، وهي ترفع سلسال لعقد رفيع وطويل بعض الشيء لأمام وجهها لتقربه من شفتيها وهي تقبله بهدوء وبدون ان تنتبه للدمعة الصغيرة واليتيمة والتي انحدرت على وجنتها بعد ان فارقت رموشها وهي تهمس برقة وحزن على أيام ذهبت خلف الأفق
"اشتقتُ إليك كثيرا يا عاصم !"
تنهدت بحزن ومرارة وهي تحاول السيطرة على انفاسها الثائرة بصدرها والتي جعلت قلبها العليل على وشك الانفجار بأية لحظة وهو يضخ نبضاته بإنهاك وضعف ليبقى على قيد الحياة قدر المستطاع ، وهو بالواقع على وشك فقدان وجوده بعد صبر طويل عليه دام لسنوات لتتحول لسلسلة من معاناة طويلة وكأنه يحارب بمعركة خاسرة تحددت نتيجتها منذ سنوات وتحديدا عندما حرمت من العيش بطفولة طبيعية كجميع الأطفال بسنها آنذاك .
______________________________
كانت تلتقط الأوراق المبعثرة من على أرض المكتب والتي سقطت منها عن طريق الخطأ ، لتستقيم بعدها بهدوء ما ان انتهت من جمع الأوراق بين ذراعيها وهي تمرر اصابعها على اطرافها برفق لتتأكد من وجود جميع الأوراق كاملة بحوزتها قبل ان يكتشف والدها فعلتها الخرقاء ويحرمها من مساعدتها له بالعمل بأيام العطلة ، فهذا العمل ليس لمساعدته فقط بل من اجل الاطمئنان على حالته كل حين والتأكد من انه تناول ادويته بمواعيدها المحددة بدون اي تأخير ، وكم تتمنى لو يشارك شقيقها ايضا بالعمل مع والده بدون ان يسبب له المشاكل كعادته لتكون عندها اكثر اطمئنانا على صحة والدها المتقلبة إذا تعب او تدهورت حالته فجأة بخضم العمل !
اخفضت (صفاء) كفها عن الأوراق وهي تنظر للأسفل بعبوس لتشتت نظراتها بكل زوايا المكتب بوجوم وهي تتمتم بتفكير مستاء
"اين اختفت تلك الورقة يا ترى ؟"
التفتت للخلف بسرعة ما ان شعرت بأحدهم يربت على كتفها بقوة ليظهر امامها الجسد الطويل صاحب الابتسامة العملية والمحفورة بملامح وجهه المتصلبة بغموض وهو يمد امامها الورقة والتي كانت تبحث عنها للتو ، ولا تعلم كيف طارت تحديدا لكفه هكذا ؟ فكل الذي تعلمه بأن هذا الرجل لم يبارح تفكيرها منذ ايام بل منذ عملها بهذا المكان بأيام العطلة وهو يظهر امامها فجأة بكل وقت عندما تحتاج للمساعدة بشيء ما او عندما تقع بمشكلة بالعمل وكأنه يقرأ افكارها بدقة لا متناهية وبطريقة معقدة شوشت تفكيرها واحتلته !
ابتلعت ريقها برهبة وهي تخفض نظرها بعيدا عنه بإحراج ما ان قال المقابل لها ببعض الضيق وهو يلوح بالورقة امامها
"ما بكِ ؟ أليست هذه الورقة هي التي كنتِ تبحثين عنها للتو بكل زوايا المكتب ؟"
زمت (صفاء) شفتيها بابتسامة صغيرة وهي ترفع كفها باتجاه الورقة لتمسك بها وتتمتم بامتنان رسمي
"اجل ، شكرا"
سحبت الورقة بسرعة منه لتضمها لباقي الأوراق بين ذراعيها قبل ان تهمس بهدوء
"عذرا ، ولكن كيف وصلت الورقة لك وكيف عرفت بأنها ما ابحثُ عنه ؟ انا اشعر بأنك تراقبني !"
ساد الصمت بينهما لبرهة بدون ان تنظر له وهي تستمع لصوت انفاسه المكتومة والتي تشعر بها تكاد تلامسها لتجمدها بمكانها من برودها ، لترفع بعدها نظرها نحوه بعد ان استبد بها الانتظار لتفاجئ بنظراته الغريبة نحوها وهو يضيق عينيه بقتامة حالكة قبل ان يبعد نظره بعيدا عنها ، ليقول بلحظة ببرود جاف شعرت به بحزن غير مبرر
"لقد اتيتُ لرؤية المدير ولم اكن اتوقع عدم وجوده بالمكتب وبمحض الصدفة وجدتُ ورقة ملقاة عند إطار الباب ، وعندما رأيتكِ وانتِ تتلفتين من حولكِ بهلع عرفتُ بأنكِ هي ما تبحثين عنها ، لا تحتاج للكثير من الذكاء أنتِ فقط من ابتعدتِ قليلا بتفكيرك يا صغيرة !"
عبست ملامحها وهي تنهر نفسها على كلامها بسبب تفكيرها الأحمق وشكوكها الدنيئة نحوه فقد اصبحت مضطربة التفكير كثيرا بالآونة الأخيرة وقد يرجع السبب لمشاكل (ماسة) وصحة والدها المتدهورة ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بحنق وهي تتمتم بامتعاض
"لستُ صغيرة يا سيد جواد ، ووالدي لم يأتي للعمل بعد ولكنه سيصل بعد عشر دقائق"
ردّ عليها (جواد) بهدوء غامض
"إذاً سأنتظره بمكتبه هنا حتى يصل ، وهذا إذا لم يكن لديكِ مانع يا صفاء جلال !"
شددت من ضم الأوراق بذراعها بارتجاف وهي تعيد خصلات شعرها الطويلة لخلف اذنها قبل ان تهمس بخفوت
"كلا لا امانع"
كانت نظرات (جواد) موجهة نحوها بقوة وبدون اي مواربة وهو يتنقل بنظره بداية من شعرها البني الناعم وهو معقود على هيئة ذيل حصان طويل مستريح على كتفها الايمن ، ليصل بعدها لجسدها الممشوق والملتف بكنزة صوفية بيضاء تخفي معالم جسدها بوضوح وهي تبدو كقطة صغيرة ناعمة ضلّت طريق العودة ، ليشيح بعدها بوجهه جانبا وهو يتمتم بخفوت جاد تقمصه بلحظة
"اخبريني كيف هي صحة الوالد الآن ؟"
رفعت نظرها بسرعة وهي تعقد حاجبيها بريبة من نبرة صوته الخشنة والتي يطغى عليها البرود وهو يسألها عن حال والدها ببساطة والذي يكون رئيسه بالعمل ويقابله كل يوم ! لتقول بعدها بابتسامة لطيفة احتلت شفتيها الورديتين بانفتاح الزهور
"انه بأحسن حال والحمد لله على كل شيء ، شكرا لك على السؤال"
اعاد نظراته الحادة باتجاهها وهو يشرد بابتسامتها لثواني قبل ان يقول بجفاء
"جيد ، فكل ما اتمناه حقا ان يبقى دائما بأحسن حال"
ارتجفت زاوية من شفتيها قبل ان تذوي الابتسامة بمحضرها وهي تشعر بعدم الراحة بكلماته الباردة والتي بعثت القشعريرة بكل انحاء جسدها ، لتحيد بعدها بنظراتها جانبا وهي تدعوّ بداخلها ان يأتي والدها بسرعة لينقذها مما هي فيه الآن وهي تشعر بنفسها تكاد تختنق من الأجواء الكاتمة بالمكان .
انتفضت بوجل ما ان عاود الكلام قائلا بجفاء مقيت فاجئها
"واين هو مازن جلال لم اعد اراه بالعمل ؟ ام انه قد طُرد من العمل اخيرا بعد ان سبب الكثير من المشاكل لصاحب المكان ولكل العاملين بالدار ! وكل ما يهمه هو ان يحصل على بعض المتعة بالعمل على حساب الآخرين"
عضت (صفاء) على طرف شفتيها بضيق فهذا الرجل قد بدأ يتمادى بالكلام معها وهو يسخر من شقيقها امامها علانية ! فحتى لو كان (مازن) شخص مقيت ولا يطاق ابدا فهو يبقى بالنهاية شقيقها وجزء من عائلتها وابن والدها الغالي ، لذا لن تسمح لأي احد بأن يهينه بهذه الطريقة وتبقى صامتة امامه بخنوع ، قالت بعدها بقوة وهي تشدد من ضم الأوراق لصدرها
"لا لقد توقف عن العمل منذ فترة فقد تبين بأن هذا المكان لا يناسبه وليس من ميوله ، وإذا كان قد سبب لك اي مشاكل من أي نوع فأنا اعتذر بالنيابة عنه ، فهو اكيد لم يتقصد فعل كل هذا مع اي احد من الموظفين بالمكان"
كان (جواد) ينظر لها بتركيز قبل ان يبتسم باتساع متصلب بدون اي مرح وهو يقول بجمود صخري
"وهل تظنين بأن الاعتذار سيكون كافي لتدفعي ثمن اخطاء شقيقك والتي لا تغتفر ابدا ؟ وانتِ تحتاجين للتضحية بالكثير من اجل إرضاء اعداءه الكثيرين !"
انفرجت شفتيها بذهول وهي ترفع حاجبيها البنيين بعدم استيعاب وكأنها تحاول فك شفرة كلامه الغامض ، لتهمس بعدها بتوجس واجم
"ماذا تقصد بكلامك ؟ ولما تتكلم عن شقيقي بهذه الطريقة ؟ أتحب مثلاً ان اتكلم عن اشقائك بطريقة مهينة كما تتكلم انت عن مازن !"
تراجعت (صفاء) للخلف بحذر ما ان شعرت بصلابة ملامحه واشتعال عينيه السوداوين وهو يكاد يبتلعها حية ، ولا تعلم بماذا اخطئت تحديدا بالكلام معه ؟ وكل ما نطقت به هي الحقيقة فهو الذي بدأ اولاً بهذا الجدال واهان شقيقها امامها !
ابتلعت ريقها بتشنج وحدقتيها العسليتين متسعتين بذعر ما ان قال بخفوت بارد بعد ان عادت ملامحه لهدوئها
"ليس لدي اي اشقاء او اي عائلة ، فأنا وحيد واعيش وحدي منذ زمن"
زفرت انفاسها باضطراب وهي تشعر بحزن عميق غير مبرر قصف بقلبها نحو هذا الشخص الغريب وقد اصابت بكلامها وتر حساس بحياته بدون ان تقصد ، فلو انها اوزنت كلماتها اكثر قبل ان تنطقها لما حدث كل هذا معها وهي تشعر بالذنب ينهش احشاءها ! قالت بعدها بابتسامة حزينة نادمة
"انا اعتذر حقا على ما قلته فلم اكن اعلم....."
قاطعها بلا مبالاة وهو يشرد بعيدا عنها
"لا بأس فليس بالأمر المهم لتعتذري منه ، ولكن احذري مرة أخرى من كلماتكِ يا صغيرة فلن استطيع مسامحتكِ عليها بكل مرة !"
تجمدت ملامحها والخوف يعود ليجمد اطرافها من جديد من كلماته الغامضة والغير مريحة ابدا بالنسبة لها ، لتقول بعدها بسرعة وهي تحاول تجاوزه بالسير بعيدا عنه باتجاه باب المكتب بعد ان ضاق بها المكان
"حسنا يا سيد جواد ، يمكنك انت انتظار والدي هنا ، وانا سأذهب لأنجز بعض الأعمال بالمكتب المجاور"
بعد ان انهت كلامها اختفت بسرعة خلف باب المكتب قبل ان تسمع تعليقه وهي تتنفس الصعداء اخيرا بعد ان تخلصت من وجوده والذي كان يسبب لها الخوف على الدوام ، بينما كانت النظرات الشاردة بحدة تنظر بعيدا جدا بنافذة غرفة المكتب وابتسامة جانبية تحمل من الحقد والكره الكثير محفورة بزاوية شفتيه المتصلبتين وهو يتوعد بالكثير لعائلة جلال والمسبب الرئيسي لما يشعر به من فراغ بحياته !
______________________________
خرجت بخطوات متخاذلة بتثاقل من بناء المدرسة البسيطة والتي رفضت وجودها بعد عدة محاولات مع مدارس أخرى غيرها مشابهة لها وهي لم تعد تقترب من المدارس العريقة وحديثة البناء والتي كانت تعمل بهم ذات يوم لكي لا تبدأ نظرات السخرية والاستهزاء بالتوجه نحوها من كل صوب ، بالرغم من انها لم تتركها وشأنها طول مسيرتها بالتنقل بين المدارس البسيطة ومتوسطة الحال ، تنهدت بعدها بهدوء وهي ترفع نظرها للشمس المتوهجة بمثل هذا الوقت من الظهيرة والذي تكون به الشمس بأقصى درجات حرارتها .
اخفضت نظرها بسرعة نحو الشخص والذي دخل من بوابة المدرسة الخارجية وهي تنظر له بعينين متسعتين مشدوهتين ، وما هي ألا ثواني حتى رفعت (صفاء) نظرها نحوها قبل ان تتجمد بمكانها لوهلة بفعل الصدمة وهي ما تزال واقفة بمكانها عند البوابة ، ليطول صمت العيون بينهما لدقائق قليلة وبعض من المشاعر الحبيسة والتي تخص الماضي بدأت بالتحرر بينهما برقة ولطف ، لتقطعه بعدها من تحركت بعيدا عن البوابة وهي تكمل طريقها وابتسامة رقيقة تحتل محياها الوردي قبل ان تعانقها ما ان وقفت امامها وهي تحاوط كتفيها بذراعيها بسعادة ، بينما افاقت (روميساء) على عناقها لترفع كفها بارتجاف وهي تربت على رأسها بكل حنية تملكها لهذه الفتاة والتي عرفتها منذ كانت طفلة تلعب مع شقيقتها بفناء المنزل .
بعد مرور لحظات صمت اطول ابتعدت (صفاء) بسرعة عنها وهي تقول بابتهاج بالغ
"انا سعيدة جدا لأني رأيتكِ اخيرا ، فلم اركِ منذ مدة طويلة ، وتقريبا منذ اشهر فأنا لم اعد اعرف شيئاً عن اخباركِ سوى بما تخبرني عنه ماسة وهي كما تعلمين لا تحب الكلام كثيرا !"
اتسعت ابتسامتها بدفء وهي تنظر لها تتكلم بحزن رقيق يناسبها تماما وهي التي تراها دائما النقيض عن (ماسة) بكل شيء ولم تفهم حتى الآن طبيعة صداقتهما المختلفة والفريدة من نوعها ! ولكنها بالتأكيد مميزة بسبب طول مدتها منذ الطفولة لترافقهما حتى المراهقة لتصل لدخولهما للجامعة معا وهي تشعر برباط قوي متين يربطهما سوياً طول مسيرة حياتهما ، بينما كانت هي شاهدة على صداقتهما طويلة الأمد وقد كان دورها آنذاك الاهتمام بهما وتقليل تعرضهما للإصابة بسبب انها اكبر سنا منهما وارجح عقلاً لهذا كانت دائما تحميهما من لعبهما المتهور وعدم تفكيرهما بالعواقب وهو قد كان اقصى احلامهم .
نظرت لها (روميساء) بهدوء وهي تهمس بابتسامة منشرحة
"وانا ايضا سعيدة جدا برؤيتكِ وبالصدفة والتي جمعتنا ، واتمنى ان تكون كل اموركِ على ما يرام وان تكون عائلتكِ بأفضل حال !"
ردت عليها (صفاء) من فورها وابتسامة جميلة تحتل شفتيها الورديتين
"بل انا اكثر من سعيدة برؤيتكِ ، وجميع افراد عائلتي بأفضل حال والحمد لله ، ولكن ما يزال والدي يعاني من التعب والمرض ببعض الحالات ، واما باقي الأمور فهي جميعها تمام"
زفرت أنفاسها بهدوء وهي تحرك رأسها بالإيجاب بشرود قبل ان يقطع عليها غمامة شرودها صوت (صفاء) وهي تقول باستغراب عاقدة حاجبيها البنيين بتفكير
"ولكن ماذا تفعلين بهذه المدرسة يا روميساء ؟ فأنا اعلم جيدا بأنها ليست المدرسة والتي تعملين بها منذ سنوات !"
رفعت نظراتها الخضراء الحزينة كأوراق شجر يابسة وقد نسيت بأنها ما تزال موجودة بمدخل المدرسة الخارجية بسبب ذكريات الماضي والتي اجتاحتها بهذه اللحظة بالذات ، لتقول بعدها بسرعة وهي تتبسم بجدية صارمة
"بل انتِ ماذا تفعلين بهذا المكان وبهذا الوقت والذي من المفترض ان تكوني به بالجامعة ؟ ام انكِ تريدين العودة لأيام الهروب من المدرسة كما كنتِ تفعلين مع ماسة !"
انفرجت شفتيها الورديتين باندهاش قبل ان تبدأ بالضحك بمرح مبتهج وهي ترفقه بامتعاض تمثيلي
"لا تغضبي هكذا وقبل كل شيء عليكِ ان تعلمي ان اليوم يكون عطلة عندنا من الجامعة ، يعني لم احاول الهرب ولن احاول ابدا فقد كبرنا على مثل هذه الحركات !"
عبست زاوية من شفتيها وهي تتمتم بوجوم
"اجل صحيح ، كيف فاتتني هذه ؟"
زمت (صفاء) طرف ابتسامتها وهي تتمتم بجدية
"وايضا سبب قدومي لهذا المكان هو من اجل العمل والذي يخص هذه المدرسة ، فهناك اوراق من دار النشر عليّ ان اوصلها لهم وهي تتعلق عن منشورات تخص صحيفة المدرسة"
اومأت (روميساء) برأسها بهدوء وهي تتمتم بإحراج
"حقا لم اكن اعلم ، إذاً بالتوفيق بعملك"
اختفت ابتسامتها تدريجيا وهي تنظر لها بتركيز قبل ان تقول بخفوت هادئ
"هل حقا خسرتِ عملكِ بتلك المدرسة يا روميساء ؟"
ارتفع حاجبيها السوداوين بصدمة وهي تشدد من القبض على حزام حقيبتها بكفيها ، لتقول بعدها باستياء واضح
"هل اخبرتكِ ماسة بهذه السرعة ؟"
شهقت (صفاء) بخفوت وهي تهمس بعدم تصديق
"لقد اخبرتني بأنكِ قد تخسرين عملكِ ! ولكن لم اظن بأن هذا سيحدث فأنتِ تعملين هناك....."
قاطعتها (روميساء) بجمود متصلب
"اجل يا صفاء هذا ما حدث ، وانا الآن احاول إيجاد مدرسة أخرى تتقبلني مع سمعتي الجديدة"
صمتت (صفاء) ببؤس وهي تخفض حدقتيها العسليتين بحزن عميق بعيدا عنها وهي تعلم جيدا ما يمثله ذاك العمل من أهمية بالنسبة لهما ، وهي تتمنى لو تستطيع تقديم يد المساعدة لهما ولو بشيء صغير من اجل الأناس والذين لطالما اعتبرتهم جزء من عائلتها الصغيرة ليكملوا النقص بحياتها والذي كانت دائما تشعر به منذ ولادتها بين عائلة من الذكور بعد وفاة والدتها قبل ان تعي للحياة حتى !
عادت (روميساء) بنظرها نحوها بجمود ما ان نطقت المقابلة لها بارتباك وتوتر
"كنتُ اريد اخباركِ بأن ماسة قد طلبت مني ان ابحث لها عن عمل بأقصى سرعة ، هل اخبرتكِ بشيء عن هذا الموضوع ؟"
تغضن جبينها بشحوب وهي تفكر بأنها قد فعلتها حقا ولم يكن كلامها السابق مجرد كلام عابر فيبدو بأنها قد بدأت بتنفيذ ما برأسها بدون الرجوع لأحد كما تفعل دائما ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بتوجس قبل ان تتمتم بتمهل شديد
"وماذا حدث بعدها ؟ هل وجدتِ لها عمل ؟"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي تقول بخفوت
"لا لم اجد لها عمل حتى الآن ، ولم نتكلم عن هذا الموضوع مجددا"
زفرت انفاسها براحة وهي ترفع كفها بهدوء لتدس خصلات سوداء من شعرها لخلف اذنها وتفكر بعيدا عنها ، عادت (صفاء) للكلام وهي تهمس بوجل
"ولكن ماذا ستفعلين معها فهي تبدو مصرة بشدة على إيجاد عمل مهما كان الثمن ؟ وخاصة بأنكِ قد خسرتِ عملكِ الآن....."
قاطعتها (روميساء) بابتسامة جانبية وهي تربت على كتفها برفق
"لا داعي للقلق يا صفاء ، فأنا اعرف جيدا كيف تفكر شقيقتي وسأهتم بهذا الموضوع ، وانتِ من جهتكِ حاولي ان تماطليها ولا تفعلي ما تريد"
اومأت (صفاء) برأسها وهي تبتسم بنعومة هامسة برقة
"اعرف بأنكِ ستهتمين بالأمر جيدا ولن تسمحي لها بالعمل وهي بهذا السن ، وهي محظوظة جدا لأن لديها شقيقة كبرى مثلكِ"
اخفضت يدها وهي تبتسم بشرود ولسان حالها يردد (اشك بهذا) ولم تعلم بأن عبارتها قد خرجت من شفتيها العابستين لأذن المقابلة لها ، لتقول (صفاء) من فورها بعدم استيعاب
"ماذا كنتِ تقولين ؟"
عادت (روميساء) للابتسام بارتباك وهي تقول بحزم خافت
"هذا يكفي عليكِ الذهاب لإكمال عملكِ فقد أخرتكِ كثيرا بالوقوف هنا ، لذا هيا غادري بسرعة فلا نريد ان نسبب لكِ المشاكل مع السيد جلال"
اتسعت ابتسامتها بسعادة غامرة وهي تحرك رأسها قائلة بطاعة
"حاضر يا معلمتي روميساء الفاروق"
لم تشعر (روميساء) بنفسها وهي تضحك بخفوت محرج على اللقب والذي كانوا يطلقونه عليها كل من (ماسة) وصديقتها فيما مضى عندما كانت تلعب دور المعلمة عليهما ، بينما تجاوزتها الاخرى وهي تسير باتجاه البوابة الداخلية للمدرسة بثبات ، قبل ان تعود للوقوف بلحظة وتستدير من فورها نحو مصدر الصوت وهو يردف بهدوء
"صفاء اريد منكِ ان تبقي دائما بجانب ماسة وان لا تتركيها وحدها ابدا ، فأنا لا اثق بأحد غيركِ ليهتم بها بغيابي"
ابتسمت (صفاء) باتساع وهي تلوح لها بيدها بقوة قبل ان تعود للسير بعيدا عنها بهدوء ، وما ان اختفت عن نظرها تماما حتى استدارت هي الأخرى لتسير بالطريق المعاكس لها وهي تخرج من البوابة الخارجية للمدرسة ، لتقف بعدها عند قارعة الطريق وهي تعود للنظر بحدقتيها الخضراوين الشاحبتين تطوقهما غيوم حمراء بمواجهة الشمس المتوهجة من فوقها بدون ان تحمي عينيها من اشعتها القوية والتي اخترقت نظرها بتشوش ، وهي تفكر بأنه قد حان الوقت الآن لاستخدام الخطة البديلة والتي تخص التقدم بالعمل للمدارس والتي ستتقبلها بدون اي عناء او جهد وسمعتها هي آخر ما يفكرون به ، فهي من سابع المستحيلات ان تسمح لشقيقتها الصغرى بالخوض بعالم العمل بدون اي شهادة او خبرة بين وحوش جائعة تبحث عن الفريسة الأسهل للانقضاض عليها بدون اي رحمة ، فهذه هي حرب الحياة إذا لم تقاتل بها بكل قوتك ولم تحمل معك سلاح الشهادة فأنت خاسر ولا تستحق هذه الحياة من الأساس !
_________________________________
اسندت جانب وجهها على سطح الطاولة وحدقتيها تنظران لحركة البشر المتزامنة جيئاً وذهاباً بدون توقف او تمهل وكل منهم ينطلق لوجهة معينة بهذه الحياة الوسيعة ، رفعت احداقها ببطء بعيدا عن الواجهة الزجاجية لتنظر للشاب الواقف امامها وابتسامة مهذبة تحتل محياه البشوش ، ليقول بعدها باحترام شديد بدون ان يفقد ابتسامته البلهاء
"ما هي طلباتكِ يا آنسة ؟"
مرت لحظات وهي ما تزال تنظر له بقوة بدون ان ترفع رأسها بعيدا عن سطح الطاولة ، لتعود بعدها للنظر للواجهة الزجاجية بجانبها وهي تهمس بجمود
"نفس طلبي المعتاد"
اومأ الشاب برأسه بتأكيد وقد اهتزت ابتسامته قليلا قبل ان يقول بثقة بالغة
"ثواني ويكون الطلب عندكِ"
لم تعيره (ماسة) اي اهتمام وهي ما تزال شاردة بعيدا عن الجميع ، ليبتلع بعدها الشاب ريقه بتوتر قبل ان يتراجع بخطواته بعيدا عنها بخذلان ، بينما كانت هي شاردة تستمع لخطواته المبتعدة بسمع مرهف قبل ان يختفي ليحل محلها خطوات رواد المكان المتزنة بكل زاوية يتبعها اصوات تحريك المقاعد وارتطام اجسادهم بالطاولات .
اخفضت جفنيها على احداقها الداكنة بهدوء بعيدا عن مرأى الناس وهي تحاول التمتع ببعض اللحظات الاستقلالية لوحدها بالمكان المفضل عندها والذي يطلقون عليه مقهى السعادة ، بالرغم من ان اسمه يتناقض مع حقيقته فجميع زواره من انواع الناس المهمومين من الحياة والطلاب الفاشلين بحياتهم اكاديميا وعاطفيا والذين يبحثون عن بعض الراحة بالمقهى والذي يحتل وسط البلد ، ولكن بما ان الاسم يجذب جميع انواع البشر إليه فلا فائدة من التفكير بتناقض اسمه عن هدفه وحقيقة رواده ما دام يجلب كل السكان إليه من كل المحافظات .
قبضت (ماسة) فجأة على كفيها من تحت الطاولة ما ان شعرت بالخطوات الهادئة المتجهة نحو طاولتها باتزان ثابت ، لتعض بعدها على طرف شفتيها وغريزة الحذر بدأت بنهش اطرافها بقوة ، فهذه الخطوات تحفظها منذ كانت طفلة وتعرف جيدا لأي نوع من الناس تكون وخاصة مع رائحة العطر والتي زكمت انفاسها وهي تسبق وصول صاحبها ، ليتبعها بعدها الصوت الخافت ببحة خشنة ما ان وقف امام طاولتها تماما
"مرحبا ماسة الفاروق ، لقد مرت فترة طويلة منذ رأيتكِ بها آخر مرة ، هل يعقل بأنكِ قد نسيتنا بهذه السرعة ؟"
تجمدت ملامحها ببهوت بدون أي تعبير فقط انفاسها ازدادت حدة عن السابق وهي تستمع لصوت الكرسي المقابل لها وهو يرجعه للخلف قبل ان يجلس فوقه بهدوء بالغ ، مرت لحظات ساكنة عليهما قبل ان ترفع وجهها بعيدا عن سطح الطاولة ببطء شديد وهي ترفع يدها لتعيد خصلات شعرها المتحررة عن عقدتها لخلف اذنها بمنتهى الهدوء ، لترفع لأول مرة نظراتها الجامدة نحوه وهي تنظر للشكل والذي حفظته من بين اشكال كثيرة كانت تلازم منزلها ليل نهار مع اصدقاء (قيس) الكثيرون والذين لا يحصون .
كانت تنظر للوجه الملثم بوشاح حول عنقه يرتفع لطرف ذقنه بقليل وللعمامة من فوقه والتي كانت تغطي شعره بالكامل ، لتصل بنظرها لنظارته السوداء الداكنة والتي تغطي سواد عينيه الحاد ولكن لم تستطع اخفاء خباثة ملامحه والتي تستطيع التعرف عليها من مسافة ميل .
تقدم بعدها النادل باتجاه طاولتهما وهو يحمل كوب قهوتها ، وما ان وصل امامها حتى وضع الكوب عند طرفها من الطاولة وهو ينظر بحيرة للرجل الجالس امامها بغموض ، ليرفع بعدها الرجل يده وهو يشير له ليبتعد من امامهما بأمر وفظاظة ، ليرحل الشاب بعيدا عن طاولتهما بخنوع وهو ينظر للرجل بامتعاض واضح وتذمر يكاد ينطق من ملامحه العابسة .
عادت (ماسة) بنظرها للرجل وهي تقول بابتسامة جامدة
"ألا تظن بأنه من الخطر عليك التنقل هنا وهناك على رجل مثلك مطالب من القانون ؟ حتى أنني ما زلتُ مصدومة من استطاعتك الهروب منهم بينما لم يستطع قيس والباقون فعل ذلك !"
اتسعت ابتسامة الرجل بغموض وهو يخلع النظارة من فوق عينيه ليضعها امامه قائلا بتصلب تطغى عليها بحة خشنة
"لا شيء يستطيع الوقوف امامي يا حلوة ولا تفكري ولو قليلا بأن رجال الشرطة الحمقى يستطيعون اخافتي ببدلاتهم وصفارات سياراتهم والتي تلازم قدومهم وتلاحقهم بكل مكان ، واما باقي الرجال فلم يستطيعوا الهروب بسبب ثقتهم العمياء بقيس والذي يكون حديث بعالم الإجرام ، وحتى الآن ما يزال يتصرف بحماقة وتهور وهو يشعرني بالخزي لأنني فكرتُ ان اعطيه ثقتي منذ البداية !"
اخفضت (ماسة) نظرها لكوب قهوتها وهي تتمتم بلا مبالاة
"إذاً بماذا استطيع مساعدتك يا سيد راكان ؟"
رفع (راكان) يده ليسند ذقنه عليها وهو يتمتم بقوة
"لما لا تشربين القهوة الخاصة بكِ قبل ان تبرد ؟"
ردت عليه ببرود جليدي وهي تشيح بنظرها بعيدا عنه
"لا أحب القهوة"
حرك رأسه بتفكير وهو يقول بوجوم
"ولما طلبتها إذا كنتِ لا تحبين القهوة ؟"
نظرت له بحدة وهي تهمس بنفاذ صبر
"هل ستجيب على سؤالي ام لا ؟ فإذا كنت قد نسيت انا من سألتك اولاً ! لذا ليس من اللائق تجاهل اسئلتي"
ابتسم بهدوء متزن وهو يقول بروية وتمهل شديدين
"لا تنفعلي هكذا ، سأجيبكِ على سؤالكِ الآن ، اريد منكِ العودة للعمل معنا بقوانيني انا وليس بقوانين قيس"
شددت من القبض على كفيها معا وهي تعقد حاجبيها السوداوين بحدة وحدقتيها تتحولان لأمواج بحار معتمة بثواني ، قالت بعدها بعصبية بالغة وهي تحاول تنظيم انفاسها بشق الأنفس
"هذا سيكون فقط بأحلامك يا سيد راكان ، فما لا تعرفه بأني قد توقفت عن العمل كعبيد عندكم وتنفيذ اوامركم بالحرف الواحد ! فالشخص الذي كان يملك حياتي قد رحل واختفى وهذا يعني بأن جميعكم ايضا ستختفون من حياتي وللأبد"
انتفضت بجمود ما ان ضرب (راكان) على سطح الطاولة بقوة اهتز معها كوب قهوتها بارتجاف والسائل بداخلها يتموج معها بهدوء ، لتخفض بعدها نظرها لكوب قهوتها وهي تنظر لانعكاس صورتها بمرارة لتلمح بعض الانكسار وهو يقتحم حدقتيها البحريتين ما ان مرت امامها ذكريات الماضي المرير عندما كانت مجرد خادمة وضيعة وسلم للوصول لأعمالهم الدنيئة والغير قانونية .
رفعت وجهها بسرعة ما ان قال باستياء متجهم
"انتِ بهذه الطريقة تضيعين فرصة ذهبية بالعمل معنا وهذه المرة سنضاعف لكِ مكافئتك المالية والتي ستحصلين عليها ! ولن يكون صعبا كما كان بوقت قيس بل سيكون عبارة فقط عن اختراق الأجهزة الأمنية وكلمات المرور المعقدة ، وهذا ليس بالصعب على الفتاة والتي اقنعت وزير الداخلية ليعطينا دعمه وثقته !....."
قاطعته (ماسة) بانفعال حاد متشنج
"كفى ، لا اريد التكلم عن هذا الموضوع ، وطلبك مرفوض تماما !"
تصلبت ملامحه بجمود وهو يضيق عينيه بتركيز حاد ، لتتابع بعدها كلامها وهي تنظر له بازدراء عابس
"الظروف الآن قد اختلفت يا سيد راكان ، وما كان يدفعني لفعل كل هذا هو الحفاظ على حياتي بمنزل قيس ، واما الآن فأنا لا احتاج لأي احد منكم ولا اريد ان ألطخ نفسي بمستنقعكم بعد الآن"
اشاح (راكان) بوجهه بعيدا عنها وهو ينظر من الواجهة الزجاجية بتصلب وكفه ما تزال تشدد على ذقنه بقوة يكاد يخلع فكه من مكانه ، بينما كانت (ماسة) تتابع حركاته وكل تشنجات جسده الواضحة بانتباه ولولا وجودهما بمكان عام لكان انقض عليها بشراسة واذاقها من قسوته المعتادة كما كان يحدث معها بالماضي عندما كانت تخطئ بعملها معهم ولو خطأ صغير غير مقصود !
رفعت يدها بسرعة وهي تمسح خديها بعنف من الشحنات والتي اصبحت تحتل كل اطراف جسدها بانتفاض وهي تحوم من حولها تكاد تخنقها ، لتصطدم بعدها بنظراتها بالشخص والذي كان يجلس بطاولة بعيدة عن طاولتهما بأميال ونظراته السوداء عالقة بوجهها بدون ان يرمش ولو للحظة ولا تعلم كم المدة والتي طالت بينهما وهما على هذه الحال ! لتقطعها بعدها صاحبة الملامح الشاحبة وهي تخفض نظرها بارتباك نحو كوب قهوتها البارد والذي اختفت عنه الأدخنة ليحل محلها البرود فقط وقد تحول السائل للون قاتم لا طعم له او رائحة .
ابعد (شادي) نظره بعيدا عن تلك الطاولة وهو يفكر بما لمحه الآن بعينيها الزرقاوين القاتمتين من ذبول يراه بها لأول مرة بعيدا عن الجمود والمعتاد على رؤيتهما فيها ، ولكن ما يحيره هو من يكون ذلك الرجل والذي يجلس مقابلا لها ومن سبب لها كل هذا الحزن بملامحها الباردة القاسية ؟
عاد (شادي) بنظره للأمام ما ان قالت المقابلة له بنعومة وجمال
"اين شردت يا شادي ؟ انا اتكلم معك منذ ربع ساعة وانت تعيش بعالم آخر بعيدا جدا عني ! إذا كنت لم تحب المكان والذي اخترته لك فصارحني بذلك ولا تقلق لن اغضب عليك"
ردّ عليها (شادي) بابتسامة طريفة
"لا لم يعجبني"
عبست ملامحها الفاتنة وهي على وشك البكاء ليسبقها بعدها بالكلام وهو يقول بابتسامة جانبية بمرح
"اهدئي فقد كنتُ امزح معكِ ، والمكان رائع جدا ويعجبني كثيرا !"
عادت (لينا) للابتسام باتساع مغري وما ان كانت على وشك الكلام حتى صمتت بلحظة وهي تنظر بحيرة للذي وقف عن الكرسي بقوة وهو يغادر بعيدا عن الطاولة باندفاع متجاهلا هتافها باسمه من الخلف بصدمة ، بينما كان (شادي) ينظر لطاولتهما وتحديدا للرجل والذي كان يمسك بيد الاخرى بقوة رغم ممانعتها ، وما ان وصل خلف الرجل تماما بثواني حتى قال بخفوت خطير
"مرحبا يا ابنة عمتي ماسة ، صدفة جميلة ان اراكِ هنا وبصحبة هذا الرجل الغريب ! إلا إذا كنتِ تريدين ان تعرفيني عليه !"
انتفض الرجل وهو يفلت يدها قبل ان ينهض بسرعة عن الكرسي ويضع النظارة فوق عينيه وامام نظرات (ماسة) المتوجسة من ان يكشف امره الآن امام الجميع ستكون عندها قد اوقعت نفسها بمشاكل كبيرة هي في غنى عنها ، عقد (شادي) حاجبيه بوجوم من انتفاضته وهو ما يزال يعطيه ظهره وما ان رفع يده نحوه حتى اندفع الآخر بلحظة وهو يستدير للخلف ليتجاوزه بعنف بعد ان دفعه بعيدا عن طريقه ليكمل سيره لخارج المقهى بلمح البصر ، بينما تراجع (شادي) للخلف قليلا وهو ينظر لأثر الرجل والذي اختفى خارج المقهى بدون اي كلمة وهو يشعل الشك بداخله تدريجيا فهذا التصرف لا يخرج ابدا من رجل عاقل شريف !
حاول اللحاق به بسرعة ليوقفه فجأة من امسكت بذراعه واعادته للخلف بقوة قبل ان تقف امامه قائلة باندفاع شرس
"ما لذي تفعله هنا ؟ وماذا تظن نفسك فاعلا وانت تخيف بطريقتك الهمجية هذه اصدقائي ؟ ولم يطلب منك احد ان تُعرف القرابة والتي تجمع بيننا لكل من تراه امامك !"
ارتفع حاجبيه باستنكار وهو يحرك رأسه باستفزاز امامها قائلا بسخرية واضحة
"أتقصدين بأنني قد اخطئتُ عندما عرفته بالعلاقة والتي تجمعني بكِ يا ابنة عمتي ؟ واي نوع من الاصدقاء هذا والذي يفر هاربا ما ان يقترب منه اي شخص ؟ حتى أنه لم يعرفني على نفسه ودفعني بعيدا عنه بكل وقاحة !"
ردت عليه بانفعال مكبوت وهي تشير له بكفها بقوة
"أولاً ليس هناك اي علاقة تجمعنا معا ، وثانيا لستُ مضطرة لأبرر لك تصرفات اصدقائي فهذا ليس من شأنك يا ابن عائلة الفكهاني !"
امتقعت ملامحه بعدم رضا وهي تطرده من دائرة اهتمامها ومن عائلتها بأكملها ، ليقاطع الأجواء المشحونة بينهما والتي تكاد تحرق المقهى بأكمله صوت أنثوي رقيق يقول من خلفهم بنعومة
"مرحبا انا هنا ! ألن تعرفني على الفتاة يا شادي ؟"
زفر انفاسه بإنهاك فهذا ما كان ينقصه ان تدخل (لينا) معهما على الخط والتي لن تنجو ابدا من نيرانهما وقد تخرج الآن الفتاة الشرسة من داخلها لتدافع عن صديقها بكل اسلحتها كعادتها وهذا واضح من نبرة التهديد والتي تحملها بصوتها ، ليستدير بعدها بسرعة نحوها وهو ينظر لها وكما توقع كانت تكتف ذراعيها فوق صدرها بهدوء وملامحها بعيدة تماما عن الرقة ، ليقول بسرعة باتزان قاطعا الأجواء القاتمة والتي بدأت تدور بين ثلاثتهم
"لا ليس كما تظنين يا لينا ! فهذه تكون ابنة عمتي ماسة وهي من اخبرتكِ عنها من قبل"
لانت ملامحها وهي تبتسم بدلال لتعود للعبوس بلحظة وهي تنظر بعيدا عنه من خلف كتفه قبل ان تقول بحزن مصطنع
"ويبدو بأنها لا تطيقك ابدا وهذا واضح تماما !"
عقد حاجبيه بتفكير قبل ان يستدير بسرعة برأسه للخلف وهو يلمح خيالها الخارج من باب المقهى بهدوء وبدون ان تنتظر تعليقه على كلامها ، ليعض بعدها على طرف شفتيه بغيظ من تصرفاتها الوقحة والمستفزة وهي تصر على تحويله لشخص مختلف تماما عن صورته الباردة والمعتاد على تمثيلها منذ دهور ! ولكن الذي لا يفهمه هو لما تثير عنده كل هذه الحيطة نحوها والانجذاب لشيء فريد نادر الوجود بعالم لا يعرف سوى تمثيل الأدوار الرخيصة وارتداء الأقنعة المزيفة خلف حقيقتهم الشنيعة والتي لا تسر مخلوق ابدا ؟نهاية الفصل.....
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...