كانت تسير بهدوء وهي تنظر امامها بشرود مشوش تكاد تفقد توازن جسدها المنتفض بارتعاش بعد ان قابلت ماضيها الملطخ بالسواد والذي ما يزال يلاحقها لهذه اللحظة ، وهو مصر لأعادتها لتلك الدناءة ولعالم الإجرام والذي خرجت منه بعد عناء طويل ، لتخفض بعدها نظرها للأسفل باهتزاز وهي تعود بذاكرتها للخلف لأكثر من خمس سنوات عندما كانت جالسة على طرف الأريكة المهترئة وجسدها يرتعش لا إراديا ونظراتها معلقة بالورقة والقلم من اسفلها وكلمات ورموز مبهمة مكتوبة على طول الورقة ، بينما كانت محاطة بجميع انواع الرجال وكل منهم يتميز بخلفيته الإجرامية والظاهرة بخبث ملامحهم وزوج والدتها فرد من هذه الزمرة الكبيرة ، وهو من كان يجلس امامها تماما ويتأملها بانتظار ويشغل نفسه بنفث الدخان من سيجارته بكفه بنفاذ صبر ، نطقت الصامتة اخيرا بعدها بلحظات وكأنها تعلن عن حكمها وهي تقول بشفتين مرتجفتين بوجل
"انا لم افهم ! ماذا تريدون مني بالضبط ؟"
اخفض (قيس) السيجارة عن شفتيه وهو يشير للورقة بالسيجارة التي نثرت الرماد عليها قائلا ببرود خبيث
"هل رأيتِ هذه الورقة امامكِ ؟ اريد منكِ ان تحلي الرموز بها لتخرجي لنا بكلمات السر والتي تحتوي بها ، واعلم بأنكِ قادرة على فعلها"
عضت على طرف شفتيها المرتجفتين بألم وهي تتمتم بعبوس
"غير صحيح انا لا أعرف كيف تحل ابدا ، لذا بحثُ عن شخص آخر يساعدكم بها"
تقدم (قيس) فجأة بجلوسه ليصبح على مسافة قصيرة بين رأسيهما قبل ان يهمس بتشديد وهو يسحق طرف السيجارة بقوة بسطح الطاولة
"لا تحاولي خداعي يا شبيهة والدتك ، ام تريدين مني التعامل معكِ بطريقة أخرى لن تعجبكِ ابدا ؟ فالصبر عندي له حدود ، فهمتي !"
رفعت (ماسة) عيناها الدامعتين بشحوب وخصلات شعرها السوداء ملتصقة بجانبي وجهها من العرق الغزير والذي يغطي خديها ، لتهمس بعدها بارتجاف متصلب به لمحة خوف
"انا افعل كل جهدي لإرضائك يا عمي قيس ، واحاول دائما إتقان دور خادمتك الوضيعة ، ولكن امور اخرى لا علاقة لي بها وليست من مهام دوري !"
رفع قبضته فجأة وبلمح البصر كان يمسك بمؤخرة شعرها بقوة وهو يقول بابتسامة جامدة تنطق بالشر
"وانا اعلم ايضا بأنكِ متفوقة جدا بالبحوث العلمية والتي تحتاج للكثير من الحلول والبراهين ، وهذا الكلام ليس من عندي بل من شهادة اساتذة كثيرين يهتمون بتعليمكِ"
تغضنت ملامحها بألم بدون ان تهتم بخصلات شعرها والتي يوشك على اقتلاعها وهي تتمتم بامتعاض حاقد
"الدراسة بحقول علمية مقتصرة فقط على الفهم شيء ، والتطبيق بالواقع شيء آخر يا عمي قيس"
شدد (قيس) من القبض على خصلات شعرها وهو يرجع رأسها للخلف ببطء قائلا بتصلب شرس
"لا يهمني كل هذا الكلام الفارغ فأنا اعلم جيدا بالمهارات والتي تملكينها خلف سحر والدتك ، المهم عندي الآن ان تنفذي ما اخبركِ به وتزيدي على مهامكِ مهمة جديدة يا شبيهة والدتك"
انتفضت (ماسة) وهي تقرب وجهها امامه رغم الألم برأسها وهو يكاد يخلع رأسها عن جسدها ، لتقول بعدها بحنق مشتعل والدموع تتجمد بحدقتيها بحرارة بدون ان تذرف اي دمعة منهما
"لن افعل فأنا لستُ مضطرة لتحمل كل هذه الأوامر ، يكفي اني اخدمك انت واصدقائك المجرمين واتحمل قرف حياتكم الرخيصة ، وتريدون مني ايضا اشراكي بعالمكم الإجرامي الرخيص وكأنني حيوان عندكم !"
ما ان انهت كلامها حتى ادارت وجهها بعيدا عنه بعنف للجانب الآخر بفعل الصفعة والتي طبعت اصابعها على خدها بقوة من كفه القاسية ، قبل ان يعود ليدير وجهها نحوه بيده القابضة على خصلات شعرها وهو يقول بتحذير شرس تعرف نتائجه جيدا
"إياكِ وان تعيدي هذا الكلام على اسماعي مرة أخرى ! فلا تنسي بأنكِ تعيشين هنا انتِ وروميساء تحت رحمتي وسلطتي وألا لكنتما الآن تعيشان بالملاجئ كباقي الأطفال المنبوذين ! لذا نفذي كل ما أقوله لكِ بدون أي مشاكل لكي لا اضطر للتفكير عندها بثمن سكنكما بمنزلي"
اغمضت (ماسة) عينيها بقوة وهي تحاول منع انهيارها من الخروج امامه وجسدها يزداد ارتعاشا مع انقباض حاد بصدرها بدون ان تظهر أياً من هذا على ملامحها الجامدة ، فهو دائما ما يصيبها بشعور بالانكسار من كلامه الحقير وهو يذكرها على الدوام بأنه الوحيد والذي بقي لهما بهذا العالم القاسي ، لتهمس بعدها باستسلام خانع وكأنها تعطيه وثيقة استعبادها له
"سأفعل ما استطيع"
افلت خصلات شعرها بعد ان حولها لخصلات مجعدة فوضوية من فعل قبضته عليها ، ليربت بعدها على خدها برفق وهو يقول بابتسامة جانبية برضا
"احسنتِ لقد بدأتِ تفهمين اخيرا ما هو دوركِ بهذا المكان ، لذا لا تحاولي استفزازي مرة أخرى لأني احيانا لا أستطيع السيطرة على اعصابي والتي تنفلت مني بسرعة فقط من خطأ واحد صغير غير مقصود !"
افاقت من ذكرياتها ما ان كادت تتعثر من الحجر الصغير والذي اصطدمت قدمها به ، لترفع بعدها يدها وهي تمسد على جبينها بغضب بسبب الذكريات والتي اخذتها بعيدا جدا لتعود للغرق بالوحل والذي لطخت نفسها به من قبل ، وهي التي عاهدت نفسها بأنها لن تفكر بكل احداث الماضي فقد كانت كلها تحدث فوق إرادتها الحرة وحياتها معلقة بيد شخص واحد هو من يملك مقاليد حياتها بأكملها بدون ان تملك حق الرفض او القبول بأي شيء يخصها !
جلست بعد ان سارت مسافة قصيرة على مقاعد انتظار الحافلة وهي تضع حقيبتها فوق حجرها ، لتنظر بعدها للطريق السريع امامها والسيارات تتحرك امامها بلمح البصر بدون التفكير بالأرواح والتي قد يدهسونها امامهم فقط من اجل الوصول إلى وجهاتهم بالموعد المحدد لهم وكأنهم يقولون للعالم كل شخص مسؤول عن حياته وهو من سيتحمل ملامة إصابته .
رفعت كفها لتعيد خصلات شعرها المتطايرة امام نظرها وهي تدسها خلف اذنها بقوة...لتعود لذكرياتها البعيدة مرة أخرى بدون ان تمنع نفسها من التذكر وتحديدا بعد ان اصبحت شريكتهم بأعمالهم الغير قانونية والتي تؤذي الأمن العام ومهمتها الجديدة قد اصبحت اختراق كلمات مرور الأجهزة الأمنية والتكلم مع المدراء الكبار لتحصل منهم على المعلومات المهمة والتي تساعدهم بما يسعون إليه من دناءة وحقارة....ولكن كلما كانت تخطئ بعملها بقصد او بدون قصد او كلما حاولت خداعهم بكلمات المرور لتعريضهم لخطر الانكشاف امام العالم....تتحول عندها حياتها للجحيم بعينه من تعنيف جسدي وحشي وضرب لم تذقه بحياتها لحرمان اسابيع من تناول الطعام...وهي ما تزال تذكر بكل مرة يحدث نفس الشيء تبدأ بالرجاء والتوسل بلهاث وانفاسها تكاد تزهق منها من الألم الشديد والذي تشعر به دائما عندما تكون السرية اهم شيء عندهم من الارواح البشرية
"ارجوك توقف ! أليس بقلوبكم أي رأفة او رحمة يا مستبدين ؟ ألا تشعرون بذرة انسانية او ضمير ؟ لقد اكتفيت حقا ! واعدكم بأني لن اعيدها مرة أخرى ، فقط توقفوا رجاءً !"
ولكن المجرمين والذين يحومون من حولها لا يفكرون سوى بعملهم والذي كان على وشك الدمار بسبب خطأ صغير منها كانت تتعمده لتكون نهايتها جسد هامد يتلقى ضربات زوج والدتها (قيس) المبرحة لها والقريبة للوحشية باستخدام كل انواع الأسلحة وبدون اي شفقة نحوها ، وما أن تغيب عن الوعي بعيدا عن كل انواع الضجيج وبعد ان اشبعت بالضربات بكل انحاء جسدها الهامد حتى يتوقف الضرب ليختفي بعدها صاحب الضجيج يتبعه باقي اصدقائه وكل واحد منهم يأخذ دوره بضربها كلما حاولت ان تخطئ مع احد منهم ، واحيانا اخرى يستخدم الطريقة الأسهل معها وهي اطفاء سجائره ببشرة ذراعها لتشعر بألم حارق يكاد يحرقها حية من الحرارة المشتعلة بداخلها وهو يستمتع بما يفعله بتعذيبه البطيء لها لتبقى آثارها عالقة معها لوقتها هذا .
زفرت انفاسها بتهدج وهي تقف بعيدا عن المقعد ما ان وقفت الحافلة امام الواقفين منتظرين قدومها ، لتسير بعدها باتجاه الحافلة باتزان وهي تنظر لتجمعات الناس والتي تكومت عند باب الحافلة وكأنها نهاية العالم وعليهم اللحاق بركوب آخر حافلة موجودة على سطح الكوكب ، مثل حياتها والتي فاتتها الكثير من الحافلات ولم يبقى لها اي حافلة تستقلها بعيدا لتخرجها من كل هذه القسوة والتي كانت تحيط حياتها دوما .
_____________________________
كانت واقفة امام باب المكتب وهي تمسح يديها من العرق بسترتها الخريفية بارتباك خوفا من ان تتعرض للرفض مرة أخرى بعد يوم شاق طويل مهلك وقد اصابها إحباط كبير من كل ما تعرضت له لليوم ، وهي تحاول بكل جهدها بوظيفة مستحيلة كانت يوما ما بين يديها ، تنفست بعدها بهدوء وهي تدعوّ ربها بالتوفيق بما هي مقدمة عليه فقد تعبت كثيرا من الدوران حول المدارس واحدة تلو الأخرى بدون اي نتيجة ترجى وهذه ستكون القشة الأخيرة بالنسبة لها والتي ستحدد مصير وظيفتها المحتومة .
رفعت قبضتها المتصلبة لتطرق على باب المكتب بهدوء قبل ان تسمع الإذن بالدخول لتفتح عندها الباب بارتباك وهي تنظر امامها بحذر ، تقدمت بعدها عدة خطوات بعيدا عن باب المكتب وهي تنظر بريبة للشخص والذي من المفروض ان يكون المدير وهو لا يظهر منه سوى قدميه المستريحتين فوق سطح المكتب بكل وقاحة وصوت خافت يخرج من خلف المكتب ! وقد كان يجلس نصف استلقاء على كرسيه لتصلها نبرة صوته الخافتة وهو يبدو يتكلم مع احدهم على الهاتف بنبرة غريبة
"حبيبتي لا تقلقي سأحاول كل جهدي المجيئ للمنزل مبكرا ، ولكن لن اعدكِ فأنا لدي اعمال كثيرة عليّ إنجازها بسبب مركز المدير والذي اصبحت احتله الآن ، بالرغم من انني لا احبذ كثيرا هذه الوظيفة !"
وقفت (روميساء) بتسمر امام المكتب وهي تبتلع ريقها بتشنج احتل كل اطرافها من كلامه الخاص والذي جعل وجهها الشاحب يتلون باحمرار قاني ، وهي التي تحاول دائما عدم الدخول بخصوصيات الآخرين وأحاديثهم الخاصة التي تدور بينهم على انفراد ، لتسعل بعدها بقوة بامتقاع ما ان وصل لسمعها المزيد من كلامه الخافت والذي ضرب اذنها بإيذاء سمعي
"لا تنسي يا حبيبتي إياكِ والنوم مبكرا حتى انهي باقي اعمالي ، لأن اليوم ستكون سهرتنا طويلة بطول ايام عمرنا !"
تنهدت براحة وهي تحاول تنظيم انفاسها المرتجفة ما ان اخفض الهاتف عن اذنه اخيرا بعد ان ودعها بقبلات على الهاتف بدون اي حياء او اهتمام بوجودها ، ليستقيم بعدها بجلوسه وهو يخفض قدميه عن سطح المكتب قبل ان يدس هاتفه بجيب سترته قائلا ببرود بدون ان ينظر إليها
"نعم ! بماذا استطيع المساعدة ؟"
زمت شفتيها بحنق وهي تفكر بالهروب من هذا المكان الموبوء بكل شيء فيه وخاصة بمديرها والذي يبدو عليه غير مباليا بالأصول ولا يعلم اي شيء عن مهنة المدير حتى ! وكيف سيعلم وهو يبدو صغير على هذه المهنة بل اقرب لطالب مجنون نجح بحياته بواسطة من والديه ؟ وهذا غير سمعة المدرسة المنحدرة والتي تكون تحت المستوى ولا يدخل إليها سوى الطلاب والذين يعانون من نقص بالميزانية بسبب عدم مطالبتها بأي رسوم او دفع اقساط ، وكل هذا لأن الحكومة هي من تهتم بالكتب والقرطاسية المدرسية الخاصة بالطلاب وحتى رواتب الموظفين ايضا وهي تستقبل جميع الأطفال من كل المناطق النائية الفقيرة .
زفرت انفاسها بقوة وهي تضيق عينيها الخضراوين بتركيز لتقول بعدها بلحظات بابتسامة عملية
"لقد اتيتُ للتقدم على وظيفة معلمة بمدرستكم ، وانا جاهزة لأي اختبارات او معاملات لأستطيع التعين عندكم بهذه اللحظة"
رفع المدير رأسه بسرعة نحوها وكأنه قد اكتشف شيء كان قد غفل عنه ، ليتجول بعدها بعينيه من رأسها حتى اخمص قدميها بتباطء متعمد وابتسامة صغيرة بدأت بالحفر على شفتيه العابثتين ، بينما عقدت (روميساء) حاجبيها بتوجس وهي تنتظر مصير طلبها الآن ، لينهض بعدها عن مقعده بهدوء وهو يقول بصوت غامض ارهبها
"ما هو اسمكِ يا آنستي ؟"
امتعضت ملامحها من كلمته الأخيرة وهو يضيف عليها حرف الملكية ، لتهمس بعدها بجمود رسمي
"اسمي هو روميساء الفاروق"
قبضت على كفيها وهي تنتظر ما سيحدث وما يتبع اسمها عادةً والملطخ بالسمعة السيئة بالرغم من انه اسم عائلة والدها الراحل ، ولكنه قد تثبت بعقول الناس بذلك الاسم والمقترن مع السمعة السيئة بعد ان اصبحت قصتهم على كل لسان ، رفعت نظرها بسرعة نحو المدير والذي قال بابتسامة مندهشة
"انتِ تنتمين للعائلات الريفية ، أليس كذلك ؟"
ردت عليه (روميساء) وهي تومئ برأسها باهتزاز
"اجل عائلة والدي تنتمي للريف ، ولكنه قد انتقل للعيش للمدينة منذ سنوات طويلة"
حرك المدير رأسه بتفكير وهو يدور حول المكتب بلحظات ليقف امامها مباشرة قبل ان يقول بابتسامته المتسعة
"يشرفني كثيرا التعرف على فرد من العائلات الريفية ، فأنا إذا لم تكوني تعلمي اعشق كل شيء يخص تلك العائلات البسيطة وطريقة حياتهم والتي تختلف تماما عن حياة المدن !"
ابتسمت بارتجاف وهي لا تعلم إذا كانت هذه بداية مبشرة للحصول على الوظيفة ام لا ؟ لتنتفض بعدها بارتعاش ما ان شعرت بيده تمسك بذراعها وهو يمد ذراعه الآخر امامها قائلا بسعادة بالغة
"تفضلي لا تبقي واقفة هكذا ، واجلسي على الأريكة هنا لنستطيع التفاهم بحرية اكبر"
اومأت (روميساء) برأسها بسرعة وهي تنزع يده عن ذراعها لتتقدم باتجاه الأريكة قبل ان تجلس فوقها باتزان ، بينما سار المدير امامها ليجلس بنفس الأريكة بجانبها تماما بدون اي حواجز ، وهذا ما دفعها للزحف بعيدا عنه بجلوسها وهي تضم قبضتيها معا فوق ساقيها بتوتر ، ليقول بعدها المدير بخفوت وهو يتأملها بنفس التركيز البطيء
"إذاً دعيني اعرفكِ على نفسي يا روميساء ، انا اسمي نادر سلطان ولا احب الألقاب بالعمل ابدا ، لذا تستطيعين مناداتي باسمي بدون لقب"
تشنجت ملامحها بجمود لوهلة قبل ان تندفع واقفة عن الأريكة وهي تقول بأعصاب منهارة من الضغط والذي تعاني منه منذ دخولها لهذا المكان
"سيدي المدير لقد اتيتُ من اجل التقدم على وظيفة بمدرستكم ، لذا اخبرني هل ستقبل بتوظيفي ام لا ؟"
كان (نادر) ينظر لها بهدوء بدون ان يتأثر من كلامها قبل ان يقول ببرود مريب
"الأمر لا يحتاج كل هذا الغضب والانفعال ، كل ما عليكِ فعله هو طلب التوظيف مني بلطف وانا بكل سعادة سأوافق على طلبكِ بكرم ! فيبدو بأنكِ متحمسة جدا لهذه الوظيفة !"
التفتت (روميساء) برأسها نحوه وهي تبتسم بإحراج مما بدر منها امامه لتهمس بعدها بتلعثم
"انا اعتذر منك ، لم اقصد ان....."
قاطعها (نادر) وهو يرفع كفه باتزان مبتسم
"لا اريد سماع اي اعتذار منكِ ، فليس هناك اي اعتذارات بين الأصدقاء"
عبست ملامحها وهي تفكر منذ متى اصبحوا اصدقاء وهي لم تدخل مكتبه سوى منذ عشر دقائق ؟ لتنفض بعدها كل هذه الأفكار عن رأسها وهي تقول بابتسامة مبتهجة
"هل هذا يعني بأنك قد وافقت على توظيفي بمدرستكم ؟"
وقف (نادر) عن الأريكة بكسل لينظر لها بهدوء قبل ان يقول بابتسامة جادة
"اجل موافق ، ويمكنكِ ان تباشري بالعمل بالوقت الذي تريدينه"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بالبريق والذي عاد ليملئ غابة عينيها وقد عادت بارقة الأمل بحياتها بحوزتها قبل ان تخسر عملها والأحب على قلبها ، لتموت الابتسامة بلحظة عن شفتيها ما ان قال المقابل لها وهو يتقدم امامها بهدوء
"ولكن هل ستدفعين ثمن موافقتي على عملكِ بمدرستي هنا وقبولي بكِ رغم سمعتكِ السيئة والتي دفعت الكثيرين ليرفضوا توظيفك ؟"
تراجعت (روميساء) للخلف عدة خطوات بحذر وهي تتنفس بنشيج وتوجس من فحوى كلامه ، وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها (نادر) وهو يقول بضحكة صاخبة بسخرية
"اهدئي يا روميساء فقد كنتُ اختبركِ وحسب وقد نجحتِ بالاختبار بالفعل ، لذا اهنئكِ على استلامكِ للوظيفة"
ارتفع حاجبيها بانشداه وعدم استيعاب وهي تحاول فهم كلماته الغريبة والتي تبدو كالطلاسم بالنسبة لها ! وهي ما تزال تطرح على نفسها نفس السؤال كيف حصل على وظيفة المدير ؟ لتحرك بعدها رأسها بقوة وهي تقول بوجوم جاد
"اذاً هل استطيع العمل الآن ؟ ام سأنتظر إلى ان يتم توظيفي رسميا !"
ردّ عليها (نادر) بسرعة بثقة بالغة
"لا ليس هناك داعي للانتظار ما دمتِ قد اتيتِ إلى مكتبي بنفسكِ ومستعدة حقا للبدء بالعمل ، فأنا لن امنعكِ ولا احب ان اخذل احد من الموظفين عندي جاء وطلب مساعدتي ، واما باقي معاملات توظيفك فأنا من سأهتم بها بنفسي"
ابتسمت باهتزاز وهي تقول بامتنان شديد
"شكرا لك سيدي المدير ، واتمنى حقا ان اكون عند حسن ظنك ، ولكن ألن تخبرني كيف سيكون برنامج الفصول والذي سأعمل عليه ؟"
تراجع (نادر) بخطواته للخلف وهو يلتقط ورقة البيانات من على سطح المكتب ، ليرفع بعدها الورقة امام نظره وهو يضيق عينيه بتركيز قائلا بجدية
"ستأخذين مكان المعلمة ليلى لتدرسي فصولها بدلا عنها ، ويمكنكِ ان تسألي رئيسة مكتب الطابق الثاني عن اماكن فصولها ، وهذا كل شيء عندي"
اومأت برأسها بطاعة وهي تقول بدون ان تمنع نفسها بحيرة
"وماذا حدث للمعلمة ليلي ؟"
اتسعت ابتسامته بمغزى وهو يقول بهدوء
"هذا ليس من اختصاصكِ يا روميساء"
اخفضت نظرها للأسفل بحياء قبل ان تتمتم بجمود
"حاضر يا سيدي المدير ، انا ذاهبة لعملي الآن ، وشكرا لك على الوظيفة مرة أخرى"
كان (نادر) يحرك رأسه بهدوء ونظراته ما تزال تدور على جسدها الممشوق الطويل امامه بتمهل دقيق ، لتستدير بعدها بعيدا عنه بصمت قبل ان تغادر المكتب بأكمله بسرعة وابتسامة جميلة اصبحت تحتل شفتيها الممتلئتين بسعادة ، بينما كان (نادر) ما يزال يبتسم بغموض قبل ان يحيد بنظراته باتجاه الورقة بيده وهو يتمتم ببرود مبهم
"سامحيني يا ليلى ، ولكن للضرورة أحكام !"
__________________________
كانت تصعد درجات السلم باتزان على كعبيّ حذائيها المسننين وهي تمسك بحاجز السلم بيدها بقوة وتمسك بمذاكراتها بيدها الأخرى ، لتشعر بعدها بما يصدمها من الخلف باندفاع لتقع على الجانب الآخر من حاجز السلم وهي تتمسك به بكفيها بتشبث بعد ان اوقعت مذاكراتها لتنزلق على الدرجات من خلفها وانفاسها تخرج بنشيج متقطع ، التفتت برأسها جانبا وهي تنظر للفتاتين الضاحكتين على وضعها بسخرية واحداهما تقول باستهزاء ذات الوجه المتبرج بكل انواع مستحضرات التجميل
"كان عليكِ الانتباه امامكِ وانتِ تسيرين يا صغيرة ، ام تريدين مني ان اعلمكِ كيف تسيرين بالشكل الصحيح !"
ضحكت بعدها بصخب لتشاركها صديقتها الأخرى الضحك وكأنهما ليس لديهما شيء يفعلانه غير اغاظتها على الدوام مثل ايام بداية دوامها بالجامعة قبل سنتين ، بالرغم من انها بدأت تعليمها بعمر متأخر بسبب حالتها الصحية الحرجة والتي ارغمتها على ملازمة المنزل وخوض عالم التعليم بداخل جدران المنزل بسنوات طفولتها ، تحاملت بعدها على نفسها وهي تبتعد عن حاجز السلم لتنحني عندها على الدرجات الرخامية امامها وهي تلتقط مذاكراتها والتي سقطت من فوقها بدون ان تعيرهما اي اهتمام ، لتسمع بعدها كلام الفتاة الأولى المتبرجة وهي تكلم صديقتها بجانبها بخبث
"انظري إليها لم تتغير ابدا ! ما زالت غزل تلك الطفلة البريئة والساذجة والتي تحاول دائما جذب جميع المخلوقات إليها بدافع الشفقة لا أكثر ، ولا تعلم بأنها ليست مرغوبة من الجنس الآخر ابدا فهي لا تمتلك اي مقومات انثوية او جاذبية وكل ما يدفعهم نحوها هي الشفقة فقط !"
كانت (غزل) مستمرة بجمع مذاكراتها وكلماتها تصيبها بنقطة ضعفها لتنحر روحها بانكسار قبل ان تستقيم بوقوفها بحذر شديد ، لتنظر بعدها للكتاب بآخر درجات السلم والذي لم تنتبه لوجوده ، وما ان كانت متجهة نحوه حتى سبقتها الفتاة الوقحة لتلتقطه قبلها وهي تلوح به قائلة بحزن مصطنع
"هل تريدين هذا الكتاب حقا ؟ إذا كنتِ تريدين استعادته فعليكِ اولاً ان تجيبي على سؤالي ، كيف استطعتِ مواعدة عصام شرفات وجعله يتعلق بكِ ؟"
تجمدت ملامحها بصدمة وهي تدير عينيها العسليتين بعيدا عنها ما ان نطقت باسم من كانت تحاول جاهدة نسيانه واعتباره صفحة من حياتها وانطوت لتعود هي للنبش بالماضي وجعل قلبها يأن ألماً بصدرها وهو ينزف دما منذ خروجه من حياتها ، همست بعدها بعبوس مرتجف وهي تشدد من احتضان مذاكراتها
"انا لا اعلم عن ماذا تتكلمين ؟"
عبست ملامح الفتاة المقابلة لها وهي تنذر بالشر قبل ان تقول بامتعاض ساخر
"بل تعلمين جيدا عن من اتكلم ، ذلك الشاب الهادئ والذي ترككِ واختار أخرى ونبذكِ مثل الشيء المستهلك والذي انتهت صلاحية استخدامه ، ولكن ما يحيرني هي الفترة الطويلة والتي قضاها برفقتكِ ! وانا لا اعلم ماذا وجد بكِ ليميزكِ عنّا ؟"
عضت (غزل) على طرف شفتيها بتشنج وهي تحاول السيطرة على اعصابها من الذكريات والتي عادت لاختراق غمامة ذهنها المشوش ، تدخلت بعدها الفتاة الأخرى وهي تصرخ بصديقتها بهلع
"سامية انظري خلفكِ !"
استدارت المدعوة (سامية) للخلف لتصطدم نظراتها بارتعاد بجسد فائق الطول ليسبقها صاحب الجسد بالكلام وهو يقول بصرامة متزنة
"ما هذه التصرفات الصبيانية يا سامية ؟ ألم يأتي الوقت المناسب لتتعقلي وتتركي الناس وشأنها بعيدا عن جنونك ؟"
اخفضت (سامية) نظراتها بعيدا عنه بإحراج وخزي قبل ان تقول بخفوت نادم
"انا اعتذر يا استاذ هشام ، ارجوك ان تسامحني"
كان (هشام) ينظر لرأسها بهدوء بدون اي تعبير ليقول بعدها بجدية صارمة
"لا بأس سامحتكِ ، ولكن لا تعيديها مجددا ، وهيا غادري لكي لا تفوتي موعد محاضرتكِ وتوقفي عن اللهو بالأرجاء واضاعة وقت المحاضرة بالسخافات والتي لن تفيدكِ مستقبلا بشيء"
اومأت (سامية) برأسها بامتعاض واضح وهي تحاول السير وتجاوزه بعيدا ، ليعود بلحظة ليقف امامها بقوة وهو يرفع يده قائلا بأمر
"اعطيني الكتاب اولاً وبعدها غادري"
تجهمت ملامحها وهي تضع الكتاب بيده بعنف قبل ان تسير بعيدا عنه بصمت وهي تكاد تشتعل من الغيظ والقهر ، لتتبعها بعدها صديقتها وهي تتجاوز الاستاذ بحذر قبل ان تسرع بخطواتها باتجاه الاخرى .
افاقت (غزل) من شرودها بخضم ما حدث على صوت (هشام) وهو يوجه كلامه لها بهدوء
"هذا الكتاب لكِ صحيح !"
ادارت نظراتها نحوه وهي تنظر لأول مرة للأستاذ الجديد والذي بدأ يعمل بجامعتها من فترة وجيزة ، وقد حضي على إعجاب الكثير من الشبان والفتيات بالجامعة من وسامته والتي تنضح بملامحه الرزينة ومن ثقافته الواسعة وذكاءه الظاهر بطريقة ألقاءه للمحاضرة بقاعة تعج بكل الفئات العمرية والشكلية للطلاب .
اكملت بعدها نزولها الدرجات المتبقية قبل ان تقف امامه تماما وهي تقول بخفوت شديد يكاد لا يسمع
"بلى هذا الكتاب لي ، هلا اعدته إلي لو سمحت ؟"
كان (هشام) يجول بنظراته بهدوء عليها من شعرها الأسود القصير والذي يحف اذنيها لعينيها الغريبتين بلونهما العسلي يخالطهما اخضرار بسيط يكاد لا يرى ، ليشيح بعدها بوجهه جانبا وهو يرفع الكتاب امامها لتلتقطه من فورها وهي تدسه بين مذاكراتها ، ليسمع بعدها همسها الخافت والذي يرف بأذنيه مثل صوت عصفور جريح يأن
"شكرا"
اعاد نظره نحوها وهو ينظر لها بتفكير تثيره دائما بداخله وهو لا يستطيع تحديد نوعها للآن إذا كان من صنف تلك الفتيات المدللات واللواتي قابلهن منذ لحظات ؟ ام من الصنف الآخر من الفتيات المجتهدات واللواتي لا يهمهن سوى الحصول على الشهادة والتي تؤهلهن للوظيفة ! اخفض نظره لوجهها الدائري الصغير والذي ارتفع نحوه ببطء وهي تهمس بنفس النغمة الحزينة
"عذرا منك ، ولكن عليّ الذهاب للقاعة فقد بدأت محاضرتي !"
تصلبت ملامحه وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله بهدوء ليقول بعدها ببرود قاسي
"ومن منعكِ من المغادرة ؟ هيا اذهبي"
عضت على طرف شفتيها المتكورتين بحنق من اسلوبه البارد معها وكأنها تعمل عند سيادته لتنتظر الإذن منه للمغادرة ، ولكن كل هذا بسبب غباءها والذي دفعها لتبقى صامتة امامه بدلا من الرحيل بعيدا عنه ، وهي تظنه ما يزال لديه المزيد من الكلام بجعبته لها ليتبين بأنه كان فقط يتسلى بوقوفها جامدة امامه كالبلهاء !
تحركت (غزل) بعيدا عنه وهي تتجاوزه بصمت وحذائها العالي يطرق على الأرض الصلبة من اسفله بقوة ليعبر عن مدى القهر والذي تشعر به بهذه اللحظة ، لتتابع بعدها سيرها بتمايل متقن وهي تعيد خصلات شعرها القصيرة لخلف اذنيها ، بدون ان تنتبه للنظرات والتي كانت تلاحقها بوجوم وحتى بطريقة سيرها الغريبة والتي تختلف عن طريقة باقي الفتيات وهي تدل على صعوبة سيرها بكعبيّ حذائيها المسننين وكأنها تتعمد فعل كل هذا بإرادتها او بدونها !
________________________________
كانت تنظر للدفتر بحجرها وهي تتلمسه بكفها بحالمية وكأنه شيء ثمين افتقدته كثيرا بحياتها منذ زمن ، وكم كان شعورا رائعا العودة لحياتها والتي تمثلها لها تلك الوظيفة رغم الاختلافات الشاسعة بين طبيعة ومكان الوظيفتين ! فأهم شيء بالنسبة لها الآن هو العودة لما كانت عليه والشيء الوحيد والذي تتقنه بجدارة بحياتها الفارغة ليملئ الفجوة والتي يحدثها اليتم بحياتهم .
حادت بنظراتها نحو مصدر الصوت وهو يقول بجمود متصلب
"انا سعيدة جدا لأنكِ استطعتِ إيجاد المدرسة والتي تقبل بتوظيفك ، ولكن ألن تخبريني ما هو نوع تلك المدرسة بالضبط واين هي ؟"
اخفضت نظراتها بعيدا عنها تعود للدفتر بحجرها وهي تتمتم ببرود متعمد
"لا يهم ما هو نوعها واين مكانها ، فالمهم الآن بأني وجدتُ وظيفة بمدرسة ستضمن لنا راتبا شهريا سنستطيع العيش عليه بالأيام القادمة"
شددت (ماسة) من ضم ركبتيها لصدرها وهي تجلس بتكور بمنتصف سريرها ، لتقول بعدها بابتسامة غامضة غير معبرة عن شيء
"ولكني لم اقتنع بعد بكلامكِ ، واريد ان اعرف كيف وافقت المدرسة على توظيفك إلا إذا كانت مدرسة فاشلة معتادة على استقبال مشوهين السمعة ؟ ام انكِ دفعتي لهم شيء قيّم مقابل توظيفك !"
ردت عليها (روميساء) بانفعال حاد
"ماسة كفى !"
ادارت حدقتيها الزرقاوين بعيدا عنها بدون اي كلمة إضافية ، بينما شردت (روميساء) بكلام المدير عن الثمن وهي لم تفهم بعد ماذا كان يقصد بكلامه ذاك وإلى اين كان يريد ان يصل ؟ كل الذي تتمناه حالياً ألا تضطر لترك العمل بتلك المدرسة بسبب أي ظرف كان فهي لن تتحمل المزيد من الإحباط واليأس بحياتها !
قالت بعدها بلحظات بخفوت وهي تتلاعب بأوراق الدفتر امامها والذي يحوي على جميع اسماء الطلاب بالفصل
"اعتقد بأن الفضل يعود لأسم عائلة والدنا فهو بعد كل شيء ما يزال نظيف ولم يلطخ بالسمعة السيئة"
عقدت حاجبيها بتركيز وهي تتمتم بوجوم ساخر
"أتعنين عائلة الفاروق والتي لا نعلم عنها شيئاً إذا كانت على قيد الحياة ام لا ؟ وحتى لو كانوا موجودين بالواقع فلم يحاول احد منهم السؤال عنّا طيلة السنوات الماضية !"
تنهدت ببؤس وهي ترمقها بأسى حزين قبل ان تهمس بحنق
"توقفي عن التصرف بهذا التشاؤم ! فليس هذا ما قصدته بكلامي"
حركت رأسها بلا مبالاة وكأنها لم تسمعها لتتابع بعدها (روميساء) كلامها قائلة بابتسامة حزينة
"لولا اسم عائلة والدنا والذي ما يزال يحتل مكان بسمعتنا لما استطعتُ الحصول على هذه الوظيفة ، فلا تنسي بأن والدي لم يخطئ بحياته ولم يفعل شيئاً يمس سمعته وسمعة عائلته بل بقي محافظا على اسمه نظيفاً حتى رحل بعيدا عن العالم !"
كانت (ماسة) تسند ذقنها فوق ركبتها بجمود وهي تستمع لكلام شقيقتها الحالم بتركيز ، لتهمس بعدها بشرود قاتم
"أتقصدين بأن حياتنا كانت ستختلف لو ان والدي ما يزال على قيد الحياة ؟"
ادارت وجهها للأمام وهي تتنفس بنشيج واضح بدون دموع قبل ان تهمس بشحوب حزين
"ربما !"
عضت على طرف شفتيها بألم بدأ ينهش بأطرافها ببرودة اعتادت عليها وهي تفكر بطبيعة حياتها والتي عاشتها بدون اي سند او والد تحتمي من خلفه فقد كانت تعيش طول حياتها تحت ظل زوج والدتها والذي هيمن على حياتها بأكملها حتى اصبح مالكها الأصلي ومن يملك زمام امورها ، ليقطع بعدها الوجوم والذي خيم على اجواء الغرفة صوت (روميساء) وهي تقول بحزم قاطع
"بما اني قد عدتُ للعمل مرة أخرى ، فإياكِ وان اعرف بأنكِ تريدين البحث عن عمل او تفكرين بالعمل عند احد ! وركزي فقط على دراستكِ فهي كل ما يهم ، فهمتِ يا ماسة !"
ردت عليها (ماسة) بجفاء بارد
"ومن اخبركِ بأني قد وجدتُ عمل ؟ او ان هناك من سيقبل بتوظيفي بدون اي شهادة او خبرة !"
زفرت انفاسها براحة وقد اقتنعت اخيرا بالعدول عن قرار البحث عن وظيفة وقد ظنت بأنها لن تستسلم قبل ان تفعل ما برأسها ، لتتابع (ماسة) كلامها وهي تدير رأسها نحوها بقوة وحدقتيها تلمعان بزرقة قاتمة
"ولكن ما ان اتخرج من الجامعة سأبدأ عندها بالبحث عن عمل بأي مكان وحتى لو لم يكن من مجال دراستي ، لأستطيع عندها مساعدتكِ بالمصاريف وبالسكن بشقة لوحدنا وهذا لن يكون ببعيد"
امتعضت ملامحها بعدم رضا وقبل ان تنطق بأي اعتراض سبقتها (ماسة) وهي تقول بتصميم حاسم
"هذا قرار نهائي يا روميساء ولا رجعة فيه ابدا !"
صمتت (روميساء) وهي تزم شفتيها بحنق من تصرفات شقيقتها الغير مسؤولة والغير قابلة للنقاش وكأنها ليست تكبرها بخمس سنوات كاملة ، لتدير (ماسة) حدقتيها بعيدا عن شقيقتها وهي تعود لتسند ذقنها فوق ركبتها بشرود باهت ، بينما كانت الاخرى تراقبها بابتسامة امومية عطوفة معتادة على النظر بها نحوها فبعد كل شيء هي تبقى شقيقتها الصغرى من والديها ومن شهدت على كل مراحل حياتها من المهد حتى وصلت لما هي عليه الآن .
عادت للنظر للدفتر بحجرها بهدوء وهي تغلقه بصمت قبل ان تهمس بابتسامة شاردة
"ما رأيكِ ان اخبركِ القليل عن والدنا ؟"
ردت عليها (ماسة) بجواب مختصر لم يتغير على طول السنوات
"لا اريد"
اختفت ابتسامتها عن محياها ليحل مكانها الوجوم وهي لم تفهم للآن لما ترفض (ماسة) دائما التكلم عن والدها والتعرف عليه ولو معرفة تفاصيل صغيرة عنه ؟ فهو قد توفي وهي لم تتجاوز عمر الرابعة بعد ! وبالرغم من ذلك فهي تصر دائما على ان تبقى بعيدة عن كل ذكرياته وعن كل شيء يخصه وكأنه لا يعنيها ولا يقرب لها بشيء !
تنهدت بعدها بحزن ما ان دفنت (ماسة) وجهها بين ساقيها وهذه طريقتها الخاصة بإنهاء اي حديث مع احدهم بأن تتجاهله او تنعزل بعالمها الخاص والبعيد عن الجميع ، وكم تتمنى لو تستطيع الغوص بعالمها هذا والذي صنعته بينهما منذ وفاة والدتهما فقط لو تعطيها الإذن !
______________________________
كانت تحيد بنظراتها بين الحين والآخر لصف المقاعد بجانبها بتركيز قبل ان تعود بالنظر للأمام بجمود وهي تستمع بملل لحديث الاستاذ والذي ملئ صوته صدى القاعة بأكملها ، لتنظر صديقتها نحوها ومن تجلس بجانبها تماما وهي تتمتم بحيرة
"ماذا هناك يا ماسة ؟ لما تنظرين بهذه الطريقة ؟"
ردت عليها ببساطة وهي تنظر امامها بتصلب
"نحن مراقبان !"
امتعضت ملامحها وهي تهمس بخفوت متذمر
"ها قد بدأنا مرة أخرى ، انتِ تعلمين بأننا مراقبان من كل الطلاب بالقاعة ومن الاستاذ نفسه !"
التفتت (ماسة) نحوها بعنف وهي تهمس بعبوس جاد
"انا جادة بكلامي يا صفاء ، واعلم جيدا كيف افرق بين المراقبة الطبيعية والمراقبة المتربصة لنا !"
اعادت (صفاء) وجهها للأمام وهي تبرم شفتيها هامسة بلا مبالاة
"لا فرق بينهما ، انتِ فقط من تضخمين الموضوع لا أكثر !"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تعيد رأسها للأمام كذلك قائلة ببرود قاتل
"بل انتِ التي لا تشعرين مما يدور من حولك"
زمت (صفاء) شفتيها وهي تتجاهل كلامها تماما فهي كلما دخلت معها بنقاش تخرج منه بالنهاية خاسرة محملة بأذيال الخيبة وكأنها تهوى تدمير خصومها بدون ان تهتم إذا كان عدو او صديق ، بعدها بدقائق وقفت (ماسة) عن مقعدها بهدوء ما ان انتهى وقت المحاضرة ليخرج الاستاذ من القاعة بعد ان اعاد على اسماعهم للمرة الألف قوانين وموعد الاختبار القريب ، لتتبعه بعدها وهي تضع حزام الحقيبة فوق كتفها قبل ان تغادر القاعة من فورها بجمود وقبل مغادرة باقي الطلاب .
لحقتها (صفاء) بسرعة لخارج القاعة وهي تحتضن مذاكراتها بذراعيها قبل ان تسير خلفها بخطوات متمهلة ، لتقف بعدها بمكانها ما ان سمعت صوت هتاف باسمها لتستدير للخلف بلحظة وهي تنظر للشاب والذي وقف امامها وقد كان يبدو عليه خارجا من نفس القاعة والتي خرجت منها للتو ، لتبتسم بعدها برقة وهي تنظر للشاب بريبة بينما كانت (ماسة) تقف على مقربة منهما ونظراتها موجهة بتركيز للشاب الواقف امام صديقتها .
بدأت (صفاء) بالكلام وهي تقول بابتسامة صغيرة
"هل هناك مشكلة يا سيد ؟"
تشنجت ملامح الشاب وكأنه يحاول حل معادلة عويصة ليفتح شفتيه عدة مرات قبل ان يغلقهما بإحباط ، ليتمتم بعدها بالنهاية بإحراج متلعثم
"الحقيقة لقد اردتُ طلب مساعدتكِ ، إذا كنتِ تستطيعين مساعدتي بالحصول على شرح المحاضرات الماضية فقد فوتها بسبب غيابي المتكرر بالأيام السابقة ، وهذا إذا لم يكن لديكِ مانع !"
ارتفع حاجبيها بدهشة قبل ان تهمس بتأكيد
"اجل اكيد ، لا امانع ابدا"
ابتسم الشاب باتساع وهو ينظر لها وهي ترفع الدفتر امامه بابتسامة لطيفة برقة تستطيع سحر القلوب وسكنها ، ليرفع بعدها يده بسرعة وهو يلتقط الدفتر منها قبل ان تنسحب بعيدا عنه بفعل اليد والتي امسكت بذراعها لتأخذها بعيدا عن امامه ، بينما قال الشاب بسرعة وهو يلوح لها بالدفتر ببلاهة
"شكرا ، على ما اعتقد !"
كانت (صفاء) قد اختفت عن نظره تماما قبل ان تسمعه وهي تحاول مجاراة خطوات صديقتها بصعوبة ، لتتوقف بعدها بقوة وهي تتشبث بالأرض بقدميها قائلة بتجهم
"كفى يا ماسة ، واخبريني لما سحبتني بعيدا عن الشاب قبل ان انهي كلامي معه ؟"
توقفت (ماسة) عن السير وهي تفلت ذراعها لتستدير نحوها بلحظة وهي تقول بجمود متصلب
"ألم تفهمي يا غبية ؟ هذا الشاب نفسه من كان يراقبنا بالقاعة ويبدو بأنه كان يحاول الدوران من حولكِ من نظراته المتربصة والتي لم تتركنا وشأننا منذ بداية المحاضرة !"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بعبوس وهي تقول باستنكار
"غير صحيح ، فقد كان يريد مني المحاضرات الماضية بسبب تغيبه عنها"
ابتسمت بسخرية وهي تلوح بكفيها بعصبية قائلة بغضب
"وانتِ بكل بساطة قد صدقته ! ألم تلاحظي بأنه قد اخذ اكثر من وقته ليستطيع طرح السؤال عليكِ وطلب المساعدة بدل من ان يدخل بالموضوع مباشرة معكِ ؟"
عبست ملامحها وهي تحرك ساقيها بتوتر قبل ان تتمتم بوجوم
"ماذا تقصدين بكلامكِ يا ماسة ؟"
ردت عليها (ماسة) بدون اي مواربة
"يعني بأنه لم يكن يريد منكِ المحاضرات بل شيء آخر مختلف تماما"
اتسعت عينيها العسليتين بتوجس قبل ان تحرك رأسها بقوة نافضة كل الأفكار عن رأسها والتي تتنافى مع مبادئها ، لتعود بعدها للسير بعيدا عنها وهي تتجاوزها باتجاه السلالم الخاصة بمدخل الكلية ، لتقول بعدها بنفاذ صبر وهي تنزل درجاتها بعجلة
"هذا يكفي ، لا اريد التكلم عن هذا الموضوع مرة أخرى"
كانت (ماسة) تنزل السلالم بهدوء من خلفها بدون ان تهتم للأنظار المتجهة نحوهما بسبب المشادة والتي حدثت بينهما من لحظة ، وما ان وصلت لنهاية السلالم حتى تابعت سيرها خلف صديقتها وهي تصرخ بها بتذمر جاف
"توقفي عن الهروب يا صفاء ، وانا اعدكِ بأننا لن نتحدث عن هذا الموضوع مرة أخرى"
توقفت (صفاء) بالفعل وهي تلتفت نحوها بعبوس حزين طفولي ، لتتوقف الاخرى امامها وهي تقول بملل
"ماذا الآن ؟ اما زلتِ غاضبة مني ؟"
انحنت عينيها الصافيتين بحزن وهي تهمس بابتسامة شاردة بحب
"تعلمين بأنني لا استطيع الغضب منكِ لفترة طويلة ، فقط لو تقدرين ما احمله لكِ بقلبي من عاطفة جياشة اخصها لكِ وحدك !"
ادارت (ماسة) عينيها الداكنتين بعيدا عنها ببرود وهي تتمتم بابتسامة باهتة
"جيد"
تجهمت ملامحها لوهلة قبل ان تعود للابتسام بسعادة وهي تعانق كتفي صديقتها بذراعها بقوة قبل ان تقول بقنوط
"جيد فقط ! أهذا كل ما لديكِ من اجل صديقة العمر ؟"
اشاحت بوجهها جانبا بصمت بدون ان تنطق بأي كلمة ، لتتابع بعدها كلامها وهي تقول بابتسامة حالمة
"ماسة اخبريني ، هل جربتِ شعور الحب ؟ وهل هو رائع كما يقولون ؟"
اعتلت ملامحها ابتسامة جامدة وهي تنظر بعيدا عنها قائلة بخفوت مشتد
"تعلمين جيدا رأيي بالحب !"
ابعدت (صفاء) ذراعها عنها لتلوح بها بعشوائية قائلة بنبرة مقلدة لها بسخرية
"الحب مجرد كذبة ابتدعها المغفلون وصدقها العاقلون ليس لشيء سوى للحصول على المتعة وتجربة شيء جديد مختلف تماما عن المعتاد ! أليس هذا هو كلامكِ ؟"
صرخت (ماسة) فجأة بانفعال حانق
"صفاء !"
انسحبت (صفاء) وهي تجري بعيدا عنها ضاحكة بمرح وكل الأنظار تدور من حولها وهي تخترق تجمعات الطلاب بساحة الجامعة باندفاع ، بينما حركت (ماسة) رأسها بغضب منها قبل ان تحفر ابتسامة صغيرة على شفتيها الحزينتين ، لتتابع بعدها السير باتزان نحو التي لم يعد يظهر منها شيء سوى يدها الملوحة من بعيد وشعرها البني الطويل يتراقص مع حركتها .
______________________________
خرجت من الحافلة بسرعة وهي تجري بتعثر قبل ان تقف بانتظار وهي تنظر لصديقتها الأخرى والخارجة من الحافلة نفسها قبل ان تبتعد الحافلة وهي تكمل طريقها بعيدا عنهما ، امسكت (صفاء) بكف صديقتها وهي تسحبها معها قائلة بعجلة
"هيا بسرعة يا ماسة قبل ان تغيب الشمس علينا ، اريد تجربة المطعم الجديد والذي فُتح حديثا على اطرف المدينة"
زفرت (ماسة) انفاسها بضيق وهي تنظر لخطواتها المسرعة قائلة بتذمر
"ألا ترين بأن الوقت قد تأخر كثيرا ؟ وقد اصبح من الافضل لنا العودة للمنزل !"
التفتت (صفاء) نحوها وهي تهمس بعبوس حانق
"لا بل اريد تجربته الآن ، ولن استطيع فعلها بوقت آخر لأن شقيقي مازن يراقب كل تحركاتي بالمنزل ولا يسمح لي بالخروج منه إلا لأماكن محددة وهذا الأمر يدفعني للجنون !"
ردت عليها وهي تحرك رأسها بملل
"هذا يعني بأن مازن قد عاد للعيش معكم !"
قالت (صفاء) بهدوء وهي تسير بتزامن مع خطوات صديقتها
"اجل لقد عاد وقد يكون لفترة قصيرة ، فقد شرط عليه والدي ليستطيع العودة للسكن معنا بالمنزل فعليه بتنفيذ كل اوامره بالحرف الواحد ، ولا اعلم إذا كان مازن سيستطيع فعلها ام لا !"
تصلبت ملامحها وهي تفكر بالشقة الخاصة بزوج والدتها والتي استولى عليها (مازن) بحجة الحفاظ عليها لها ولشقيقتها لحين عودتهما ، ولا تعلم إذا كانت الشقة ما تزال له او انها ذهبت لشخص آخر بعد ان يأس من عودتها لها ؟ ولكن طبيعة شخص مثل (مازن) تعايشت معها منذ سنوات تثبت لها بأنه من المستحيل ان يستسلم بهذه السهولة ويترك كل شيء من خلفه بدون ان يحصل على مراده ، وهي قد كانت دوما مراده كما يقول منذ ايام الشجارات بالطرقات ومضايقاته لها بالمدرسة وبالأحياء !
توقفت بعدها بلحظات عن السير ما ان توقفت صديقتها بصورة مفاجئة وهي تشهق بهلع وانتفاض ، لتنظر بعدها لما تنظر إليه وقد تبين بأن (مازن) هو من اعاق عليهما طريقهما وهو يبعد عنهما بمسافة قصيرة ونظراته تتنقل بينهما ببرود قاتل ، ليسير بعدها امامهما بكسل ونظراته معلقة بوجهيهما حتى وقف على بعد خطوة منهما وهو يضع ساق خلف الأخرى قائلا بدهشة مزيفة
"هل هذه شقيقتي صفاء ؟ ومعها ايضا دمية قيس ! وغير هذا بمنطقة على اطراف المدينة والشمس على وشك المغيب ! رائع تتصرفان وكأنه ليس هناك اي مسؤول او كبير بحياتكما الرخيصة الفارغة......"
قاطعته (صفاء) بسرعة بارتباك شاحب
"غير صحيح فهو ليس كما تظن !"
ابتسم باستفزاز وهو يقول بتعجب ساخر
"حقا يا صفاء ! هل تريدين مني ان اكذب ما اراه امامي ؟ ام تريدين مني ان اخبر والدي بأفعالكِ الشائنة والتي لن تسره ابدا ؟"
اتسعت حدقتيها العسليتين وهي تصرخ بجزع
"لا تفعل"
رفع كفه بهدوء ليربت على كتفها قبل ان يقبض على ذراعها بقوة واصابعه تنشب بلحمها بقسوة وهو يهمس بفحيح متصلب
"ليس من الجيد ان ترفعي صوتكِ امامي يا شقيقتي الصغرى !"
زمت شفتيها الورديتين بارتجاف وهي تتلوى بذراعها بألم واصابعه تخترق قماش قميصها الخفيف ، لتتدخل بعدها (ماسة) وهي تنطق لأول مرة قائلة بصرامة شرسة
"ما تفعله بحق شقيقتك لا يجوز وخاصة امام العالم ! فأنت هكذا ستظهر امامهم بمظهر المجرم المستبد وقد يلقون بالقبض عليك بإشارة واحدة منّا ! فلا تنسى بأن المجتمع دائما يتعاطف مع المرأة مهما كانت جريمتها"
تلفت (مازن) من حوله بارتباك وهو يلمح بعض الأنظار والتي بدأت تتجه نحوهم بريبة وكأنهم يستعدون للانقضاض عليه بأية لحظة ، ليترك بعدها ذراعها بهدوء وهو يشيح بوجهه بعيدا عنهما بحنق بالغ ، بينما فركت (صفاء) ذراعها بموضع قبضته بألم وهي تنظر لصديقتها بابتسامة حزينة ممتنة لتقابلها الأخرى بابتسامة هادئة متفهمة .
قال (مازن) بعدها بلحظات بوجوم وهو يشير بعينيه بعيدا بأمر
"هيا بنا لنعود للمنزل ، وحسابكِ معي لم ينتهي بعد ، لتفكري مرة أخرى عندما تتجرأين على اللهو بشرفنا كما يحلو لكِ !"
نظرت له (ماسة) باشمئزاز وهي تتمتم باستهزاء واضح
"عليكم محاسبة انفسكم قبل محاسبة غيركم !"
امتقعت ملامحه وهو يرمقها بطرف عينيه بتركيز ليبتسم بعدها بميلان وهو يقول بثقة بالغة
"وانتِ ايضا حسابكِ معي لم ينتهي بعد يا دمية قيس ، فقط امهليني بعض الوقت لأتفرغ لكِ جيدا ويصبح كل ما اريده ملكي !"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بغضب بالغ وهي تتنفس بحدة ، بينما تدخلت (صفاء) وهي تهمس له بخفوت حزين
"اتركها وشأنها يا مازن ، ولا تضايقها فهي لا علاقة لها بما حدث الآن وانا التي جلبتها لهذا المكان بنفسي"
عاد (مازن) للنظر لشقيقته ببرود وهو يقول بنفاذ صبر
"اخرسي انتِ ، وهيا تحركي امامي لنعود للمنزل قبل ان اضربكِ امام الناس"
قالت (ماسة) فجأة ببرود واثق
"يمكنك ترك صفاء معي ، فنحن نستطيع العودة للمنزل لوحدنا ولا نحتاج لمرافقة احد معنا !"
تجهمت ملامحه بغضب لتسبقه (صفاء) بالكلام وهي تقول لصديقتها بابتسامة رقيقة
"لا بأس يا ماسة ، فأنا سأعود للمنزل مع مازن ، واعتذر لأني ورطتكِ معي بكل هذا فكل ما يحدث الآن بسببي انا وبسبب فكرتي الغبية بالذهاب للمطعم !"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تنظر لها بهدوء متصلب قبل ان ترسم ابتسامة باردة على محياها وهي تهمس ببساطة
"كما تريدين"
اتسعت ابتسامتها بسعادة قبل ان تتراجع بخطواتها لتلحق بشقيقها بسرعة والذي سبقها بالسير بعيدا ، لتلوح بيدها بحيوية لصديقتها بدون ان تفقد ابتسامتها والتي تستوطن ملامحها الجميلة ذات التفاصيل الناعمة عكس شقيقها ، بينما كانت (ماسة) ما تزال تراقب طريق سيرهما وابتسامتها الباردة تتلاشى تدريجيا عن وجهها ليحل مكانها الجمود ويتبقى فقط الفراغ هو من يحوم من حولها يكاد يبتلعها .
____________________________
كانت تمسك بالطبشور بأصابعها وهي تكتب به على سطح اللوح الأملس امامها بثبات وبيدها الأخرى تمسك بالكتاب المدرسي وهي ترفعه لأمام نظرها بجانب موضع يدها الممسكة بالطبشور ، ليتصلب بعدها ظهرها بسكون ما ان وصلت طائرة ورقية بجانب رأسها قبل ان تهبط واقعة بجانب قدميها بهدوء ، تنهدت بجموح وهي تخفض يديها للأسفل بعيدا عن اللوح لتقول عندها بدون ان تلتفت نحو وجوههم وهي تشعر بضحكاتهم المكتومة تصلها بوضوح
"والآن من المسؤول هذه المرة ؟"
عضت على طرف شفتيها بوجوم وهي لا تصدق مدى الوقاحة والتي يملكونها وصوت ضحكاتهم والتي ارتفعت تزيد من إحباطها اكثر ، وهي التي اعتادت على التعامل مع كل انواع الاطفال ومجاراتهم بحركاتهم بعد ان تعايشت مع محيطهم لفترة طويلة ، ولكن هؤلاء الاطفال اثبتوا لها بأنها لم تتعلم شيئاً بعد كل هذه السنوات وكل خبرتها معهم تتبخر ما ان تحاول الاندماج معهم واستخدام الاسلوب والذي يناسبهم ! فقد اكتشفت بالنهاية بأن العيب ليس بها بل بسبب قوانين المدرسة الفاشلة والتهاون والذي يتعاملون به مع طلاب اقل شيء يستحقونه هو الصرامة والعقاب على افعالهم والتي تسبب الأذى ليس لهم فقط بل لجميع من يرتبط بهذه المدرسة وبالحكومة بشكل خاص ، ولكن لما يهتمون مادامت جميع معاملات المدرسة بالمجان والحكومة تقدم لهم دعماً سخياً لم يحصل عليه احد من قبلهم من بين جميع المدارس بالمملكة ؟
تصلبت ملامحها وهي تقبض على يديها الممسكين بالطبشور والكتاب ما ان وصلت طائرة ورقية اخرى استقرت بجانب قدميها بدون ان تحلق فوق رأسها ، لتستدير عندها بعنف وخصلات شعرها تدور مع استدارتها وهي تنظر للوجوه المبتسمة ببراءة خبيثة حفظتها جيدا ، كانت تتنقل بنظرها بينهم بحذر مفترس قبل ان تقع على فريستها ومن كان يحاول تجنب النظر لها وهو يكتم ضحكته بصعوبة بدون اي حياء ، لترفع بعدها الطبشور نحوه وهي تشير له قائلة بصرامة نادرا ما تظهر عليها
"تعال إلى هنا يا هاني ، وقف امامي"
تحرك الطفل المدعو (هاني) ليتقدم نحوها بخطوات صغيرة حذرة ، ليقف بعدها امامها وهو ينظر للأسفل بدون ان يرفع رأسه نحوها وهو يمثل الخنوع والبراءة امامها ، قالت (روميساء) بحزم قاطع وهي تنظر لرأسه الصغير بتركيز
"ارفع رأسك يا هاني ، واخبرني عن ماذا كنا نتحدث منذ قليل ؟"
ردّ عليها (هاني) بسرعة ببراءة بدون ان يرفع رأسه
"لم نتحدث بشيء ، بل انتِ من كنتِ تتحدثين طول الوقت مع نفسك"
تغضن جبينها بغضب من وقاحته وهو يقف امامها بدون اي اعتبار بوجودها ، لتبدأ بعدها الضحكات بالارتفاع تدريجيا بصخب حتى تحول الفصل لضوضاء وكأنها بوسط حفلة ، عبست ملامحها بشدة وهي على وشك الصراخ بهم بتوبيخ قبل ان يخرج صوت آخر اكثر صرامة من عند باب الفصل قائلا
"فليصمت الجميع فورا !"
خفتت اصوات الضحكات حتى انعدمت تماما وجميع الانظار تتجه بوجل نحو باب الفصل والواقف عند إطاره المدير بنفسه وهو ينظر لهم بنظرات باردة تحمل الكثير من الشر غير المنطوق ، بينما نظرت (روميساء) بحيرة للمدير وهي تفكر عن سبب مجيئه للفصل بنفسه إلا إذا كان هذا تمرين يومي يفعله كل يوم ؟ فهذه ليست اول مرة يزور بها الفصول الخاصة بعملها وكأنه ليس لديه اي اعمال اخرى يفعلها غير زيارة فصولها كل حين !
تقدم (نادر) بعيدا عن باب الفصل وانظاره تتركز بتدقيق على المعلمة الواقفة امامه بدون ان يرمش حتى ، وما ان وقف امامها تماما حتى حانت منه التفاتة نحو الطفل والذي يكاد يختفي خلف ساقيّ المعلمة وهو ينظر للمدير بعبوس واضح ، ليقول بعدها وهو ما يزال يحدق بالطفل بابتسامة غامضة
"هل تعانين من مشاكل مع الطلاب الاشقياء ؟ إذا كانوا يسببون لكِ اي ازعاج فأنا استطيع التكفل بهم واخفائهم من الفصل بأكمله !"
اخفضت نظراتها الخضراء بهدوء نحو الطفل والذي كان ينظر بتجهم عابس نحو المدير قبل ان تتجول بنظراتها على الطلاب الصامتين بخنوع وكأنهم ليسوا انفسهم من كانوا يسببون لها الضجة بالفصل ، فيبدو بأنهم لا يطيقون مديرهم هذا ويكنون له بالشر والظاهر بملامحهم الصغيرة العابسة !
ابتسمت (روميساء) بعملية وهي تعود بنظرها للمدير قائلة بجدية
"لا ليس هناك اي مشاكل من اي نوع ، فأنا هنا اسيطر على زمام الأمور جيدا ، ولكن شكرا لك على وقتك الثمين والذي اضعته بالتأكد من ان العمل يسير على ما يرام"
اختفت ابتسامته بغموض وهو يستمع للكلمة الأخيرة والتي خرجت منها صارمة بتشديد ، ليقول بعدها وهو يرفع حاجبيه باستنكار واضح
"ولكن ليس هذا ما كان ظاهر امامي عندما دخلت لحجرة فصلك منذ لحظات !"
عبست ملامحها وهي تعيد خصلات شعرها المتمردة لخلف اذنها قبل ان تقول بنفس ابتسامتها العملية
"كل معلم ولديه طريقته الخاصة بإدارة الأمور ، وهذه هي طريقتي الخاصة بالتعامل مع الفصل والذي اديره ، لذا ليس هناك داعي لتتعب نفسك بالتفكير بمثل هذه الأمور والتي تكون ليست من اختصاصك"
حرك (نادر) رأسه بعيدا عنها وكأنه قد تلقى للتو صفعة غير مباشرة وهي تعيد كلامه السابق لها وكأنها ترده بالمثل وهو ينظر لها بهدوء جامد ، ليقول بعدها بابتسامة هادئة لا تعبر عن شيء
"إذاً بما ان كل شيء يسير بخير بالفصل والذي تديرينه ، فأنا اريد منكِ ان تشرفيني بمكتبي لإنهاء بعض المعاملات والتي تخصك"
ردت عليه وهي تحرك رأسها بابتسامة واثقة
"اكيد سأفعل هذا يا سيدي المدير ، ولكنك ستضطر للانتظار اكثر حتى ينتهي موعد الحصة ، فكما ترى امامك انا ما ازال اقدم الدرس وعليّ انهاءه قبل موعد الحصة الذي تليه ، لذا عذرا منك فأنا مضطرة الآن لإكمال الدرس"
ابتسم (نادر) باهتزاز وهو يهمس بجمود متصلب يكاد ينطق من ملامحه بغضب مكتوم
"حسنا كما تريدين يا روميساء....."
قاطعته (روميساء) بابتسامة صغيرة برسمية
"معلمة روميساء ، فأنا لا احب ان ينطق احد باسمي مجردا بدون اي لقب"
كان (نادر) يحدق بها بغموض طال للحظات قبل ان يتمتم بجفاء
"أياً يكن"
اهتزت حدقتيها الخضراوين بارتباك وهي تشيح بنظراتها بعيدا عنه لتنظر لرأس الطفل والذي ما يزال ملتصق بها بصمت ، لتسمع بعدها وقع خطواته المبتعدة لخارج الفصل وهو يتبعها بالقول ببشاشة مريبة
"اتمنى لكم يوماً سعيداً بباقي اليوم وخالي من اي مشاكل"
زمت شفتيها بامتقاع وهي ما تزال تستمع لخطواته والتي اختفت عن مرمى سمعها ، لتعود بعدها للالتفات باتجاه باب الفصل وهي تتنهد بهدوء وقد آمنت الآن بالمقولة القائلة (لن تكتشف خيري إلا إذا جربت غيري) وهذا ينطبق على مديرها السابق الفظ بالمقارنة مع هذا المدير العابث !
سارت بعدها عدة خطوات للأمام قبل ان تشير للطفل بالطبشور الذي ما يزال بيدها وهي تقول بأمر صارم
"هيا عد لمقعدك بسرعة ولا اريد ان اسمع اي نفس منك بعد الآن ، وألا ارسلتك للمدير بنفسي وهو من سيتكفل بك حينها"
ركض (هاني) بسرعة نحو مقعده قبل ان يجلس فوقه بطاعة تامة ، بينما كانت (روميساء) تنظر للأجواء الساكنة والتي خلفها وجود المدير بها بعد ان اجتاح المكان فجأة بدون سابق إنذار ، لتزفر بعدها انفاسها بإنهاك وهي تعود لرفع الكتاب المفتوح امام نظرها وتشير بالطبشور بكل زوايا الفصل متزامنا مع كلماتها الناطقة بعملية وهي تكمل ما بدأته وبطريقتها الخاصة والتي تتقنها وكأن شيء لم يحدث .
_____________________________
كان يقود السيارة على اطراف المدينة وهو يدندن بلحن غربي متزامنا مع الموسيقى والصادرة من مسجل صوت السيارة وهو يحرك رأسه باستماع ، لتعبس بعدها ملامحه بلحظة وهو يتوقف عن الغناء ناظرا من نافذة السيارة الجانبية بتركيز نحو الجسد البعيد والمتهدل على حاجز الجسر المتحرك نصف جسده ملقى بالهواء ونصفه الآخر على الارض ، وقد اكتشف بأنها انثى من شعرها الاسود الكثيف والمتطاير امامها ورأسها محمول بالهواء يحركها كيفما يشاء !
عاد بنظره للأمام بسرعة ما ان كان على وشك التسبب بحادث وهو يطفئ مسجل الصوت بيده الأخرى ، ليوقف بعدها السيارة على قارعة الطريق بحذر وهو يعود بالنظر لنفس الجسر والمعلق به جسد الفتاة ، خلع حزام الامان وهو يضع نظارته الداكنة فوق عينيه ليخرج من باب السيارة قائلا بتسلية واضحة
"يبدو بأننا سنستمتع كثيرا بلعب دور البطل المغوار مع هذه الضحية"
اتسعت ابتسامته بإثارة وهو يغلق باب السيارة بيده ليتحرك بعدها بخطوات واثقة بخيلاء صوب الجسر الطويل المتحرك ، ونظراته ما تزال ثابتة بانتباه على شعر الفتاة المتطاير بكثافة مع تيارات الهواء القوية وكأنها تعلن التحدي عليها .
ما ان وقف بجانبها وهي ما تزال على وضعها هذا حتى قال بابتسامة مسرحية وهو يمرر نظراته على جانب وجهها المخفي بين كومة شعرها
"مرحبا ، أهناك ما يضايقكِ يا آنسة ؟ فأنتِ تبدين بنظري مهمومة جدا والانتحار ليس بالحل المناسب ابدا !"
اهتزت ابتسامته بدون ان يجد اي إجابة على سؤاله وكأنه يكلم نفسه والآن فقط عرف شعور (احمد) عندما كان يكلمه بدون ان يجد منه اي استجابة ، ليعض بعدها على طرف شفتيه بتفكير قبل ان يستند بذراعيه على سياج الجسر المتحرك كما تفعل وهو يهمس بحزن مزيف
"اسمعي اعلم بأنني اضايقكِ بوجودي هنا ولا تريدين من اي احد ان يكون معكِ الآن ، ولكن صدقيني نواياي شريفة وما دفعني للمجيئ إليكِ هو منعكِ من فعل ما برأسكِ والذي سيكلفكِ الكثير ، لذا استمعي لكلامي وثقي بي"
همست (ماسة) لأول مرة بخفوت بدون ان تعتدل بوقوفها
"هلا صمت للحظة واعرتني سكوتك ؟ فقد بدأ رأسي يؤلمني من كلامك الفارغ"
انفرجت شفتيه بذهول وهو على وشك الكلام قبل ان يعود للصمت بصدمة وقد بدأ يتعرف اخيرا على الصوت الخارج من الفتاة بجانبه ! ليلتفت بوجهه بسرعة نحوها وهو يرفع النظارة لفوق رأسه بعيدا عن عينيه قائلا بتأكد
"ماسة !"
رفعت (ماسة) رأسها نحوه ببطء وهي تبعد بكفها خصلات شعرها المتطايرة من امام وجهها قبل ان تقول بابتسامة ساخرة
"ألم تتعرف عليّ بعد ؟ ام تحتاج لأثبات هوية شخصية لتتأكد من هي التي تريد ان تُقدم على الانتحار ؟ وتتوقف عن تمثيل دور البطل المغوار امامي"
ابتلع (شادي) ريقه برهبة من الموقف والذي وضع نفسه فيه وهو يحاول التقرب ومساعدة الفتاة والتي تبين بأنها ابنة عمته المجنونة ! وهو لا يعلم ما لذي احضرها لهذا المكان تحديدا ؟ وكأنها تصر على ملاحقته لكل مكان كلعنة والتي وقعت على رأسه وبكل مرة تكون بوضع مختلف ومريب تماما اكثر من سابقه ! وقد يكون القادم منها افظع !
كان يحدق بوجهها الجامد وهو ينظر لأول مرة لشعرها الطليق من حولها وهو يشكل هالة سوداء تطوق رأسها تزيد بشرتها الرخامية بياضا غريبا فاق المعقول ، حتى تشبهت ببياض الثلج وخاصة مع شفتيها الحمراوين الدمويتين بشكل مبالغ به بدون اي طلاء او مساحيق لتظهر مثل قصة بياض الثلج والاقزام السبعة بالحكايات والتي لا ينقصها سوى وجود التفاحة المسمومة بيدها ، ليتوقف برحلة تأملها عند حدقتيها الزرقاوين البارقتين وهما تبدوان لأول مرة ساكنتين بدون اي امواج او بحار .
همس (شادي) بعدها بلحظات بابتسامة مفتونة
"بياض الثلج"
عقدت (ماسة) حاجبيها بتركيز قبل ان تبتعد قليلا عن حاجز الجسر المعلق وهي تتمتم بوجوم
"ماذا كنت تقول عني للتو ؟"
افاق (شادي) من شروده لينظر بعيدا عنها وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة قائلا ببرود
"ليس بالشيء المهم"
عبست ملامحها بتصلب لتعود لتسند ذراعيها فوق حاجز الجسر وهي تعود للشرود بعيدا عنه وشعرها يرافقها بنفس شرودها ، بينما غامت ملامح الواقف بجوارها وهو ينقل نظره للأفق وللشمس والتي اختفت نصف استدارتها ليتبقى فقط القليل منها بوقت المغيب ، ليخفض بعدها نظره وهو يقول بصرامة مفاجئة
"صحيح لم تخبريني ما لذي تفعلينه بهذا المكان وعلى اطراف المدينة ؟ بدلا من ان تكوني الآن بالمنزل منذ ساعات طويلة ، ام انكِ تهوين التمرد على القوانين بالمنزل كما كنتِ تفعلين بحياتك السابقة مع زوج والدتك !"
ردت عليه (ماسة) بجفاء متعمد
"هذا ليس من شأنك"
زفر انفاسه ببوادر الغضب وهو يقول بجدية صارمة
"لا تبدأي مجددا ! فأنا ليس لدي مزاج الآن لأبدأ بالشجار معكِ والجدال ، لذا تعالي معي بهدوء لنعود للمنزل بدون اي مشاكل وبعدها يمكنني التشاجر معكِ بأي وقت تختارينه"
كست ملامحها قناع التمرد وهي تقول بجموح بدون ان تنظر إليه وهي تتأرجح بتعلق جسدها بحاجز الجسر بدون ان تهتم لخطر السقوط عنه
"ومن اخبرك بأني ارغب بالشجار معك او اني اريد العودة للمنزل معك ؟ فأنا إذا لم تكن تعلم استطيع العودة بمفردي وقتما اشاء وكما يحلو لي"
ازداد تجهم ملامحه وهو يقبض على كفيه بقوة بمقاومة قبل ان يتهور ويسحبها معه من شعرها الطويل ويرتاح من هذه المهمة بأكملها ، فهو يعلم جيدا اي نوع من الوحوش ستقابلها وتتعرض لها بشكلها الملفت هذا ! وقد اصبح وجودها بهذا المكان خطرا عليها وعلى سمعتها وهذا إذا كانت تبالي بالسمعة اصلا !
تنهد (شادي) بهدوء وهو يقول بصبر حانق
"ماسة لا تدفعيني للغضب وفعل ما نندم عليه كلينا ، لذا هلا نفذتِ ما اقوله لكِ واتيتِ معي لنرحل من هنا بسلام !"
ولكن لا حياة لمن تنادي وهي ما تزال تتأرجح بجسدها المقوس ورأسها يتحرك بالهواء وكأنها تختبر شعور الانتحار لو سقطت فجأة عن الجسر بدون اي اهتمام بحياتها ، لتعبس ملامحه بلحظة وهو يتمتم بلا مبالاة متعمدة ناظرا لجسدها المتأرجح مثل ملعقة فوق قدر فارغ
"حسنا كما تشائين ، انا الآن راحل من هنا وتحملي انتِ تبعاتِ تهوركِ هذا عندما تنقض عليكِ الذئاب الجائعة او يلقون بكِ من على الجسر ! فأنا لم اعد اهتم"
عاد (شادي) للابتسام ببرود وهو يعيد نظارته الداكنة لفوق عينيه السوداوين وهي ما تزال تتأرجح بلا مبالاة وعدم اهتمام وكأنها تتحداه بجرأة ، ليتراجع بعدها بخطواته وهو يسحب نفسه مغادرا بعيدا عنها ، بينما كانت هي تستمع لصوت خطواته بتركيز قبل ان تلتفت بسرعة نحو مكان اختفاءه وهي ترفع حاجبيها بصدمة من سرعته بالرحيل حتى لم يعد يظهر منه اي أثر وكأنه كان ينتظر بفارغ الصبر الفرصة ليتخلص منها ! ابتسمت بعدها بجمود وهي تخفض نظرها للأسفل لأمواج البحر الهائجة بوقت الغروب وقد تلونت بألوان الغروب الناعمة وهي تظهر انعكاس صورة الشمس والتي توشك على الرحيل .
شعرت بدفعة طفيفة بفعل تيارات الهواء من خلفها لتنزلق ذراعيها بعيدا عن الحاجز ورأسها تتهدل لأسفل الجسر وقد اصبحت ساقيها هما ما تعلقانها بالحاجز المتحرك تثبتانها عن الوقوع وهي تمسك بقضبان الجسر بيديها بتشبث ، لتشعر بعدها بقوة خارجية تمسك بساقيها لتسحبها عاليا وهي تعيدها لفوق الجسر كما كانت قبل دقائق من السقوط ، استدارت بسرعة للخلف لتنصدم بنفس الشخص والذي رحل قبل دقائق وهو يمسك بساقيها بذراعه ويرسم ابتسامة ساخرة على محياه ، قبل ان يقول ببرود واثق
"اخبرتكِ ان تتحملي تبعاتِ تهوركِ ، ولكنكِ لم تفعلي ! وها انتِ كدتِ تقعين عن الجسر بدون ان يراكِ احد لتختفي بين امواج البحر والتي ستأخذكِ بعيدا جدا ! وهذا الذي لن اسمح بحدوثه ابدا فخسارة شيء فريد مثلكِ ستكون خسارة فادحة على الكون"
انفرجت شفتيها الحمراوين بذهول من مغزي كلامه وهو ما يزال متشبث بساقيها ورأسها محمول بالهواء ، ليرفع ذراعه عن ساقيها ويمسك بخصرها النحيل المشدود وهو ينزلها عن الجسر بسلاسة قبل ان يضع ذراعه الأخرى اسفل ساقيها المقوستين وهو يحملها بالنهاية بين ذراعيه ببساطة ، قال بعدها بابتسامة متسلية بتلاعب
"هذه المرة سنعود للمنزل مباشرة فأنا لن اعود لمساعدتكِ مرتين متتاليتين ، وحتى لو غرقتِ بتلك المياه وتجمدتِ بقاعها ! فلن اهتم لأنكِ انتِ من اخترتِ هذا المصير ، لذا ليس لديكِ حل الآن سوى ان تختاريني فأنا الآن الخيار الافضل لكِ"
افاقت من صدمتها المتأخرة لتعبس بتجهم وهي تدفعه بقبضتيها قائلة بانفعال
"اتركني الآن وفورا ، وايضا انا لا احتاج لمساعدتك ، فقد كنتُ استطيع تدبير امري لوحدي بدون ان اسقط عن الجسر"
حرك (شادي) رأسه بتفهم مزيف وهو يرفع جسدها النحيل لفوق حاجز الجسر مجددا قائلا ببرود
"حسنا إذا كنتِ تختارين هذا المصير !"
صرخت (ماسة) وهي تتمسك بقميصه بقبضتيها بهلع
"لا تتركني يا مجنون !"
عبست ملامحه باستياء وهو يقول بحاجبين مرفوعين ببراءة
"لم اعد افهمكِ ابدا ، هل تريدين مني ان اترككِ ام لا ؟"
رفعت وجهها نحوه بقوة وهي تقول بتشديد صارم
"لا تتركني"
اتسعت ابتسامته وهو يرفع حاجبيه اكثر بتسلية قائلا بطاعة ملبيا طلبها
"حاضر يا آنسة ماسة ، الآن فقط عرفتُ ما هو مغزى اسمكِ فأنتِ باردة وقاسية كالألماس !"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بضيق وهي تتمتم بشتيمة مخفية وما تزال متمسكة بقميصه بقوة لا إرادية ، ليتراجع بعدها بخطواته بعيدا عن حاجز الجسر قبل ان يتمسك بجسدها جيدا وهو يشعر بتشنجاته وذبذباته الواضحة تنتشر بكل انحاء جسده ، ليسير بعدها باتجاه سيارته بصمت وابتسامته المتسلية ما تزال تحتل ملامحه الباردة بمنتهى الطبيعية ، واما (ماسة) فقد اكتفت بالصمت وهي تنظر لملامحه الغريبة عن قرب والتي تظهر باردة غير مبالية بأي شيء مما يدور من حولها ، فهل هو قناع لإخفاء دواخله عن جميع من حوله ؟ ام هي طبيعته والتي تمتاز بالبساطة بكل شيء يفعله بدون ان يفكر بنتائج افعاله بالعالم ؟نهاية الفصل.....
أنت تقرأ
بحر من دموع
Fiksi Umum"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...