الفصل الثالث والثلاثون

167 6 1
                                    

بعد مرور اسبوع.....
كان جالس بهدوء وهو يطرق بطرف القلم على سطح المكتب برتابة ويمسك الورقة بيده الاخرى ، ليزفر بعدها انفاسه بتعب وهو يلقي بالورقة جانبا قبل ان يفرك جبينه بأصابعه بحالة إنهاك دائم يرافقه صداع مزمن اصبح يلازمه مؤخرا ، وهو الذي لم يذق للراحة والسكينة طعم بعد ان جافاه النوم على مدار اسبوع كامل اقلق منامه وأقض مضجعه ، وكل هذه المعاناة بسبب كائنين بحياته فصلوا عقله لنصفين وقسموا شعوره لجزأين حتى اصبح لا يفرق بين نهار او ليل ، ولا يعلم متى سيحصل على الوقت الخاص بنفسه ويحين موعد استراحته بين كل هذه الفوضى التي اثارت العجب والخراب بحياته ؟ وبين كل هذا يبرز العجز واضحا بنقطة ضعفه الوحيدة والتي قيدته بأصفاد غير مرئية امتلكت مفتاح حريته ! وسحقا لكل هذه المبادئ والقوانين والكبرياء الرجولي الذي صنع كل هذه الحواجز بحياته واقصاه بعيدا عن رغبات نفسه وسعادتها !
تنهد بهدوء وهو يستغفر عدة مرات ببطء قبل ان يرفع رأسه بلحظة ما ان وصل لسمعه صوت طرق خافت على الباب ، ليضيق بعدها عينيه بترقب وهو يشعر ببذرة امل بدأت تنمو بعقله الباطني ويجسدها خياله وهو يتوقع بأي لحظة ان يلمح سرابها والذي سرق منه المنام لليالي طويلة ، لتحبط توقعاته بلحظات وهو ينظر لهوية الطارق والتي لم تكن سوى الجميلة (لينا) صاحبة الشأن العالي والجمال الباهر ليكون النقيض عن خيالاته .
كانت تتهادى بخطواتها نحوه على كعبي حذائيها الطويلين وتنورتها الاسبانية تطاير من حول ساقيها مثل راقصات الباليه والعروض المهرجانية ، وهذه عادتها الملاصقة لها منذ الأزل الظهور بكل مرة بشكل مختلف عن الآخر تلفت الانتباه وتبرز بطلة مبهرة تلمع بألوان غربية وبسطوع تقليدي تستطيع تمييزها من بين مئات البشر فقط لتكون الاختلاف عنهم بشكل او بآخر ، وقد اعتاد على هذا الوضع الشبه مرافق لها على الدوام حتى تكيف مع عالمها وتأقلم بين بيئتها التي تخلق بها بين المحلية والفخامة وبين الغرور والرقة .
افاق من افكاره التحليلية على صوتها الرقيق المتناغم مع صوت طرق حذائيها الذين توقفا امام مكتبه
"صباح الخير يا صديقي الوسيم ، هل اشتقت لصديقتك القديمة ؟"
ابتسم بجمود وهو يجيبها بهدوء رسمي
"صباح الورد يا لينا ، نورتِ مكتبي المتواضع"
حركت جسدها للأمام بتمايل وهي تهمس بابتسامة جانبية بغرور
"يا لك من متواضع يا شادي ! من يسمعك لا يصدق بأن عائلتك تملك شركات عملاقة احتلت بالمراتب الاولى بمجال الاعمال لا تساوي شيئاً امام هذه الشركة الصغيرة التي تعمل بها ؟ ولكن اكثر ما يعجبني بك ويثير زهوي هو عدم اعترافك بشأن اصولك النبيلة والتي لم تغير من طباعك وتصرفاتك ولم تمنع تكيفك مع كل اصناف البشر ، ولم تستطع ان تأخذك بعيدا عن العالم الخارجي ومراتبه والتي كلها سواء بالنسبة لك ! وكأنك تشجع المساواة واضطهاد العنصرية بين البشر !"
حرك رأسه نحوها وهو يتأمل ملامحها الفاتنة عن قرب ليهمس بعدها بشبه ابتسامة هادئة
"أليس هذا هو الكلام الصحيح ؟ فأنا شخص متسالم مع نفسي بعد كل شيء ، وإذا كان على هذا العالم ان يزدهر ويتوسع فهو يحتاج لإنماء المساواة والتكيف بين البشر بدلا من اضطهادها والقضاء على البشرية !"
تألقت ابتسامتها بنعومة وهي تريح كفيها على سطح المكتب هامسة بخفوت انثوي
"كلامك جواهر يا سيد شادي ، لديك وجهة نظر سديدة تليق بشخصية متواضعة تحترم جميع البشر وتفكر بالصالح العام ، يا ليت اصحاب النفوذ العالي ورؤوس المال بالعالم يقتدون بك !"
ادار رأسه جانبا وهو يقول باقتضاب
"كل شخص لديه الحرية باختيار مسار حياته وبالصفوف التي يقرر الانضمام لها ، ونحن لا نستطيع اجبار رأينا او فرض شخصيتنا على الآخرين فهذا ينافي مبادئنا"
عضت على طرف شفتيها وهي تلوح بكفها لتغير مسار الموضوع هامسة بتفكير متلاعب
"اتركني من سياستك الآن واجب على سؤالي ، لماذا تفاجأت بلحظة اقتحامي مكتبك ؟ هل كنت تنتظر احد آخر وظننته هو ؟"
نظر لها بهدوء وهو يحرك كتفيه قائلا باستخفاف
"ربما ! من يعلم !"
تجمدت ملامحها بقناع جليدي لبرهة وهي تستقيم بمكانها بتصلب ، لتعود بعدها للابتسام برقة وهي تهمس بمغزى
"انسى هذا السؤال لأني سأطرح عليك غيره ، هل تعلم ما هي المناسبة التي ستحدث بنهاية هذا الاسبوع ؟"
ارتفع حاجبيه باهتمام للحظة وهو يهمس بتفكير
"لا يوجد عندي اي مناسبات قريبة ، هل يعقل بأن تكون مناسبة رسمية تخص حفلات العمل ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تلتقط خصلات قصيرة من شعرها لتلفها حول اصبعها هامسة بلطافة
"لا ليس كذلك ، هيا فكر جيدا ، ليس من العدل ألا تعرف نوع المناسبة !"
عقد حاجبيه بتفكير جاد وهو يطرق بطرف القلم على سطح المكتب قبل ان يقول بهدوء
"هل هي مناسبة شخصية ام مناسبة اجتماعية ؟ فهذا الفارق سيغير الجواب !"
زمت شفتيها بابتسام وهي تهمس بغرور خافت
"انها مناسبة شخصية"
اومأ برأسه بهدوء للحظات قبل ان تتسع عينيه بدهشة وهو يقول من فوره بصدمة
"هل يعقل بأن تكون المناسبة عقد قرانك ؟ مبروك يا ابنة الوزير ، واتمنى لكِ التمام على خير......"
قاطعته باندفاع التي شدت على خصلات شعرها بقوة حتى كادت تقطعها وهي تهمس بعبوس محتقن
"غير صحيح ! ليس هناك شيء من هذا الكلام ! وانا لن اتزوج الآن ، ولن اتزوج حتى اقرر ذلك بنفسي"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بتوهج ثائر ما ان ضحك بهدوء منخفض وهو يشير بالقلم نحوها قائلا بمرح
"لقد كنت امزح فقط يا لينا ، فأنا اعلم جيدا بأنكِ تعيشين بحالة تحرر الذات ولن تقرري الزواج ألا عندما تنتهي تلك الحالة وتفكري بالخروج منها ، وهذا لن يحدث ألا بحالتين اما ان يجبرك احدهم على الزواج او عندما تفقدين الامل من الحياة وتخسرين متعتها ، او قد نضيف سبب آخر عند اصابة والدك بسكتة قلبية على اثر عنادك الطفولي والذي سيجلب الألم لقلبه المسكين ، أليس كذلك يا فاتنة الوزير ؟"
انحرفت زاوية ابتسامتها بوجوم وهي تنفض بلحظة الحالة الحزينة التي مرت على خاطرها ، لتكتف بعدها ذراعيها بجمود وهي تهمس بتبرم عابس
"هلا تركنا خطة زواجي خارج موضوعنا ؟ فقد سألتك سؤال واضح ولم احصل بعد على الاجابة عليه ! وإذا لم تجيب هذه المرة بصدق......"
قاطعها بهدوء وهو يتلاعب بالقلم بين اصابعه قائلا بابتسامة جانبية
"اعرف جيدا الجواب منذ اللحظة الأولى ، انه عيد ميلاد ابنة الوزير البالغة من العمر اثني عشر عاما"
اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي تميل على المكتب بسرعة هامسة بخفوت مغتاظ
"كنت تعرف ذلك منذ البداية ولم تخبرني ، هل تعلم كم شعرت بالإحباط والانزعاج بطريقتك الملتوية بالإجابة ؟ لقد كدت اصدق بأنك لا تعرف حقا !"
ابتسم ببرود وهو يقول ببساطة بالغة
"كفى كذباً يا لينا ! كنتِ تعرفين منذ البداية بأني سأكتشف مناسبة ذلك اليوم بالنهاية ، واعلم جيدا بأنكِ لن تتركيني وشأني حتى تحصلين على الاجابة الشافية ولو اضطررتِ لتلمحي لي عن الاجابة بشتى الطرق ، فلا احد يقدر على عنادك ولا احد يستطيع كسره !"
عضت على طرف ابتسامتها بإغراء وهي تريح كفيها على سطح المكتب هامسة بخفوت متملق
"إذاً أليس هناك عيد ميلاد سعيد ؟ هيا قلها يا متكبر"
حرك عينيه بعيدا عنها بملل وهو يقول بابتسام جاف
"عيد ميلاد سعيد مقدما يا لينا ، واتمنى لكِ العمر المديد والسعادة طيلة حياتك ، واكبر امنياتي هي رؤيتك عروس امامي وحضور حفل زفافك"
اختفت ابتسامتها بلحظة وهي تقبض على يديها فوق سطح المكتب هامسة ببرود متعمد
"شكرا لك على هذه المعايدة مع حذف آخر سطر من كلامك ، وسعيدة بتذكرك عيد ميلادي وسماع اول معايدة منك"
اومأ برأسه بهدوء وهو يرجع ظهره والذي استقام بعيدا عن سطح المكتب ، ليعود بعدها لمسك الورقة امامه قائلا برسمية
"على الرحب والسعة"
زمت شفتيها بامتعاض صامت وهي تميل بجسدها مجددا على سطح المكتب ، لتهمس بعدها بابتسامة رقيقة بوداعة
"حسنا بما ان عيد ميلادي قد اقترب فقد فكرت بأن نقضي هذا اليوم بزيارة اماكن عدة نرفه بها عن انفسنا ، فأنا موعودة منك بهدية جميلة مثل كل سنة ، ولن انتظر حتى ينتهي الاسبوع لتستطيع التفرغ لي وقضاء الوقت معي"
رفع نظره نحوها بضيق وهو يقول بجدية هادئة
"لن استطيع فعلها بعد الآن يا لينا ، فأنا كما ترين قد اصبحت رجل متزوج ولديه مسؤوليات ويهتم بسمعة منزله ، وليس من اللائق الخروج معكِ والتنقل بين المكان والآخر كما بالسابق فهذا سيجلب لنا الكلام ونقض بعقود الزواج"
عبست ملامحها بحزن وهي تسحب قبضتيها ببطء لتهمس بعدها برجاء رقيق يستطيع اذابة الصخر
"انا اتفهم وضعك الجديد تماما ، ولكني لن اطلب منك الكثير فقط جلسة بمقهى لطيف يفرح قلبي ويشعرني بقيمتي بحياتك ، لتكون ذكرى خالدة بمناسبة عيد ميلادي ولن اطلب منك هدية غيرها ، فقط حقق امنيتي الوحيدة واقضي هذا اليوم معي"
اشاح بوجهه جانبا بسكون تام غيم بينهما للحظات ، لتقف بعدها على بعد سنتمترات من المكتب وهي تستدير بنصف جسدها هامسة بأسى خافت
"لا بأس يا شادي لن ازعجك اكثر ، إذا لم تكن تستطيع الخروج معي بهذا اليوم فلا بأس بذلك ، لقد كنت فقط افكر بقضاء الوقت مع صديقي الوحيد والمقرب بعيد ميلادي والذي لن يتكرر كل يوم ، ولكن يبدو بأن هناك امور كثيرة قد تغيرت بحياة صديقي وبشخصيته ! شكرا لك على المعايدة"
ما ان خطت خطوتين بتردد وهي تنتظر الإشارة حتى تحقق مرادها وهي تسمع الصوت الخشن يقول بنفاذ صبر
"توقفي بمكانكِ يا لينا"
توقفت بالفعل وهي ترجع قدم للخلف باستعداد للخطوة التالية لتلتفت بعدها بنصف وجهها وهي تسمع صوت تحرك الكرسي الذي يدل عن نهوضه ، وبعد عدة لحظات انتظار كان يقف بجوارها وهو يقول بهدوء حازم
"هيا بنا سنذهب لقضاء الوقت بالمقهى الذي تختارينه ، وتذكري بأن هذا الامر لن يتجاوز النصف ساعة على الاكثر ، فأنا لدي اعمال اخرى عليّ انجازها ، وسأستغل وقت استراحة الغداء بقضاء الوقت برفقتك يا صاحبة عيد الميلاد"
رفعت رأسها بابتسامة كبيرة وهي تهمس بحماس
"اعدك بأنك لن تندم على هذا القرار ، وسنحصل اخيرا على المتعة والتسلية كما كنا نفعل بالماضي"
حرك رأسه للأمام وهو يقول بجمود
"اتمنى ذلك حقا فقد مللت من الروتين القاتل"
نظرت له وهو يتجه لخارج غرفة المكتب لتهمس من خلفه بخفوت ماكر بسعادة خفية
"هذا سيكون اجمل عيد ميلاد يمر بحياتي على الإطلاق"
___________________________
كانت جالسة امام الطاولة وهي شاردة بالعالم الخارجي من خلال الواجهة الزجاجية المحيطة بالمكان وكأنها فقاعة هواء تحميها من سكاكين البشر وضغائن نفوسهم...لطالما شعرت بالوحدة والعزلة بحياتها الباردة الروتينية والتي امتزجت بكل ألوان البرودة والفراغ العاطفي....حتى اصبحت مثل الصقيع الموحش تحمل عقل روبوت وروح دمية وقلب مطموس بالسواد وشخصية لغتها الحياة وغيرتها الظروف....ولكنها بعد كل ذلك شعرت اخيرا بدفء قبس الشمعة يلامس محياها وضوئها ينير قاع ظلمتها بعد مرور سنوات عجاف...والآن بعد ان جربت تلك المشاعر والاحاسيس التي قشعت ضباب الظلمة والبرودة القسرية عن حياتها هل تسمح لهم بسرقتها منها ؟ هل ستملك القدرة على التخلي عنها وانسحابها منها ؟ هل ستستطيع العودة لتلك الحجرة المظلمة والتي حبست بها على مدار سنوات مثل الإقامة الجبرية ؟ هل ستكون انسانة مسالمة من جديد ؟
تنهدت بإرهاق مجهد وهي تضم مرفقيها فوق سطح الطاولة بجمود طاف على محياها ، ليشد سمعها بلحظة الصوت المألوف والذي تعرفت عليه بسرعة وهو يبعد عنها عدة خطوات
"صباح الخير يا صديقتي الصغيرة ، صدفة استثنائية ان اراكِ هنا !"
حركت رأسها بعدم اهتمام وهي تهمس ببرود بدون ان تنظر له
"هل اعرفك ؟"
ابتسم صاحب الملامح الباردة وهو يقف خلف الكرسي المقابل لها قائلا بهدوء متلاعب
"سأعطيكِ فرصة لتحزري بها من يكون صاحب هذا الاقتحام ، وإذا عرفتِ هوية الواقف امامك فأعدكِ ان تربحي معي جائزة استثنائية تليق بك ، وإذا لم تستطيعي الفوز فستتحملين توابع الخسارة وتخرجين معي بموعد غرامي"
حادت بنظراتها نحوه بضيق قبل ان تعود بنظرها بعيدا هامسة بخفوت مشتد
"ليس لدي اي نية بالفوز او الخسارة ، ولست مهتمة بكل ما تقول ، لذا غادر من هنا رجاءً"
مالت ابتسامته بتسلية وهو يرجع الكرسي امامه ليجلس عليه ببساطة قبل ان يقول بحرية
"إذا كنتِ تريدين الطرف المحايد فلا امانع بذلك ، ولكنكِ ستتحملين اخذ الخسارة"
نظرت له بصدمة وهي تكور قبضتيها تلقائيا هامسة بامتعاض غاضب
"ما لذي تفعله يا سيد ؟"
فرد ذراعيه على جانبيه وهو يرجع ظهره للخلف قائلا بابتسامة مرتاحة
"لا افعل شيء فقط اساندك بتقبل الهزيمة ، بما انكِ لم تتعرفي على هويتي ومن اكون ، ما رأيكِ ان نبدأ باختيار مكان موعدنا الغرامي ؟........"
قاطعته من فورها بعبوس ساخط
"انت زير النساء ، متلاعب بقلوب الفتيات ، الخائن الجبان ، المتشبه بالرجال ، عديم الاخلاق والرجولة ، اصحاب النزوات العابرة ، وجنس يستحق الفناء عن الكوكب ، هل هذه الاجابة تكفي لتغرب عن وجهي وتتركني بحال سبيلي ؟"
حرك رأسه بالنفي بدون ان يفقد ابتسامته وهو يقول بانبهار مصطنع
"يا لها من ألقاب لطيفة ينطقها لسانك الحاد الذي لا يعرف الرحمة ! ولكنها لم تتضمن من بينها اسمي ! هل يعقل بأن تكوني قد نسيتِ اسمي ؟"
ردت عليه من بين اسنانها بحدة اكبر
"اسمك هو كمال"
ارتفع حاجبيه بإعجاب مزيف وهو يقول بابتسامة جانبية
"رائع ! ما تزالين تتذكرين اسمي ، يبدو بأنه لديكِ ذاكرة حديدية"
حركت رأسها جانبا وهي تهمس بوجوم خافت
"لدي ذاكرة حديدية فقط مع الاسماء التي لا تمحى من الذاكرة بسهولة"
التوت ابتسامته ببرود وهو يتمتم بمكر
"لأنني الاسم الذي سينقذ حياتك"
سكنت ملامحها وهي تهمس بخفوت جاف
"بل لأنك جزء من الذين دمروا حياتي"
تصلبت ملامحه لوهلة قبل ان يوجه نظراته بعيدا عنها ليلوح بعدها للنادل من بعيد قائلا بجدية
"دعكِ من هذا الموضوع ، فلدينا امور اهم نتكلم عنها تخص حياة كلينا"
تجاهلت معنى كلامه وهو يقول للنادل الذي وصل عند طاولتهما بنبرة جادة
"هلا احضرت لنا كوبين من القهوة السوداء على حسابي ؟"
اومأ النادل برأسه بتهذيب وهو يغادر بعيدا عنهما ، لتقول بعدها صاحبة الملامح الجامدة بصوت مغتاظ
"كيف عرفت من اكون ؟ هل هي تحريات اخرى !"
نظر لها بهدوء وهو يتقدم بجلوسه امام الطاولة ليقول بعدها بابتسامة جامدة
"اجل شيء من هذا الكلام ، فقد اصبحتِ نقطة التواصل الوحيدة لدي والتي تستطيع انقاذي من محنتي"
زفرت انفاسها بغضب وهي تهمس بضيق
"ولماذا اخترتني انا لأساعدك بهذه المشكلة ؟ لقد اخطئت كثيرا بالاستنجاد بي ، فأنا بالكاد اساعد نفسي حتى استطيع مساعدتك !"
ضم قبضتيه فوق سطح الطاولة وهو يقول بهدوء غامض
"بل انتِ افضل من تستطيع نجدتنا بهذه المشكلة ، ومن الاحتمالات والتحريات التي درستها انتِ كذلك تسعين للحفاظ على سلامة حياتك الزوجية ، لذا يمكنكِ مساعدتي لدرع الخطر بعيدا عنا ، واعدكِ ألا تخسري شيء من هذه الحرب بحال ساعدتني"
ادارت وجهها نحوه وهي تهمس ببرود قاسي
"لا اريد شيء منك ، ولا مساعدتك ، ولا نجدتك ، فقط اتركني وشأني ، وشيء آخر توقف عن رسائلك واتصالاتك المزعجة بكل ارقامك الوهمية ، فقد بدأت تزعجني وتغيظني اكثر مما احتمل"
انحرفت زاوية ابتسامته بهدوء وهو يلوح بيده قائلا بعدم اهتمام
"وماذا ادراكِ بأن كل تلك الارقام مصدرها مني ؟"
ردت عليه بعبوس حانق
"توقف عن هذه التصرفات ، ولا تجعلني اندم لأني لم اقم بالإجراء القانوني بحقك للتخلص من مضايقاتك !"
اسند ذقنه فوق قبضته وهو يقول ببرود ساخر
"لن اتوقف عن ذلك قبل ان تتوقفي عن حظر الارقام وتجاهل اتصالاتي لكِ ، ولا تنسي بأنكِ قد وافقتِ على خطة مساعدتي وليس من اللائق التراجع الآن"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بخفوت عابس
"لم اوافق على شيء ، توقف عن قول ترهات لم اقم بقولها !"
ردّ عليها بابتسامة هادئة بعفوية
"لقد صمتِ ولم تردي بالرفض ، وهذا يعني بأنكِ موافقة من داخلك بدون النطق بها"
رفعت حاجبيها بجمود قبل ان تدير عينيها بعيدا عنه بضيق واضح ، ليتوقف كليهما عن الكلام ما ان وصل النادل عند طاولتهما وهو يضع لهما كوبين القهوة ، وما ان غادر النادل بعيدا حتى امسك بكوب قهوته وهو يقول لها بنبرة ماكرة بانتصار
"استمتعي باحتساء كوب القهوة فهي ستكون بداية تشاركنا الصفقة ، وكما يقولون الذين تجمعهم نفس الاهداف والطموحات هم اعز الاصدقاء"
بينما كانت هناك طاولة اخرى تبعد عنهما امتار يجلس عليها فردين مختلفين يتشاركان كل اثنين بنفس الرابط رغم تناقض اهداف الجلسة ، ولم ينتبه احد لوجودهم بنفس المكان ما عدا صاحبة العيون الخضراء الحاذقة وهي تشرف وتراقب على المكان بأكمله بتركيز صامت ، قطع بعدها هالة الصمت الذي قال بجدية هادئة
"لينا هل انتِ معي ؟ انا اتكلم معكِ !"
اعادت تركيزها بسرعة للجالس امامها وهي تهمس بابتسامة محرجة
"اعتذر عن هذا يا شادي ، هل كنت تكلمني ؟"
عقد حاجبيه بتصلب وهو ينظر لها بتمعن قائلا بهدوء
"هذه خامس مرة اناديكِ بها ولم تسمعيني ! فيما كنتِ شاردة بكل هذا التركيز ؟"
لوحت بكفها برقة وهي تهمس بخفوت مبتسم
"لا شيء مهم يا شادي تشغل بالك به ، فقط كنت افكر بمدى سعادتي بقبولك الخروج معي وتهنئتي بعيد ميلادي برغم انشغالك بالعمل"
اومأ برأسه بجمود وهو يقول باقتضاب
"على كل حال لقد كنت اناديكِ من اجل ان يأخذ النادل طلبكِ ، ولكن بما انكِ كنتِ شاردة فقد اعطيته طلبنا واخبرته ان يحضر لكِ عصير الكريمة المحلى والمفضل لكِ ، وهو بالطبع على حسابي بمناسبة عيد ميلادك"
اتسعت ابتسامتها بانتشاء وهي تمد كفها لتمسك بيده على الطاولة هامسة بخفوت مدله
"يا لروعتك يا شادي الفكهاني ! كنت اعلم بأنك صديق يحتذى به ويعتمد عليه بوقت الفرح والحزن ، وانا اسعد مخلوقة بامتلاك صديق مثالي ومتواضع مثلك ، وكل من لديه شخص مثلك هو اكثر شخص محظوظ بالعالم"
عقد حاجبيه بجمود وهو يسحب كفه من تحت يدها قائلا بهدوء عملي
"على الرحب والسعة هذه ضريبة الصداقة"
تجمدت ابتسامتها بوجوم طاف على ملامحها الفاتنة وهي توجه نظراتها لنفس الوجهة السابقة ، لتعود بعدها للنظر امامها وهي تهمس بلحظة بخفوت مبتهج
"هل تعلم ماذا ينقصنا بهذه الجلسة من اجل ان نخلدها كأجمل ذكرى ؟"
نظر لها بتحديق متململ وهي تخرج هاتفها من حقيبتها قبل ان تلوح به قائلة بحماس
"ما رأيك بالتقاط صورة لطيفة لنا بهذا اليوم المميز ؟ فنحن لم نحصل على اي لحظات مميزة لنا سويا منذ زواجك وخروجك من حياة العزوبية !"
تصلبت ملامحه ما ان نهضت عن مقعدها وهي تدور حول الطاولة بثواني قبل ان تصبح بجواره ، وما ان مدت الهاتف على وضع الكاميرا حتى اشاح بوجهه جانبا وهو يقول بحزم صارم
"ما هذه التصرفات الطفولية يا لينا ؟ هل ترين بأنه من اللائق التقاط الصور معا على العلن ؟ لقد اصبحت رجل متزوج وهذه الحركات لم تعد جائزة بعد الآن ! كم مرة عليّ ان اعيد لكِ هذا الكلام !"
شددت على الهاتف بيدها بدون ان تظهر اي انفعال على ملامحها وهي تهمس بخفوت مترجي
"ارجوك يا شادي فقط صورة واحدة ، واعدك لن انشرها على المواقع الاجتماعية ولن تظهر امام الملأ ، فقط صورة تذكارية بمناسبة عيد ميلادي ، فأنا اعلم جيدا بأنني لن استطيع الخروج معك مرة اخرى ولن تتكرر هذه الحادثة مجددا"
تنفس من بين اسنانه بغيظ وهو يعيد نظراته للأمام قائلا بصبر على وشك النفاذ
"ألن تتوقفي عن هذه الطريقة بالعناد الطفولي ؟ فقد سئمت من اسلوبكِ معي بابتزازي عاطفيا !"
ضمت الهاتف بين يديها وهي تهمس برجاء رقيق على وشك سكب الدموع من مقلتيها الخضراوين
"ارجوك يا شادي ، وافق هذه المرة فقط ، فداء بعشرة صداقتنا الابدية"
زفر انفاسه بهدوء وهو يقول بابتسامة اجهدت عضلات فكيه
"اللهم ألهمني الصبر ! حسنا يا لينا سنلتقط الصورة اللعينة وننتهي ، ولكن إذا عرفت بأنها قد انتشرت بأي موقع مثل المرة الفائتة......"
قاطعته بسرعة وهي تحرك رأسها بتأكيد
"اعدك لن يحدث هذا"
رفعت الهاتف بيدها امامهما وهي تميل بجسدها على ذراع مقعده لتملئ الشاشة الوجهين معا وهي تحاول ان تظهر المكان من حولهما ، وبلحظة كانت تلتقط الصورة اخيرا وهي تستقيم بعيدا عنه ناظرة للصورة بابتسامة راضية وبلهيب السعادة الذي قدح بعينيها الخضراوين ، لتحين منها التفاتة للجالس بجانبها للحظة قبل ان تعرض الصورة امام نظره وهي تهمس له بسعادة لم يخفى المكر بها
"ما رأيك بالصورة يا شادي ؟ انت تبدو بغاية الوسامة بها كما بكل الصور التي تظهر بها"
نظر لها بعدم اهتمام لثواني فقط قبل ان يلمح طرف الطاولة التي ظهرت بزاوية الصورة وهو يميزها عن بعد امتار بذلك الوجه الذي لا يغيب عنه ، وما هي ألا لحظات اخرى حتى نهض من مكانه بقوة وهو يستدير للخلف بعنف ونظراته تطير تلقائيا للطاولة المقصودة التي ظهرت بالصورة واكلت الباقي من عقله .
ما ان وضعت كفها على كتفه برقة حتى نفض كفها بعيدا وهو يندفع مباشرة بدون ادنى تفكير ، ليقطع المسافة بين الطاولتين بخطوات واسعة بأشواط قبل ان يصبح بالقرب منهما ، لتلمحه بالبداية التي نظرت بصدمة اتسعت معها حدقتيها بذعر وهي تهمس بارتجاف ممتقع
"يا للمصيبة !"
وما ان نظرت للجالس امامها والذي بان عليه الحيرة حتى همست له بخفوت بائس
"يبدو بأن وقت الحساب قد جاء"
توجهت نظراتهما للذي اقتحم خلوتهما وهو يقف امام الطاولة قائلا بوجوم لا ينم على شيء
"صباح الخير ، هل قاطعت حديثكما ؟"
كانت اول ردة فعل تظهر منها هي محاولتها النهوض بسرعة والتي توقعها بلمح البصر وهو يتحول خلف مقعدها ليحط بيديه على كتفيها بقسوة وهو يثبتها بمكانها رغم إرادتها ، لينتقل بنظره للجالس امامهما بسكون وهو يقول له بابتسام جامد
"هلا عرفت عن نفسك يا سيد ؟ واخبرتني ماذا تفعل مع زوجتي العزيزة بمقهى لوحدكما بدون علم زوجها ؟ فأنا لا اريد افتعال مشاكل وتمزيقك امام الملأ من لا شيء !"
تلوت (ماسة) بمكانها بعنفوان وهي تحاول تحرير كتفيها والنهوض قائلة بضيق شديد
"غير صحيح ، هناك سوء فهم......"
قاطعها بقوة اكبر وهو يزيد من ضغط يديه حتى كاد يكسر عظامها بقسوة
"انتِ اخرسي فهذا ليس عملك"
عضت على طرف شفتيها حتى كادت تدميها وهي تلتزم الصمت التام ، لتأتي الاجابة من الذي نهض من مكانه وهو يقول بجمود قاتم
"اعتذر على سوء الفهم ، انا اكون زوج وفاء السابق ، او على الارجح حبيب شقيقتك السابق"
احاطت البرودة الاجواء بينهم سمرت كليهما معا بين دهشة واستنكار وكراهية بدأت تلوح بالأفق تخبئ هجوم ضاري على وشك القضاء عليهم بحرب سفك الدماء ، وما ان شعرت بثقل يديه ينزحان عنها ببطء وشرارات حارقة تستطيع الاستشعار بها بغريزتها الطبيعية التي تنبؤ بالخطر حتى قالت بإحباط
"اللعنة على حماقتك !"
سمعت بعدها صوت الواقف خلفها وهو يتمتم بشر مطمور
"جيد لقد اعطيتني دافع اكبر من اجل ان امزقك أرباً أرباً"
اخفضت جفنيها برجفة خاطفة لوهلة قبل ان تسمع صوت مدافع الحرب وهو يشن عليه الهجوم الاولي والذي كان لكمة بمنتصف وجهه اوقعته للخلف مع الكرسي الذي سقط معه وتحطم ، وبغضون ثواني كان جميع رواد المقهى يتجمعون من حولهما بدون ان يبادر احد منهم بحركة ، وهو يمسك بياقة قميصه ليرفعه عن الارض بقوة قبل ان يعود ليوجه له لكمات متعددة على تفاصيل وجهه قائلا بغضب مكتوم ترك له زمام الامور
"يا لحقارتك وانعدام رجولتك ! وتقولها بوجهي بكل وقاحة وجرأة وبدون اي خوف او رهبة ! ألا تملك ذرة ضمير او ندم تأنب عليها بعد كل ما فعلته بحياتك اللعينة المليئة بالآثام والخطايا ؟ ماذا تكون انت بحياتي حتى تتعرض مرتين لكل الذين يربطهم بشادي الفكهاني علاقة ؟ إذا ظننت بأنه لا احد من وراءهم يحاسبك على افعالك معهما ! فأنت مخطئ وحسابك معي لم ينتهي !"
تدخل بعض رواد المطعم وهم يحاولون فض الخلاف بينهما وإيقاف الثائر على كبريائه الرجولي والذي فاض عن حده ، وما ان ابتعد عنه اخيرا وهو يتوقف عن توجيه اللكمات له حتى قال صاحب الملامح المهشمة وهو يبصق الدم من فمه بازدراء
"لن ينتهي شيء وسترى ! فما زال جزء مني بحوزتكم ولن يتوقف الخصام قبل ان يحل"
شدد (شادي) على اسنانه وهو على وشك اعادة الهجوم ليقف امامه بسرعة صاحبة الصوت الرقيق وهي تضع كفيها على صدره تحاول تهدئة ثورته
"اهدئ يا عزيزي شادي ، فالعراك والكلام معه لن يفيد بشيء ، فهذه الاشكال يفضل تجاهلها وعدم اعطاءها اي قيمة لأنها لا تستحق"
نزع يديها بعيدا عن صدره بعنف مبالغ به وهو يستدير للجهة الاخرى بعيدا عنهم ، ليتسمر بمكانه بتجمد اخذت لحظات استيعاب وهو يكتشف خلو الطاولة والمكان منها ، ليشتت نظره بالرواد من حوله وهو يشير لهم بذراعه صارخا بانفعال لا شعوري
"اين ذهبت زوجتي ؟ ألم يراها احد منكم !"
اتجهت الايادي بمسار واحد نحو باب المقهى الذي خرجت منه اثناء الشجار الحي ، ولم يأخذ وقتا طويلا قبل ان يغادر بسرعة بعيدا عنهم وهو يجري لخارج المقهى تاركا كل الدمار الذي خلفه من حوله ، بينما كانت (لينا) ساكنة بمكانها وهي تفرك كفيها بهدوء ونظراتها تنحرف عن مسارها لتتبادل النظرات مع شريكها المهشم والذي اخذ الكثير من اضرار هذه الخطة والتي كانت الرأس المدبر بها .
______________________________
سارت بسرعة بخطوات متعثرة كل قدم تسابق الاخرى لمجاراتها برحلة النجاة وهي تخسر لأول مرة ثباتها المدعوم بعزيمتها والتي ضاعت وتبعثرت كل جزء بزاوية بذلك المقهى...وهي تفكر فقط بالمصير البائس الذي ينتظرها من صاحب الكبرياء الرجولي والذي خدش بأهم نقاط ضعف الرجل والتي يتسم بها....كيف تغفل عن هذه الامور المهمة وهي التي عاشت مع معشر الرجال ما يقارب الخمس سنوات حتى اكتسبت معرفة واسعة عن مكنونات كل واحد منهم وعن إيجابيات وسلبيات جوانب شخصياتهم ؟....ومن خبرتها الحالية تؤكد بأنها لن تنفذ من عقاب ذلك الرجل الجليدي والذي ذاب الجليد عنه وانصهر بنيران الغضب التي ستحرقها حية...وكما تسمع دائما اتقي شر الحليم إذا غضب !
بدأت خطواتها بالتباطؤ باضطراب ما ان وصل لسمعها صوت محركات سيارة قريبة وهي تسير على نسق خطواتها ، وما ان شعرت بها على مقربة منها حتى تسارعت تلقائيا بدافع غريزي وهي تعود للمشي بهرولة خفيفة ، ولم تمر سوى لحظة حتى تسمرت فقرات ظهرها بتصلب ما ان خرج لها صوت زامور السيارة الصاخب والذي قشعر اوصالها ، وليس هذا وحسب بل خرج الصوت الصارم بنبرة امر واضحة
"ادخلي للسيارة"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تكمل طريقها وكأنها لم تسمع ، لتنتصب واقفة ما ان كرر كلامه بصرامة اكبر وهو يضيف اسمها بتسلط
"ادخلي للسيارة يا ماسة"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تستدير نحوه بتأهب لتقول بعدها بثقة كبيرة
"لن افعل ، استطيع العودة للمنزل لوحدي"
شددت على اسنانها بوجل ما ان ضرب على زامور السيارة بقوة وهو يطل برأسه من النافذة قائلا بتهديد غاضب
"إذا لم تفعلي ما اقول يا ماسة ، فلن اتردد عن دهسك تحت عجلات هذه السيارة والتي ستكون خسارة بكِ"
عبست ملامحها بتبرم وهي تمسك خصرها بيديها لتميل للأمام قليلا بحركة مستفزة قائلة بتحدي بارد
"هيا افعلها إذا كنت رجلا !"
رفع حاجبيه بتصلب غائم وهو يقول بابتسامة حادة بحقد
"تعلمين جيدا بأنكِ بهذه العبارة لا تضايق الرجل بقدر ما تثير جنونه ! لذا لا تلوميني بعد ان اقضي على حياتك من اجل ان ترضي غرور التحدي"
اشاحت بوجهها جانبا بجمود وداخلها يرجف بمعنى الكلمة ، لتسمع بعدها عبارته الاخيرة وهو يضغط على محرك السرعة ببساطة
"حسنا لكِ هذا يا مجنونة"
اتسعت مقلتيها بجزع وهي تدير وجهها للأمام بسرعة قبل ان تلوح بكفيها امام وجهها صارخة بذعر
"توقف يا مجنون ، إياك وان تقترب"
اخفضت يديها بحذر وهي تنظر للسيارة الساكنة تكاد تلامس الرصيف وتصعد عليه ، لترفع بعدها عينيها الواسعتين باتجاه صاحب الصوت وهو يقول بجمود آمر
"اصعدي للسيارة يا ماسة"
عضت على طرف شفتيها عدة مرات قبل ان تتحرك على مضض وهي تدور حول السيارة بلحظات ، لتدخل بعدها من الباب الجانبي وهي تجلس بجوار السائق بصمت .
تحركت السيارة بعيدا عن الرصيف وهو يكمل الطريق بثبات ، تجمدت اطرافها لبرهة وهي تقبض على يديها بحجرها بصمت ساكن ثقيل جثم على روحها بألم ، لتأخذ بعدها عدة انفاس طويلة وهي تحاول تجميد صوتها هامسة بهدوء ظاهري
"اسمع يا شادي وافهم كلامي جيدا ، انا لم ارتكب اي خطأ بذلك المقهى ، وكل ما حدث كان بمحضي الصدفة وليس لي اي علاقة به ، لذا إياك وان توجه لي اي نظرات اتهامية او تلومني بشيء لم افعله"
غامت ملامحه بهدوء وهو يقول بابتسامة جامدة
"وإذا كنتِ واثقة من كلامك ! لماذا تبررين لي ما حدث ؟"
اخفضت نظراتها بهدوء وهي تهمس ببرود قاتم
"لأني اعلم جيدا بأنك لن تصدقني ولن تفعل حتى تسمع التبرير مني ، ولن اتحمل رؤية تلك النظرات الاتهامية والغير واثقة موجهة نحوي ، لن اتحمل ان اكون بنظرك خاطئة او مدانة بشيء وكأنني مجرمة بحق العدالة"
التوت شفتيه بشبح ابتسامة وهو يهمس بجفاء
"انتِ حقا مجرمة ، هذه حقيقتك"
حادت بنظراتها نحوه بضيق وهي تهمس بعبوس مغتاظ
"هل هذه سخرية ام طريقة من اجل الانتقام مني ؟ فأنا بالحالتين ما ازال متهمة بنظرك ، صحيح !"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يقول بسخرية
"وهل تتوقعين مني ان اصدقك بعد كل هذا ؟"
نظرت له بصدمة شعرت بها مثل ضربة موجعة على رأسها هزت كيانها للحظات ، لتقول بعدها بغضب مهتاج
"انت مرغم على تصديقي ، لأني زوجتك وتثق بي ، كما صرحت وقلت سابقا"
عبست زاوية من ابتسامته وهو يقول بجدية بدون اي مرح
"وهل بقي محل من الثقة بيننا بعد كل ما ابدعتِ به وادهشتني من مواقف رأيت منكِ العجب ؟!"
ارتفع حاجبيها بارتجاف شاحب وهي تكور قبضتيها فوق ركبتيها قائلة بنبرة عتاب لائمة
"لا تستطيع قول هذا الكلام ! لا تستطيع الحكم من النظر للمواقف فقط ! لا تستطيع ان تكون بكل هذه القسوة معي ! لا اسمح لك بأن تخسر الثقة فقط من موقف واحد لم يكن لي يد به ، ليس من العدل ان تتكلم من رأسك بدون سماع الحقيقة ، هذا منتهى الظلم بحقي !"
ردّ عليها من فوره ببرود قاسي
"كان عليكِ تذكر هذا الكلام عندما آلمتني قبل اسبوع وقلتِ كلام غير لائق عن شقيقتي ، لقد اظهرت نفسكِ بنظري سيئة واكثر من كونك مجرمة ، ومع ذلك لم تحاولي التبرير ولم تبالي وكأنكِ سعيدة بتلك الصورة التي صنعتها بنفسك ، وماذا فعلتِ بدلا من ذلك ؟ تحاولين الانتقام مني وتنفيذ ما برأسكِ بالاتفاق ضدي لترضي نفسكِ قبل كبريائك !"
ضربت على ركبتيها بقوة وهي تحني رأسها صارخة باستنكار حاد
"ليس هناك اي من هذا الكلام صحيح ! لماذا لا تفهمني ؟ لماذا لا تستطيع التفكير بموقفي ؟ لماذا عليك ان تكون هكذا ؟ ما لذي عليّ فعله لتشعر بي وتصدق كلامي ؟......"
قاطعها بصوت صارم ليعلو فوق صوتها
"توقفي عن الصراخ يا ماسة ، فهذا الصراخ لن يساعدك بحالتك ، فأنتِ ما تزالين المجرمة الكاذبة والتي لن استطيع تصديق اي من كلامها بعد الآن لأنها خسرتني ثقتها !"
ابتلعت ريقها بغصة جليدية وهي تحيد بنظراتها نحوه هامسة بتصلب جاد
"انت ملزم بتصديقي والثقة بي لأني زوجتك ، وهذا حق من حقوق زوجتك ومن واجباتك عليها ، وإذا لم تكن بقدر هذا المسؤولية الكبيرة لما تزوجتني من الاساس ؟ إذا لم تكن تستطيع احتواء ثقة وتصرفات زوجتك لما قبلت بالزواج بي ؟ إذا لم تكن تستطيع احتمال حقيقة زوجتك المجرمة والتي لا تليق بشخص نظيف مثلك لما ربطتني بك ؟"
احتدت ملامحه ببطء عابس وهو يشدد على المقود قائلا باستهجان غاضب
"هل بدأتِ تهذين مع نفسكِ يا ماسة ؟ هل تريدين ان تعرفي ماذا شعرت عندما رأيت غدركِ بي ؟ عندما عرفت هوية الجالس معكِ بنفس الطاولة ! وانتِ اكثر من يعرف عن تلك القصة ومجرياتها والتي افصحت لكِ بكل شيء تحويها ، ومع ذلك اراكِ تنفذين ما كنتِ تفكرين به ورفضته وتعلنين تمردك مع العدو وسبب دمار حياة شقيقتي ، بدلا من ان تفكري بأخطائك وتسحبين تلك الفكرة الغبية من رأسكِ ، ولكن ماذا كنت اتوقع منكِ غير هذا من مجرمتي الصغيرة والتي تملك اسوء الطباع والصفات والتي تدعو للفخر بها !"
تنفست بهدوء للحظات قبل ان تشيح بوجهها جانبا وهي تهمس ببهوت جاف
"هذه مشكلتك انت وشقيقتك ، انا لن اتدخل بعد الآن بمشاكل اي منكما ، هل هذا يريحك ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يزيد من سرعة السيارة تدريجيا قائلا بقنوط ساخر
"لا هذا ليس كل شيء ، فما يزال مطلوب منكِ ان تصرحي عن سبب وجودكِ بنفس الطاولة معه !"
ردت عليه ببساطة ساخرة
"لما اتعب نفسي بالكلام إذا كنت لن تصدقني بكل الاحوال ؟"
شدد بقبضتيه على المقود حتى ابيضت مفاصله وهو يقول بجمود قاتم
"اجيبِ على سؤالي بكلمة واحدة فقط !"
مرت لحظات فاصلة ببرودة الاجواء والصمت يزيد من البؤرة السواء بينهما ، ليصرخ بعدها بغضب مكتوم
"اجيبِ يا ماسة"
رفعت رأسها بارتعاش جمد الدماء بعروقها وليس بسبب سماع صوته الصارخ بل بسبب سرعة السيارة التي تكاد تطير بها وهي تنطلق بسرعة الضوء ، لتتمسك بيديها على جانبي الكرسي وهي تحاول الهمس بعبوس مرتجف
"خفف السرعة يا شادي"
لم يمتثل لطلبها وهو يزيد من عداد السرعة قائلا بنفس السؤال السابق بدون اي رحمة
"اجيبِ يا ماسة ، لماذا كنتِ معه بنفس الطاولة ؟"
اغمضت عينيها بارتجاف انسحب اللون عن بشرتها التي بدأت بالتعرق وهي تهمس بنشيج خافت
"لقد كانت مجرد صدفة ، هو الذي جلس على طاولتي ، هو الذي فتح باب الحديث معي ، هو الذي رفض ان يتركني وشأني"
لم تلين ملامحه ولو قليلا وهو يضغط على محرك السرعة وكأنه يتلاعب بعداد حياتهما وبأعصاب الجالسة بجانبه وهي على وشك الانهيار ، ليقول بعدها بنفس النبرة الصلبة تغيرت معها تعابير ملامحه
"اقسمي بذلك"
تشنجت بمكانها وهي تشعر بشح بالهواء مع ازدياد سرعة السيارة الخيالي لتهمس بأنين مهتز
"ارجوك خفف السرعة ، خفف السرعة"
صرخ بقوة اكبر فقد السيطرة عليه
"قلت لكِ اقسمي اولاً"
صرخت بنحيب وهي تتلوى بمكانها بوجع فاق الحدود
"اقسم لك"
ردّ عليها بصراخ اعلى
"كيف عرف من تكونين ؟"
ردت عليه بنفس صراخه بقهر مكبوت
"لا اعلم ، اقسم لك لا اعلم"
افاق على نفسه وهو يضغط بسرعة على الفرامل ويرجع بيده محرك السرعة على صوت صراخها الباكي الذي ملئ الاجواء
"خفف السرعة يا مجنون"
اخذ لحظات مجنونة بالتحكم بالسرعة التي خرجت عن السيطرة وبصعوبة كبيرة حتى استطاع بالنهاية إيقاف السيارة بشكل كامل ، بدون ان يستطيع منع ارتداد اجسادهما للأمام بعنف وهو يفرد ذراعه امامها بلمح البصر ليحمي اصطدام رأسها والتي ضربت ذراعه بقوة وارتخت مكانها وهي تدخل بحالة سبات .
تنفس بهدوء وهو يستغفر عدة مرات ويتعوذ من الشيطان ليعود بنظره نحوها وهي ساكنة بدون اي حركة ، ليقول بعدها بصعوبة شديدة وهو يتخلل بها القلق والتوجس
"عزيزتي هل انتِ بخير ؟ حبيبتي ماسة اجيبِ !"
تبع كلامه يده الاخرى والتي ربتت على شعرها الناعم وهو ينسدل من حولها بتشعت كارثي مترافق مع حالتها ، وقبل ان ينطق مجددا كانت ترفع رأسها بعيدا عن ذراعه المساندة ببطء مهيب ، وما ان ادركت وضعها حتى انتصبت جالسة وهي تعيد خصلاتها لخلف اذنيها لتدسهم بأصابع مرتجفة شاحبة ، وما ان ضاق به سكونها المرتاب حتى بادر بالكلام مجددا وهو يربت بيده على رأسها
"ماسة هل انتِ بخير ؟ هل اصبت بمكروه ؟ اجيبِ يا فتاة !....."
قطع كلامه بلحظة الكف التي ضربت يده بعيدا عن رأسها بجمود ، لتمسح بعدها على وجهها من قطرات العرق او قد تكون الدموع التي انسكبت بلحظات غادرة على تقاطيع ملامحها تجاوزت مقدرتها ، وبلحظات كانت تخرج من باب السيارة وهي تحتضن حقيبتها بين ذراعيها بدون ان يبادر بحركة اخرى ، لتغلق بعدها الباب من خلفها بقوة وهي تضع حزام الحقيبة فوق كتفها قبل ان تسير بطريقها بثبات معدوم يستطيع ملاحظة تشتت وضياع خطواتها الواضح مثل دمية استطاع اصابتها بكسر .
كان يراقبها بغيوم ضبابية اسرت مجرى نظره وملامحه ويده تمسد على ذراعه مكان ضربة رأسها والتي لم تؤلم بقدر ألم رؤية دموعها والتي كان السبب بها لأول مرة .
_______________________________
خرجت من الحمام المرفق وهي تجفف شعرها بالمنشفة القطنية قبل ان تلفها حول رأسها بإحكام ، لتفتح بعدها الخزانة وهي تختار ثوب قطني طويل من الصوف الناعم شبيه بالنعجة البيضاء ، تغضنت تقاسيم ملامحها وهي تتذكر شكلها السابق عندما تشبهت بالصوص المنفوش والآن تحولت لنعجة وديعة بلهاء ، وماذا بعد من اجل ان ترضي غرور ذلك الرجل الوسيم والذي يستطيع اخراج مئة عيب بها بثواني بدون ان تستطيع ان تجد عيب واحد به تكسر فيه كبريائه ؟ هل هذا هو حال الفتيات امثالها خلقوا بمئات العيوب بالمقارنة مع الرجال الخاليين من اي ندوب او عيوب او حتى كسور بالقلوب ؟ ام هل هي الوحيدة التي تعاني من تلك النقطة بسبب ولادتها بقلب مريض وشخصية ضعيفة مثيرة للشفقة انطوت واختفت مع الايام والشهور والسنوات ؟!
عبست ملامحها بسحابة غائمة وهي ترجع الثوب بسرعة بعد ان فقدت رغبتها بارتدائه فهي لا ينقصها التطرق لتقييم نفسي او معنوي يهدم ثقتها بنفسها ، لتستبدله بمنامة طفولية بلون الاصفر الفاقع قصيرة الاكمام وتصل حتى الركب وينطبع عليها وجوه لشخصيات كرتونية جميلة على كامل قماشها ، لتغلق بعدها باب الخزانة بقوة وهي تتنفس الصعداء مستعيدة روحها المنتعشة بعد الاستحمام الذي غسل روحها قبل جسدها .
وقفت امام المرآة بعد ان انتهت من ارتداء ملابسها وهي تنزع المنشفة عن شعرها المبتل ، لتسقط الخصلات القصيرة بنعومة وهي تسبل على وجنتيها الشاحبتين وامام عينيها الباهتتين وقطرات الماء تسيل على بشرتها بجريان الدماء بعروقها ، رفعت كفيها وهي تدس الخصلات المبتلة لخلف اذنيها لتتضح الرؤية امامها ويظهر وجهها الصغير بين اشواك شعرها .
غامت حدقتيها العسليتين وهي تتمعن بشكلها الحزين والذي ينم عن الضعف القابع خلف هذا الوجه بدون دليل يثبت ذلك ، وكأن مرضها يتشبث بحياتها ويغرس مخالب قاسية تسربت للخارج وعبثت بشكلها ليستطيع كل من يراها اكتشاف ما تعانيه بلمحة خاطفة بدون اي مجال للشك فقط بالنظر لتلك العينين المتحولتين والملامح الشاحبة بذبول حزين ، وهي تستذكر بعض من التعليقات القديمة ما تزال مختزلة برأسها بفترة مراهقتها بين احاديث اقارب العائلة
(ابنتكِ غزل ما تزال تضعف حتى اصبحت اقرب للهزال ، عليكِ بتغذيتها جيدا قبل ان تختفي بالكامل ولن نعود نستطيع رؤيتها ، فهي بالمقارنة مع ابنتك الكبرى يبدو وكأنها قد اخذت صحتها وغذائها حتى تركتها هيكل عظمي !)
(تلك الطفلة المسكينة ولدت بقلب ضعيف لا يستطيع العيش بدون ادوية ولا مسكنات ، هل انتِ متأكدة بأنكِ لم تتعرضي لضربات او تشوهات بفترة حملكِ بها ؟)
(لقد سمعت مرة بأن ولادة الطفل الثاني قد يؤثر على المقاييس الحيوية والبدنية لديه بسبب سرقة الطفل الاول صحته وقوته ، لذا قد تكون ابنتك الأولى هي التي تملك القلب السليم الخاص بأبنتك الثانية وسرقته منها قبل ولادتها ، ولا تستغربي الامر فكل شيء وارد مع تطورات العلم والطب !)
(عليكِ بالاعتناء بابنتك الصغرى جيدا وبصحتها فهي بهذه الحال لن يقبل احد بالارتباط بها ، وخاصة مع مرضها العصيب الذي لا يوجد له علاج وصحتها التي تبدو بتراجع دائم ، من الذي سيقبل بامرأة تملك كل هذه العيوب الواضحة ؟!)
حركت رأسها بقوة وهي تنفض كل هذه الاحاديث السوداوية والتي اثبطت عزيمتها على مدار سنوات ، فهذا هو حال البشر لا يملكون شيء يتكلمون عنه سوى عيوب الآخرين ومشاكلهم وكأن الشماتة والنميمة تجري بعروقهم وبكل نفس يمتصونه من غيرهم حتى يجردوهم من الانسانية ويملؤونها بالعطوب !
امسكت بمجفف الشعر الكهربائي وهي ترفعه لتوجهه على شعرها القصير قبل ان تشغله على اقل درجة ، وبلحظات قصيرة كانت تنتهي من تجفيف شعرها من كل قطرة ماء وهي تتخلل به بأصابعها بنعومته المعتادة ، لتضع بعدها مجفف الشعر مكانه وهي تلتقط مشبك شعر فضي قبل ان تجمع به خصلات غرتها بالكامل .
ارتمت مستلقية على السرير وهي تلتقط هاتفها من على المنضدة الجانبية ، وما ان فتحت هاتفها حتى ظهرت الرسالة اليومية والتي تصبح وتمسي عليها منذ اسبوع كامل وكأنها جهاز رادار مبرمج على إرسال هاتين الرسالتين بمواعيد محددة تدل على دقة مواعيده ، لتتألق بعدها نفس الابتسامة المتوردة على محياها وهي تلمس بأصبعها على الرسالة لتظهر واضحة وكأنها اصبحت عادة ممتعة واهم جزء بيومها
(مساء الخير يا اميرتي ، تصبحين على خير)
عضت على طرف شفتيها بحياء غزى ملامحها وهي تتحول بالآونة الاخيرة لطفلة عاطفية مستعدة لأخذ كل ما يقدم لها من حفنات سعادة بكلام لطيف او موقف عاطفي يضفي لمسة ساحرة على حياتها ، لتحرك بعدها اصابعها برقة امام الشاشة بتفكير اخذ منها ثواني قبل ان تكتب رسالتها الروتينية بكل ما تحمله من سعادة حُقن بها قلبها
(مساء الورد يا اميري ، كيف حالك اليوم ؟)
عضت على طرف اصبعها ما ان اكتشفت بأنها قد زادت كلمات على ردها المعتاد بدون ان تشعر ، لتصل بعدها رسالته بثواني وكأنه كان ينتظر ردها بفارغ الصبر
(بخير يا اميرتي مثل كل يوم ، ولكن بعد رؤية رسالتك اصبحت افضل بكثير)
تنفست بابتسامة ناعمة بشرود قبل ان يشد نظرها الرسالة التالية
(كيف حالكِ يا غزل ؟)
عضت على طرف ابتسامتها وهي تجيب بعد تردد لحظات
(بخير ، شكرا لك)
اتسعت حدقتيها العسليتين بترقب وهي تنتظر رسالته بشغف وحماس لم تشعر بهما منذ زمن ، لتأتي بعدها بلحظتين الرسالة التي كانت تنتظرها وهي تزرع الامل بداخلها من جديد
(لقد افرحتني يا اميرتي ، اتمنى ان تكوني دائما بخير لتنيري عالمي بوجودكِ عما قريب بمنزل اميرك)
اتسعت ابتسامتها بسعادة ملئت وجهها باحمرار متورد وهي تفكر بأنها هي التي عليها قول هذا الكلام بعد ان افرحها برسائله واهتمامه المحمل بالمشاعر النقية ، لتكتب بعدها بدلا عن ذلك رسالة صريحة بحالمية
(شكرا لك على اهتمامك يا صاحب الوسامة والجاذبية ، انا مسرورة جدا بوجودك بحياتي ، فأنت قد اصبحت نقطة التحول الوحيدة والنعمة التي حصلت عليها وسلطت بحياتي)
حركت رأسها بالنفي وهي تمسح الرسالة كاملة قبل ارسالها لتكتب اخرى برسمية
(شكرا لك على اهتمامك يا هشام ، وليس هناك من داعي لتتعب نفسك كل يوم بكتابة رسالة بالصباح والمساء)
انتظرت دقائق قبل ان يصل الرد امامها
(لا تهتمي بهذا يا غزل ، فهي قد اصبحت من الاساسيات التي تشعرني اكثر بحقيقة وجودك ، وليس هناك مانع من الاستمرار بها حتى يحين الوقت المناسب التي اقولها لكِ بنفسي مباشرة بدون اي حواجز او مسافات تفصل بيننا ! فقط عندما يأتي الوقت يا عزيزتي)
زمت شفتيها بارتجاف عبث بأوردة قلبها وهي تميل بحدقتيها بعيدا بفرط مشاعرها الحالية ، لتكتب من فورها رسالة اخيرة باختصار تنهي كل هذه الثورة التي غزت عواطفها
(تصبح على خير يا هشام ، احلاماً سعيدة)
لحظات معدودة قبل ان يصلها الرد مثل عابر سلام
(وانتِ بألف خير يا اميرتي ، احرصي على تغطية نفسكِ جيدا قبل النوم لكي لا تصابي بالبرد ، فلن اتحمل ان يصاب جسدك او قلبك ببرد قاسي ، وإياكِ وان تكثري من السهر ، طابت ليلتك)
ابتسمت برقة وهي تتمعن بالنظر بكلمات الرسالة عدة مرات اصبحت مهووسة بها وهي تطبع بقلبها قبل عقلها ، لتزفر بعدها انفاسها بهدوء وهي تغلق الهاتف لتعيد وضعه فوق المنضدة بجانبها .
امسكت بعدها بجهاز التحكم الخاص بالتدفئة المركزية وهي تزيد من درجتها ، قبل ان تلقي بالجهاز جانبا وهي ترمي الغطاء على كامل جسدها ، لتستلقي بعدها على ظهرها ونظراتها تهيم بالعالم المملوء بالمشاعر الدافئة وخيوطه تتسلل بلطف لقلبها لتغلق تلك الفجوة والتي بقيت مفتوحة لسنوات منذ ولادتها بذلك المرض وجاء الوقت ليتم ترميمها .
______________________________
كانت تجهز الاطباق وهي تسكب الطعام فوقها بحركات سريعة مبرمجة على العمل بإتقان ، بدون ان تأبه بالواقف معها بالمطبخ وهو يراقبها بنظرات جامدة ويقضم تفاحة بيده ، ليقول بعدها بنفس النبرة الرافضة بازدراء واضح
"اجل ، هيا اعملي واطبخي من اجل استقبال زعيمك المبجل وكأننا خدم وعبيد عنده ، فقط بإشارة واحدة منه اصبحنا خواتم بأصابعه يدورنا بها كما يشاء"
تجاهلت كلامه مجددا مثل كل كلامه السابق وهو يثرثر بتلك النبرة منذ معرفته بقدوم رئيسها بالعمل لحضور العشاء بمنزلهم ، لتتنفس بعدها بضيق ما ان تابع كلامه المغتاظ وهو يقول بكل نفور العالم المحمل بالكراهية
"حسنا اعلم بأنكِ تعملين لديه وتخدمينه بشركته الوضيعة ، ولكن ما لداعي لخدمته ايضا بالمنزل وتحضير سفرة على شرفه ! لا وتريدين منا استقباله على المائدة بكل رحابة صدر وكأننا نستقبل شخصية مهمة بمنزلنا ! ألا ترين بأنكِ قد اصبحت تقحمينه بحياتنا الشخصية والخاصة اكثر من اللازم ؟"
ضربت قاعدة الطبق بالرخام تقاطع تشتيت افكارها وهي تقول بوجوم قاتم وكأنها لم تسمع اي كلمة مما قاله
"إذا استمريت بهذه الثرثرة طويلا وازعاجي بالعمل فاخرج من هنا ، وبدلا من كل هذا الكلام الفارغ الذي اوجعت رأسي به اذهب وساعدني قليلا بتحضير السفرة ، فقد تعبت من عمل كل شيء وانت لا تساعد برفع طبق !"
قضم من التفاحة بيده بقسوة وهو يقول ببرود ساخر
"وتتوقعين مني ان اساعد بكل هذه المهزلة ! انا اساسا لست موافقا على خطة استقباله بيننا وبمنزلنا بتاتا ، أليس لدي حق بالاعتراض ؟ ام انني لست فرد ناشط بهذا المنزل والذي تديرين كل شؤونه حتى اصبحنا نحن وارجل الطاولة سواء ؟!"
تنهدت بإرهاق وهي تلتفت بنصف وجهها للخلف قائلة بعبوس صارم
"هل عليّ ان اعيد كلامي مئات المرات حتى تفهم الامر ويدخل بعقلك الذي لا يريد ان يستوعب ؟ اخبرتك بأن الظروف قد اجبرتني على قبول دعوته لمنزلنا بمثابة رد المعروف ، فهو قد قدم من اجلي الكثير منذ لحظة توظيفي بشركته من خدمات ومساعدات لي ولعائلتي ، ولا استطيع الآن رفض تقديم هذه الخدمة له والتي طلبها مني بكل ادب بعد ان وعدته بتنفيذ طلباته مهما كانت صعبة ومستحيلة ، وليس لدينا حل سوى التحمل هذه الليلة فقط علها تمر بسلام بدون ان نشعر بها وننتهي من كل هذا"
عقد حاجبيه بتجهم وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا بجفاء
"ولماذا عليكِ ان تكوني مدينة له حتى ترغمي على قبول طلباته ؟ وكيف يطلب مثل هذا الامر من موظفة تعمل بشركته بدون اي حياء او خجل ! هل يظننا من العائلات الفقيرة التي لا تملك سمعة او قيمة بين الناس لتقبل بمثل هذه التجاوزات بمجتمع تجرد من المبادئ والاخلاق ؟ وانتِ ايضا ملامة يا سيدرا بقبول هذه التجاوزات بحياتك متناسية عائلتك والتي عليها ان تكون همك الأول والوحيد وبكل شيء سيحول بها بسبب تصرفاتك ! وكما اخبرتك سابقا إذا لم تضعي حدا لكل هذا فلن نستطيع تفادي النتائج التي ستحدث مستقبلا......."
قاطعته فجأة باندفاع وهي تلوح بأصبعها امامه بعنف
"يكفي يا معتز ، لا اريد سماع كلمة اخرى عن هذا الموضوع ، لقد اغلق باب الحديث عنه ، ولا تنسى بأني المسؤولة الاولى عن هذا المنزل والكبيرة هنا وكل الاوامر ستمشي كما اقول واقرر ، وإذا كان لديك اي كلمة تود قولها عن هذا الموضوع فاكتمها رجاءً ، فأنا ادرى بمصلحة الجميع ومصلحة نفسي ولن يضام احد او يهان بسبب تصرفاتي او اي شيء اقرره من اجلكم ، هل سمعت هذا يا معتز ؟"
ساد الصمت بينهما للحظات قصيرة مثقلة بالكثير من المشاعر والهموم الغير محسوسة ، لتستدير بعدها بصمت وهي تعود لعملها بتجهيز الطعام وتوزيع المكونات على الاطباق بحركة آلية ، لتتجمد يديها لوهلة ما ان قال الساكن من خلفها بجدية هادئة
"حسنا يا سيدرا كما تشائين ، ولكن تذكري بأن كل شيء له مقابل ومهما كان الطرف الآخر سخي بالعطاء فسيكون هناك وقت للأخذ ودفع الثمن بقيمة ما تقدم لكِ ، وهذه طبيعة البشر بالعالم وطبيعة غالبية الرجال ، لذا حاولي ان تخففي من رصيدك وديونك عند هذا الرجل لكي لا يمتلئ بالكامل ، فليس كل البشر تملك نفس تفكيرك المنطقي وطريقة تربيتك ونشأتك !"
غامت ملامحها بسحابة مظلمة بدون اي تعبير وهي مستمرة بالعمل على الاطباق بسكون تام ، تجمدت الاجواء بالمكان ما ان صدح صوت جرس المنزل وهو يتردد بزوايا الشقة الصغيرة ، لتفيق بعدها على صوت شقيقها الصغير وهو يقول بنفور ساخر
"ها قد جاء مديرنا المبجل"
التفتت بسرعة ما ان سمعت صوت خطواته تغادر لتقول من فورها بحزم
"اسمع يا معتز ، إياك وان تخطئ بحق الرجل بأي طريقة كانت ، فهذا الرجل يكون مدير شقيقتك بالعمل واكبر منك سنا ومن المطلوب منك ان تظهر له كل الاحترام وحسن الضيافة ، وإذا لم تفعل ذلك من اجلي افعله من اجل والدتي ، رجاءً يا معتز لا تخذلني"
حرك رأسه بعيدا عنها بملل وهو يلقي بلحظة قشرة التفاحة بسلة النفايات التي اصابتها بنجاح ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية ببهوت
"هذا هو مصير من يقدم الكثير بدون حدود"
حولت عينيها باتجاه سلة النفايات التي ألقى بها قشرة التفاحة بدون اي حياة ، لتزفر بعدها انفاسها باستغفار خافت وهي تعدل من وضع الوشاح الذي نزل عن رأسها ، لتهمس بلحظة بخفوت شديد بصبر
"فقط هذه الليلة ، تحملي هذه الليلة ، فقط بضع ساعات وينتهي"
خرجت من المطبخ وهي تحمل اطباق الطعام باتجاه غرفة المائدة ، وما ان دخلت حتى اتجه زوجين من العيون نحوها وهي ترسم على محياها ابتسامة رسمية لتتابع خطواتها امامهم بثبات ، قال بعدها صاحب الابتسامة الواسعة بترحاب سار
"مساء الخير يا سيدرا ، اتمنى ألا اكون ثقل عليكم بهذه الزيارة ، وسعيد جدا بمشاركتكم هذه الامسية واستضافتي عندكم ، هذا كرم بالغ منكم"
ردت عليه التي كانت توزع الاطباق على السفرة وهي تهمس بابتسامة فاترة لم تصل لعينيها
"مساء الورد يا سيد عمير ، ليس هناك اي تعب ويشرفنا استقبالك بوسط منزلنا المتواضع ، اتمنى ان تعجبك ضيافتنا ونكون عند حسن مقامك"
ابتسم بالتواء طفيف وهو يقول بامتنان شديد
"الشرف لي انا يا سيدرا ، وكل شيء تقدمونه لي سيسعدني بالطبع يكفي بأنكم بذلتم كل هذا المجهود من اجل استقبالي ، فأنا اسعد بوجودي بينكم مع عائلة قديرة ومحترمة مثلكم تتحلى بكل هذا الكرم ، شكرا لكم على منحي شرف الاستضافة عندكم"
تشنجت ابتسامتها وهي مستمرة بترتيب موائد الطاولة بدون ان تجاري كلامه اكثر ، ليتدخل الفرد الصامت وهو يتمتم بجمود بارد
"انا لم ابذل اي مجهود لأحصل على الثناء منك"
اتسعت حدقتيها بتوجس وهي تنظر له بسرعة قائلة بابتسامة ممتعضة
"لم يستطع معتز مساعدتي بسبب انشغاله بالدراسة للاختبار القادم ، وهو بطبيعته صريح جدا ولا يحب ان يحصل على الثناء بعمل لم يفعله"
نظر له (عمير) بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية ببساطة
"تعجبني صراحتك كثيرا ، اعتقد بأنك ستكون شاب يافع بالمستقبل ويعتمد عليه بإدارة شؤون العائلة ، املنا بك كبير جدا يا بطل"
حاد (معتز) بنظراته نحوه بجمود وهو يتمتم ببرود جليدي
"انا كذلك بالفعل بالحاضر والمستقبل ، ولن يتغير شيء بذلك"
شحبت ملامحها بارتجاف وهي تحاول ان تهمس بخفوت واجم
"معتز....."
قاطعها الذي نهض فجأة عن المائدة وهو يقول بهدوء قاتم
"بما انكِ انتهيت من تحضير المائدة ، سأذهب لأحضر والدتي لتجلس معنا على المائدة فقد تأخر موعد دوائها المحدد بسبب تأخر موعد العشاء ، دقائق واعود"
تنفست بيأس وهي تحول نظراتها للجالس امامها قبل ان تقول بابتسامة محرجة
"اعتذر عن تصرفات شقيقي ، فهو يكون صارما ببعض الاحيان ، فأنت تعلم جيدا وضع والدتي الحساس"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بتفهم
"اتفهم وضعكم تماما ، واعتذر إذا كنت قد سببت لكم اي نوع من الازعاج بشكل او بآخر ، يبدو بأنني قد اثقلت عليكم اكثر من مقدرتكم....."
قاطعته بهدوء وهي تبتسم بعملية
"لا تقل هذا الكلام يا سيد عمير ، وشرف كبير لنا استقبال شخص مثلك بمنزلنا ، لذا خذ كامل حريتك واعتبر نفسك بمنزلك وبين عائلتك"
اتسعت ابتسامته بهدوء وهو يقول ببساطة
"سأفعل ذلك بالطبع"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تنحرف بنظراتها باتجاه الذي عاد وهو يجر الكرسي المتحرك الخاص بوالدته ، ليعدل بعدها مسار الكرسي عند رأس المائدة وهو ينظر لهما بهدوء جاف ، ليبادر بلحظة الذي نهض عن الكرسي وهو يضم يده امام صدره قائلا باحترام شديد
"مساء الخير يا سيدتي الفاضلة والدة المرأة الرائعة ، وشكرا لكِ على انجاب مثل هذه الثمرة السحرية ، اتمنى ان تكوني بصحة جيدة وبكامل عافيتك"
نظرت له المرأة الكبيرة للحظات قبل ان تومأ برأسها وهي تقول بإجهاد شديد
"اهلا وسهلا بك ، وشكرا لك على اعتنائك بابنتي"
اخفض كفه وهو يقول بابتسامة جانبية ونظراته تنحرف باتجاه الابنة المقصودة
"لا تقلقي يا سيدتي ، ابنتكِ بين عينيّ وداخل قلبي ولن يصيبها مكروه وهي تحت رعايتي ، لذا اطمئني وارتاحي"
ارتبكت ملامح (سيدرا) وهي توجه له نظرات حائرة بجمود لتقابل نظرات هادئة غير واضحة المعاني او النوايا ، ليخرجها من تشتت الافكار صوت شقيقها وهو يتخذ الكرسي بجانب والدته
"هيا يا سيدرا اجلسي ، ألا تريدين البدء بتناول الطعام اليوم ؟ فنحن نتضور جوعا من الانتظار الطويل ، ولن ننتظر لليوم التالي حتى تقرري متى نبدأ بالطعام ! وخاصة امام ضيفنا المحترم والذي جاء فقط من اجل تناول العشاء وليس من اجل ان يثرثر مع موظفته ويثني عليها بكل دقيقة !"
نظرت له بغضب وهي تهمس بضيق خافت
"حسنا يا معتز ، اهم شيء ألا تموت من الجوع"
نقلت نظراتها للضيف وهي ترسم ابتسامة لطيفة على محياها لتفرد بعدها ذراعيها على جانبيها قائلة بترحيب
"هيا تفضل بتناول العشاء يا سيد عمير ، فهذا كله على شرفك انت ، واتمنى ان تكون هذه السفرة على قدر قيمتك وتوقعاتك ، بالهناء والشفاء"
مالت ابتسامته ببرود وهو يمسك بالملعقة امامه قائلا برضا
"شكرا لكِ على كرم ضيافتك يا سيدتي الطاهية ، متحمس لرؤية ابداعك بالطبخ كما تبدعين بكل شيء بحياتك"
ابتسمت بصعوبة وهي تجلس على الكرسي بهدوء بدون ان تغفل عن نظرات شقيقها والتي كانت توجه اتهامات مبطنة خلف شعلة متقدة وعتاب غالب ، لتشرد بعدها بقبضتيها المضمومتين تحت الطاولة وكل ما تسعى له هو الانتهاء من هذه الليلة على خير والانعزال بغرفتها بعيدا عن كل هذه الاعباء والمسؤوليات والتي ازهقت روحها على مدار ساعات اليوم .
____________________________
خرجت من باب البناية خلف الذي كان يسير امامها ، لتقف بعدها على بعد خطوات منه وهي تلوح بيدها بحركة غير ظاهرة هامسة بابتسامة عملية
"حسنا وداعا يا سيد عمير ، طابت ليلتك"
اومأ برأسه بابتسامة هادئة وهو يمد كفه امامها قائلا بمودة
"شكرا لكِ على هذه الامسية الرائعة ، لقد اعادتني لأجواء عائلية افتقدتها كثيرا بحياتي ، انا اغبط عائلتك حقا على وجودك بينهم والذي لا يستطيعون الاستغناء عنه فأنتِ هي مركز هذه الدائرة وقوتها"
اعتلت ملامحها ابتسامة باردة وهي تشيح بوجهها جانبا قائلة بصوت فاتر
"هذا واجبي يا سيد عمير ، فكل ما فعلته كان من اجل رد معروفك لا اكثر ، وسعيدة حقا لأنها قد حظيت على رضاك الكامل"
اخفض كفه بعيدا وهو يقول بملامح حجرية تقمصها بلحظة
"اعتقد بأن شقيقك لم يكن راضي عني ويحمل بقلبه الكثير نحوي ، هل ضايقته زيارتي لهذه الدرجة ؟ ام اني اخطئت بحقه بطريقة ما بدون ان اقصد ؟"
نظرت له بسرعة وهي تهمس بخفوت مضطرب
"لا غير صحيح يا سيد عمير ، ولكنه يأخذ على عاتقه دور رجل المنزل والاهتمام بعائلته بالمقام الأول ، ويرى بأن زيارة رجل غريب للمنزل قد تضر بسمعتنا او مبادئنا التي تربينا عليها ، وايضا هو لا يعرف كيف يكبح مشاعره الداخلية ودائما ما يظهرها بدون ان يأبه بالآخرين ! لذا اعتذر نيابة عنه إذا كان قد سبب لك الإزعاج او الضيق ، فهو يبقى مراهق جانح ولا يعرف كيف يضبط مشاعره"
ارتفعت ابتسامته بهدوء وهو يقول ببساطة
"لا بأس بذلك يا سيدرا ، فهو ليس ملام بشيء واقدر المرحلة التي يمر بها بهذا العمر الحساس والذي اجبر على تحمل مسؤولية اكبر من كاهله ، ولكني متأكد بأنه عندما يكبر قليلا سيحقق طموحاته وامنياته ويكون نعم الرجل والسند ، فهو بالنهاية شقيق المرأة المثالية ولا اتوقع غير هذا منه"
زمت شفتيها بتشنج وهي تشتت نظراتها بعيدا عنه لتقول بعدها بابتسامة رسمية
"حسنا يا سيد عمير ، لقد حان الوقت الآن لأعود للمنزل قبل ان تقلق عليّ عائلتي ، وشكرا لك على تفهمك ، ليلة سعيدة"
اوقفها بسرعة ما ان همت بالرحيل وهو يقول بنبرة متصلبة
"انتظري يا سيدرا ، هلا انصتِ لي للحظة قبل ان تغادري ؟"
التفتت نحوه بهدوء شديد وهي تنظر من حولها بارتباك قبل ان تهمس بخفوت جاد
"لا اعتقد بأن الوقت مناسب للحديث الآن وبهذا الشكل والذي سيجلب لنا الشبهة ، لذا من الافضل ان نؤجل اي حديث مهم للغد وانا سأتوجه لك بصباح العمل فور وصولي للشركة"
اومأ برأسه باتزان وهو يقول بابتسامة جانبية
"إذاً اراكِ غدا يا سيدرا ، ولا تنسي سأكون بانتظارك بمكتبي للتكلم معا"
اومأت برأسها بقوة وهي تقول بابتسامة واثقة
"اجل غدا بإذن الله ، طابت ليلتك"
تراجع بخطواته بدون ان يتوقف عن النظر لها وهو يقول بتأكيد
"سأراكِ غدا ، إياكِ وان تنسي"
ردت عليه بنفس التأكيد بخفوت مشتد
"اجل غدا"
استدار بنصف جسده وهو يقول بابتسامة هادئة
"تصبحين على خير يا سيدرا ، طابت ليلتك"
لوحت بكفها بهدوء بدون ان تضيف كلام آخر وهي تراه يغادر باتجاه سيارته ، وما ان استدارت بعيدا حتى تسمرت بمكانها لوهلة وهي تقابل الواقف بالقرب من بوابة البناية ينظر لها بتلك العيون الصقرية التي لا تحمل الرأفة بين طياتها ، لتتنفس بعدها بإجهاد وهي تجر الخطى بعيدا عنه بدون ان تأبه لوجوده والذي يقبع بزاوية مظلمة من قلبها وليس بواقعها .
ما ان كانت على وشك الدخول حتى قاطع افكارها صوته البارد وهو يقول بنبرة قاسية
"مساء الخير ، يبدو بأنكِ قد انشغلتِ هذه الليلة باستقبال ضيوف مهمين بمنزلك ، كيف كانت الامسية العائلية مع فرد جديد بها ؟"
عضت على طرف شفتيها بضيق وهي تهمس بوجوم خافت
"لا تدفعني للدخول معك بجدال يا اوس ، فأنا لست متفرغة لك الآن ، لذا ارحل من هنا ولا تزعجني اكثر"
امسك بذراعها يوقف حركتها وهو ينتصب امامها بثواني لتهمس من فورها باستنكار
"ما لذي تفعله يا اوس ؟ اتركني قبل ان......"
قاطعها وهو يمسك بكلتا ذراعيها قائلا بدون مقدمات
"ما هي مناسبة هذه الزيارة يا سيدرا ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس من بين اسنانها بجموح
"هذا ليس من شأنك يا اوس ، وابتعد عن طريقي قبل ان تفضحنا امام البناية بأكملها ، وصدقني إذا لم تتوقف عن هذه الحركات فأعدك ان لا اتردد عن تقديم شكوى عنك بالسجن والذي يليق بحقيقتك !"
تصلبت يديه على ذراعيها وهو يخفف من الضغط عليهما بلحظات ، ليقول بعدها بأنفاس نارية بانفعال مكبوت
"اخبريني فقط بأنها زيارة عمل ! اخبريني انها ليس كما افكر واظن ! اخبريني يا سيدرا وأريحيني من عناء التفكير ، لا تحاولي الانتقام مني بهذه الطريقة فأنا امسك نفسي عن قتله بشق الانفس ، لا تشعلي تلك النيران بداخلي فلن يحترق بها احد سوانا ، ارجوكِ لا تفعلي هذا بنا ، لا تدمرينا بهذه الطريقة......."
قطعت سيل الكلام بصرخة وهي تنفض ذراعيها بعيدا عنه بعنف
"كفى يا اوس ، كفى ، لما لا تفهم ما اقول ؟ لما لا تستطيع ان تدرك مدى الألم الذي تسببه لي بكل مرة اتقابل فيها معك ؟ لما لا تفهم بأنك قد انتقمت مني اشد انتقام بأفعالك معي ؟ لما لا ترى النيران التي اشعلتها بخلدي وما تزال تثور بكل مرة تراك فيها ؟ انا قد تدمرت بالفعل وليس بسبب تصرفاتك بل بسبب القلب الاحمق الذي وثق بك واحبك ! وبعد كل هذا تقول لي بكل جرأة عن الذي فعلته بك ! عليك ان ترى نفسك ماذا فعلت بي قبل ان تحاسبني على افعالي ! قد تفهم عندها الفوارق الشاسعة التي تفصل بيننا"
ضيق عينيه بجمود حجري حتى بانت الندبة بين حاجبيه بوضوح وهو ينظر لها تحاول تجاوزه بعيدا ، ليقول بعدها من خلفها بصوت مستجدي
"سيدرا......"
قاطعه الصوت الباهت بدون اي حياة
"لقد كانت مجرد خدمة مقابل معروفه معي"
لانت ملامحه قليلا وهو يقول بجمود قاتم
"لا تحاولي فعلها يا سيدرا ، لا تحاولي خيانتي بهذه الطريقة ، لا تحاولي قتل هذا الحب الذي نمى بداخل حقل ملغم بزرعك ، لا تخذلي قلبا بسبيل الانتقام من جروحك ، لا تفتحي جروحا كنتِ السبب بضمادها وتطهيرها ، كوني فقط كما انتِ ولا تغيري نفسكِ من اجل ارضاء احد ، ولا حتى من اجل الرجل الذي خذلك وكسر قلبك !"
انتصبت بمكانها لدقائق معدودة وهي تشدد على يديها بقهر قبل ان تهمس بخفوت اجوف
"لن افعل لأني لا اشبهك"
انحفرت ابتسامة هائمة وهي تطوف على تقاطيع ملامحه القاسية والندبة بين حاجبيه تنفتح وتشد مع بشرته ، ليهمس بعدها بخفوت خشن
"شكرا لكِ يا سيدرا......"
توقف عن الكلام ما ان سمع صوت الخطوات التي جرت بسرعة لداخل البناية بلمح البصر ، ليتنهد بعدها براحة وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله وظهره مستند على الجدار من خلفه وحالة من السكينة تجتاح كيانه لم يشعر بها منذ مدة طويلة قشعت الغمامة عن روحه وجاء موعد الغيث اخيرا .
_______________________________
دخل للمنزل وهو يسير بخطوات واسعة يكاد يجري بالرواق الشبه فارغ ، وما ان قطع السلالم بثواني وهو يصعد كل درجتين معا حتى كان يقف بمنتصف الطريق على الصوت المنادي من بعيد
"شادي انتظر"
استدار للخلف بحيرة وهو ينظر للتي وصلت له بلحظات لتهمس بعدها بابتسامة متزنة
"مساء الخير يا شادي ، الحمد لله بأني استطعت رؤيتك وامساكك قبل وصولك لجناحك !"
ارتبكت ملامحه وهو يقف امامها قائلا بابتسامة مرتابة
"خير يا زوجة شقيقي ! هل هناك مشكلة ؟"
انحرفت ابتسامتها بوجوم وهي تقول بخفوت جاد
"هل كنت برفقة ماسة اليوم ؟"
تشنجت ملامحه بخطوط دقيقة جاشت بدواخله وهو يقول بتصلب
"لماذا هذا السؤال يا روميساء ؟ هل حدث هناك خطب ؟"
تنهدت بحزن غيم على ملامحها وهي تقول بأسى خافت
"لا اعرف ماذا حدث معها ؟ ولكنها منذ عودتها من الخارج وهي تحبس نفسها بداخل غرفتها ! ولم تسمح لي بالدخول لها او الحديث معها ! حتى انها قد امتنعت عن تناول طعام الغداء والعشاء ! وانا قلقة جدا من تدهور حالتها ! فهي لا تصل لهذه الحالة ألا عندما تدخل ببؤرة الحزن والعزلة التي لا يستطيع احد اقتحامها او فهمها ، وهذه عادتها منذ الطفولة والتي لم تغيرها للآن"
عقد حاجبيه بغمامة شاردة وهو يهمهم بدون صوت واضح
"هكذا إذاً !"
ارتفع حاجبيها بتوجس وهي تهمس بعبوس
"ماذا تعني ؟"
نظر لها بهدوء بدون اي تعبير وهو يقول بابتسامة جادة
"وما لذي كان يؤدي لدخولها لتلك البؤرة ؟ ماذا كانت تواجه بحياتها قبل ان تصل لتلك الحالة !"
ادارت مقلتيها الخضراوين بتفكير وهي تهمس بخفوت حزين
"لست متأكدة تماما ، ولكن ما اتذكره بأنها لم تكن تصل لتلك الحالة ألا عندما تتعرض لإهانة موجعة لم تستطع احتواءها او التصدي لها ، وهذا ما كان يفعله زوج والدتنا سابقا بسبب التشاحن الكبير بينهما ، فهي تسمح بكل شيء ألا خدش شرفها وكبريائها والذين يكونان عندها من الخطوط الحمراء ، ولا اعلم ما هو الموقف الذي تعرضت له مؤخرا حتى يدخلها بهذه البؤرة ؟"
اومأ برأسه بجمود لوهلة قبل ان يحاول تجاوزها بسرعة قائلا ببرود
"حسنا يا روميساء ، سأحاول التكلم معها وفهم مشكلتها ، لذا لا تقلقي من شيء وارتاحي ، فأنا موجود وكل شيء سيكون بخير"
استدارت مع مسار خطواته وهي تقول بسرعة بعبوس جاد
"ولكنك لم تجبني إذا كنت برفقتها او رأيتها اليوم !"
تجاهل كلامها وهو يلوح بذراعه قائلا بإيجاز
"طابت ليلتك يا زوجة شقيقي"
وصل بلحظات امام الجناح الخاص بهما وهو يلوج للداخل بخطوات بدأت بالتسارع تدريجيا بشعور الخطر الذي توسع بدواخله وغاص بقلبه ، وما ان وقف امام باب الغرفة وهو يأخذ عدة انفاس حتى امسك بمقبض الباب بحذر ، ليكتشف بلحظة بأنه موصد بالمفتاح كعادتها عندما تيبس رأسها وتغلق الابواب من حولها ، ليضرب بقبضته الاخرى على سطح الباب وهو يشتم بغضب استبد به وسيطر على ذرات عقله والتي تجيد التلاعب بها بمهارة .
بلحظات كان يحضر المفتاح الاضافي للغرفة وهو يدخله بشق المقبض ، ليسمع بعدها صوت انفتاح الباب وهو يدفعه بحذر شديد ، وما ان فعل ذلك حتى قابله الظلام الحالك المغيم بالغرفة بدون اي بصيص نور يصل لها .
تلبدت ملامحه بجمود وهو يقتحم المكان بخطواته التي شقت طريقها لسريرها التي يقبع به النائمة بسلام ، ليقف بعدها عند جهتها وهو يحاول تبين هيئتها الظاهرة من ظلام المكان ، ليعزم بعدها امره وهو يقول بصوت صلب نافذ
"ماسة ! هل يمكنكِ سماعي ؟"
تغضن جبينه بجمود عندما لم يسمع اي صوت منها ماعدا اصوات الضربات التي تحتل صدره مثل صواريخ الحروب...ليميل بعدها على جذعه وهو يقترب من مسار وجهها ليستشعر انفاسها الدافئة وهي تلفح وجهه بوهج ملتهب....لتلين ملامحه بلحظة خاطفة وهو يقضم على طرف شفتيه بعد ان شعر بتلك الاثارة النارية التي لا تشعلها سواها بجذوة روحه التي لم تخمد على مدار الايام الماضية...وبلحظة هوس كان يمرر انفه على نعومة بشرتها الجليدية التي تلسع بنيران استعرت بداخله بطوفان جذبه لعالمها الخاص والذي اصبح يعايشه مؤخرا وانسلب منه....رائحتها الخاصة وبشرتها الثلجية ونفسها الساخن واذنيها المتوهجتين وشفتيها الصريحتين بكذبهما وجفنيها القاسيين يحجبان المد والجزر تحتهما....وكل شيء سلب كيانه وزاد ضخ الدماء بأوردة قلبه المنتفخ بموجة عاطفتها التي اصبحت مثل الفيضانات بأراضي قاحلة جف عنها الماء لسنوات .
استجمع افكاره وفتات كيانه وهو يقوي قلبه بقطعة جليد قاسية ، ليعود بعدها ليستقيم بالوقوف وهو يسلط نظرات جامدة على جسدها المرتخي بنعومة فوق غمامة سريرها ، ليستغفر بعدها عدة مرات وهو ينظر بعيدا عنها قبل ان يهمس بخفوت مشتد
"لا بأس يا ماسة ، نامي بهناء ، فهذا ما اتمناه ايضا النوم بسلام"
اخذ دقيقتين قبل ان يدور حول السرير الواسع بخطوات هادئة ليصل بعدها عند الجهة الاخرى من السرير ، وبلحظة كان يريح جسده على ملاءته وهو يستقر على الجانب الآخر وذراعيه فوق رأسه برخاء تام .
مرت لحظات بصمت كاتم استنزفت من روحه الكثير قبل ان يقطعها بصوت خافت بدون ان يعلو اكثر من اللازم
"هل انتِ نائمة يا ماسة ؟ إذا لم تكوني نائمة كلميني ! طمئنيني بكلمة تؤكد وجودكِ معي ، انعشي هذا القلب الذي قتلته مئات المرات ، واريحي هذه الروح التي فقدت طعم الراحة ، واجلبي النوم الذي فارقني لأيام ، فقط تكلمي !"
التفت على جانبه بصمت وهو يراقب سكونها والذي لا ينذر بشيء سوى بهدوئها العاصف والذي يجلب الألم حتى بصمتها ، ليتنفس بعدها بتهدج وهو يمد يده ليمسك بكتفها المنحني بلحظة قبل ان يتبعها بالهمس بخفوت مرير
"لا تفعلي هذا بنفسكِ يا ماسة ! اعلم بأني قد اكون تسرعت بالتصرف والحكم عليكِ ، ولكنه ليس سبب من اجلي ان تمتنعي عن الطعام وتعتكفي بغرفتك ! انتِ هكذا لا تؤذين احد سوى نفسكِ وصحتك ، إذا كنتِ غاضبة مني او ناقمة عليّ فيمكنكِ افراغها بي وليس بالانعزال عن العالم وجعل الجميع يقلق عليكِ ، هذا إذا كنتِ تهتمين بنفسكِ ولو بمثقال ذرة والتي لها ايضا حق بالحياة ؟"
تصلبت ملامحه وهو ينزل بكفه عن كتفها ليمسك بذراعها وهو يجزم بشعوره برجفة سرت على طول جسدها ، ليهمس بعدها بابتسامة جانبية بارتخاء
"اعلم بأنكِ تنصتين لي ولا تريدين الردّ على كلامي ، ولا اعلم إذا كان عقاب منكِ ام غضب عليّ ! فما اعلمه جيدا بأنكِ تحاولين تعذيبي بطريقتك والتي دائما ما تصيب المرمى بنجاح ، فهذه الطرائق التي تستخدمينها تستطيع ان تخرج الشياطين من رأسي وتغضبني كما لم يحدث من قبل ، سأتغاضى عن تصرفاتك الاخيرة واسامحكِ عنها ، فهل هذا سيعيدك لرشدك للخروج من حزنك ام ستستمرين بلعبة الانتقام مني ؟"
سكنت الاجواء بينهما للحظات قبل ان يخرج الهمس الخافت بتحشرج
"انا لست اعاقبك ولا احاول الانتقام منك"
ارتفع حاجبيه بتسمر وهو يشدد من القبض على جانب ذراعها قائلا بحدة بالغة
"إذاً ماذا تريدين مني ان افعل حتى توقفي لعبة الصمت المزعجة ؟ ماذا افعل لكي تعودي لرشدك وتخرجي من انعزالك ؟ ماذا افعل لكي تعود ألماستي للشعور بالرضا والغرور والانانية !"
ساد صمت اطول لتهمس بعدها ببرود قاسي
"هذا افضل بكثير ، فأنا بهذه الطريقة لن استطيع ايذائك مجددا او جرحك مجددا او خسارة ثقتك بي ، فهذا العالم الذي يليق بصاحبة القلب الاسود ذات الصفات والطباع السيئة والتي ضقت ذرعا منها ، أليس كذلك يا شادي ؟"
احتدت ملامحه بقتامة وهو يدير جسدها بالقوة الجبرية للجهة المقابلة له ، وما ان تلاقت النظرات بينهما بظلام تلبس عالمهما حتى نطق بهمس متشنج بخفوت
"لا تعيدي هذا الكلام مجددا يا ماسة ، فأنا عندما اغضب انسى نصف الكلام الذي اقوله ، ولم اقصد منه ان اجرحك هكذا او ان اكون سبب حزنك ، ولكنكِ تعلمين بأنكِ من استفزني بالبداية ودفعني للوصول لهذه الحالة ! لذا ارجوكِ توقفي عن التفكير بالأمر وعودي لرشدك وطبيعتك !"
حركت رأسها جانبا وهي تهمس بابتسامة باردة بفتور
"ليس عليك ان تبرر يا شادي ، فهذا ليس رأيك وحدك بل رأي جميع المقربين مني وكل من يعرفني ، لذا ليس جديد عليّ سماع هذا الكلام ، وخاصة بأني قد سمعت الكثير من الاشياء التي لا تسر على لسان عمي قيس ، فهو يبدع كثيرا بإهانتي والتقليل من شأني بكل الوسائل الممكنة ، وكأنه يستمتع عندما يراني مذلولة امامه مكسورة الجناحين والكبرياء"
امسك بجانب وجهها وهو يديره نحوه ليحدق بعينيها بظلام الليل بقوة تشاحنت بالكثير ليقول بعدها بهدوء واثق
"انا لست اي احد ، انا زوجك يا ماسة ، وعليكِ ان تعلمي بأن رأيي وكلامي مهم جدا بالنسبة لكِ ، كما اشرتِ وقلتِ بأني زوجك وملزم بالثقة بكِ فهذه جزء من حقوقي وواجباتي عليكِ ، لذا رجاءً توقفي عن تعذيب كلينا بهذه الحرب الباردة وارفعي راية السلام ، فأنا لم ارجو بحياتي احد بقدر ما رجوتك انتِ وكله بسبيل الحصول على رضاكِ ! أليس هذا كافيا ؟"
عبست ملامحها وهي تهمس من فورها بجمود
"وإذا اخبرتك بأني لست راضية بعد !"
قطب جبينه وهو يشدد بأصابعه على جانب وجهها قائلا بانفعال مكبوت
"هل تقصدين ما حدث بالسيارة ؟ الحقيقة لم انتبه للسرعة التي كنت اقود بها السيارة ، فقد قادني الجنون لارتكاب اكبر غلطة كانت تودي بحياتنا ، والحمد الله مرت على خير ولم يصب اي احد منا بأي اصابات ، احيانا لا اعرف كيف افرغ غضبي والذي يخرج عن حدود سيطرتي ويدفعني لأسوء تهور !"
نظرت له بسكون برقت الدموع بزوايا عينيها وهي تهمس بحزن عميق
"لقد خفت كثيرا ، كنت خائفة بشدة"
انتفض كيانه وهو يقترب منها بسرعة حتى اصبح على بعد سنتمترات منها وهو يحاوط وجهها بين يديه ، ليقول بعدها بحرارة اشتعلت بفؤاده وهو يلامس بشفتيه جبهتها
"اعتذر يا صغيرتي على اخافتك هكذا ، اعتذر على دب الرعب بقلبك الرقيق الذي اصبح ملكي ، اعتذر لأني قد فرطت بأمانتك وبحمايتك من نفسي ، سامحيني على هفوتي هذه واعدك ان اعتني بكِ بشكل افضل بالمرة القادمة ، فأنتِ من سرقتي قلب شادي كيف يمكنه ان يؤذيكِ !"
ابتلعت ريقها بألم تخلل تفاصيل ملامحها وهي تمسك بكفيه على وجهها هامسة بأنين مرتجف
"لقد كان هذا الرهاب ينتابني دائما بطفولتي عندما يقترب الخطر مني واصبح على حافة الموت اشعر بالخوف واحاول الهروب بأي طريقة ، لقد خفت من الموت الوشيك ومن خسارة حياة كلينا بحادث قد يقتلك انت او يقتلني انا او يقتلنا سويا ، لذا ارجوك لا تستخف او تتهاون بعداد عمرك هكذا او بقيمة حياتك ، فأنا لن اتحمل المزيد من الخسائر والضحايا بسببي ، لن اتحمل ابدا ، لن اتحمل المزيد منهم"
رفع اصبعه الإبهام وهو يمسح اطراف عينيها من الدموع التي تترقرق منهما بدون ان تسيل ، ليقبل بعدها خدها برقة وهو يهمس بوعد صادق
"اعدكِ بذلك يا ماسة ، لذا ابتسمي يا حلوتي ، فهذه المواقف لن تعاد بيننا مجددا ، ولكن بالمقابل عليكِ ان تعديني بأنكِ لن تتدخلي بعد الآن بمشاكل شقيقتي وبحياتها الخاصة ، وستبقين خارج كل هذه الامور بدون ان تضعي اصبعا عليها ، مفهوم !"
احنت حدقتيها للأسفل وهي تهمس بخفوت مستاء
"لن افعل شيء ، فقد اكلت نصيبي من الامر ، ولست من الغباء لأفكر بالتضحية بحياتي مرتين"
اتسعت ابتسامته براحة وهو يختطف شفتيها بقبلة رقيقة قائلا برضا
"احسنتِ يا عزيزتي هكذا اريدكِ"
ابعدت يديه عن وجهها وهي تديره بعيدا عن مرمى قبلاته لتهمس له بعبوس جاد
"ولكني مع ذلك لست راضية ، ولن ارضى عنك حتى تحل كل مشاكلك المتعلقة بشقيقتك وتريحنا من هذه القضية"
اتسعت حدقتيه بصدمة وهو يقول باستهجان
"ماذا ؟......"
قاطعته التي انتفضت بلحظة وهي تتملص من قيوده لتنتصب جالسة على طرف السرير ، قبل ان تشعل الضوء بجانبها وهو ينتشر بالمكان بنور ساطع ، لتنهض بعدها برشاقة وهي تقطع مسافة عدة خطوات قبل ان تقف بهدوء وهي تكتف ذراعيها بقوة .
استقام جالسا بلحظة وهو ينظر لها توليه ظهرها ليقول بعدها باستنكار عابس
"ماذا تقصدين بهذا الكلام ؟"
شددت من تكتيف ذراعيها وهي تقول ببرود بدون رحمة
"هذا كل ما لدي اخبرك به ، وانت لديك الخيار اما ان تنسى موضوع عودتنا لبعضنا كالسابق ، واما ان تحل كل مشاكلك التي تربطك بشقيقتك من والدتك ، وحتى ذلك الوقت لن استطيع ان ارضى عنك ولن تخطو قدميك هذا الجناح وكما هددتك من قبل بعدم العودة له ، وهذا حتى تنفذ لي طلبي"
شدد على اسنانه وهو يمسد على جبينه بأصابعه بإنهاك سيطر عليه فجأة هامسا بضيق
"سحقا لكِ من داهية !"
زمت شفتيها بهدوء وهي تنظر له بأطراف حدقتيها بشفقة تمكنت منها ، لتستدير بعدها نحوه وهي تفرك قبضتيها معا هامسة بخفوت ماكر
"ولكن لا امانع ان تستخدم طرق اخرى بالحصول على رضاي ، وانا موافقة على التوصل لمساعدات اخرى والخروج عن المألوف لكي ترضيني وتفرحني ، فكل شيء تفعله من اجلي يسعدني كثيرا ويبهجني"
مالت ابتسامته بتحفز وهو يقفز عن السرير ببساطة ليتجه نحوها مباشرة بدون مقدمات ، وبلحظة كان يطحنها بين احضانه بعناق كاسر كبح تمردها وربط بين ضربات قلبيهما وكأنهما يسكنان بنفس الجسد ، ليقول فوق رأسها بهدوء اجش واعد
"وانا مستعد لبذل كل ما بوسعي بالحصول على رضا ألماستي بشتى الطرق ، لذا انتظري المفاجآت التي يخبئها لكِ زوجك والتي لن تتسع بملء قلبك الصغير والذي سيفيض من الصدمات !"
امسكت بظهر قميصه بتشبث وهي تهمس بابتسامة صغيرة بحياء
"وانا على اتم الاستعداد لتقبل هذه الصدمات"
اتسعت ابتسامته لوهلة قبل ان تعبس بصدمة وهو يلاحظ لأول مرة السترة التي ترتديها والتي ليست من ضمن ستراتها السوداء وهي لا تحمل سمات الانوثة بها ، ليبعدها بسرعة عنه وهو يتمعن بالنظر لها قائلا بخفوت مرتاب
"ما هذه السترة التي ترتدينها يا ماسة ؟ أليست هذه تشبه سترتي !"
ارتعشت ملامحها وهي تتراجع بخطواتها بسرعة بعيدا عن يديه ، لتكتف ذراعيها امام صدرها وهي تهمس ببأس
"غير صحيح ، هذه السترة لي"
تقدم نحوها بخطوتين وهو يمسك بطرف السترة عند كتفها مثل المتهم قائلا ببرود ساخر
"هل تسخرين مني يا ماسة ؟ انا متأكد بأن هذه السترة ملكي انا ، واساسا كيف حصلت عليها يا سارقة ؟"
ضمت شفتيها بتشنج وهي تهمس بتبرير حانق
"عندما كنا عائدين من مكان عملك بسيارتك وتناولنا طعام الغداء بداخلها"
ارتفع حاجبيه بتذكر قبل ان يهزها من كتف السترة وهو يقول بانفعال منصدم
"ولماذا لم تعيديها لي من وقتها ؟ لماذا احتفظتِ بها يا سارقة ؟ لقد ظننت بأنني قد فقدتها عندما لم اجدها بين ملابسي ! يا سارقة الملابس !"
نزعت كتف السترة عن اصابعه وهي تتراجع مجددا وذراعيها تعانقان السترة قائلة بعزم
"لن اعيدها لك ، ولن اتخلى عنها ، فقد اصبحت من ممتلكاتي بعد ان سلمتها لي ، ولا بأس إذا نقصت سترة من مجموعتك فأنت تملك الكثير غيرها !"
عقد حاجبيها بجمود وهو يلوح بيده امامها قائلا بأمر جاف
"هيا اخلعي السترة واعطيها لصاحبها ، فهذه ليست لكِ ولم تكون ، حتى بملابسي انانية وجشعة !"
حركت رأسها بممانعة وهي تهمس بعبوس متذمر
"ارجوك اتركها معي ، واعدك ان احافظ عليها جيدا ، فقط ثق بي لمرة واحدة"
زفر انفاسه بيأس وهو يرفع يده ليحك مؤخرة شعره لبرهة من التفكير ، ليفك بعدها اسر ابتسامته الهادئة وهو يقطع المسافة بينهما بثواني ، وما ان اصبح عند محاذاتها تماما حتى انحنى بجانب اذنها وهو يقبلها بقوة اشعلتها باحتقان العاطفة ، قبل ان يهمس عندها بشغف رقيق حطم مقاليد مشاعرها والتي تحررت من جديد
"انا اثق بكِ دائما ، يا سارقة ملابسي"
رفعت عينين واسعتين بامتعاض حانق وهي تراه يضحك بانشراح مستمتع بعد ان اكمل طريقه لخارج الغرفة ، وما ان اختفى عن نظرها حتى احتضنت ذراعيها بقوة وهي تمسح بأصابعها الطويلة على قماش السترة الدافئة ، وداخل نفسها تردد بصميم قلبها الذي بدأ يصرخ بجدران صدرها
"لقد وقعتِ بالحب يا ماسة ، وحدث ما كنتِ تخشيه"
_______________________________
صباح اليوم التالي.....
سكبت الطحين بالإناء بحذر وهي تقدر الكمية بدون معيار فقط بالنظر لها ، فهي تخطئ وتغفل بكل شيء واحيانا تصل للفشل ألا بالطبخ تكون دائما على صواب وتحرز به كل الانتصارات حتى اصبح بالنسبة لها فن ومهارة لا يتقنها سوى بالممارسة والاعتياد ، والدليل بذلك هو اتقان غالبية الكبار بالعمر الطهو والطبخ واصحاب التدريس المتدني اكثر من صغار العمر والذين يملكون قوة بدنية وذهنية اكبر بأضعاف واصحاب التدريس المتفوق والعالي ، وقد يكون هذا عائد لأساليب وطرائق التربية بالمجتمعات المتحضرة والتي لم تعد تعتمد الضغط او القسوة بالتعامل بل بالدلال المفرط واستخدام كل اساليب الراحة والكسل بالحياة والتي تدمرت على ايديهم .
توقفت عن سكب الطحين وهي تضع الكيس جانبا ، لتشمر بعدها عن كميها وهي تستعد لتباشر بالعمل ، قبل ان تتجمد لوهلة وهي تلمح ذراعها المصاب والذي تماثل للشفاء تقريبا ولم يتبقى منه سوى علامات طفيفة ستزول مع الايام ، حتى الشاش الطويل الذي كان يلف ذراعها قد تخلت عنه وبقيت اللاصقات الطبية تغطي البقع الحمراء بجلدها مثل حال جبينها تماما ، ولن تنسى بأن الفضل يعود بكل هذا لمسعفها والذي اخذ دور الممرضة بحياتها وهو يهتم بجروحها اكثر من اهتمامه بجروح قلبها ، وكم كان هذا يؤلمها على مدار اسبوع كامل لم تؤلمها الجروح بقدر ألم قلبها الغائر والذي ينبض بدقات اخيرة تعلن عن النهاية الحتمية ، وقد توقفت عن حساب موعد انتهاء العقد والذي ابطل مفعوله وتجدد لتبدأ بحساب ايام تماثل جروحها للشفاء حتى تستطيع انهاء العقد رسميا والذي انتهى منذ ثلاث ايام .
تنفست بهدوء وهي تعود لعملها بخلط المكونات بيديها الاثنتين بليونة وهي تستمتع بهوايتها المفضلة منذ الطفولة ، وكم يسعدها عودتها لهذه المهمة القديمة والتي حرمت منها بأول ايامها من بعد الحادث ، وها هي قد عادت الطاهية النشيطة التي تهتم بأمور الطهي والطبخ بدون ان يعكر صفو حياتها شيء او ان يحمل قلبها اي هموم قد تثقل عليها .
نفضت يديها عن العجينة العالقة بمفاصل اصابعها وهي تجوب بعينيها بالمكان بحثا عن المكون الناقص بطبختها ، لتتوجه بعدها لزاوية المطبخ بلحظات وهي تفتح الثلاجة لتبحث عن مكونها الناقص بداخلها ، وما ان وقعت عينيها على هدفها حتى اشرقت تقاسيم وجهها بسعادة وهي تمسك بعبوة حليب البقر ومكونها المهم .
عبست ملامحها وهي تكتشف فراغ العبوة لتهزها بقوة بدون ان تسمع صوت بداخلها ، لتزفر انفاسها بيأس وهي تشتت نظرها بين العبوة الفارغة والاناء الذي ينتظر منها انتهاء عجن مكوناته ، لتهمس بلحظة باستياء خافت
"ماذا افعل بهذه المصيبة ؟"
بعدها بثواني كانت تخرج امام الجالسة حول المائدة وهي مشغولة بقراءة الصحيفة الصباحية ، لتتنحنح بعدها بوجوم وهي تقول بخفوت محرج
"امي اعتذر عن الازعاج ، ولكن حليب البقر قد نفذ من عندنا ، وانا احتاج له بشدة من اجل اكمال مكونات الطبخ"
نظرت لها بحيرة وهي ترفع النظارة الطبية عن عينيها السوداوين بحذر ، لتقول بعدها بتفكير عابس
"لقد نسيت ذلك تماما ، كان عليّ تدوينها بقائمة المشتريات من اجل ان يجلبها جواد معه ، ولكن يبدو بأنني قد غفلت عنها"
تبرمت شفتيها وهي تهمس بعبوس متذمر
"ولكني احتاج لها الآن ، كيف سأكمل الطبخ بدونها ؟ فهي اهم مكون لدي بالطبخة وبدونها سيفسد كل شيء !"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تقول بابتسامة هادئة بحنية
"لا نستطيع فعل شيء يا عزيزتي ، يمكنكِ الانتظار حتى يعود جواد من العمل ونطلب منه قائمة مشتريات جديدة ، وغير هذا لا نملك بمقدورنا فعل شيء !"
زمت شفتيها بوجوم وهي تقول ببؤس
"وماذا افعل الآن ؟ لقد وصلت لمنتصف عملي ، لا استطيع التراجع الآن ، ولا استخدام مكون بديل عنها"
تنهدت بتعب وهي تعيد النظارة فوق عينيها قائلة بجدية
"سأحاول الاتصال بجواد ليجلب معه المكون الذي تحتاجينه بالطبخ ، لذا يمكنكِ تأجيل مهمة الطبخ حتى عودته من العمل وفعل اي شيء آخر ، وإياكِ وان تتهوري قبل ان يحين موعد عودته ، حسنا !"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تضم يديها معا قبل ان تهمس بخفوت رقيق
"انا لدي الحل من هذا المأزق يا امي ، ما رأيك ان اذهب لشراء الحليب من الدكانة القريبة من منزلنا ؟ واعدكِ لن اتأخر طويلا وسأعود بسرعة !"
نظرت لها بسرعة وهي تقول بحزم جاد
"لا يا صفاء ، انسي هذه الفكرة تماما ، لقد وعدنا جواد بأنكِ لن تغادري من المنزل لأي سبب كان ، ولا اريد ان يتكرر ما حدث معكِ بآخر مرة خرجتي بها....."
قاطعتها التي رفعت كفيها بروية وهي تقول ببساطة
"اهدئي يا امي ، الامر لا يحتاج كل هذا الخوف والانفعال ! فقط سأذهب لشراء الحليب من الدكانة المجاورة والتي لا تبعد عنا سوى شارعين ! ثقي بي لن يحدث لي شيء"
عبست ملامحها بشحوب لوهلة قبل ان تلتفت بعيدا عنها وهي تعود للنظر للصحيفة قائلة بصرامة قاطعة
"قلت لكِ لا يا صفاء ، ممنوع ان تخرجي من المنزل تحت اي ظرف كان ، وكما اخبرتكِ سأتصل بجواد ليحضر لكِ كل ما تحتاجينه ، وإياكِ وان تخالفي اوامري ، فأنا قلبي لم يعد يتحمل المزيد من الازمات فقد ضاق ذرعا منكم !"
اخذت (صفاء) عدة انفاس بحزن وهي تتقدم عدة خطوات مكسورة قبل ان تجثو امامها ، لتمسك بعدها بكفها وهي تهمس برجاء حزين مستجدي
"ارجوك يا امي ، اتركيني اذهب واشتري عبوة الحليب ، فقط دقائق واعود إليكِ ، لن اتأخر عليكِ ، وإذا شعرت بالخطر او الخوف سأعود للمنزل بسرعة ، واعدكِ ان اهتم بنفسي اكثر ولن اكون متهورة كالمرة السابقة ، ارجوكِ وافقي ، فقط هذه المرة"
وجهت نحوها نظرات حزينة للحظات قبل ان تزفر انفاسها وهي تقول على مضض
"حسنا يا صفاء ، اذهبي واشتري حاجتك من الدكانة وعودي مباشرة بدون ان تبتعدي اكثر ، إياكِ والذهاب لمكان آخر او اللعب هنا وهناك ، فقط عشر دقائق واريد ان اجدكِ مغروسة امام باب المنزل"
ضحكت بخفوت مرح وهي تهز رأسها هامسة ببهجة
"ما بكِ يا امي ؟ انا لست طفلة حتى تعامليني هكذا ! اعلم جيدا طريقي وما هو المطلوب مني ، ولن يأخذ مني الامر اكثر من عشر دقائق"
مسحت بكفها على رأسها بحنان وهي تهمس بعطف امومي
"بعد ما حدث معكِ يا صغيرتي اصبحت اخاف من النسمة من اصابتك ، فهذا هو قلب الأم تبقى تخاف على اطفالها منذ المهد حتى الكهل ، ولن يتوقف حتى يشيخ قلبها ويموت....."
قاطعتها بجزع وهي تقبل ظاهر كفها هامسة بدموع حبيسة
"بعيد الشر عنكِ يا امي ، الله يطول بعمركِ سنوات ، ويكون يومي قبل يومك ، فلن اتحمل خسارة والدتي مجددا"
رفعت النظارة عن عينيها وهي تمسح اطراف مقلتيها بحزن الغصة التي عادت لتسكن روحها ، لتقول بعدها بهدوء مجهد وهي تربت على رأسها برفق
"حسنا يا صغيرتي ، هيا اذهبي بسرعة وعودي ، وإذا تأخرتِ عن العشر دقائق فلن أتوانى عن عقابك ، وسيكون عقابي شديد جدا"
فركت عينيها الدامعتين بطفولية وهي تقف على قدميها بهدوء بدون ان تتخلى عن يدها ، لتهمس بعدها بابتسامة رقيقة وهي تمسح على يدها الشاحبة بوعد صادق
"حاضر يا امي ، دقائق واعود لكِ"
خرجت من باب المنزل بعد ان جهزت نفسها بالكامل ، لتسير من فورها على محاذاة الطريق الرئيسية وهي تخطو باتجاه الدكانة القريبة من المنزل .
تغضن جبينها بارتياب وخطواتها تخبو ما ان لمحت الرجل مجهول الهوية ضخم البنية وهو يقف على محاذاة طريقها ، لتبتلع بعدها ريقها بقوة وهي تسرع بخطواتها بثبات بعد ان اصبحت تسير على حافة الرصيف ، وما ان تجاوزته بأعجوبة وهو يضيق عليها المكان بضخامته حتى تنفست الصعداء بلحظة ، قبل ان تتابع طريقها الثابت بدون ان تتساءل عن سبب وجوده المريب وعن شكله المخيف والذي لا يدل على انتماءه لهذه المناطق الغنية والتي يظهر الرقي الثراء على اصحابها ؟!
دلفت لداخل الدكانة الصغيرة وهي تنظر للمحتويات امامها باهتمام ، وما ان انتبه لها صاحب المكان حتى وقف امام طاولة المحاسب وهو يقول باحترام
"مرحبا يا آنسة ، هل تحتاجين لمساعدة ؟"
انتفضت بوجل وهي تلتفت نحو مصدر الصوت بسرعة ، لتبتسم بعدها برقة وهي تقترب من طاولة المحاسب هامسة بأدب
"احتاج لعبوة حليب بقر كبيرة ، هل لديك منها ؟"
اومأ برأسه بالإيجاب وهو يقول بلطف
"اجل لدي منها ، انتظريني دقائق وسأحضرها لكِ"
اومأت برأسها بهدوء وهو يغادر من امامها بثواني ، لتتجول بنظراتها بالمكان قبل ان تقع عينيها على اسطوانة طويلة تحوي قطع سكاكر صغيرة بداخلها كانت تشتريها بطفولتها ، لتتسع ابتسامتها بلهفة وهي تلتقط الاسطوانة بهدوء قبل ان ترفعها امام نظرها ، وهي لا تصدق بأنها ما تزال تباع بالأسواق بعد ان اختفت من الدكاكين التي كانت تجاور منزلها ؟ ومنذ ذلك الوقت وهي تتمنى إيجادها وشراء الكمية كاملة حتى تخزنها للأيام القادمة قبل ان تفتقدها مجددا !
افاقت على صوت المحاسب والذي احضر لها عبوة الحليب المطلوبة وهو يقول بهدوء
"هل هذه التي طلبتها يا آنسة ؟"
اومأت برأسها بابتسامة رقيقة وهي تدس يدها بجيب سترتها لتخرج النقود منها ، بينما وضع لها الرجل العبوة بداخل الكيس البلاستيكي قبل ان يقدمه لها ، ليأخذ بعدها النقود منها وهو يقول بابتسامة بشوشة
"هل تريدين شراء عامود السكاكر كذلك ؟"
نظرت لعامود السكاكر بيدها والذي نسيت امره تماما ، لتنظر له بسرعة وهي تهمس بابتسامة صغيرة
"اجل اريده ، كم سعره لو سمحت ؟"
ردّ عليها بابتسامة هادئة
"سعره عشرون قرشا"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تدس يدها من جديد بجيب سترتها لتخرج فقط عشرة قروش وما تبقى بحوزتها ، لتقول بعدها بابتسامة محرجة تكاد تذوي من خجلها
"اعتذر ولكني لا املك سوى عشرة قروش ، لو تستطيع انتظاري لأحضر......"
قاطعها وهو يرفع يده بأدب قائلا بهدوء جاد
"لا بأس يا آنسة ، يمكنكِ اخذها مجانا ، واعتبريها هدية من صاحب الدكان للآنسة الصغيرة"
اتسعت ابتسامتها بسعادة حتى غمرت تفاصيل ملامحها وهي تهمس بحبور
"شكرا جزيلا لك يا عم ، والله يعوضك اضعاف عليها ، بالإذن الآن"
خرجت من الدكانة بروح مشرقة وهي تتهادى بخطواتها بفرح امتلئ بصدرها ، وما ان وصلت للطريق الرئيسية حتى تجمدت بمكانها لوهلة وهي تلمح نفس الرجل يقف بطريقها مجددا وكأنه يلاحق بها او يتعقبها ! رغم استحالة تحقق واحد من الاحتمالين ! فمن يكون يا ترى ؟
تجاهلت نبضات قلبها وهواجس رأسها وهي تتابع طريقها بثبات مستميت تعبت بالحفاظ عليه ، ولكن ما لم تتوقعه هو تحركه المفاجئ امامها حتى دفعها للاصطدام بجانب جسده والذي ادى لسقوط عامود السكاكر من يدها وانكسار جزء منه .
استقامت بسرعة بعيدا عنه وهي تنظر لصاحب الصوت الخشن والذي دب الرعب بأوصالها
"انا اعتذر"
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تنخفض بلمح البصر لتلتقط عامود السكاكر المكسور بثواني ، قبل ان تنتصب واقفة وهي تهمس بتلعثم مرتجف
"لا بأس ، لا بأس ، عن اذنك الآن"
جرت بعيدا عنه بسرعة وهي تحتضن الكيس بين ذراعيها وعامود السكاكر بيدها بعد ان بعثر كيانها بذعر غير مسبوق ، بينما الرجل الساكن من خلفها كان يراقب اثرها بجمود قاسي وهو يضع الهاتف بجانب اذنه ، ليقول بعدها بكلمات مختصرة بإيجاز
"لقد تحدد الهدف يا سيدي ، وتأكدنا من هويتها ، زوجة جواد مصعب هي صفاء جلال"
_____________________________
كان ينزل درجات السلم على عجلة وهو يضع الهاتف على اذنه ، ليتوقف بعدها بمنتصف الطريق ما ان سمع صوت قرع جرس المنزل ، ليخفض بعدها الهاتف قليلا وهو ينظر من حوله بحثا عن احد افراد المنزل قبل ان يتمتم بجمود
"أليس هناك من يفتح الباب ؟ اين ذهبت تلك الخادمة البدينة !"
زفر انفاسه بضيق وهو يقترب من باب المنزل بخطوات كسولة ، ليفتح بعدها الباب على اتساعه بدون ادنى تردد قبل ان يتسمر بمكانه بصدمة وهو ينظر لهوية الطارق وآخر توقعاته ، بينما لم تكن حالة المقابلة له بأفضل منه وهي تنظر له بعينين شاخصتين بذعر وبوجه انسحب اللون عنه بلحظة ، ليقطع بعدها دوامة الصمت التي احاطت بهما معا صاحب الابتسامة المائلة وهو يستند بإطار الباب قائلا باسترخاء
"مرحبا ، مرحبا ، ماذا لدينا هنا ؟ يا لها من بشارة خير علينا رؤيتك من جديد وبوضح النهار !"
امتعضت ملامحها بلمحة خاطفة وهي تنفض الشحوب والذعر عن قلبها والذي وقع بين قدميها ، وهي لا تعلم حقا ما هي الذنوب التي ارتكبتها بحياتها لتتلقى عقاب قاسي شبيه بما تراه ! حتى اضطرت لتقابل هذا الشيطان لثاني مرة بحياتها بعد ذلك الحادث الفظيع والذي وصم نقطة مظلمة بحياتها المهنية والشخصية !
اقتحم تخبط افكارها الصوت المتسلي وهو يميل قليلا بعيدا عن الباب قائلا بابتسامة مستفزة
"ماذا بكِ تجمدتِ هكذا ؟ أتعلمين بأنكِ قد تجاوزتِ قوانين الصدف ؟ فمن غير المعقول مرة رؤيتك بمكان عملك ومرة بمكان سكنك وهذه المرة امام باب منزلي ! انا اشك بأن اراكِ المرة القادمة بداخل غرفتي ! هل انتِ تتقصدين مطاردتي او تحاولين تعقبي ؟"
اتسعت حدقتيها على اقصى اتساعهما واحمرار طفيف يغزو ملامحها الشاحبة وهي تهمس بتبرير متلعثم حتى عضت على طرف لسانها من احراج موقفها
"لا غير صحيح ، ليس هناك شيء من هذا ! انا فقط لم اكن اعلم بأنك تعيش بهذا المنزل ! اجل لم اكن اعلم ، انا......."
قاطعها وهو يحرك رأسه جانبا بملل وكأنه يستمتع بأثارة رعبها مثل ارنب مذعور ذكرته بشقيقته الصغرى
"ماذا هناك ؟ هل الصدمة كانت شديدة عليكِ حتى فقدت النطق السليم ؟ لا تقلقي فأنا لا احمل سلاح بجيبي حتى تخافي مني هكذا ! وانا لست قاتل مأجور اطلق النار على كل من يقابلني ! لذا ارتاحي واهدئي فأنتِ بأمان"
اخذت عدة انفاس وهي تطبق الشهيق والزفير لتخفف من وطأة ذعرها المفاجئ ، لتفيق بعدها على نفسها وهي تنظر له بعينيها الواسعتين هامسة بخفوت مرتبك تكاد تموت قبل ان تخرج كلماتها المبعثرة
"انت تعرفني ! لقد كنت تعرفني منذ اللحظة الأولى ! كيف غفلت عن هذا ؟ يا إلهي !"
اومأ برأسه ببساطة وهو يقول بابتسامة لعوبة
"هل صدمتك ؟ هذا غير متوقع صحيح ! فقد نسيتِ مقولة بأن الخطايا تلاحق الانسان حتى الممات ، وهذا ما سيحدث معكِ انتِ وصديقتك التي نسيت اسمها !"
ردت عليه من فورها بعبوس وجل
"ماذا ؟ ما هذا الكلام ! انا وصديقتي لم نخطئ معك بشيء وكنا على وشك اسعافك ونقلك للمشفى ، عن اي خطايا تتكلم !......."
قطع استرسال كلامها صوت رنين الهاتف بيد صاحبه ، ليشير بعدها بكفه امامها علامة الانتظار وهو يرفع الهاتف بيده الاخرى قائلا بجدية
"انتظريني لحظات يا رجاء"
عضت على طرف شفتيها بامتقاع وهي تسمع اسمها منه للمرة الثانية وهو يزرع الحيطة بدواخلها ، ليشد سمعها صوته الثائر والذي اختفى عنه الهزل والسخرية
"حسنا انا قادم ، إياكم وان تتركوه"
ابتلعت ريقها بذعر ما ان فصل الخط وقبل ان تدرك كان يندفع من امامها وهو يتجاوزها بلمح البصر ، لترمش بعدها عدة مرات برجفة لاذعة وهي تستوعب ما حدث الآن ، لتستدير للخلف بحذر وهي تتأكد من خلو المكان منه وذهابه بعيدا .
رفعت كفها بارتجاف وهي تمسد على عنقها بتعرق من المواجهة التي تعرضت لها ، لتتنفس بعدها ببؤس لوهلة وهي تهمس بقتامة
"يا له من كابوس ! لقد اصبحت حياتي عبارة عن مشاهد مرعبة وصدمات متلاحقة !"
تجمدت اطرافها برعب ما ان سمعت صوت من خلفها يقول بصرامة
"ماذا تفعلين يا رجاء ؟ هيا ادخلي يا ابنتي"
تنفست الصعداء وهي تستدير من فورها لتقابل والدتها والتي كانت تقف عند إطار الباب ، لتتحرك بسرعة وهي تحتضن والدتها بهدوء قبل ان تبتعد عنها هامسة بمحبة
"صباح الخير يا امي ، هل تأخرت عليكِ ؟"
حركت رأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة عطوفة
"لا لم تتأخري ، لقد اتيتِ بالوقت المناسب"
ابتعدت عنها بسرعة وهي تغلق باب المنزل من خلفهما ، لتقول بعدها وهي تشير لها للداخل بنبرة صارمة
"انا الآن سأسبقك وانتِ اتبعيني ، السيد ينتظرنا بالداخل ، لذا إياكِ وان تخطئي بالتصرف"
اومأت برأسها بانصياع وهي ترى والدتها تسبقها بالدخول ، لتسير بعدها بخطوات هادئة بتردد ونظراتها تدور بالمكان بحذر شديد وكأنها تخاف ان تحمل نظراتها الحسد او يمسكها احدهم تتسلل للمنزل والذي لم تحلم يوما الدخول لمكان مشابه .
افاقت على نفسها ما ان لاحظت تأخرها عن والدتها والتي تكاد تفقد اثرها ، لتسرع بخطواتها تلقائيا وهي تقطع المسافة بينهما بثواني ، وما ان دخلت كليهما لقاعة الطعام حتى التقطت نظراتها الجالس على رأس المائدة وسيد المنزل .
تابعت سيرها خلف والدتها بامتثال بدون ان تحيد بعينيها بعيدا ، وما ان وقفت امام الرجل والذي رفع نظره نحوهما بآن واحد حتى قالت والدتها بسعادة بشوشة
"صباح الخير يا سيد جلال"
اومأ (جلال) برأسه وهو يحول نظراته للواقفة بجوارها تكاد تلتصق بها ، ليقول بعدها وهو يبتسم بتغضن حنون
"صباح الورد يا بسمة ، هل هذه الجميلة ابنتكِ ؟"
حركت رأسها جانبا وهي تقول بابتسامة هادئة
"اجل هذه ابنتي الصغرى التي اخبرتك عنها ، وطلبت منها الحضور اليوم للتكلم معها عن عرضك"
ابتسم باتساع وهو ينظر لها عن كثب ليقول بعدها بهدوء جاد
"ما هو اسمكِ يا ابنتي ؟"
ضمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس من بينهما بأدب
"اسمي هو رجاء"
حرك رأسه باهتمام وهو يقول بابتسامة جانبية
"اسم جميل ويدل على فخامة صاحبته"
اخفضت رأسها وهي تهمس بحياء
"شكرا لك"
ضم قبضتيه فوق سطح الطاولة وهو يقول بنبرة قوية تقمصه بلحظة
"لماذا تريدين الحصول على وظيفة يا رجاء ؟"
نظرت له للحظات قبل ان تقول بعزم
"من اجل ان اساعد والدتي بمصاريف حياتنا ، ولا اريد البقاء بدون عمل فأنا معتادة على العمل منذ كنت طالبة بالثانوية ، لذا إذا يمكنك مساعدتي بوظيفة بسيطة استطيع اتقانها فسأكون ممنونة لك"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بتفكير جاد
"ولماذا لا تفكرين بالزواج بدل اتعاب نفسكِ بالتنقل بالوظائف ؟ فقد اصبحت بسن مناسبة للزواج ، صحيح !"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تقول بهدوء واثق
"هذا الامر مفروغ منه بالنسبة لي ، فأنا لن اتزوج قبل ان اتأكد بأنه سيكون السند والقوة لوالدتي بدون ان اضطر للتخلي عنها ، ولن افعل ذلك حتى استطيع تأمين حياة مريحة ومستقرة لوالدتي لكي لا تعاني مستقبلا"
اتسعت ابتسامته بهدوء وهو يقول ببشاشة
"الله يحفظها لكِ من كل مكروه وشر"
اخفضت رأسها قليلا هامسة باحترام شديد
"شكرا لك يا سيدي ، والله يحفظ اولادك ويخليهم سند وقوة لك"
تنفس بهدوء وهو يحرك رأسه بعيدا عنها قائلا بحسم
"إذاً اعتبري نفسكِ قد توظفتِ عندي يا رجاء ، ومهامكِ ستكون بسيطة جدا ، الحقيقة كانت ابنتي تحتل هذه الوظيفة سابقا ، ولكن بعد زواجها شعرت بالنقص والاحتياج ليد اخرى لتساعدني بالعمل ، لذا اريد منكِ ان تأخذي هذه الوظيفة ، وأوقات دوامك ستكون من الساعة التاسعة صباحا وحتى الساعة الرابعة عصرا ، إذا كنتِ موافقة على الشروط سنبدأ من اليوم ، ما رأيك ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة مع تألق ابتسامتها بسعادة ملئت محياها بآن واحد ، وهي تهمس بفرحة بالغة خرجت مثل الألعاب النارية بالمهرجانات
"حقا ! استطيع العمل معك من اليوم ؟ اجل انا موافقة بالطبع ، وسأبذل قصارى جهدي حتى لا اخيب ظنك بي وباختيارك لي مساعدة لك ، اعتمد عليّ يا سيدي فأنا افضل من يعمل بالوظائف"
ضحك بخفوت متحشرج وهو يمد كفه قائلا بابتسامة بشوشة باتساع
"إذاً نقول توكلنا على الله !"
صافحت كفه بسرعة بين يديها هامسة ببهجة بالغة
"اجل يا سيدي ، وشكرا لك مجددا ، انا ممنونة لك بشدة"
بينما والدتها كانت ترفع يديها عاليا وهي تدعو هامسة بقلب فرح على ابنتها
"شكرا لك على عطفك ، الله يحفظك لأولادك ويزيد كرمك وفضلك علينا"
اما (جلال) فقد كان تفكيره يدور بشيء آخر ترسخ هناك وتركز عليه وكل امله بأن يتحقق ويصل لمبتغاه قبل ان ترتفع هذه الروح لبارئها .
______________________________
كانت تكتب على طول الورقة وهي تعدد المكتوب امامها بتركيز شديد وبترتيب برأسها
"لقد انتهينا من خمس دروس بكتاب اللغة العربية ، وست دروس من العلوم ، ودرسين من الرياضيات ، تبقى لنا درسين بالكتابة والقراءة ، وثلاث دروس عن مضاعفات الضرب والقسمة ، ودرس عن مخاطر البيئة ، وهكذا نكون اختتمنا المواد بالكامل وينتهي الفصل على خير"
زفرت انفاسها بابتسامة منتصرة اعتلت تقاسيم وجهها وهي تغلق الدفتر امامها ، لتشعر بعدها بالكف الصغيرة وهي تربت على كتفها وصوته يخرج بحماس
"لقد انتهيت منها ، انتهيت منها يا معلمة روميساء"
حانت منها التفاتة نحوه وهي تقول باندهاش
"هل انتهيت منها جميعها بهذه السرعة ؟ هل حليت كل المسائل التي كتبتها لك ؟"
اومأ برأسه بقوة وهو يقول بابتسامة عريضة
"اجل حليتها كلها ، انظري وتأكدي"
امسكت بالورقة امامه وهي تتمعن بالنظر للمسائل المحلولة بدقة عالية ، لتبتسم بعدها برقة وهي تهمس بزهو
"احسنت عملا يا سامي ، انا ارى تطور ملحوظ بأدائك ، يبدو بأن الشدة معك قد اعطت مفعولها جيدا ، هكذا نستطيع ان نعطيك درجة عالية بدرس الجمع والطرح ، لننتقل لدروس الضرب والقسمة والتي ستحتاج منا جهد اكبر وتركيز اعلى"
اومأ برأسه بقوة وهو يقول بثقة
"اعتمدي عليّ يا معلمة روميساء ، فأنا تلميذك النجيب والذي لن يخيب ظنكِ ابدا"
ابتسمت بعطف وهي ترفع كفها لتمسح على جبينه هامسة بخفوت حاني
"لقد تحسنت صحتك كثيرا عن السابق ، ولم تعد هناك حرارة عالية واختفت السخونة عن جسدك"
ابتسم بسعادة تشربت بوجهه بحمرة طبيعية بعد ان خفت البثور الحمراء وانسحبت عن بشرته وهو يقول بوداعة
"هذا لأنني اداوم على الدواء كل يوم وادهن البثور ثلاث مرات باليوم ، وقد قال الطبيب بأنه بمهلة ايام ستكون حالتي افضل وستختفي آثار الحصبة عني ولن تعود معدية او مؤذية على احد"
اتسعت ابتسامتها براحة وهي تمسح على شعره بأصابعها الحانية قائلة بمودة
"سعيدة بسماع هذه الاخبار المفرحة ، وهذا يعني بأن عودتك للمدرسة قد اقتربت ، واخيرا ستنير المدرسة والفصل بوجودك ، فلم تعد المدرسة جميلة بدون طالبي المتميز"
ابتسم بحياء وهو يومأ برأسه قائلا بلهفة
"اعدكِ ان لا اتأخر بالعودة"
انقلبت ملامحها بجدية وهي تخفض يدها لتمسك بورقة اخرى من داخل دفترها ، لتضعها بعدها امامه وهي تقول بحزم عملي
"هذه ورقة مسائل اضافية نسيت ان اكتبها لك بالورقة الأولى ، وهي آخر شيء سنقوم بحله لليوم"
رفع نظره وهو يقول بابتسامة عريضة
"هل هذا يعني بأننا قد انتهينا اخيرا ؟"
التقطت القلم من على الطاولة وهي تمده له قائلة بهدوء
"اجل هذا كل ما لدينا لليوم ، وإذا انهيت حلها بسرعة اعدك بجائزة قيمة"
لوح بقبضته بحماس وهو يقول باستعداد
"سأريكِ كيف سأنهيها بدقيقتين فقط ؟"
ما ان حاول اخذ القلم بسرعة حتى سقط منها بلحظة وهو ينزل تحت الطاولة ، لتقول بعدها التي جثت على ركبتيها بحذر
"انتظر ، سأحضر لك القلم"
زحفت تحت الطاولة بصعوبة وهي تحاول مد اقصى ذراعها للوصول للقلم ، وبلحظة كانت تتلوى بألم مفاجئ اخترق احشاءها من اسفل معدتها ، لتخرج بسرعة من تحت الطاولة وهي تمسك معدتها بذراعيها بألم تجاوز حدود مقدرتها ، لترتجف بعدها على لمسة اليد التي امسكت بمرفقها بقوة وهو يقول بقلق طفولي
"ماذا هناك يا معلمتي ؟ هل هي آلام الحمل مجددا ! هل يفعل كل هذا من اجل ان يعجل من خروجه ؟"
انحنت حدقتيها بحالة شرود غيم على محياها وهي تعود للحظات حزنها على وليدها وكأنها عادت لتلك الفترة الوجيزة والتي لم تكد تخرج من معاناتها ، لتبتلع بعدها ريقها بغصة حجرتها بروحها وهي تحاول التكام بطبيعية صارمة
"ليس هناك شيء يا سامي ، هيا عليك ان تحل المسائل بسرعة وألا لن ارحمك إذا تأخرت بحلها وخسرت معك الجائزة !"
عقد حاجبيه الصغيرين بعدم اقتناع وهو يتمسك بذراعها قائلا بعبوس
"لا انتِ لست بخير يا معلمتي ؟ وألا لما تمسكين معدتك هكذا إذا كنتِ بخير ! هل نسيتِ كلامك بأن لا نكذب بمشاعرنا وبأي شيء ؟......"
قاطعته بغضب وهي تنفض ذراعها بعيدا عنه قائلة بصرامة اكبر
"كفى يا سامي ، إذا لم تحل المسائل التي طلبتها منك بغضون دقائق فستحصل على خصم عشر علامات ، وقد اعذر من انذر"
ارتفع حاجبيه بوجل وهو يبعد يديه هامسا بخفوت حزين
"ولكنكِ تتألمين كثيرا وهذا واضح عليكِ ، هل حدث شيء للطفل بداخلك ؟ هل هو الذي يؤلمك هكذا ؟"
نظرت له ببهوت شاحب لوهلة قبل ان تهمس بعبوس اعتلى محياها
"ماذا قلت الآن يا سامي ؟ لا تجعلني انفذ تهديدي !"
اومأ برأسه بخنوع وهو ينزل تحت الطاولة ليحضر القلم الساقط بلحظات ، قبل ان يعود جالسا امام الطاولة وهو يمسك بالقلم ليحل المسائل على الورقة بامتثال لكلامها ، وبعد مرور لحظات صبر فقدت معها السيطرة على الاحتمال لتندفع بعدها واقفة وهي تشير بيدها للطفل قائلة بصوت قاطع
"إياك وان تتحرك من مكانك ، دقائق واعود لك"
تحركت بسرعة خارج غرفة الجلوس وهي تتجه مباشرة لأقرب حمام ، وما ان اصبحت بداخل الحمام بأعجوبة حتى ارتخت مفاصلها بتشنج وهي ترتمي بظهرها على سطح الباب بتعب مسلوب الإرادة ، لتمسك بعدها شفتيها والشهقات المحبوسة بداخلها وهي تطلق سراحها من جديد على شكل سيول من دموع شقت طريقها على شحوب ملامحها ، بينما يدها الاخرى تضغط على مكان الألم والذي تشعر به اصبح يذبحها بحريق داخلي بدون ان ينشفي او يلتئم ، فهو يبدو مغروس بتجويف روحها والذي تركوه مفتوحا بعد ان سلبوا الطفل منها ليتركوه فارغا مثل الوعاء والذي تحتم عليها العيش معه وبداخله حياة مؤبدة .
______________________________
كان يطرق على باب الحمام بثبات وهو يقول بهدوء جاد
"روميساء هل تسمعيني ؟ هل كل شيء على ما يرام ؟"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يستمر بالطرق على الباب بدون توقف ليكرر كلامه بصوت اضطرب قليلا
"روميساء اجيبِ بكلمة واحدة ، لا تتركينا واقفين هكذا !"
زفر انفاسه بوجوم وهو يخفض قبضته ببطء لينقل بعدها نظراته للواقف بجواره ينتظر خروج القابعة بداخل الحمام منذ ما يقارب الساعة ، ليقول بعدها باتزان وهو ينظر لرأسه الصغير المرتفع
"اخبرني يا سامي ، ماذا حدث معكما بفترة غيابي ؟"
نظر له بعيون بريئة وهو يقول بتبرم حزين
"لقد كانت بخير قبل ان تبدأ معدتها تؤلمها ، ولم تخبرني عن سبب تألمها ، وبعدها ذهبت للحمام واخبرتني ان انتظرها دقائق وانقضت الدقائق ولم تعود"
تغضن جبينه بتفكير لبرهة قبل ان يقول بتصلب
"وكم مر من الوقت على مكوثها بالحمام ؟"
رفع اصابعه الصغيرة وهو يشير بكفيه معا قائلا بقوة
"خمسة وخمسون دقيقة"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يقول بعبوس قلق
"هذا اكثر من الطبيعي ! ما لذي يحدث معها يا ترى ؟"
امسك (سامي) ببنطال والده وهو يقول بخوف طفولي
"ماذا هناك يا ابي ؟ هل حدث مع معلمة روميساء مكروه ؟ فقد كانت تتألم كثيرا قبل دخولها للحمام !"
تلبدت ملامحه بجمود قبل ان يربت بكفه على رأسه الصغير قائلا بابتسامة حانية
"لا داعي للقلق يا بني ، فنحن لن نتركها بحالها حتى نطمئن بأنها بخير وبكامل عافيتها ، فهذه معلمة روميساء ليست اي شيء"
ردّ عليه (سامي) بسرعة وهو يبتعد عنه
"لا تقسو عليها يا ابي فهي حامل ، وتتألم بمعدتها بسبب الحمل"
ضيق عينيه للحظات قصيرة وهو يهمس بخفوت غائم
"حامل !"
صلب ملامحه بلحظة وهو يعود للطرق على الباب بقوة اكبر هادرا بصرامة
"إذا لم تجيبي علينا يا روميساء بغضون ثواني فأنا مضطر لفتح الباب عليكِ ، لذا إذا كنتِ تسمعيني اجيبِ فقط بكلمة واحدة ، روميساء......."
قطع كلامه الصوت الخفيض بتحشرج من خلف الباب امامه
"انا بخير ، دقيقة واخرج"
تنهد ببعض الراحة وهو يستمع لصوت تدفق الماء بالداخل دليل على وجود كائن بداخل الحمام ، ليبتعد من فوره عن الباب ما ان تحرك المقبض بثواني وهي تخرج لهم ببطء قبل ان تقف امامهما بالكامل .
اعتلت ملامحها ابتسامة شاحبة وهي تهمس بخفوت محرج
"ماذا هناك ؟ لقد كنت اختلي بنفسي لبعض الوقت ، أليس لديكم خصوصية بحياتكم ! لما هذه النظرات المفترسة تعلو وجوهكما ؟"
تنحنح (يوسف) بجمود وهو يبادر بالكلام قائلا بحزم جاد
"هل كل هذا الوقت يأخذه الشخص الطبيعي بالحمام ؟ وايضا لما لم تردين على هتافنا باسمك ! هل تعلمين كم مرة كررنا النداء على اسمكِ ولا حياة لمن تنادي ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تحيد بنظراتها بعيدا هامسة بهدوء جاف
"لقد اخذت وقتا طويلا بسبب تبلل ملابسي بمرش الماء وعدم اعتيادي على هذا الحمام ، وايضا هناك شيء يسمى بآداب دخول الحمام وانفراد الشخص مع نفسه ! ألا تعرف شيء عنها ؟"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يقول بهدوء عملي
"اجل اعرفها جيدا ، ولكنكِ بحمام منزلي واي ضرر او سوء من الممكن ان تتعرضي له سأكون المسؤول الأول عنه لأنكِ تحت سقف منزلي ، لذا إذا كنتِ تتألمين او تشعرين بسوء لا تكتميها فقط قولي لكي لا يحمل كلانا المسؤولية"
نظرت له بعينين خضراوين شاخصتين وهي تقول بعبوس مستاء
"شكرا لك على كرم ضيافتك يا سيد يوسف ، واعتذر على إزعاج حضرتك وتعريضك للخوف مما ستؤول له الأمور لو حدث لي مكروه بحمام منزلك ، فأنا لم اكن اعلم بأنك تهتم بتزعزع مكانتك بين الناس على حساب التفكير بحياة الناس الآخرين ، وبالمرة القادمة سأتأكد من اخذ الإذن منك قبل دخول حمام منزلك !"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يقول بهدوء بارد
"متهورة بالحكم كعادتك"
ارتبكت ملامحها بوجل وهي تتجاهل عبارته الاخيرة وكأنها لم تسمع ، ليقاطع تفكيرها الطفل الذي تعلق بساقيها وهو يقول بحزن عميق
"هل انتِ بخير يا معلمتي ؟ لقد اخفتنا عليكِ كثيرا وقد ناديتكِ عشرات المرات ! هل ما تزال معدتك تؤلمك ؟"
ابتسمت بهدوء وهي تمسح على رأسه قائلة بعطف خافت
"كل شيء بخير يا صغيري ، لا تخاف فأنا قد اصبحت افضل"
تدخل بينهما الذي عاد للكلام بجدية نافذة
"لماذا لم تجيبِ على هتافنا باسمكِ ؟ لقد نادينا على اسمكِ كثيرا ولكنك لم تجيبِ !"
زفرت انفاسها بضيق وهي تقول بامتعاض متعب
"ما بكم تسألون كل هذه الاسئلة الغريبة ؟ لقد كنت اشعر ببعض الانزعاج والتعب ولم استطع الرد عليكم على الفور ، لذا هلا اغلقنا الكلام عن هذا الموضوع ؟"
اخفضت نظرها على صوت الصغير المتعلق بساقيها
"لقد كنا خائفين عليكِ ، ولم نستطع ترككِ وحدك حتى نطمئن بأنكِ بخير"
انحرفت ابتسامتها بارتجاف وهي تغير الموضوع بسرعة قائلة بعملية
"حسنا لقد تأخرت كثيرا ، عليّ الرحيل الآن ، عن اذنكم"
ابعدت الصغير عن ساقيها بعجلة وهي تغادر بسرعة باتجاه غرفة الجلوس ، وما ان وصلت عند حقيبتها وهي تضعها على كتفها حتى وصل لها صوت الخطوات من خلفها يتبعها الصوت الجاد
"من الافضل ان اوصلكِ للمنزل بنفسي ، فقد تأخر الوقت بالفعل"
استقامت بمكانها وهي تستدير من فورها قائلة بابتسامة مهنية
"لا لا داعي لذلك يا سيد يوسف ، استطيع تدبر امري وقيادة سيارتي للمنزل ، فأنا املك سيارة ولا استطيع تركها هنا"
حرك كتفيه ببرود وهو يقول ببساطة
"حسنا إذا كان هذا يريحك فلا بأس بذلك ، انتبهي على نفسكِ جيدا"
اومأت برأسها بابتسامة متزنة وهي تقول بمودة
"شكرا لك على حسن ضيافتك ، واعتذر عن كل ازعاج سببته لكما ، ليلة سعيدة"
تابعها وهي تكمل سيرها خارج غرفة الجلوس قبل ان تختفي عن نظره تماما ، ليفيق بعدها على الكف التي امسكت بيده وصاحبها يقول بطفولية
"ابي انظر ماذا وجدت"
اخفض نظره بحيرة وهو ينظر للقلادة التي تدلت من كفه الصغيرة ، ليقطب جبينه بلحظة وهو يقول بعبوس جاد
"ما هذا يا سامي ؟ من اين وجدته ؟"
ابتسم ببراءة وهو يقول بحماس طفولي
"لقد وجدته تحت الطاولة التي كنا ندرس عليها ، ولا اعلم من اين جاء ؟"
ارتفع حاجبيه بتسمر لحظي وهو ينحني امامه ليلتقط القلادة من يده بحذر ، وما ان تمعن بشكل القلادة جيدا حتى همس ببهوت جامد
"اعتقد بأنني عرفت لمن هذه القلادة !"
استقام واقفا بسرعة وهو يقول للطفل الساكن امامه بأمر حازم
"انتظرني هنا ، والدك سيغيب لدقائق ويعود"
اومأ الطفل برأسه وهو يرى والده يغادر بسرعة باتجاه باب المنزل خلف المعلمة ، ليقول بعدها بابتسامة شقية وهو يشير بقبضة يده بالهواء باتجاه مسار خروجه
"يبدو بأن والدي يهتم بأمر معلمتي مثلما يهتم الرجل بزوجته"

نهاية الفصل........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن