الفصل السابع والثلاثون

177 5 5
                                    

كانت تضم يديها بحجرها بتوتر تارة وترخي ترابطهما تارة اخرى ، لتحين منها التفاتة جانبا وهي ترمق الجالس خلف المقود والذي يشدد على عجلة القيادة بقبضتين متصلبتين وكأنه يتمسك بلجام الفرس او بالأحرى لجامها هي ، بدون ان تحدد نوع الشحنات التي تحوم من حولهما بتيارات فوق البنفسجية ، وهذا حالهما منذ ساعات يدوران بنفس الاماكن ونفس الاحياء بدائرة مغلقة حفظت طريقها بأجواء السيارة الخانقة وكأنه يتلاعب بعداد حياتهما ويتلف ما تبقى من اعصاب وهدوء بينهما ، وعلى ما يبدو لم يقرر بعد نهاية لهذه الرحلة العصيبة والتي تكاد تستنزف كل رشفة من ارواحهما .
تنهدت بإرهاق وهي تفرك قبضتيها معا هامسة بخفوت عصيب مضطرب
"هلا اوصلتنا للمنزل رجاءً ؟ بدل هذه الرحلة بالدوران حول نفس الاماكن حتى اجزم بأن السيارة نفسها قد ضجرت منا !"
راقبت انشداد ملامحه بتعابير جامدة وكأنه يحاول ان يستوعب مصدر الصوت بجانبه بعد ان اخترقت هالة الصمت المحيطة من حولهما ، وما ان يأست من الحصول على جواب حتى خرج لها صوته وهو يقول ببرود حاد بدون ان ينظر لها
"لن نتحرك من مكاننا حتى تدلي بالأجوبة التي اريدها"
نظرت له بعينين متسعتين بوجوم وهي تهمس بعبوس خافت
"ماذا تريد بالأجوبة إذا كان كل شيء قد توضح امام عينيك ؟ هل سيغير هذا بحالنا وبمقدار غضبك وسخطك عليّ ؟"
انحفرت شبه ابتسامة على شفتيه وهو يقول بجمود صارم
"لن يغير شيء إذا لم يكن بإرادتك ، ولكنه سيوضح الغموض بداخلي وينفض السحابة المسورة بعقلي ويجيب على الاسئلة برأسي"
حركت عينيها بعيدا ببرود بعد ان اكتفت من قراءة تعبيرات وجهه وهي تهمس بخفوت غير مبالي
"هذا يعني بأنه بالحالتين لن تتغير ردود افعالك نحوي !"
ارتعشت بمكانها ما ان ضرب على المقود بقبضته وهو يقول بغضب مكتوم اخرجه عن بروده
"لماذا تصرين على هذا العناد ؟ هل تستمتعين بإغاظتي ورؤيتي امامك اتألم ! هل لهذه الدرجة تتسلين بآلام الآخرين ؟"
تجمدت ملامحها ببهوت بلمحة ألم اخفتها بين امواج محيطات عينيها الواسعتين ، لتكتف بعدها ذراعيها فوق صدرها وهي تشرد بنظراتها بالنافذة هامسة بهدوء ظاهري
"ربما اكون كذلك فهذا ما يتحلى به ذوات القلوب السيئة"
قضم على طرف شفتيه وهو يحاول التنفس بطبيعية عدة لحظات قبل ان يطرق بأطراف اصابعه على المقود بهدوء رتيب ، ليقول بعدها بصوت خفيض بخشونة
"لن اطلب منكِ الكثير ، ولن اسألكِ عن سبب زيارتك لشقة ميرا او عن الذي تكلمتما عنه ، فقط اريدكِ ان تجيبيني كيف عرفتِ بمكان شقتها ؟ فأنا لا اذكر بأني قد اخبرتك عن مكانها ! إذاً كيف عرفتي بمكانها ؟"
حادت بطرف عيناها نحوه لوهلة قبل ان تعيد نظراتها للأمام هامسة بخفوت ثابت
"إذا كان هذا ما تريد سماعه ، سأخبرك ببساطة بأن شقيقتك هي من اخبرني بنفسها عن مكان الشقة ، وهذا بعد ان تكلمت معها بهاتفك واقنعتها بطريقتي ان تخبرني بعنوان سكنها بسرية بدون ان تعلم بذلك"
ارتفع حاجبيه ببطء مستوعب مشدوه بذات الوقت وهو يستمع للحيلة الذكية التي حاكتها من خلفه ، قبل ان يقول بوجوم حائر
"كيف استطعتِ التكلم معها بهاتفي ؟"
حركت كتفيها باستخفاف وهي تهمس بدون ادنى تردد
"لقد حدث هذا بالفندق بعد ان غرقت بالنوم وفقدت شعورك بالواقع ، عندها استغليت الفرصة واخذت الهاتف من جيب بنطالك وبعد ان انتهيت منه اعدته لمكانه ، هذا كل شيء حدث ببساطة"
تلبدت ملامحه بموجة هدوء اجتاحت كيانه وهو يعقب على كلامها قائلا بتعجب ساخر
"رائع خطة ذكية يا زوجتي ! يبدو بأنني قد تعرضت للاحتيال والخداع بدون ان اشعر او ادرك ، ولكن هذا هو المتوقع دائما من عقل زوجتي الذي يعمل بوقت المصالح حتى تصل لدرجة استغلال زوجها للوصول لمصالحها ، كما يقول المثل الغاية تبرر الوسيلة"
زفرت انفاسها بضيق وهي تهمس ببأس
"توقف عن تصوير الامر بهذه الطريقة فقط لأنك غاضب مني"
التفت نحوها بجمود وهو على وشك قول شيء لولا صوت الهاتف الذي قاطع خلوتهما وشحنات حوارهما ، تجهمت ملامحه ما ان همست الجالسة بجواره ببرود مستفز
"اجب على الهاتف"
اجاب على الهاتف بدون ان ينتظر بملامح جامدة سرعان ما انقلبت لهدوء مريب وهو يستمع لطرف الآخر بإذعان ، وبعد مرور لحظات كان يغلق الهاتف بدون صوت وهو يتحول لقطعة جليد قاسية اثار رهبتها ، لتشيح (ماسة) نظراتها بعيدا عنه بغريزة نبهتها على عدم الإطالة بالتفكير والنظر بعيدا بدون ان تشعر بسرعة السيارة التي تضاعفت ببطء تدريجي مثل الرمح نحو وجهة غير معلومة .
بعدها بدقائق عصيبة اخذت كل ذرة من صبرها الذي كاد ينفذ منها بتحمل فاق مقدرتها ، كان يوقف السيارة على طرف الطريق المجهول الذي وصلا له بعد تلك المكالمة الغامضة والتي كانت اكثر من كافية لتشعل ما تبقى لديها من اعصاب سليمة .
خرج (شادي) من السيارة بصمت بدون ان يعيرها اهتمام او نظرة ، لتزفر انفاسها بضيق وهي تنزع حزام الامان قبل ان تخرج كذلك من السيارة ، ما ان اصبحت بالخارج حتى تجمدت نظراتها بمواجهة بناء المستشفى والتي تبين بأنها الوجهة المجهولة الهدف .
احنت حاجبيها بوجوم طاف على ملامحها الرخامية ما ان لمحت الذي سبقها بصعود درجات مدخل المشفى بدون اي انتظار ، لتغلق بعدها باب السيارة بقوة وهي تتحرك بسرعة بخطوات واسعة خلف الذي اختفى عن نظرها بلمح الصبر وكأنه لا وجود لها .
وصلت عند طابق محدد وهي ما تزال تتبع خطوات الذي قادها لهذا المكان بدون ان تعرف السبب ، وما ان وقف فجأة عند الرواق حتى سارعت بخطواتها بلمح البصر قبل ان تمسك بذراعه وهي تقول بلهاث منفعل
"ما لذي نفعله هنا يا شادي ؟ ماذا يحدث ؟"
نفض ذراعه بعيدا عنها وهو يلوح بأصبعه امام وجهها هامسا بأمر صارم
"اخرسي يا ماسة ، والزمي الصمت افضل لي ولكِ"
اشاحت بوجهها بجمود وهي تكتف ذراعيها بحالة فتور تلبسها بلحظة ، وما ان خرج طبيب من الغرفة المقابلة حتى هجم عليه الذي امسك بياقة رداءه وهو يقول له بعصبية فقد زمام السيطرة عليها
"هل هذه غرفة المريضة التي تعرضت لحادث سير ؟ كيف حالها الآن ؟ ماذا حدث لها !"
اضطربت ملامح الطبيب وهو يرفع يديه قائلا بهدوء مرتبك
"انا مجرد ممرض مساعد انقل الدم من مريض لآخر واغرز الابر ، لا اعرف وضع المريضة"
افلت ياقة الرداء الخاص به وهو يتراجع بعيدا عنه ليعود لوقوفه السابق ، بينما كانت (ماسة) تراقب الوضع بعينين متسعتين بعد ان فهمت الحالة التي وجدت بها ، لتتحرك بسرعة بعيدا عنه وهي تستند عند الجدار المقابل له على مسافة امتار بعد ان اكتشفت خطورة وضعها والذي اصبح يهدد سلامتها .
ضيقت حدقتيها الزرقاوين بضيق وهي تلاحظ النظرات التي اصبحت تتسلط من حولها وتتركز عليها بطريقة تثير الريبة بالروح وتعيث الدمار بالحواس ، وما ان ضاقت ذرعا من هذه الحرب الصامتة والتي تدمر النفس قبل ان تدمر الاعصاب حتى قالت بتأفف غاضب وهي ترمقه بأمواج عينيها المهلكة
"توقف عن النظر لي بهذه الطريقة الاتهامية ، فأنا لم ألمسها ولم اصيبها بمكروه ، لذا إذا تريد لوم احد بيننا فعليك لوم نفسك بتركها وحدها بشقة منعزلة عن العالم"
ما ان صمتت عن الكلام حتى وجدته يصل لها بخطوتين فقط كانت كفيلة بدب الرعب بأوصالها والتصاق ظهرها بالجدار وهو يريح كفيه على جانبي رأسها وعينيه بعينيها بحصار مغلق الزوايا بدون ان يترك لها مجال للهروب ، لتفيق بعدها على صوته البارد وهي تتبع حركة شفتيه المتصلبتين بهمس خفيض عنيف وكأنها تسمع صوت من بعيد قرع بأذنيها بألم
"وتتكلمين بوضعك هذا بعد كل ما اقترفته من مصائب وانفجارات من حولك ! لقد ظننتكِ قد اصبحت مسالمة واخرجتي شقيقتي من حساباتك وحقودك مع العالم بعد آخر هدنة حدثت بيننا ، ولكن ماذا فعلتِ الآن ؟ ذهبتِ لمنزل شقيقتي وافرغت بها سموم كلامك قبل ان ترميها للموت الحقيقي بالعالم الخارجي ! فأنا اعلم جيدا الأثر الذي يتركه كلامك بنفس الانسان حتى يدفعه لأقرب تهور لتجنين على حياته ، وانا اكثر من واثق بأنكِ السبب الرئيسي بما تعرضت له شقيقتي وسيحدث معها ، لماذا لم تستطيعي الابتعاد عنها ؟ لماذا جعلتها من بين اهدافك ؟ لماذا اقتربت منها ؟"
زمت شفتيها بارتجاف مستميت هز جسدها لا إراديا وهي تهمس بوجل خافت
"هي لم يصيبها مكروه صحيح !"
انقض فجأة على ذراعيها بقسوة بالغة وهو يهدر بوجهها بلفحات هواء حارقة حد الجحيم
"لو اصابها مكروه لها او للطفل فلا تلوم عندها سوى نفسكِ يا ماسة ، فقد تساهلت معكِ كثيرا سابقا وتغاضيت عن اخطاء كثيرة بدون ان اسأل ، ولكن الآن عندما تتجاوز قسوتك وجرائمك حد ان تصل لأحد من افراد عائلتي فلن اتهاون عندها ، لقد حاولت كثيرا تغييرك للأفضل ونزع الحقارة والدناءة بدمك وتنظيف مكنوناتك ، ولكن للأسف لا شيء من هذا قد تغير ولم يفلح شيء معكِ فأنتِ العطب موجود بداخلك ولن يصلح ألا إذا اردت ذلك ، وحقيقتك ستبقى موصومة بحياتك مثل بطاقة حمراء ابنة مجرم"
تحجرت ملامحها ببهوت وهي تستقبل براكينه بروح اهدرت على مدار سنوات بهذه الحقيقة التي الصقها الجميع بها وطمست هويتها ، لتزيح بعدها وجهها المتشرب بلفحات نيرانه على بعد بضع إنشات تحاول تمالك نفسها ببضعة ثواني ، لتهمس بلحظة بخفوت جليدي بدون ان تهتم للكسور التي قصت اجنحتها وشطرت قلبها لنصفين
"شادي ابتعد عني قبل ان يرانا احد ، فنحن بمشفى عام ولسنا بالمنزل"
كشر عن انيابه وهو يقرب وجهها منه بدون ان يرحمها بهذه اللحظات التي تشربت كل طاقة وعزيمة مخزنة بداخلها ، ليتابع بعدها كلامه بصوت اكثر حدة يخفي وعيد قاتل وكأنها قد اخرجت الوحش الكامن تحت رماد الماضي
"لن اسامحكِ لو اصابها مكروه ، لن اسامحكِ عليها يا ماسة ، لن اسامحك يا قاتلة"
انتفضت فجأة وهي تدفعه بكل ما اوتيت من قوة بصدره صارخة بكبرياء مشروخ
"انا لست قاتلة ، لست قاتلة"
استقام بعيدا عنها بخطوة واحدة ليس بسبب هياجها المفاجئ بل بسبب خروج طبيب آخر من الغرفة نفسها ، ليقف امامه بسرعة وهو يقول باضطراب واضح طغى على صوته الثائر
"ماذا حدث ؟ هل هي بخير ؟"
عقد الطبيب حاجبيه بحيرة وهو يقول بتفكير
"هل انت احد اقربائها ؟"
ابتلع (شادي) ريقه بارتباك وهو يجيب باتزان
"نعم انا قريبها ، كيف حالتها الآن ؟ وكيف حالة الطفل !"
ابتسم الطبيب بهدوء وهو يربت على كتفه قائلا بجدية عملية
"لا تقلق لقد مرت سليمة الحمد لله ، فقط بضع كسور وكدمات بظهرها وبأنحاء جسدها بسبب وقوعها اثناء الحادث ، والجيد بالأمر بأن السيارة لم تلامسها بل مرت من فوقها بدون ان تصيبها ، وهذه قدرة ومعجزة من الله بحمايتها وعدم تعرضها لإصابات خطيرة ونجاتها من هذه الحادثة ، لذا احمد ربك كثيرا على نجاتها فلولا ذلك لما خرجت حية هي وطفلها ، وحمد لله على سلامتهما"
تنفس الصعداء بتهدج وهو يمسح على وجهه بكفيه باستغفار وتهليل وتكبير وكأن احمال العالم قد انزاحت عن اكتافه وهو يطمئن لأول مرة بنجاة احد افراد عائلته بسعادة ليس لها مثيل ، وما ان استعاد ضبط اعصابه المنهارة بثواني حتى قال للطبيب امامه بابتسامة طفيفة بتعب
"شكرا لك ، بارك الله فيك"
تلبدت ملامحه وهو يلتفت للخلف بتنبيه غريزي قبل ان تتسع حدقتيه السوداوين بترقب وهو يشاهد التي كانت تتراجع للوراء امام عينيه بوضع استعداد معروفة النوايا ، وقبل ان ينطق بحرف تحذير كانت تستدير هاربة بأقصى سرعة على طول الممر والذي انتهى باختفائها مثل السراب وبدون ان تسمح للهواء بالتدفق برئتيه ، ليزفر انفاسه بلحظات بنفس طويل وهو يتمتم بقلب متحجر غير رحيم
"سنرى إلى متى ستستمرين بالهروب يا قاتلتي الصغيرة !"
___________________________
كانت تمسح على شعره الناعم بكفها الحانية وهو نائم على سريره بأمان وسلام بدون الشعور بهموم واحزان العالم الصغير ، وهي تدعو بقلبها المحب ان يحمي كل طفل بالعالم من اي هموم قد تصيبهم بهذا العمر والذي اقل الاشياء والحوادث قد تؤثر بهم بوصمة ستلصق بطفولتهم للأبد ، فلا احد يعلم اهمية هذه المرحلة بكل حياة طفل والتي تكون اكثر المراحل حساسية وانماءً والتي تهتم بتطورات الطفل بشكل سليم متزن واعي .
تنهدت بإرهاق وهي تنظر للساعة بمعصمها والتي كانت تشير للساعة السابعة مساءً ، لتخفض كفها وهي تهمس باستياء عابس
"لماذا تأخر هكذا ؟ لا استطيع الانتظار اكثر من هذا !"
استقامت بجلوسها وهي تلقي نظرة اخيرة على الطفل الوديع النائم بسلام بعد ان شرب الدواء وانتهيا من مراجعة الدروس ، لترفع بعدها الغطاء فوق كتفيه برفق وهي تتأكد من كامل تغطيته ، لتنهض بلحظة وهي تخرج من الغرفة بدون ان تنسى طفئ الاضواء عليه .
ما ان وقفت عند الرواق حتى تصلبت بمكانها وهي تسمع صوت جرس المنزل والذي اثار رهبتها وخوفها بشكل مفاجئ ، لتحرك رأسها بتشوش وهي تهمس بخفوت حائر
"هل يعقل بأن يكون قد وصل ؟ ولكن لماذا يقرع جرس منزله يا ترى !"
زفرت انفاسها بهدوء وهي تتجه نحو باب المنزل مباشرة بخطوات بدأت تتباطأ تدريجيا بدون ان تشعر بنفسها ، وما ان وقفت امام الباب حتى امسكت بالمقبض بقوة وهي تفتحه بسرعة بدون ادنى تردد او تفكير ، ولكن ما ان فعلت حتى ظهر شخص معاكس عن توقعاتها جمدها بمكانها واوقف حركات كل من اعضائها واطرافها لثواني وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة الحاسمة والتي كلفتها حياتها بأكملها ، ولم يوقظها من صدمتها الحالية سوى اليد التي امسكت بكفها على مقبض الباب بصعقة مرت على كل انحاء جسدها بأشعار خاطف نبهتها بالخطر المقبلة عليه .
تنفست بلوعة وهي تسحب كفها بلمح البصر بعيدا عن المقبض بخوف تجلى على محياها الذي شحب من الدماء وتيبس بجفاف ، وهي تحدق بأوسع عينيها الخضراوين بنظرات مختلفة عن السابق بعد ان فقدت اللهفة والشوق برؤية الواقف امامها بتعابير تغيرت كلياً وكأنها تنظر لشخص غريب عنها والاقرب لشخص سيقتنص روحها وقلبها ، لترتخي بعدها عضلة جفنيها وهما تتدليان على احداقها بصراع مضني امام عينين رماديتين بقسوة جليدية نخرتها حد الصميم واعادتها لخصوماتهما القديمة وهو يحقنها بنظرة سوداوية لم تعهدها منه قبلا .
قبضت يديها على جانبيها ما ان قطع الصمت الطويل وهو يبادر بالكلام ببرود ساخر
"مساء الخير يا سيدة روميساء ، مفاجأة جميلة ان اراكِ بمنزل غير منزلنا بهذا الوقت من الليل ! هل هو منزل سري يا ترى ؟ ام ماذا يكون ؟"
احنت حاجبيها بوجوم وهي تهمس بخفوت ممتعض بترجي
"افهمني اولاً يا احمد ، افهمني قبل ان تطلق اي من احكامك......"
قاطعها فجأة بصرخة مكتومة وكأنها تخرج من آثار صدمة متأخرة
"افهم ماذا ؟ افهم ماذا يا روميساء !"
ابتلعت ريقها باضطراب شل حركة التنفس عندها حتى اصبحت مهمتها عصيبة والكلمات تعلق بمنتصف حنجرتها بدون ان تستطيع اخراجها من فوهتها والافصاح عنها ، ليبادر هو بالكلام من جديد بدون ان ينتظرها اكثر وهو يقول باستهجان شرس
"ولكن الحق ليس عليكِ انتِ بل على ساكني المنزل ، كيف يسمحون لكِ بفتح الباب بنفسك ؟ لا هذا عيب ولا يجوز بحقك ! هل هكذا يعاملون الضيف بمنزلهم ؟ انا لا اسمح لأحد بمعاملة زوجتي بهذه الطريقة ببيت الغرباء !"
عضت على طرف شفتيها بصبر وهي تهمس بحزم خافت بدون ان يخفى الخوف بصوتها
"احمد توقف ، هذا ليس الوقت لمثل هذا الكلام"
ارتفع حاجبيه بتفكير جامد وهو يتقدم اكثر امامها قائلا بارتفاع متعمد دب الرعب بها
"كلامي ليس معكِ يا روميساء ، هيا نادي لي اهل المنزل ، اقول لكِ ناديهم لي ، أليس هناك احد بالمنزل ليواجهني ؟ اخرجوا يا اهل المنزل !"
رفعت ذراعيها بسرعة وهي تلوح بهما امامه بدون ان تسمح له بالتقدم اكثر قائلة بجزع
"هششش توقف يا احمد ، ستفضحنا بين سكان البناية ! ارجوك كفى ! ارجوك"
احتدت ملامحه بدون ان يبتعد عنها ميل واحد وهو يتجول بنظره بداخل المنزل بحرية قائلا باهتمام جاف
"يبدو المنزل فارغ من السكان ! هل هكذا تكون آداب استقبال الضيف ؟ هل اعتبر نفسي مطرود قبل ان اتشرف بالتعرف على اهل المنزل !"
زفرت انفاسها بإحباط وهي تخفض ذراعيها على جانبيها بحالة صمت احتلت حياتها لبرهة ، لترتعش مفاصلها بلحظة ما ان عاد للكلام قائلا بهدوء شديد بعد ان اختفت السخرية من صوته وحان وقت المواجهة بجدية
"ماذا يحدث هنا يا روميساء ؟ ومنزل مَن هذا الذي تأخذين كامل حريتك به ! ألا يوجد احد يعيش هنا ؟ هل هناك تفسير لما يحدث امامي ؟"
رفعت عينيها الواسعتين بارتجاف حزين وهي تهمس بخفوت يائس
"إذا كان ما يزال هناك ذرة ثقة تحملها نحوي فستوقف هذه الاسئلة وتصغي لي ، رجاءً فقط هذه المرة اصغي لي !"
شقت ابتسامة ساخرة محياه بلحظات وهو يقول باستهزاء خافت
"لقد اصغيت إليكِ بالفعل وكثيرا يا روميساء ، وانظري ماذا كانت النتيجة ، انا الآن اطرق على باب منزل غريب لتخرج منه زوجتي وهي تفتح لي الباب وكأنني ازور منزلها الثاني الذي لا اعلم عنه ! بالوقت الذي من المفترض ان تكون به زوجتي بالمنزل تنتظر عودتي ، هل هذا الموقف يستوعبه عقل ؟ اين ذهب المنطق ! لقد اشعرتني بقلة عزيمة وقلة رجولة لم اشعر بها بحياتي ! هل تدركين هذا يا روميساء ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تحاول تمالك نفسها امام الاتهامات المبطنة التي تتعرض لها من آخر شخص كانت تتمنى ان تصادف معه مثل هذه المواقف الجارحة ليس لكرامتها وحسب بل لقلبها المفطور ، لترفع يديها لا شعوريا بالهواء وهي تقول بابتسامة شاحبة بصدق
"اعدك ان اشرح لك كل شيء عندما نخرج من هنا ، صدقني كل شيء تريد معرفته سأقوله لك ولن اخفي عنك شيء ، وكل التساؤلات التي تدور برأسك بهذه اللحظة ستحصل على جوابها ، فقط لا تحملني اتهامات جارحة او تظن بي افكار سوداوية ستؤذي كلينا وانت لا تعرف شيء......"
شهقت بدون صوت ما ان قبض على مرفقيها ليخفضهما بحركة واحدة استطاعت سماع احتكاك مفاصلها بهما ، ليقول بعدها بلحظة بجمود صارم فقد زمام السيطرة عليه
"لا تقولي سترشحين وتعدين بي ، اريد ان تقولي كل شيء تودين قوله الآن ، اريد سماع كل تبريراتكِ واعذاركِ الآن ، لا تستطيعين تأجيل كلامكِ لوقت آخر والتصرف على مزاجك ، بعد كل ما رأيته امامي لن اتحمل صمتكِ كما افعل دائما ! لن استطيع ان اغض بصري او اغطي سمعي او احجب شعوري الداخلي ! لذا إذا كنتِ تريدين قول شيء فعليكِ بقوله الآن وغير هذا لا تلومي الافكار التي سأنجرف لها والنوايا التي ستنتابني من هذه اللحظة"
تجمدت اطرافها بتخشب ما ان اقتحم فرد ثالث حوارهما وهو يأتي من خارج المنزل
"هلا تفسح لي المجال بدخول منزلي ؟"
تسمرت عيناها على اقصى اتساع بصدمة وهي تواجه عينين قاتمتين تماثلان نفس صدمتها والاختلاف هو الغضب المتفجر برمادية حالكة حجبت القمر خلف سحابات داكنة ، ليفلت بعدها مرفقيها ببطء شديد ترك آثار اصابعه على لحمها بحريق داخلي نشب بعظامها ، وما ان استدار للخلف حتى قابل صاحب الاقتحام والذي دفع الحمم البركانية للتدفق بشرايين قلبه وعروق جسده ، ليشعر بنفسه قد صادف رؤيته من قبل بدون ان يتذكر اين تحديدا .
اخذ (احمد) عدة انفاس هدئت الاعصار المدوي بدواخله وهو يقول بابتسامة رسمية عصيبة
"مرحبا بك ، لقد كنت ابحث عن احد ساكني هذا المنزل ، وها قد حضر احدهم اخيرا"
تجمدت ملامح (يوسف) بدون تأثر وهو يتقدم امامه عدة خطوات حتى اصبح داخل نطاق المنزل ، ليقول بعدها بابتسامة هادئة تماثل رسمية الواقف امامه
"اهلا وسهلا بك ، يشرفني ان استقبلك بمنزلي المتواضع بدون موعد مسبق ، هل استطيع مساعدتك بشيء ؟"
اومأ (احمد) برأسه بتعبير قاسي وهو يغير وجهة نظراته نحو زوجته الساكنة بمكانها تكاد تذوي من شعور الخزي والمهانة الذي اكلها بالكامل ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية بمغزى بدون ان يفارق النظر لها بنوايا واضحة
"كنت اريد ان اشكرك على استقبال زوجتي بمنزلك بهذه الساعة ، واتساءل كيف تستقبلون زوجتي وتتركون زوجها بدون دعوة ؟ هذا حقا قلة بالأدب وإهانة لأعرافنا وتقاليدنا !"
انتقلت نظراتها نحو المقصود بكلامه وهو يستقبلها بنظرات متفهمة ادرك الوضع الحالي وخطورة الشحنات والذبذبات التي تخيم من حولهم ، ليتنفس بعدها باتزان وهو يمد كفه نحوه قائلا بترحاب
"اعتذر على سوء الفهم ، انا اسمي يوسف ويشرفني التعرف عليك والترحيب بك بمنزلي ، ولو كنت اعلم بزيارتك مسبقا لكنت عدت للمنزل بوقت ابكر قليلا"
حدق (احمد) بالكف الممدودة امامه بدون ان يبادر بالمصافحة وملامحه تنذر بخطر العاصفة الوشيكة تحت سطح بارد ، ليخفض الطرف الآخر كفه بهدوء وهو يقول بدون ان يفقد ابتسامته الرسمية بمودة
"حسنا لا بأس إذا كنت ستتخذ هذا الموقف الهجومي اتجاهي ، ولكن بخصوص زوجتك فهي لا تستحق ان تأخذ منها موقف على شيء لم تقترفه ، فهي كانت تؤدي مهام وظيفتها بدورها كمعلمة بالاهتمام بدراسة ابني الصغير ، يعني هذه كانت زيارة عمل وليس اي شيء آخر"
لم تلين ملامحه بل ازدادت قتامة بخطوط مشدودة غير مرئية وهو يهمس بخفوت جاف
"لم اطلب منك تفسير او شرح ، لذا ابقي كلامك لنفسك ولا تحاول التبرير لي ، وألا انا بنفسي سأتأكد من عدم قدرتك على النطق من جديد......"
قطعت (روميساء) كلامه بسرعة وهي تتمسك بذراعه بدافع الخوف لتقول بثبات تنهي به الخلاف
"كل الذي قاله السيد يوسف صحيح ، وانا تأخرت بهذه الزيارة بسبب اصابة الصغير سامي بالمرض وسوء حالته ، لذا ليس هناك داعي لتكبير وتضخيم المشكلة من شيء فارغ ، وبما ان الخلاف قد انحل وانتهى سوء الفهم بينكما يمكننا المغادرة الآن ، صحيح !"
حانت منه التفاتة نحوها بجمود قبل ان يتمتم باستنكار عابس
"وهل اصبحت وظيفة المعلمة تتخطى مهنة التدريس حتى وصلت للدخول لمنازل طلابها والدخول لحياة اولياء امورهم ؟"
انخطف لونها بشحوب مفزع ليس بسبب معنى كلامه الذي يجرح كبريائها بل بسبب الكلمة التي خرجت من الواقف بالقرب منهما بجمود صخري
"احترم نفسك !"
التفت نحوه بسرعة وهو يصوب نظرات تقدح بنيران تتأجج بالكثير خرجت عن المضمار ، ليتقدم نحوه بخطوة وهو يقول بغضب هادر
"ماذا قلت للتو ؟......."
اوقف هجومه التي شدت على ذراعه بدون ان تسمح له بالاقتراب منه وهي تصرخ بصرامة اضطرب صوتها بخوف
"يكفي يا احمد ! يكفي إلى هذا الحد ! لنخرج من هنا وبعدها نتكلم ، ارجوك اسمع مني ، ارجوك"
خرجت منها آخر كلمة بنحيب مشروخ بتقطع الغصة التي نزلت على قلبها بجروح دامية ، ولم تعلم بأنها قد نزلت بنفس الوجع على صاحب الهجوم والذي ارتد للخلف خطوة بترنح ، ليلوح بعدها بكفه امام وجهه وهو يقول له بغضب مستعر غير رحيم
"حسابي معك لم ينتهي ، لا تنسى هذا ، وتذكر بأن زوجتي لا تعمل عند احد ، لا عند ابنك ولا عند ولي امره"
شددت (روميساء) على ذراعه وهي تسحبه بقوة اكبر خارج المنزل حتى تحرك معها وهو ينصاع بالنهاية لشدها له ، بينما كان الجامد بمكانه يراقب الزوجين الخارجين من باب منزله حتى اختفوا عن نظره تماما ، بدون ان يشعر احد بالصمت الداكن والذي خلفوه من حوله بحفرة سحيقة وقع بها واختفى عن الانظار من جديد كما حدث باليوم الذي اكتشف به فقدانها للأبد .
_______________________________
خرجت من البناية وهي ما تزال تسحبه بذراعه حتى وصلوا للطريق الرئيسية ، ليوقف خطواتها فجأة وهو ينزع ذراعه بعيدا عنها بقسوة ، لتتجمد بعدها بتخشب ما ان صرخ من خلفها بصرامة قاطعة
"ما هذا الذي حدث هناك ؟ هل كل ما رأيته حقيقة ! هل ذلك الرجل الذي ظهر بالشقة ؟ هل هو مالك الشقة ؟"
اخذت عدة انفاس طويلة وهي تستعد للمواجهة الحتمية لتستدير بعدها ببطء شديد جمدت مفاصلها عن الحركة والتي لم تعد تقوى على الصمود ، وما ان وصلت بعينيها الشاحبتين لعينيه الذئبتين واللتين تلمعان بالظلام برمادية عاكسة حتى همست بخفوت ثابت تستجدي الرحمة من قسوة نظراته
"هل نستطيع اكمال كلامنا بالسيارة ؟ فليس من اللائق التكلم بالطريق هكذا ! من اجل منظرنا امام العالم......"
قاطعها بصوت اكثر حدة وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا بجفاء ساخر
"هل الآن اصبحت تهتمين بمنظرنا امام العالم ؟ ألم تفكري بذلك عندما كنتِ تجلسين بمنزل غريب بهذا الوقت من الليل ! ألم تفكري بصورتك امام الناس وانتِ تقضين طول اليوم بمنزل رجل فارغ من الافراد وانتِ امرأة متزوجة ؟ هل تعلمين الافكار التي ستخطر ببالهم عند رؤيتك تدخلين لذلك المنزل ؟......"
قطعت كلامه بسرعة بصرخة مستنكرة
"لا يا احمد لا تفعلها !"
صمت للحظات قبل ان يقول بشبح ابتسامة قاسية
"هذه ليست افكاري بل افكار العالم بكِ ، ومع ذلك هذا لا يلغي خطأك الكبير والذي ارتكبته بحقنا عندما غدرتي بزوجك والذي اعطاكِ كامل الثقة وكامل الصلاحية بحياتك لتذهبي بالنهاية لمنزل غريب بدون علم احد"
زمت شفتيها بارتجاف لاسع وهي تحرك رأسها بالنفي وقبل ان تنطق سبقها بالكلام وهو يتحداها بنظرات جامدة لا ترحم
"هل ما قاله ذلك الرجل صحيح ؟ هل تعملين معلمة عند ابنه ! هل هناك شيء من هذا الكلام ؟"
زفرت انفاسها بنشيج اخترق عضلات صدرها وهي تقول بهدوء ثابت
"اسمعني اولاً وافهمني انا......"
قاطعها مجددا بصرامة اكبر وهو يكرر كلامه بتحذير مهدد
"اجيبِ على السؤال الموجه لكِ يا روميساء ولا تفقديني صوابي اكثر ، لكي لا ارتكب اكبر تهور بحياتي واعود لقتل ذلك الرجل الذي تركناه بسلام"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بجزع وهي تقول بسرعة بخضوع تام
"اجل كل ما قاله صحيح ، انا بالحقيقة اعمل معلمة عند ابنه بعد ان ساءت حالته وتوقف عن الذهاب للمدرسة ، وبما انني معلمته بالمدرسة اضطررت للذهاب بنفسي لمنزله لأتابع تعليمه حتى تتحسن حالته"
غامت ملامحه بخطوط باهتة وهو يمسح على وجهه بيديه بتشتت علها تطفئ النيران التي تلهب كل عصب بجسده ، وما ان استعاد القليل من سيطرته على نفسه حتى اخفض كفيه بقوة وهو يقول بجمود اجوف بعث الرعشة بكيانها
"منذ متى يحدث هذا الأمر ؟ منذ متى اصبحت تذهبين لمنزله ! منذ متى اصبحت تستغفليني بهذه الطريقة بدون ان تخبريني بشيء عن وجهاتك السرية التي تقصدينها بعد المدرسة ؟!"
ابتلعت ريقها بصعوبة عند آخر كلماته التي تقصد الصراخ بها وكأنه يأنبها بطريقة قاسية غير مباشرة ، لتتنفس بعدها بإعياء طفيف وهي تهمس بخفوت جاف
"منذ اسبوعين تقريبا وانا اعاود القدوم لمنزله كل يوم بعد المدرسة ، ولكن الوضع لن يستمر طويلا فهو قد بدأ يتماثل للشفاء وسيعود للمدرسة قريبا"
ارتفع حاجبيه بنذير الخطر وهو يصدر ضحكة خشنة لا تمت للمرح بصلة ، ليقول بعدها بابتسامة حادة باستهجان
"كل هذا الوقت كنتِ تراوغين معي بدون ان تظهري اي شيء امامي ! إلى متى كنتِ تنوين استغلال جهلي وعدم اخباري ؟ ماذا عن الثقة والصدق بعلاقتنا ؟ ألم اقل لكِ من قبل ان اهم شيء بعلاقتنا هو الصدق والامانة وعدم اخفاء شيء عن بعضنا ! ولكنكِ لهذه اللحظة ما تزالين نفس روميساء القديمة التي ارتبطت بها لأول مرة وهي تعيش لوحدها بدون اعطاء اي احد قيمة بعالمها المنعزل المنفرد"
رفعت عينيها الواسعتين بدموع ندية برزت على اطرافهما وهي تهمس بابتسامة حزينة
"غير صحيح يا احمد ، لم اكن افكر بخيانتك او كسر ثقتك التي اعطيتني إياها ، ولكني لم اجد هناك داعي لأخبارك بما انني اؤدي وظائفي بحدود دوري كمعلمة وما هو مطلوب مني ، وقد ظننت بأنك لا تمانع حدوث هذا الأمر ، لم اكن اعلم بأن تكون ردة فعلك عنيفة هكذا !"
احتدت ملامحه فجأة وهو يتقدم نحوها خطوتين واسعتين قبل ان يقول ببرود قاتم بدون ان يفارق عينيها النديتين
"تقولين وظيفتي ! ومهام وظيفتي ! ما لذي اصاب عقلكِ يا روميساء ؟ ليس يعني سمحت لكِ بالعمل بهذه الوظيفة واعطاء طلابك الصغار العلم والمنفعة يعني تستطيعين تجاوز تلك الحدود والوصول للدخول لحياتهم ومنازلهم لتلقينهم تلك الفوائد ، هذه لم تعد تسمى وظيفتك بل اصبحت تسمى استغلال بمكانتك الوظيفية بتخطي حدود كبيرة ، وهل تظنين بأنني قد اسمح لكِ بدخول منازلهم فقط لأنك معلمة وتؤدين وظيفتك ؟ عندما وضعتكِ بتلك المدرسة العريقة كان هدفي الاساسي ان تبقى وظيفتك بحدود المدرسة بدون ان تخرجي او تبتعدي عنها ، ولكن يبدو بما يظهر امامي بأنكِ ابتعدتِ كثيرا بعيش وظيفتك وباستخدام الصلاحيات التي قدمتها لكِ بدون ان تعطي امر زواجنا اي اعتبار بحياتك"
طرفت بعينيها وهي تخفي دموعها بجفنيها الحارقين لتهمس بعدها بآخر سؤال خطر على بالها
"كيف عرفت عنوان المنزل يا احمد ؟"
عقد حاجبيه بجمود زادت شرارة غضبه وهو يقول بعبوس متصلب
"هل هذا سؤال تسألينه بحالتك ؟ عليكِ ان تسألي نفسكِ كيف واتتك الجرأة لتفعلي هذا بنا وتكوني بكل هذا البرود بعد كل ما اقترفته ! وايضا كيف استطعت ان تأمني على ذلك الرجل بالذهاب لمنزله كل يوم بدون اي تفكير او تردد ؟ هل فقدت عقلكِ بالكامل وانتِ تذهبين لمنزل رجل يعيش لوحده فقط لتهتمي بتعليم ابنه ؟ كيف تفعلين هذا بنفسكِ ؟ كيف تكونين بكل هذه البلاهة وانعدام المسؤولية !....."
قطعت كلامه بسرعة وهي تصرخ بدفاع لا شعوري
"من المستحيل ان يحدث شيء من هذا ! فأنا اعرف يوسف جيدا وهو ليس من هذا النوع الذي تتكلم عنه وتلمح له......"
صمتت عن الكلام فجأة ما ان اكتشفت فداحة فعلتها والتي بدأت تظهر نتائجها على تقلب ملامح الواقف امامها بوشك قدوم العاصفة ، وما ان حاولت التبرير حتى بترت حروفها ما ان اعتقل ذراعيها بيدين قويتين وهو يعيدهما لخلف ظهرها ليهدر امام وجهها والذي اصبح على بعد شبر منه
"ماذا قلتِ يا زوجتي العزيزة ؟ هيا كرريها مجددا ! اريد ان اسمع اسم الرجل على لسانك الجميل ! ما بكِ هل اصبت بالصمم فجأة ؟ ولم يعد لسانك قادر على قولها !"
ابتلعت ريقها بارتعاش عصر حنجرتها وهي تهمس بالتبرير المعروف
"لقد زل لساني بدون ان اقصد ، زلة لسان"
هزها بقوة اكبر بدون ان يأبه بالمكان الموجودين به وهو يقول بعنف اكبر
"روميساء لا تختبري صبري معكِ ! لقد قلتها بعظمة لسانك وانا سمعتكِ جيدا ، من اين تعرفين ذلك الرجل ؟ بل السؤال كيف تعرفتِ عليه بغضون اسبوعين فقط ! هل كنتِ تذهبين لمنزله لتعليم ابنه ام لصنع صداقة وتعارف مع والده ؟ تكلمي قبل ان انفذ تهوري واقتل ذلك الرجل وادفن تلك الظنون بأرضها !"
ردت عليه (روميساء) بسرعة وهي تحاول التملص من بين يديه لتخرج الدوار من رأسها
"ليس هناك معرفة يا احمد ، اقصد مجرد معرفة قديمة ، صدقني معرفة قديمة غير مهمة"
اتسعت حدقتيه بشراسة وكأنها فتحت ابواب الجحيم عليها وهو يكمل استجوابها بانفعال اقل هياجا
"ماذا تعنين معرفة قديمة ؟ من يكون يا روميساء ! من اين تعرفينه ؟"
قبضت على يديها المقيدتين خلف ظهرها حتى بان الألم على محياها وهي تهمس بخفوت مشتد
"لقد كنت اعمل عند والده فيما مضى عندما كنت اعيش بمنزل عمي قيس ، وقد مضى على هذا الكلام سنوات عديدة ، يعني لم يعد ذو اهمية"
تنفس بهياج احرق روحها وليس ملامحها وهو يحاول تمالك اعصابه بشق الانفس للحظات ، ليقول بعدها بكل ما يستطيع من ثبات كي لا يرتكب جريمة بحقهما
"أليس هناك اكثر من هذا ؟ هل هذا كل شيء ؟"
انفرجت شفتيها بأنفاس مضطربة وهي تحدق بعينيه الحادتين برحلة تستشف منهما الحقائق تحت رماد محترق ورباط مهزوز وعلاقة متأرجحة ، ليقول بعدها من جديد بتكرار اكثر إصرارا
"قولي يا روميساء ، قولي"
زفرت انفاسها بإنهاك خرج من صميم قلبها وهي ترخي انشداد يديها قليلا هامسة بخفوت مستميت
"اقسم لك لا يوجد شيء ، اقسم لك بذلك"
ساد صمت قصير من حولهما بظلام الطريق الموحش الذي اختلى من البشر ، ليفلت بعدها ذراعيها بصمت شديد وهو يرفع يديه لشعره ليشد على خصلاته بتشتت ذهني وبصراع جاش بقلبه ، وبعد لحظات فاصلة كان يخفض يديه على جانبيه بخمول وهو يقول بهدوء مرتاب
"هيا اصعدي للسيارة ، سنغادر من هنا"
رفعت وجهها الشاحب بذبول وعينيها شاخصتين بالظلام وهي تراقب الذي سبقها بالدخول لسيارته ، لتتنهد بعدها بإجهاد جسدي وهي تدلك بيديها على اعلى ذراعيها من اثر اصابعه الحارقة التي اخترقت جلدها ، وما ان مسحت الألم عن روحها وغطت دموعها بكبريائها حتى تحاملت على نفسها وهي تتجه للسيارة المصفوفة امام سيارتها .
صعدت بالكرسي بجانب السائق الذي كان يأخذ وضعية الاستعداد بتحفز بدون كلام ، لتقول بعدها بتفكير خافت بتحشرج
"ماذا عن سيارتي ؟......"
ردّ عليها (احمد) من فوره بصوت خفيض قاطع
"سأرسل من يهتم بأمرها ، فلم يعد لكِ حاجة بها"
ارتفع حاجبيها ببهوت بدون ان تتساءل عن مقصد كلامه بهذه الحالة التي يبدو تمالك اعصابه مهمة صعبة عليه ، نظرت بعدها بطرف حدقتيها لطرف حزام الامان بدون ان تتجرأ على سحبه منتظرة ردة فعله بلهفة خفية ، وما ان كادت تفقد الأمل وهو يمسك بالمقود حتى وجدت كفه تمسك بتلقائية بحزامها وهو يلفه على جسدها بشكل ثعباني قبل ان يتعلق بالطرف الآخر ، ليسحب كفه ببطء واصابعه تستل خصلات شعرها من تحت الحزام بحركة قوية هزت جسدها بتخبطات طبيعية .
بعدها بلحظات كان يمسك المقود بكلتا يديه المتصلبتين وهو يتحرك بالطريق الرئيسية بثبات شديد ، بينما كانت الجالسة بجانبه تنظر للطريق المظلم وكف تمسك بحزام الامان وكف تستريح على ساقها بصمت حاوطهما بسلاسل قيدت مشاعرهما بقسوة .
_______________________________
وصلت السيارة امام مدخل المنزل تماما وهو ينزل منها بصمت ، لتتحرك بسرعة الجالسة بجانبه وهي تنزع الحزام عنها لتخرج من السيارة بهدوء ، وما ان لمحته يسير بعيدا حتى صرخت من فورها بهتاف
"احمد انتظر"
ولكنه لم يأبه لهتافها وهو يستمر بصعود درجات سلم المدخل بسرعة ، لتتنفس بعدها بضيق مكبوت وهي تلحق به على نفس الطريق بجري هالك القوى تحاول مجاراة سرعته .
وما ان اصبحت داخل المنزل حتى قطعت طريقها التي ظهرت امامها فجأة من العدم وكأنها تتبع حركاتها بالخطوة وبالدقيقة ، لتقول لها بابتسامة جانبية بترحاب مزيف
"مساء الخير يا ضرتي ، ماذا يحدث هنا ؟ لا تبدو الاحوال على ما يرام !"
عضت (روميساء) على طرف شفتيها ببؤس وهي تتابع مسار ذهاب زوجها والذي وصل للسلالم وكأنه لا يرى احد امامه او خلفه ، لتهمس بعدها بشرود وهي تلوح بكفها بحركة تلقائية
"اجل مساء الخير يا سلوى"
انتفضت لا إراديا ما ان شعرت بكفها تمسك بذراعها وهي تهمس بخفوت عابس
"روميساء انا اتكلم معكِ ! هل انتِ هنا ؟"
انتشلت نظراتها بعيدا عنه ما ان اختفى خلف حاجز السلالم بلمح البصر ، لتحرك رأسها بإحباط وهي توجه نظراتها للواقفة امامها لتهمس لها بابتسامة باهتة
"نعم يا سلوى ، ماذا كنتِ تريدين مني ؟"
اعادت (سلوى) الابتسامة الودودة على محياها وهي تقول بحيرة عابسة
"لقد كنت اسأل بكِ عن احوالك ! فلا يبدو لي بأن حال احمد طبيعي عندما رأيته يسير بتلك السرعة وبملامح مكفهرة وكأن شيطان قد تلبسه ، هل حدثت بينكما مشاكل قبل وصولكما ؟ هل كنتما عائدين بالسيارة معا !"
حركت رأسها بتشوش وهي تهمس بخفوت متعجل
"لا اعلم ماذا اخبركِ ، ولكني على عجلة من امري"
شددت على ذراعها وهي تعود لتقف امامها بإصرار بدون ان تسمح لها بتجاوزها قائلة بصوت مغتاظ
"لن اسمح لكِ بالذهاب قبل ان تخبريني بما يحدث ، وانا ايضا من حقي ان اعلم بالمشاكل التي تحدث بين زوجي وضرتي ، ألست فرد من هذه العائلة التي نشكلها نحن الثلاثي ! ألم نصبح مقربتين من بعضنا ؟"
تغضن جبينها بألم وهي تنزع ذراعها عن كفها ما ان امسكت بموضع الألم الذي ترك آثار على جلدها ، لتتلبك الاخرى بتوجس وهي تهمس بخفوت متأسف
"اعتذر يبدو بأنني قد بالغت بهجومي الغير واعي ، هل انتِ بخير ؟"
اومأت (روميساء) برأسها وهي تدلك على ذراعها هامسة بهدوء ظاهري
"لا يوجد شيء يا عزيزتي ، ولا تقلقي بشأننا انا واحمد فقط دب بيننا خلاف بسيط وهذا الأمر يحدث بين الفترة والاخرى ، تعلمين خلافات زوجية !"
اومأت برأسها ببرود وهي تربت على كتفها بخفة هامسة بابتسامة مائلة
"انا التي تعلم ذلك وتختبره كل يوم ، ولكن من واجب الزوجات الاحتمال والصبر لآخر رمق من اجل سلامة بيوتهن الزوجية"
هزت رأسها بحركة شاردة وهي تحاول تجاوزها قائلة بابتسامة صغيرة
"حسنا عليّ الذهاب الآن للحاق بزوجي ، عن إذنكِ يا سلوى"
غادرت بسرعة بعيدا عنها ثلاث خطوات قبل ان تتوقف لوهلة بلحظة إدراك ، لتلتفت بعدها للخلف وهي تنظر للتي كانت تبادلها النظر بتعجب مرتاب ، لتقطع الصمت الطويل وهي تقول بابتسامة جادة ارتسمت على محياها بغموض
"سلوى هناك شيء اريد جواب عليه ، عندما اخذ السائق سيارتي من العنوان الذي اعطيتك إياه لغرض التصليح ، هل اخبركِ بشيء او فعل شيء غير المطلوب منه ؟"
حركت (سلوى) رأسها بالنفي بوجل خفي وهي تقول بابتسامة عفوية بتمثيل
"لا لم يحدث اي شيء من هذا ، ولكن لما السؤال يا عزيزتي ؟ هل حدث خطب بالسيارة او ما شابه ؟"
ارتفعت ابتسامتها بهدوء وهي تقول بخفوت جاد
"لا لم يحدث شيء ، ولكن يبدو بأنني انا التي بدأت اتوهم امور غريبة تحدث معي ، على كل حال طابت ليلتك"
غادرت بعدها جهة السلالم بدون ان تضيف كلام آخر او تنتبه للنظرات التي بدأت تلاحقها بإصرار تخبئ شر مطمور خرج عن النطاق .
تسمرت (روميساء) بمكانها وهي تقف ببهو الجناح ما ان شاهدت الذي كان يحمل حاسوبه وملفاته وهو يتجه للغرفة الاخرى والتي كان ينام فيها سابقا ، لتسرع بخطواتها تلقائيا وهي تمسك بذراعه بلمح البصر هامسة بوجوم مستاء
"لا تفعل ذلك يا احمد ، الخلاف لا يحل بهذه الطريقة ، عليك ان تتفهم موقفي......"
قاطعها (احمد) وهو ينزع ذراعه بعيدا عنها قائلا بجفاء بارد
"انتِ من رفعتي هذا الحاجز بيننا ولست انا ! لذا إياكِ ان تتذمري من هذا الوضع والذي كان من اختياركِ ، والآن عمتِ مساءً"
عادت لتمسك بذراعه وهي تقف هذه المرة امامه مباشرة لتقول بابتسامة جادة بثبات
"حسنا اغضب مني واشتمني واضربني ، ولكن لا ترفع الحواجز بيننا من جديد ، فنحن قد استطعنا ازالتها وتخطيها بصعوبة بعد عقبات كثيرة ، ماذا ستستفيد من اعادتها وكأنك تعيد كل ما فات ؟!"
رفع يده لرأسه وهو يطرق بأصبعه على صدغه قائلا بعصبية جادة
"هكذا مزاجي يريد ، لا تتلاعبي بمزاجي اكثر لكي لا احرق الجناح بأكمله واخرج منه"
نفض ذراعه بعيدا عنها بقوة اكبر وهو يتجاوزها بعد ان ضرب كتفها بعيدا ، وما ان استعادة توازنها بعد ان اختل قليلا حتى قصف صوته بقوة وهو يقول بأمر حاسم
"جهزي نفسكِ غدا يا زوجتي العزيزة ، فهناك قرارات جديدة وهامة قابلة للتنفيذ ستتخذ غدا ، وليس هناك اي تراجع بأي قرار سيخرج مني وانتِ عليكِ بالتطبيق والانصياع لما اقول ، فهذه الصلاحيات المفتوحة التي تملكينها ستعود لصاحبها وتأخذ منكِ حتى إشعار آخر"
شهقت بخفوت ما ان صفق الباب بقوة اكبر وكأنه يهديها صفعة غير مرئية شعرت بها بقلبها المشروخ بشظايا كلماته ، لتستدير بعدها بمواجهة باب الغرفة والتي دخل لها للتو قبل ان تتقدم نحوها عدة خطوات هادئة غير مسموعة ، وما ان اصبحت مقابل الباب تماما حتى اراحت كفها على سطحه بصمت وهي تتبعها بهمسة خافتة سقطت معها دمعة خانعة تحملت بتأنيب الضمير
"انا اعتذر ، اعتذر يا احمد"
تنفست بتهدج وهي تحمل خطواتها بعيدا عن الباب لتتجه لغرفتهما التي عادت غرفتها وحدها ، بدون ان تعلم بالروح الاخرى التي تصارع على الطرف الآخر من الباب والتي لا يشعر احد بها بعد ان صنعت ذلك الكسر صعب الالتئام .
_______________________________
نزعت العلاقة عن قطع الملابس بشكل آلي قبل ان تدسهن بجانب بعضهن البعض بالحقيبة الكبيرة ، وما ان انتهت حتى اغلقت السحاب عليهن بدون ان تأبه بخروج بعض اطراف الملابس من الحقيبة ، لتقف بعدها على قدميها وهي ترفع الحقيبة الكبيرة من حزامها بكلتا يديها ، وما ان مرت بجانب المرآة المعلقة حتى ألقت نظرة خاطفة على صورتها قبل ان تحجبها بجفنيها وهي تحرقهما بدموع مكتومة حبستها بأعماق قلبها وهي تترك خدوش لاسعة من خلفها .
خرجت من الغرفة وهي تكمل خطواتها اتجاه باب المنزل والذي اصبح اقرب الابواب لها والسبيل الوحيد للحرية ، ولكن ما لم تتوقعه هو تسمرها بمنتصف الطريق بسبب انفتاح الباب فجأة وهو يدخل منه آخر شخص كانت تتمنى رؤيته بهذه اللحظات ، لتخفض بعدها نظراتها بضعف خائن وهي تصبح محط انظاره الحادة التي لم ترحمها يوما لتكون هذه المرة من اسوء التجارب التي تخوضها معه ، بينما كان المقابل لها مشغول بتسليط نظراته على الكائن الواقف امامه يستعد للخروج بملابسها الاعتيادية ، والتي كانت عبارة عن تنورة جلد طويلة بلون البني القاتم يعلوها قميص ناصع البياض ، ومع سترة قصيرة بدون اكمام بلون الذهبي الباهت فوق القميص ، لتنتهي نظراته على حقيبة الملابس الكبيرة التي كانت تتمسك بها بقوة بدون ان تترك اي مجال للشك برأسه !
تنحنح بخشونة وهو يعود من رحلة التأمل لوجهها المنكس ليقول لها بهدوء جاد بدون اي انفعال او هياج
"ماذا يا آنسة صفاء ؟ إلى اين تنوين الرحيل بهذه الساعة ! فما اعرفه بأنه ليس هناك اي اماكن مفتوحة تستطيعين قصدها !"
شددت على حزام حقيبتها وهي تهمس بخفوت موجز بدون اي حياة
"انا راحلة من هنا"
تصلبت تقاسيمه بدون اي تعبير وهو يمسك خصره بيديه قائلا بجمود خشن
"إلى اين تريدين الرحيل يا سيدة صفاء ؟ ليس يعني سامحتك على المرات التي خرجتي بها من المنزل بدون علمي يعني سأسمح لكِ بفعلها بكل مرة ! سمعتي يا صفاء ! لن ارحمك هذه المرة ولن امررها لكِ......."
قطعت (صفاء) كلامه وهي ترفع له وجه صلب قائلة بقوة
"سأعود لمنزل ابي"
ابتلع ريقه بجمود ما ان وقعت عينيه على وجهها الشاحب والذي انسحب منه كل تورد ولون وكأنها ارض قاحلة جفت عنها المياه ، واما عينيها الذائبتين بحريق دموعها فقد كانت تحكي كل المآسي التي عاشتها سابقا على مدار الشهر فقدت معها بريقها الذهبي وانطفئ للأبد ، وما ان وجد صوته اخيرا حتى قال بنبرة باردة بتشنج
"ماذا يعني هذا الكلام ؟ هل هي زيارة ام تريدين المبيت هناك ! لقد حذرتكِ سابقا بأن الزيارات ممنوعة لا من طرفك ولا من طرف غيرك ، ألم نتكلم بهذه الامور ببداية زواجنا ونبهتكِ كثيرا عليها ؟ هل تظنين زواجي منكِ مزحة ؟"
شقت ابتسامة باهتة محياها اخذت جهد كبير لتظهر بكل هذه القسوة وهي تعقب هامسة بسخرية
"عن اي زواج تتحدث يا جواد ؟! ولكنك على حق فهذا الزوج لم يكن مزحة بل كان اكبر فخ وقعت به ، وسأبقى اندم عليه طيلة حياتي القادمة وما تبقى من عمري ، وهذا الزواج الذي تتكلم عنه بتبجح قد انتهت مهلته وانقضت الفترة التي كان مسموح بها ان ابقى زوجتك ، وبما انه لم يعد هناك سبب ابقى من اجله ، إذاً ما لذي يدفعني للبقاء ؟"
عبست ملامحه بسكون وهو يحاول التعرف على الصوت البعيد عن زوجته الرقيقة والكلمات القاسية البعيدة عن كلماتها الحالمة ، ليقول بعدها بكل ما يستطيع من نفور ساخر
"تريدين العودة لمنزل عائلتك التي قدمتك ضحية لإنقاذ ابنهم ! هل ما يزال لديكِ كرامة للعودة لهم بعد ما كل فعلوه بكِ وجعلوك تعيشينه ؟ هل حاولوا السؤال عنكِ لمرة واحدة منذ زواجك ؟ هل حاولوا اصلاح خطأهم بحقك ! هل نسيتِ كل هذا يا صفاء ؟ هل نسيتِ كل تلك المعاناة التي اخذتها وتجرعتها بدلا عنهم !"
تجمدت ملامحه برهبة ما ان وجهت نحوه شعلتين حارقتين لتحرك كتفيها بحركة باردة وهي تهمس بخفوت واجم
"لا بأس فقد تأقلمت مع الوضع واصبح الامر اعتيادي بالنسبة لي ، وانت لست بأفضل حال منهم يا جواد عندما استخدمتني اداة بانتقامك افرغت بها كل رصاصة بمسدسك نحوي لكي تريح ضميرك اتجاه شقيقتك المقتولة ولكي تحاسب كل شخص اصاب عائلتك بضرر ! وها انت قد حصدت النتائج بالنهاية وقتلت نفسك بداخلي للأبد كما كنت تأمل وتسعى إليه ، لذا هنيئاً لكم بهذا الانتصار واتمنى ان تحتفلوا جيدا بهزيمة اعدائكم ، وهذا سيحدث عندما اغادر من هنا واحمل لقب المطلقة والذي لا يقارن بالجروح التي سأحملها للعالم بهذه الدمية التي اصبحت جزء من لعبة انتقامكم"
زفر انفاسه بفيض المشاعر السلبية التي اصبحت تحوم من حولهما وهو يقول من بين اسنانه بحدة صارمة
"توقفي عن هذا يا صفاء ، اتخاذ مثل هذا القرار لا يحدث هكذا لوحدك......"
قاطعته (صفاء) بأمر حاسم وهي تتحرك لتحاول تجاوزه
"لقد انتهى الامر يا جواد ، ولا يهمني كل ما تقول لأني راحلة من هنا كما كان سيحدث قبل ايام عند لحظة انتهاء ذلك العقد والذي ادخلته ببنود زواجنا"
عادت للخلف ما ان وقف امامها بدون ان يسمح لها بالمرور وهو يقول بغضب مكتوم
"لا تكوني مجنونة يا صفاء ! كيف تريدين مني ترككِ تخرجين بمنتصف الليل فقط لأنكِ اكتشفتِ بأن زواجنا قد انتهى ؟ عليكِ ان تفكري بسمعتك وبصورتك امام الناس وانتِ تخرجين من منزل زوجك بهذه الساعة من الليل......"
ارتفع حاجبيه بتعجب ما ان رفعت كفها الرقيقة بوجهه وهي تقول بهدوء واثق
"انتظر قليلا يا سيد جواد قبل ان تخطئ بحقي وتسيء الظن ، عليك ان تعلم بأني قد اتصلت بشقيقي مازن ليأتي ويأخذني بنفسه من منزلك لمنزل والدي ، لذا لا داعي للقلق على سمعة زوجتك فأنا لن اخرج لوحدي"
قطب جبينه بحالة جمود اجتاح ملامحه وهو يرسم ابتسامة هادئة قائلا بجفاء باهت
"اجل وكيف فعلتي هذا ؟ فأنا على ما اذكر انتِ لا تملكين هاتفاً حالياً ! هل تلفقين كذبة لكي تستطيعي الهروب مني واسمح لكِ بالذهاب ؟"
اخفضت كفها وهي تتقدم نحوه خطوة واحدة لتقول بهدوء تجابهه بنفس القوة
"انا لا اكذب"
تلبدت ملامح (جواد) الصخرية بتعبير مجهول وكأنها تضرب الحقيقة بوجهه بدون ان تركبها بأي مفردات اخرى ، ليصل الجواب الذي كان ينتظره من صاحبة الصوت الامومي والتي انضمت بحزبها لتكون الضربة الثانية منها
"صفاء على حق ، وقد سمحت لها بالاتصال بشقيقها من هاتفي وهو الآن بطريقه لأخذها ، وانا لا اسمح لك باتهام ابنتي بالكذب !"
حرك عينيه بعيدا عن زوجته ببطء ليصل بنظره للتي انضمت لهما بلحظات ، ليتنفس بعدها بصعوبة لوهلة وهو يقول باندهاش غير مصدق
"امي ماذا فعلتي ؟ كيف تفعلين هذا بي !"
قست حدقتيها السوداوين بلمحة خاطفة وهي تقول بهدوء جاد شديد البأس
"لقد اخبرتك بقراري من قبل يا جواد ، وانا فعلت الذي رأيته الأفضل للجميع ويضمن سلامتكم ، وكما اخبرتك إذا كان بقاؤها سيجلب الحزن والمآسي لكما فمن الافضل فراقها والابتعاد عن بعضكما ، فأحيانا الابتعاد يكون سبب بالسعادة وراحة البال والمسرة ، هذه سنة الحياة يا بني عاشروهن بالمعروف او فاروقهن بالمعروف"
تجمدت ملامحه مثل لوح جليدي مجرد من المشاعر وهو يتنقل بنظره بينهما بهدوء وكأنه قد وضع بالأمر الإلزامي ، لترتفع بعدها زاوية ابتسامته باستهزاء وهو يقول بتصلب قاتم
"هل هذه مؤامرة مخططة ضدي ؟ هل تحاولون اجباري على الانصياع لمخططكم الذي دائما ما اكون خارج الصورة به وكأنني مجرد زوج على الورق ! تعجبني كثيرا علاقة الحماة والكنة بتدمير الزواج المدبر بروح عالية وقلوب قوية ! هل هذه هي نهاية علاقة العائلة الجميلة التي بذلتما جهدكما بتطويرها وبناءها حتى اجزمت باستحالة كسرها ؟!"
تنهدت (هيام) بتعب وهي تقول بابتسامة هادئة بعطف
"لا تصور الامر من هذا المنظور يا بني ، فكل شيء بالحياة قسمة ونصيب"
سكنت ملامحه وهو على وشك قول شيء لولا صوت بوق السيارة بالخارج والذي قرع بجدران المنزل يثبت حقيقة رحيلها ، لتخرج عن صمتها التي وضعت الحقيبة ارضا وهي تعانق المرأة التي استقبلتها بأحضان حارة بمشاعر امومية ، لتقول (صفاء) بحزن عميق بكل حب واشتياق تكنه لوالدتها الروحية
"وداعا يا امي هيام ، سأشتاق لكِ كثيرا ، كوني دائما بخير ولا تنسيني"
مسحت (هيام) على شعرها وهي تقبل جانب رأسها لتهمس لها بمحبة غامرة
"كيف لي ان انساكِ يا ابنتي ؟ لقد كنتِ المرهم لكل الجروح المفتوحة ، فقط سأطلب من ربي ان يحفظك ويجبر بجروحكِ ويطيب بخاطرك"
ابتعدت عنها وهي تمسح اطراف عينيها بتحكم بموجة البكاء التي اجتاحت كيانها بدون ان تسمح لها بالتحرر من سدها ، لتمسك (هيام) بوجهها بين كفيها وهي تهمس بابتسامة عطوفة بسخاء
"فقط كل املي ألا تنسينا يوما من ذاكرتك ، فأنا سأبقى ادعو لكِ بكل صلاة وسجود ، وما ان تحصلي على وسيلة تمكنك من الاتصال بنا تواصلي معي ، انا سأنتظر سماع اخباركِ دائما فلا تنقطعي عنا طويلا"
اومأت (صفاء) برأسها بتأكيد وهي تهمس بابتسامة حزينة
"بالطبع يا امي ، ثقي بذلك"
اخفضت كفيها عن وجهها لتربت على كتفها هامسة بابتسامة مساندة
"هيا يا ابنتي امضي بحياتك ، وفقك الله ويسر طريقك ودربك"
امسكت بحزام الحقيبة من جديد وهي تلوح لها بكفها هامسة بابتسامة طفولية بدون ان تكترث بقلبها المجني عليه
"وداعا يا امي ، اهتمي بنفسكِ جيدا وبصحتك"
استدارت بعيدا وهي تقف امام الجبل الشامخ بمكانه بدون حراك ، لتتنفس بعدها بكبت قاهر وهي تتحاشى النظر له لكي لا تفقد المتبقي من نفسها قبل ان تهمس بحزم ثابت
"هلا ابتعدت عن طريقي ؟ فقد تأخرت على شقيقي وتوجب عليّ الرحيل ، ولا اريد ان يضطر للنزول من السيارة والقدوم لباب المنزل"
كانت ملامحه منحوتة من صخر بدون تعبير محدد وهو يقبض بيديه على جانبيه بصراع صامت ، وهو ما لفت انتباه الواقفة امامه والتي كانت تحارب لكي لا ترفع نظراتها اكثر من المستوى ، ولا تعلم لما تذكرت بهذه اللحظة بالذات اول مرة قابلته بها طفلة لا تتجاوز ساقيه امام طوله الفارع والذي ما يزال يتميز به امامها ، لكي يثبت لها اكثر بأنه مهما حاولت مجاراته سيبقى يفوقها بمئة شبر ومئة خطوة وبمسافة لم تستطع يوما قطعها !
افاقت على صوت بوق السيارة والذي عاد ليعلو بالإرجاء ينبهها بأنها تأخرت ، لتتدخل بعدها التي وقفت بينهما وهي تقول بأمر صارم
"جواد افسح المجال لصفاء ، فقد تأخرت على شقيقها كثيرا ، ولا نريد ان نلفت انتباه الجيران لصوت زامور السيارة"
تنفس (جواد) بجمود وهو يتحرك من مكانه على بعد سنتمترات قصيرة ، وما ان مرت من جانبه حتى همست بخفوت شديد يكاد لا يسمع
"وداعا ، جواد"
ما ان ادار وجهه ناحيتها بلمح البصر حتى كانت قد اختفت من امامه وهي تصل لباب المنزل والذي فُتح واغلق بذات اللحظة ، بينما التي وصلت عند مدخل المنزل استمرت بالسير بثبات وهي لا تبصر سوى السيارة المصفوفة على طرف الطريق ، وما ان دخلت من جانب السيارة بصمت حتى قال الجالس بجانبها بهدوء جاد
"هل انتِ بخير ؟"
اومأت برأسها وهي تعانق الحقيبة بين احضانها هامسة بخفوت منتظم
"اجل بخير ، بخير جدا"
شغل محرك السيارة وهو يقود بعيدا ما ان ذهبت جريحة القلب برحلة التأمل للطريق المتحرك بجانبها بظلام الليل الموحش والذي لا يقارن بالسواد السابح بداخلها حد الصميم .
_______________________________
دخلت للمنزل بخطوات خافتة وهي تنظر لبصمات قدميها والتي تركتها على طول الطريق الذي قطعته بالوصول للمنزل ، بدون ان تملك القدرة على رفع نظرها بأنحاء المنزل والذي تربت به منذ طفولتها وصباها وحفظت زواياه وكل شبر بداخله مثل راحة يدها ، وهي تشعر بنفسها لأول مرة تدخل لمنزل مختلف تماما عن منزلها والذي غابت عنه شهر وبضعة ايام ، ومكان لم تعد تنتمي له بعد ان فقدت الحق بالشعور بالانتماء بين عائلة اختارت التضحية بها بسبيل الانتقام وحقن الدماء ، وها هي تعود للمنزل حمامة جريحة ذليلة هزمتها مصاعب الحياة والتي خاضتها بقلب قوي لتعود بقلب معبأ بالسواد وبطعنات الخيانة بأقرب المقربين منها ، وهذا هو حال الدنيا تختبرك بمئة اختبار لتعود بمئة إخفاق تعلمك مئات الدروس لتعلن عن ولادتك من جديد بدون اي اخطاء او عيوب .
سكنت خطواتها ما ان شعرت بوجود اشخاص آخرين معها بالمكان ، لترتفع عينيها الكسيرتين جهة الواقف امامها على بعد امتار والذي لم يكن سوى والدها ، وهي تنظر له بهذه اللحظة بمنظور مختلف عن السابق بعد ان اكتشفت جوانبه المخفية والتي لم تكن تعلم عنها بأسرار عائلتها المدفونة والتي دفعت ثمنها غالياً ، فهذا الوالد امامها يملك حقوق ابوية بكل شيء ما عدا ان يغير صورته بعينيها والتي اصبح عليها والد مجرم مستعد للتضحية بكل شيء من اجل سلامة ابنه ، وهذا ما صنع الصدع الكبير بقلبها المفطور وبعلاقتهما الابوية الحميمة والتي تدمرت اساسيات بناءها ولم يبقى منها سوى الآثار .
افاقت على صوت اغلاق باب المنزل من الذي تركته خلفها وسبقته بالدخول ، ليقطع الصمت المغيم على ثلاثتهم الخادمة التي انضمت لهم حديثا وهي تقول ببشاشة
"مرحبا بعودتكِ يا آنسة صفاء ، نورتِ المنزل بوجودك"
اومأت برأسها للأسفل بصمت بدون ان تجيبها او تنظر لها ، لتتحرك بعدها بخطواتها الخافتة والتي فقدت انتظامها وهي تكمل طريقها باتجاه السلالم ، وما ان مرت بجانب والدها الساكن حتى سمعته يردف بهمس خفيض
"حمد لله على سلامتكِ يا ابنتي"
اخرجت زفير مرتجف من بين شفتيها شعرت به يخرج من صميم الغصة بروحها تكاد تشطرها لنصفين ، لتحرك بعدها رأسها بهزة طفيفة استغرقت منها ثواني وهي تهمس بخفوت مرير
"لقد عدت كما كان مخطط ان يحدث ، هنيئاً لكم بهذا الفوز"
غادرت بعدها بسرعة قبل ان توقفها الخادمة التي مدت لها يديها وهي تقول بابتسامة محبة
"اعطيني عنكِ الحقيبة يا آنستي ، لابد انها ثقيلة عليكِ"
تمسكت (صفاء) بحزام الحقيبة وهي تهمس بخفوت باهت
"لا بأس استطيع تدبر امري لوحدي ، شكرا لكِ"
تحركت بعيدا عنها وهي تصعد درجات السلالم بلمح البصر بدون ان تدرك الدموع التي بدأت تسقي خديها ، وما ان وصلت لغرفتها وملاذها والتي قادتها لها قدميها بدون ان تشعر حتى كانت تفتح بابها على اتساعه سكنت معها كل الاصوات من حولها ، لتخطو بعدها بقدميها ببطء وجل وهي توزع نظراتها بأنحاء غرفتها الحبيبة والتي قضت بها نصف عمرها نحتت بجدرانها احلامها وخبئت بأسرتها اسرارها وصنعت من خيالاتها احلاما وردية من قصص وهمية غير حقيقية .
توقفت بعدها ببطء ما ان اقتحم سرب احلامها صوت الخادمة المنادي والتي تبتعها لغرفتها
"آنستي هل انتِ بخير ؟ هل تحتاجين لمساعدة بتفريغ حقيبتك ؟ او بترتيب وتنظيف غرفتك ! فأنا لم اكن اعلم بعودتك ألا مؤخرا ، وألا لما كنت تركت غرفتك بدون تنظيم حملة تنظيف وتعزيل للغرفة ، وكل ما استطعت فعله هو تغيير ملاءة السرير والستائر وسجاد الغرفة من اجل عودتك"
تنفست (صفاء) بهدوء وهي تمسح خديها بظاهر كفها بصمت قبل ان تلتفت نحوها لتهمس لها بابتسامة حاولت رسمها بصعوبة
"لا شكرا لا احتاج لأي مساعدة ، وقد فعلتي ما عليكِ واكثر ، واما باقي الامور يمكنني فعلها وحدي ، انتِ اريحي نفسكِ"
اومأت الخادمة برأسها بهدوء وهي تقول بابتسامة جادة
"لقد وصلتي للمنزل للتو ، واكيد ستكونين جائعة ، امهليني دقيقتين وسأحضر لكِ كل اطباق الطعام التي تشتهينها......"
لوحت بكفها برفض وهي تهمس بابتسامة شاحبة بوهن
"لا تتعبي نفسكِ يا سيدة بسمة فأنا لست جائعة ، فقط احتاج لأخذ قسط من الراحة والنوم بفراشي فقد تعبت كثيرا هذه الليلة"
انحرفت ابتسامتها بوجوم وهي تهمس بخفوت قلق
"هل انتِ متأكدة يا آنستي ؟ فأنتِ تبدين لي لست بحالة جيدة......"
قاطعتها (صفاء) من فورها وهي تهمس بضيق خائر القوى
"لو سمحتِ يا سيدة بسمة اريد البقاء بمفردي ، رجاءً احتاج للبقاء بمفردي هذه الليلة"
ارتبكت ملامح الخادمة بتوجس وهي تقول من فورها بمودة
"اجل بالطبع يا آنستي ، إذا احتجتِ لأي شيء اطلبيني فورا وانا سأكون عندكِ ، ليلة سعيدة"
غيم الصمت الحالك بالمكان ما ان سمعت صوت اغلاق باب الغرفة ، لتتنفس بعدها بأنين متعب اخرجها عن حالتها الطبيعية وازال رداء الثبات عنها ، وبثواني كانت تشق طريقها نحو السرير بخطوات عشوائية بظلام الغرفة ، وما ان وصلت عند جانب الفراش حتى ارتمت على ملاءته بقوة والتي تلقفت جسدها مثل الطوق عندما يمسك بالغريق ، وبلحظات كانت تفرغ شحناتها وهي تجهش ببكاء عالي كتمته منذ لحظة رحيلها عن ذاك المنزل ومنذ لحظة وداع فارس احلامها ومنذ لحظة دخولها منزل والدها ومنذ لحظة سماع كلمات والدها ، وهي تعود محملة بكل هذه اللحظات والتي كانت كالسكاكين على فؤادها الجريح ، بدون ان يرحمها احد بكلمة تطيب جروحها او حضن يواسي خسائرها ولو كانت كلمات قصيرة تقول (كل شيء سيكون بخير) ، ولكن كل هذا لا يضاهي شعورها وامنيتها اليتيمة برؤية ممانعة صغيرة من ذلك الزوج تظهر رغبته وتمسكه بها حتى لو كلمة واحدة تقول (لا ترحلي) .
______________________________
صباح اليوم التالي......
كانت تحدق بالسقف بعينيها الزرقاوين الشاخصتين بدون اي رياح او امواج تأسرهما فقط سكون تام حل على حياتها ، وهي التي لم يغمض لها جفن منذ ليلة البارحة والتي خرجت منها حية بشق الانفس ، وكأنها ما تزال تعيش حياة الشقاء والقتل والتهريب وكسب الذنوب حتى اصبحت حياتها بلا معنى فقدت بها الامان والسلام وكل شيء سلبوه منها بسبيل الاستمرار بالعيش والحق الوحيد المتبقي لها .
شددت على يديها المستقرتين على جانبي رأسها وهي تريح جفنيها الحمراوين من كبت الإرهاق على احداقها السابحة بظلمة اغرقت مركبها من جديد ، وصور كثيرة تتشكل من حولها تسور عقلها لتتوقف على صورة واحدة لم تفارق مخيلتها طول الليل والتي كانت للفتاة التي طعنت قلبها وكادت تقتلها وهي تحمل طفل حي يعني روح داخل روح ، وبكل مرة تحاول محيها عن رأسها تعود لتزور خيالها بتأنيب ضمير يساوي كل الاخطاء التي ارتكبتها بالعالم ولم يكن بقصدها ، اما هذه فقد كانت بكامل إرادتها وبقصد منها اظهرتها بقبح داخلي ومن اشر مخلوقات الارض ، وهذه ما اثبتتها جملة لا ينطقها سوى البشر الكارهين والذين يكنون لها كل قسوة العالم
(ماذا سيفيد الجمال الخارجي إذا كان داخلك قبيح !)
شهقت بارتجاف لا شعوري ما ان اخترق احلام يقظتها صوت رنين الهاتف القابع على المنضدة الجانبية ، لتفتح بعدها جفنيها ببطء وهي تحاول تحريك اطرافها الثلجية بصقيع روحها جمد انحاء جسدها وكأنها تمثال من شمع ، وما ان استطاعت اخيرا الجلوس باستقامة كسرت بها حاجز الجليد المحاط حولها حتى التقطت الهاتف من جانبها ، لتضعه بعدها بجانب اذنها وهي تهمس بصوت فاتر
"نعم ! من معي ؟"
سمعت صوت انفاس الطرف الآخر تتلاحم مع هدير انفاسها والتي اتصلت بينهما على بعد اميال ، لتنحنح بصوتها بتحشرج وهي تهمس بخفوت متوجس
"من معي ؟"
ابتلعت (ماسة) ريقها بارتباك وهي تسمع صوت تقطع الانفاس الواضح والذي يظهر انين باكي ، لتهمس بعدها بإدراك خافت وجل
"صفاء هل هذه انتِ ؟ اجيبِ يا صفاء !"
اجابت بعدها بلحظات بخفوت حزين بصوت محتقن
"صباح الخير يا ماسة ، كيف حالكِ ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تنزل قدميها عن السرير بحركة اندفاعية هامسة بهدوء مرتبك
"ماذا هناك يا صفاء ؟ لما يبدو صوتكِ غريبا هكذا ! هل حدثت مشاكل اخرى بينك وبين زوجك ؟ اخبريني هل فعل معكِ ما يسيء ؟ لا تتلاعبي بأعصابي يا فتاة !"
صمتت للحظات قبل ان يصلها صوتها بتحشرج باكي وكأنها تحتضر
"لقد انتهى ، كل شيء انتهى يا ماسة"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تحاول فك رموز كلامها المشفر والذي يبدو لها لأول مرة مثل غصة مؤلمة فوق غصتها ، لتتغضن تقاسيمها بوجوم وهي تستجمع افكارها المشتتة هامسة بهدوء ظاهري
"اخبريني بكل شيء حدث معكِ ، فأنا لا استطيع الفهم هكذا ، اعذريني ولكني اعاني من تشوش بالأفكار بالآونة الاخيرة"
صمت الصوت بينهما والذي ترك الاثر بقلوبهما الجريحة لتطمر الألم هناك بصخب مدوي غير مسموع ، ولم يقطعها سوى الصوت الحزين وهي تستنجد ببكاء مكتوم
"احتاج إليكِ ، انا احتاج إليكِ يا ماسة"
زفرت (ماسة) انفاسها بنشيج جثم على صدرها بقطعة جليد قاسية مزق خلجاتها ، لتضرب بكفها الحرة على ركبتها وهي تهمس بهدوء ثابت
"حسنا يا صفاء ، انا قادمة إليكِ ، لا تقلقي يا عزيزتي دقائق واكون عندكِ ، حسنا ؟"
اومأت (صفاء) برأسها بدون ان تراها وهي تهمس بنحيب ناعم
"انا واثقة بأنكِ ستأتين بأسرع وقت ، هكذا كنتِ دائما تجيبين للنداء بسرعة مهما كانت الظروف التي تمرين بها ، اتمنى فقط ان اصبح مثلكِ يوما"
عبست ملامحها بفتور وهي تهمس مع نفسها بروح باردة بقسوة
"لا اعتقد بأنكِ ستتمنين حدوث هذا"
تمالكت نفسها ما ان عاد صوت صديقتها يقول بخفوت رقيق
"ماسة اسمعي ، تعالي لمنزل والدي ، سأكون بانتظاركِ بفارغ الصبر"
سكنت كفها الحرة على ركبتها وهي تهمس بشبه ابتسامة باهتة بدون ان تتساءل عن سبب وجودها بمنزل والدها
"اجل بالطبع سأصل إليكِ بسرعة ، تمالكي نفسكِ حتى اصل إليكِ"
اخفضت الهاتف عن اذنها ببطء متخدر وهي تهمس بابتسامة ساخرة بكبت
"كم انتِ محظوظة يا صفاء ، تستطيعين افراغ جروحك وهمومك بالبكاء ، ولكن ماذا عني انا ؟ كيف استطيع افراغها ؟!"
تنهدت بتعب وهي تريح يدها بالهاتف على ساقها ويدها الاخرى تمسد بأصابعها بين عينيها بألم عصيب ، لتلقي بالهاتف جانبا قبل ان تمسح بكفيها على شعرها وهي تتخلل خصلاته بأصابع قوية وكأنها تدين شعرها بجريمتها ، وما ان سلطت نظراتها على الارض اسفلها حتى همست لها بصوت اجوف مشتد
"تستطيعين تجاوزها ، تستطيعين ، لقد مضى ، مضى ، مضى"
وبعد تلك الكلمات كانت تنزع يديها عن شعرها وهي تنهض واقفة بثبات بعد كل فاجعة تتعرض لها تكسر جزء من قلبها بدون ان تلمس كبريائها المصنوع من فولاذ صلب ، لتحرك بعدها قدميها الثقيلتين بصعوبة تجبرهما على الانصياع لأوامر عقلها الصلب بانعدام رحمة حتى هذبتهما كما تريد ، وما ان اصبحت امام المرآة حتى وقعت عينيها على صورتها الفارغة وكأنها ترى ساحرة شريرة منفوشة الشعر وببشرة بيضاء شاحبة اكثر ما يميزها هي عينيها الجاحظتين اللتين تستطيعان ان تغرقا كوكب بأكمله ، لتستند بعدها بكفيها على سطح طاولة الزينة وهي تهمس لصورتها بابتسامة مائلة تغضنت بزواياها
"هيا يا ماسة عليكِ ان تخفي هذه العيوب عن الاعين ، لكي تري العالم كم انتِ سعيدة وعلى ما يرام ، أليس هذا الدور اكثر ما اتقنته لسنوات ؟"
انحرفت ابتسامتها بحزن هاوي وكأنها تكشف حقيقتها الداخلية امام نفسها وهي تهمس ببكاء غير مرئي
"كل شيء سيكون بخير ، صحيح ؟"
غطت وجهها بيديها وهي تحفر اصابعها على بشرتها الهشة لتستعيد نفسها هامسة بهذيان
"كل شيء سيكون بخير"
هربت بسرعة امام صورتها وهي تدلف للحمام المرفق لتشغل رشاش الماء بلمح البصر وهي تمد جسدها على حافة حوض الاستحمام ، ليهطل رذاذ الماء على رأسها والذي تبلل بالكامل كما تفعل دائما عندما تخونها عواطفها وجروحها لتغسلها بالماء البارد والذي يبرد غصة قلبها ويطفئ نيرانها التي اندلعت لسنوات طويلة .
_______________________________
بعدها بساعات كانت تصل عند بيت صديقتها وهي تقرع على الجرس بقوة ، وما ان فُتح الباب حتى ظهرت لها الخادمة المسنة والتي قالت بدورها بهدوء حائر
"مرحبا ، هل من خدمة ؟"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تأخذ عدة لحظات بالتعرف على الكائن الجديد امامها قبل ان تهمس بابتسامة رسمية
"انا صديقة صفاء ، وقد اتيت لمقابلتها"
عقدت (بسمة) حاجبيها بارتياب وهي تقول بخفوت حذر بدون ان تفارقها بنظراتها الضيقة
"لم اركِ من قبل هنا ، كيف لي ان اتأكد من كلامك ؟"
تأففت (ماسة) بنفاذ صبر وهي تقترب منها خطوتين لتقول لها بتشدق
"افعلي ما تشائين ، فأنا لا احصل على الإذن من احد"
تجاوزتها بالدخول امام عينيها المتسعتين بصدمة ، لتلحق بها من فورها وهي تنادي بحزم جاد
"انتظري هنا يا فتاة ! اين تظنين نفسكِ تدخلين ؟......"
توقفت (ماسة) امام درجات السلم ما ان خرج لهما الصوت البارد بتكاسل
"ماذا يحدث هنا ؟"
توقف (مازن) عن التقدم وهو يرفع حاجبيه باستمتاع واضح ليقول بعدها بابتسامة مالت بتحفز
"مرحبا بالدمية الجميلة ماسة ، يا لها من فرصة رائعة رؤيتكِ امامي من جديد ! هكذا تفعلين بعائلتك واقاربك تطيلين بالغيبة عنهم ! ام ان اقاربك الآخرين افضل منا ؟"
عبست ملامحها بضيق وهي تضبط اعصابها المحترقة مسبقا لتهمس له بصوت مغتاظ محمل بالكره
"عليك ان تعلم بأنه لولا وجود شقيقتك لما رأيت وجهي بحياتك ، لذا لا تأمل نفسك كثيرا بلا فائدة"
رفع رأسه عاليا وكأنه قد تلقى صفعة كلامية للتو قبل ان يعود بالنظر لها وهو يهمس بابتسامة مرتاحة بكسل
"كم اشتقت لردود افعالكِ الشرسة ! واشعر بالأسف حقا على خسارة مثل هذه الجوهرة وكأنني قد خسرت الكون بأكمله والذي كان بمتناول يديّ يوما"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تدير مقلتيها الزرقاوين بعيدا عنه بروح اثقلت بالكثير ولم يكن ينقصها سوى رؤية استعراض هذا المهرج ، ليقاطع حديثهما التي دخلت بينهما وهي تقول بتهذيب مرتبك
"اعتذر على المقاطعة ، ولكني لم اكن اعلم من تكون هذه الفتاة ، وقد ظننتها غريبة عن المنزل لذا لم اسمح لها بالدخول ببادئ الامر"
نقل (مازن) نظراته اتجاه الخادمة وهو يقول بابتسامة جانبية بعمق
"لقد اخطئتِ بالتصرف يا سيدة بسمة ، فهذه الفتاة من سكان المنزل وفرد بهذه العائلة ، لذا انتبهي جيدا بتصرفاتك معها"
اومأت برأسها بإحراج شديد وهي تهمس بتأسف
"اعتذر يا سيد مازن ، واعدك ألا يتكرر مجددا هذا الخطأ"
حادت (ماسة) بنظراتها نحوهما وهي تلمح حركة ذلك المهرج وهو يحرك كتفيه باستفزاز واضح ، لتهمس بعدها بغيظ وهي تكمل صعود درجات السلم
"مريض نفسي"
قال بسرعة خلفها وهو يلاحق طيفها على درجات السلم
"اعتمد عليكِ بالتخفيف على شقيقتي وتضميد جروحها"
ما ان اختفت عن نظره حتى تنفس بيأس وهو يبتسم بشرود غائم ، لتقطع الصمت الخادمة وهي تعقب على الموقف قائلة بجمود عابس بدون ان تمنع نفسها
"يا لها من فتاة وقحة !"
تغضنت ابتسامته وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله ليقول ردا على كلامها بهدوء هائم
"بل هي الفتاة الاروع على الإطلاق ، ولكن عليك ان تجد من يقدرها"
ارتبكت ملامح الخادمة وهي تحدق به بنظرات مشكوكة قبل ان تتراجع بحذر وهي تبتعد عنه بدون كلام .
وصلت (ماسة) امام غرفة صديقتها وهي تدخل لها بدون استئذان ، وما ان اكتشفت خلو الغرفة حتى تجولت بنظراتها من حولها بقلق بدء ينهش عظامها بدون ان تجد لها اثر ، لتخطو بعدها عدة خطوات قبل ان يتهادى لسمعها صوت ماء المرحاض بالحمام المرفق .
خلعت الحقيبة عن كتفها وهي تلقي بها على طرف الاريكة لتتجه من فورها نحو مصدر الصوت ، وما ان اصبحت على مقربة من الباب حتى قالت بهدوء متوجس
"صفاء هذه انا ، لقد اتيت إليكِ فور انتهاء الاتصال بيننا ، هل انتِ بخير ؟"
قربت اذنها على سطح الباب وهي تنصت لأصوات غريبة شبيهة بأنين متقطع او شهقات تقيؤ ، انتفضت بعيدا عن الباب وهي تفتحه بقوة ليتوضح لها المشهد الذي كانت تتوقعه وتجسد بعقلها ، وهي ترى صديقتها تجثو بركبتيها ارضا ورأسها ساقطة فوق المرحاض وخصلات شعرها ملتصقة على جانبيها ، وعلى ما يبدو تحاول اجبار نفسها على التقيؤ بعد ان فرغت معدتها بالكامل ولم يتبقى منها سوى العصارة الهضمية التي كانت تخرجها بنحيب منتفض على وشك الاحتضار .
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تجثو بجوارها بسرعة لتمسح بيد على ظهرها وتمسك بذراعها بيدها الاخرى ، لتهمس بعدها بوجل خافت وهي تشعر بعضلات جسدها تتقلص اكثر
"ماذا تفعلين بنفسكِ يا صفاء ؟ انت تؤذين نفسكِ بهذه الطريقة !"
استمرت بمحاولة افراغ معدتها بتقيؤ عصيب وكأنها تخرج روحها من جسدها حتى برزت عروق بشرتها بزرقة مخيفة ، لتشدد اكثر على ذراعها وهي تمسك بيدها الاخرى كتفها تحاول تحريكها من مكانها وهي تصرخ بها بغضب مكتوم
"كفى يا مجنونة ! كفى ! ألا ترين لم يعد هناك شيء بمعدتك لتخرجيه ؟ توقفي عن ممارسة الضغط على نفسكِ هكذا ! هل تريدين الموت على يديّ يا معتوهة ؟"
رفعت وجهها الشاحب والذي غزاه العرق وهي تهمس بشهيق منتحب وقبضتها تضرب على معدتها المجوفة بانكماش
"لا استطيع التوقف ، عليّ ان اخرجها من مكانها ، انها تؤلمني ! تؤلمني بشدة ! إذا لم اخرجها سأموت ، اقول لكِ سأموت !"
صرخت بقوة وهي تمسك بقبضتها بعيدا عن معدتها بتحذير صارم
"توقفي يا مجنونة ، ارحمي نفسكِ ! ارحميها من اجلي !"
حركت رأسها بالنفي والدموع تنهمر على ملامحها بسيول وهي تصارع كي تفك قيود يديها هامسة بخفوت متحشرج
"ارجوكِ دعيني يا ماسة ، دعيني اخرجها ، دعيني ارتاح ، اريد ان ارتاح منها ، اشعر بها مثل الحريق بداخلي ، لن اتخلص منها ! لن اتخلص ابدا !"
خارت قواها تماما وهي تترك لها مهمة مداواتها باحتضان جسدها بين ذراعيها وكفها تزيح خصلات شعرها عن وجهها المبتل بقطرات الدموع والعرق ، لتأخذ بعدها عدة انفاس تحشر الغصة الحجرية بداخلها بدون ان تحررها على مرأى منها برقت بمقلتيها البحريتين بزجاج نافذة مهشم ، قبضت على كفها وهي تنزلق بعيدا عن وجهها هامسة بخفوت جاد استطاعت تقمصه بصعوبة
"هلا ترشحين لي ماذا يحدث معكِ ؟ ولماذا عدتِ لمنزل والدك ! لأني بالحقيقة لم افهم اي شيء من مكالمتك بالهاتف !"
تشنجت (صفاء) بمكانها بنفس ضيق وهي تهمس بأنين يقطع نياط القلب
"لقد تركته يا ماسة ، رحلت من منزله ، وانهيت كل شيء قبل ان يفعلها"
تنهدت ببعض الراحة وهي تمسح على رأسها بلطف قائلة بدعم
"لقد فعلتي عين الصواب ، واستطعتِ إنقاذ نفسكِ وما تبقى من كرامتك قبل ان يجرفك مستنقع الحب ، ولكن لما لا تبدين سعيدة بهذا القرار ؟"
صمتت عن البكاء تماما ألا من بعض الشهقات الخفيضة وهي تهمس بمرارة الوردة التي ذبلت وريقاتها
"انا لست ابكي بسبب قراري ، بل ابكي بسبب خيبة املي ، لقد رحلت امام عينيه بدون ان يحرك به ساكن او يقول كلمة تطيب خاطري المكسور بعد كل ما حدث بيننا ، وكأنه يثبت لي اكثر بأنني لست سوى كبش فداء تخلى عنها ما ان انتهت مدة اقامتها وتعذيبها ، ألم يشفق عليها للحظة ؟ ألم تحرك اي مشاعر بقلبه ! ام انا الوحيدة التي اعاني بهذه القصة التي جردتني من قلبي وإيماني بالحب ؟"
تجمدت ملامحها بهدوء وهي تهمس بشبه ابتسامة خاوية
"هذا ما كان سيحدث بنهاية المطاف ، فهو كما قلتِ يعتبرك مجرد كبش فداء ولن تتجاوز مكانتك اكثر من هذا بحياته ، ولو لم تفعليها كان فعلها بنفسه"
ابتعدت عنها وهي تسحب ذراعيها من حولها لتمسح خديها بظاهر كفها وهي تهمس بشرود حزين
"لقد كانت تجربة حب فاشلة ، وخرجت منها محملة بأذيال الهزيمة ، فقد اكتشفت بأن السعي وراء ما نريد افضل من السعي وراء ما نحب"
حركت (ماسة) رأسها بشرود وهي تفكر بكلامها والذي ضرب نقطة من نقاط ضعفها فهذه النظرية التي غرستها بعقلها ودمرت حبها ، لتلتفت (صفاء) بنصف وجهها وهي تهمس بخفوت مبتسم
"اخبريني عنكِ انتِ ! ماذا يجري معكِ ؟"
نظرت لها بحيرة وهي تهمس بفتور
"ماذا ؟!"
تكورت بجلوسها وهي تضم ساقيها بين ذراعيها لتميل برأسها جانبا حتى ارتاحت على ركبتها هامسة بأسى حزين
"هل تظنين بأنني لم ألاحظ اختلاف حالك ؟ لقد شعرت به بصوتكِ على الهاتف ! فأنتِ لست الوحيدة التي تعرفيني جيدا وتكشفين تغير حالي وانا ايضا اعرفكِ بنفس القدر ، لذا شاركيني همومك واخبريني بما يكدر مزاجك"
زمت شفتيها بوجوم وهي تطوق ساقيها بذراعيها مقلدة جلستها هامسة بهدوء جاد
"يعني كيف اختلفت ؟"
عقدت حاجبيها البنيين بانحناء ضعيف وهي تهمس بتفكير متعاطف
"لا اعرف كيف اشرح ذلك ، ولكنكِ تبدين تعيشين بحزن عميق يختلف عن اي حزن آخر ، فهو يبدو متغلغل بجرح كبير نازف اضعفك بشدة وكسرك ، يعني شيء قريب من هذا القبيل ، المهم بأنه مختلف عن احزانك الاخرى فهو قد اعطاكِ حياة وكأنه شيء حقيقي"
طرفت بعينيها الواسعتين وهي تغطي خدها الحارة بأناملها وكأنها تمنع نفسها من التأثر بكلماتها التي اصابتها بالصميم ، لتتنفس بعدها بتهدج وهي تهمس بإيجاز وكأنها تعترف بسر من اسرارها
"لقد وقعت بالحب يا صفاء"
اتسعت حدقتيها العسليتين لوهلة وهي ترفع رأسها عن ركبتها قبل ان تهمس ببهجة طفولية وكأنها تستوعب المفاجأة بعقلها بطيء الفهم
"رائع يا عزيزتي ماسة ! لقد اسعدتني جدا بسماع هذا الخبر ، صدقيني لولا الحالة التي امر بها الآن لكنت وقفت امامك ورقصت من الفرح ، لا بل كنت قلت امام كل العالم بأن ماسة وقعت بالحب وكسرت اللعنة عنها اخيرا"
عضت (ماسة) على طرف شفتيها بغيظ وهي تهمس من بينهما بيأس
"حتى بأسوء حالاتك ما تزالين تتصرفين بطفولية !"
انفجرت (صفاء) بالضحك بهستيرية وهي تتراجع للخلف باختلال توازن لتستند بكفيها على ارضية الحمام وهي تحاول تنظيم انفاسها بصعوبة ، لتقول بعد ان اخذت عدة انفاس بخفوت مرير وكأنها تسخر من وضعها
"يا لسخرية القدر ! انظري إلينا يا ماسة ! الفتاة التي كانت تؤمن بالحب قد خسرت إيمانها به ، بينما الفتاة الاخرى التي كانت تسخر من الحب قد استطاعت الحصول عليه وتصديق وجوده ، وكأننا قد تبادلنا الادوار بين بعضنا واخذت كل منا دور الأخرى ، نحن حقا كما يقولون عنا ناقض ونقيض"
زفرت (ماسة) انفاسها ببؤس وهي تحك جبينها بقوة قائلة بانفعال هادر
"يا إلهي ! لا اصدق بأني اسمع مثل هذه التفاهة ! هل انتِ بكامل قواكِ العقلية يا فتاة ام استدعي سيارة النجدة لكِ ؟"
مسحت بكفها على صدرها الخافق من فرط موجة الضحك التي اجتاحت كيانها بأسوء ظروفها ، لتهمس بعدها بابتسامة صغيرة بتساؤل
"إذاً ما سبب هذا الحزن ؟ ألم يكن الوقوع بالحب جميلاً !"
حركت رأسها بعيدا وهي تهمس بخفوت عابس
"لقد كان كذلك سابقا ، ولكن يبدو بأنني قد قسوت عليه وفعلت امورا تتجاوز الحدود"
انحرفت ابتسامتها بوجوم وهي تلوح بذراعها نحوها قائلة بتوبيخ ساخط
"مغفلة ! اجل مغفلة ! انتِ حرام عليكِ الحب ، حتى لو وقعتِ من الحب مئة مرة وكسرتي رأسك لن تتعلمي ابدا !"
تنفست بإرهاق وهي تنتصب واقفة على قدميها لتستدير نحوها قبل ان تقول بحزم جاد
"يكفي جنون لهذا الحد ، لقد اطلنا بالجلوس بالحمام وكأننا بمنتجع استجمام ، وقد بدأت اشعر بأن هذا الحمام ملعون وله علاقة بالجنون الذي اصابك"
امسكت بذراعها وهي تساعدها على النهوض بحرص لتسحبها بعدها خارج الحمام بخطوات ثابتة وكل منهما تستند على الاخرى ، وما ان وصلتا عند جانب الفراش حتى افلتتها بلحظة وهي تسقط جالسة على طرف السرير باستكانة ، لتمسك بعدها ابريق الماء على المنضدة وهي تسكب بالكأس بيدها الاخرى ، قبل ان تمد الكأس لها وهي تقول بهدوء عملي
"هل ما تزالين تشعرين برغبة بالتقيؤ ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تمسك الكأس بكلتا يديها لتشرب منها على مهل ، بينما وضعت (ماسة) الابريق جانبا وهي تمسك خصرها بيديها قائلة بتصلب جاد
"اخبريني الآن ما لذي اصابكِ ؟ حتى وصلت لهذه الحالة المتدهورة !"
اخفضت الكأس عن شفتيها وهي تهمس بابتسامة ضعيفة بوهن
"لقد شعرت بالغثيان وتقلب بمعدتي منذ استيقاظي صباحا ، وقد قضيت ساعات طويلة بالحمام وانا احاول التقيؤ بدون ان يخرج معي شيء ، والألم بمعدتي كان يعذبني وكأن السكاكين بداخلي تقطع امعائي ، ولكن الآن بعد مجيئك اصبحت افضل"
ابتلعت ريقها بارتباك غزى ملامحها وهي تهمس بشك مرتاب
"صفاء هل يعقل بأن تكوني حامل ؟"
ارتجفت الكأس بين اناملها وهي تكاد تنزلق منها لتحيط صديقتها بكفيها بقوة لكي تحمل الكأس معها ، لتستل بعدها الكأس من بين يديها وهي تعيدها مكانها بجانب الابريق ، لتعود بنظرها لصديقتها ما ان همست بخفوت مرتجف وهي تنظر لها بعيون عسلية دامعة
"هل يعقل بأن يكون ذلك حقيقي ؟ لقد تأخر موعد دورتي الشهرية ! ماذا افعل بنفسي الآن ؟"
غامت ملامحها بحزن وهي تشفق على حالة صديقتها وما وصلت له من ضياع وتشتت ، لتقترب منها بسرعة وهي تضم كفيها بين يديها هامسة بهدوء شديد تمدها بالقوة
"اهدئي يا صفاء ولا تفكري بالأمر بالوقت الراهن ، لقد اخطئت عندما فاتحتك بهذا الموضوع ، انتِ عليكِ بالراحة الآن وتحسين وضعك وكل شيء له موعده ، لن نفكر بشيء سابق لأوانه ، حسنا !"
اومأت برأسها بابتسامة مرتجفة زحفت على محياها الشاحب ببعض السعادة اليتيمة ، لتقول بعدها بقوة حاولت استرجاعها
"انتِ على حق يا ماسة ، لن افكر بشيء الآن ما عدا تحسين وضعي والتأقلم بحياتي ، وبعدها سأفكر بالأمور الاخرى ، واعدكِ ان ابقى قوية بهذه الطريق التي اخترتها بنفسي"
ابتسمت (ماسة) بهدوء باهت وهي ما تزال تشدد على يديها بقوة ، لتتابع الاخرى كلامها وهي تقول بابتسامة عازمة
"صحيح نسيت ان اخبركِ ، لقد قررت العودة لاستكمال باقي فصول الجامعة التي تركتها ، فأنا اريد الحصول على تخرجي وتحقيق طموحي لكي استطيع اللحاق بكِ ، ما رأيكِ ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تسحب يديها بصمت لتجلس بعدها بجوارها على طرف السرير ، قبل ان تحرك كتفيها هامسة ببساطة
"لا بأس إذا كان هذا الامر سيريحك ويعيد لنا صفاء القديمة ، فلا بأس بذلك ، ولكنكِ قد خسرتِ فرصة التخرج معي"
زمت (صفاء) شفتيها بعبوس وهي تهمس بخفوت مستاء
"هذا لأنني قد تركتكِ تسبقيني حتى وصلتي لخط النهاية قبلي"
ردت عليها (ماسة) بحاجب واحد بسخرية
"بل قولي تركتني لتلحقي بفارسك الخيالي"
تغضنت زاوية ابتسامتها وهي تقول من فورها تغير مجرى الحوار
"بالمناسبة متى سينتهي فصلك ؟ وهل قدمتي اختباراتك كاملة !"
اومأت برأسها بصمت وهي تقول بهدوء عملي
"اجل لقد انتهيت منها وآخر اختبار كان قبل اسبوع ، فقط تبقى لي ان انتظر الاختبار الختامي لاستلام الشهادة الجامعية التي تثبت بأني مؤهلة للخوض بسوق العمل"
ارتفع حاجبيها بانتباه وهي تدير وجهها للأمام هامسة بابتسامة حالمة
"انتِ لا يخاف عليكِ ابدا ، فقد كنتِ كذلك منذ الطفولة نابغة فصلها"
امتعضت ملامحها بعبوس وهي تنظر للأمام كذلك هامسة باقتضاب
"كم اكره هذا اللقب"
اخرجت ضحكة صغيرة لم تتعدى طرف شفتيها وهي تهمس بحنين شارد
"يبدو بأنكِ لم تنسي الماضي ، عندما كنتِ تغلطين اساتذتك وتصححين الاخطاء من وراءهم إذا كان عن قصد او بدون قصد ، وانتِ تظهرينهم بموقف محرج وبدور الاحمق امام كامل الفصل ، لقد جعلتي من نفسكِ كائن بغيض بنظرهم كل ما يسعون له هو تعريضك للخطأ وجعلكِ تفشلين ، لقد ظننت بأن الاساتذة يحبون الطالب المجتهد والمتفوق ، ولكنك كنتِ حالة استثنائية ! قلبتي كل المدرسة عليكِ من اساتذتها وطلابها وكل ما يسعون له هو الانتقام منكِ واخذ حقهم بالفوز عليكِ بأي طريقة"
احنت حاجبيها السوداوين بتلبد كسى محياها وهي تهمس بجفاء ساخر
"يبدو بأنني كنت الكائن المكروه عند الجميع منذ الطفولة ، وهكذا الحال دائما"
انتفضت (ماسة) لا شعوريا ما ان امسكت بكفها على ملاءة السرير وهي تهمس لها بابتسامة متفائلة
"لقد تجاوزنا منذ زمن ، لقد مضى يا ماسة ، مضى"
اعتلت ملامحها ابتسامة باهتة وهي تهمس بتأكيد خافت وكأنها تبصمها بفؤادها
"اجل ، لقد استطعنا تجاوزه ، لقد مضى"
شردت كليهما بالفراغ امامهما وكفيهما متشابكتين فوق ملاءة السرير ورجفة قلوبهما المكسورة تتخلل برجفة ايديهما ، وكأنهما عادتا طفلتين بالابتدائية تنتظرا عقاب من مديرتهما بسبب حقد وكراهية زملائهما نحوهما بدون اي سبب منطقي .
_______________________________
كانت جالسة بالسيارة بصمت وهي تشاهد الطريق السريع بجانبها بشرود ، بعد ان اعتادت على قيادة السيارة بنفسها طول الايام الفائتة حتى نسيت الاستمتاع بمنظر الطريق الموصل لمكان عملها ، وهي تكتشف متعة خاصة بقيادة سائق غيرها وجهة السيارة وليس اي سائق بل زوجها وعريف حياتها وهو يأخذ كل الادوار بمسرح حياتهما ، ولكن مع ذلك لم تكن السعادة التي تصورتها وهو يتعمد اخذ دور المحارب الغاضب والذي عاتب زوجته بسبب كسر رباط الثقة بينهما والذي عليها ان تحاول ربطه من جديد ، وهذا حالهما منذ خروجهما من الجناح بدون ان يوجه نحوها اي كلام او نظرة ما عدا ذلك الأمر الصارم الذي لا يقبل النقاش بأن تركب معه بالسيارة ، بدون ان تعلم للآن ماذا حدث لسيارتها ؟ وبأي بلاد وصلت ! وهل ما تزال بمكانها الذي تركتها به ؟
زفرت انفاسها بنشيج متعب وهي تحيد بنظراتها نحوه بصمت تنتظر نهاية لهذه الرحلة العصيبة ومخرج من هذه الحرب الباردة ، وبلحظات كانت تغضن جبينها بحيرة ما ان توقفت السيارة على جانب الطريق العشبي بسكون ، لتلتفت نحوه بسرعة وهي تنظر لجانب وجهه المتصلب بهدوء قبل ان تهمس بعبوس متوجس
"ماذا هناك ؟ لماذا توقفت هنا !"
تجمدت ملامحه بدون اي تعبير وهو يقول بهدوء جاف
"لم نستطع التكلم بالإجراءات الجديدة التي سنتخذها بحياتنا من الآن وصاعدا ، وقد تحدثنا بهذا الكلام بالأمس إذا كنتِ ما تزالين تذكرين ، وحان الوقت لإنهاء هذه المسألة هنا فقد طالت كثيرا"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تتأمل جانب وجهه بتشتت لحظي لتهمس بعدها بشبه ابتسامة هادئة يشوبها الحزن الاسير
"إذا كنت تريد التكلم معي يمكنك النظر لي على الاقل وانت تخاطبني ، ليس هناك داعي لأخذ هذه الوضعية اتجاهي"
شدد بيديه على المقود بصلابة وهو يخفض جفنيه فوق عينيه بإرهاق قائلا بخفوت ساخر
"هل هذه ردة فعلكِ الوحيدة على كل ما جرى بالأمس ؟ لقد توقعت ان ارى اداء افضل من هذا بعد كل هذا الصمت والانتظار ! ولكن يبدو بأنكِ ما تزالين كما انتِ كل الاشغال والاعمال اول اهتماماتك والباقي تفكرين به بوقت فراغك ، هل تظنين بأنني بلا مشاعر وبلا كبرياء ولا استحق ان اعاتبك على ذهابك لمنزل رجل غريب لوحدك ؟ لقد استغفلتني يا روميساء ! لقد استغفلتني ! ألا يشكل هذا عندك اعتبار ؟"
ادارت مقلتيها بعيدا وهي تضم قبضتيها بحجرها لتقول بعدها بجمود ثابت
"انت تبالغ بتضخيم هذا الامر ، لو تتوقف عن النظر له من منظورك ستجد الامر اكثر من تافه وبسيط ، ولو كنت تثق بي حقا فلن تقول كل هذا الكلام"
فتح جفنيه على اتساعهما اظهرت حدقتيه القاسيتين وهو يلتفت نحوها بلمح البصر قبل ان يقبض على ذراعها وهو يقول بنبرة هجومية
"ماذا تقصدين بهذا الكلام يا روميساء ؟ لو كنت اثق بكِ لما قلت كل هذا ! وماذا تتوقعين مني ان افعل بعد كل ما رأيته وسمعته ؟ هل تظنين امامك حجر لا يشعر ولا يهتم ولا يبالي وليس زوجك الذي يفترض ان يصون شرفك وحياتك والتي تكون سمعته وكبريائه من سمعتك وكبريائك ؟ عليكِ ان تعلمي بأن هذه الامور لا شيء امام الافكار التي كانت تدور برأسي وتدفعني لارتكاب اكبر تهور سيحدث بحياتي سنندم عليه طيلة حياتنا !"
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تمسك بكفه القابضة على ذراعها المطبوع بأصابعه هامسة بخفوت مشتد
"انا لم اقصد كل هذا يا احمد ، ولكنك تعاملني وكأنني مذنبة مدانة وامسكتني بالجرم المشهود ، فأنا بالنهاية لم اكن اخونك ولم ارتكب اي معصية"
تأوهت بألم ما ان قبض على كلتا ذراعيها يديرها نحوه بحركة عنيفة حتى شعرت بطرقعة عظام مفاصلها وظهرها بقسوة ، وما ان تقابلت عينيها المكسورتين بعينيه الباردتين حتى همس بصوت خفيض بتحذير افقدته صوابه
"إياكِ وان تقوليها يا روميساء ! لن اسامحكِ عليها ما حييت ! لأني عندها سأنسى تماما من تكونين بحياتي ومن اكون انا ، وعندها سيكون يا قاتل يا مقتول !"
طرفت بعينيها الواسعتين برجفة خاطفة ترقرقت الدموع بهما حتى تجمعت بغابتهما المطرية ، لتهمس بعدها بعبوس طفيف حفرت الألم بمحياها الشاحب
"انا اعلم جيدا سبب غضبك وسخطك هذا ، كل هذا لأنه تبين بأن هناك معرفة تربط بيني وبين الشخص الذي كنت بمنزله ، وانت الآن لا تستطيع الوثوق بي او تصديق كلامي بسبب هذا الامر ، وانت لست غاضب من الوقت الحالي بل بسبب ذلك الوقت الماضي والذي لم تكن موجود به ، واضف ايضا بأنك مجروح بسبب ثقتي العمياء بذلك الرجل وممكن اكثر منك ، ولكن يا احمد الثقة لا تبنى بالوقت الذي نقضيه معا بل بمكانة هذا الشخص بحياتك ويبدو بأنني لم اصل لذلك المكان لدرجة ان تصدق اي كلام يقال عني حتى تنطلق بسرعة لذلك المنزل بدون العودة لي ، صحيح ؟"
تلبدت ملامحه بغيوم ضبابية هبت بعاصفة تموجت بحدقتيه زادت من الضغط على ذراعيها بوشك كسر عظامهما ، وهو يقول بجمود قاتم بتعبير مخيف ارتسم على محياه
"بماذا تهذين يا روميساء ؟ هل تحاولين اخراج الشياطين من مكانها بعد ان حجزتها بليلة امس ! ما لذي تريدين الوصول له بالتكلم عن ذلك الرجل امامي الذي استولى على عقل زوجتي وكيانها ؟ هل تعلمين ما مررت به بالساعات التي تسبق وصولي لذلك المنزل ؟ او عندما رأيت سيارتك مصفوفة مقابل ذلك المنزل ! هل تعلمين كل الظنون التي تلاعبت بعقلي مثل الكرة وهي ترميه بكل لحظة بزاوية مختلفة ؟ مهما كان مقدار ثقتي بكِ فلن تصل بتكذيبي عينيّ وحجب عقلي عن تلك الافكار ، وبسبب مقدار الثقة الذي تتكلمين عنه واحمله لكِ لم ارتكب اي تهور يسيء لكِ او لذلك الرجل ، هل هذا يكفيكِ لتتوقفي عن تلك الاتهامات ؟"
عصرت جفنيها فوق حدقتيها بضعف خائن ما ان تسربت دمعة فاترة على شحوب ملامحها وهي تهمس بأنين متألم
"إذا كان هذا صحيحاً توقف عن عقابي بهذه الطريقة ، فأنت تضغط على مكان الألم مرتين واجزم بأن آثار اصابعك لن تزول عن بشرتي"
ارتفع حاجبيه بإدراك وهو يفلت ذراعيها على مضض ليعود بسرعة لجلوسه السابق ، قبل ان يقول بهدوء ساخط
"انتِ من يدفعني لكل هذه التصرفات ، سحقا لكِ !"
ضمت (روميساء) ساعديها بكفيها بضعف وهي تهمس بهدوء فاتر
"انت الذي بدأت بحرب الخصام اولاً ، وللآن لم استطع ان اكسب ثقتك وقد احتاج فوق عمر زواج سلوى ، لأنك لا تريد ان تتأقلم مع هذا الماضي والذي عشت به نصف عمري"
زفر (احمد) انفاسه بجمود وهو يحك جبينه بقوة ليقول بعدها بهدوء منتظم بعد ان استعاد زمام الامور
"انسي هذا الموضوع الآن فهو ليس ما كنت سأتكلم عنه ، اولاً اريد جواب على سؤالي متى سينتهي فصلك الدراسي ؟"
عقدت (روميساء) حاجبيها بحيرة غزى محياها وهي تجيب بوجوم
"تقريبا نصف شهر ، يعني بنهاية هذا الشهر"
اومأ (احمد) برأسه بقوة وهو يقول بهدوء جاد
"جيد ، بعد انتهاء هذا الفصل ستنتقلين للعمل بمدرسة اخرى اخذت الإذن منها وعما قريب سأنقلكِ إليها ، لذا جهزي نفسكِ مسبقا"
نظرت له بعينين متسعتين ببهوت وهي تهمس باستنكار عابس
"ماذا فعلت ؟ كيف تريدني ان انتقل من المدرسة التي اعتدت عليها وتكيفت بمحطيها وبين طلابها واساتذتها ! بل كيف تتخذ مثل هذا القرار وحدك بدون الرجوع لي ! هل تظن الأمر بهذه البساطة ؟"
ردّ عليها (احمد) بهدوء شديد بدون ان يأبه برأيها
"اجل بهذه البساطة ، فقد رأيت بأن هذا هو الخيار الامثل لنا ، وكما تكيفتِ بتلك المدرسة تستطيعين فعل المثل بهذه المدرسة التي ستنتقلين لها ، ولا تقلقي فهي من المدارس النخبة التي لا تشبه المدرسة التي كنتِ تعملين بها بالماضي"
نفضت يديها للأسفل بحركة انفعالية وهي تقول بكبت ساخر
"انت تحاول السخرية مني يا احمد ، من قال بأني اهتم بأمر النخبة التي تتكلم عنها ؟ او خائفة من دخول مدرسة جديدة ! ولكن الذي ضايقني بأنك تتلاعب بحياتي كما تهوى نفسك بدون ان تخبرني بشيء وكأن الامر لا يخصني ، ماذا سيفيدك هذا التصرف ؟ هل سيريح هذا ضميرك وتبرئ نفسك باستبعادي عن ابن ذلك الرجل ؟ هل هذا مفهوم الثقة عندك يا احمد ؟"
انتفضت بمكانها لا شعوريا ما ان ضرب على المقود بقوة ليتبعها بالقول بصوت مشتد قاتم
"هذا ما سيحدث يا روميساء وبالحرف الواحد ، لا تجعليني اغير قراري واخرجك من هذه الوظيفة اللعينة والتي ستفقدني عقلي ، فقد اخبرتكِ كثيرا بأنكِ لا تحتاجين للعمل تحت ظل عائلة الفكهاني ، ولكنكِ لا تصغين وتفعلين فقط ما يجول برأسكِ ، لذا من اجل ألا افعلها ونعلن الحرب على بعضنا افعلي ما اقوله فقط"
اشاحت (روميساء) بوجهها جانبا وهي تقول بتشدق
"واين كان ذلك الظل مختفي بالسابق ؟"
تنفس بتهدج ملئ صدره بالكثير من المعارك وهو يعود للكلام قائلا بخشونة
"انا لم انهي كلامي بعد ، القرار الثاني لم يعد لكِ صلاحية لقيادة السيارة بنفسك وستسحب ملكية السيارة منكِ ، وقد عينت لكِ سائق خاص سيتولى هو مهمة إيصالك وعودتك للمدرسة بمواعيد محددة ، لكي لا يعاد ما حدث سابقا واكون مطمئن اكثر عليكِ"
عادت للنظر له بصدمة اكبر وبعينين مشدوهتين وهي تهمس بلحظة بعبوس متذمر
"هل تحاول التحكم بحياتي ؟ لم يبقى سوى ان تضع جواسيس من حولي يراقبوني بكل ثانية ودقيقة ! إذا كنت تريد ان تسحب السيارة مني لما جعلتني اتعلم القيادة من الاساس ؟ لما اتعبتني واتعبت نفسك بحصولي على رخصة قيادة ؟ هل فعلت هذا لكي تسحبها بالوقت الذي تشعر به بالخيانة ام عقاب لي ؟"
احتدت ملامحه بتجهم وهو يقول بجفاء صارم
"لا تختبري صبري اكثر يا روميساء ، انتِ على حق لقد اخطأت بفكرة تعليمك القيادة وندمت ، اجل ندمت واريد ان اكفر عن ذنبي ، وهذا ما سيحدث من الآن فأنتِ لن تختلفي عن ضرتك سلوى ، وانا لن اطمئن وارتاح سوى بهذه الطريقة"
حدقت به بعينيها الواسعتين لوهلة بعتاب قاتل قبل ان تردف بمرارة
"انت تضع كل هذه القوانين والاجراءات ذريعة من اجل ان توقفني عن العمل ، لو انك اخترت الطريق الاسهل واوقفتني عن العمل مباشرة افضل لنا من كل هذه الحروب النفسية"
التفت نحوها وهو يصرخ من بين اسنانه بنفاذ صبر
"روميساء كفى قلة ادب ، واسمعي الكلام"
ادارت وجهها للجهة الاخرى وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها الخافق بوجع هامسة بخفوت متصلب
"هذا ليس ندم بل خسارة وانعدام ثقة ، والاختلاف بينهما كبير"
تنهد بتعب وهو يشغل محرك السيارة ليكمل عندها طريقه نحو الوجهة المحددة بصمت اثقل عن السابق ، وما ان وقف امام بناء المدرسة حتى خرجت بسرعة الجالسة بجواره وهي على وشك اغلاق الباب ، ليقول بعدها بصرامة قاطعة بدون النظر لها
"لا تنسي ما اخبرتكِ به يا روميساء ، عليكِ ان تجهزي نفسكِ حتى نهاية هذا الشهر فهذه المدة المتبقية امامك ، وسأرسل لكِ السائق الخاص بوقت مغادرتك من المدرسة ليكون تحت امرتك ، لذا حاذري من مخالفة الأوامر سمعتي يا روميساء !"
حركت كتفيها ببرود وهي تهمس بابتسامة باهتة ظهرت بوضوح الشمس الساطعة بالسماء وهي تداعب محياها
"لن استطيع فعلها فقد شددت الحراسة من حولي ، يعني لم تعد تحتاج لسماع تبريراتي او لكسب ثقتك ، فقد تصرفت بكل شيء حسب منظورك"
حاد بنظراته رغما عنه وهو يلتقط آخر شبح خيالها قبل ان تغلق باب السيارة تحجب صورتها عنه ، ليخفض بعدها جفنيه بتعب وهو يشدد على المقود بيديه يستمد منه الثبات والعزم ، قبل ان يتقدم بجلوسه فجأة وهو يشغل محرك السيارة بآلية قائلا بخفوت مشحون بكبت
"ليس ندم وليس انعدام ثقة بل خوف من خسارتك ، وهناك شتان بينهم جميعا ! فقط لو استطيع حرق ذلك الماضي وكل من فيه لما تساهلت بفعلها"
___________________________
دخلت للمكتب الخاص بها وهي تلوج للداخل بخطوات منكسرة بخذلان رافقها طول طريقها ، وما ان وصلت لخلف المكتب حتى ارتمت جالسة على كرسيها وهي تريح ظهرها بتعب نفسي اكثر منه جسدي ، لتتقدم بجلوسها قليلا وهي تنصب مرفقيها فوق سطح المكتب لتسند جبينها على قبضتيها المضمومتين للحظات ، وهي تشعر لأول مرة بمشاعر سلبية تحيط بها وانعدام الامان والسلام بحياتها اعادتها لحياتها القديمة بمنزل (قيس) والذي كان التشديد والضغط اهم الاساليب التي يمارسها بحياتهما نزعت الاستقرار والسكينة منهما .
افاقت من غفوتها اللحظية على صوت طرق على الباب المفتوح وهي ترفع رأسها بعيدا عن قبضتيها ببطء ، لتظهر لها هوية الطارق والذي كان ما يزال يطرق على الباب بيد ويلوح بالحقيبة بيده الاخرى ، لتبتسم بعدها بشحوب اضاف بعض اللون على محياها وهي تعدل جلستها قائلة بترحاب مرتبك
"اهلا وسهلا بك يا سيد يوسف ، تفضل بالدخول"
دخل (يوسف) بخطوات هادئة بثبات وهو يصل امام المكتب بلحظات ، ليضع بعدها الحقيبة فوق سطح المكتب برفق وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"لقد نسيتِ حقيبتك عندي ليلة البارحة ، لذا قررت جلبها لكِ اليوم فقد تحتاجينها بعملك ، فيبدو بأنكِ لن تتوقفي عن نسيان الاغراض عندي وتكفلي بمهمة تسليمها لكِ ، وانا لا امانع بتولي هذه المهمة"
اومأت برأسها باهتزاز وهي تفرك قبضتيها فوق سطح المكتب هامسة بخفوت ممتن
"شكرا لك على احضارك لحقيبتي ، لقد اتعبتك معي بقدومك كل هذه الطريق فقط من اجل الحقيبة ، وبالواقع كنت افكر بالمرور عليك اليوم لاستلامها من منزلك بنفسي ، ولكن شكرا لك على اراحتي من هذه المهمة"
اومأ (يوسف) برأسه باتزان وهو يقول بابتسامة جادة
"لا بأس فقد كان الأمر يستحق"
نظرت له بعينيها الخضراوين الواسعتين لوهلة قبل ان تخفض نظرها بسرعة بدون ان تعقب على كلامه الاخير ، ليعود بعدها للكلام من جديد وهو يقول بصوت خفيض ببعض التردد
"حسنا كنت اريد ايضا الاطمئنان عليكِ ، فلم استطع التوقف عن التفكير بحالتك بعد مغادرتك المنزل بصحبة زوجك ، وخاصة بأنني المسبب الرئيسي بكل هذه المشاكل التي اختلقتها بينكما ، وإذا كنتِ تريدين يمكنني ان اوضح موقفي مجددا امام زوجك وحل سوء التفاهم بينكما"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي ترفقها بحركة يديها قائلة بتوضيح مبرر
"لا ليس هناك داعي لكل هذا يا سيد يوسف ، وانت لم تذنب بشيء حتى تحمل نفسك المسؤولية ، كل الذي حدث انا المسؤولة الأولى عنه وقد حللت هذا الامر بالفعل وصلح سوء التفاهم ، لذا لا تفكر بالأمر بعد الآن فكل شيء قد اصبح بأفضل حال"
اتسعت ابتسامته برفق وهو يتنفس الصعداء ليردف بعدها براحة
"جيد لقد طمأنتني حقا ، وسعيد بحل الخلاف بينكما على خير ، فأنا لا اسمح لأحد بأن يخطئ بحق معلمتنا اللطيفة"
صنعت ابتسامة ودودة على محياها بمجاملة وهي تهمس بداخلها بخوف وجل
"لو يسمعك احمد الآن فلن يبقى هناك معلمة لطيفة بل قاتل ومقتول"
ارتفع حاجبيها بانتباه ما ان قال الواقف امامها بهدوء متزن
"حسنا لا اريد ان اعطلك اكثر على عملكِ ، اراكِ بعد المدرسة عندما تنتهين من اعمالك لتمري على منزلنا وتكملي دورك كمعلمة....."
قاطعته التي نهضت فجأة حتى اصدرت صرير عالي بالكرسي قبل ان تضم يديها معا بارتباك وهي تهمس بابتسامة متأسفة بحرج
"بخصوص هذا الموضوع فلن استطيع اداء هذه المهمة من الآن وصاعدا ، ولكني سأحاول إرسال التلخيصات والدروس المهمة على رقم هاتفك حتى تحين عودة سامي للمدرسة ، واتمنى ان تعذرني من هذا التغيير الطارئ ولكن الظروف هي التي حكمتني"
انحرفت ابتسامته ببهوت وهو يخفض نظره قائلا بخفوت ساخر
"إذاً فقد تلقيتِ تحذير قاسي وامر بالاستبعاد !"
تلبكت ملامحها اكثر حتى تعرقت مفاصل اصابعها المضمومة لتهمس بعدها بابتسامة مجاملة
"لا تأخذ الامر بعتاب شخصي ، فكل شيء قد حدث بسبب اخفاء هذا الامر حتى وقعت على رأسي ، ولكني سأحلها بنفسي لا تقلق بهذا الشأن"
حرك (يوسف) كتفيه ببساطة وهو يقول بابتسامة جانبية
"لست قلق بهذا الشأن ، ولكني قلق عليكِ انتِ"
فكت عقدة حاجبيها بدهشة وهي تقول من فورها بابتسامة واثقة يشوبها بعض التوتر
"انا بخير جدا ، لا داعي لهذا القلق ، فقد وقعت على رأسي مصائب اكبر من هذا ولم تؤثر بي ، هل سأقلق من هذا الشأن ؟"
اومأ (يوسف) برأسه وهو يقول بابتسامة عميقة
"اجل بالطبع ، اعرف هذا"
عبست زاوية من شفتيها بارتخاء وهي تسدل جفنيها فوق حدقتيها بإرهاق واضح ، وما ان لاحظ حركتها الخاطفة التي اخفت بها علامات ضعفها حتى تنحنح قائلا بتصلب غائم
"حسنا توجب عليّ الذهاب الآن"
ما ان كان على وشك الرحيل حتى اوقفته بهمس خافت بأسى وكأنها تكلم قلبها الحزين
"انا تبقى لي اقل من شهر وانتقل من هذه المدرسة ، يعني بنهاية الفصل الدراسي سأغادر من هذه المدرسة ، اعرف بأنني اجني على قلبي والذي احب كل الطلاب هنا وتعلق بهم ، حتى لا اعرف كيف سأستطيع مفارقة الصغير سامي ، ولكني ارجو منك ان تستطيع الاهتمام به جيدا واعطاءه كل الحنان والرعاية التي يفتقدها ، فهو بحاجة ماسة لوالدين حقيقيين موجودين بحياته"
ابتلع ريقه بارتباك وهو ينظر لها بتركيز مشدود لبرهة ، قبل ان يقول بلحظة باقتضاب
"هل حقا سترحلين ؟"
اومأت (روميساء) برأسها بحزن غزى محياها وهي تهمس بخفوت يائس
"اجل هذا ما سيحدث ، ولكني سأحاول التأقلم مع مدرستي الجديدة كما تأقلمت سابقا ، وإذا احتجت لأي شيء بحياتك او واجهتك اي مشاكل وصعوبة بالتعامل مع ابنك يمكنك التواصل معي"
ادار رأسه جانبا بعد ان مسحت التعابير عن وجهه وهو يقول بهدوء جاف
"اجل ممكن ، اعتني بنفسكِ جيدا وبطفلك القادم ، واتمنى لكِ كل التوفيق بحياتك واينما وجهت نفسك"
ردت عليه (روميساء) بسرعة بروح ارهقت من الصميم
"لم يعد هناك طفل يا يوسف ، لقد مات ! توقف عن قول طفلك ! فهو لم يعد له وجود"
نظر لها بصدمة وهو يحاول تعديل كلامه قائلا لها بأسف شديد
"اعتذر يا روميساء ، لم اكن اعرف ، اعتذر مجددا"
اسندت يديها على سطح المكتب وهي تنشج بأنفاسها بحسرة علقت بغصتها القديمة التي لا خلاص لها ، لتهمس بعدها بخفوت موجز
"لا بأس ، لا بأس بذلك ، توجب عليّ العودة للعمل الآن ، وشكرا لك على مرورك"
اومأ برأسه بهدوء جامد وهو يأخذ وقته بتأملها عن كثب لآخر مرة ، قبل ان يستدير بعيدا عنها قائلا بهدوء عملي
"وداعا يا معلمة روميساء ، سأوصل سلامك لسامي وعدم مقدرتك على المجيئ ، وسنحاول تدبر امرنا بدونك"
رفعت رأسها ببطء وهي تحدق بمكانه الفارغ لتقبض على يديها بقوة قاهرة ، قبل ان ترمي بنفسها على الكرسي خلفها بانهيار جزئي وهي تدس خصلاتها خلف اذنيها بقوة ، لتتمتم بعدها بلحظات بإرادة مسلوبة
"لن اسمح له بأن يفقدني إرادتي ويقيد حريتي ، لن اسمح له بذلك"
دلكت على ذراعيها لا شعوريا بألم بصماته التي حرقت جلدها ونخرت عظامها حتى وصلت وريد فؤادها ، وهي تشعر بالأحمال التي هدتها لسنوات تثقل عليها بحمل يوازي حياتها بأكملها وسنوات عمرها السادسة والعشرون .
______________________________
كانت جالسة بسيارة الاجرة وهي تريح جانب رأسها على زجاج النافذة شاردة بالعالم من حولها ، وهي ترى العالم لأول مرة بنظرة مجردة من المشاعر تكسوها طبقة جليد جمدت اوردة قلبها واعمت بصيرتها بالكامل وكأنها تقدم روحها وتستغني عن قلبها فدى الحب ، ولا تعلم إذا كان ما تفعله وتسلكه طريقا هو الصحيح وعين الصواب ، ولكن ما تعرفه اكثر شيء ويدفعها لتقديم مثل هذه التضحية الكبيرة بأنها ستحمي آخر ما تبقى من ذكريات حبها اليتيمة والتي توارت فوق سحابة احلامها وحلقت ، واي شيء سيحدث بعدها لن يهمها بعد الآن بما انها قد اتخذت قرارها وتحملت مسؤولية افعالها والتي حصدتها بنفسها ، ولم تأخذ رأي احد بقرارها المصيري ما عدا (معتز) والذي افضت له بسرها بعد ان قتلها من الكتمان الطويل وخاصة بأنه الوحيد والذي تحتاج لدعمه بهذا القرار كما كان يساندها قبلا بكل قراراتها .
اغمضت عينيها ببطء شديد وهي تأسر دموع خائنة عادت لتتسرب من مقلتيها بخنوع بعد ان سكبتها على وسادتها طيلة الليلة الفائتة ، وهي ما تزال تتذكر صمت شقيقها الاصغر والتي كانت ردة فعله الاولية على كلامها والذي اخرجت به بكل ما يعتمل بصدرها من تهديد وابتزاز وصور وضغط بدون ذكر امر مقطع الفيديو ، وبعد عدة لحظات من الصمت الخانق لم ينطق بعدها سوى بكلام معدود تحفظه جيدا حملها كل اللوم والعتاب وعبء جديد على قلبها
(انتِ من جلبت كل هذا لنفسك ، لذا تحملي نتائج عدم الإصغاء لي)
تنهدت بإرهاق وهي تستغفر ربها بكل دقيقة وثانية بقلب وجل اثقل بالهموم والندبات ، لتفيق بعدها على صوت السائق وهو يقول لها بمهنية
"لقد وصلنا يا آنسة"
فتحت عينيها بهدوء وهي تبعد رأسها عن النافذة لتهمس بعدها بخفوت
"اعتذر لقد شردت قليلا"
اخرجت نقود الاجرة من حقيبتها وهي تمدها للسائق امامها قبل ان تخرج من السيارة بأكملها ، رفعت نظراتها للشركة الصامدة امامها وهي تستعد لسحق كل شيء بداخلها والمضي قدما ، ولم تشعر بخطواتها الثابتة وهي تشق طريقها لداخل الشركة بدون اي ذرة شعور او تفكير .
بعدها بدقائق كانت تقف امام المكتب والذي يستند على حافته صاحب الابتسامة المنتصرة والتي تجلت بوضوح على محياه وهو ينظر لها بترقب مستعر بات قريبا ، ليقطع بعدها الصمت وهو يكتف ذراعيه بتصلب قائلا باستمتاع واضح
"اجل هيا تكلمي ، انا اسمعكِ"
ابتلعت ريقها بغصة حارة صهرت روحها وختمت عليها وهي تهمس بطبيعية تحسد عليها
"لقد اتخذت قراري النهائي واتيت لأخبرك به"
اومأ برأسه بإنصات شديد وهو يقول بابتسامة جانبية بانتشاء
"حسنا وما هو قرارك ؟"
اخذت عدة انفاس مجهدة زادت الخفقات بصدرها والطنين الموجع بأذنيها وكأنها تنبيهات غريزية لما ستقدم عليه ، لتخفض نظراتها بشعور بالاستصغار تمكن منها وهي تهمس بخفوت مرير وكأنها تقدم عنقها لحبل المشنقة
"انا موافقة على قرار الارتباط بشرط ان يتم حذف كل تلك الصور والمقاطع عني وعن اوس بدون ان يفتضح شيء منها"
اتسعت ابتسامته بشكل مختلف وهو يستقيم بوقوفه بلحظة ليفرد بعدها ذراعيه على جانبيه وهو يقول بسعادة كبيرة
"انتِ فقط اقبلي بهذا الرباط وانا اعدكِ بأن احميكِ واحمي ذلك المجرم بكل قوتي ، وما دمت ستكونين بصفي فلن تكوني خاسرة ابدا ، وتأكدي بأن كل من يربطك به علاقة لن يضر ولن يضام بحياته وسيتكفل عمير بكل هذا شخصياً"
امتعضت ملامحها بصمت وهي تشدد على يديها تعصرهما بعجز قاهر ، ليتابع كلامه بلحظات وهو يتقدم نحوها عدة خطوات واثقة
"حسنا بخصوص موضوع الارتباط ، كيف تريدين ان يحدث ؟ يعني تريدين ان يحدث كل شيء بسرعة ام تريدين فترة تعارف واستعداد !....."
قاطعته (سيدرا) فجأة بكفها التي ارتفعت امامه لكي توقف تقدمه وهي تقول بحزم جاد
"لم انهي كلامي بعد يا سيد عمير ، لذا هلا التزمت حدودك حتى انتهي من كلامي الذي جئت لقوله ؟"
حرك (عمير) كتفيه ببساطة وهو يعود ادراجه قائلا بهدوء مسترخي
"كما تشائين تابعي كلامكِ ، فنحن لن نتحرك من هنا حتى يكون كلا الطرفين راضيين"
قبضت على كفها وهي تخفضها بقوة لتقول بعدها بهدوء صارم تلبسها بلحظة
"بشأن موضوع القرار الذي اتخذته ، فنحن لن نخطو اي خطوة حتى انتهاء الشهر الحالي ، فأنا سأكون مشغولة جدا بفحوصات والدتي بهذه الفترة الهامة والتي ستستمر حتى نهاية الشهر ، لذا ارجو منك الانتظار حتى انقضاء هذه الفترة وتفهم وضعي الحالي"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يسند جسده على حافة المكتب قائلا بتفكير ساخر
"يعني تقولين زواج تحت وقف التنفيذ !"
زمت (سيدرا) شفتيها ببؤس وهي تقول ببرود قاتم
"لا تهمني مسمياتك والتي تطلقها على هذا الارتباط الوهمي ، فأنا قد اخبرتك بما لدي وانت عليك اما بالموافقة او الرفض لنعيد التفكير بصحة هذا الارتباط"
اختفت ابتسامته بهدوء لوهلة قبل ان يتمتم بجمود مريب
"وماذا يضمن لي بأنكِ لا تفعلين هذا لكسب الوقت لتستطيعي الافلات مني ؟ او قد يكون للاتفاق مع حبيبك المجرم لكي تقتلوني وتمحوا كل الادلة بحوزتي ! فهذا ليس بعيدا عنه من قتل رجل بدون ان يرف له جفن......"
قاطعته (سيدرا) بسرعة وهي تنظر له بعيون تقدح شرارا بحريق صامت
"توقف عن هذه الاتهامات المجحفة بحقنا ، لقد اخبرتك بقراري وبدون اي تراجع وسأدفع ثمن كل شيء وارضخ لك ، ومع ذلك لا تريد ان تصدقني وترفض تنفيذ طلباتي والتي تكون اقل حقوقي ، هل تستمتع حقا بلعبة إذلالي واللعب بحياتي بكل الوسائل المتاحة وبالأدلة التي تملكها ؟"
استقام بمكانه بسرعة وهو يلوح بيديه بروية قائلا بهدوء مستفز
"اهدئي يا سيدرا ، انا قلت هذا الكلام من خوفي عليكِ من النتائج لو حاولت الغدر بي ، فأنا لا اسامح ابدا الغدر او الخيانة لمن اعطيته كل ثقتي وجعلته شريك حياتي ، وهذا كان مجرد تحذير من اجل ان اضمن نفسي وليس هدفه التقليل من شأنك......"
لوحت بقبضتها بالهواء وهي تقول بانفعال فقدت السيطرة عليه
"عن اي خيانة وغدر تتكلم ! وانا الآن مقيدة اليدين ومعقودة اللسان بعد ان حكمت على حياتي بالموت بدون ان يكون بيدي شيء افعله ، وبعد كل هذا تتوقع مني ان اغدر بك وانت تملك كل تلك الادلة الابتزازية والتي ربطتني بها وحولتني لدمية خشبية معقودة الحبال بين يديك ! كيف تفكر انت ؟!"
اقترب (عمير) منها عدة خطوات وهو يمد يديه نحوها قائلا بصوت خفيض بفحيح
"لا بأس يا سيدرا ، انا اتفهم موقفك جيدا ، وهل هناك احد يفهمك اكثر مني ؟"
صرخت فجأة بعنف وهي تتراجع بعيدا عنه وكأنها اصابتها لسعة كهرباء
"إياك وان تقترب مني خطوة اخرى ، لكي لا نندم كلينا على هذا"
ردّ عليها (عمير) بملامح متلبدة وهو يتراجع خطوتين
"حسنا يا فتاتي لن اقترب منكِ بالوقت الحالي ، وسأعطيكِ وقتكِ للتأقلم مع الوضع الراهن حتى نعلن عن الرباط الرسمي ، ويمكنكِ استغلال هذا الشهر بالاستعداد جيدا للتهيئة نفسيا وبدنيا وستكون فترة تعارف بيننا ستكشف لنا كل ما هو مستور ، أليس كذلك ؟"
اشاحت بوجهها جانبا بجمود اكتسح محياها لتقول بعدها بلحظات ببهوت جاف بكبت
"وايضا هناك طلب آخر ، هل تستطيع رفع الحظر عني والذي اقمته على الشركات التي كنت اود العمل عندها ؟ فأنا احتاج للعمل بشدة ؟"
عقد حاجبيه بجمود وهو يفرد ذراعيه من حوله قائلا بابتسامة جانبية بمغزى
"لماذا العمل بعيدا وتستطيعين العمل بشركتي والتي ستبقى ابوابها مفتوحة من اجلك ؟ وهكذا ستكون فرصة للتقرب من بعضنا بفترة خطوبتنا وكسر حاجز الخجل والاهم التجهيز لبناء حياة زوجية سعيدة"
نظرت له بحدة وهي تغتصب ابتسامة من العدم هامسة برجاء بائس
"ارجوك يا سيد عمير اسمح لي بالعمل خارج شركتك"
زفر انفاسه بهدوء وهو يميل للأمام قليلا ليقول لها بابتسامة متسلطة
"لا استطيع رفض الطلب الأول لخطيبتي الجميلة ، لذا سأجبر نفسي على الموافقة بكل رضوخ"
عضت على طرف شفتيها بتشنج وهي تخفض نظرها بحالة انتهاك تجاوز حدود مقدرتها الطبيعية ، لترفع نظرها بسرعة ناحية كفه الممدودة وهو يتبعها بالقول بصوت تغير بخبث
"على الاقل صافحيني لنضع بصمتنا على هذا الاتفاق والذي ابرم بيننا برضا الطرفين"
تنفست بضيق لبرهة وهي تحدق بيده الممدودة مثل كماشة ستقبض على روحها قبل يدها ، لتمدها بعدها بتردد واضح اخذت منها دهور قبل ان تصافحه بكل هدوء وثبات بدون ان تعلم عن النيران التي اضرمتها بسبيل حماية المجرم والذي وقعت بحبه يوما .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن