كانت تتناول الطعام من الطبق بهدوء وهي تدس اللقمة بفمها بصعوبة تكاد تغص بطعامها ، وليس بسبب التجمع المكتظ من حولها بجلسة الطعام العائلية بوقت الغداء ، بل بسبب وجود الجالس بجوارها والذي لا يتوقف عن النظر لها وكأنه لا يوجد احد سواها بالجلسة ، بدون ان يعلم بالكوارث والتي يسببها لها وهي تشعر باختناق بكل لقمة تدخل لمسلك تنفسها وبمهمة البلع التي اصبحت عسيرة عليها ، وهي تشعر لأول مرة بانعدام راحة وانتفاخ بقلبها بوجوده بجانبها بأول زيارة له بعد عقد قرانهما والتي تحددت بدون علمها مثل كل شيء يحدث من وراء ظهرها ، وعندما يحين موعدها يخبرونها بالأمر مثل فعل الواجب وكأنها تتلقى دعوة بالحضور ، وكم تتمنى لو بقيت علاقتهما رسمية بالرسائل الهاتفية فقط بدون زيارات ومناسبات اجتماعية حتى يحين موعد الزفاف المرتقب .
مدت يدها وهي تحاول الوصول لأبريق العصير لتسبقها الكف التي امسكت بالأبريق عنها ، ليسكب بعدها بالكأس امامها بحرص قبل ان يقدمها لها قائلا بابتسامة ساحرة
"هل كنتِ تريدين شرب العصير ؟ إذا كنتِ تحتاجين لشيء آخر اخبريني !"
ابتلعت اللقمة العالقة بحلقها بسرعة حتى سببت لها الفُواق بشهيق مستمر وهو يهز جسدها بقوة اكبر بدون ان تستطيع كتمه ، لترفع كفها بسرعة تحاول اخذ الكأس قبل ان يتجاهل كفها الممدودة وهو يقرب طرف الكأس من شفتيها بطريقة حميمية ، لتشرب العصير من طرف الكأس برشفات صغيرة حتى تأكدت من ذهاب الفُواق تماما ، وما ان رفعت كفيها تحاوط الكأس بدون ان يتخلى عنها حتى همس لها بصوت خفيض لطيف
"هل انتِ بخير ؟ هل ذهب الفُواق ؟"
اومأت برأسها ببطء محرج وهي ما تزال تشرب من الكأس تداري بها خجلها ، ليخترق حوارهما الصامت الصوت المرتاح وهي تقول بسعادة غامرة
"هل انتهى حوار الاحباء ؟ فأنا ارى بأنكم قد نسيتم وجودنا تماما من حولكم ! إذا اردتما يمكنكما إكمال حواركما بغرفة الجلوس وحدكما بدون إزعاج من احد"
سحب يده بسرعة وهي تخفض الكأس عن شفتيها لتضعها على طرف الطاولة بمفاصل متخدرة ، ليقول بعدها الجالس على رأس المائدة وهو يعلق على كلام زوجته بعتاب
"ما كان عليكِ قول هذا الكلام يا جويرية ، لقد سببتِ لهما الإحراج والارتباك ، اتركيهما يفعلان ما يحلو لهما فهما ما يزالان مخطوبان حديثا ، ويحتاجان لبعض الوقت المنفرد للتأقلم مع بعضهما والاعتياد على حياتهما سويا ، لا داعي للخجل يا اولاد خذا راحتكما واعتبرونا غير موجودين بينكم"
امتقعت ملامح (غزل) وهي تخفض وجهها بخجل يكاد يفجر الدماء بأوردتها بشعور لم ينتابها يوما بحياتها ، بينما قال (هشام) بابتسامة متزنة بهدوء
"هذا من لطفك يا عمي رأفت ، وسعيد جدا بحضور جلسة الغداء بينكم ، ومشاركتكم بهذه المأدبة العائلية"
اتسعت ابتسامته بتغضن وهو يقول بصوت بشوش مرحب
"ونحن سعداء بحضورك بيننا وانضمام فرد جديد لعائلتنا ، فقد كان ينقصنا استاذ محترم ونبيل ويتحلى بأخلاق حميدة مثلك ليحصل على يد ابنتي الغالية ، فهذه ابنتي الصغيرة والتي من المستحيل ان افرط بها مع اي احد ، وانت لست اي احد يا استاذ هشام"
كانت (غزل) شاردة بعيدا بحالة وجوم غزى محياها بلحظة على اثر كلمات والدها الاخيرة بدون اي تعابير او تقاسيم تسكنها وكأنها لوح صوان ، لتعقب والدتها على كلامه وهي تقول بابتسامة واثقة بمغزى
"لو تعلم مدى سعادتنا بوجودك بيننا يا ابني هشام ، فقد كنا نتمنى دوما وندعو الحصول على صهر مثلك زوجاً لابنتنا ، فنحن لا نتمنى لبناتنا سوى الأفضل والذي يلائم مستوى ابنتنا فكرياً واجتماعياً ومادياً ، وانت افضل خيار قد حصدته عائلتنا من بين الخيارات الكثيرة التي مرت عليها"
نظرت لها بعيون عسلية حزينة وهي تفهم جيدا مرادها من كلامها وما يوحي له وهي تصيب المرمى بنجاح ، لتقبض بعدها على كفيها بقوة ما ان قال الجالس بجوارها بهدوء رسمي بدون اي تأثر
"على الرحب والسعة يا عمتي جويرية ، واعدكِ ألا تندمي على هذا الاختيار ، فأنا من الآن سأضع ابنتكِ بين عينيّ واحفظها بداخل قلبي والذي لن اسمح لها بالتسرب منه"
ردت عليه والدتها بسرور مبتهج
"وهذا هو المتوقع منك يا استاذ هشام ، لذا نحن مطمئنين بتسليم ابنتنا لك لأننا نعرف بأنك ستحفظها وتصونها جيدا"
اومأ برأسه بهدوء وهو يحيد بنظراته للساكنة بمكانها تتناول طعامها بآلية صامتة بدون ان تتفوه بحرف ، وبعد لحظات من الصمت الخانق قطعها الطفل الصغير وهو يشارك بالحديث لأول مرة
"سيد هشام ، سيد هشام متى ستتزوج وتأخذ غزل معك ؟"
نظر له (هشام) وهو يبتسم بعطف حنون ذكره بأولاد شقيقته ليقول له بهدوء
"بنهاية الشهر بإذن لها"
صفق الطفل بيديه بشكل مفاجئ لفت الانظار نحوه وهو يقول بحماس مبالغ به
"واخيرا لقد اقتربت اللحظة التي يفرغ بها المنزل من شقيقاتي لأبقى وحدي به ! يا لسعادتي ! متشوق لقدوم تلك اللحظة"
نظر له جميع الجالسين حول المائدة بصدمة قبل ان تهمس والدته بجانبه بتأنيب خافت
"اخرس يا يامن ، وإياك والتكلم بوقاحة امام زوج شقيقتك"
تجاهلها الطفل المبتهج وهو يتابع هتافه بسعادة كبيرة وهو يعطي كل انتباهه للرجل الذي سمرته الصدمة
"هل تعلم يا سيد هشام ؟ لقد ظننت بأن غزل لن تتزوج بحياتها لأن امي تقول دائما بأنها ستبقى تعيش معنا حتى مماتنا ولن يقبل احد بالزواج بعليلة القلب والعقل ، ولكن يبدو بأنها كانت مخطئة فقد قبلت انت بها وستتزوجها بنهاية الشهر ، صحيح ؟"
غيم الصمت من حولهم بحلقة مفرغة للحظات طويلة بدون ان يبادر احد بقطع سيل المشاعر المشحونة التي اقتحمت اجواء الغداء العائلي ، بينما الوحيدة التي تكلمت هي والدة الطفل والتي كانت ترمق ابنها بنظرات حارقة ستوديه قتيلا
"حسابك معي سيكون عسيرا يا ابو لسانين"
تحركت (غزل) ببطء وهي تنهض عن المقعد بصمت مهيب احاط بينهم ، لتهمس بعدها بصوت خافت يكاد لا يسمع
"الحمد لله لقد شبعت ، عن إذنكم"
وما ان تحركت قليلا حتى قصف صوت والدتها بصرامة اندفاعية
"إلى اين تخالين نفسكِ ذاهبة ؟"
سكنت بمكانها لوهلة بدون حركة اخرى قبل ان ينهض المجاور لها عن مقعده وهو يقول بهدوء
"انتظري يا غزل ، انا قادم معكِ"
نظرت له بأطراف حدقتيها بدون تعبير وهو يقول لهم بامتنان
"شكرا لكم على الغداء الطيب ، سلمت الايادي ، سنذهب الآن للحصول على الوقت المنفرد لنا بغرفة الجلوس ، وهذا إذا كنتم تسمحون لنا !"
اومأ (رأفت) برأسه بموافقة وهو يفرد ذراعه له قائلا بحبور
"اجل تفضلا خذا راحتكما ، والخادمة ستلحق بكما بالقهوة والتحلية"
اومأ (هشام) برأسه بهدوء وهو يقف بجوارها ليمسك بعدها بكفها الصغيرة بقوة قائلا بعمق
"هل نذهب يا غزل ؟"
ارتجفت ملامحها بشحوب وهي تسحب كفها بقوة لتسير بسرعة بعيدا عنه لخارج قاعة الطعام بدون ان تأبه بأحد ، وبلحظات كان يلحقها كذلك امام اعينهم حتى اختفوا خلف الباب ، لتعلق بعدها التي كتفت ذراعيها فوق صدرها وهي تقول بسخط واضح
"ما بالها تلك البلهاء ؟ إذا استمرت هكذا فسوف يضيع الرجل منا ! هل تظن الأمر لعبة حتى تتصرف بكل هذا الاستهتار واللامبالاة ؟"
نظر لها زوجها بعيون حادة وهو يقول بجمود اخرجته عن صورته الرزينة
"ما بالكِ انتِ على الفتاة ؟ ألم اخبركِ مئة مرة ان تتركيها تقرر حياتها بنفسها ! ومع الوقت ستتأقلم لوحدها مع الوضع الجديد وتتعايش مع الحياة المقبلة عليها ، لذا توقفي عن التدخل بأمورها واتركيها تحل عقدها الشخصية بنفسها"
ادارت وجهها بعيدا عنه وهو يتابع كلامه والذي توجه للطفل هذه المرة
"وانت يا يامن ، قلتها لك ولن اعيدها مجددا ، كلام فارغ وثرثرة كثيرة امام زوجات شقيقتيك ممنوع ، وإذا رأيت قلة ادب واحترام بجلسات العائلة مرة اخرى فلن امررها لك كما بالسابق ، مفهوم !"
تبرمت شفتيه وهو يهمس بعبوس وكأنه يتلقى توبيخ لأول مرة بحياته
"انا لم اخطئ بالكلام ، لقد كنت اقول الحقيقة وما سمعته بأذني ، ولم اذنب معهم حتى تكلمني هكذا"
ردّ عليه والده بنبرة اكثر صرامة بها بعض القسوة
"لا تجادل يا يامن ، لقد سألتك مفهوم ما قلته ؟"
اومأ برأسه للأسفل بإحباط وهو يقول بعبوس حانق
"مفهوم يا ابي"
نهض بعدها عن الكرسي وهو يغادر لخارج المكان بلمح البصر ، لتقول بعدها والدته بحزن على ابنها الصغير
"لماذا فعلت هذا يا رأفت ؟ لقد كسرت خاطر الصغير ! ما كان عليك توبيخه هكذا......"
قاطعها وهو يغير الموضوع بنبرة جادة
"اتركيني من غزل ويامن الآن ، واخبريني كيف هي احوال سلوى وزوجها ؟ فأنا لم اسمع عنها اخبار منذ مدة !"
ابتسمت بهدوء مضطرب وهي تفرك قبضتيها معا هامسة بخفوت مبتهج
"انها بخير ، وكل امورها على افضل ما يرام ، لقد تكلمت معها منذ يومين وطمأنتني بأنها بخير ، حتى انها بدأت تتعايش مع ضرتها وتتأقلم مع وضعها الراهن ، ولم يعد هناك اي مشاكل تحدث بينها وبين زوجها"
تنهد براحة وهو يقول بابتسامة هادئة بأبوية
"هذا جيد ، لقد ارحتني بهذه الاخبار ، واخيرا بدأت تضع عقلها برأسها وتفكر بعقلانية ورشد يناسب عمرها"
كانت تراقبه بابتسامة عصيبة تعبت برسمها بدون ان تشاركه القلق والخوف والذي اصبح محصور حول ابنتها الكبرى ، بعد ان انقطعت الاتصالات بينهما منذ اخبارها عن شكوك شقيقة ضرتها حولها وبتهمة قتلها لذلك الطفل والذي يبدو لن يتركهما بحالهما وسيبقى يهدد حياة ابنتها والتي اصبحت تضعف تدريجيا امام كل هذه التأثيرات ، وكل ما تتمناه ألا ترتكب تهور جديد وتتعلق بذنب آخر سيقضي على ما تبقى من سلام حياتها ويكون اوان النجاة قد فات .
______________________________
دخلت للغرفة وهي تقف بمنتصف الطريق ما ان قصف الصوت من خلفها بنبرة صلبة
"توقفي بمكانكِ يا غزل"
عضت على طرف شفتيها بقنوط وهي تستمع لصوت خطواته التي اصبحت خلفها ، لتضم بعدها يديها عند صدرها بارتباك وهي تهمس بخفوت واهي
"ماذا تريد مني يا هشام ؟ ألم تكتفي من كل المشاهد التي حدثت حول مائدة الغداء العائلية ! لما تصرون على تعريضي لكل هذه المواقف المحرجة ؟"
مرت لحظات قصيرة قبل ان يصلها صوته بهدوء ثقيل
"استديري يا غزل"
شددت على كفيها بممانعة بدون ان ترضخ له ، لتشعر بعدها بكفيه تحطان على كتفيها وهو يقول بنبرة اكثر رقة سحرتها بلحظة
"ألم اخبركِ ان تستديري يا غزل ! هيا استديري امامي"
فكت اسر جمود كفيها ما ان خارت قواها وهي تستدير ببطء مع حركة كفيه القويتين حتى اصبحت مقابلة له تماما ، وما ان رفعت حدقتيها النديتين حتى تقابلت مع عينيه الجليديتين واللتين لانتا مع ارتخاء تقوس ابتسامته بعطف واضح اقرب للشفقة ، ليمسح بعدها على رأسها وكأنه يداعب طفلة قائلا ببطء متمهل
"هل انتِ منزعجة ؟ هل تحاولين كبت بكائك ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تنزع نفسها بعيدا عنه هامسة باضطراب طفولي
"انت تتوهم ذلك ، وانا لست منزعجة من شيء ، لذا توقف عن النظر لي بهذه الطريقة المثيرة للشفقة ! فأنا لا احتاج لشفقتك !"
تجمدت ملامحه لوهلة قبل ان يرفع يديه وهو يعود ليمسك بكتفيها الهشتين بصمت ، ليسحبها بعدها بالقرب منه وهو يقول بابتسامة حانية
"اقتربي مني"
وقفت على بعد خطوة منه وهي تخفض نظراتها منتظرة حكمه التالي ، ليداعب بعدها كتفيها بأصابعه وهو يقول برفق شديد
"اهدئي يا غزل ، لم اكن اعلم بأنكِ بكل هذه الدرجة من الحساسية والهشاشة جراء هذه المواقف العابرة !"
ابتلعت ريقها بغصة نحرت روحها وهي تهمس بمرارة لاذعة
"ماذا تعني بذلك الكلام ؟ ألا يستحق امثالي البكاء او الحزن او الشعور بالانكسار والمهانة ! هل تظنني مصنوعة من ألواح جليدية لا اشعر ولا اتحسس من كل كلمة عابرة ؟ انا انسانة بالنهاية مهما اختلفت الطبقات ونوعيات البشر ، انا انسانة احزن وابكي واموت واحترق ، انا انسانة حتى لو كنت بقلب ميت ومريض ، انا انسانة و يا ليتني لم اكن كذلك"
سرت رعشة خاطفة على طول جسدها ما ان ضربت انفاسه عند اذنها بحرارة وهو يهمس بفتور اقرب للمواساة
"سامحيني يا اميرتي الصغيرة على هذا الخطأ الفظيع ، فقد استخفيت بمشاعرك المرهفة بطريقة مهينة لا تغتفر ، فأنتِ بالنهاية ذات قلب كبير يميل ويرق لكل من تهوى نفسه ويجرح من كل من يخطأ او يسيء بحق نجوى قلبها"
شحبت ملامحها بصورة مخزية وهي تدير وجهها جانبا تتحاشى حريق انفاسه ، لتهمس بعدها بخفوت مشتت غير واعي
"لا بأس انا بخير ، لا داعي للأسف والحزن من شيء ، انت لم تخطأ بحق احد ، فقط تجاهل ما حدث ، واعتذر بشدة إذا كنت قد افسدت عليك الجلسة العائلية فهذا يحدث معي باستمرار ، لذا لا تلقي بالا لهذه الأمور"
تجمدت بمكانها ما ان حاوطت يديه وجهها وهو يرفعه عاليا برفق حاني ، لتشعر بمقاومتها تخونها وهي تتبادل النظر معه بصمت عميق ، ليقول بعدها بابتسامة طفيفة انزرعت على طرف شفتيه
"هل انتِ محرجة من كلام عائلتك ؟ ام محرجة من وجودي بينكم وسماعي ذلك الكلام ! ام انكِ محرجة من شيء آخر يختلف عن هذا وذاك ! هلا اخبرتني بما يعكر مزاجك وكاد يدفعك للبكاء ؟"
تنفست بنشيج من بين شفتيها المرتجفتين وهي تخفض نصف جفنيها بدون ان تتحمل مواجهة نظراته اكثر ، لتحاول بعدها دفع الكلام بكل ما اوتيت من قوة بدون ان تعلم بأنه قد خرج مثل اوتار موسيقى متقطعة
"الأمر بأنه انا ، انا بالحقيقة اتعرض دائما للكثير من المعايرة من عائلتي واقاربي بسبب مرضي ، وقد اعتقدت بأني تأقلمت مع هذا الوضع ولم يعد يؤثر بي ، ولكن شيء قد اختلف الآن فهذا الكلام لم يعد محصور بين دائرة عائلتي بل خرج على اسماعك ايضا ، وانا لا اتحمل فرد آخر يسمع هذه المعايرة او يكون جزء منها او شاهد عليها ، هذا يفوق قدرتي على التحمل ويضايقني بشدة ويزيد من احتمالية انتشاره وتكاثره بدائرة اوسع"
زفرت انفاسها بتعب بعد ان افضت بكل ما يعتمل بصدرها الذي تعبأ على مدار سنوات ، وما هي ألا لحظات حتى انتفض كل جزء بجسدها النحيل والذي حوصر بذراعين قويتين بداخل احضانه وعلى صدره الوسيع بعناق لم تذق مثيل له وهو اقرب للمواساة اكثر منه غاية عاطفية ، لتستمع بعدها لصوته المنخفض بصوت اجش هادر عبث بمشاعرها
"هل هذا الهراء تنطقين به لزوجك ؟ هل تظنين بأن زوجك هذا النوع من الناس الذي سيقبل بمعايرة الناس لزوجته وبأن تعاب بنقطة ضعفها حتى يفعلها هو ويعايرها بنفسه ؟ كيف تفكرين بهذه الاحتمالات المهينة بحقي ؟ فإذا لم تكوني تعرفي فأنا زوجك وشريك حياتك وما يعيبك ويهينك يعود عليّ بالمثل ، لذا إياكِ وان تشعري مجددا بالحرج مني او تخجلي من قول ما يخيفك ويحزنك امامي ، فهذه الحياة إذا كان عليها ان تنجح فمن المفترض ان تبدأ بأنفسنا ونحل كل العوائق التي تحول بيننا ، هل فهمتي الآن يا غزل ؟"
تنهدت ببعض الراحة وهي تومأ برأسها بداخل احضانه بهزة طفيفة وما تسمح لها عنقها المحتجزة ، وهي تهمس بخفوت منكسر بخنوع
"اجل فهمت ، شكرا لك على التوضيح ، لقد رفعت من معنوياتي اكثر مما تتصور ، واعتذر على كوني تشاؤمية منهزمة"
تلبدت ملامحه بغمامة شاردة وهو يبعدها عنه بضع سنتمترات حتى ظهر له وجهها ، ليمسك بعدها بذقنها الصغير وهو يدنو منها على مستوى وجهها ليقول امامه بهدوء باسم
"بما اننا قد تجاوزنا هذا الأمر ، يمكننا الانتقال للخطوة التالية بهذا الاختبار ، لذا هل انتِ مستعدة لخوض هذا الاختبار معي ؟"
ارتفع حاجبيها بعدم فهم وهي تهمس بخفوت باهت
"ماذا تعني ؟......"
خنقت عبارتها بداخل انفاسها التي انحسرت بفعل قبلته والتي اقتنصت شفتيها بقسوة غير معهودة وباندفاع غير مسبوق انهكها ومنع مجرى الهواء من السير بانتظام ، لتتشبث بعدها لا إراديا بأي شيء تلقطه يديها يمدها بالقوة التي خارت فجأة وسرقت الحياة منها ، وهو مستمر بهجومه الكاسح بقبلات توالت على ملامحها الشاحبة بتهافت قبل ان تعود بمسارها لشفتيها واللتين قتلهما تقبيلا بشعلة تكاد تحرقها حية ، وهي تستطيع سماع همسه الشغوف من بين طوفان قبلاته وهو يشن اقوى هجوم على عواطفها المأسورة
"واخيرا جاءت هذه اللحظة ! لقد انتظرتها طويلا"
لم تستطع استيعاب كلمة واحدة وهي تمر على ذهنها المشوش لتخرج بلمح البصر ، وما ان شعرت بذرات مقاومتها تختفي وتضيع حتى بدأت تدفع بصدره بلمسات ضعيفة بتخبطات غير ملموسة وهي تشعر بعقلها يموج بعيدا عن الحاضر ، ولم ينجدها من هذه الدوامة التي كادت تغرق بها سوى الطرق الخافت على الباب الذي اوقف كل شيء بلحظة .
اخذ لحظات وهو يضبط انفاسه الهادرة والتي كانت تضرب وجهيهما سويا بنفس الإيقاع ، ليسحب بعدها كفيه عن وجهها وهو يستقيم بمكانه بدون ان يترك جسدها والذي ما يزال يحتضنه ويحميه من السقوط ، ليدلك بعدها على كتفيها المنحنيين بحركة متوترة وهو يقول بعطف متهدج بأنفاس متسارعة
"غزل هل انتِ بخير ؟ اعتذر يا صغيرتي فقد انجرفت بعواطفي بدون ان انتبه ، يبدو بأنني قد قسوت عليكِ بهذا الاختبار"
مرت لحظات اخرى بسكون الاجواء حولهما لا يقطعها سوى طرق الباب المستمر بدون ان يعطوه انتباها ، لتستعيد جزء من قوتها التي بدأت تبتعد عن احضانه بحذر وهي تفرد كفيها فوق صدره باستناد ، وما ان صنعت مسافة بينهما بعيدا عنه حتى اخفضت كفيها بسرعة وهي تفركهما معا بحالة توتر غريبة او على الارجح بشعور الخزي والمهانة والذي تجلى على وجهها المنتفخ باحمرار ، وكأنها تضربه بشكل غير مباشر بحقيقة وضعها والذي اوقعه بخطأ تصرفه وتهوره الجامح والذي جلب له كل هذه المشاحنات الداخلية .
اشاح بوجهه جانبا وهو يشعر بصدره قد امتلئ بالكثير من الشحنات الكهربائية التي كانت تسير نحو العاطفة قبل ان تبدلها بشحنات سالبة تكاد تقضي على سعادة تلك اللحظات اليتيمة وتحرقه بألسنتها ، ليتغضن بعدها جبينه بضيق وهو يستمع لصوت الطرق الذي لا ينتهي والذي يصر على تعكير افكارهما كما افسد لحظاتهما العاطفية ، وبلحظة كان يندفع امام الباب ليفتحه بقوة مبالغ فيها قبل ان تظهر الخادمة امامه وهي تقدم له صينية تحوي على القهوة والكعك والتي بقيت من خلفهما ، لتقول له بتهذيب شديد
"لقد ارسلني السيد لأحضر لكما القهوة مع التحلية لغرفة الجلوس"
غامت ملامحه بجمود وهو يستلم الصينية منها قائلا باقتضاب
"شكرا لكِ"
اغلق بعدها الباب بمرفقه وهو يتجه مباشرة للطاولة بالمنتصف قبل ان يضع الصينية فوقها ، ليجلس بعدها على الاريكة امام الطاولة وهو يوجه كلامه للساكنة بمكانها قائلا بعملية
"تعالي واشربي كوب من القهوة ، قد تعيد بعض القوة الخائرة لكِ ، وقد تريح قلبك المسكين من السباق الذي خاضه"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تشاهده يسكب القهوة بالكوبين بحركات جامدة ، ليرفع بعدها الكوب الخاص به وهو يقول ببرود جاف
"إذا كنتِ لا تريدين القدوم بسبب وجودي ، فيمكنني ان اغادر من هنا وانتِ استمتعي باحتساء قهوتك"
زمت شفتيها بأنفاس قصيرة ما تزال تسيطر على كيانها بدوامة انهكت قواها ، لتتقدم بعدها ناحيته بخطوات مترددة قبل ان تجلس على الاريكة بجواره وعلى بعد مسافة تعمدت صنعها بينهما ، لتتناول بعدها كوب القهوة بيديها وهي تهمس بخفوت
"شكرا لك"
بينما كان (هشام) مشغول بشرب كوب قهوته بدون ان يلقي نظرة واحدة نحوها وهو يقول بجمود باهت
"على الرحب والسعة"
احتضنت كوب قهوتها بين يديها وهي تشرد بالأدخنة التي تخرج منه لتأخذ من سخونته تدفئ بها نبضات قلبها وتعيد الحياة لبرودة جسدها ، بدون ان يلمس اي منهما طبق الكعك والذي اصبح من الحلويات التي قد تعكر عليهما لحظاتهما المريرة التي آخر ما تحتاج له هو السكر .
_______________________________
دخل للمنزل بخطوات جامدة وهو يشعر بسكون مريب مخيم بالأجواء ، ليقاطع افكاره الهتاف العالي الصادر من المطبخ وهو يصل له بوضوح
"واخيرا عدتِ للمنزل ! لقد اخفتني عليكِ يا ابنتي"
قطب جبينه بجمود اكتسح محياه وهو يشق طريقه نحو المطبخ بخطوات جامدة بدون ان يسمع الهدير الذي جاش بأعماقه ، وما ان وصل عند مصدر الصوت حتى تجمدت اطرافه وهو يقابل المرأة التي كانت توليه ظهرها غير شاعرة بهوية القادم ، وهي تكمل من سيل الصدمات هاتفة بهدوء جاد
"لما اخذتي كل هذا الوقت بالعودة ؟ ألم اخبركِ ألا تتأخري عن العشر دقائق ! هل هكذا تفعلين بي يا ابنتي تدفعيني للخوف عليكِ بكل مرة ؟"
احتدت ملامحه ببطء زحف على تعابير وجهه الحجرية وهو يقول بهدوء غائم
"عن مَن تتكلمين يا امي ؟"
سكنت (هيام) عن الحركة وظهرها مشدود باستقامة طالت بينهما للحظات صامتة ، لتستدير بعدها ببطء مهيب وهي تنظر امامها بوجه شاحب قبل ان تهمس بخفوت مرتبك
"هذا انت يا جواد ! ألم تستطع النطق بأي شيء يخبرني انك هنا ؟ هل انت سعيد بإخافتي هكذا وانا بهذا العمر ؟"
ارتفع حاجبيه باستخفاف وهو يتجول بنظره على تفاصيل ملامحها بنظرات حادة لا تعرف الرحمة ، ليتوقف بعدها عند عينيها المشتتتين واللتين تتعمدان تحاشي النظر له وهو يعيد الكلام بوضوح اكبر
"امي لقد سألتكِ ! عن مَن كنتِ تتكلمين مع نفسك ؟"
ابتلعت ريقها بإجهاد وهي ترفع رأسها بعزيمة مزيفة قائلة بعصبية ساخرة
"ماذا هناك يا جواد ؟ عن ماذا تتكلم ! هل تظنني املك الوقت والعقل السليم والذي ضاع خضم مشاكلكم ليتحمل الآن تسلطك عليّ ؟"
عبست ملامحه وهو يرفع حاجب واحد بحدة الصقر قائلا بهدوء جامد
"امي هل تحاولين التهرب من اسئلتي ؟ او انكِ تتسترين على امر لا يجب ان اعرف عنه ! إذا كان هناك مصيبة تحدث من وراء ظهري فأنا اقسم بأني....."
قاطعته بغضب مفاجئ وهي تنفض ذراعيها بسخط
"لا تقسم يا جواد ! إياك وان تقسم بشيء ! لا تجعلني اغضب عليك مجددا فوق غضبي الحالي عليك"
حرك فكه بقسوة وهو ينطق بجمود هادر
"إذاً ماذا تخفين عني يا امي ؟"
تنفست بتهدج وهي تشتت نظراتها بعيدا بتفكير ضائع ارهق نبضات قلبها على ضناها ، لتتسع مقلتيها السوداوين بوجل ما ان سمعته يقول بتساؤل جاف
"بالمناسبة اين هي صفاء ؟ لما ليست معكِ بالمطبخ ؟ امي......"
صمت عن الكلام ما ان لاحظ حالة والدته والتي انخطف لونها وتاهت نظراتها بخوف واضح ، ليتقدم بعدها عدة خطوات قصيرة وهو يقول بقلق بالغ
"امي هل انتِ بخير ؟"
اومأت برأسها بشحوب وهي تمسح على صدرها بألم حارق ادمى قلبها ، ليتوقف بعدها بتجمد وهو يدرك الوضع الحالي والذي سقط على رأسه بصاعقة ضربت عقله واقتحمته ، ليوجه بعدها نظرات غامضة لوالدته وهو يقول بنبرة متصلبة تغيرت كلياً
"امي اين هي صفاء ؟ لما لا اراها بالجوار !"
نظرت له بسرعة بارتعاش بدون جواب وهي تواجهه بعينين واسعتين لمح الاهتزاز الطفيف بهما ، وهو ما دفع الهياج بالتدفق بعروقه لحافة الخطر ليمسك بذراع والدته بقوة غير واعية وهو يصرخ بصوت ثائر
"امي لما لا تجيبين على اسئلتي ؟ اين هي صفاء ؟ اين اختفت هذه المرة ؟ هل خرجت من المنزل مرة اخرى ؟ هل فعلتها تلك اللعينة بدون علمي مجددا ! وانتِ سمحتي لها ببساطة بدون ان تكلميني ، ولكني لن امررها هذه المرة بدون عقاب ، فليس انا من تستغفلني مرتين على التوالي ، اقسم لكِ ان اسلخ جلدها عن عظمها عندما ألمحها امامي......"
انتفضت بعنف وهي تدفعه بقبضتيها بقوة لتصرخ بغضب اكبر وقبضتها تلوح بالهواء بعصبية
"اصمت يا جواد ، لا اريد سماع صوت او نفس منك ، هل تسمع نفسك ما تقول ؟ هل تعرف حتى الشخص الذي تكلمه بقلة ادب وتمرد ؟ انا لا اسمح لك بأن توجه لي هذه النبرة الهجومية وانت تصرخ بوجهي ! انا ما ازال للآن والدتك ولدي حقوق امومية عليك ، والدتك التي انجبتك وربتك وكبرتك حتى وصلت لهذا العمر ، هل هكذا تكافئني على تعب السنين يا ابني الوحيد ؟"
زفر انفاسه بثورة وهو يزيح عينيه عنها محاولا ضبط جموح نفسه بجذوة روحه ، ليقول بعدها بلحظات ببطء متأني
"امي لم تجيبِ على سؤالي ! اين هي صفاء ؟"
اخفضت ذراعيها على جانبيها بإجهاد وهي تحرك رأسها بتشتت هامسة بأسى حزين
"لا اعرف يا جواد ، اقسم لك لا اعرف اين هي ، لا اعرف"
انفجر فجأة وهو يلوح بذراعه بانفعال هادرا
"إذاً من الذي يعرف ؟"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تترنح بمكانها حتى تعثرت بطرف عباءتها قبل ان تتلقاها ذراعين قويتين وهو يسندها على جسده ، ليجلسها بعدها على كرسي قريب حول المائدة وهو ما يزال يمسك بذراعيها قائلا بهدوء تخلل به الخوف
"امي هل انتِ بخير ؟ هل تسمعيني ؟ رجاءً يا امي اجيبِ"
نزعت ذراعيها بعيدا عن يديه وهي تقول بأنين موجع
"وكيف سأكون بخير وكل هذه المصائب تهطل على رأسي حتى قسمت ظهري ؟ وانت كل ما يشغل بالك هي قصة الانتقام والتي اخذت عقلك ودمرت حياتنا ! وليس ذلك فقط واشركت ايضا فتاة بريئة بهذه القصة لتذوق منك مرارة العذاب والقهر والذي عايشته معك ! والآن كل ما تفعله هو تدمير فتات قلب امك عليك وعلى زوجتك التي رأيت بها ابنتي الراحلة ، هل تستكثر عليّ بعض السعادة والراحة والتي افتقدتها لسنوات ؟ على الاقل انتظر حتى موتي ودفني تحت التراب وبعدها افعل ما تشاء ، قد اكون عندها قد ارتحت من حياتي معك التي لم تعد حياة تعاش"
ابتلع ريقه بغصة حديدية وهو يحاول تهدئة ثورة والدته لينحني بعدها امامها وهو يحكم بالقبض على كفيها المتمردين ، ليقول بعدها بلحظات بصوت خفيض بليونة بدون ان يمنع حشرجة الألم
"امي رجاءً لا تقولي هذا الكلام مجددا ، تعوذي من الشيطان الرجيم واخرجي هذه الافكار من رأسكِ ، فأنا لا اتمنى لكِ سوى كل خير وان تعيشي العمر المديد بصحة وعافية ، وإذا تمنيتِ الموت لنفسكِ او حدث لكِ مكروه فلن اسامح نفسي بحياتي ، ولن اتحمل العيش مع خسارة اخرى ستحرقني حياً وتحولني لرماد ، لن يكون لي حياة بعدها بدونكِ ، وقد اموت......"
قطعت عبارته الاخيرة بكفها التي حررتها من قبضتيه لتكتم على فمه قائلة بصوت منكسر
"لا تقلها يا بني ! لا تؤلم قلبي اكثر بقولها ! يكفيني ما تحملته للآن من موت ابنتي الصغرى وفراق ابني الثاني ، هل تريد ان تفجعني بك ايضا ؟ لقد عانيت بغيابهما الأمرين طول تلك السنوات ولن يكون بمقدوري تحمل سنوات اخرى مع خسارة ابن آخر"
امسك بكفها وهو يقبل ظاهرها برفق قبل ان يقول بهدوء حازم
"هل رأيتِ يا امي ؟ مثلما انتِ لا تستطيعين تحمل ان اقولها وانا ايضا لا اتحملها منكِ ، لذا رجاءً افهمي موقفي يا امي وكفى تعذيباً بنفسكِ ، يكفينا ما فات لا نريد اعادة التجربة من جديد"
ابتسمت بحزن شاحب وهي تحرر كفها الاخرى لتمسح بعدها على رأسه بحنية هامسة بدعاء مرتاح
"الله يحميك ويحفظك لعائلتك ولقلب والدتك يا بني"
اومأ برأسه بهدوء وهو يترك كفها بلحظة ليقول بعدها بتعابير تغيرت بجدية
"والآن اخبريني يا امي اين هي صفاء ؟ هل تعرفين اين هي ! وكيف خرجت من المنزل ؟"
سحبت يدها بعيدا عن رأسه وهي تتنهد بتعب واضح ، لتقول بعدها بجمود متزن تقمصها بلحظة
"لا تنفعل ولا تغضب يا جواد ، فكل ما سأقوله مهم ولا يستدعي ثوراتك المجنونة وانعدام انضباطك بلحظات غضبك الجانح ، وإذا كنت ستغضب من كل كلمة اقولها فلن اخبرك بشيء......."
قاطعها باندفاع وهو يقول من بين اسنانه بنفاذ صبر
"امي ارحميني وقولي ما بجعبتك بدون مقدمات ! لا تشعلي فتيلي اكثر مما انا عليه ، فأنا احاول تهدئة نفسي بصعوبة عن حرق الارض التي هي فيها"
اخذت عدة انفاس بضغط مرهق وهي تخفض نظرها هامسة بهدوء ظاهري بدون ان تخفي المرارة بصوتها
"لقد رجتني كثيرا من اجل الخروج وشراء بعض الحلويات والمقرمشات من الدكانة القريبة منا ، وانا شفقت عليها لأنها كانت تشعر بالاختناق بالجلوس بالمنزل وتريد الخروج قليلا ، وقد سمحت لها بالخروج ولكن بشرط ان تعود بغضون عشر دقائق ، ولكنها قد تأخرت كثيرا ولم تعود بعد انقضاء العشر دقائق كما وعدتني ! اتمنى فقط ألا يكون مكروه قد اصابها"
تلبدت ملامح (جواد) بغيوم ضبابية اسيرة غمرت كيانه وابعدت عنه كل شعور آخر ، لينهض بعدها واقفا ببطء حتى استقر بجمود تمثال رخامي وهو يستوعب حجم المصيبة التي وقعت على رأسه ، ليقول بعدها بذهن مشتت بصوت ممقوت
"كيف سمحتي لها بالخروج يا امي ؟ ألم انبهكِ كثيرا من هذه النقطة من قبل !"
ردت عليه بصوت حزين وهي تكمل طعنه بقوة
"لقد ظننتها ستعود بسرعة ولن تتأخر بما انها ذاهبة للدكانة التي تبعد عن منزلنا بشارعين ، فقد فعلتها من قبل ولم تأخذ كل هذا الوقت بالعودة ، لا اعلم ماذا حصل معها هذه المرة ؟ وماذا اخرها ؟"
شدد على قبضتيه بانقباض احتل احشاءه وهو يقول بصوت ساخر مغدور
"تقولين فعلتها من قبل يا امي ! واين كنت انا عن كل هذا ؟ هل تذكرتني الآن بعد ان حدثت المصيبة ووقع الفأس بالرأس ؟ هل لديكم حتى اعتبار لوجودي بينكم لتفكروا بأخباري بما يحدث معكم وتفعلونه بغيابي ؟"
عبست ملامحها بشحوب وهي ترفع نظراتها له قائلة بخفوت مستجدي
"هل هذا الوقت المناسب لمثل هذا الكلام ؟ لما لا نضع هذه الامور جانبا وتفكر بحل لإيجاد زوجتك ؟ لا داعي لتكبيرها اكثر من حجمها !......"
قاطعها بجمود صخري بأمر قاطع
"كم مر من الوقت على خروجها ؟"
عقدت حاجبيها بتفكير منهك وهي تهمس من فورها بخفوت
"لقد مر تقريبا ثلاثون دقيقة"
نظر لها بصدمة كاسرة ايقظته من غفوته وهو يهمس من بين اسنانه بغضب مكتوم
"ولما لم تخبريني منذ البداية بذلك ؟"
ارتفع حاجبيها بشحوب مرتجف وهي تشاهد الذي غادر من امامها بلمح البصر ، وهي تصرخ من خلفه بصوت منتحب بقهر
"انتظر يا جواد ، اخبرني اولاً بما تفكر بفعله"
زفرت انفاسها بتعب عندما سمعت صوت اغلاق باب المنزل بقوة بدون ان يعطيها جوابها ، لتضم بعدها قبضتيها فوق ركبتيها باستكانة بدون ان تجد القدرة على النهوض عن المقعد ، وهي تدعو بقلب وجل اثقل بالهموم
"يارب احميها وابعد عنها كل شر ومكروه ، واحمي ابني من جنون الانتقام والذي جرفه بعيدا عنا ، فأنت اعلم ما في قلوبنا من خفايا وما في صدورنا من اسرار"
_______________________________
رمشت بعينيها عدة مرات وهي تفيق على اصوات جلبة من حولها شتتت عقلها الذي ما يزال يموج بدائرة الضياع ، وما هي ألا لحظات استيعاب حتى كانت تنتفض شاهقة وهي تنتصب جالسة ما ان قابلها المكان المظلم المتواجدة به والذي اخبرها بأنها قد انحبست بمكان بعيد وكل ما حدث معها لم يكن كابوسا كما توهمت ، وها هي قد نقلت لواقع مظلم اكثر قسوة من كل ما عايشته يظهر بأن الاسوء من حياتها قادم لا محالة بدون ان تدرك للآن بماذا اجرمت ! او بالأحرى ما هي جريمة عائلتها والتي من المؤكد لها علاقة باختطافها وبرؤية الجحيم امامها ؟ وكأنها اذنبت بولادتها بهذه العائلة ؟
اتسعت حدقتيها العسليتين بذعر وهي تشاهد الذي خرج من الجانب المظلم بالغرفة والذي لم تعي لوجوده ألا الآن ، ليقترب بعدها بخطوات واسعة بصمت لها وقع صاخب على دقات قلبها والتي تسارعت فجأة مع كل خطوة تتجه نحوها ، وما ان وقف امامها مباشرة حتى تراجعت تلقائيا للخلف عدة سنتمترات بارتجاف احتل جسدها العقيم وما سمحت لها قوتها الخائرة والتي لم تسعفها .
تجمدت فقرات ظهرها ما ان شعرت ببرودة الجدار من خلفها وقسوته تنخر عظامها ، ولكنها لا تقارن بشكل الرجل الذي ظهر مع الضوء الطفيف القادم من النافذة الصغيرة وهو يبدو من اصحاب السوابق الاجرامية والمنتمي لتلك الفئة والتي تعرفت عليها من شقيقها ، لتبتلع بعدها ريقها بخوف عصر حنجرتها بألم وهو يبادلها النظر بهدوء جليدي .
بعد عدة لحظات نطق الرجل الجامد وهو يقول بهدوء قاتم بدون ان تتبين ملامحه
"هل استيقظتِ ؟ هل تعرفين اين انتِ ؟"
ارتفع حاجبيها البنيين بتشوش احتاج لحظات حتى استوعبت مغزى السؤال ، لتهمس بعدها بالسؤال الوحيد الذي طرأ على ذهنها
"اين انا ؟"
تلونت ملامحه بظلام الغرفة قبل ان ينخفض امامها بلمح البصر حتى وصل لمستواها ، ليتنفس بعدها بجمود وهو يقول بهدوء جاف
"هل تعرفين جحم مصيبتك ؟ هل تعلمين سبب اختطافك وجلبك إلى هنا ؟"
ضمت شفتيها بارتجاف وهي تحرك رأسها بالنفي ببطء شديد ، ليمسك بعدها بخصلة شعر شاردة من عقدتها وهو يقول بابتسامة جامدة
"إذاً دعيني اعرفكِ على السبب والذي جعلكِ تصلين إلى جحرنا ، هل انتِ شقيقة مازن جلال ؟"
انفرجت شفتيها بأنفاس قصيرة بانتحاب وهي تخفض نظرها بعجز شل حركتها ، لتهمس بعدها بخفوت شديد بمرارة
"هو السبب بكل هذا ، وانا مجددا من اتلقى الاضرار !"
اومأ برأسه بأسى تمثيلي وهو يقول ببساطة
"يبدو الأمر كذلك"
شددت على قبضتيها بألم وهي تقاوم رغبة البكاء بدون ان تذرف اي دمعة قبل ان تهمس بنشيج خافت سيطرت عليه بصعوبة
"ماذا فعل هذه المرة ؟"
عقد حاجبيه بجمود وهو يريح كفيه على ركبتيه ليقول بعدها بابتسامة ملتوية بخشونة
"انها قصة قديمة ولكني سأحاول اختصارها لكِ ، شقيقك قد قتل ابنة شقيق رئيس العصابة وبقيت العائلة تضمر له الكثير ، ولكن الرئيس قد قدم له فرصة للنجاة بدفع الثمن بالمال وتغلق القضية ، وانحلت المشكلة بهذا بالاتفاق وانقضت ، وبعد سنوات عاد شقيقك لافتعال المشاكل من جديد والوقوف بوجهنا ، لذا قرر الرئيس تصفية حساباته معه وتسوية الامور باستراتيجية اكثر قسوة ، ولكن ماذا فعل شقيقك المحتال ؟ هرب منا واختفى عن الوجود ، ومن اجل الوصول له نستخدم كل الوسائل الممكنة والمتاحة امامنا ، وعندما نفذت من عندنا الحلول لم يتبقى لنا سوى خطف شقيقته الوحيدة ، وهذا هو ملخص القصة"
رفعت عينيها الواسعتين ببطء حذر وهي تهمس بأهم شيء طرأ على ذهنها المشوش
"الرئيس هو عم جواد وغنوة !"
رفع ذراعيه على جانبيه وهو يقول لها بابتسامة شرسة
"اجل هذا هو ما كنت اتكلم عنه"
لم تستطع ان تطرف بعينيها لثانية وهي تحاول تركيب وفهم كل الحقائق التي سمعتها الآن وبعثرت ما تبقى لديها من كيان وحياة ، لترسم بعدها ابتسامة باهتة حفرت بتقاطيع ملامحها الباكية وهي تهمس مع نفسها بهذيان منكسر
"يا لها من حياة هذه التي اعيشها ! شقيقي قتل ابنتهم ، وابي تبرع بالمال لهم ، وانا اصبحت الكرة التي يركلونها بينهم بدون ان تحدد المرمى الذي ستحرز الهدف به ، فقط لو افهم بماذا اجرمت مع هذه العائلة ؟"
ردّ عليها الذي نسيت امره تماما وهو يقول ببرود
"ربما لأنكِ قبلتي بالزواج بأبن تلك العائلة وبالمقابل قبلتي بأن تكوني الكرة بملعبهم !"
شردت بنظراتها بعيدا وهي تهمس بأنين حزين
"ربما تكون على حق"
رفع حاجبيه باهتمام وهو يستقيم بعيدا عنها قائلا بتصلب جاد
"اسمعي الاخبار الجيدة ، انا قد بدأت العمل لصالح مازن من اجل نقل كل اخبار العصابة له واي محاولة تحايل قد تحيك من حوله ، واما الاخبار السيئة فقد قررت خيانته والطعن بظهره عندما استدعيه لوكر الوحش والذي سيكون مجهز بالفخ من اجل الوقوع به بكل سلاسة ، لذا استمتعي بالإقامة عندنا وشاهدي القادم"
تجمدت ملامحها بشحوب انسحب الدم من عروقها وهي تهمس بخفوت مرتجف هز قلبها حد الألم
"ماذا ستفعلون بشقيقي ؟"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يقول بابتسامة قاسية بشر مطمور
"ستعرفين بالقريب العاجل ، ولا تقلقي لن يفوتك شيء ، ونعدكِ ان تكون ايدينا لينة عليه بقدر المستطاع وفاءً بالقرابة التي تربط بينكِ وبين ابن شقيق الرئيس ، فهو بالنهاية مذنب ويتلقى عقابه ، وهذا هو مصير كل المذنبين"
حركت رأسها لا شعورياً بدموع بدأت تتساقط على شحوب ملامحها وهي تصرخ برجاء منتحب
"لا تفعلوا هذا بأخي ، اتوسل إليكم اتركوه بحال سبيله ، فهو قد اخذ نصيبه بالفعل وحصلوا على حقهم عندما قبلوا بزواجي من عائلة المقتول ، وانا تحملت كل المسؤولية نيابة عن افعاله ، ما لداعي لكل هذا الآن ! متى ستتركون عائلتي وشأنها ؟"
حرك رأسه ببرود وهو يقول بجمود قاتل مجرد من الرحمة
"هذا لا يكفي يا صغيرتي الباكية ، ودموعك لن تشفع عن تصرفات شقيقك والمصير الذي ينتظره ، لذا لا تحاولي التهور او فعل شيء لكي لا تصعبي المهمة علينا وتزيدي من تعذيب شقيقك"
ابتلعت دموعها مع الغصة التي نحرت روحها وهي تحاول الهمس بقوة مبتورة
"ومتى ستفعلون هذا ؟"
ردّ عليها من فوره ببرود جليدي
"عندما يبتلع الطعم ، ستقوده بعدها الصنارة لهذا المكان ويكون اوان الهروب قد فات"
اخفضت رأسها بتعب ارهقها وهي تنشج بأنفاسها ويديها مستندتين على الارض الباردة ، لتستمع بعدها لآخر كلمات خرجت من الشيطان المتجسد امامها وهو يغادر بعيدا
"كوني هادئة حتى يصل اخاكِ ، لكي لا تنضمي له كذلك"
همست بخواء مستجدي بعد ان اغلق باب الغرفة عليها
"ارجوك لا تفعل ، أليس لديكم قلوب حية ؟ أليس لديكم ضمير يأنبكم على افعالكم ؟ الرحمة يا ألهي !"
شهقت ببكاء عالي وهي تستجدي الجدران الصماء من حولها وذرات الغبار من اسفلها علها تسمعها وترحمها افضل من القلوب الحية والتي لا تحمل بداخلها سوى سواد حقد العالم والذي لم تعلم عنه سوى مؤخرا ايقظها من غمامتها ومزق احلامها الوردية .
___________________________
دخلت من الباب الذي فتحه امامها وهي تقف عند مدخل الشقة الصغيرة ، ليسير بعدها الذي دخل من خلفها وهو يحمل اكياس تحوي اطعمة سريعة لوجبة العشاء ، وقبل ان يتجاوزها كان يقول بجانب اذنها بعبوس حانق
"لن اسامحكِ يا محتالة ، لقد جررتنا من خارج المطعم الفاخر والذي يكون من افضل المطاعم بالبلد واحضرتنا لشقة صغيرة ، حقا مدمرة السعادة بجدارة !"
ادارت وجهها نحوه تقابله بنظرات باردة وهي تهمس بابتسامة متراقصة بمكر
"لقد اخبرتك بها من قبل انا لا احب الشكليات او الشعور بأني مراقبة وبمكان تكثر به الضوضاء والبهرجة ، فهذا يجبرني على التصرف بغير طبيعتي ، وانت اعترفت بنفسك بأنك لا تحب تلك الاماكن ، إذاً لما اخذتني لها الآن ؟"
ضم اسنانه بغضب مكتوم وهو يقول بجمود
"من الذي لا يحب هذا النوع من الشكليات بين الازواج ؟ فقط لو افهم اي نوع من النساء انتِ !"
رفعت حاجب واحد بغرور وهي تهمس بنبرة مقلدة ساخرة
"انا فتاة اختلف عن جميع الفتيات اللواتي تعرفهن ، فأنا فتاة عنصرية انتمي لطائفة منفصلة عن الجميع"
زفر انفاسه من بين اسنانه بسخط وهو يقول بدون ان يجاري سخريتها
"هل ترين من الممتع السخرية من عباراتي ؟ لقد اصبحت مشاكسة ومتمردة بالآونة الاخيرة !"
حركت كتفيها بخفة وهي تزيح خصلاتها لخلف اذنها هامسة بتمرد
"هذا خطأك"
رفع رأسه عاليا وكأنه قد تلقى إهانة غير مباشرة بطريقتها المغلفة بصقيع برودها ، لينفض الاكياس من حوله بعنف وهو يغادر من امامها قائلا بقهر
"يا صبر ايوب"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها تكتم ضحكة غادرة تمكنت منها واستقرت بخفقات قلبها المدوية ، لتسير بعدها باتجاه المطبخ بسرعة ما ان اختفى عن نظرها ، وما ان دخلت للمطبخ حتى وجدت شريكها بالعشاء يحضر السفرة بيديه وهو يوزع الاطباق والكؤوس فوق المائدة وكأنه معتاد على فعلها منذ سنوات ، او على الاغلب اعتاد على فعلها بسبب سكنه المنعزل والوحداني بعيد عن منزل العائلة وهذا هو سبب امتلاكه منزلين احداها بداخل المدينة والآخر خارج المدينة .
افاقت من شرودها على صوت الواقف امامها وهو يقول بتذمر
"هل من الممتع مشاهدة زوجك وهو يعمل بدون مد يد العون له ؟"
استندت بكتفها على إطار الباب وهي تهمس بابتسامة لعوبة
"ولكني ارى بأنك تعمل بشكل جميل وانت تقوم بالواجبات الزوجية وحدك ، لقد ابهرتني بالفعل بقدراتك يا زوجي الرائع !"
احتدت ملامحه بلحظة وهو يقول بجمود صارم
"لا اريد سماع المزيد من التعليقات الساخرة ، بما انكِ لن تساعدي بشبر واحد اذهبي للوضوء لأداء الصلاة ، وانا سأوافيكِ بعد ان انتهي بدقائق ، لذا هيا تحركي بسرعة !"
ابتعدت عن إطار الباب وهي تشير بيدها بجانب رأسها بتحية عسكرية هامسة بتسلية
"حاضر يا حضرة الزوج المحترم ، اتمنى لك كل التوفيق والتيسير بمهنتك الموكلة"
ردّ عليها بغضب مكتوم
"ماسة تحركي"
اخفضت كفها وهي تهمس بنبرة مستفزة
"يا صبر ايوب"
تحرك من مكانه باستعداد للافتراس وهو يقول بانفعال حامي
"سأريكِ ما هو الصبر !"
انطلقت بسرعة ضاحكة بعيدا عن المطبخ وصوتها يرن بأنحاء الشقة الصغيرة ، ليتوقف بعدها ببطء وهو يتنفس بغضب هادر هامسا من بين اسنانه بابتسامة مشدودة
"مجنونة"
بعدها بدقائق كانا يجلسان حول المائدة المجهزة بأصناف الاطعمة السريعة ، ليقول بعدها صاحب الملامح الجامدة وهو مشغول بكسب المشروب الغازي بالكأس
"هل انتِ سعيدة يا مفسدة السعادة والبهجة ؟ بعد ان حرمتنا من عيش الامسية الراقية التي كنت اصبو إليها !"
ابتسمت بهدوء وهي تلوك لقمة الطعام بفمها باستمتاع لتهمس بعدها بهدوء لطيف
"هل ما تزال تشعر بالإحباط بسبب هذا الأمر ؟"
رفع كأس المشروب عند طرف شفتيه وهو يقول بجمود غائم
"ولماذا لا اشعر بذلك ؟ عندما تفسد خطتي والتي كنت اجهز لها بقضاء ليلتنا الساحرة مثل اي زوجين طبيعيين ! وعندما نضطر للمكوث بشقة صغيرة نتناول مأكولات سريعة لا تسمن ولا تشبع من جوع ! وعندما نخسر وليمة فاخرة بأفضل مطاعم البلد مع اضواء واجواء مناسبة تسحر القلب وتذهب العقل ! وبعد كل ذلك لا تريد مني ان احبط او اغضب عندما قلبتي يومنا رأساً على عقب بتصرفاتك اللاعقلانية ، على الاقل اجعلي يومنا هذا ينتهي بسلام كما اردت تماما"
زمت شفتيها بوجوم وهي تهمس بخفوت ممتعض
"ماذا تقصد بتصرفات غير عقلانية ؟ هل هذا ما تراه حقا ؟"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يقول باستنكار عابس
"هل هذا ما استطعتِ التقاطه من كلامي ؟ وماذا عن باقي الموشح التذمري الذي كنت اسرده عليكِ ! هل طار بالأفق البعيد مثل كل شيء اقوله لكِ ؟"
لعقت طرف شفتيها بصمت وهي تكمل تناول قطعة البيتزا بيدها بتجاهل متعمد ، ليكمل بعدها شرب الكأس بيده برشفة واحدة حتى اثارت السعال القوي وهي تكاد تُخرج الغازات من انفه ، لتقول بعدها التي كانت تراقبه بتوجس واضح
"هل انت بخير يا شادي ؟ هل هكذا يشرب الشخص الطبيعي مشروبه ؟ فهذه مشروبات غازية وليست شربة ماء !"
نظر لها بعيون تقدح شرارا وهو يقول بصوت قاطع
"انشغلي بنفسكِ يا ماسة ، ولا تحاولي مساعدتي ، فأنتِ لا تنفعين لهذه الأمور ، لقد تركنا لكِ امتهان السخرية فهي تناسبك اكثر"
حركت عينيها بعيدا بدون ان تظهر الألم بهما وهي تهمس باستياء
"لما تتكلم معي هكذا ؟ بماذا اخطئت ؟ لقد اخبرتك بأني سعيدة هكذا ، ألم تكن تهمك سعادتي !"
نظر لها بجمود وهو يبتلع باقي سعاله والذي هدئ فجأة ليلوح بعدها بالكأس جانبا قائلا باستهجان
"وماذا عن سعادتي ؟ ألا تهمكِ ولو بمثقال ذرة لتقدمي التنازل لها !"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تضع قطعة البيتزا جانبا لتقول بعدها بهدوء مضطرب
"بالطبع تهمني ، ولكني ، ولكني انا......."
عقد حاجبيه بتصلب وهو يضع الكأس على سطح الطاولة بقوة هزتها بمكانها ، ليقول بعدها بصبر على وشك النفاذ
"ولكن ماذا ؟ هيا اكملي كلامكِ"
تنهدت بإرهاق وهي تريح مرفقيها فوق طرف الطاولة قائلة بثبات جاد
"ولكن انا لا احبها يا شادي ، لا استطيع الارتياح بتلك الاجواء والاماكن ، انا اشعر بكل انواع التوتر والخوف والغثيان عندما اتواجد بتلك الاماكن ، انها تشعرني بضيق شديد لا يطاق ، لقد اصبحت بالنسبة لي مثل الرهاب الاجتماعي ، بالرغم من اني لا اظهر ذلك امام احد لكي لا يراني ضعيفة او يستخف بي ، فهذا العالم يهوى اصطياد الضعيف مثل لقمة سائغة ليلعب بحياته كما يشاء إذا كان بالعنف الكلامي او بالعنف البدني ، وقد تعلمت ذلك من البيئة التي عشت بها وارغمتني على التأقلم بينها حتى صقلتني من الداخل والخارج ، وانا اريد حقا الاستمتاع برفقتك بعيدا عن تلك الاجواء ، لذا ارجوك لا تصعب المهمة عليّ يا شادي"
سكنت ملامحه لوهلة وهو يتابعها بهدوء شديد قبل ان يقول ببرود قاتم
"وماذا عن حضوركِ حفلة زفافنا ؟ وايضا حفلة العشاء بفندق شهر العسل ! كيف استطعتِ التأقلم بهم ببساطة بكل طبيعية ؟"
رفعت حدقتيها الزرقاوين بأمواج هادئة وهي تتبعها بابتسامة صغيرة هامسة بصدق
"لقد كنت اقاوم يا شادي ، لقد كنت اقاوم طوال الوقت ، وليس لأني احب ذلك افعلها بل لأني مضطرة على ذلك ، لقد فعلت المستحيل لكي اخفي كل عيوبي عن العالم ، لأنها إذا ظهرت للعيان فلن يبقى لي ثقة بنفسي وسأصبح بساط تحت اقدام البشر ، انها مثل عندما يتوفى لك شخص عزيز عليك وتحاول كتم بكاءك امام الآخرين وعائلتك لكي لا يرى احد ضعف الرجل والذي لا يجب ان يبكي فقط لكي لا يستخفون بك بينما قلبك يصرخ من الألم ببكاء موجع وخارجك يصمت ! هذا ما كنت احاول ان اوصله لك يا شادي ، ولم استطع ان ابوح لك بذلك من قبل لكي لا تستخف بي اكثر وتظنني مجنونة وتصيب توقعاتك !"
تغضن جبينه بتشنج وهو يتنفس بهدوء كان له وقع الألم بصدره المثقل عند سماع المثال الذي طرحته وجربه من قبل وهو يعيشه بكل جوارحه ، ليستعيد ضبط زمام الامور وهو يقول بجمود ارق
"ولماذا اخبرتني الآن يا ماسة ؟ ما لذي جعلكِ تفصحين بهذا السر !"
اتسعت ابتسامتها بتألق واثق وهي تهمس بنشوة غامرة
"لأنني الآن قد اصبحت اثق بك يا شادي ، وتستحق ان تعلم بهذا الأمر لأنك زوجي واقرب الاشخاص مني ، واعرف جيدا بأنك لن تكون مثلهم"
لانت ملامحه بتعابير مستريحة وهي تزرع الابتسامة الساحرة على شفتيه قائلا بصوت اجش ثائر
"لا اعلم ما هو سر قدرتك على تغيير مزاجي بكلمتين فقط ! لقد تبين بأنكِ حقا ساحرتي الصغيرة التي تجيد اللعب بمشاعر زوجها كما تهوى نفسها وتحب ، بدون ذكر قدراتها الاخرى بإرضاء زوجها بإشباع غريزته الطبيعية"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بأمواج عاتية لونت محياها باحمرار الخجل الذي كسى لون بشرتها الرخامية ، لتخفض نظراتها بامتقاع وهي تتلاعب بأصابعها بطرف شرشف المائدة هامسة بقنوط
"هلا توقفنا عن هذا الكلام ؟ رجاءً"
ضحك بمرح حقيقي وهو يمسك قطعة بيتزا من العلبة امامه قائلا بتسلية واضحة
"حتى لو علمتكِ لمئات السنين ستبقين عديمة خبرة !"
عضت بطرف اسنانها البيضاء بكل قوة على طرف البيتزا وهي تقضمها بقسوة واضحة بدون ان يترك شعور الخجل كيانها ، ليقضم الآخر من البيتزا بيده برقة تختلف عن قسوتها بتناولها ، ليعود بعدها للكلام بلحظات وهو يقول بتفكير جاد
"صحيح لقد نسيت ان اخبركِ بأنه لدي مناسبة مهمة اليوم تخص حفلة عيد ميلاد يتوجب عليّ حضورها هذه الليلة ، لذا ما رأيكِ ان تأتي معي للحفلة وتشاركيني الاستمتاع بها ؟ سيكون الأمر ممتعاً للغاية وسنقضي الكثير من الأوقات الرائعة"
توقفت عن تناول الطعام بجمود وهي تهمس بعبوس مغتاظ
"ما بك يا شادي ؟ ألم اخبرك قبل قليل بكرهي لهذا النوع من الحفلات ! هل نسيت بهذه السرعة ؟"
انحرفت ابتسامته بوجوم وهو يقول بأسف عابس
"صحيح لقد نسيت الأمر تماما ، يا لها من خسارة عدم حضوركِ معي ! إذاً عليّ الذهاب بمفردي للحفلة ! لا بأس يمكنكِ انتظاري بالفندق حتى عودتي ، واعدكِ لن اتأخر عليكِ طويلا"
غامت ملامحها بهدوء وهي تكمل قضم البيتزا هامسة بلا مبالاة
"ومن صاحب هذه الحفلة يا ترى ؟ لم اكن اعلم بأن اعياد الميلاد تقام لها حفلات ! حقا امر طبقات المجتمع العليا غريب !"
ابتسم بحنية وهو يقول برفق شديد
"انتِ ايضا اصبحتِ تنتمين لتلك الطبقات ، لا تستطيعين ان تنكري اصل زوجك فنحن الاثنين كنيتنا واحدة"
نظرت له بعدم اهتمام وهي تكرر السؤال بفضول
"لم تجبني من صاحب هذه الحفلة ؟"
ردّ عليها (شادي) ببساطة بالغة
"انها صديقتي لينا رواشدة ، تذكرينها صحيح تقابلتما مرة بالمكتب ومرتين بالمقهى !"
ابتلعت لقمة الطعام بصعوبة والتي اصبحت حجر يمر ببلعومها ليقع بأمعائها بكسور وشروخ ، لتخفض بعدها قطعة البيتزا وهي تعيدها مكانها بهدوء قبل ان تهمس بخفوت غير مرتاح
"انت تقصد صديقتك المتباهية التي كانت تلتصق بك بكل دقيقة وثانية من قبل زواجنا بعزوبيتك ، وما تزال بعد زواجنا تلاحق بك مثل الفراشة اللاصقة التي لا تملك اي حياء او خجل ينبهها بأنك اصبحت رجل متزوج ولا تليق هذه التصرفات بك ، ولن انسى تلك اللحظة التي كانت برفقتك على نفس الطاولة بالوقت الذي كنا متخاصمين به وغضبت مني لأني كنت اجلس بنفس الطاولة مع غريب ، ولكن لم تحاسب نفسك عندما كنت جالس معها على نفس الطاولة ! والآن تريد بكل بساطة حضور حفلتها السخيفة بدون اي اعتبار لزوجتك ؟"
زفر انفاسه بضيق وهو يفهم جيدا معنى تلميحاتها المبهمة ، ليقول من فوره بجدية بدون اي انفعال او غضب وكأنه يحادث طفلة
"ما معنى كل هذه التلميحات المريبة يا ماسة ؟ هل جننتِ لتقولي هذا الكلام الهجومي على فتاة لم تسبب لكِ اي اذى ؟ وغير هذا هي صديقتي الوحيدة التي اعرفها منذ سنوات طويلة واكثر منكِ ومن الجميع ! وانا لست هذا النوع من الرجال الاوغاد الذين يخونون العشرة والأيام ، ولا استطيع رفض دعوتها الآن فقط لأنكِ تشكين بأمرها او قد تكونين تشعرين بالغيرة نحوها ! بالرغم من اني استبعد الاحتمال الثاني !"
زمت شفتيها بجمود وهي تضرب على طرف الطاولة بقوة مفاجئة قائلة بممانعة شرسة
"وانا ارفض ذهابك يا شادي ، ارفضه بشدة ، لقد اخبرتك بها عندما اشك بأحدهم ولا ارتاح له تكون هناك امور كبيرة ونوايا سيئة تحوم من حوله ، وتصرفاتك معها ستزيد من قوتها بوفائك واخلاصك لها والذي انت اساسا غير مجبر عليه ، ارجوك استمع لي هذه المرة فقط......"
قاطعها الذي فقد سيطرته على نفسه وهو يقول بصرامة غاضبة
"كفى هراءً يا ماسة ! فأنا لا افهم اي كلمة مما تنطقين به بحق فتاة لا تعرفينها ! انتِ التي تملكين نوايا سيئة نحوها بشكوكك الفارغة وكلامكِ الذي لا اساس له من الصحة ، كم مرة اخبرتكِ ان تتوقفي عن الظن بالناس قبل ان تحاولي فهمهم والتكلم معهم ، فليس كل الذين يعيشون بالعالم وحوش كما تظنين وتتوهمين ، فقط لأنك رأيتِ صنف سيء منهم تفكرين بأن جميعهم متشابهين ، لذا اصلحي هذا العيب يا ماسة قبل ان تطلقي الحكم على الناس"
كورت قبضتيها فوق سطح الطاولة وهي تقول بعنفوان جامح غير متنازل عن حقها
"وانا ما ازال عند رأيي ولا اريدك ان تذهب لحفلتها تحت اي سبب كان ، ويمكنك القول عنها جنون او هوس او غيرة ! المهم عندي بأنك لن تذهب إليها مجددا لا لحفلتها ولا لأي مكان تتواجد به ، يكفي بأني سامحتك على جلوسك معها بنفس الطاولة بمفردكما ولم اسألك عن الأمر من اجل ألا نعود لخصامنا من جديد ، ولكن ان تذهب لحفلتها السخيفة لوحدك بمنتصف الليل فهذا يفوق مقدرتي على الاحتمال ! على الاقل اعطني احترامي كزوجة لك ولا تفعلها بي !"
تنفس بتهدج وهو يطرق بأصابعه فوق سطح الطاولة بوتيرة محددة وبتحكم عالي بأعصابه ، قبل ان يقول بجفاء غير معبر
"ماسة افهمي ما اقول بدون ان تضغطي عليّ اكثر ، فأنا اعصابي لم تعد لديها طاقة لتحتمل ، وانتِ لا تستطيعين فرض كلامكِ بهذه الطريقة وتسليط دور الزوجة عليّ لأرضخ لكِ واحقق طلبك ، واساسا انا لدي شخصية مستقلة تستطيع اتخاذ قرارتها وحدها ورؤية ما يصح ويسيء لها ، ولم اقرر الزواج لكي تبدأ زوجتي بالتحكم بتصرفاتي وحركاتي وكأنني روبوت عندها ! لذا اختصري علينا المشاكل ولا تفسدي علينا آخر ليلة بالعطلة ، واعدكِ لن تأخذ مني الحفلة اكثر من نصف ساعة والليل امامنا طويل"
كانت تنظر له بعينين زرقاوين متسعتين تظللهما بغيوم رمادية اكتسحت محياها ، لتشيح بعدها بوجهها جانبا بصمت خاوي بدون ان تعلق على كلامه الاخير ، وما ان ظن بأن الأمور قد حلت حتى تفاجئ بنهوضها عن الكرسي بقوة قبل ان تنطلق راكضة خارج المطبخ بلمح البصر ، وليس هذا وحسب بل وايضا كانت تغلق باب المطبخ بقوة وصوت المفتاح يدور بالقفل بثواني بدون ان يبادر بحركة .
تنفس عدة مرات بثورة بدأت بالهبوب بداخله بوشك العاصفة وهو ينهض عن الكرسي بلحظة ، ليتجه مباشرة لباب المطبخ المغلق قبل ان يمسك بالمقبض وهو يدفعه بقوة صارخا بغضب يكاد ينطح الباب فوق رأسها
"افتحي الباب يا ماسة ، افتحيه قبل ان افتح عقلك الاحمق ذاك ، افتحيه قبل ان اتهور اكثر واكسر هذا الباب وكل الابواب الموجودة بحياتك ، افتحي يا مجنونة !"
اجابت بالطرف الآخر من الباب وهي تهمس بخفوت واثق بدون اي رهبة او تأثر
"افعل كل ما تستطيع فعله ، ولكني اخبرتك لن تذهب لتلك الحفلة ولو على جثتي"
عاد ليضرب الباب بقوة اكبر وهي تزيد من هياج ثورته صارخا بكل غضب على وشك قلع الباب من مكانه
"افتحي الباب يا ماسة ، انا اقول لكِ للمرة الاخيرة افتحي الباب ! سأعطيكِ فرصة اخيرة لفتح الباب ، ماسة......"
صمت تماما ما ان وصله الصوت الخافت بنبرة تحمل البرودة والرقة معا
"انا احبك يا شادي"
تجمدت ملامحه برجفة محببة وهو يتسائل ببلاهة بعد ان خمدت كل غضبه بثانية
"ماذا قلتي ؟"
صمتت لثانيتين قبل ان تعيد النطق مجددا يدفعه حماس اكبر وبفرح مغمور بالسعادة الوليدة
"انا احبك يا شادي الفكهاني ، احبك يا شادي الفكهاني"
قبض بيديه على سطح الباب وهو يقول بصوت اجش منفعل اذاب الجليد من حولهما
"هل تعلمين معنى ما تقولين ؟ لو فقط امسكِ بكِ فلن تفلتي من يدي ، وقد حان وقت الحساب الآن"
ردت عليه (ماسة) بنبرة شقية بمرح
"هذا سيحدث عندما تمسك بي ، والآن وداعا يا زوجي الحبيب"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يستوعب حقيقة رحيلها وصوت خطواتها تبتعد تدريجيا عن مجرى سمعه ، ليضرب رأسه هذه المرة على سطح الباب وهو يهمس بأنفاس حارقة خفقت بأعماقه بعاصفة موسمية اعلنت على وصولها
"لن ارحمكِ يا ساحرتي الصغيرة ، فلم يعد هناك مجال للهرب مني اكثر"
_______________________________
خرجت من البناية بأكملها وهي تتابع الجري بانطلاق وكأن قابض الارواح يطاردها او اعمالها بالحياة تلاحقها ، لتصل بالنهاية امام الدراجة النارية المركونة عند طرف الطريق مع الخوذ الخاصة بها ، لتتوقف بعدها للحظات وهي تتنفس بخفقات متسارعة بلهيب احرق احشاءها واغرق قلبها بمحيط من المشاعر الجياشة التي خرجت عن الساحل وركبت السيل .
امسكت بالخوذة امامها وهي تتنقل بينها وبين الدراجة النارية هامسة بابتسامة متمايلة بتحدي
"لا بأس ببعض المخاطرة التي لن تضر احد ، فأنا لم اكبر عليها للآن"
اتبعت كلامها بوضع الخوذة فوق رأسها وهي تبعد خصلات شعرها الفوضوية لخلف كتفيها حتى غطت رأسها بالكامل ، لتمسك بعدها بمقبضي التحكم وهي تحاول الصعود فوق مقعد الدراجة بصعوبة ، وبعدها بثواني كانت تستقر فوق الدراجة وهي تأخذ وضعية الاستعداد ، لتشغل بعدها المحرك وهي تقول بتأهب حماسي ويديها تشتدان على مقبضي التحكم
"حان وقت الحصول على الفوز ، وليس هناك افضل من ماسة تستطيع احراز الفوز"
انطلقت بعدها بالدراجة النارية التي تكاد تسابق الريح وهي تعيش الحياة بأهوائها ورغباتها واحلامها باندفاع غير مسبوق حطمت كل العوائق وسجلت الأرقام القياسية بكل مسابقات الحياة ، كانت تستقبل تيارات هواء الليل البارد امامها وسواد العالم من حولها وسماء اضاءت بنجوم امنياتها ترافق رحلتها المجنونة بسحر غمر كيانها وتخلل بفؤادها المرفرف بأجنحة السلام ، فهي قد اصبحت من هذه اللحظة من الفتيات الواقعات بالحب ، بل الفتيات المحلقات بجنون الحب والذي يدفع الانسان لفعل كل جنون العالم وتقديم كل ما يملك بسبيل ارضاء المحبين حسب قوانين العشق بالعالم .
صرخت فجأة بجنون ضربات قلبها المدوية وهي تعلو فوق صوت المحرك الصاخب
"لقد اشتقت إليكِ يا روح ، اشتقت إليك ايها العالم ، لقد عادت ماسة من جديد ، عادت واقعة بالحب ، عادت تحب وتنحب ، عادت اخيرا"
اكملت صراخها بكل جوارحها ومشاعرها ينافس صوت صخب الدراجة والذي كان يطغى عليها بتناغم رهيب ، وبمرور لحظات كان يخفت الصوت رويدا رويدا حتى اختلج بأعماق روحها التي عادت لمقرها الأول واستقرت بمكانها ، وهي توقف الدراجة النارية امام الفندق الخاص بهما والذي عادت له من جديد .
زفرت انفاسها بنشيج الحماس المفرط وهي تمسح بكفها على صدرها مكان خافقها علها تهدأ من ثورته والتي شنتها على فؤادها ، وما ان استعادة ضبط جماحها حتى نزلت عن الدراجة من فورها وهي تهبط على الارض بسلام ، لتخلع بعدها الخوذة عن رأسها بقوة نشرت خصلاتها بانهمار ضربت على وجهها بعنف قبل ان تتكاتف على كتفيها بفوضى ناعمة .
رفعت كفها وهي تزيح الخصلات بعيدا عن وجهها لتدسها خلف اذنها بحجز قسري ، اعادت الخوذة لمكانها وهي تسير بطريق مدخل الفندق لوحدها عكس دخولها الأول ، لتتجاوز البوابة ومكتب الاستقبال وهي تتجه مباشرة للسلالم عوضا عن استخدام المصعد والذي لن يكون بمتعة الجري على الاقدام وخاصة بفورة حماسها والتي ستحتاج الجري لساعات لحرق الشحنات الزائدة من داخلها .
اخذت عشرين دقيقة بصعود الطوابق على الاقدام الواحد تلو الآخر بدون راحة او توقف ، حتى وصلت لطابقها وهي تتابع سيرها حيث مكان جناحهما ، وما ان وصلت امام باب الجناح حتى اخرجت بطاقة ذهبية من جيب بنطالها خاصة بفتح الابواب ، وهي تمررها على مكان قفل الباب ليفتح بلمح البصر بطريقة سحرية تسمى بتكنولوجيا الاغنياء ، لتدس بعدها البطاقة بجيب بنطالها وهي تهمس بابتسامة منبهرة
"كنت اعلم بأني سأحتاج لوجودها معي"
دخلت للجناح وهي تدور حول نفسها بدورات طائر محلق تعب من السكون وقرر الطيران كاسرا العجز الذي كان يحده عن الحركة ، لتوقف بعدها نفسها امام باب الغرفة باستقامة قبل ان تفتحه بهدوء ، لتكمل بعدها دخولها وهي تسرع تلقائيا بخطواتها اتجاه السرير الواسع ، وبلحظات كانت ترتمي فوق ملاءة السرير وهي تريح فوقها احلامها وسعادتها وطموحاتها والتي عانقتها بحفاوة وخبأتها بقطنها الناعم ، وهي تنام على جانب جسدها والذي تعب من سباق العشق والحب وهمسات خافتة تخرج بأنين عاشق ملهوف
"سيأتي بعد قليل ، انا واثقة من ذلك"
ولم تعلم بأنها قد غفت على احلامها الاخيرة تخبئها خلسة بسريرها ، وهي تريح قلبها من الطوفان الذي حلّ عليه واختل بأنظمة حياتها ، لتأخذ قسط من الراحة تعيد بها القوة للمواجهة والروح المتقدة لركوب الامواج العاتية والقلب العاشق لتلقف تيارات الحب الهوجاء لتحديد مسارها...وإلى اين ستغرقها !
______________________________
خرج من المشفى والذي تأكد عدم وصولها له وهو يضع الهاتف على اذنه والذي كان يستمر بالرنين قبل ان يتوقف من جديد ، ليزفر انفاسه بشعلة متقدة تكاد تحرق الاخضر واليابس بغضب وخوف لم يشعر به بحياته ، وكأنه يعود سنوات لذلك اليوم المشؤوم والذي لا يريد تركه بحال سبيله وكل لحظة تمر عليه تذكره به ، عندما كان بنفس الوضع الحالي يبحث عن ابرة بكومة كش بدون ان يجد لها اثر ، وما ان وصل لها كان الآوان قد فات وضاعت من بين يديه ببساطة قبل ان يبادر بحمايتها من الوحوش البشرية والتي ازهقت برائتها وطفولتها ، وما يفعله الآن تكرار عن الماضي بمشاهد مختلفة وكأنه يتقصد جلب السواد لعالمه من تلقاء نفسه بدون ان يمنعه احد ، وكل هذا من دافع الانتقام المرضي والذي لم ينتقم من احد سوى نفسه وقلبه الملطخ بدماء الضحايا .
توقف امام السيارة وهو يسند يديه على سقفها بتعب خائر القوى هد حيلته ، فهو على الاقل اطمئن بأنها لم تنقل للمشفى مجددا بحادثة اخرى وقد تأكد من هذا بكل المشافي بالمدينة ، ولكنه للآن لم يستطع الراحة لثانية وهو مشتت التفكير ومشوش الذهن بدون ان يجدها بأي مكان ، ليستقيم بعدها بهدوء وهو يفكر بأمر قد غفل عنه ليتصل مباشرة برقم مختلف عن كل الارقام التي اتصل بها ، ليضع من فوره الهاتف بجانب اذنه وهو يقول ما ان فُتح الخط بجمود
"هل تعرف اين هي صفاء ؟"
غيم الصمت على الطرف الآخر لثواني قبل ان يخرج له الصوت الساخر بنقمة
"هل اسمع احدهم يسأل عن زوجته ؟ ألا تعرف حقا اين هي زوجتك ! هل تريد إغاظتي لكي تتصل بي بكل وقاحة وتسألني عن شقيقتي ؟ انت حقا بلا شرف او ضمير......"
قاطعه بسرعة وهو يهمس من بين اسنانه بحمم بركانية على وشك التفجر
"لا تثير غضبي عليك اكثر لكي لا يكون آخر يوم بحياتك ، فأنا لا احب من يتلاعب بصبري اكثر مما احتمل وخاصة مع شخص يعرف جرائمه جيدا ، لذا اجبني على السؤال بكل احترام او اصمت !"
لم يتأخر بالرد عليه وهو يقول بكراهية تقطر حقدا
"وما تزال تسألني عن مكانها بكل وقاحة ! لقد كنت قد امنتك عليها ووثقت بأنك ربما ستكون افضل مني بحمايتها من المجرمين ! ولكنك خيبت ظني بالنهاية وتبين بأن نار الانتقام بداخلك لن تتوقف حتى تقتلها كما قتلت شقيقتك ، بالرغم من اني اخبرتك ورجوتك ألا تؤذيها وتكون رحيم عليها فهي لا دخل لها بكل هذه الحروب ، ولكنكم جميعكم من نفس الطينة وبنفس التفكير الشيطاني ، ولن ارحمكم لو اصابها مكروه ، لن ارحمكم هذه المرة !"
تجمدت ملامحه بخطوط قاسية بانت على محياه وهو يقول بهدوء جاد تقمصه بلحظة
"ما لذي تهذي به يا مجنون ؟ هل تظنني منجم حتى استطيع فك رموز كلامك ! إذا لم تتكلم معي بوضوح وتشرح لي مقصدك فلن تتوقع ما ستكون عليه ردة فعلي ، ولن يشفع لك عندي اي شيء بعدها ، فأنا صبري معك قد وصل لمنتهاه ، سمعتني لقد انتهى !"
هدئت انفاس (مازن) للحظات وهو يقول بوجوم مضطرب
"هل حقا لا تعلم اين هو مكانها ؟ ألا تعلم من هم الذين خطفوها !"
صرخ (جواد) فجأة بضيق نافذ الصبر
"اخبرتك لا اعلم ، وإذا كنت اعلم لما اتصلت بك ؟ انا......"
صمت عن الكلام لوهلة بإدراك وهو يقول باستيعاب بطيء بترقب
"هل قلت خطفوها ؟ كيف عرفت ذلك ! هل تعرف مكانها ؟ تكلم بسرعة قبل ان احرق الارض التي تمشي عليها !"
ردّ عليه (مازن) ببرود جليدي
"يبدو بأنك حقا لا تعلم شيئاً"
قال من فوره بشراسة غاضبة
"قلت لك لا اعلم ، لما لا تريد ان تفهم ؟"
تنفس (مازن) بجمود وهو يقول بنبرة متصلبة بازدراء
"لقد وردني اتصال يخبرني بأنه قد تم اختطاف زوجتك بوضح النهار ، واعلم جيدا هوية المجرمين الذين اختطفوها....."
ارتفع حاجبيه ببطء جامد وهو يقول بأنفاس مشتعلة بتهدج
"اجل تابع من هم الذي اختطفوها ؟"
ابتلع ريقه بجمود وهو يجيب بنبرة خفتت بحدة
"رجال السيد متحت هم الذين خطفوها"
غامت ملامحه بضباب آسر على وشك العصف برياح رعدية وهو يقول بهدوء ظاهري
"هل انت متأكد ؟ وكيف عرفت بالأمر !"
ردّ عليه بلحظة بدون ادنى تردد
"لقد ارسلت جاسوس من بين رجالهم وهو الذي اوصل لي هذه الاخبار"
شدد على اسنانه وهو يشتم من بينهما بسخط والنيران تندلع بأحشائه بجمرة مشتعلة اعادت الحقد القديم اتجاه ذلك الرجل ، ليأخذ عدة انفاس طويلة تطفئ قليلا من نيران الحقد وهو يهمس بفحيح خطير
"وهل تعلم اين هي الآن ؟ هل استطعت اخذها من عندهم !"
صمت للحظتين قبل ان يقول بجمود قاتم
"لا ليس بعد فقد عرفت بالأمر مؤخرا ، وانا الآن بطريقي إليهم ، واعدك عندما اصل لن ارحم احد منكم لا رجالك ولا عمك كبير العصابة ذاك"
اخفض الهاتف عن اذنه وهو يزفر انفاسه برماد بقايا قلبه المنصهر والذي اشتعل بلحظات وخمد بثواني ، وما ان تمالك نفسه حتى اعاد رفع الهاتف وهو يقول له بكلمات موجزة بدون اي تعبير
"وانا لن ارحمك إذا تأخرت عنها ، سمعتني يا ابن جلال !"
فصل الخط بدون سماع اجابة الطرف الآخر وهو يدس الهاتف بجيب بنطاله ، ليفتح بعدها باب السيارة امامه وهو يدخل لها جالسا خلف المقود ، ليمسح بعدها وجهه بكفيه بإرهاق استبد به وهو يستغفر بالله عدة مرات حتى استعاد القليل من اتزان عقله وهدوء قلبه المتخبطين بمصرعيه وبميزان اثقل بهما ، وما ان انتهت الدقائق المقتطفة من حياته حتى امسك بعدها بالمقود بقبضتين قويتين وهو يهمس بشر مطمور بتربة سقاها بالكثير
"لقد انتهى امركم ، ولم يعد هناك مجال للهروب من مصيركم المحتوم"
شغل بعدها محرك السيارة وهو ينطلق بها بالطريق بسرعة بدأت بالتزايد تدريجيا حتى اصبحت مثل السهم المنطلق تصوب باتجاه نقطة ضعفه بالحياة بعد ان فاض الكيل منه ، حتى اصبح حريق قلبه هو الوقود وسواد الماضي هو مساره والذي لم يعد يرى سواه بعالمه عندما انطفئت كل الاضواء بعينيه وسرقوا بصيص النور الوحيد بحياته .
______________________________
وقف امام باب الجناح المفتوح بملامح جامدة تحمل بجوفها جيوش من المشاعر الفياضة التي عصفت بدواخله ونقشت على الحجر وهربت برياحها ومحيطاتها وفيضاناتها ، ولكنه لن يدع لها حرية الطيران بعيدا عنه اكثر من هذه اللحظة بعد ان تعبأ وامتلئ ، وهي بنفسها من فتحت مجرى ذلك التيار وهدمت السد بأكمله وفسحت المجال لمرور كل هذه الامواج العارمة والتي قلبت كيانه رأساً على عقب وعبثت بنزعته الرجولية التي تغللت بمسامات بشرته وبمجرى عروقه .
زفر انفاسه بثورة وهو يحكمها بصعوبة قبل ان يكمل طريقه لداخل الجناح ، ليتجه تلقائيا بخطوات واسعة نحو الغرفة التي تركت بابها مفتوحا كذلك وكأنها تمهد الطريق امامه بطريقة غير مباشرة ، ولم يأخذ وقتا طويلا وهو يجر خطواته لداخل الغرفة بدون مقدمات وعينيه تتبع السرير الواسع بتجول متمهل .
وما ان وقف بجوار السرير حتى ظهرت له ساحرته الصغيرة التي ألقت بقنبلتها المدوية بعصاها السحرية وفجرت كل ما تصله نيران جنونها الهوجاء والتي فاقت جنون المحبين والعشاق....وهو يمرر نظره على اللوحة التي رسمت بعناية فوق ملاءة السرير بشعرها الليلي الطويل المبعثر من خلفها وبقميصها الوردي الربيعي الذي تلاعبت به النسمات حتى تطاير لفوق خصرها...وذراعيها تعانق ركبتيها لصدرها بتكور وساقيها مضمومتين للأعلى بقوة مثل نوم الجنين او مثل عوم الحورية فوق سطح البحر....ولا يعلم إذا كانت تتعمد اغوائه بطريقتها اللعوبة ؟ او كانت فطرتها الطبيعية التي خلقت بها تستطيع ان تجذبه وتغرقه بهوى سحرها !
تنفس بقوة اكبر صهرت صدره واذابة قسوته نحوها والتي كان يجهزها لها على فعلتها الاخيرة ، ليمسك بعدها بذراعها البارد وهو يقول بصوت اجش عميق
"ماسة استيقظي وقفي امامي ، إذا كان ما يزال لديكِ ذرة خجل بعد كل ما فعلته ! او إذا كنتِ تملكين الشجاعة الكافية ! فعليكِ بمواجهتي بكل قوة"
ساد الصمت من حولهما للحظات قبل ان يقول مجددا وهو يحرك رأسه بوعيد
"حسنا ، إذا كنتِ تصرين على هذا العناد ، فعليكِ إذاً بتحمل الاضرار"
عض على طرف شفتيه ما ان استمر صمتها فترة اطول وكأنها لا تنتمي لعالم الاحياء ، ليصعد بعدها فوق طرف السرير بركبتيه وهو يقترب منها قبل ان يقلبها على ظهرها وهو يعلوها ، ليدنو منها تدريجيا وهو يضغط بركبتيه على ساقيها وكفيه على خصرها ورأسه تلاصق رأسها وهو يهمس بجموح منذر
"لا تقولي بأني لم احذرك !"
وبثواني كانت تشهق بانتفاض وهي تحاول تحرير قيودها من حصاره الذي قصف عليها من كل جهاتها ، لترفع بعدها قبضتيها على صدره وهي تقول بأنفاس متسارعة بضحك
"ماذا تفعل يا مجنون ؟ هل تفكر بخنقي ؟ هل تريد قتلي ؟"
رفع كفه عن خصرها ليقيد معصميها بلحظة وهو يرفعهما لفوق رأسها ، ليقول بعدها بأنفاس شرسة حرقت بشرتها القريبة منه
"ولما لا افعل ؟ فأنتِ تستحقين الحرق وليس القتل وحسب بعد كل ما فعلته بي من تهور وجنون على مدار اليوم لا يتقبله منطق او عقل !"
عضت على طرف شفتيها وهي تواجهه بحدقتيها المتموجتين بمحيطات عالية المد ، لتهمس بعدها بخفوت ماكر ببحة مثيرة
"حتى لو فعلت ذلك لن تستطيع قتل حبك بقلبي"
رفع رأسه بعيدا عن وجهها والذي كاد يلهبه بحريق انفاسه وهو يحاول تمالك نفسه بلحظات بعد ان لعبت بالأوتار الصحيحة ، ليعود بالنظر لها بأحداق سواد متقدة وهو يلصق رأسه بجبينها قائلا بانفعال هادر
"ستندمين على هذا الكلام"
حشرت الضحكة بين شفتيها بصمت هزت جسدها بتلوي طفيف استطاع الشعور به بيديه واللتين احترقتا بجمرتها ، ليفلت بعدها كفه عن خصرها وكفه الاخرى عن معصميها ليسندهما على جانبيها ، قبل ان يرفع رأسه بعيدا عنها وهو يشرف عليها من فوق قائلا بتفكير جاد
"كيف استطعتِ قيادة الدراجة لوحدك ؟ هل تجيدين قيادتها حقا ؟ ام اعتمدتِ على الفطنة وقدتها بسجيتك المتهورة !"
مالت برأسها جانبا بحركة مستفزة وهي تهمس بابتسامة ظريفة
"اخبرني اولاً كيف استطعت الخروج من المطبخ ؟ هل استخدمت قوتك البدنية بفتحه ؟ ام استخدمت قواك العقلية بإيجاد طريقة تفتح بها القفل !"
قبض على ملاءة السرير وهو يقول بجمود صارم
"انا الذي طرحت السؤال اولاً ، لذا املك الأولية بالحصول على اجابتي"
كورت شفتيها بوجوم وهي تهمس بخفوت عابس
"حسنا موافقة ولكن بشرط ان تجيبني بعدها عن سؤالي ، يعني مثل لعبة اسألني اسألك"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهو يقول ببرود جاف
"لا امانع بذلك ، والآن اجيبِ عن سؤالي"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة واثقة
"لقد تعلمت قيادتها منذ طفولتي ، واتذكر جيدا اساسيات قيادتها ، فقد كان هناك الكثير منها بحارتي القديمة والخاصة بأولاد العصابات ولم اكن استطيع مقاومة قيادتها آن ذاك"
اومأ برأسه ببرود وهي تتابع كلامها ببراءة
"إذاً هل ستجيبني على سؤالي ؟"
نظر لها بهدوء لوهلة قبل ان يقول ببرود غير معبر
"لقد وجدت مفتاح احتياطي موجود بدرج بالمطبخ وفتحت به الباب ، هل تظنين بأني سأقضي طيلة حياتي اكسر الابواب التي تغلقينها ؟ لقد وجدتها خسارة بحق الباب افساده بسببك ودفع ثمن افعالك"
زمت شفتيها وهي تقول بسرعة بخفوت جاد
"ما هي الوسيلة التي استقللتها للوصول للفندق ؟"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يقول بابتسامة ساخرة
"بالطبع اتيت بسيارة الاجرة ، وهل تركتي لي وسيلة اقودها إليكِ يا محتالة ؟"
التوت ابتسامتها بصمت تخفي مكر تألق بمحيط عينيها الواسعتين ، ليقول من فوره وهو يطرح السؤال التالي
"لماذا اتيتِ إلى الفندق مباشرة ؟ ولماذا تركتي باب الجناح مفتوحا ! هل تنتظرين ان يدخل عليكِ رواد الفندق وانتِ تفتحيه لكل المارة ؟"
حركت رأسها بالنفي بحركة طفيفة وهي ترفع كفيها على قميصه ببطء هامسة بابتسامة شقية
"لقد كنت اعلم بقدومك إلى هنا ، وخاصة بأنه تبقى لنا ليلة بهذا الفندق ، وقد تركته مفتوحا انتظارا لقدومك لتعرف طريقك جيدا"
اتسعت ابتسامته بتغضن وهو يقول بانبهار بدون ان يمنع نفسه
"رائع يا ألماستي ! دائما تبدعين بمفاجأتي وابهاري بكل مرة بطريقة مختلفة ! وانتِ تملكين بداخلك مواهب لم اعد استطيع تعدادها ، من سباحة لرياضية لحكيمة لذكية لمتلاعبة لراكبة دراجات ، ماذا يمكن ان ينقص فتاة تملك كل شيء ؟ واراهن بأن يكون لديها عيب واحد تذكر عليه !"
ضمت كفيها خلف عنقه بتطويق وهي تهمس بغرور متمرد
"لقد كان لدي عيب بعدم الوقوع بالحب ، ولكن الأمر قد حل الآن بعد ان وقعت بالحب"
اخفض رأسه وهو يتأملها عن قرب ليعود بعدها ليدنو امام وجهها وهو يهمس بهياج خفيض
"هيا قوليها مجددا"
ردت عليه بعدم فهم متعمد
"لا افهم سؤالك !"
انخفض اكثر حتى التصق جبينه بجبينها يكاد يكسره وهو يضغط بركبتيه على ساقيها المحاصرتين ، ليكرر كلامه بصوت اكثر اندفاعا بحمم حارقة
"اخبرتكِ قوليها مجددا !"
ابتلعت ريقها بارتعاش بدون ان تستطيع تحريك جسدها ميل واحد وهي تهمس بخفوت ممتعض
"لقد انتهت لعبة اسألني واسألك ، لذا توقف عن طرح الأسئلة"
شدد اكثر بقصفه بانعدام رحمة وهو يمسك بيديها حول عنقه ليعود لرفعهما فوق رأسها قائلا بحدة اشد تكاد تطحن عظامها الهشة تحت جبروته
"قوليها يا ماسة"
عضت على طرف شفتيها بألم حقيقي وهي تقول بمقاومة
"ماذا اقول ؟"
ردّ عليها من فوره بهجوم شرس
"ما قلته بالشقة قبل هروبك ، ولن اترككِ قبل ان تقوليها"
زمت شفتيها بممانعة وهي تهمس بعناد
"لا اذكر"
ضاعف الضغط عليها حتى سمع صوت طرقعة عظامها وهي تكاد تغوص بملاءة السرير ، ليقول بعدها بغضب جامح
"ماسة !"
تأوهت بألم وهي تصرخ بوجع حقيقي
"شادي ، شادي ابتعد عني ، لقد كسرت عظامي يا مجنون ! هل تظن نفسك بوزن الريشة ؟"
فك حصارها ما ان لاحظ بأنه قد بالغ بالضغط عليها وجسدها الغض يتلوى بأنين واضح ، ليستقيم بلحظة بعيدا عنها وهو ينزل عن السرير بصمت ، ليلتفت بعدها نحوها وهي تحاول النهوض من استلقائها بصعوبة قبل ان يهمس بسخط
"سحقا لكِ"
استدار بعيدا عنها لبرهة وهو يتنفس بنيران ما تزال تلظى بروحه بعد كل ما اختبره معها ، وبثواني كان يتسمر بمكانه ما ان ظهرت امامه التي تحررت من تحت حصونه من لحظة ، وقبل ان يدرك سبب وجودها كانت تتدلى من عنقه بذراعيها وهي تقف على اطراف اصابعها الصغيرة ، لتهمس بعدها بجانب اذنه بأنفاس دافئة بخفوت انثوي اعلنت الحرب عليه
"احبك يا شادي الفكهاني"
نشبت يديه بخصرها الغض وهو يقربها اكثر بفتيل اشعلته بخلده وهو يهمس لها بخفوت مشتد
"كرريها يا ماسة"
تعلقت اكثر بعنقه وهي تلامس اذنه بشفتيها بهمس ملهوف
"احبك"
حرر اسر انفاسه المشتعلة وهو يعانق خصرها بذراعيه يكاد يرفعها عن الارض والتي لم تعد تستطيع ملامستها بعناق كاسر ، وهو يدفن رأسه بعنقها الطويلة والتي توالت القبلات عليها بقوة حارقة اشعلت فؤادهما ، وبعد عدة خطوات قصيرة كان يرتمي معها فوق السرير الذي استقبلهما بنعومة خففت من وطأة وقوعهما ، ليصبح يعلوها من جديد بنفس الحصار والذي دفن القسوة بعيدا واحاطهما بعاطفة هوجاء لا تعرف الرحمة .
حركت رأسها جانبا بعيدا عن سيل قبلاته المجنونة وهي تأخذ حفنة هواء كبيرة ، لتعود بعدها للنظر له وهي تتلاعب بأصابعها بأزرار قميصه هامسة بعبوس مزيف
"ماذا عن حفلة صديقتك المقربة ؟ ألن تذهب لها !"
كان يتنفس بتسارع مستميت جعل صدره يتصارع مع صدرها بقوة حربهما العاطفية ، ليمسك بعدها بكفها وهو يرفعها امام شفتيه ليقبل كل اصبع صغير على حدى هامسا من بينهما بانفعال مفرط
"هل اصبحتِ الآن تفكرين بالحفل ؟ لدينا ما هو اهم علينا اعطاء التركيز عليه ، وكما يقولون للضرورة احكام"
اتسعت ابتسامتها بنشوة السعادة وهي تفتح ازرار قميصه بيدها الاخرى هامسة بخفوت رقيق
"وهذا ما اقوله ايضا"
اخفض كفها على جانبها وهو يعصرها بقوة قبل ان ينحني امامها وهو يلثم شفتيها من جديد بقبلات اكثر رقة سحرتهما بفنون العاطفة التي اخذت مجراها بحياتهما ، وما ان وصل عند نحرها الابيض وهو يفتح ياقة قميصها المثلثة بأصابعه حتى همس ببحة عاشقة قصفت بأذنيها بتهويدة ناعمة
"احبكِ يا ألماسة شادي ، احبكِ يا مالكة الفؤاد"
اخفضت جفنيها على تلك الكلمات الساحرة التي كانت المقطوعة الاخيرة بين جياش عشقهما والتي اعلنت بينهما بحرب موسمية ستكون بداية عالم جديد مكتوب بمشاعرهما وملون بحبهما .
_________________________
خرج من السيارة وهو يملئ مخزون طلقات المسدس بالرصاص باستعداد للغزو ، لتحذو خطواته باتجاه المقر الخاص بهم وهو يأخذ وضعية الالتصاق بمحاذاة الجدار ونظراته على الباب امامه ، وما ان وقف امامه حتى اخذ عدة انفاس بتأهب قبل ان يركل بقدمه الباب امامه وبرفستين كان الباب يعلن عن سقوطه وهدمه .
دخل بسرعة وهو يصوب المسدس عند اول رجل قابله والذي لم يكن سوى رئيس العصابة والذي كان يجلس خلف المكتب بجبروته وقوته ، ليتنفس بعدها بفحيح قاتل وهو يقول بحقد دموي بدون ان تترك عينيه الحمراوين الجالس امامه
"لقد تجاوزت كل الحدود يا سيد متحت ، اولاً اختطاف ابنة عمي وثانياً اختطاف شقيقتي ، ألا ترى نفسك تبالغ باستخدام سلطاتك للوصول لي ؟ ولكن لم اتوقع غير هذا من رجل تربى على فعل هذه الامور كهواية يومية وقتل البشر عنده مثل تحية السلام ! واعدك ان تندم على كل هذا وتحاسب على كل قطرة دمعة اراقت من كل فرد من عائلتي"
نهض الجالس بمكانه بهدوء مهيب بدون ان يفقد صلابته وهو يقول بابتسامة حادة بقسوة
"هل انت واثق من كلامك ؟ هل نسيت المعروف الذي قدمته لك من اجل انقاذك من حبل المشنقة ؟ هل هذا هو جزاء مساعدتي لك يا غر ! ولكن لا بأس سنتحاسب على كل شيء ونصفي كل ما بيننا من قديم وجديد ، حتى نتلافى حدوث هذا الخطأ من جديد"
امتقعت ملامحه وهو يشدد على المسدس بيديه قائلا بثبات عازم
"وانا موافق على هذه التسوية ، ولكن اولاً عليك بأطلاق سراح شقيقتي ، وألا لا تطلب مني التفاهم معك بشيء"
اومأ برأسه بابتسامة جانبية بمغزى وهو يرفع يديه بعلامة الاستسلام قائلا
"وإذا لم اطلق سراحها ، فماذا ستفعل ؟"
شدد على اسنانه وهو يكاد يضغط الزناد قائلا بإجرام شرس
"لا تختبر صبري معك اكثر ، لأنني لا اجزم بأن استطيع كبح جنون غضبي عليك عندما يصل لمستويات خطيرة"
اتسعت ابتسامته بتغضن بدون ان يهاب منه وهو يخفض يديه قائلا ببساطة
"انت الذي عليك الحذر من صبري فقد اوقعت بنفسك بوكر الاسد"
احتدت ملامحه بجمود فقط لوهلة قبل ان يشعر بشيء قاسي يهبط على رأسه دفعه ليترنح بمكانه بدوار ، ليسقط بعدها جالسا على ركبتيه وهو يحاول تجميع شتات افكاره التي تمزقت لأشلاء ، لينظر بعدها باهتزاز حدقتيه الدمويتين نحو الذي وصل امامه وهو يدوس بقدمه على كفه الممسكة بالمسدس قائلا بشراسة ناقمة بعد ان انقلبت الادوار بينهما
"هل ظننت لوهلة بأنك تستطيع الانتصار عليّ او خداعي بألاعيبك ؟ لقد قلتها لك من قبل لا تحاول التحايل عليّ ولف حبل المشنقة من حول عنقي لأني سأسبقك واربط ذلك الحبل عليك انت ، ولن تستطيع التحرر من تلك الحيلة قبل ان تلفظ انفاسك الاخيرة منها وتتعلم ألا تتطاول على اسيادك ، وهذا كان تحذيري الأخير لك يا سيد مازن جلال"
عض على طرف شفتيه بألم وهو يستل يده من تحت قدمه التي كسرت اصابعه ، ليوجه له نظرات حارقة وهو يقول بانفعال متهدج
"من الذي اخبرك بأني اتحايل عليك ؟"
ابتسم بالتواء متجعد وهو يشير بعينيه جانبا قائلا بسخرية شامتة
"شريكك هو من اخبرني بذلك ومن حاولت الاستفادة منه ضدي"
اتسعت عينيه العسليتين بشعلتين متقدتين وهو ينظر للذي ظهر من خلفه وهو يمسك بالعصا التي كانت قد هبطت على رأسه من لحظة ، ليزفر انفاسه بشبه ابتسامة ساخرة وهو يقول بنفور مستهزئ
"هكذا هو الأمر إذاً ! لقد كان كل هذا خطة باستدراجي إليكم ، يا للخيانة الغير متوقعة !"
انتفض برأسه عاليا وهو يحاول النهوض بآن واحد ويبصق صارخا بكل كراهية
"ايها الحقير السافل......"
اوقف اندفاعه الذين امسكوا به وتجمعوا من حوله بثواني وهم يقيدونه عن الحركة حتى خارت قواه تماما ، ليتقدم بعدها امامه صاحب المكان وهو ينحني ويلتقط المسدس من على الارض ، قبل ان يصوبه بوجهه وهو يقول بابتسامة حاقدة بازدراء
"يا لك من مجرم تافه ! وتقول عن نفسك بأنك مجرم وتنتمي لحزب المجرمين ! انت لا تعرف حتى كيفية امساك المسدس بشكل صحيح ؟ فقط تتفاخر وتتباهى بنفسك وانت لا تساوي جناح بعوضة ، كنت استطيع سحقك منذ زمن بعيد باللحظة التي تعرضت بها لابنة شقيقي المرحوم ، ولكني مع ذلك فضلت التسلية بك والاستمتاع بقتلك رويدا رويدا ، وانظر إليك الآن لقد استطعت استدراجك لفخك الذي حفرته بنفسك كما فعلت واستدرجت ابنة شقيقي سابقا ، لتعلم فقط بأن الحياة دين وسلف ، وحان الوقت لتدفع دينك بالطريقة التي اقررها وتعجبني انا"
التقط (مازن) انفاسه بصعوبة وهو يقول من بين اسنانه بعداء غاضب
"تعلم جيدا بأنني لست من استدرجها لذلك الفخ وبأن الأمر ليس من تدبيري انا ، ألا إذا كنت من الذين كذب الكذبة وصّدقها ، وايضا انت الذي اخترت المقايضة مع والدي بتعويض رزمة مال مقابل اسقاط الدعوة عن ابنة شقيقك والتي دفنت تحت التراب بدون ان تأخذ حقها"
اسودت ملامحه بقتامة وهو يحك رأسه بالمسدس بيده بتفكير اخذ منه لحظة قبل ان يصفعه بلمح البصر بنفس المسدس والذي ترك علامة على جانب وجهه ، ليمسك بعدها بياقة قميصه بجمود صخري نحت بملامحه وهو يقول بحدة انعدمت منها الرحمة
"لا تتفوه بالكثير من الحماقات يا سيد مازن ، فأنت لست بوضع يسمح لك بالرد والهجوم امامي ، وبإشارة واحدة يمكنني ان امزقك لمئة قطعة وارسل كل قطعة منك لبلد ، لذا ألزم حدودك افضل لسلامتك لأستطيع الشفقة عليك وتخفيف من قسوة الحكم الذي سينزل عليك ، فأنا ما ازال افكر بعائلتك التي ستحزن على خسارة شاب مثلك بمقتبل العمر"
اعاد نظراته نحوه وهو يهمس بنفير اسنانه الحادة بدون ادنى تفكير او خوف
"افعل ما تشاء ولكن بعيدا عن عائلتي ، فهي لا علاقة لها بكل حروبي وعدائي معكم"
تراجع خطوتين بعيدا عنه وهو يقول بابتسامة ساخرة بنوايا دنيئة
"وماذا عن شقيقتك البريئة ؟ ألن تخوض معك بهذه الحروب ! فهي بالنهاية قد اصبحت فرد من هذه العائلة التي تطمر العداء معها بعد ان دخلت بالمنتصف"
ارتفع حاجبيه باستنكار افترس ملامحه المتقدة وهو ينتفض بثواني محاولا تحرير قيوده من الرجال من حوله ، ليصرخ بوجهه بهجوم شرس فقد زمام السيطرة عليه
"إياك وان تلمسها بسوء ، اتركها وشأنها ولا تدخلها بهذا العداء ، إذا حدث ولمس رجالك شعرة منها فلن ارحم احد منكم وسأحرق الارض ومن فيها ، سمعتني إياك وان تقربها ! إياك وفعلها !"
تأوه بصرخة وجع ما ان ركله احد رجاله على معدته حتى ارتمى ارضا من جديد ، ليقول بعدها الذي كان يتلاعب بالمسدس بيديه بشماتة ساخرة
"لا تقلق يا صديقي العزيز ، فأنا لم انسى بأنها تكون زوجة ابن شقيقي ، ومن اجل ذلك الرابط الذي عرفت عنه مؤخرا وحدث من دون علمي لن ادعها تتعرض للأذى ، فأنا بعد كل شيء احترم الروابط التي تجمعنا ببعضنا ، ولكن مع ذلك لن يشفع هذا الرابط عندي مصيرك والذي حفرته بيديك ، فأنت منتهي بكل الأحوال"
استقام على ركبتيه بإجهاد مترنح وهو يبصق الدماء من فمه بازدراء ، ليهمس بعدها بكلمة واحدة محملة بحقد دموي
"اللعنة عليكم"
غامت ملامحه بصلابة وهو يلف حول المكتب قبل ان يضع المسدس فوقه ، ليقول بعدها للرجال بإشارة واحدة بأمر قاطع
"افعلوا ما امرتكم به"
وبلحظات كانت تتوالى الضربات عليه من كل الجهات برفس وركل وضرب وهو ممهد على الارض بدون ان يستطيع مجاراة او تحدي قوة ست رجال من اقوياء البنية واصحاب العضلات المرنة ، وذراعيه مضمومتين امام وجهه وهو كل ما استطاع حمايته من جسده بحرب خاسرة .
بعد مرور دقيقة كان كل شيء يتوقف برهبة ما ان قصف صوت الرصاص العالي القادم من الباب المفتوح ، لتتجه الانظار تلقائيا ناحية المقتحم الجديد والذي غزى المكان بسلاحه ، ليقول بعد عدة لحظات صمت وهو يلوح بالمسدس بينهم بتحذير خطر
"ابتعدوا من امامي وأخلوا المكان ، ألم تسمعوني اخبرتكم اخلوا المكان حالاً قبل ان اطلق الرصاص على كل واحد منكم ؟!"
نظروا الرجال لبعضهم لثواني فقط قبل ان يمتثلوا لأمره وهم يخرجون من المكان بالتتابع تاركين الجسد الممهد ارضا ورئيسهم الذي ما يزال ثابت بمكانه بشموخ ، ليخفض بعدها المسدس بهدوء قاتل وهو يكمل اقتحام المكان بحرية وكأنه صاحب المكان والذي فرغ ما عدا ثلاثتهم ، وما ان وصل عند (مازن) الذي بدء بالنهوض عن الارض بصعوبة حتى قال له بهدوء غير معبر
"هل انت بخير ؟ هل تستطيع النهوض ؟"
اومأ برأسه بهزة طفيفة وهو يرفع نفسه على ركبتيه قائلا بتعب مرهق
"اجل"
ادار (جواد) وجهه للأمام وهو يقول بجمود كاسر
"انها الآن بالمستودع خلف هذا المقر"
رفع رأسه قليلا وهو يتحامل على نفسه ليقف بعدها على قدميه بترنح ما يزال يغيم عليه ، وما ان استوى واقفا بشق الانفس مع كل ما تعرض له حتى همس بتصلب قاتم
"شكرا"
غادر بعدها امامهما لخارج المقر بدون ان يلقي نظرة اخرى نحوهما ، ليقطع الصمت الذي خرج من خلف المكتب وهو يصفق بيديه باستهزاء واضح جلب العبوس والتكشير لتقاسيم وجهه الحجرية ، ليتوقف بعدها عن التصفيق لوهلة وهو يرافقها بالتكلم بنبرة ساخرة بازدراء
"رائع يا ابن شقيقي جواد ! لم ارى بحياتي بشهامتك وعزوة نفسك وبطولتك ! لدرجة ان تنقذ قاتل شقيقتك من براثن عمك ، لا وايضا تقف بصفه وتعادي عمك والذي يكون ولي امرك ويفكر بمصلحتك دائما ، هل هكذا تفعل بي يا ابن شقيقي الغالي ؟"
نظر له بأحداق سوداء قاتمة وبصمت معبأ بالكثير من المشاعر المتنافرة الذي لا يحتاج للكلام ، ليقول بعدها الذي كتف ذراعيه فوق صدره وهو يقول بابتسامة التوت بنقمة
"لماذا لم تخبرني بأنك قد تزوجت من عائلة القتلة ؟ وما هو هدفك من هذا الزواج ! فأنا اعلم جيدا بأنك للآن لم تغفر لهم ما فعلوه بشقيقتك ! ام تكون قد سامحتهم على افعالهم وقررت صنع هدنة بينهم بالزواج من ابنتهم تعويض عن خسارة ابنتنا ؟ هل ستشرح لي موقفك ؟"
غيم الصمت بينهما ببرودة قاتلة بدون ان يظهر اي ردة فعل على كلامه او تعبير على تقاسيمه ، ليتقدم بعدها امامه وهو يقطع المسافة بينهما قبل ان يقول بجفاء بارد
"بمعرفتي الطويلة بك اعلم جيدا بأن هذه الاسباب ليست ما دفعك للزواج من تلك العائلة ، بل هو دافع الانتقام منهم بتدمير ابنتهم كما دمروا شقيقتك بنفس الطريقة ، وهكذا تكون استعدت حق شقيقتك وانتقمت منهم اشد انتقام ، حقا لقد اثبت بهذا التصرف بأنك شبل عمك الصغير !"
توسعت مقلتيه السوداوين بثانية قبل ان يقبض بكفه على عنقه بلمح البصر وبيده الاخرى ارتفعت بالمسدس وهو يصوب الفوهة بوجهه ، ليقول بعدها بشعلة الانتقام التي توهجت بخلده وهو يحدق بوجهه المليء بالتجاعيد المترهلة
"إياك والتفوه بذلك الكلام مجددا ، فأنا اُفضل الموت على التشبه بك ! وإذا ظننت بأني سأسامحك على تدخلك بأموري الشخصية واختطاف حرمتي وعرضي وزوجتي وكرامتي ، فأنت تحلم بذلك فقد تعديت على حدود حمراء لا تغتفر ولا يتهاون بها ، وقد تحملت بالكثير منك وذقت ذرعا من افعالك مع كل شخص يخصني ويقرب لي ، وهذه كانت القشة التي قصمت ظهر البعير"
امسك بيده على عنقه وهو يقول بنفور قاتم بدون ان يهاب منه
"ماذا ستفعل يا ابن مصعب ؟ هل ستقتلني الآن ؟ بدل ان تقف بصفي وتقتل وتنتقم من الذي اخذ منا فتاتنا بزهرة شبابها ! تذهب عند العدو وتتزوج من ابنتهم وتساعد القاتل ! متى اصبحت هكذا شخص معدوم الكرامة والكيان يساعد العدو ويقاتل عائلته ؟"
قرب وجهه منه وهو يطحن على اسنانه قائلا باستنكار ساخر
"انت آخر شخص من المفترض ان يتكلم عن حق شقيقتي ! من باع حق شقيقتي بأبخس الأسعار والأثمان ! هل تظنني نسيت ذلك الاتفاق الحقير الذي عقدته لتكسب المال على حساب موت شقيقتي ؟ ولكن لم يعد يهمني الأمر الآن ، فأنا استطيع محاسبتهم بالطريقة التي تعجبني وتليق بمبادئي وإيماني ، ولست انت من يحاسبني على افعالي"
شح الهواء عن رئتيه وهو يحاول تحرير عنقه من قبضته والتي برزت العروق منها ، ليتدخل بثواني الذي دخل بسرعة على المشهد امامه وهو ما دفعه ليتمسك بقبضته بلمح البصر صارخا بدفاع مضطرب
"ما لذي تفعله يا جواد ؟ اترك ابي قبل ان يموت بين يديك ! اتركه يا جواد ! فهو يبقى عمك بالنهاية......."
قاطعه بصراخ عالي بدون ان ينظر له وبكل كراهية وغل محمل اتجاهه
"هذا الرجل ليس عمي ، فهو قد فقد هذه المكانة عندي منذ زمن ، وخسر كل فرصه بالنجاة مني عندما حاول اختطاف زوجتي وحرمتي ، وهذا التصرف لا يخرج ابدا من عم !"
شدد (اوس) من امساك يده يحاول نزعها عن عنق والده والذي ازرق وجهه بإعياء ، ليصرخ بعدها بكل ما يملكه من تفكير حكيم ينقذ به الموقف
"اسمع يا جواد ، هذا الذي ترتكبه خطأ كبير ، هل تريد ان تقضي حياتك بالسجون ؟ هل تريد ان تصبح نسخة اخرى عنه ومجرم مثله ؟"
تجمدت ملامحه عند آخر كلماته والتي ايقظته من فورة الحقد المتقدة بصميم قلبه بنيران شوعاء ، ليدفعه بعدها بقوة اقرب للازدراء قبل ان يستلمه ابنه وهو يتلقاه بصدره ، ليشير بعدها بالمسدس اتجاه الابن وهو يقول له ببأس
"الشيء الوحيد الذي يمنعني من معاقبتك على افعال والدك هو الحليب الذي رضعته من والدتي ، وغير هذا لا شيء عندي يرغمني على رحمة كليكما على كل ما تفعلوه بعائلتي ، وهذا آخر تحذير عندي لكما ، واعدكما لا شيء سينجدكما مني بعدها سوى الموت"
تراجع بعدها بخطواته وهو يشيعهما بنظرات كارهة باحتقار قبل ان يستدير بعيدا عنهما ، ليغادر بلحظات لخارج المقر امام نظرات ساكنة بحزن مطمور واخرى نظرات تحيطها التجاعيد يغشيها هالة الاعياء والذي طالها تقدم العمر .
_______________________________
ضرب الباب الحديدي امامه بدفعة من كتفه حتى انفتح بلحظة على اتساعه ، وما ان دخل عدة خطوات متعثرة حتى تسمر بمكانه لوهلة وهو يناظر المشهد امامه والذي حبس انفاسه وزاد الذنب المتوسع بصدره مثل بؤرة سوداء كبيرة ، وهو يراقب الجالسة عند زاوية الجدار بتكور وجسدها يهتز بخواء منتحب وكأنها ايل مكسورة القلب وتتألم من جراحها ، وكأنها لم تكبر عن طفلة الخامسة التي تخاف من ظلها ومن حكايات قصص الرعب التي لا تنام من بعدها ألا بعد ساعات من التهويد .
ابتلع ريقه بتحكم مسيطر بذل مجهود بالحفاظ عليه مع جراحه وضرباته التي اثقل بها ، ليتقدم بعدها بخطوات عصيبة ببطء اتجاه المتكورة بمكانها تكاد لا تستشعر مما يدور من حولها ، ليهمس بعدها بصوت متحشرج بكل قوة احدث صدى بالغرفة الفارغة
"صفاء ، صفاء هل انتِ بخير ؟ هل تسمعيني ؟"
توقف جسدها باستكانة اخذت لحظات قبل ان ترفع رأسها برجفة خاطفة وهي تهمس بذعر تجلى على محياها
"من انت ؟ ماذا تريد مني ؟"
توقف عن السير بعرج وهو يقول بابتسامة جامدة مزجت بالكدمات الدامية
"هذا انا يا صفاء ، شقيقك مازن"
تنفست بشهقة مرتعشة وهي تنتفض واقفة على قدميها الرخويتين ببطء شديد ، وما ان استقامت بوقفتها حتى تنقلت بحدقتيها الدامعتين على هيئته وشكله والذي يظهر كم من تهميش وضرب تعرض له بسبيل الخروج من العراك حيا ، وهي لا تصدق للآن كيفية رؤيته امامها على قيد الحياة بدل ان يصلها جثة هامدة !
ابتلعت ريقها بغصة آلمتها على مدار الساعات حد الموت وهي تهمس بخفوت مبحوح بحزن عميق
"هل انت بخير ؟ هل تركوك على قيد الحياة ؟"
رفع ذراعيه على جانبيه وهو يقول بابتسامة مجهدة بإعياء
"كما ترين امامكِ ، ما ازال على قيد الحياة لهذه اللحظة"
زمت شفتيها بدموع محجوزة بجوفها لم تنشف للآن ولم تهدأ عن الجريان بسيول هدمت الجسر ، لتخفض رأسها بإنهاك وهي تهمس بدموع تساقطت بانكسار
"الحمد لله"
تنفس بقوة اكبر وهو يشفط دفعات من الهواء علها تعيد بعض من تركيزه الممزق ، ليهمس بعدها بتصلب وهو يرفع يده نحوها ببطء
"هل انتِ بخير ؟ هل حاولوا اذيتك بأي شكل ؟"
تراجعت لا شعورياً وكأن الحياة قد دبت بجسدها المرتخي بذبول ، وما ان نظر لها بحيرة جامدة حتى واجهته بنظرات حارقة تحولت لجمرتين دامعتين شبيهتين بعينيه بلحظات الغضب وهي تهمس بكره ساخر
"لقد توقعت هذا منك ، وصدقني لم أفاجئ او انصدم عندما عرفت بذلك ، فقد تجاوزت هذه المرحلة منذ زمن ، ولكن ماذا عنك انت ؟ هل انت سعيد بتعريض شقيقتك لكل هذا ودفع ثمن كل اغلاطك وذنوبك وآثامك وحتى بحساباتك مع المجرمين ! متى ستفهم بأني روح بشرية ولست آلة او اداة تستخدمها لتكفر عن كل ذنوبك وخصوماتك بالحياة ! متى سيفهم العالم ذلك ويتركني بحال سبيلي ؟"
ضم شفتيه بانفعال مكبوت وهو ينفض ذراعيه للأسفل قائلا بشراسة عادت للخروج من صوته
"صفاء ألزمي حدودك واخرسي ، فهذا ليس الوقت المناسب ولا الوضع المناسب لسماع عتابك ولومي بكل ما يحدث هنا ، واساسا ليس لدينا وقت لهذه الاحاديث"
عضت على طرف شفتيها برجفة الألم والذي سكن حياتها وهي تتابع افراغ محتويات كأسها والتي فاضت عن حدها
"ومتى سيأتي هذا الوقت الذي تستمع به لي ؟ هل تنتظر حمل جثماني حتى تصدق بأني اعاني واموت وانت لا تريد ان تشعر ! ومتى شعرت بي يا مازن ؟ كيف سألتك هذا السؤال ! لقد نسيت ذلك ! انت لا تشعر لأنك لست بشري بل شيطان متلبس بهيئة انسان عذب الكثيرين وما يزال ، حتى انني اجزم بأن تكون ما تزال هناك خطايا اخرى لم تنتهي وتنتظر مني ان ادفع ثمنها واكفرها عنك ، أليس ذلك صحيحاً ؟"
حرك رأسه جانبا وهو يحاول الحفاظ على اتزانه بشق الانفس قبل ان يقول بغيظ حاد
"بالله عليكِ يا شقيقتي ! حبا بالله كفى ! توقفي عن تعذيبي كلينا بهذا الامر ، واعدكِ بأن اعوضكِ بالمستقبل واستمع إليكِ بكل يوم وساعة ودقيقة ، فقط توقفي عن تحميلي اكثر من طاقتي ، كفى !"
تنفست بنشيج خافت حتى سمعت صوت احتكاك اسنانها ببعضها من فرط انفعالها ، لتتمالك بعدها نفسها وهي تلوح بذراعها بالهواء قائلة بمرارة بالغة
"هل تعلم ماذا كانوا يقولون لي رفاقي ومعارفي ؟ لقد كانوا يحسدوني بامتلاكي اخ بحياتي ويغبطوني عليك ! لقد كانوا يقولون بأن الأخ سند وصديق وامان وحنية ، ولكني لم ارى ذلك بحياتي ولو ليوم واحد ، لم ألمس منك امان ولم ارى بك صديق ولم اشعر معك بحنية ، لم اشعر بأي شيء من كل ما يقولون ، حتى انهم لا يعلمون بأنك مجرم تعمل بالقتل والتهريب والترهيب ، احيانا اخجل من قول حقيقتك او ان يفتضح امرك امام احد ، عندها كيف سأنظر لهم بعد ان يعرفوا عن اعمالك التي تخدم الشر والقتل ، لن ينظروا لي باستصغار وحسب بل سيخجلون مني وينفرون من وجودي بينهم ، لقد جعلتني اعيش بخوف دائم منذ طفولتي حتى بلوغي إذا كان من افعالك بالعالم التي تعود عليّ او إذا كان من اكتشاف امرك امام من اعرفهم ، لقد دمرت شخصيتي وجعلتني طفلة مهزوزة تخاف من نفسها وممن حولها ، اللعنة على اخ مثلك ، اللعنة عليك"
هجم عليها بلمح البصر وهو يكبل ذراعيها بقسوة صارخا بنفاذ صبر لم يعد يستطيع كبحه
"اخرسي يا صفاء ، كم مرة عليّ ان اعيدها لتخرسي وتتوقفي عن ثرثرتك ، هل تريدين ان اغلق فمك بالمقبس لتعيريني صمتك وتسكتي هذا الصوت ؟ فقد اكتفيت من سماع كل هذه الاتهامات والملامة وكأنني حجر امامك لا ابالي ولا اشعر ، وليس يعني بأني صامت يعني يمكنكِ قول كل ما يحلو لكِ"
شقت ابتسامة ذابلة محياها وهي تضرب بقبضتيها على صدره هامسة بسخرية منفرة
"هيا افعلها ، اغلق فمي بالمقبس ، فهذا ليس جديد عليك ، فأنت دائما كنت تفعلها معي منذ كنت طفلة تخرسني بكلمة واحدة مهددة او صفعة على وجهي ، حتى اصبحت صامتة امامك طول حياتي ، والآن لن يوقفني احد عن الكلام وسأبقى اتكلم امامك حتى تشعر بالذنب والانكسار واقهر روحك كما قهرتني"
استمرت بالضرب على صدره بقوة اكبر بدون استسلام وهي تهمس بين كل ضربة بقهر واضح
"اللعنة عليك ، اللعنة عليك"
افلت ذراعيها بسرعة ليمسك بمرفقيها بقوة كاسرة حتى تألمت عظامها وهو يهزها منهما صارخا بعيون تقدح بشعلتين ملتهبتين
"ارجوكِ كفى يا صفاء ! انا حقير ومجرم وقاتل ، واعترف بذلك امامكِ ولا انكره ، حتى انني اخ سيء ومكروه ومنفر ! ولم اكن يوما اخ او ابن مرضي كما تريدون وتتمنون ! ولكن هذا يكفي يا صفاء ، ارحميني يا شقيقتي ، ارحميني من تعذيبك ، عودي شقيقتي التي اعرفها ، عودي كما كنت اراكِ دوما بروح امي الطاهرة وبقلبها الذي يتسع لجميع المذنبين والطيبين ، لقد اشتقت إلى ملاك امي"
حررت شهقة غادرة افلتت من بين شفتيها واغرورقت عينيها بالدموع وهي تهمس بكلمة واحدة حملت حنين قاهر
"امي !"
اتسعت عينيه العسليتين بدموع حارقة وهو يشاهد شقيقته التي هبطت على الارض تدريجيا وهو ما يزال يمسك بمرفقيها ، لترفع بعدها وجهها عاليا وهي تهمس بابتسامة رقيقة تخللت بملامحها الباكية
"وانا ايضا يا اخي ، اشتقت إلى امي ، هل تحقق لي امنية ؟ هل تستطيع قتلي واخذي إلى امي ؟ هل هذا ممكن ؟"
اغمض جفنيه وهو يعصرهما فوق عينيه بقوة استنزفت روحه الدامية قبل ان يهبط امامها بسرعة ، ليأخذها بعدها بأحضانه بلحظة وهو يطوق جسدها بقوة ويمسح دموعه الدفينة بشعرها الناعم ، ليهمس بعدها بصوت خفيض بحزن حارق
"لا تقولي هذا الكلام مجددا ، فنحن نحتاج إليكِ يا صفاء ، نحتاج إليكِ بيننا ، فقد تركتنا امي انا وابي امانة عندكِ بعد رحيلها ، لذا لا تفرطي بنا ، لا تفرطي"
تمسكت بقميصه وهي تعانقه بنفس القوة وتدفن وجهها بصدره الذي افترشت عليه احزانها ، لتهمس بعدها ببحة باكية بحنين
"لم اجرب هذا الحضن منذ كنت طفلة ، شكرا لك على هذا الحضن"
صمت تماما وهو يزيد من احتضانها المتشبث وكل واحد منهما متمسك بالآخر وكأنه حبل نجاته ، واصوات بكائهما قد كسرت الحصون بينهما بظلام انقشع عنهما وانحلت عقد علاقتهما ، بدون ان ينتبه كليهما للواقف عند باب الغرفة يشاهد عناقهما الاخوي بملامح متلبدة بالغيوم بدون ان تتجه مشاعره للإيجاب او السلب ، كما اعتاد دوما مشاهدة المقاطع العاطفية بحياته بدون ان يشارك بها او يبدي تفاعل وكأنه قد فقد الاحساس منذ زمن ومات قلبه معه .
_______________________________
سارت بخطوات بطيئة بانكسار وهي تحاول الاستناد على الجدار بجانبها بصعوبة وكأن الدوار يرغمها على لفها بسحابات اخذت كامل عقلها وافقدتها الشعور بالحاضر ، وما ان وصلت امام باب الغرفة الموارب والاضاءة تظهر من زواياه بخطوط واضحة ، حتى امسكت بمقبض الباب بيد مرتجفة وهي تكمل فتحه ببطء شديد ، لتقابلها الاضاءة الساطعة والتي اغشت عينيها النديتين واللتين اعتادتا على الظلمة الداكنة ، وهي تأخذ لحظات بفتحهما على اقصى اتساع قبل ان تسلطهما على الجالسة على طرف السرير والتي سمرتها عن الحركة والشعور بما حولها لثواني خاطفة كانت اطول فترة تمر عليها بيومها الحافل .
رمشت بعينيها بدموع حبيسة وهي ترسم ابتسامة رقيقة على مرأى رؤية والدتها الروحية وهي تقرأ من آيات المصحف الكريم بانتباه شديد وبتمعن وتأمل بقراءته ، لتغمض بعدها عينيها على دموع اسيرة وهي تنصت وتستمع لصوتها العذب الذي اصبح مثل مقطوعة دافئة على ضربات قلبها الدامية لتمسح على دموعها وتداوي جراحها ، وهذا ما كانت تحتاج له اكثر من اي وقت مضى لينفخ على حفنة التراب التي اعتلت روحها ويزيل الغشاوة الداكنة التي اعمت بصيرتها .
رفعت كفها وهي تمسح خديها المحتقنين وانفها المحمر من البكاء الطويل ، لتأخذ بعدها عدة انفاس متهدجة بصدرها الذي ما يزال يهتز بنحيب صامت ، وما هي ألا لحظات قصيرة حتى اكملت دخولها بخطوات مترددة وبقلب ينبض بوجل وبعينين تائهتين عن سربهما ، وما ان اصبحت بجوارها على بعد خطوتين حتى همست بخفوت باكي باستجداء
"عمتي"
توقفت (هيام) عن القراءة لوهلة وهي ترفع عينيها الواسعتين نحوها بصدمة تجلت على محياها ، لتهمس بعدها بابتسامة مرتاحة بشحوب
"ابنتي صفاء ، الحمد لله بعودتك"
زمت شفتيها بشهيق مخنوق وهي تهمس بأسى خافت
"هل تأخرت عليكِ ؟ لم استطع الإيفاء بوعدي كما اخبرتك ، وانا الآن مستعدة لأي نوع عقاب قد تسلطيه عليّ"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تغلق المصحف بيديها لتقبل بعدها غلافه قبل ان تضعه بمكانه المخصص ، لتعود بعدها للنظر لها وهي تفرد لها ذراعيها هامسة بخفوت حاني تدفق بصوتها العذب
"تعالي يا صغيرتي ، اريد ان اشعر بوجودكِ حقا ، وبأني لا اعيش بوهم او حلم"
ارتجفت ملامحها وهي تحرك رأسها بالنفي هامسة ببحة حزينة
"عليكِ اولاً بتحديد العقاب على تأخري وعدم الاصغاء لكِ ، عاقبيني يا امي ، عاقبيني"
لم تفقد ابتسامتها وهي تفرد ذراعيها امامها هامسة بابتسامة عطوفة
"ليس هناك عقاب اكثر مما مررت به ، لذا لا تعاقبيني اكثر يا ابنتي ، فقد تحملت عقوبات ومآسي الله فقط من يعلم بها ، وعقابكِ الآن لن يجلب لي سوى الحزن والاسى على ما فات"
فتحت شفتيها تمرر انفاس حارقة عصرت روحها بدموع مكتومة ، وبلحظة كانت ترتمي بأحضانها وهي تجلس على طرف السرير ورأسها بصدرها وكفيها متشبثتين بقماش عباءتها ، وهي تخرج بكاء مذبوح لم يلتئم ولم يداوى على مدار ساعات اليوم التي كانت اكثر من قاتلة ومرهقة اغتصبت روحها ومزقت نياط قلبها .
بينما كانت (هيام) تمسح على ظهرها المنكمش وجسدها المهتز بهشاشة قابلة للانكسار ، وهي تتمتم بخفوت وجل فوق رأسها المندس بأحضانها
"بسم الله عليكِ يا ابنتي ، اعوذ من الشيطان الرجيم ، بسم الله عليكِ من كل شر ومكروه"
استمرت بالنحيب وهي تهذي بكلمات متلعثمة ببكاء مترجي
"انا تعبت يا امي ، تعبت كثيرا ، لم اعد استطيع تحمل العيش هكذا ، لقد اختطفوني وقهروني وعذبوني بأقرب المقربين مني ، اخافوني وارهبوني بطريقة مؤذية لروحي وقلبي ، لماذا العالم بكل هذه القسوة ؟ لماذا كان عليّ ان اتعرض لكل هذا ؟ لماذا يستهدفوني انا بكل مرة ؟ ألم يستطيعوا تركي اعيش بسلام !"
ربتت على ظهرها بمواساة وهي تقول بدموع خائنة احتلت مقلتيها السوداوين
"تعوذي من الشيطان يا ابنتي ، لا يجوز قول مثل هذا الكلام بانعدام حيلة ، اهدئي وتنفسي بعمق فأنتِ هكذا تخنقين نفسكِ وتجهدينها اكثر وتعذبين روحك كثيرا ، فهذا الضغط غير صحي لكِ وقد يؤدي لمشاكل عصيبة بعيد الشر عنكِ"
اخذت انفاسها بشهيق مستمر بصعوبة زادت الألم بصدرها بخفقات متسارعة ، وبلحظات كانت تهدئ تماما وهي تخفف من زفير انفاسها العنيفة وتريح جسدها من انكماش نقص الهواء منه ، لتبعدها عنها قليلا بأيدي حانية وهي تمسح على وجهها المغرق بدموعها الغزيرة وتزيح خصلات شعرها المبتلة لخلف اذنيها بأمومة رقيقة .
امسكت بعدها بوجهها الشاحب وهي تهمس بابتسامة حانية بسخاء عاطفتها
"هل انتِ بخير الآن ؟ كيف تشعرين يا صغيرتي ! صدقيني مهما كانت جراحكِ كبيرة ومؤلمة فأنا واثقة بأن جبر الله كبير ولن ينساكِ من رحمته يا ابنتي ، فهذه هي الحياة ليس كل شيء بها جميل وليس كل شيء بها حزين ، لذا عليكِ ان تؤمني بأن الحزن لا يدوم للأبد والفرح قادم لا محالة"
اومأت برأسها بهمهمة حزينة وهي تمسك بكفيها على وجهها تقبل باطنهما ، لتقول بعدها بابتسامة حزينة بتودد
"امي هل يمكنني النوم عندكِ هذه الليلة وانتِ تقرئين فوقي من آيات المصحف الكريم ؟ فأنا احتاج بشدة للشعور بالراحة والطمأنينة وبأن كل شيء سيكون بخير"
اتسعت ابتسامتها بحنان حفر بحنايا ملامحها وهي تخفض كفيها لكتفيها لتربت عليهما هامسة بمودة
"بالطبع يا صغيرتي ، سأفعل اي شيء لأرى ابتسامة ابنتي تعود كما بالسابق بعيدا عن كل هذه الهموم والتي كسرت قلبها الصغير"
ابتسمت بهدوء وهي تستلقي على السرير لتريح رأسها على حجرها باسترخاء ، بينما كانت (هيام) تريح بكف على شعر النائمة بحجرها وبكفها الاخرى تمسك بالمصحف وهي تبدأ بالقراءة منه بإمعان وتركيز شديد ، لتنام على صوت الهدوء السابح بالغرفة بذكر القرآن الكريم بصوتها الشجي والذي تلطف بقلبها ونشر نور الهداية بروحها الباردة التي امتلأت باطمئنان وامان كان ينقصها .
_______________________________
كانت جالسة امام طاولة الزينة وهي تلوح بالقلادة امام ناظريها بدون اي تعبير يعلوها ، وعينيها السوداوين تتابعان القرص الدائري الذي كان يمر عليها بكل دورة تفيض بمشاعر تخرج عن إرادتها وتحيط بها بخيوط تسحبها لقعر الجحيم ، لتقبض بلحظة على القرص بلمح البصر وهي تشدد عليه بأظافرها المطلية باحمرار قاني مثل مخالب شرسة حتى ابيضت مفاصلها ، لترخي قبضتها تدريجيا بتخدر قبل ان تتسلل القلادة مجددا من بين اصابعها وهي تسقط امام نظراتها بهدوء .
احتدت ملامحها وهي تزيد من حركة اصابعها بدورات سريعة اختفى معها القرص وكل ما يخصه ، وبثواني كانت تطير سلسلة القلادة من اصبعها مثل الرمح حتى اصطدمت بالمرآة امامها وهي تسبب خدش بسيط به ، اخفضت عينيها بعدم اهتمام وهي تسلطهما على القلادة الملقاة بين ادوات التجميل والقرص قد استقر بداخل علبة مزيل التبرج .
افاقت على صوت خطوات من الخارج تعلن دخول احدهم لجناحها ، لتنظر بسرعة للمرآة امامها وهي تعدل من تسريحة شعرها وتسدله على كتفيها بإغراء واضح ، قبل ان ترفع عطرها الفرنسي الخاص بها وهي ترش منه على نفسها بأنثوية معطرة بمفاتنها والتي لا تظهر ألا عندما يتواجد السبب لها .
ابتلعت ريقها بقوة وهي تستدعي ابتسامتها الجميلة برقة مغوية فوق ملامح اقل ما يقال عنها بأنها فاتنة بسحر فتاك ، وما ان فُتح الباب بثواني حتى التقطت عينيه بالمرآة بأسلحتها التي لا تخيب بدعوة جريئة بوضوح ، وهي ترافقها ببسمة طفيفة هامسة برقة انثوية
"مساء الخير يا زوجي العزيز"
ادار عينيه بعيدا وهو يقول بجدية هادئة
"هل رأيتِ ملف صفقة روسيا ؟ فأنا لا اجده بكل الغرف ، وقد بحثت عنه بكل مكان بالمنزل ، هل تعرفين شيء عنه ؟"
ادارت رأسها نحوه وهي تميل على الكرسي للخلف حتى تساقط شعرها بجانبها هامسة بخفوت ماكر
"لا اعلم عن ماذا تتكلم ، ولكني اعلم جيدا كيف ارضيك وانسيك امر الملف بأكمله"
تنهد بجمود وهو يتجه امام الخزانة بدون ان يعلق على كلامها ، ليفتح الخزانة على مصرعيها وهو يفتش بين الملابس بعشوائية .
غامت ملامح (سلوى) وهي تتلاعب بخصلات شعرها المتشابكة بأصابعها قائلة بخفوت مغتاظ
"هل الشيء الذي تبحث عنه قيّم لهذه الدرجة ؟ ألا تستطيع تعطيل نفسك لثانية بإعطائي بعض الاهتمام ! ولكن يبدو بأن كل شيء بالعالم يكون بالمرتبة الأولى وزوجتك دائما بالمرتبة الاخيرة ، وبالطبع اقصد زوجتك الأولى سلوى فأنا اعلم جيدا بأني لا استطيع منافسة زوجتك الثانية والتي تأتي قبلي بالمراتب بقائمتك"
زفر انفاسه بضيق وهو ينفض ذراعيه للأسفل قائلا بجفاء
"رجاءً يا سلوى ، ليس لي مزاج الآن لسماع المزيد من الشكاوي والترهات التي تنطقين بها بكل يوم بعد ان تشحنين طاقتك بتلك المشاعر السلبية ، فأنا قد اتيت فقط للبحث عن الملف المفقود ، إذا كنتِ تعلمين مكانه قولي وإذا كنتِ لا تعلمين فلا داعي لتسمعيني موشح من كلامك المسموم"
تجمدت ملامحها وهي تشاهد الذي كان يبحث بالرف الاعلى بدون ان يعطيها انتباهاً ، لتعتدل بعدها بجلوسها لوهلة وهي تنظر للمرأة التي قابلتها بعيون جامدة امتلأت بالكره المتأصل بروحها ، لتهمس عندها بابتسامة ساخرة
"هل تتكلم بهذه الطريقة ذاتها مع زوجتك الثانية ؟"
استمر بالنبش بين الملابس بالأعلى بصمت تام وكأنه لم يسمعها ، وهو ما زاد الغضب المفترس بملامحها الفاتنة يكاد ينهش جسدها امام صورتها العاكسة بالمرآة تتواجه امامها بالحقائق المستترة عن الجميع ، لتتابع بعدها كلامها القاتل وهو يخرج من جوف بركان ثائر
"لا اعتقد بأن ذلك ممكن ! فنحن نتكلم الآن عن الجميلة الساحرة وعشق احمد الفكهاني والذي وقع بهوى حبها منذ النظرة الأولى ، كيف من الممكن ان نقارن معاملة الاميرة الطاهرة بمعاملة الشيطانة ؟ هذا بالطبع سيكون منتهى الظلم والاجحاف بحقها ، فبينما تجلس الشيطانة تنتظر ان يتلطف عليها زوجها بكلمة لطيفة او هدية غالية او فعل يتودد لها تحصل تلك الاميرة على كل ما تريده من كلام وهدايا وافعال وتصرفات بدون ان تطلب حتى ، أليس كذلك يا زوجي ؟"
استقام بجسده المشدود بتصلب وهو يحيد بنظراته قليلا قبل ان يقول بجمود غير معبر
"استمري على هذا المنوال كل يوم ، فهذا هو ما تبرعين به بحياتك ، اتمنى فقط ان تجدي هواية اخرى تشغلين وقتكِ بها بدلا من نشر سمومك بلسانك الطويل الذي لا منفذ منه ولا رحمة"
عضت على طرف شفتيها بامتعاض وهي تشدد من قبضتيها على جانبيها وجسدها كله ينخزها بألم الغيرة التي استولت على روحها وانتشلتها من مكانها ، وما ان فاض كيلها حتى انتصبت واقفة بعيدا عن طاولة الزينة ، لتسير بعدها عدة خطوات جعلت قميص نومها القصير يرفرف من حول ساقيها حتى اصبحت خلف الواقف امام الخزانة .
امسكت بكتفه بلمسة رقيقة وهي تهمس بصوت مجروح حزين
"هل انت غاضب مني يا احمد ؟ هل تضايقت فقط لأنني قلت الحقيقة والتي تتعمد حجب عينيك عنها ! انا لم اقصد ان اهينك بكلامي ولكنك من يدفعني لكل هذا بكل مرة ، فقط اعطيني إشارة بأنك تهتم بي اكثر منها وبأنك لا تفضلها عليّ وتنصف بحقوقك وواجباتك بيننا"
امسك بيدها على كتفه بقوة قبل ان يهمس بحزم جاد
"كفى يا سلوى ، لقد مللت من اعادة نفس الاسطوانة معكِ بكل مرة ، لقد اكتفيت"
ألقى بكفها بعيدا وهو يعود لمهمة البحث عن الملف الضائع ، بينما كانت الساكنة من خلفه تحاول لملمت شتات كرامتها المبتورة وهي تمسح تحت عينيها المكحلتين بقبضتها بعنف ، لتتمالك بعدها نفسها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة قائلة بنبرة تسلطية بسخرية
"يا لغبائي الغير محدود ! دائما اقع بنفس الخطأ بدون ان احذر من النتائج الأولى ، فأنا مهما فعلت وقلت ستبقى تلك هي مليكة القلب التي لا احد يأخذ مكانها المتربع بقلبك ، ولن تستطيع يوما الانصاف بيننا لا بالحقوق ولا بالواجبات ولا بالمعاملة لأنها تلك من تحبها وليس انا ، تلك من تفضلها وليس انا ، تلك من تحظى بالهدايا وليس انا ، تلك من تهتم لأمرها وليس انا ، تلك من تعامل برقة وليس انا ، تلك من تثق بها وليس انا ، احيانا اتسائل بيني وبين نفسي لو كانت تلك زوجتك الأولى ، هل كنت ستتزوجني يوما ؟ بالطبع لا فهي الزوجة التي تمنيتها وانا الزوجة التي نبذتها !"
تنفست بثورة دموية بعد ان افرغت بكل ما يعتمل بصدرها منذ ايام بل منذ زواجه للمرة الثانية ناقضا عهود زواجهما ، ليستدير الواقف امامها بمعالم هادئة وهو يحتضن الملف تحت ذراعه بعد ان وجده بطريقة ما ، ليحرك بعدها رأسه بجمود وهو يتمتم بتفكير ساخر
"ربما تكونين على حق ! لأول مرة تقولين وجهة نظر سديدة"
انفرجت شفتيها بأنفاس مشدوهة باستنكار وهي تشاهد الذي تجاوزها بهدوء وداس عليها بدون اهتمام ، وما ان ابتعد عنها خطوتين حتى اوقفته بصراخ عالي بجرح غائر
"هل تظن حقا بأنها بقدر هذه الثقة يا سيد احمد ؟"
تجمد بمكانه بهدوء وهو يلتفت بنصف وجهه قائلا بغموض
"بماذا تهذين الآن ؟"
استدارت نحوه بكلتيها وهي تلوح بذراعها جانبا قائلة بصوت شرس ناقم
"انا لا اهذي بل اقول الحقيقة التي لا تراها ، فأنت لا تعلم شيء عن زوجتك ، لا تعلم شيئاً مما يحدث من وراء ظهرك وتتغابى عنه ، لا تعلم اين تقضي يومها بأكمله خارج المنزل ، لا تعلم إذا كانت حقا تعمل بحدود المدرسة فقط ، لا تعلم مع من تعود وتذهب ، لا تعلم ماذا يوجد بحياتها وما تخفي عنك ، لأنك ببساطة لا تصدق احد سوى ما تقوله هي وتعمي عينيك عن كل ما يدور من حولك !"
قطب جبينه بجمود صخري وهو يستدير امامها بكامل جسده قائلا بصبر على وشك النفاذ
"اخرسي يا سلوى فأنا ما ازال اتكلم معكِ بلطف تقديرا للعشرة بيننا ، لا تجعليني انقلب عليكِ واريكِ شيئاً لن يعجبك لكي لا تحاولي التطاول على زوجك والتشكيك بضرتك مجددا"
نفضت ذراعها بقوة وهي تكمل بانفعال هادر خرج عن ارادتها
"حتى لو حاولت اخراسي واغلقت عينيك عن الحقيقة لن تستطيع منعها ، وعندما تزيل تلك الغشاوة عن عينيك سترى كل شيء بوضوح وتكشف كل الاكاذيب التي تحاك من حولك ، فقط عندما تملك تلك القوة بالتخلص من وهم سحرها قد تستطيع رؤية زوجتك الحقيقية ، ولا تقول بأني لم احذرك"
هجم عليها بثواني وهو يكبل ذراعيها ويقربها منه قبل ان يقول باصطكاك اسنانه بغضب جامح
"اخرسي يا سلوى فقد سمحت لكِ بقول الكثير من التفاهات والتخاريف ، ولكن ان تصل بتكرار الإهانة تلو الاخرى بحق زوجتي ، فهذا اكثر من المحتمل ، وتذكري جيدا بأنه إذا كان عليّ ان اصدق احد منكما فهي التي سأصدقها بدون ادنى تردد او تفكير ، فأنا اثق بها اكثر منكِ ومن عائلتي ومن نفسي ، ولو اتحد الجميع ضدها وكذبوها فلن اصدق غيرها ولن اثق بأحد سواها"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تتلقى ضربة غير مباشرة قتلت قلبها وداست عليه ، لتهمس بعدها بخفوت حانق بقهر
"انت تضع ثقتك بالشخص الخطأ"
ابتسم بالتواء ساخر وهو يدفعها بعيدا عنه بقسوة قائلا بهدوء قاتم
"انتِ آخر شخص يتكلم عن الثقة ، وآخر شخص قد افكر بالوثوق به ، فقد اعمت غيرتك عينيك وشوهت الكراهية روحك ، وكل ما اتمناه هو الشفاء العاجل لكِ قبل ان تزداد حالتكِ سوءً وعندها لن نستطيع ردعها او إحجامها"
استقامت بثبات وهي تنظر بعيون تقدح بوميض الرعد باتجاه اثر الذي غادر خارج الغرفة ، لتغمض عينيها بارتعاش انتفض معها جسدها لا إراديا ما ان وصل لها صوت اغلاق باب الجناح .
زفرت انفاسها بشهيق مرتجف وهي تمسح وجهها بكفيها بتخبط احتل كامل جسدها ، لتستدير بعدها بجنون وهي تتجه مباشرة امام طاولة الزينة ، وما ان وقفت امام المرآة حتى ظهرت لها صورتها المعاكسة والتي تظهر امرأة فاتنة بشر دفين عبث بروحها ونشب بألسنة النيران الواضحة من خلف مقلتيها السوداوين .
التقطت بعدها القلادة التي ما تزال ملقاة امامها وهي تخرج قرصها من مزيل التبرج ، وما ان اصبحت امام ناظريها من جديد حتى همست لها بوعيد قاتل لا يخفي الشر به
"سيعرف كل شيء ، وسيندم على ما فعله معي ، سيندم اشد الندم"
______________________________
خرجت من الغرفة وهي تغلق الباب من خلفها بحذر بدون ان تصدر صوتا ، لتتنهد بعدها بقلب مرهق وهي تبتعد عن الباب بهدوء ، تسمرت بمكانها بلحظة ما ان ظهر امامها الجالس على الاريكة ببهو المنزل ، لتواصل بعدها خطواتها امامه بثبات حتى اصبحت بالقرب من الاريكة ، وقبل ان تبادر بالكلام سبقها بصوت خفيض بارد
"هل هي بخير ؟"
اومأت برأسها بهدوء شديد وهي تهمس بصوت شاحب بوهن
"اجل اصبحت الآن بخير تقريبا ، وتركتها نائمة بعد ان كفت عن البكاء ، وقد طلبت مني النوم بغرفتي هذه الليلة فهي كانت تبدو بحالة متدهورة جدا"
اخفض رأسه وهو يمرر يديه على شعره قائلا بهدوء جامد
"جيد ، لقد فعلتي الصواب"
تجمدت ملامحها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بنبرة جادة بتصلب
"حسنا هل ستخبرني الآن بما حدث معكما ؟ وماذا حدث لصفاء حتى تعود بهذه الحالة المتدهورة ! فأنا لم اعرف للآن اين كانت صفاء مختفية منذ الصباح ؟ وانا لن اتركك حتى تفسر لي وتشرح كل شيء حدث بابنتي اوصلها لهذا الحال"
تنفس بجمود وهو يصل بيديه لمؤخرة شعره قائلا بغضب مكتوم
"امي هل هذا الوقت المناسب لطرح الاسئلة حقا ؟ ألا ترين الحالة التي وصلنا لها ! اتركينا على الاقل نستجمع افكارنا لصباح الغد"
نفضت ذراعيها للأسفل بغضب وهي تقول بعصبية حانقة تكاد تنفجر من حرقتها
"وماذا عني انا ؟ ماذا عن حالتي وانا من الصباح الباكر انتظر خبرا يخص ابنتي المفقودة ! وابني العزيز مختفي ايضا بعد معرفته بالأمر لينطلق خارجا من المنزل بدون ان يعطي امه اعتبارا او جواب يريح قلبها الملكوم عليكم ! ألا استحق ان اعرف شيئاً عن الذي حدث لأولادي يطفئ الحريق الذي اشعلتموه بخلدي ؟ ألا استحق ان اعرف ماذا حدث للفتاة التي عادت منهارة بين الحياة والموت وكأن احدهم قد اخذ روحها !"
ضرب بيديه على ركبتيه فجأة وهو يقول بقتامة قاسية
"امي رجاءً ، ليس الآن ، ليس لدي طاقة على الكلام والجدال ، ارحميني من هذه المهمة ، وبالغد سأعطيكِ كل الاجوبة التي تريدينها"
عبست ملامحها بشحوب اكبر وهو تشدد على قبضتيها هامسة بحدة بدون ان تتنازل عن الجواب
"لقد سألتك يا جواد واريد جواباً على استفساري ، ولن استطيع النوم او الراحة او حتى الانتظار للغد قبل ان احصل على جوابي ، فقط اخبرني ماذا حدث مع صفاء ؟ واين وجدتها ؟ ولا تحلم ان اخرج من رأسك قبل ان تجيبني على هذا الاستفسار"
رفع رأسه بقوة وهو ينظر لها بعيون سوداء حالكة قبل ان يقول باختصار
"لقد كانت صفاء مخطوفة وقد اخذوها كرهينة"
شهقت بانتحاب بدون صوت وهي تضغط بكفها على اعلى صدرها عند مسكن الألم ، وما ان وجدت صوتها حتى همست بخفوت ثابت بتوجس
"ومن هم الذين خطفوها ؟ من هم قساة القلب الذين يملكون الجرأة على اختطاف صغيرتي ! ألم يعد العالم آمن علينا هل تجردت الانسانية من البشر ؟!"
اشاح بوجهه جانبا بشعور نيران الموقد الساخن التي اشتعلت من جديد بدون هوادة ، ليقول بعدها بهدوء شديد بدون ان يظهر ما يجيش يداخله
"رجال متحت هم الذي خطفوها بسبيل الوصول لشقيقها"
انفرجت شفتيها بأنفاس منذهلة وهي ما تزال تضغط على صدرها هامسة باستنكار مشدوه
"ماذا ؟ متحت هو الذي خطف صغيرتي ! هو الذي حرق قلبي عليكما وانا اتوقع الاسوء قد اصابكما ! هو من اوصل حالة ابنتي لهذه الدرجة من التدهور والانهيار ؟ هو عديم القلب والرحمة والذي لم يكتفي بتعذيب قلبي على ابنتي وحرماني من ابني ، بل يريد ايضا خطف روحي على ابنتي وزوجة ابني والتي لم ترى يوم سعيد منذ ارتباطها بكم ودخولها بحرب انتقامكم ! يا إلهي الرحمة ! ماذا فعلت حتى يحدث كل هذا بحياتي وانا افقد صغاري الواحد تلو الآخر ؟"
تنفس (جواد) بجمود وهو يمسد بأصابعه على جبينه قائلا بصوت ممقوت
"هذا ما حدث يا امي ، ولم يكن لي علم بالأمر برمته ، ولكن لا تقلقي فقد تأكدت بأن هذا الأمر لن يعاد مجددا ولن يفعلوها بنا ، فقد اصبحوا يعلمون بأن الاقتراب من فرد من عائلتي سيكلفهم حياتهم"
اتسعت حدقتيها السوداوين بوجل اكبر وهي تهمس بخوف تجلى بصوتها
"ماذا فعلت بهم ؟ هل فعلت حماقة تتجاوز حدود ما ربيتك عليه ! تكلم يا جواد ولا تؤلمني اكثر فأنا قد وصلت لمرحلة لم اعد اثق بتصرفاتك"
نظر لها بجمود لوهلة قبل ان يقول بجفاء حاد
"اهدئي لم يحدث شيء مما تفكرين به ، وليس لدي كلام آخر اخبركِ به ، فكل ما اردتِ معرفته مني قد اخبرتك به"
ابتلعت ريقها بغصة ارهقت قلبها وهي تخفض كفها على جانبها هامسة بخفوت حاسم
"اسمعني يا جواد ، انا لن انتظر اكثر من هذا وسأقول لك بقراري الاخير ، بعد كل ما رأيته للآن لقد رأيت بأن الافضل هو عودة صفاء لمنزل عائلتها ، فهي لم تأخذ من هذا الزواج الذي بني على صفقة الانتقام سوى عذاب قلب وقهر طول الشهر الفائت ذاقت منهم اكثر مما تستحق ، وهي بطبيعتها الطيبة تناولت من المرار والعلقم بصمت بدون ان تتذمر او تشكي ، كانت زوجة مثالية وغنية بكل شيء يتمناه الرجل بالمرأة والأم لأبنها لتكون شريكة حياته بعد رحيل الجميع من حياته ، ولكنك مع كل ذلك لم تقدر شيء من هذا وهي تتنقل بالعذاب بيننا وبين عائلتها وبين عائلة عمك ، حتى اصبحت تذوي تدريجيا وتذبل ولم يعد لها حياة او سعادة تعيشها بيننا فقد قتلناها وانتزعنا منها كل ذرة سعادة دخلت بها لمنزلنا ، وبما انك لن تتقدم معها بهذا الزواج وهذه العلاقة التي اصبحت مرض بالنسبة لكما الافضل ان تنفصل عنها بالحسنة وتتركها بحال سبيلها ، قد تجد عندها السعادة الحقيقية بعيدا عنا وتكون بأمان اكثر بعيدا عن نيران احقادنا ومآسي عائلتنا ، فهذا الزواج قد اصبح خطرا على حياتها وانا لن اخاطر بالمزيد منكم ، سمعتني يا جواد !"
كان يشرد بنظراته بجمود صخري اكتسح محياه بدون اي حياة تجردت منه ، ليريح بعدها قبضتيه فوق جبينه وهو يقول ببرود قاسي
"الامر لا يحل هكذا يا امي ، فهذا الامر يحتاج لنقاش بين الطرفين لا تستطيعين اتخاذ قراركِ عنا ، وعلى كل حال سنتكلم بهذا الأمر بوقت آخر ، فقد قاربنا على وقت بلوج الفجر ، لذا اذهبي ونامي وارتاحي واتركي كل شيء حتى يحين موعدها"
زفرت انفاسها بإنهاك وهي تربت على كتفه قائلة بحنية امومية
"وانت ايضا يا بني اذهب للنوم ، فلم ترتح منذ عودتك من العمل وانت تدور بسيارتك منذ وقت الظهيرة للمساء ، لذا اذهب وخذ قسط من الراحة"
حرك رأسه بهدوء بدون ان يلقي نظرة نحوها وهو يقول بخفوت مجهد
"لن استطيع النوم الآن ، فقد اقترب موعد آذان الفجر ، ولن يكون من السهل عليّ الاستيقاظ مجددا ، لذا اذهبي انتِ ونامي وعندما يحين موعد الآذان سأوقظك"
اومأت برأسها بهدوء وهي ترفع كفها لتمسح على شعره بحنية هامسة بعطف
"حسنا يا بني ، تصبح على خير"
اومأ برأسه بدون ردّ وهي تبتعد عنه باتجاه غرفتها التي جاءت منها ، بينما الساكن بمكانه كان ما يزال شارد بنظراته بالظلام المحيط به بسواد حالك شبيه بسواد احداقه ، ولكن الاختلاف هي الجمرة التي تسكن تلك الاحداق بوميض شعلة القداحة تلهب الكثير بألسنة صغيرة .نهاية الفصل..........
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...