الفصل السادس والثلاثون

173 5 3
                                    

كانت تجلس بتكور بغرفة مظلمة مغلقة من جميع الجهات وهي تهتز بأنين باكي تكاد تسمع صوت احتكاك اطرافها من البرد ، وكفها الصغيرة تمسح الدموع الغزيرة عن خديها المحتقنين بكل ثانية وتحتضن ساقيها بذراعيها تقييهما من البرد والخوف الموحش المستولي على روحها ، وشفتيها المرتعشتين باحمرار البرد تهمسان برجاء منكسر برهاب الظلمة
"ارجوك افتح لي الباب ، سأكون مطيعة فقط افتح لي الباب ، لا تتركني وحدي ، انا خائفة افتحوا لي الباب ، اشعر بالخوف والبرد افتحوا لي الباب"
ضمت ساقيها بقوة اكبر من تحت تنورتها القصيرة علها تبعث بهما بعض الدفء ، وهي تعود للهمس بأنين باكي يجرح القلب بشظايا متناثرة
"انا آسفة ، انا آسفة يا مازن ، لن اعيدها مجددا ، فقط عد يا مازن ، عد وافتح لي الباب ، اين انت يا ابي ؟ اين انت يا مازن ؟ ارجوكم افتحوا لي الباب ، ارجوكم عودووووا"
كانت تنشج ببكاء صامت وهو يهز جسدها الصغير بانتفاضات قصيرة خرجت عن ارادتها وفاقت احتمال قلبها الصغير ، لتنتفض بقوة اكبر ما ان تسلل بعض النور من الباب والذي فُتح بجوارها حتى غمرها بدفء احتاجت له بشدة ، لترفع بعدها مقلتيها العسليتين ببركتي الدموع السابحة بهما وهي تراقب الذي ظهر من خلف الباب .
اخفض رأسه نحوها ما ان لاحظ انكماشها عند زاوية الباب ، لينحني بسرعة امامها وهو يقول بهدوء اجش متسائل
"صفاء ! ماذا تفعلين هنا ؟"
اجهشت ببكاء عالي وهي ترتمي بأحضانه صارخة بنحيب متقطع
"بابا لقد كنت خائفة ، خفت كثيرا ، لما لم يسمعني احد منكم ؟"
احتضن جسدها الصغير المنكمش وهو يمسح على رأسها قائلا بصوت خفيض حنون
"لما الخوف يا صغيرتي ؟ انا موجود معكِ لا تخافي من شيء ! وايضا من الذي يتجرأ على ابكاء اميرتي الصغيرة ؟"
تعلقت بعنقه بيديها الصغيرتين وهي تهمس ببحة بكاء حزينة
"ولكنك تأخرت كثيرا ! وانا شعرت بالخوف وحدي ! لا تتركني وحدي يا ابي ، ابقى معي دائما ، فأنا اخاف بدونك"
مسح على شعرها وهو يقبل رأسها بحنان ابوي قائلا بصوت محب
"لا تقلقي يا حلوتي ، فوالدك بجانبك دائما ، ولن يتوقف عن حمايتك ورعايتك لآخر يوم بحياته ، لذا لا تخافي بعد الآن ، حسنا !"
ابتعدت عنه وهي تفرك عينيها بكفيها الصغيرتين هامسة بخفوت طفولي
"هل هذا وعد ؟"
اومأ برأسه بتأكيد وهو يقول بابتسامة جادة بتغضن
"اجل وعد ، والآن اخبريني من هو الذي حبسك بهذه الغرفة ؟ هل هو مازن مجددا ؟"
اومأت برأسها الصغير بحزن وهي تهمس بخفوت باكي
"لقد غضب مني لأني كسرت حاسوبه ، لذا حبسني بهذه الغرفة عقابا لي ، ولكني لم اقصد ، لم اقصد فعلها يا ابي"
تنهد بجمود واضح وهو يعود لاحتضان ابنته الباكية بمواساة ابوية ليقول لها بتحشرج حنون تدفق بصوته الثقيل
"لا تبكي يا صغيرتي ، فأنا الآن سأحصل على حقك منه ولن اتركه بدون عقاب ، فليس هناك من يبكي صغيرتي ويؤذيها وينجو من غضبي ، انتِ فقط ثقي بقوة والدك ولا تهابي من شيء"
اتسعت ابتسامة الطفلة بأمان فوق ملامحها الباكية بنعومة ، بعد ان اراحت رأسها على كتفه ورمت حملها الصغير على مصدر امانها بالحياة والذي دائما ما يعد ويفي بدون ان يخلف ، لتترك له سير الحاضر والمستقبل بيده بدون ان تخاف او تهاب ما دام هناك من يسندها بالخلف بجدار منيع لا يخدش ولا يتشقق .
انتقلت بلمح البصر لذكرى اخرى بعيدة كانت بها نفس الطفلة بعمر اكبر تجري بأقصى سرعة وزي المدرسة يتطاير من حول ساقيها النحيلتين ، وهي تحاول الهروب من مجموعة الكلاب التي كانت تطاردها وتصدر عواء بصوت مفزع ارهبها ودفعها للركض بسرعة المحرك النفاذ ، وكل ما يهمها ان تستطيع الافلات من قطيع الكلاب التي وجدتها فريسة سهلة لتصطادها وتنهش عظامها .
ما ان وصلت عند درجات سلم النزول حتى هبطت بسرعة لدرجة لم تستطع بها التحكم بقوة جسدها المشحون بطاقة الأدرينالين ، وهي تتعثر بقدمها التي التوت بخطواتها لتكمل نزولها بسقوط باقي الدرجات القليلة ، وما ان استقر جسدها على الارض الصلبة بثواني حتى شهقت بذعر وهي تنظر للكلاب التي تبعتها لهذا المكان وهي تستعد لشن الهجوم عليها بعواء دب الرعب بأوصالها بدون ان تستطيع المبادرة بأي حركة خمدت قواها .
اغمضت عينيها بشدة وهي تستنجد بصوت خافت وجل بعد ان وصلت لمرحلة لم يعد هناك مجال للهروب
"النجدة ! النجدة ! ساعدوني ، ارجوكم ساعدوني"
عصرت على جفنيها ما ان شعرت بصوت العواء يقترب منها بسرعة خاطفة ، وبلحظة كان الصوت يتوقف ويخفت ببطء ليحل مكانه الصمت التام ، وما ان فتحت عينيها مجددا حتى قابلتها صورة الرجل الواقف امامها والذي ظهر من العدم وهو يواجه قطيع الكلاب الضالة التي تراجعت للخلف بحذر وحيطة .
تنفست الصعداء بلحظات ما ان اختفى قطيع الكلاب الضالة بدون ان تفهم ما فعله الرجل لهم دب الرعب بهم ودفعهم للهروب بثواني ، ولكن ما استطاعت سماعه من بين تشتت وعيها وتشوش نظرها هو صوت طلق ناري بدون ان تتأكد تماما ، لينخفض بعدها الرجل لمستوى تستطيع به سماع صوته وهو يقول بخفوت عميق
"هل انتِ بخير ؟ هل تستطيعين النهوض !"
لم يتحرك بها ساكن فقط اظهرت حركة بجفن عينيها وهي تطرف مرتين تدل على وجودها معه ، لتشعر بذراعين تندسان تحت جسدها المكدوم قبل ان يرفعها بعدها بحرص وهي تطير بالهواء بسبب ارتفاع قامته ، وما ان تمسكت اصابعها بملابسه بضعف خائر القوى حتى وصلها صوته من جديد بهدوء اكثر حدة
"لا تقلقي انتِ بأمان ، ولن يصيبكِ مكروه ، فأنا احتاج إليكِ"
تغضنت تقاسيمها بتعب وهي تغمض عينيها على دموعها الاخيرة والتي تجمدت على رموشها مزيج بين الخوف والألم ، وهو كان آخر شيء شعرت به قبل ان يختفي ذلك الرجل الغامض من حياتها بدون ان ينتظر شكر او لحظة تعارف تاركا كل شيء بقسوة اعتادت عليها منه وتكيفت .
فتحت جفنيها بإرهاق وهي تعود لوضعها الحالي وللحاضر الذي ما تزال تعايشه ، لتمسح بعدها خديها الباردين ببطء مجهد بدون ان تزيح نظراتها عن السقف الجامد فوقها بحالة اللاشعورية التي اصبحت تتقمصها ، لترتسم ابتسامة باهتة على محياها وهي تهمس مع نفسها بنشيج خافت وكأنها تداري كسورها
"لقد خانوني جميعاً ! لقد تبين بأنهم جميعهم ممثلين متنكرين ! لم يعد لي امان بهذه الحياة ، لم يبقى لي سوى نفسي تحميني وتقويني منهم"
ابتلعت ريقها بارتعاش ما يزال يلسع روحها بحرارة وهي تستند على جانبيها لتحاول النهوض جالسة ، وما ان اعتدلت اخيرا بجلوسها حتى ضمت ساعديها امام جسدها بألم استقر بأحشائها من البكاء الطويل الذي استعر بجهازها الهضمي ، وهي التي لم تضع شيء بفمها منذ خروجها بالصباح الباكر لتقضي باقي يومها بين خوف وذعر وتخبط لم تعش مثله بحياتها التي كانت بعيدة عن كل هذا .
ما ان حادت بنظراتها جانبا حتى لمحت صينية فوق المنضدة الجانبية تحوي اطباق من المقبلات المختلفة ، لتدير عينيها بعيدا عنها بجمود وهي تنزل عن السرير بتثاقل حتى حطت قدميها على الارض الباردة ، وبثواني كانت تحدد مسارها باتجاه الحمام المرفق لتقوم بالوضوء والصلاة بعد ان فاتها الكثير من الفروض وحان الوقت لتعويضها بدون اي تكاسل ، وقد يعطيها هذا إشارة يهدي بها قلبها للسكينة ويرشدها للطريق التي عليها ان تخطو بها من الآن .
_______________________________
دخلت من بوابة الشركة وهي تدعو بقلبها ان يتيسر امرها هذه المرة وتنحل العقبات بطريقها ، لتتجه من فورها عند مكتب الاستقبال قبل ان تقف عند حافة المكتب وهي تقول بابتسامة رسمية
"مرحبا ، لقد جئت إليكم من اجل طلب التوظيف المعلن عنه بالصحيفة ، هل استطيع التقدم لها ؟"
نظرت لها رئيسة مكتب الاستقبال وهي تقول بعملية باردة
"نعم يا سيدتي ، طلب التوظيف لسكرتيرة بالشؤون المالية متاح لكل الأعمار والطبقات الاجتماعية ، يمكنكِ ارفاق اسمكِ هنا والانتظار حتى تحين موعد اجراء مقابلتك للوظيفة"
اومأت برأسها بابتسامة اتسعت بأمل وهي تهمس بامتنان
"اجل بالطبع ، شكرا لكِ"
اخرجت القلم من حقيبتها وهي تسجل اسمها على الورقة التي وضعتها السكرتيرة امامها ، لتقدم الورقة لها وهي تقول بخفوت مبتسم
"لقد كتبت اسمي كما طلبت مني ، هل هناك شيء آخر مطلوب مني ؟"
تناولت منها الورقة وهي تقول بابتسامة متزنة
"لا يا سيدتي ، فقط اجلسي وانتظري حتى يأتي الوقت الذي استدعيكِ فيه لإجراء المقابلة"
اومأت برأسها مجددا وهي تهمس بأدب
"بالطبع انا انتظر هنا ، لن اغادر"
سحبت نفسها من امامها وهي تجلس على الاريكة مقابل المكتب بهدوء ، لتضع حقيبتها فوق حجرها وهي تهمهم بدعاء وجل لا يفارق قلبها وشفتيها ، فقد اكتفت من الدوران منذ الصباح الباكر وقبل شروق الشمس حول الوظائف الشاغرة والتي بكل مرة تجد مطب او عقبة تفسد عليها مهمة الحصول على الوظيفة وكأن كل الوظائف تتآمر ضدها بحالة لم تحدث معها من قبل ، وهذه ستكون بذرة الأمل الوحيدة المتبقية لها بسباق الحصول على وظيفة مكتبية وألا ستضطر لتغيير مسار مهنتها بأكملها والتي تعبت سنوات بدراستها والحصول على خبرتها .
تنهدت بإرهاق وهي تدس الخصلات المتمردة بداخل حجابها الذي ارتخى قليلا بسبب الحركة والسير الطويل بين الاماكن وتحت اشعة شمس الصباح الحارقة ، لتفيق بعدها على صوت رنين هاتفها والذي قاطع افكارها وهي تخرجه من حقيبتها بلحظة ، وما ان ظهر لها اسم المتصل حتى انقلبت ملامحها بجمود صخري وهي تفصل الاتصال نهائيا .
زفرت انفاسها بهدوء وهي تحاول تصفية افكارها وذهنها بعيدا عن التشويش والتفكير بسلبية ، لتنتفض بلحظة لا إراديا ما ان سمعت السكرتيرة تناديها بصوت جاد عملي ، لتستقيم واقفة بلمح البصر وهي تتقدم من مكتبها بسرعة ، وما ان وقفت امام حافة المكتب حتى قالت بصوت ملهوف متحمس
"هل حان وقت اجراء المقابلة ؟ انا مستعدة لأي إجراءات......"
قاطعتها السكرتيرة بصوت بارد بملامح صلبة وكأنها ترميها بحجارة غير مرئية
"اعتذر يا سيدتي ، ولكن لم يعد هناك وظيفة شاغرة بشركتنا ، ابحثي بمكان آخر فنحن لم يعد لدينا مكان للتوظيف"
ارتفع حاجبيها السوداوين ببهوت وهي تحاول استيعاب كلامها المنعدم من الرحمة والذي نسف املها وحلمها بآن واحد ، لتقول بعدها بصوت مرتبك بوضوح مضطرب
"ما معنى هذا ؟ ألم تقولي من لحظة بأن الوظيفة ما تزال متاحة ! ماذا حدث الآن ؟"
رفعت السكرتيرة سماعة الهاتف وهي تقول لها بلا مبالاة اقرب للفظاظة
"هذا ما عندي يا سيدتي ، فقد وصلتني معلومات بأن الوظيفة الشاغرة لم تعد موجودة ، والآن عن اذنك لدي اعمال اخرى عليّ القيام بها"
ابتلعت ريقها بجفاف اجتاح حلقها فجأة وهي تومأ برأسها ببرود اقرب للانكسار هامسة بخفوت تجرد من الحياة
"شكرا لكِ على وقتك ، طاب نهارك"
غادرت بعدها بخطوات متثاقلة على خلاف دخولها القوي لتخرج محبطة منكسرة وبارقة املها الوحيدة قد تلاشت منها ، لتغضن جبينها بلحظة وهي تسمع طنين هاتفها ما يزال يخرج من كفها المحتجزة الهاتف .
تنهدت بإنهاك وهي تضع الهاتف بجانب اذنها لتجيب بنبرة قاسية ببرود
"ماذا هناك ؟ لماذا تتصل بي ؟"
اجابها الصوت بالطرف الآخر بأريحية واضحة
"صباح الخير يا موظفتي الجميلة ، لم ارى وجهكِ الصبوح منذ يومين ! وانا لم اعتد على فراقك كل هذه المدة الطويلة ، إلى متى تريدين الإطالة علينا بالغياب وبخصامنا ؟ فنحن نحتاج إليكِ ومديرك يفتقدكِ بشدة"
عقدت حاجبيها بغضب جامح لم تعد تستطيع كبحه وهي تقول بضراوة
"هل هذا سبب اتصالك ؟ لقد اتعبت نفسك بلا فائدة ! فأنا ليس لي عودة لشركتك ولا للعمل معك ، والافضل لك ان تعتاد على غيابي لأني لن اعود لك ، ولا تدعني اتهور اكثر بالحقد عليك وتصل الامور بيننا لمنحى آخر"
صمت لثواني قبل ان يأتيها صوته ببرود جليدي غير مبالي
"هدئي من نفسكِ يا فتاتي ، فأنا لا احبكِ وانتِ غاضبة ، وايضا من قال بأنني ارغب بزيادة حقدكِ عليّ او فتح حسابات اخرى بيننا ! انا اتصلت بكِ للصلح وحل هذا الخصام ، لذا ما رأيكِ ؟"
تنفست (سيدرا) بضجر وهي تقول بعبوس جاف
"لا شكرا ابقي هذه الفكرة لك وحاول ان تصلح نفسك بها اولاً فأنت تحتاج لذلك ، واما ما حدث بيننا فلن يتغير شيء ولن يصلحه احد ، فأنا قد خرجت من شركتك ومن حياتك نهائيا ، ويمكنك اعتبار ذلك الكف هدية الوداع بيننا ، والآن وداعا وهذه آخر مرة اقولها"
ردّ عليها (عمير) بسرعة بهدوء ساخر
"اجل ذلك الكف ! لقد كان الكف موفق ولكنه جاء بالوقت الغلط ، والذنب هو ذنبي انا لأني فاتحتكِ بهذا الموضوع المصيري بطريقة خاطئة تحتاج للتنسيق والتجهيز لها ، واعدكِ ألا يتكرر هذا الخطأ مجددا"
كانت تحك جبينها بجمود وهي تحاول تمالك نفسها هامسة بقنوط
"هل تتكلم بكامل قواك العقلية ؟ لأني حقا لم اعد افهمك ! انت......"
قاطعها (عمير) وهو يقول ببساطة
"هل ما تزالين تقفين امام شركة الشحن والاستيراد ؟"
ارتفع حاجبيها باستهجان وهي تهمس بسخط
"وما شأنك انت......"
قطعت كلامها بإدراك وهي ترفع حاجبيها اكثر حتى وصلتا لعنان السماء ، لتهمس بعدها بخفوت مشتد بحدة
"كيف عرفت مكاني ؟ هل انت تراقبني ؟ كيف تتجرأ !"
ردّ عليها بسرعة بابتسامة متسلية
"وقد طردتِ من هذا العمل ايضا صحيح ؟ إلى متى ستستمرين بالتنقل بين الوظائف بدون نتيجة ترجى !"
تلقفت انفاسها بتسارع زادت التوسع بمقلتيها السوداوين وهي تقول باستنكار حاد
"هل انت السبب بكل هذا ؟ هل تحاول التلاعب بحياتي وبلقمة رزقي ؟ لماذا تفعل هذا بي ! ما لذي تريده مني بالضبط ؟ وما لذي ستجنيه بهذه الحركات !"
ساد الصمت بينهما لوهلة قبل ان يصلها صوته بهدوء مريب بعث القشعريرة بجسدها
"لا اريد منكِ شيء ولم افكر يوما بالتلاعب برزق احد وبدخل عائلته الوحيد ، فأنا لست بهذه الدناءة والحقارة حتى افعلها بأحد ، فقط مجرد عتاب قصير المدى وعقاب على قلة ادبكِ مع من هو اكبر منكِ ، وحتى تعودي موظفتي التي اعرفها لن اتوقف عند هذا الحد ، لذا ارجو منكِ ان تفهمي موقفي يا سيدرا !"
غطت على خدها بيدها الحرة وهي تنظر من حولها بحيطة تلبستها بلحظة ، لتقول بعدها من بين اسنانها بضيق شديد
"ما لذي تهدف للوصول له بالضبط ؟ لما لا تفهم بأني قد خرجت من شركتك وقدمت استقالتي منها ! هل تفعل هذا مع كل موظف خرج من شركتك بكرامته ؟ ام هو مرض الانتقام لرجولتك التي سحقت تحت قدمي ! وصدقني لو يعاد ذلك المشهد مرة اخرى لن اتوانى عن صفعك بقوة اكبر عن المرة السابقة ، فهذا ما يستحقه امثالكم الذين يظنون كل شيء بالحياة سهل المنال !"
تنفست بقوة وهي تشدد بقبضتها على خدها ما ان وصلها صوته البارد بدون اي تأثر
"ما اريد الوصول له هو انتِ يا سيدرا ، ألم يكن هذا واضحا منذ اليوم الأول الذي قُبلتي به بشركتي ؟ ولكنك دائما ما تصعبين عليّ هذه المهمة كما تفعلين معي الآن ، لو انكِ رضختي لطلبي منذ بداية الطريق لما وصلنا لكل هذا ولما عانى احد منا"
ضغطت على اسنانها بغيظ وهي تنفض كفها بعيدا قائلة بجمود حازم
"كفى يا سيد عمير ، لقد تحملت عجرفتك وغرورك كثيرا ، وانا لست من النوع الذي يرضخ لهذه التصرفات التي اظهرت معدنك الحقيقي ، ويؤسفني ان اخبرك بأنك قد فشلت بكسري وبتأديبي بعقابك الساذج ، وحتى لو اغلقت كل ابواب الشركات بوجهي ودمرت مورد عائلتي ، فسأجد مئة طريقة لأخرج بها نفسي من هذا المأزق بدون مساعدتك او مد يد العون لك ، فأنا ابني نفسي لوحدي وازرع ما حصدته بيديّ"
غيم صمت قصير بينهما قبل ان يقول بالطرف الآخر بصوت جاد تبدل بغموض
"لو كنت مكانكِ لما قلت هذا الكلام ! فهذا الذي تقولينه كبير جدا وقد يكلفكِ الكثير ! واقصد بكلامي اكثر من مجرد تدمير عائلتك وموردها"
زمت شفتيها بارتجاف احتل جسدها وهي تهمس بعبوس قاتم
"من اين لك بكل هذه الثقة ؟ ألم تسمع ما قلته لك ! لن ارضخ لك ولن اعطيك ما تريد......"
قاطعها بلحظة ببرود قاسي جمدها بمكانها
"وماذا عن الامور الاخرى المستترة بحياتك ؟ ماذا لو ظهر جانب حياتك الآخر ! انا متأكد بأن لا احد يعلم عنه سوى عدد قليل جدا"
تحولت رجفة شفتيها لانتفاض تخلل بمفاصلها وهي تمسح على جبينها بتعرق لحظي ، لتهمس بعدها بصوت تحشرج بألم
"ماذا يعني هذا الكلام ؟ هل تريد ان تهددني بحياتي الماضية ! هل تملك شيء تمسكه ضدي ؟"
وصل لها تنفسه الهادئ الذي لعب بوتيرة اعصابها وهو يتبعها بالهمس بأسف ساخر
"لم اكن اريد ان اصل لهذه النقطة واهددك بهذه الطريقة القاسية ! ولكنك لم تتركي لي خيار آخر ، وانتِ الملامة بكل ذلك عندما تطاولتِ على مديرك وعاقبته اقسى عقاب ، لذا انا سأردها لكِ بالمثل بطريقة تفهميها ، وقد اصبتِ بكلامكِ بالفعل فأنا املك ادلة ضدك ستدمر حياتك وحياة حبيبك المجرم ، وتعلمين جيدا عواقب ما اتكلم عنه !"
عضت على طرف شفتيها تمنع شهقات ضعفها الخائن من الخروج على اسماعه لكي لا يستغل تلك النقطة لصالحه ، لتأخذ بعدها عدة انفاس عصيبة وهي تقول بقوة ظاهرية
"وكيف تريدني ان اصدقك بهذه البساطة ؟ قد تكون تحاول اثارة ذعري لا اكثر او استدراجي للوقوع بفخك ! ما لذي يضمن لي بأنك لا تخدعني !"
ضحك بصوت بارد اثار حيطتها اكثر وهو يقول بهدوء جاد
"كنت اعلم بأن هذه ستكون ردة فعلك ، فأنا اعلم جيدا من تكون سيدرا خاصتي ، ومن اجل هذا الامر انا سأرسل لكِ مقاطع بها ادلة تثبت كلامي ، وانتِ ستحكمين عليها بخبرتك ، ولكن لا تنسي لديكِ مهلة دقائق فقط قبل ان اراكِ امامي بمكتبي ، نهارك سعيد"
اخفضت الهاتف عن اذنها بعد ان فصل الخط وهي تفتح بأصابع مرتجفة صندوق الرسائل الخاص بها ، لتظهر لها صور تذكرها جيدا بيوم عزيمة مديرها لمنزلها والتي انتهت برؤية (اوس) عند باب البناية ومشاحنتها معه ، فقد كانت هذه الصور تشرح كل شيء حدث بذلك اليوم الكارثي والتي تظهر للأعمى ما يكمن بينهما ، وهو ليس ما جمد الدماء بعروقها وبعث الاهتزاز لحدقتيها بل هناك مقطع فيديو قصير اختلى من الجميع وظهر به فقط المجرم (اوس) ، وتقصد المجرم بكل معنى الكلمة فقد كان هناك مسدس بيده ويصوبه فوق رأس رجل يركع امامه يتوسل له ان يرحمه فقط تنظر من صورة متحركة بدون صوت ، وبلحظة لا شعورية كانت تخرج من الفيديو قبل انهائه وهي تغلق الهاتف بسرعة ترحم روحها من تلك المشاهد العصيبة التي لم تستنزف روحها وحسب ، بل طعنت قلبها وآلمته مشابه للحظة اكتشافها حقيقة الرجل الذي وثقت به واحبته اكثر من نفسها .
تنفست بقوة وهي تشدد بقبضتها على الهاتف الذي هبط بجانب جسدها ، وما ان قوت نفسها وحجبت كبريائها بعيدا عن عينيها حتى كانت تقف بطرف الطريق وهي توقف اقرب سيارة اجرة تأخذها لمنفاها او بالأحرى لقاتل قلبها والذي لن يكتفي بطعنه بل بدفنه للأبد .
______________________________
جرت بسرعة لداخل الشركة وهي لا ترى شيء امامها سوى الصور التي انغرست بذهنها وانطبعت بعينيها ، وبلحظات كانت تلهث امام باب المكتب وهي تقف بثبات بشق الانفس لم يخفي الاضطراب بوجدانها ، لتمسك بعدها بمقبض الباب بقوة وهي تدخل من فورها بدون اي مقدمات قبل ان تتسمر لوهلة وهي تقابل الواقف امامها مستند على حافة المكتب وكأنه يتوقع مجيئها بأية لحظة ويستعد للمواجهة .
تمسكت بإطار الباب بدافع غريزي ما ان قال الواقف امامها بابتسامة مستريحة
"لماذا لم تطرقي الباب قبل دخولك ؟ ولكن لا بأس بما انكِ قد وصلتي وضمنا عودتك فسأتغاضى عن هذا الخطأ ، فأنتِ لست موظفة عادية عندي وخاصة عندما تتحدد مكانتك بعد زواجنا"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها بانفعال دبت الروح بجسدها وهي تتقدم بعيدا عن الباب باندفاع ، وما ان وقفت امامه حتى لوحت بالهاتف بيدها وهي تهمس من بين اسنانها بغيظ مكتوم
"ما معنى كل هذه الصور ؟ هل كنت تراقبني سابقا ! من اعطاك الحق بمراقبة حياتي ! من تكون حتى سلطت نفسك على حياتي ؟"
انحرفت ابتسامته بخبث وهو يستقيم بعيدا عن المكتب قائلا ببساطة
"انا اراقبكِ ! لا لم افعلها من قبل حتى لحظة دخول قريبك بالمنتصف ، هل تذكرين يا سيدرا عندما عرفتني عليه على اساس قريبك القادم من الخارج حديثا ؟ ولكنه بالحقيقة قادم من ماضي اكبر بكثير مما تخيلت ، والحق عليكِ بعدم اخباري بالحقيقة منذ البداية"
اخفضت الهاتف بقوة وهي تقول بخفوت حاد
"ماذا تقصد من هذا التصرف ؟ ولماذا تلاحق حياة اوس ؟ ما لذي ستجنيه من استهدافه !"
ابتسم بغموض وهو يرفع يده نحوها قائلا بخفوت مشتد
"من اجلكِ انتِ يا فتاتي ، انتِ من دفعني لمراقبة حياته ، وانتِ من دفعني لافتعال مثل هذه التصرفات التي تناقض مبادئي ، يعني انتِ السبب !"
تراجعت بسرعة تلقائيا وهي تقول بغضب افترس ملامحها
"إياك وان تحاول ملامستي او ان تناديني فتاتي ، فيبدو بأن تلك الصفعة لم تفي بالغرض وتحتاج لأخرى لتتعلم حدودك جيدا ، فأنا لست من الفتيات اللواتي يتلاعب معهن"
رفع يده لرأسه وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"بالطبع لست كذلك وألا لما اخترتكِ شريكة حياتي ، لا تقلقي لن اقترب منكِ ولن ألامسك حتى يكون برضاكِ ، وكم انا ملهوف للوصول لتلك اللحظة الحاسمة والتي صبرتني عليكِ فترة طويلة !"
ابتلعت ريقها بصعوبة وكأنها تبتلع صخرة علقت بمسرى تنفسها وجثمت على صدرها ، لتتمالك نفسها بلحظات وهي تقول بثبات جاف تحسد عليه
"وكيف التقطت كل تلك الصور ؟ هل كنت تراقبني طول تلك الفترة ! وماذا عرفك بحياة اوس ؟ وكيف سجلت مقطع الفيديو !"
ارتفع حاجبيه بخفة وهو يقول بابتسامة جانبية
"هل تتوقعين مني ان اجيب على كل هذه الاسئلة ؟"
اخفضت عينيها بإنهاك سيطر على عضلاتها وهي تهمس بامتعاض خافت
"اريد ان اعرف كل شيء ، وهذا الأمر يهمني لأقرر كيف اتصرف بحالتي"
اومأ (عمير) برأسه باهتمام وهو يقول بجدية
"لقد شككت بأمركِ منذ مقابلة قريبك المزعوم بالشارع بذلك اليوم ، وعندما رأيتكِ برفقته امام بناية منزلك بيوم العزيمة التي اقامت على شرفي تأكدت ظنوني وعرفت بأن ما بينكما اكبر بكثير مما هو ظاهر ، كنت بوقتها لم اغادر بعد وشهدت على تلك اللحظات التي سُجلت على هاتفي عند الحاجة ، وبعد استعلامات وتحريات عرفت ماضي ذلك المجرم وكل شيء اردت معرفته عنه ، وفقط انتظرت الفرصة المواتية لإظهار تلك الأدلة واستخدامها لصالحي ، وكل هذا من اجل نيلي هدفي السامي بالزواج وبناء عائلة مع التي رأيتها زوجة مثالية تليق بي"
اشاحت بوجهها جانبا بشحوب طغى على بشرتها السمراء بوضوح ، لتشدد بعدها على قبضتيها بقوة وهي تقول بجدية
"وماذا عن مقطع الفيديو ؟ كيف حصلت عليه !"
حرك عينيه بعيدا وهو يقول بجمود
"لن استطيع ان ادلي لكِ بذلك السر ، فهذا الأمر ليس لكِ علاقة به"
نظرت له بسرعة بارتعاش استبد بها وهي تقول بانفعال لا إرادي
"ماذا تقصد ؟ كل شيء يتعلق بأوس لي علاقة به ، لذا تكلم بوضوح وتوقف عن المراوغة معي"
تغضنت ابتسامته وهو يميل بالقرب منها قائلا بصلابة قاسية
"لا تستطيعين ارغامي بهذه الطريقة على قول ما لا اريد الإفصاح عنه ، وايضا الموضوع الذي نريد التكلم عنه يخص حياته بشكل خاص ، لذا فكري بمصيره بعد ان ينتشر ذلك المقطع بكل المواقع ، اقل شيء سيحصل عليه هو سجن مؤبد إذا استطاع النجاة من حبل المشنقة !"
اتسعت مقلتيها بجزع زرعه بداخلها وهي تهمس من فورها باستنكار مدافع
"مستحيل لن يحدث شيء مثل هذا ! هو لم يقتل الرجل ولم يرتكب اي جرم بأحد ، ذلك الفيديو مزيف وتأليف بتلفيق انا واثقة من ذلك !"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهو يقول بابتسامة جادة
"لقد رأيتِ الفيديو بعينيكِ لا تستطيعين ان تنكري او تكذبي ذلك ، وكما يظهر بالفيديو هو قتل الرجل وحكم هذه الجريمة اما الإعدام او السجن لمدى الحياة ، وانتِ تعلمين جيدا بأنه من الاساس مجرم ويفعل هذه الأمور كهواية يومية"
عبست ملامحها بارتجاف وهي تشدد على قبضتيها قبل ان تهمس على مضض بخفوت متوسل
"ارجوك اترك اوس وشأنه واخرجه من حساباتك وخططك بالنيل مني ، فهو ليس له علاقة بخصامنا ونستطيع حلها بدون ادخاله بالمنتصف ، ارجوك لا تحاول اذيته بذلك الفيديو لا تدمر حياته !"
استقام (عمير) بوقوفه وهو يقول بتعجب ساخر
"عجباً ! تفكرين بهذه الاوقات بمصير حبيبك القاتل بدل ان تفكري بمصيركِ بعد انتشار تلك الصور ! هل لهذه الدرجة تحبينه وتخافين على حياته ؟"
رفعت (سيدرا) وجهها بإيباء وهي تقول ببرود واثق
"اجل احبه اكثر مما تتخيل ، ولكنك لن تفهم ذلك الحب لأنك شخص مجرد من المشاعر والاحاسيس !"
تجمدت ملامحه للحظات بخطوط قاسية قبل ان يعود للكلام بجفاء بارد
"حسنا يا ملكة المشاعر والاحاسيس ، انا الآن اضع مصيركِ ومصير حبيبك الآخر بين يديكِ ، وانتِ من ستقررين من سيموت ومن سيحيى بهذه الحياة ، واتمنى ان تختاري القرار الصائب الذي ينجي الجميع ويكون لصالحهم"
اومأت برأسها للأسفل بضعف طاف على محياها وهي تهمس ببهوت
"امهلني يومين لأفكر بالقرار الذي عليّ اتخاذه ، وبعدها سوف ابادر بالقدوم إليك لأفصح لك بقراري النهائي"
اتسعت ابتسامته بانتشاء وهو يميل بجذعه مجددا حتى اصبح بالقرب من وجهها ، ليقول بعدها بفحيح ماكر بسعادة خفية
"وانا بانتظار قراركِ يا سيدرا ، مثل كل مرة انتظرتكِ بها بكل صباح عمل ، وكم اشتقت لتلك الأيام الجميلة التي حرمتني منها ليومين"
تراجعت خطوتين للخلف بحيطة وهي تهمس بوجوم
"سأتأكد بعدم جعلك تنتظر طويلا لكي لا تضجر مني ، واتمنى ان تجد احد آخر يحل مكاني بالعمل ليمتعك بصباح مشرق"
رفع رأسه نحوها ما ان انسحبت لخارج المكتب وهي تهمس ببرود رسمي
"عن إذنك الآن ، طاب يومك"
ردّ عليها (عمير) من فوره بصوت مرتفع قوي دفعها للفرار خارج المكتب
"لن يحل احد مكانكِ بالعمل فهذا المكان سيبقى فارغ من اجلكِ وهو ينتظر عودتك يا سيدرا ، فلا تتأخري علينا"
خرجت من المكتب باتجاه الممر وهي تسير بتسارع متعثر تكاد تقع على وجهها بدون ان تأبه بما يدور من حولها ، لتمسح بعدها دمعة خائنة سقطت على وجنتها خرجت بعجز لم تعد تستطيع التحكم به ، وكل الهموم واثقال الحياة تراكمت بكفة وحياة (اوس) بكفة اخرى من الميزان بدون مراعاة لقلبها الجريح او تفكير بالحِمل الثقيل الذي هد مقدرتها على الوقوف او الثبات اكثر .
______________________________
افاقت من نومها الهانئ على عالمها الجديد وهي ترمش بعينيها عدة مرات حتى اتضحت صورة المكان من حولها والذي تحول لنقطة التقاء العشاق بأول ليلة ساحرة بينهما وكأنها ولادة زواج جديد ، لتغطي بعدها عينيها بكفها من شعاع الشمس المتسلل بخجل من النافذة وهي تبتسم بحياء حرك الدماء الحارة ببشرتها الثلجية التي اخذت بالتشرب باحمرار خاص بذكريات ليلتها التي لا تضاهي اي ليلة ، فقد طبع هذا الاتفاق بين جسديهما بعلاقة حب متبادلة اتحدت بينهما كل ذرات الهواء والشحنات الطردية والعكسية التي كانت تعوق عليهما ، حتى لم يعد هناك منفذ او سبيل للفرار من حتمية علاقتهما المكتملة عاطفيا ومنطقيا .
اخفضت كفها ببطء وهي تفتح المجال لخيوط الشمس لتغمر وجهها بحرارتها العالية التي زادت ضخ الدماء بقلبها ودبت القوة بخمول جسدها ، اتسعت حدقتيها البحريتين الناعستين بثواني بغمامة آسرة ما تزال تطوف على محياها الغارق بشعاع الشمس المداعبة التي اصبحت تتهامس برسائل الحب برقة عذبة ، وما ان مالت على الوسادة المجاورة لها حتى سقطت نظراتها على المكان الفارغ ألا من ورقة مطوية استقرت على ملاءة الوسادة وكأنها تلقي عليها تحية الصباح بطريقة كتابية ذكرتها بعصر كتابات وروايات العشاق .
مدت يدها وهي تمسك الورقة المطوية لتقربها منها وهي ترفع نفسها بمرفقيها لتعتدل جالسة على ظهر السرير ، فتحت بعدها الورقة بالكامل وهي تتمعن بالأسطر المكتوبة امامها بتركيز شديد وكأنها ترتشف كل حرف بها بدراسة مجهرية لا تخفي السعادة التي رفرفت بفؤادها
(صباح الخير يا ساحرتي الشريرة التي جعلت ليلتنا من اجمل الليالي التي قد تمر علينا ، وقد فكرت بمئة طريقة اشكرك بها على هذا العطاء الجديد الذي تقدمنا به بعلاقتنا الزوجية والحياتية ، فكما اخبرتكِ دائما بكل تنازل يحدث بين الطرفين نتقدم نحو التفاهم والتجاذب بقانون علاقتنا التي بنيت على اساس ضعيف غير ثابت ، وانا اهنئك على هذا التفاني والتضحية لثبات علاقتنا الجديدة والتي يمكنني القول بأنها قد اكتملت واحرزت النجاح بها ، وبمكانتي استاذك المجتهد الذي ضحى بكل سنوات عمره بربط نفسه بكِ لمدى الحياة اعلن بتفوقك وحصولك على درجة تؤهلك لتكوني زوجة معطاءة تناسب شادي الفكهاني . واعتذر على عدم اخذ دور الزوج الوفي للنهاية فقد طرأ عليّ عمل عاجل بعد تغيبي ليومين عن العالم ، لذا اتمنى ان تفي هذه الرسالة بالغرض وتأخذ مكاني بمشاركتك صباحك المشرق . وانا اجزم بل واثق بأنكِ ستكونين الآن تسخرين من فكرة كتابة رسالة وتقولين : يا للسخافة ! ولكنها افضل ما جاء ببالي فقد اصبحت كل الافكار المجنونة والمستحيلة تخطر على بالي بعد ان اصبت بعدوى جنونك ! فقد اصبح اهم شيء عندنا وشغلنا الشاغل هو الحصول على رضاكِ مهما كانت الطرق لذلك ، وسؤالي الوحيد لكِ هو هل انتِ راضية يا ألماستي ؟ انتظر اجابة هذا السؤال عند عودتي إليكِ ، فلا تبخلي عليّ بالجواب .
والآن اودعكِ لتكملي صباحك الجميل ولكن بدون مشاكسة او اعمال شريرة ! احبكِ يا ألماسة شادي الفكهاني)
عضت على طرف ابتسامتها بكبت بدون ان تستطيع منع الضحكة التي غدرت بها وخرجت من فرط مشاعرها الحالية ، لتهمس بعدها بخفوت مرح وكأنها تكلم الورقة بحالة جنون نادر
"العاشق روميو شادي الفكهاني !"
غطت فمها بكفها وهي ما تزال تهيم بكلمات الرسالة تكررها برأسها بسرية وكأنها تحلل الكلمات لرموز كما يفعل عقلها بدراسة ذاتية ، اخفضت كفها عن شفتيها وهي تخرج زفير متهدج بارتياح يرافقها بسمة طفيفة بانتشاء السعادة الوليدة .
بعدها بلحظات كانت تنزل عن السرير وهي تمد ذراعيها عاليا بتكاسل وكأنها تتلوى مثل قطة متخمة ، لترمي خصلاتها الطويلة بتشعت لخلف كتفيها بهدوء وهي تجر خطواتها بقدميها الحافيتين بعيدا عن السرير باتجاه الخزانة ، وما ان اصبحت الملابس بحوزتها حتى حملتها خطواتها نحو الحمام المرفق .
بعد مرور دقائق كانت ترتدي سترتها الجينز فوق قميصها الفضي بعد ان عادت لملابسها الأولى التي خصصت لركوب الدراجة وهي نفسها التي ستعود بها من رحلتها التي دامت ليومين....لتجمع بعدها شعرها الطويل ذو الخصلات المبتلة معا لينعقد على هيئة ذيل حصان...وما ان انتهت حتى امسكت بالخاتم الألماسي والذي افتقدته فترة طويلة وهي تعيده لمكانه ببنصر اصبعها كعلامة زواج جديد....وما ان تلاقت نظراتها مع صورتها بالمرآة حتى ابتسمت لها بسعادة حفرت بتقاطيع ملامحها الرخامية التي توردت بحياء وهي تمزج بين الغرور والنشوة والهيام...وهي لا تصدق ان تصل لهذه المرحلة من المشاعر والاحاسيس التي عصفت وتدفقت بحدقتيها البحريتين بوضوح وكأنها قد اصيبت بلفحة رياح الربيع....من كان يظن بأن يحدث كل هذا بحلول الأشهر الماضية والتي مرت صيفاً وخريفاً وشتاءً وربيعاً حتى اوشكت على اتمام السنة منذ دخولها لحياة عائلة الفكهاني التي كانت مفقودة ومبتورة بحياتها...وها هي قد اقتربت من دخول اشهر الصيف والتي مرت عليها من قبل بذبول وجفاف جردها من الحياة والذات....ولكنها هذه المرة ستدخل عليها بنشاط وبسعادة حقيقية بعد ان اندملت جروحها وكسورها بشروق جديد...فهل هذه بداية قصتها بعد ان خرجت من اسرها ام خدعة لاقتراب النهاية الحتمية التي تحايلت عليها ونصبت لها فخ من ورود ؟!
حركت رأسها بقوة تنفض تلك الافكار عن ذهنها لتستند بكفيها على سطح طاولة الزينة ، لتهمس لنفسها بزرع القوة بداخلها وحقن السعادة بدمائها عنوة
"ستكونين بخير يا شريرة ، كل شيء سيكون بخير ، هذا ما عليكِ التأكد منه"
تنهدت براحة وهي تلقي بذيل حصانها للخلف بخفة قبل ان تتجه لخارج الغرفة ، لتتوقف خطواتها لوهلة وهي تعود ادراجها نحو السرير ، التقطت بعدها الورقة المهملة من فوق ملاءة الوسادة وهي تهمس لها باستعطاف
"لقد كدت انسى امركِ"
قربتها من شفتيها وهي تقبلها بسعادة كبيرة وكأنها تهديها قبلاتها الخاصة التي تكنها لصاحب الرسالة الغائب ، لتطويها بعدها بعناية وهي تدسها بجيب بنطالها الجانبي بحرص ، لتربت بعدها على جيبها وهي تهمس بخفوت واثق
"لا تقلقي يا حبيبتي ، انتِ بأمان معي مثل حالة صاحبكِ تماما"
انطلقت بعدها خارجة من الجناح بخطوات رشيقة شبيهة بفرس جامحة تحررت عن نطاقها ، وبلحظات قصيرة كانت تسير امام مدخل الفندق وهي تنوي نزول درجات المدخل ، لتتوقف بعدها عن الاندفاع بلحظة ما ان ظهر امامها من اوقف طريقها وهو ينحني باحترام قائلا بتهذيب
"صباح الخير يا سيدة ماسة ، لقد كنت بانتظاركِ ، فأنا المسؤول عن مهمة إيصالك للمنزل"
ارتفع حاجبيها باستخفاف وهي تهمس بخفوت حائر
"ومن الذي اعطاك هذه المسؤولية ؟"
ردّ عليها بهدوء جاد
"السيد شادي هو من طلب مني ان اهتم بإيصالكِ للمنزل بنفسي واكون سائقك الخاص"
اومأت برأسها ببرود وهي تستطيل بالنظر للسيارة السوداء المركونة بعيدا ، لتعود بالنظر له وهي تقول بابتسامة فاترة
"لا بأس ، هل يمكننا الذهاب الآن ؟"
اومأ برأسه بتأكيد وهو يفرد ذراعه لها قائلا بأدب
"اجل بالطبع ، تفضلي يا سيدتي"
مرت من امامه وهي تسير باتجاه السيارة ببساطة ، وما ان دخلت بالكرسي الخلفي والسائق بالكرسي خلف المقود حتى قالت له بهدوء عملي
"لا اريد الذهاب للمنزل الآن ، هناك مكان اريد ان اقصده ، هل يمكنك ان توصلني إليه ؟"
ارتبكت ملامح السائق وهو يقول بارتياب
"ولكن السيد شادي قال......"
قاطعته بجمود وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بتسلط
"اتركني من شادي الآن ، فنحن لن نخبره بشيء ، وإذا كنت لا تستطيع يمكنني الذهاب بسيارة اجرة وننتهي من هذه المسألة"
اومأ السائق برأسه برضوخ وهو يشغل محرك السيارة قائلا
"حاضر يا سيدتي ، انتِ فقط اخبريني بالوجهة وانا سأوصلك لها بنفسي ، بعدها نعيدك للمنزل"
حركت رأسها باتجاه النافذة وهي تهمس بابتسامة هادئة بارتياح
"وهذا هو المطلوب"
تحركت السيارة بعيدا عن الفندق والذي بدأ يلوح لها من بعيد وهي تودعه بنظراتها الغائمة مثل شيء جميل عاد ليختبئ خلف ضباب كثيف وحصون عالية منيعة .
_____________________________
كانت جالسة امام المرآة وهي تعقد شعرها فوق رأسها بإحكام برباط مطاطي سميك ، لتخفض يديها بهدوء وهي تعدل من ياقة قميصها العملي بلون الاخضر الشاحب بأكمام وازرار بيضاء ، لتتسمر يديها لوهلة وهي تلامس مكان العقد المفقود والذي انتبهت لأول مرة اختفاءه من موضعه حول عنقها ، لتشتت بعدها نظراتها من حولها وهي تبعثر الادوات من على طاولة الزينة بتخبط احتل كامل جسدها .
زفرت انفاسها بارتعاش وهي تحاول تهدئة توترها والذي اوقف عقلها عن العمل وزاد تخبط يديها وبعث رجفة خاطفة بكيانها ، لترفع قبضتها لصدرها باستكانة وهي ترفع اصبع واحد تسند ذقنها به هامسة بتفكير عصيب
"اين يمكن ان اكون قد اضعت القلادة ؟ هل يعقل بأن تكون قد سقطت بالطريق ؟ او سقطت بالمدرسة ! او بالسيارة ! او بالمنزل !"
زفرت انفاسها بتعب وهي ترفع قبضتيها عاليا لتضرب على جانبي رأسها بصوت مكتوم قبل ان تهمس بنشيج منفعل
"سحقا لكِ ! سحقا ! كيف اضعته يا بلهاء ؟ كيف سأجده الآن ؟"
تجمدت قبضتيها بالهواء ما ان اقتحم تخبط افكارها الصوت الهادئ بنبرة رجولية خشنة
"ما لذي يزعج المعلمة روميساء ؟ هل يعقل بأنها قد فقدت عقلها من تدريس العفاريت الصغار ! فليس هناك شيء يملئ وقتكِ ويشغلكِ غيرهم !"
تألقت ابتسامتها تلقائيا بجمال فوق ملامح بيضاء تشربت بتورد خاص به ، وما ان ظهر خلفها بالصورة التي ضمتهما معا حتى قال بابتسامة التوت بمكر
"انا اقترح عليكِ اخذ قسط من الراحة والابتعاد عن حياة تعليم الصغار المزعجين ، لكي يبقى عقلك برأسكِ ولا يفقدوكِ إياها ، فلن اتحمل ان ارى زوجتي العاقلة تضرب رأسها مثل المجانين"
اخفضت قبضتيها بسرعة وهي ترسم العبوس على ملامحها هامسة بوجوم مزيف
"هذا هو ما تسعى إليه اعفائي من كل مهامي العملية والحياتية من اجل المكوث امام عينيك بدون ان افارقك للحظة ، يا لها من طريقة ذكية باعتقالي بمنزلك لكي اتوفر عند رغباتك بالوقت الذي تشاء ! فهذه امنيات كل الازواج المتملكين والواقعين بحب زوجاتهم ؟"
تغضنت تقاسيم وجهه وهو يريح كفيه على كتفيها ويسند ذقنه فوق رأسها قائلا بصوت خفيض شغوف
"لقد اصبت بكلامكِ يا معلمة روميساء ، فأنا بالفعل شخص متملك مغرم بزوجته ويشتاق لها بكل دقيقة ، ماذا افعل بهذا الاشتياق الخائن والذي اصبح مثل المرض يعذبني بكل دقيقة واخرى بدون ان اجد علاج لهذه المشكلة ؟ فهل تملكين انتِ العلاج يا معلمتي الجميلة ؟"
عضت على طرف شفتيها بضحكة مكتومة وهي تحني رأسها قليلا من الثقل الملقى عليه ، لتحرر انفاسها بنشيج خافت وهي تهمس بضحكة تغلبت عليها
"العلاج هو ترك زوجتك وشأنها والاعتياد على هجرانها لأنها سبب هذا الداء الذي لا يوجد له دواء"
زمجر بأنفاس حارة من بين اسنانه وهي يطبع شفتيه على شعرها الناعم المشدود قائلا بخفوت حاد
"تطلبين المستحيل يا روميساء ، فأنا اُفضل الموت بهذا الداء على الابتعاد عنكِ ميل واحد ، وانتِ مجبرة على التأقلم مع هذا الداء"
اتسعت ابتسامتها بسعادة لامست خضار حدقتيها المستديرتين وهي تميل برأسها جانبا بعيدا عن حرارة انفاسه ، لتقول بعدها ببسمة هائمة طافت على ملامحها
"حسنا موافقة طالما ستسير على القوانين التي اقررها انا ، وانا اعدك ان نتخطى هذا الداء سويا ، ما رأيك ؟"
تنفس بانفعال متهدج لفح عنقها الطويلة بحرارة حركت شعيرات عروقها المرسومة على بشرتها الشاحبة ، وبدون ادنى انتظار كان ينقض على عنقها المكشوفة وهو يدمغها بقبلاته الحارة هامسا بموجة هوى عاشق
"وانا مستعد للرضوخ لكل قراراتك وطلباتك ، فأنا اسير حسب اوامر معلمتي وإرشاداتي ممرضتي والتي اعطيها كامل الثقة"
تمسكت بذراع الكرسي وهي تضحك بأنفاس قصيرة من فرط مشاعرها التي اختلجت بصدرها الخافق ، وهي تستشعر بمداعبة قبلاته على عنقها التي تحولت لقوة تسحبها بإصرار لموجة المشاعر التي اهلكت كيانها حد النخاع ودكت حصونها الضعيفة ، لترفع بعدها كفها وهي تمسح على شعره بحنية هامسة بصوت جاد بنشيج
"هل تستطيع كبح رغباتك لفترة اطول ؟ فأنا لا اريد ان تترك موجة عاطفتك علامات على عنقي لن استطيع ان اخفيها بأدوات التجميل"
توقف لوهلة وهو يرفع رأسه قليلا حتى ظهرت عينيه الرماديتين المائلتين بلون قاتم بالصورة التي تعكسهما معا ، ليستعيد بعدها اتزان انفاسه بلحظة وهو يمسح على كتفيها برقة قبل ان يقول بجمود خشن
"انتِ على حق بهذه النقطة ، فنحن لا نريد ان نتلاعب بعقول الاطفال البريئين ونعبث بصورتكِ المتزنة امامهم ، فهذا ليس من شيمنا"
ارتفع حاجبيها باستهانة وهي تدير وجهها نحوه وكفها تنزل حتى جانب وجهه ، لتهمس بعدها بالقرب من ذقنه وهي تداعب انفها بشعيرات لحيته
"بالطبع ليس من شيمك فأنت شخص يحافظ على مبادئه ويضع حد لكل شيء بالحياة بدون تمييز او تطرف"
ابتسم بالتواء ساحر وهو يقبل انفها ثم جانب شفتيها ليهمس بعدها بصوت واثق متحشرج
"وهل لديكِ شك بذلك ؟"
اتسعت ابتسامتها حتى ظهرت اطراف اسنانها البيضاء وهي تداعب بأصابعها شعيرات وجهه القصيرة هامسة بخفوت متودد
"لدي شك صغير بموضوع تمييزك لي بكل شيء عن الآخرين"
تنفس بهدوء وهو يغير مسرى نظراته قائلا بابتسامة واثقة
"انتِ تستحقين التميز عن الجميع بكل شيء ، انتِ مميزة عند جميع من تدخلين حياتهم ، واخاف من ان تصبحي مميزة بحياة شخص آخر غيري"
انحرفت ابتسامتها بارتجاف وهي تخفض كفها بلحظة لتعتدل بعدها بجلوسها قائلة بعملية
"حسنا يا سيد احمد ، لقد اخرتني بما فيه الكفاية بهذه الاحاديث الصباحية ، وبسببك سأتأخر على طلابي"
استقام بالوقوف وهو ما يزال يمسح بكفيه على كتفيها قبل ان يقول بعتاب ساخر
"حقا يا روميساء ! لقد بدأت اشعر بالغيرة من هؤلاء الطلاب الذين يأخذون كل وقتكِ ، وحتى انكِ تقضين معهم وقتا اكثر من الوقت الذي تقضينه معي ، انا ارى بأنه قد حان الوقت لاستعادة حقوقي الزوجية منكِ !"
حادت (روميساء) بنظراتها نحوه وهي تهمس بخفوت صارم
"توقف عن التذمر والتبرم مثل الاطفال ، لأنك لن تثير شفقتي مهما حاولت"
عبست ملامح (احمد) وهو يقول باستياء
"معلمة متزمتة"
زمت شفتيها بابتسامة طفيفة قبل ان تختفي باحتضار ما ان شعرت بيديه تلامسان منطقة معينة ، لتنقلب ملامحه بخطوط جامدة وهو يكلمها عبر المرآة والتي اوصلت لها كل الافكار التي تدور برأسه الآن
"روميساء لما لا تضعين عقدكِ ؟ لقد وعدتني بعدم نزعه عن عنقك !"
ابتلعت ريقها باضطراب سيطر عليها وهي تضم كفيها معا بتوتر لتهمس بعدها بخفوت مبرر
"لقد نسيته بجارور السيارة ، وكنت افكر عند ذهابي للعمل سأضعه حينها"
عقد حاجبيه بتصلب اكتسح محياه وهو يبعد يديه عن كتفيها ببطء ، ليقول بعدها بحزم جاد
"لا تنسي ان تضعيه حول عنقك قبل ذهابك للعمل ، فأنا لا احب رؤية عنقك فارغ بدون تلك القلادة التي تمثل رمز الوفاء والحب بيننا وذكرى عن ثمرة حبنا التي فقدناها مبكرا ، لذا لا تهمليها مجددا لأني لن اسامحك إذا كنتِ مستهترة بها ، حسنا !"
اومأت برأسها بحركة مهتزة وهي تهمس بابتسامة واثقة يشوبها بعض التوتر
"اجل بالطبع يا احمد ، سأحافظ عليها مثل روحي ، كن واثقا بذلك"
تألقت ابتسامته من جديد وهو يدنو بجانب وجهها ليقبل خدها برقة قائلا برفق
"هكذا اريدكِ يا عزيزتي ، من المستحيل ان تهزي ثقتي بكِ ، لأنه إذا حدث لن استطيع ان اثق بشخص آخر من بعدك وسأفقد الثقة بنفسي"
ابتسمت بتشنج شحبت ملامحها بدون ان تجاري كلامه اكثر بعد ان نفض هالة الهزل والغزل عنهما ، ليستقيم بعيدا عنها بلحظات وهو يسير بخطوات قوية باتجاه باب الغرفة ، قبل ان يتوقف لبرهة وهو يستدير بنصف جسده قائلا بتفكير غامض
"روميساء هل تذهبين لمكان آخر بعد المدرسة ؟"
نظرت له بعينين واسعتين تسمرتا للحظة قبل ان تهمس بخفوت رقيق
"احيانا امر على المكتبة لشراء الكتب واللوازم التي تنقصني بالعمل ، واحيانا انجز معاملات عند التربية والتعليم يطلبونها مني بالمدرسة ، وهذا يحدث بعد انتهاء وقت دوامي بالمدرسة ، وايضا ازور......"
قاطعها (احمد) وهو يلوح بيده بابتسامة جادة
"لا بأس يا روميساء ، لقد فهمت عليكِ ، والآن عليّ الذهاب للعمل ، اعتني بنفسكِ جيدا ، ولا تتأخري كثيرا بالعودة للمنزل"
اومأت برأسها بوداعة وهي تلوح بيدها كذلك هامسة بمودة
"رافقتك السلامة"
غادر بعدها خارج الغرفة امام عينيها الشاحبتين وهي تخفض كفها على جانبها بخمول تسرب بجزيئات جسدها ، لترفع بعدها كفها لعنقها وهي تلامس مكان القلادة المفقودة هامسة بخفوت متوجس بخوف بدء بالتهام روحها
"عليّ ان اجد القلادة بسرعة وبأي وسيلة ، قبل ان يكتشف احمد اختفاءها ، عندها لن يكتفي بتوبيخي او عتابي بل سيقطع كل صلة تربطه بي بدون ان يرف له جفن !"
______________________________
اوقفت السيارة عند طرف الطريق وهي تضرب على المقود بقبضتيها بقهر خانق ، لترفع بعدها رأسها وهي تدس خصلاتها المتمردة من عقدتها لخلف اذنيها بهدوء متزن ، وبلحظة كانت تخرج من السيارة وهي تمسك بحزام حقيبتها قبل ان تغلق الباب من خلفها بقوة ، لتبحث بعدها لا شعوريا من حولها وهي تنحني بمستوى السيارة ونظراتها تتقصى على كل مكان تخطو عليه حتى كادت تصل اسفل السيارة بجنون سيفقدها عقلها لا محالة .
استقامت بمكانها وهي تتنهد بتعب تشنجت معها فقرات ظهرها من الانحناء امام السيارة ، لتمسك بعدها خصرها بيديها وهي تتراجع بخطواتها بحذر شديد بدون ان تترك نظراتها التجول بالطريق حول السيارة ، وبدون ان تشعر كانت تصطدم بأحدهم حتى كادت تتعرقل للخلف لولا استنادها على الجدار الشامخ والذي حماها من السقوط .
شهقت بوجل وهي تنتفض واقفة بعيدا عن ذلك الجدار وكأن عقرب قد لدغها ، لتستدير بسرعة خلفها وهي تحني رأسها قليلا هامسة بدون ادنى تفكير بحرج ممتعض
"انا اعتذر ، لم انتبه"
رفعت رأسها بسرعة ما ان وصلها الصوت الجاد بهدوء خفيض
"لا بأس يا معلمة روميساء ، ولكن الذنب عليكِ انتِ لأنك من تمشين مشي معاكس ، ألا إذا كان هذا نوع من الرياضة !"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بدهشة وهي تهمس بخفوت مصدوم
"سيد يوسف !"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة بشوشة
"صباح الخير يا معلمة روميساء ، سعيد برؤيتكِ مجددا"
امتقعت ملامحها بخزي اكبر على ذكرى آخر مرة قابلته بها جلبت لها كل انواع المذلة والهوان والخجل من الذات ، لتشيح بوجهها جانبا بهدوء جامد وهي تهمس بخفوت متحشرج
"صباح الورد"
سكنت ملامح (يوسف) بدون ان يفقد ابتسامته وهو يقول بهدوء بارد
"يبدو بأنكِ لستِ مسرورة برؤيتي بقدر سعادتي ، فقد اكون قد قلبت ذاكرتك بمشاهد لا ترغبين بتذكرها"
ادارت رأسها للأمام وهي تلوح بكفها بارتباك هامسة بهدوء ظاهري
"لا الأمر ليس كما يبدو ، ولكني تفاجأت فقط برؤيتك ما تزال بالمنزل بهذا الوقت من الظهيرة ، ولا اقصد التدخل بما لا يعنيني ولكني اعتدت بوقت حضوري لدروس سامي ان تكون بالعمل ، وقد اخبرني سامي عن مواعيد خروجك للعمل ، ارجو ألا تسيء فهمي فهو من دافع الفضول لا اكثر ، اعتذر إذا كانت اسئلتي قد ازعجتك"
اتسعت ابتسامته بهدوء قبل ان تتحول لضحكة مكتومة قصيرة وهو يتبعها بالقول بلطف
"لا بأس يا روميساء فأنا اصدقك ، ولكني اليوم اضطررت لتغيير جدول اعمالي بأكمله لأستطيع ملازمة المنزل بجانب سامي ، فقد ساءت حالته بالأمس وارتفعت حرارته بشكل مفاجئ ، ولم يكن من الصحة تركه وحده بهذه الحالة بدون مراقبة واهتمام"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي ترفع قبضتها لصدرها بحركة لا إرادية هامسة بخفوت متوجس
"ماذا حدث مع سامي ؟ هل حالته سيئة جدا ؟ ألم يكن قد تحسن اخيرا من آثار الحصبة ! ألم تنتهي مهلة علاجه التي حددها الطبيب ! لما لم تخبرني بهذا على الهاتف ؟"
رفع يديه بروية وهو يقول بابتسامة جادة
"ليس هناك شيء خطير يا معلمة روميساء ، فقط وعكة صحية بسبب تقلبات الجو عليه ، وقال الطبيب بأنه بمهلة يومين سيتحسن وستزول عنه آثار الحصبة بالكامل وعندها يمكنه العودة للمدرسة كما بالسابق"
تنهدت (روميساء) براحة وهي تخفض كفها هامسة بسعادة
"الحمد لله ، المهم ان يتحسن ويعود كما بالسابق ، وحمد الله على سلامته"
اخفض يديه على جانبيه وهو يقول بثقة
"سيتحسن يا معلمة روميساء ما دمتِ تقفين فوق رأسه"
ابتسمت بصعوبة وهي تشتت نظراتها بعيدا هامسة بتفكير مريب
"وكيف ستذهب للعمل الآن ؟ قد تسوء حالته فجأة وانت غير موجود ! هل من الصحيح تركه وحده بعد ان اجلت موعد خروجك للعمل من اجله ؟"
ردّ عليها (يوسف) ببساطة بالغة
"ولكنكِ انتِ موجودة الآن يا روميساء ، واثق تماما بأنكِ ستعتنين به جيدا حتى عودتي من العمل فليس هناك افضل منكِ بهذه المهمة"
تغضن جبينها بوجوم وهي تنظر له بأطراف حدقتيها قبل ان تهمس بعبوس مرتبك
"وما لذي يدفعك لكل هذه الثقة الكبيرة بوضع ابنك بأمانتي ؟ بدون ان ينتابك الشك او التفكير للحظة بأن تكون تحمل الشخص الخطأ ! فأنا بالنهاية لا اقرب لكما بشيء مجرد معلمة تؤدي مهامها اليومية"
صمت للحظات قبل ان يقول بابتسامة جانبية بدون ادنى تردد
"ولماذا لا افعل ذلك ؟ ألست محل ثقة حتى لا اضع ابني بأمانتك ! كيف تريدين مني ألا اثق بالفتاة التي كانت تهوى الدفاع عن الاطفال غير مبالية بالضرب الذي ستتلقاه بسبيل حمايتهم ؟ كيف لا اثق بكِ وانتِ كنتِ تضعين كل ما بحوزتك من قروش بإطعام الاطفال الفقراء والمشردين ! هذه الفتاة الوحيدة التي استطيع الوثوق بها اكثر من جميع المقربين والغرباء ، وهذا هو السبب الاساسي الذي جعلني انجذب للطفلة العاملة بمتجر بقالتنا"
حدقت به بعينيها الواسعتين برهبة وهي تغرز اسنانها بطرف شفتيها بتوتر مفرط ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تقول بجمود جاد تلبسها بلحظة
"ولكن تلك الطفلة قد كبرت ولم تعد طفلة يا سيد يوسف ، وانت قد كبرت ولم تعد ذلك الشاب الجانح والذي يتشاحن مع والده على الدوام ، لذا علينا ان ننظر للمستقبل وننسى الماضي"
حرك رأسه بعيدا وهو يقول بشرود غائم
"لا بأس إذا كنتِ ترين ذلك"
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تخفض نظرها بعجز عندما نفذت منها كل اشكال التواصل والمفردات ، لتفيق بعدها على صوته الباسم وهو ينظر بعيدا عنها
"إذاً هل عادت سيارتك للعمل ؟ من الجيد بأنكِ استطعتِ اصلاحها بالنهاية فهي تفيدك كثيرا بالتنقل بين المدرسة ومنازل طلابك"
عقدت (روميساء) حاجبيها بتصلب وهي توجه نظراتها لما ينظر إليه ، وبثواني كانت تسمع صوته بالقرب منها وهو يتقصى وضع عجلات السيارة بنظراته
"لهذا كنتِ تنظرين للسيارة وانتِ ترجعين للوراء بتلك الطريقة كنتِ تتفحصينها لكي لا يحصل معكِ كما حدث بالمرة الفائتة ! صحيح ؟"
تصنعت ابتسامة هادئة بشحوب وهي تهمس باتزان
"اجل هذا ما كنت افعله اتفحصها لكي اتأكد من سلامتها ، وألا ماذا كنت برأيك افعل"
اومأ برأسه ونظراته تتابعها عن كثب ليقول بعدها بهدوء جاد
"حسنا يا معلمة روميساء انا الآن اترككِ لعملكِ مع ابني لأذهب انا لعملي الذي لن استطيع تأجيله اكثر ، لذا حظا موفقا ، وحمد الله على سلامة سيارتك"
التفتت برأسها بسرعة حتى اصطدمت بنظراته المراقبة بلحظة غادرة ، لتخفض عينيها بإحراج شديد وهي تهمس بخفوت
"رافقتك السلامة"
التقطت عينيه شيء جديد ظهر عن قرب جعله يرتعد بلحظة وهو يستدير بعيدا عنها ينوي الرحيل باتجاه سيارته ، لتوقفه بسرعة وهي تهتف بتردد
"لو سمحت يا سيد يوسف ، هل لي بسؤال ؟"
التفت بنصف وجهه وهو ينظر لها بحيرة ليقول لها بجدية قاتمة
"نعم يا معلمة روميساء ، تفضلي"
زمت شفتيها بارتجاف من تغير نبرة صوته وهي تنطق بسرعة مغيرة فحوى السؤال برأسها لتقول بدلا عنه
"لا فقط كنت اريد سؤالك عن موعد عودتك للمنزل ، فأنا لا استطيع التأخر وقتا طويلا"
عقد (يوسف) حاجبيه بهدوء وهو يقول بعملية
"لست متأكدا تماما ، ربما بين الساعة السابعة والثامنة فقد اجلت جميع مواعيد العمل"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة ودودة
"لا بأس ، سأحاول تدبير امري"
اومأ برأسه وهو يكمل طريقه بعيدا عنها بصدمة كتمت الصوت بداخله ، لتتنفس بعدها الصعداء وهي تهمس بخفوت مستاء
"بماذا كنت افكر ؟ لقد كدت اسأله عن امر القلادة ! يا لغبائي لقد بدأت افقد عقلي حقا !"
تحركت بعدها وهي تجر خطاها باتجاه البناية بدون ان تنسى ان تلقي نظرة سريعة من حولها تتفقد المكان للمرة الاخيرة ، قبل ان تدخل للبناية وهي تفكر ماذا سيحدث بحالها لو لم تجدها قط ! لقد اضاعت الهدية الغالية معنويا وماديا كما اضاعت طفلها باستهتارها .
______________________________
كانت تكتف ذراعيها بعصبية واضحة على معالم وجهها التي قست بطريقة لا تقبل اللين ، وهي تهز ساقها التي وضعت فوق الاخرى بوتيرة محددة ، ليقطع بعدها الصمت الخانق الذي طال كثيرا الجالسة المقابلة لها وهي تقول بعملية جادة
"ماذا سنفعل الآن يا ابنة الوزير ؟ يبدو بأننا قد حققنا فشلنا الثاني بجدارة ، فلا انتِ استطعتِ السيطرة على ابن الفكهاني ولا فأرك استطاع اصطياد عدوتكِ الجميلة والتي لم تنجرف للفخ كما كنتِ تتوقعين ولم تعطي الموضوع اعتبارا ، وبدلا من ذلك لقد رأينا بأعيننا مدى انسجام علاقتهما وتطورها بجودة لا تقبل الضرر وكأننا قد ضاعفنا من تقاربهما بطريقة غير مباشرة"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بشعلتين متقدتين تكاد تحرق الاخضر واليابس وهي تقول بابتسامة حادة بتشدق
"هلا اعرتني صمتكِ رجاءً ؟ فأنا الآن بحالة لا اقبل بها اي نقاش او لوم او توبيخ ! لذا كل ما تستطيعين تقديمه لي بهذا الوضع هو مساعدة او خطة بديلة تريحني مما انا فيه ، حتى لو خطة تضمن قتلها ودفنها حية فلن اعترض عليها المهم هو شيء يطفئ القهر والخيبة بداخلي"
التوت ابتسامتها بسخرية وهي تريح مرفقيها فوق سطح الطاولة لتهمس بعدها بخفوت ماكر
"ما بكِ يا سيدة البرود ؟ هل بدأتِ تعلنين استسلامك وانهزامك امام قوة علاقتهما ! ألم تكوني تتوعدين لهما وتعدين الخطط لتدمير ترابطهما المتين ! هل شعرت بالإحباط هكذا لأنه لم يحضر حفلة عيد ميلادك كما تمنيتِ وتوقعتِ ؟ وانتِ تظنين بأنه سيفضل الركض لحفلتك الطفولية تاركا الحفلة التي تقام بين زوجين شهر العسل ! رحلة على الدراجة النارية وفندق فخم ومطعم عائلي يطل على البحر ، هل سيترك كل هذا ليلاحق حفلة حضرتك ؟ لا اعتقد ذلك لأن علاقة الازواج والحب دائما تكون اقوى من علاقات الصداقة والتي بنيت على سنوات"
تقدمت بجلوسها بملامح منحوتة من صخر وهي تهمس من بين اسنانها بخفوت شرس
"هل تحاولين السخرية مني واستفزازي بكلامك ؟ لا تنسي بأنكِ انتِ ايضا معي بهذه الخطة والتي تهدف لتدميرهما وتفكيك الترابط بينهما ، ولكن بدلا من مساندتي ودعمي تحاولين احباط معنوياتي بكلامكِ الساخر عن علاقة الصداقة والحب وما شابه ذلك ، والتشمت بما وصلنا له بفوز تلك النكرة علينا وسحقنا بدون ان تبذل اي مجهود ، هل انتِ حقا بصفي ام بصفها ؟"
دست خصلاتها الطويلة خلف اذنها برقة وهي تهمس بابتسامة باردة
"بالطبع انا بصفك وألا ما لذي يجبرني على سماع شكواكِ وتحمل دلالك ! فقط احاول فتح عينيكِ على الحقائق المهمة التي غفلتي عنها وعلى نقاط القوة التي عليكِ التركيز عليها ، بدل ان تعطي كل اهتمامك على حفلة الاطفال تلك وحزنك على عدم حضور اميرك المتزوج كما وعدك وتمني سنة جميلة لكِ ، عليكِ بالتفكير بعقلكِ بجدية ومنطقية اكثر والتحرك بخطوات مدروسة تضمن لنا النجاح هذه المرة ، هل فهمتي يا مدللة الحفلات ؟"
احتدت ملامحها بحالة هياج تدفق بمقلتيها الواسعتين وهي تقول بغضب مكبوت واصابعها تطرق على سطح الطاولة بغير هداية
"إياكِ ، إياكِ وان تتجاوزي حدودكِ معي يا قمر الرياض ، فأنا لا اسمح لأياً كان بالتكلم معي بتلك النبرة المتسلطة والساخرة متناسي الفروقات بيننا ، وانا ما ازال اتحملك لهذه اللحظة واعاملك بمودة وتشاركية فقط لأن هناك اهداف وطموحات تجمع بيننا ، لذا لا تدعيني اندم لأني اخترتكِ شريكة لي وطرف بهذه الخطة ، فهذه التي امامك عندما تقرر مسح احدهم او نفيه عن الوجود فهي لن تتراجع قبل ان تنهي عليه ببطء لن يستطيع من بعدها النهوض او التكلم ، فهمتي يا شريكتي !"
ارتفع حاجبيها باستهانة وهي تستند على ظهر الكرسي باسترخاء ، لتقول بعدها بابتسامة هادئة بلطافة بدون اي تأثر
"اهدئي يا حلوتي الغاضبة ، ليس هناك داعي لصب جام غضبكِ عليّ ، فأنا لست المستهدفة او العدوة التي تريدين حرقها ودفنها حية ، انا فقط احاول مواساتك ومداواة جروحكِ التي تسببت بها دمار خطتك ، ولكن يبدو بأنكِ قد اخطئتِ فهمي وخلطتي بين العدو والصديق ، وهذا وارد بسبب تفكيركِ المشوش بعد خسارتنا الكبيرة التي فقدنا بها كل الأمل بالنجاح"
لم تلين ملامحها وهي تشيح بوجهها جانبا هامسة بعبوس مغتاظ
"سحقا لكِ ! وسحقا لمواساتك ! هل هكذا تسير المواساة برأيك ؟ عندما تشعريني بالإحباط والانهزام وتحفرين بالجراح حد النزيف ، هل هكذا تساعديني برأيك ؟"
حركت (قمر) كتفيها ببرود وهي تهمس بشبه ابتسامة
"لدي اساليبي وطرائقي الخاصة بالمواساة ، وإذا لم تعجبكِ فلا تفكري بالأمر وتجاهلي ، فهكذا يفعلون كل من يتضايق من تصرفاتي وتنفره ، فليس لدي شيء لأخسره لأهتم بشأنه"
رمقتها (لينا) بضيق وهي تهمس بخفوت ممتعض
"لم تحصلي على لقب الافعى من لا شيء"
تململت بمكانها بضيق وهي تقول بخفوت جاف
"هل سنستمر بتبادل الهموم طويلا ؟ فقد بدأت اشعر بالضجر"
تنفست (لينا) بجمود وهي تضم يديها معا قبل ان تقول بهدوء جاد
"هل اتصلتِ بهاتف كمال ؟ فقد تأخر بالمجيئ اليوم"
حركت عينيها بعيدا بجمود اكتسح محياها وهي تهمس بخفوت مشتد
"انا لا اتواصل معه ، وتعرفين هذا الكلام جيدا ، لماذا تسأليني عنه الآن ؟"
ردت عليها (لينا) بعبوس حازم
"لقد كنت اسأل فقط سؤال عابر ، لماذا كل هذا الغضب ؟"
تجمدت ملامح (قمر) وهي تهمس بصوت حاقد بدون اي تعبير
"لا اطيق رؤيته امامي هذا هو السبب ، واتمنى ألا يأتي فلن اتحمل الجلوس معه على نفس المائدة"
حركت رأسها بيأس وهي تُخرج الهاتف من حقيبتها لتجري الاتصال بلحظة ، لتخفض بعدها الهاتف بثواني بدون ان تتلقى اجابة ، قطعت الصمت صاحبة الملامح الباردة وهي تقول بابتسامة جانبية بمغزى
"اعتقد بأنه مهما حاولنا فلن نستطيع الفوز عليها ، فهي تملك اسلحة فتاكة لا احد قادر على الهروب منها او التغلب عليها ، لقد رأيتها مرة واحدة كانت كفيلة بمعرفة كل ما يجول بحياتها وطبيعة تركيبها ، فهي ليست مجرمة بجمالها بل مجرمة بحياتها الواقعية والتي تبدو مليئة بالخبرات والتجارب ، لذا الفوز على مثل هذا النوع من البشر قد يكلفك حياتك بأكملها وسنوات بالتدبير ، لأن اكثر ما يجيده هذا النوع هو الوقوع والنهوض باستمرار خلاف الذين يقعون مرة ولا ينهضون بعدها"
سكنت ملامحها لوهلة قبل ان تنتفض واقفة بقوة جذبت الانظار نحوها ، لتلوح بذراعها بالهواء بعد ان افقدتها صبرها قائلة بهجوم ضاري
"ماذا اخبرتكِ من لحظة ؟ ما تزالين تثرثرين بهذا الموضوع باستمرار بدون اي كلل او ملل وكأنكِ تستمتعين بعذاب خسارتي امام تلك الحشرة ! لا تهمني اسلحتها ولا خبراتها ولا جمالها ، فأنا سأفوز عليها رغم كل هذه السمات والمميزات ، ولم يولد بعد من يستطيع التغلب وسحق ابنة الوزير لينا رواشدة ، وعندما اقول بأني سأفوز عليها يعني سأفوز عليها مهما كلفني الثمن حتى لو اضطررت ان افدي كل سنوات حياتي احاول هزيمتها ، وبما انكِ مستسلمة هكذا وواثقة من خسارتنا امامها بدون الخوض بالحرب فالأفضل لكِ ان تنسحبي من هذه الخطة وتتركي الأمر لصاحب الخبرة ، فأنتِ بالأساس كنتِ خائفة منذ البداية ولا تريدين الخوض معي ، لذا انا اعطيكِ كامل الصلاحية لأخذ اذيال هزيمتك والفرار بعيدا"
ابتسمت (قمر) بهدوء وهي تنهض عن الكرسي برشاقة لتقول بعدها بابتسامة جميلة ارتسمت على محياها بحرفية
"يؤسفني قول هذا ولكني سعيدة جدا بقراركِ بالخروج من مخطتك ، فأنا عندما تنتهي منفعتي من المكان الذي ادخل إليه او عندما لا اعثر على فوائد بهذا العمل انسحب ببساطة بهدوء بدون اي ضجة ، فكما اخبرتكِ ليس لدي شيء لأخسره لأهتم بشأنه ، حظا موفقا يا ابنة الوزير ، وشكرا على هذه الدعوة"
امسكت بحقيبتها وهي تغادر بخطوات متعالية بأناقة بدون ان تعيرها اهتماما ، لتقول من خلفها بصوت مرتفع ليصل لها بقهر واضح
"جبانة ! اجل جبانة ! تهرعين بالهروب بعد ان قررت الانتقام لنفسكِ ولكرامتك ، كل هذا بسبب تصرفات مراهق ساذج لا تطيقين الجلوس معه ، اعلم جيدا بأن هذا هو سبب انسحابك الحقيقي ، انتِ حقا جبانة !"
توقفت الخطوات لثانية واحدة قبل ان تكمل طريقها لخارج المقهى بدون ان تعطيها الفرصة للتفكير اكثر ، لتتنفس الاخرى بضيق حانق وهي تنظر للأعين التي لفتت انتباههم بوقت صراخها الاخير ، لتحرك بعدها عينيها بعيدا وهي تقع على الهاتف الذي كان يخرج رنين بدون ان تنتبه له ، لتمسك الهاتف بسرعة وهي تضعه على اذنها قائلة بحزم جاد
"اين انت ايها الفأر ؟ لماذا تأخرت هكذا على الاجتماع ؟"
صمتت قليلا ببهوت وهي تستمع للطرف الآخر لثواني ، لتعتلي ملامحها ابتسامة ثعبانية وهي تقول له برقة عادت لتلون بصوتها
"حسنا لا تتحرك من مكانك ، انا قادمة إليك بغضون دقائق ، فلم يبقى هناك بالخطة غيرنا نحن الاثنين بعد انسحاب قمر ، لذا علينا ان ننجح هذه المرة مهما كلفنا الأمر"
اقفلت الخط وهي تخفض الهاتف هامسة بابتسامة ملتوية بدهاء الثعلب
"لقد حدث تغيير بسيط بالخطة ، وهذه المرة لن اسمح لها بأن تغلبني لأني سأكون الغالب"
_______________________________
كانت تمسح رخام المجلى بمنشفة رطبة وهي تضع كفها بحماية على بطنها التي برزت بوضوح ، لتزفر انفاسها بإنهاك وهي تستند على إطار الرخام بكفها لتأخذ راحة بين الدقيقة والاخرى ، فقد اصبحت قواها تخور وتضعف من اي مجهود بسيط تبذله بحياتها اليومية ، بالرغم من ان اعمالها لا تتجاوز كنس ومسح ارضية الشقة الصغيرة التي لا تحتاج لتنظيف وطبخ مأكولات سريعة لفرد واحد يشبع بها نفسه والطفل الذي يتغذى عليه ، ولكن مع تقدم الشهور وبروز بطنها المستديرة وهي تدخل بشهرها الخامس اصبحت تشعر بالضغط والإجهاد بأغلب الاحيان وكأن الحِمل الذي ترفعه فوق عاتقها قد ازداد حجما و عمرا واخذ باستنزاف قوتها وطاقتها .
اخفضت نظراتها لكفها المستقرة على بطنها وهي تهمس لها بخفوت حاني بشوق مضني
"لقد تبقى فقط بضعة ايام تفصلنا عن كشف جنس المولود ، يا ترى ما هو جنسك يا طفلي ؟"
تنهدت بابتسامة مسترخية حقنتها بدفء المشاعر التي تحملها لذلك اليوم الموعود ، لتفيق بعدها على صوت جرس الشقة وهي تستقيم بالوقوف بحذر ، تحركت بسرعة خارج المطبخ وهي تقول بحماس
"لقد وصل ياسر اخيرا"
ولكن ما ان فتحت الباب حتى تسمرت بمكانها لوهلة وهي تجد شخص آخر غير متوقع امام باب الشقة ، وقبل ان تتدارك وضعها كانت الواقفة امامها تتكلم بملامح باردة بهدوء
"صباح الخير يا بنت حماتي ، كيف حالكِ ؟"
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تعصر المنشفة بين يديها لتهمس بعدها بابتسامة طفيفة
"الحمد لله بخير"
ابتسمت (ماسة) بتصلب وهي تهمس بخفوت متعجب
"ماذا هناك ؟ ألا تريدين استقبالي للدخول !"
حركت رأسها بتشوش وهي تبتعد عن طريقها بهدوء لتفرد ذراعها امامها هامسة بابتسامة لطيفة
"تفضلي بالدخول يا زوجة اخي ، واعتبري نفسكِ بمنزلك"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس بخفوت باهت
"يبدو بأنكِ تعرفين بالأمر مسبقا"
عقدت حاجبيها بشحوب وهي تنظر لها تتجاوزها قبل ان تتابع بتوضيح
"اقصد حقيقة علاقتك بزوجي"
اغلقت (ميرا) الباب من خلفها وهي تتمتم بخفوت
"اجل بالطبع اعلم"
استدارت نحوها وهي تعطي وقتها بتأمل المنزل البسيط بلمحة خاطفة قبل ان تصل بنظرها لها لتقول بابتسامة مجاملة
"منزل جميل ، هل هذه الشقة ملك شادي ؟"
اومأت برأسها وهي تقول بابتسامة هادئة
"اجل شادي قد وضعني بهذه الشقة البعيدة عن المناطق السكنية والتي من المستحيل ان يتوقع احد مكانها"
حركت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تتمتم بخفوت ساخر
"يبدو يمتلك منزل بكل مكان للازمات وللطوارئ"
تغضن جبينها بحيرة وهي ترمقها بنظرات متسائلة ، لتقول الاخرى بسرعة بابتسامة عملية
"إذاً اين يمكنني الجلوس ؟ يبدو من المنشفة بيدكِ كنتِ تعملين بالمطبخ ، أليس كذلك !"
نفضت المنشفة بيديها بحركة لا إرادية وهي تقول بعفوية
"صحيح كنت امسح رخام المجلى لأستطيع القضاء على الوقت الفارغ بالانشغال بالأعمال اليومية"
اتسعت ابتسامتها ببرود وهي تقول ببساطة
"لا بأس سنجلس بالمطبخ وانتِ تكملين عملك"
اتسعت حدقتيها بصدمة وهي تسبقها بالسير بعيدا باتجاه المطبخ بدون دليل يرشدها ، لتلحق بها بسرعة وهي تراها تدخل للمطبخ قبل ان تجلس على اقرب كرسي حول المائدة ، لتتوقف بمكانها وهي تعصر المنشفة بين يديها بتوتر امام نظراتها الحادة بتركيز بدون اي مواربة ، لتقطع الصمت بلحظة وهي تنحدر بنظراتها للتغيير الذي طرأ عليها هامسة ببديهية
"لقد كبر الطفل كثيرا عن السابق ، بأي شهر وصلتي ؟"
مسحت على بطنها تلقائيا وهي تهمس بابتسامة مائلة برقة
"لقد دخلت منذ بضعة ايام بالشهر الخامس"
ارتفع حاجبيها بانتباه وهي تريح كفيها على ركبتيها هامسة بهدوء جاد
"يا له من تقدم ملحوظ ، وما هو جنس الجنين ؟"
نظرت لها بهدوء وهي تهمس بنفس الابتسامة الحانية
"لم يظهر بعد ، ولكن الطبيبة قالت بأنه بهذا الاسبوع سنكتشف جنس الجنين"
مالت برأسها جانبا وكأنها تتأمل الفراغ وهي تهمس ببهوت غائم
"بشرى سارة ، اتمنى ان يصل بصحة وعافية وبدون ان يصيبه اي مكروه برحلة وصوله"
اومأت برأسها بابتسامة واسعة وهي تهمس بامتنان
"وهذا ما اتمناه وادعو له كل يوم ، شكرا لكِ على اهتمامك ، واتمنى ان يرزقكما انتِ واخي الذرية الصالحة"
اشاحت بوجهها جانبا بجمود وهي تهمس بخفوت غير مبالي
"ليست من اولويات اهتماماتي"
ضيقت حدقتيها بهدوء وهي تهمس بابتسامة صغيرة تحاول مجاراتها بالحديث
"وما هي اولى اهتماماتك ؟"
ادارت وجهها نحوها بصمت وهي تتأملها بنظرات جامدة قبل ان تهمس بابتسامة جانبية بمغزى
"انتِ هي اولى اهتماماتي"
اتسعت حدقتيها السوداوين بانشداه وهي تشير بالمنشفة لنفسها هامسة بذهول
"تقصديني انا ! وما علاقتي باهتماماتك ؟"
تقدمت بجلوسها فجأة وهي تضغط بكفيها على ركبتيها بحالة تحفز قائلة بنبرة صلبة
"علاقتكِ بأنكِ قد دخلتي بدائرة اهتمامات زوجي يعني دخلتي بدائرتي كذلك ، وكل شيء يخص شادي الفكهاني من مؤثرات واضرار اصبح يخصني كذلك بما اننا نشكل كيان واحد"
عبست ملامحها بارتجاف وهي لا يعجبها سير حديثها والذي اصبح يدور من حولها بشكل خاص ، لتنحرف بنظراتها بعيدا وهي تهمس بخفوت مشتد
"وما هي مشكلتكِ معي ؟"
اعتدلت بجلوسها وهي تكتف ذراعيها بقوة قائلة بملامح تيبست بجمود
"لنوضح بعض الأمور اولاً ، انتِ هي ميرا مونتريال ! صحيح ؟"
نظرت لها بعينين واسعتين بجزع تجلى على محياها الشاحب بوضوح ، وقبل ان تنطق بحرف سبقتها صاحبة السؤال قائلة بجفاء جاد
"انا اعلم بكل شيء"
نفضت الشحوب عنها بسرعة وهي تلوح بالمنشفة بيدها هامسة بهدوء محرج
"على كل حال كان كل شيء سينكشف بالنهاية ، واعتذر على كل المشاكل التي حدثت بحياتكما بسبب اخفاء هذا السر ، وسعيدة جدا بتحسن سير علاقتكما واتضاح الاسرار والخفايا بينكما ، فهذا يعني بأنه قد اختفت كل المنغصات والشوائب بعلاقتكما للتقدم بحياة افضل"
تلبدت ملامحها بضباب كاسر وهي تقول بابتسامة باردة بقسوة
"انتِ على حق بنقطة واحدة بأنكِ قد سببتِ لنا الكثير من المشاكل والكوارث الطبيعية والمقصودة حتى دمرت بداية زواجنا والذي نشأ على انعدام الثقة وخلق الخلاف الدائم بيننا ، ولكنك مع ذلك مخطئة فهذه المشاكل لم تنتهي عند هذا الحد كما تتوهمين ، وما نزال نعاني من توابعها ومخلفاتها التي تركتها لنا لهذه اللحظة ، وكل هذا بسبب البداية السيئة التي صنعتها بيننا حتى اصبحت مثل الشرخ الذي لم يلتئم ويغلق بالكامل"
اضطربت ملامحها وهي تحيد بنظراتها بعيدا هامسة بهدوء متوجس
"وماذا تطلبين مني ان افعل لتنتهي المشاكل التي سببتها لكما ؟ هل تريدين مني مثلا ان اخرج من حياة شادي لتستقر حياتكما بالكامل !"
حركت رأسها بالنفي وهي تفرد يديها على جانبيها هامسة ببساطة
"بالطبع لم اقصد ذلك ، فأنا لا اتمنى لكِ الضرر او الاذى ، وخاصة بأنكِ تحملين طفلا بأحشائك وانا عادة اعطف على النساء الحوامل ، وبأنكِ تكونين شقيقة زوجي وبنت حماتي التي لم اراها بحياتي ، ولكني اراهن بأن حماتي كانت امرأة جبارة لتستطيع الزواج من افضل رجال البلد واثراهم ، وتنجب ولدين رائعين لديهما مميزات وسمات لا تعد ولا تحصى ، وقد يرث حفيدها القادم بعضا من صفاتها وميزاتها"
ضغطت بكفها على بطنها تلقائيا وهي تقول بابتسامة هاوية بشرود
"لا اعتقد بأن هذه الامور من الاشياء التي يفتخر بها ، ومع ذلك لا اتمنى ان يرث ابني اي من صفات والدته او جدته بل يكون مختلفا عن الجميع ومميز بكل شيء"
غامت ملامحها ببرود وهي تخفض يديها قائلة بعدم اهتمام
"انسي امر طفلك تماما ، فأنا لدي سؤال مهم عليكِ اجابته بكل صراحة ، من هو الذي كان يحرضكِ عليّ ؟"
عادت بالنظر لها بعينين شاخصتين وبشفتين منفرجتين بارتعاش وهي تحاول تمالك نفسها قبل ان تهمس بنشيج متخبط
"ما هذا الكلام يا ماسة ؟ من الذي سيفكر بتحريضي عليكِ ! هل كل هذا بسبب اخفائي سر العلاقة بيني وبين شادي ! انتِ مخطئة......"
قاطعتها (ماسة) وهي تنظر لها بعيون تعصف بأمواج خامدة بهمس جاف
"لا تلفي ولا تدوري معي كثيرا ، فأنا اعلم حق اليقين بأن هناك من كان يقف خلفك ويدفعكِ للإيقاع بي ، فأنا لست بهذه السذاجة حتى لا اكشف الألاعيب التي تدور من حولي منذ تلقي تلك المكالمة الغامضة ومقابلتك بفندق شهر العسل وذلك الكلام الذي ألقيته على مسامعي ، فأنا ماهرة بكشف الكاذب من الصادق بنظرة واحدة له ، وليس ذكاء او فطرة بل لأني قابلت كثيرا من شبيهاتك بحياتي من يحاول خداع الآخرين والإيقاع بهم عندما يكون الحبل مربوط حول اعناقهم يدفعهم لهذه التصرفات الغير مرغوبة بطبيعتهم ! وانتِ طبيعتك قد كشفتها منذ تلك المقابلة التي دارت بيننا بالمقهى بجلسة التعارف ، لذا إذا لم تقري لي بمن كان يقف من خلفك ويمسك بسرك فلن ارحمكِ حتى تعترفي ، واعلم جيدا بأنها لم تعد تمسك بعنقك والدليل هي فكرة اقصائك بشقة بعيدة عن الاحياء السكنية ، وتصرفاتك الطبيعية وكأن احمال العالم قد انزاحت عن اكتافك وتحررتِ من قيودك"
شحبت ملامحها بلمحة خاطفة وهي تشدد على المنشفة بيديها معا بحالة توتر وكأنها بمحاكمة ، لتهمس بعدها بابتسامة حزينة مثيرة للشفقة
"صدقيني ليس هناك شيء مما تفكرين به ، فأنا لم اعمل مع احد ، انا......"
قاطعتها مجددا وهي تميل للأمام بحركة هجومية قائلة باستجواب اكثر حدة قشعر بدنها
"حسنا سنستخدم طريقة اخرى باستجوابك ، انا سأعطيكِ خيارات عدة وسيكون هناك واحد منها صحيح ، وانت ستقررين من منهم المقصود ! اول خيار زوجة ابن خالي سلوى رأفت ، وهي الخيار الاضعف والشبه مستحيل ، ثاني خيار صديقته القديمة قمر الرياض ، وبالحقيقة شككت كثيرا بهذا الخيار بعد مكالمتها الأولى ولكنني قد استبعدتها بسبب كشف هويتها امامي ونوع تلك الفتاة التي تستخدم الأساليب المباشرة ، وثالثاً واخيرا صديقته الوحيدة الفاتنة لينا الرواشدة"
ابتسمت بانتصار منتشي وهي تلتقط شحوب ملامحها وارتعاش شفتيها الواضحين والمنشفة التي سقطت منها بدون ان تشعر ، لتأخذ (ماسة) عدة انفاس باستعداد وهي تخرجها بكلمات موجزة لا تقبل الشك او التفكير
"انها هي لينا الرواشدة ! كنت اعلم بذلك"
ابتلعت (ميرا) ريقها بانقباض وهي تفرك يديها معا هامسة بعصبية فقدت مقدرتها على الثبات
"كيف تستطيعين التيقن من جوابكِ بدون ادلة ثابتة فقط مبنية على البراهين والاستنتاج ؟ هل انتِ تعملين بالتحقيق وكشف الحقائق المبهمة ! ما هي حقيقتك ؟ من تكونين !"
تنفست بهدوء وهي ترجع بجلوسها لترمي خصلات ذيل حصانها للخلف ، قبل ان تهمس بخفوت بارد جليدي
"لأنني ببساطة قد عشت هذه الأدوار كلها ، واعلم جيدا من هو المظلوم والضحية والظالم ، هل فهمتي يا جميلة ؟"
زفرت انفاسها بتعب لوهلة وهي تمسد على جبينها قبل ان تهمس بوجوم خائر القوى
"وبعد ان اكتشفتِ الحقيقة كاملة ، ماذا ستفعلين الآن ؟ هل ستخبرين شادي بالأمر ؟ ام ستنتقمين منا جميعا ؟"
رفعت رأسها بتفكير للحظة قبل ان تهمس بلا مبالاة
"ستعرفين بوقت آخر"
تغضن جبينها بوجوم صامت بدون ان تضيف على كلامها ، لتنتفض لا إراديا ما ان سمعت صوت طرق خافت على باب الشقة ، وما ان كانت على وشك التحرك حتى اوقفتها التي قصف صوتها بقوة آمرة
"إياكِ والذهاب لفتح الباب ، فنحن لن نتحرك من هنا حتى تنتهي هذه الجلسة الودية ، وليس من الجميل ترك ضيفتك وزائرتك المهمة وحدها قبل ان ترحل من عندك"
ادارت (ميرا) وجهها ناحية مصدر صوت الطرق والذي توقف نهائيا ، لتتنفس بعدها بضيق وهي توجه نظراتها نحوها قائلة بصبر على وشك فقدانه
"ماذا تريدين مني يا ماسة ؟ جواب سؤالكِ حصلتي عليه ! ماذا تريدين الآن ؟"
احتدت ملامحها بنحت قاسي وهي تقول بهدوء ظاهري
"انا لم انتهي منكِ بعد ، فما اريده منكِ شيء مختلف تماما عن كلامنا السابق ، وطلبي هو ان تحلي مشكلتنا المتعلقة بعائلتك وهي بأخذ زوجك السابق بعيدا عنا"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تخفض نظرها هامسة بخزي ممتعض
"إذاً فقد وصل لكِ خبر عودته ! ماذا تريدين مني ان افعل معه ؟ انا ايضا مقيدة مثلكم وليس بيدي شيء افعله معه !"
كورت قبضتيها فوق ركبتيها وهي تهمس بدون ادنى تردد
"الحل بسيط جدا وهو بعودتك له واتمام زواجكما المتأخر ، وهكذا ستستقر حياتنا ونبتعد عن المشاكل ويأخذ الطفل نسب وهوية قبل ولادته ، هل تسمعين ؟ عليكِ بالعودة له....."
قاطعتها فجأة بصوت منتحب باعتراض ضاري
"لا انا ارفض ! مستحيل ان يتم هذا الأمر ! على جثتي اتزوج منه او اعود له ، ولن تستطيعي اقناعي بهذه المسألة ، فأنا وشادي قد اتفقنا بالأمر مسبقا"
ردت عليها (ماسة) بسرعة وهي تنتفض واقفة باندفاع شرس
"هل انتِ غبية ؟ هل تتغابين عليّ ! هل تعرفين خطورة هذه المسألة ؟ فهذا الأذى لن يصيبك انتِ فقط بل سيصيب كل واحد منا بأذى مختلف ، بداية بطفل غير معروف الهوية ، وبشقيقك والذي سيتحمل المسؤولية كاملة حال انكشاف امرك ، وانا ، وانا سأتحمل خسارة سعادتي ببناء عائلة طبيعية مع زوج لا يفكر بماضي ولا بمستقبل ، لماذا تريدين تدميرنا جميعا من اجل غايتك الخاصة بعدم الزواج منه ؟ لماذا لا تفكرين بنا قبل ان تتخذي اي قرار يخصك ؟ على الاقل فكري بشادي وشقيقك والذي اعترف بوجودك ويحاول كل جهده حمايتك انتِ وطفلك على حساب سعادته والاضرار التي سيتلقاها من عائلتك ، لماذا تفعلين هذا بنا ؟!"
شهقت بارتجاف قبض على احشاءها وهي تتراجع خطوتين للخلف قبل ان تمسك ببطنها بذراعيها معا هامسة بخفوت تحاول استيعاب الصدمات التي توالت عليها بلحظة واحدة
"تقولين بأن هناك اذى سيصيب الجميع جراء قراري بعدم الزواج ! ماذا يعني هذا الكلام ؟ وما دخل عائلتي بالأمر ! رجاءً اخبريني بأن كل هذا كذب لتحاولي اقناعي بالأمر واخافتي بمسألة عائلتي ! رجاءً يا ماسة ، رجاءً"
حدقت بها بعينين باردتين لا تتخلل بهما الرأفة او الشفقة وهي تحرك كتفيها باستخفاف قائلة ببهوت ساخر
"وهل ترينني من النوع الذي يكذب ليصل لمآربه ؟ هذه هي الحقيقة والتي هددني بها زوجك المحترم إذا لم يتم زواجكما ، فيبدو بأن زوجك يعرف اصل عائلتك وما تستطيع فعله بنا لو كشفوا امركِ وبسرك الدفين ، لذا اطلب منكِ لآخر مرة فكري بنا وبمصيرنا قبل ان تفكري بنفسك وبرغباتك الخاصة ، فنحن الآن نعاني من كل هذا بسبب ماضيكِ مع ذلك الرجل والذي حملته الثقة وقدمتي له كل شيء يريده ، إذا لم يكون من اجلكِ افعليه من اجل الطفل والذي ليس له اي ذنب بخطايا وافعال والدته والتي لم ترحم نفسها ولا تريد ان ترحمنا معها !"
تهدجت انفاسها بدموع صامتة وهي تتراجع اكثر حتى ارتطمت بالجدار لتنزلق عليه بانهيار تدريجي ، لتحرك بعدها رأسها برفض شديد وهي تهمس بصوت متحشرج بأنين
"لا استطيع فعلها ، لا استطيع العودة له مجددا ، انا ايضا بشر واخطأت وجميع البشر يخطؤون ، ألا نستطيع منحهم فرصة اخرى للعيش من جديد ! لماذا تريدين قتلي بهذا القرار ؟ لماذا تريدون جميعا قتلي ؟ أليس هناك مهرب من هذه الحياة ؟"
ابتلعت (ماسة) ريقها بغصة حديدية وهي تشعر بنفسها قد بالغت بهجومها الكاسح والذي زادت به جرعة القسوة وقد تكون دمرت نفسها معها بدون ان تنتبه او تحذر ، ليمر على ذهنها جملة عابرة تلخصت بوضعها الحالي وهي تنظر للمرأة الحامل التي كانت تتلوى بألم كلامها
(إذا لم ترحمي نفسكِ فكيف سترحمين غيرك !)
زفرت انفاسها بقوة وهي تتمالك نفسها جلدت روحها بمخالب شرسة لتجر خطوات ثقيلة امامها ، قبل ان تهمس لها من جديد بشبه ابتسامة بدون اي تعبير
"فكري بكلامي جيدا ، فهو يسير لمصلحة الجميع ، ومن اجل حياة مستقرة لنا ، وسعدت بهذه الزيارة العائلية ، فرصة سعيدة"
جرت خطواتها بصعوبة لخارج المطبخ تكاد تجري بتعثر ناحية باب المنزل والذي بدأ يخنقها بجدرانه ، وهو يذكرها بحالتها الدائمة عندما تخرج من مكان اثارت الدمار به بجرائمها الكثيرة قبل ان تخرج منه هاربة بجلدها ، ولكن ما لم تتوقعه هو انفتاح باب المنزل امامها بدون سابق إنذار وقبل ان تأخذ انفاسها وتستعيد ضبط نفسها .
تسمرت ملامح (شادي) ما ان عرف هوية الواقفة امامه بشقة شقيقته ، لتطير نظراته للداخل بغموض وهو يقول بجمود قاتم دب الرعب بأوصالها
"ماذا تفعلين بشقة شقيقتي ؟ ماذا فعلتي بها !"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تلوح بيدها جانبا هامسة ببرود
"ادخل وانظر بنفسك"
اتسعت حدقتيه السوداوين بصدمة وهو ينظر لها تنسل من جانب الباب لتخرج من امامه بلمح البصر ، ولم يفكر طويلا وهو يدخل بسرعة باتجاه المطبخ واول تخمين خطر بباله ، لتصطدم نظراته بالجالسة عند جدار المطبخ شاردة بالفراغ امامها بسكون تام .
انحنى بجذعه امامها وهو يحرك كتفها بقوة قائلا بتوجس قلق
"ميرا هل انتِ معي ؟ هل حدث لكِ مكروه ؟ هل انتِ بخير !"
تنفست بارتعاش وهي تومأ برأسها للفراغ هامسة بصوت اجوف
"اجل انا بخير ، ما لذي تفعله هنا يا شادي ؟"
نزع كفه عن كتفها وهو يقول بجمود قاتم
"لقد اتصل بي ياسر واخبرني بأنكِ لم تفتحي له الباب ، وقد كرر الطرق عليكِ اكثر من مرة ولكن لم تجيبِ ، هل انتِ حقا بخير ؟"
هزت رأسها مجددا بالإيجاب وهي تهمس بخفوت ميت
"اجل انا وطفلي بخير لهذه اللحظة"
تنفس الصعداء وهو يستقيم بمكانه بلحظة ليقول بعدها بهدوء حازم
"انا ذاهب لتسوية بعض الأمور لن اتأخر عنكِ"
غادر بعدها خارج المطبخ مثل الطلق حتى وصل لباب المنزل وهو يتوعد لها من بين اسنانه بهمس فاض به الكيل
"ستندمين على هذا يا ماسة ، ستندمين يا ذات القلب الميت !"
____________________________
جرت بسرعة باتجاه السيارة المصفوفة عند طرف الطريق ، قبل ان تركب بالكرسي الخلفي وهي تصرخ بالسائق بعجلة
"هيا تحرك بسرعة ، لا تنظر لي ، تحرك بأقصى سرعة"
اومأ السائق برأسه وهو يشغل محرك السيارة قائلا بطاعة
"حاضر يا سيدة ماسة"
ضربت على ركبتيها بحالة جنون اقرب للخوف وهي تصرخ مجددا بأمر صارم
"لا تتكلم وتحرك ، حرك هذه المركبة من هنا"
تلجلج بمكانه وهو يحرك المقود ببطء وكأنه يتلاعب بعداد عمرها ، لتصعد فوق الكرسي وهي تختلس النظر من خلال نافذة مؤخرة السيارة ، وما هي ألا لحظات حتى اتسعت حدقتيها الزرقاوين بذعر غير مسبوق ما ان لمحت الخارج من نفس البناية التي خرجت منها ، وما ان وصلت لها عينيه واصطادتا الطعم حتى اخفضت رأسها بسرعة وهي تصرخ بلوعة الخوف
"يا إلهي ! يا إلهي ! هيا تحرك ، تحرك"
تحركت السيارة بالفعل بسرعة اعلى وهي تنطلق بالطريق الرئيسية ، وبعد ان قطعت مسافة امتار عادت لترفع قمة رأسها ببطء وجل وهي تشتت نظراتها على السيارات المحاطة من حولهما ، قبل ان تلمح السيارة البعيدة التي كانت تتجاوز السيارات الاخرى بسرعة الضوء ونواياه بالوصول لهم واضحة تماما مثل لعبة المطاردة ، لتزفر انفاسها بنشيج جثم على روحها بصخرة قاسية وهي تخفض جفنيها ببطء هامسة بخفوت ساخط
"سحقا له ، سحقا له ، ماذا يريد مني ؟"
ما ان فتحت عينيها بتردد حتى وجدت السيارة السوداء تبتلع الطريق نحوهما بدون هوادة وهو يكاد يهب عليهم برياحه الهوجاء ، لتنتفض بعدها لا إراديا وهي تستدير جالسة بقوة لتصرخ بالسائق بغضب مكتوم
"لماذا تقود مثل السلحفاة ؟ اخبرتك تحرك بسرعة ، ألا تسمع قود بسرعة اكبر قبل ان تنهي امري !"
توترت اطرافها بشحنات متنافرة وجسدها يهتز بنفير انفاسها التي بدأت تفرغ من رئتيها بأجواء السيارة الخانقة ، لتقفز بعدها لا شعوريا ما ان دوى صوت البوق من السيارة التي اصبحت على بعد سنتمترات منهما وهو يدق بأذنيها بأصوات اقتراب الخطر ، لتغطي اذنيها بكفيها برجفة احتلت كامل جسدها المتكهرب وهي تهمس بوجوم حانق
"اللعنة عليه !"
قاطع السائق افكارها وهو ينظر لها من مرآة السيارة قائلا بعملية جادة
"سيدتي ماذا سنفعل مع السيارة من خلفنا ؟ انها تبدو تعطينا إشارات للتوقف لها !"
نفضت كفيها للأسفل بحركة عصبية وهي تهمس بأمر جاف
"ماذا سنفعل لها مثلا ؟ فقط تابع طريقك بأقصى سرعة كما اقول لك ، وادعو ان نستطيع الافلات منه لكي لا تكون نهايتنا على يديه !"
تابع السائق طريقه بامتثال وهو يقول بأدب
"حاضر يا سيدتي"
ابتلعت ريقها بجفاف وهي تمسد على عنقها المتعرق بدون ان تتجرأ على اختلاس النظر من جديد ، وما ان التوت عنقها على جانب الطريق حتى ظهرت لها السيارة التي مرت بجانبها مثل الطلق الخاطف استطاعت التنبؤ بنواياه القادمة ، لتنتقل عينيها تلقائيا بغريزة الحذر الطبيعية اتجاه مسار السيارة التي سبقتهما لتتوقف بمنتصف طريقهما تماما .
اخفضت رأسها بشهقة مرتعشة وهي تتشبث بظهر الكرسي امامها نشبت اظافرها به ، لتأخذ السيارة عدة لحظات بالدوس على الفرامل والانزلاق على الطريق حتى توقفت بالنهاية بوضع جنوني قبل ان تلامس السيارة المتوقفة والتي يقودها سائق اكثر جنونا ، لترفع رأسها ببطء حذر وهي تخرج نظراتها بتسلل من خلف مسند الكرسي بخوف غرس مخالب شيطان بفؤادها ، وما ان لفحتها هبوب العاصفة وهي تراقب الذي خرج من السيارة بهدوء بدون ان يفارق النظر لعينيها وهو يرسل لها إشارات صامتة تنبؤ بحريق قريب ، حتى اهتزت بمكانها بارتعاد المقيد بحبال وهمية وهي تزيح نظراتها غصبا هامسة بانتحاب المغلوب على امره
"لقد انتهى امري"
مرت دقائق على حالها قبل ان يفتح الباب المجاور لها يعلن عن وصول مفترسها او بالأحرى صيادها ، ليصلها الصوت الخفيض بهدوء مريب وكأنها تسمع صوته لأول مرة
"ماسة اخرجي"
تمسكت اكثر بمسند الكرسي بدون ان تعطيه جواباً او كلاماً ، ليتدخل بعدها صوت السائق وهو يقول بارتباك شديد
"اعتذر يا سيد شادي ، لم اعلم بأنه انت وألا لما كنت....."
قاطعه بملامح صخرية صارمة وكأنه يقصد بكلامه الجالسة امامه وهو يرجف كل جزء بجسدها
"اخرس تماما ، لا تسمعني صوتك لكي لا يكون آخر يوم بحياتك وليس بوظيفتك"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها بألم ما ان امسك بذراعها يكاد يخلعها وهو يسحبها خارج السيارة بقسوة ، وما ان خرجت امامه حتى ضرب الباب من خلفها بقوة وهو يصرخ بالسائق بنبرة جليدية قاسية
"هيا تحرك ، يمكنك الذهاب"
نظرت بأطراف حدقتيها بحسرة للسيارة التي غادرت بعيدا وتحولت لسراب تلاشى بالهواء ، لتشعر بقوة تسحبها غير مراعية لشدها القوي الذي يكاد يفك ذراعها عن مرفقها ، وبلحظات كان يدفعها على جانب السيارة بالتصاق لتستند يديه القابضتين على جانبي وجهها بحصار غير قابل للتملص او التسلل .
هدئت ملامحها بعد موجة التخبط التي عايشتها كتمت الهدير العالي بخلجاتها وهي تقابله بنظراتها الجليدية بدون اي مواربة او تردد ، قطع بعدها الصمت الطويل بملامح حجرية وهو يتأملها بتمهل شديد عبث بذرات مقاومتها الصلبة
"إذاً ألن تتكلمي بشيء ؟ هل تريدين ان اُخرج الكلام من لسانكِ السليط عنوة ! اين ذهبت تلك القطة الشرسة التي خرمشت روح شقيقتي وادارت ظهرها هاربة ؟ هيا امتعيني بما تخفيه تحت لسانك الطويل وبما يوجد بقلبك السوداوي"
زمت شفتيها بصمت حانق وهي تهمس بخفوت عابس
"ماذا تريدني ان اقول ؟"
رفع رأسه وهو يمثل التفكير قبل ان يقول بابتسامة باهتة بدون اي مرح
"دعيني افكر قليلا ! مثلا اخبريني ماذا كنتِ تفعلين بشقة شقيقتي ؟ كيف عرفتي بمكان الشقة ؟ ماذا كنتِ تقولين لها ؟ لماذا ذهبتِ إليها ؟ ولماذا نقضتِ وعودكِ لي ورميتي بكل اعتبار وثقتي بأقرب قمامة ! لماذا يا ماسة ؟ اخبريني بأجوبة هذه الاسئلة !"
ابتلعت ريقها بجمود حجزت الهياج المتدفق بكيانها وهي تهمس بخفوت مستميت
"وما فائدة الاجابة على الاسئلة إذا لم تكن ستصدقني بكل الأحوال ! وانا لست مستعدة لأتعاب نفسي بالتبرير والتقرير وانت لن تصدق سوى ما رأته عيناك وسمعته بأذنيك ، فقد حدث هذا الأمر من قبل ولن اكرره مجددا"
تلبدت ملامحه بتعبير جامد وهو يقول بشبه ابتسامة قاسية بدون اي رحمة
"هل تظنين بأنني بعد هذه اللحظة سأصدق كلامكِ ؟ لقد خسرتِ هذا الشرف يا زوجتي ، واحمدي ربكِ إذا استطعت الخروج من بين يديّ حية"
امتقعت ملامحها وكأنها قد تلقت للتو اكبر إهانة من الممكن ان تسمعها بحياتها ، لتزيح وجهها مسافة سنتمترات بكبرياء مشروخ وهي تهمس بصوت جاف بقتامة
"لا بأس ، فهذا ليس بالشيء الجديد علينا ، انت دائما هكذا تصدق الجميع وتعطف على الضعيف وتكذبني انا وتقسو عليّ بكل حادثة او مشكلة تحدث بيننا ! لأنني ذات القلب الاسود عديمة الضمير والرحمة ! فأنت لا تراني سوى بهذه النظرة وهذا المفهوم والذي طغى على كل تفكير بعقلك"
تجمدت الخطوط والمسامات بملامح وجهها ما ان ضرب بقبضته على لوح السيارة بجانب رأسها ، ليقترب بوجهه منها وهو يقلص المسافة بينهما قائلا بصوت جاد متصلب
"هل تحاولين تمثيل دور الضحية ؟ لأنه من رأيي الخاص انتِ لا يليق بكِ سوى دور الشريرة والذي تقمصته اليوم بكل جدارة ، لقد اريتني مدى مهارتك بتقمص عدة شخصيات مختلفة بشخص واحد ساحرة ماكرة شريرة جميلة ، فلا نستطيع القول عن تصرفاتكِ بمواجهة امرأة حامل لتدمريها بحقائق وتبثي بعروقها حقنة من كلماتك القاسية بدون الشعور بذرة شفقة ، فهذا لا يسمى قلة ادب او انعدام حياء بل له مسمى آخر وهو حقارة وانحطاط لأقل مستوى بالوصول لأهداف مهما كانت الوسيلة ، وبعد كل هذا تتبجحين امامي بعدم قدرتي على تصديقك او الشفقة عليكِ ، انتِ من تجلبين كل هذا لنفسكِ يا ماسة بدون مساعدة احد"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين وهي تحفر ابتسامة هادئة على محياها تبعتها بالهمس بسخرية شامتة
"اهدئ يا شادي فأنا لم اقتلها بكلماتي ، فبعد كل شيء انا لم اذهب لها وانا احمل سكين بيدي وباقة ورد بيدي الاخرى ، فقط كنا نتكلم معا بجلسة ودية عائلية بين بنت حماتي وزوجة اخيها ، لماذا دائما تسيء فهمي وتظنني الاكثر شرا بالعالم ؟ ألا إذا كانت شقيقتك قد قالت امورا سيئة عني وتمس بسمعتي لتشوه صورتي بعينيك ! هنا الكلام سيختلف"
نظر لها بتصلب لا يحمل اي شفقة وهو يقول بنفور قاتم
"إذا كنتِ تتوقعين ان تكون بجرأتكِ ودناءة نفسك فسأخيب ظنكِ واقول لكِ بأنها لم تفعل ، فهي اساسا لم تستطع استجماع افكارها وكلامها بعد صدمة كلامكِ والذي تقولين عنه جلسة ودية ، إذا كان هناك كلام او إهانات تودين قولها لأحد يمكنكِ اطلاقها عليّ مباشرة بدون الخوض معها واستخدامها بأسلحتك ، فهي ليست مثلكِ ! سمعتني ليست مثلكِ ! وليس هناك احد مثلكِ بهذا الكون !"
كورت شفتيها بوجوم وهي تقول باستنكار حاد بعد ان جرحت جزء من كرامتها
"من الجميل ان تكون شخص مميز ولا احد يشبهك ! ولكن منذ متى يا شادي ؟ منذ متى هي مهمة بحياتك لدرجة تقارنها بزوجتك وترفعها وتمتدحها امامي ! ألم تكن من قبل الشقيقة المكروهة ابنة المرأة الخائنة ؟ ام ان كل العالم يصبح ملاك طاهر عندما يقارن بكتلة الشر المتجسدة بداخل هذه الروح السوداء ؟ فأنا على الأقل لم افكر بالهروب من عائلتي والالتجاء بصنع قصة حب وهمية مع رجل غريب لينتهي بحمل طفل بريء سيتلقى العقاب والجزاء على افعال والدته به ! ألا ينصفني هذا كثيرا ويرفعني......."
انتفضت برجفة لاذعة وكأنها لسعة نيران وهو يضرب بقبضته مجددا بنفس المكان صارخا بتهدج ناري يصهر درع من الفولاذ
"اخرسي يا ماسة ، اخرسي ، هل تسمعين نفسكِ ما تتفوهين به من كلمات ليست جارحة وحسب بل تلقي بالشخص قتيلا ؟ وانا واثق بأن هذه الكلمات جزء مما أبدعتِ به بكلامك مع شقيقتي والباقي اظلم ، بدون ان يشعرك حملها بالطفل بالرأفة او الرحمة لتفكري مئة مرة قبل ان تطلقي سهم لسانكِ عليها ، وانتِ ليس لكِ علاقة بنوع العلاقة التي تربطني بها إذا عطفت عليها او قدرتها او فضلتها عليكِ ، لأنكِ انتِ من تحددين المكانة التي عليّ النظر لكِ من خلالها والتقدير الذي تستحقينه ، وقد حددت قيمتكِ ونوعك امامي بالفعل ، وعلى هذا الاساس اعرف ما هو الذي يناسبك لأعاملك عليه"
سكنت محيطات عينيها بدون شعور او تعبير فقط فيضانات هدمت ما بداخلها من احاسيس ومشاعر ، لتطرف بعينيها عدة مرات قبل ان تستعيد انظمة عمل اعضائها الحيوية وهي تهمس بزفرة خاوية
"حسنا يا سيد شادي ، فقط اريد ان افهم شيء واحد ، كيف عرفت بوجودي عندها ؟ او ما لذي دفعك للمجيئ لشقتها ؟ كنت افكر باتهام ميرا بهذه الجريمة فقد فعلتها من قبل ! ولكن لا اعتقد ذلك فقد كانت زيارتي غير متوقعة ولم يكن لديها الوقت لتستنجد بك ، لذا لم يعد هناك احتمال امامي سوى صاحب الطرقات الذي تجاهلنا وجوده ولم نجيب عليه ، هل اصبت بالكلام ؟"
حرك رأسه بعيدا وهو يتنفس بضيق على وشك القضاء على آخر ذرات صبره ، ليعود بنظره نحوها وهو يقول بانفعال هادر
"ولديكِ الجرأة على طرح الاسئلة ؟ لقد انتهت لعبة اسألني واسألك فقط انا اسأل وانتِ تجيبين بكل طواعية ، فأنا قد وصل عندي الاحتمال لأقصى درجاته وكلمة واحدة مستفزة منكِ ستكون آخر كلمة تنطقينها بحياتك ، لذا تكلمي معي بوضوح بدون مراوغتك"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تحيد بنظراتها بعيدا عنه بدون ان تتنازل لرغبته بالحصول على مراده ، ليرجف قلبها بتخبط بقفصها الصدري ما ان استشعرت يديه تحيطان بوجهها وهو يديره امامه بحركة بطيئة عصرت امعائها ودورتها بموجتها ، وما ان تقابل وجهها امام وجهه والذي يبعد عنها إنشات بسيطة حتى همس بخفوت خفيض ببحة خشنة حرقت سطح روحها
"لماذا يا ماسة ؟ لماذا فعلتِ هذا ؟ لماذا خطوت هذه الخطوة وذهبت إليها ! ألم تعديني بهذا الأمر ؟ ألم تقولي بأنكِ لن تخاطري بالخوض بهذه القضية وبمشاكل شقيقتي كافة ! هل كنتِ توهميني وتداري بي بهذا الكلام الساذج لكي تلفي من حولي وتصلي لها بدون علمي بعد ان خدعتي هذا الاحمق امامك ؟ ماذا جنيتِ بهذه الحركة وبالوصول لها واللعب بأعصابها وهي امرأة حامل ؟ ألم تجدي غيرها تبثي بها سمومك ومآربك ! هل كل هذا فقط لكي لا تخسري نفسكِ لكي لا تخرجي منهزمة لكي لا يسحقك احد ؟"
اخفضت نصف جفنيها بدون جواب وهي تحاول تحاشي النظر له بعد ان فقدت المقاومة بالمجابهة امامه وكفيه تحكمان قيد وجهها الجليدي ، ليتابع كلامه بلحظة بدون انتظار وهو ينفخه بوجهها المحمل بأنفاس حارقة تكاد توديها رمادا
"لقد تراضينا يا ماسة ، لقد وعدتك بمراضاتك بكل الوسائل الممكنة ، ولكن بكل مرة يحدث ذلك تصدميني بمفاجأة تدمر كل شيء بنفخة هواء ، هل تتقصدين فعل كل ذلك لتضيفي مشاعر سلبية على علاقتنا ؟ هل هي هواية تدمير ثقة زوجكِ وبمن حولك عندما ترغب نفسك وتمل ! لقد ظننت بعد ذلك الاعتراف الكبير والذي اخذ منا عمرا طويلا سينظف من عقدك النفسية والغبار الذي يعبئ كل نفس بروحك ، ولكن اي شيء من ذلك لم يحدث ولم يشفع عندكِ ذلك الحب والذي اعلن عن ولادته بتلك الليلة والتي لم يمضي عليها سوى ساعات قبل ان نصل لهذا المنحى الجديد ، إذا كان الحب نفسه لم يعطيكِ الشفاعة فما هو الذي سيفعل ؟"
ابتلعت انفاسها بقوة عبأتها بالجموح وهي تقول بكلمات قصيرة بضراوة
"لا اريد البقاء بالمنتصف"
تعقدت ملامحه بحيرة وهو يضغط بأصابعه على تقاسيم وجهها قائلا بخفوت شرس
"ماذا يعني هذا ؟!"
تأففت بنفاذ صبر وهي تنزع يديه عن وجهها بقوة لتدفع صدره بقبضتيها بعيدا ، وما ان تراجع خطوتين للخلف حتى لوحت بكفيها بالهواء وهي تقول باندفاع شرس
"يعني لا اريد البقاء بين الاثنين ، لا اريد ان احاصر بينهما لا اعرف الاختيار او العيش او الهروب ، لقد قدمت لي بجهة عيش السعادة والسلام بأمل بأن تستمر الحياة بطبيعية ، وبجهة اخرى تتعلق بمشاكل شقيقتك العصيبة وبطفلها وعائلتها وزوجها ، وانا لا اعرف كيف سأعيش مع كل هذه الشكوك والمخاوف والهواجس التي قد تدمر سلام حياتنا بأي لحظة غادرة غير مضمون العيش بها ! انا هكذا دائما انانية شكاكة افكر بالغد قبل ان اعيش اليوم ، ولكن إذا بقيت بالمنتصف بين هاتين الحياتين فلن اتحمل ذلك ، لست من النوع المضحي الذي يقدم كل شيء على حساب راحته ولست من النوع الغير مبالي الذي لا يفكر لا بغد ولا بأمس ، لذا إذا لم تجد لي طريقة استطيع دحض الشكوك بها وتضمن لي راحة ابدية فليس عندي سوى انهائها بنفسي ودفنها للأبد ، فأنا لا احلم ولا اتأمل فأما العيش بالواقع او الموت بمكانك ، وهذا هو ما افعله اما ان تضمن لي حياة سعيدة للأبد واما ان تنهي كل شيء وتريحني من العيش بالأمل الزائف والذي سيقتلني حية ، سمعت يقتلني !"
قطب جبينه بجمود تقمصه بلحظة وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة قائلا بصوت باهت بجفاء
"انتِ التي تختارين هذه الحياة بنفسك يا ماسة ، ولكن إذا كان بناء حياتك على حساب الغير فلن ارضى بذلك ، ولا تتوقعي مني ان اضمن لكِ شيء فلست انا المسؤول عن مسار اقدارنا"
ارتفع حاجبيها بتلبك اضطربت انفاسها وهي تراقب الذي تجاوزها ببساطة ليدور حول السيارة بهدوء ، وما ان وقف عند الطرف الآخر من السيارة حتى قال لها ببرود صقيعي جمدها بتخشب
"هبا اركبي بالسيارة ، فأنا لن انتظرك لثانية واحدة ، وسأغادر بدون ان اعطيكِ اعتبار"
زفرت انفاسها بتحشرج متألم حبس الغصة بروحها وشطر قلبها الجليدي لنصفين وهي تسرب مشاعرها وتخرجها حرة طليقة ، وما ان استعادة جزء من قوتها الغادرة حتى استدارت امام الباب وهي تدخل للسيارة لتركب بجوار السائق بسكون ، لتتحرك السيارة وهي تقود برحلتهما الصامتة والتي بدأت بجرح صغير حتى تحول لشرخ عقيم بدون ان يبارد اي منهما بمداواته او لملمت شتاته والتي تبعثرت بالأنحاء .
_______________________________
كانت تنظر امامها بعيون فارغة بدون اي حراك مثل نظرات السمك بعمق المحيط المظلم ، ويدها ما تزال تستقر على مكان الجنين والذي سكن عن الحركة وهدئ مثل والدته والتي غرقت بموجة ظلمتها ، وهي لا تكف عن التفكير بالكلام والذي دار بعقلها وبحياتها عدة دورات حتى شوش ذهنها وغيبها عن العالم الذي كان متسالم من لحظات ، ولكن كما يحدث بكل مسار تخوضه بحياتها تقع على وجهها وتكتشف سوء حظها وبؤس قدرها والتي تدفعها بالتيقن بمقولة لا شيء يدوم للأبد ، فهي لطالما كانت هكذا ما ان تنال غرضها ويصبح بين يديها سرعان ما سيتلاشى ويهرب من بين مخالبها مهما زادت تشبثها به وابدت احتياجا له .
تنهدت بإرهاق استبد بروحها وهي تحاول الخروج من غيبوبتها القهرية التي اخذت منها الكثير من القرارات الحاسمة ، لتنهض بعدها على قدميها بصعوبة خائرة القوى حتى انتصبت واقفة ببطء شديد ، وما ان اخذت عدة انفاس مجهدة تنظم بها نبضات قلبها وقلب طفلها حتى جرت خطواتها بوهن واضح لخارج المطبخ .
بعد مرور ساعة نظمت بها امورها واتخذت قرارها النهائي كانت تجهز حقيبة ملابسها وهي تضع قطع الملابس بداخلها بترتيب شارد بدون اي حياة ، لتستقر كفها لا شعوريا فوق ملابس صغيرة لرضيع حديث الولادة وهي تبتسم لها بحنين تشرب بملامحها الشاحبة لذلك اليوم الموعود ، لتتنهد بعدها بتوق وهي تخفض نظرها لكفها الاخرى التي كانت تمسح على بطنها قبل ان تهمس لها بلهفة فاقت مقدرتها على الانتظار
"لن اتخلى عنك يا طفلي ، حتى لو تآمر الجميع ضدنا ونبذونا من حياتهم ، لن اتخلى عنك ، ولو اضطررت للعيش معك بآخر العالم لوحدنا بدون منزل او طعام لن اتخلى عنك"
رفعت رأسها عاليا وهي تخرج زفير طويل يعبر عن مدى الأثقال التي تحملها فوق اكتافها والتي لا تقارن برؤية وليدها بكامل صحته وعافيته ، رفعت كفها عن الملابس بسرعة وهي تمسح اطراف عينيها ما ان شعرت باهتزاز الهاتف بجيب قميصها ، لتخرج الهاتف بلحظة وهي تحدق بجمود برقم المتصل امامها ، قبل ان تغلق الهاتف ببساطة بدون إجابة وبدون ان تتعب نفسها بمعرفة هوية المتصل .
ما ان كانت على وشك دس الهاتف بجيبها حتى اصدر صوت رسالة سريعة بعث الرعشة على طول ذراعها ، لتعود بعدها لرفع الهاتف امامها وهي تفتح الرسالة المجهولة برهبة ، قبل ان تلتقط عينيها كلمات الرسالة القصيرة والتي اوقعت قلبها بين قدميها
(إذا لم تجيبِ على الاتصال الآن فنحن مضطرين لمداهمة منزلك)
انفرجت شفتيها بشهقة صامتة وهي تحاول استيعاب معنى كلمات الرسالة ومن مرسلها ، ولم يمهلها اكثر من ثواني قبل ان يعيد الاتصال عليها ورقمه ينير شاشتها بوضوح ، لتبتلع بعدها ريقها بقوة ظاهرية وهي تجيب على الاتصال قائلة بتساؤل جامد
"من انت ؟ وكيف تتجرأ على ارسال مثل هذا النوع من الرسائل ! من تكون !"
تنفست بتهدج منفعل وهي تستمع للصمت المرتقب من الطرف الآخر ، وما ان طال الصمت بينهما اكثر حتى تابعت كلامها بهمس اكثر اضطرابا
"ماذا هناك ؟ لماذا هذا الصمت ! هل يعقل بأن يكون هذا انت ؟......"
قاطعها من بالطرف الآخر وهو يقول بصوت بارد جليدي
"اجل هذا انا ، زوجك السابق ووالد طفلك ، وهل كنتِ تظنين بأن احد آخر سيتكلم معكِ ؟"
تسارعت انفاسها بنشيج حتى رفعت كفها لصدرها بألم مبرح وهي تقول بوهن عابس
"ماذا تريد مني الآن ؟ ألم تكتفي مني بعد ! لقد تعبت منك ! ماذا تريد الآن ؟"
ردّ عليها (كمال) ببساطة بدون ادنى تردد
"لقد تكلمنا عن هذا الأمر مسبقا ، هل سنعيدها مجددا ؟ انا اريدكما يا وفاء"
ضمت قبضتها فوق صدرها عند آخر كلماته وهي تقول بضيق مكبوت فاق حدها
"وانا قد اخبرتك بجوابي مسبقا ، لن اعود لك مهما حدث وحصل ، فأنت قد خرجت من حياتي منذ ما يقارب السنة ولم يعد لك مكان للعودة ، لماذا لا تفهم ذلك ؟"
صمت للحظات قبل ان يصلها صوته بجمود مريب
"توقفي عن هذه الممانعة يا وفاء ، فأنا لا احبك متمردة عنيدة ، ولم اعرفكِ هكذا يوما ، لذا استسلمي لما اقوله واطلبه منكِ من اجل حياة افضل لنا ولطفلنا الصغير"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تهمس بعبوس مستاء خرج من صميم آلامها
"وماذا كنت تنتظر ان افعل ؟ هل كنت تتوقع ان تعود لك الفتاة الساذجة الغبية التي استطعت ترويضها بمهارة ! لقد خرجت من تلك الحالة والشخصية وانت بنفسك المسؤول عن هذا التغير الذي صنعته وخلقته بي ! لذا إذا كنت ستلوم احد بيننا فعليك بلوم نفسك بكل ما آلت له زوجتك المزيفة وضحية ضعف رجولتك ونزواتك الحيوانية"
سمعت صفير انفاسه يزداد حدة وهو يتبعها بالقول بخفوت شرس افقدته صوابه
"اسمعي يا فتاة ، انا لم اتصل بكِ لتسمعيني طرب من تلك الكلمات التي تلمس رجولتي وتهينني واصمت عنها ، لقد اتصلت بكِ لأمر واحد وهو عقد اتفاق بيننا بالتكلم معا وجه لوجه ، وإذا لم تفعلي فأنا سآتي إليكِ بنفسي ، ولكِ حرية الاختيار"
اتسعت حدقتيها بوجل وهي تمسد على صدرها بحركة لا إرادية ما ان شعرت بصعوبة بتلقف انفاسها ، لتقول بعدها باستيعاب بطيء بتوجس
"هل هذا يعني بأنك امام منزلي الآن ؟"
ردّ عليها (كمال) بهدوء متسلي بمكر
"اجل يا عزيزتي ، ألم تقرئي مضمون الرسالة ! انا الآن ما ازال واقف امام البناية التي تقطنين بها ، ولكن إذا طالت مدة انتظاري وانتهى صبري فلن أتوانى عن صعودها شقة تلو الشقة حتى اصل لكِ"
شحبت ملامح (ميرا) وهي تهمس بخفوت مستنكر
"مستحيل كيف وصلت لعنوان الشقة ! من الذي اعطاك عنوانها ؟ انت تحاول الكذب عليّ ونصب فخ لي كما فعلت معي سابقا......"
قاطعها بهدوء وهو يقول بأعصاب باردة باستفزاز
"هل ستتركين هذا الأمر للاحتمالات ؟ انتِ استمري بالتفكير جيدا وبغضون دقائق ستجديني امام باب شقتك"
مسحت (ميرا) جبينها بارتباك لوهلة قبل ان تهمس باستسلام خائن
"حسنا يا كمال ، امهلني بضعة دقائق وانا سأنزل لك بنفسي"
ردّ عليها (كمال) بأمر صارم
"لا بل اريدكِ ان تنزلي لي بهذه اللحظة فأنا لن انتظر دقيقة اخرى"
ضربت بقبضتها على صدرها بصبر وكأنها تضرب بمطرقة على حديد وهي تهمس بخفوت ضعيف
"فهمت يا كمال ، سأنزل لك"
اتسعت ابتسامته بدون ان تراها وهو يقول بانتشاء واضح
"اجل هذا ما اريد سماعه منكِ ، تعالي إلي فأنا بانتظارك ، فليس من الجميل ان نزعج ساكني البناية بسبب مشاكلنا الزوجية ، ولا ارجح لكِ فكرة الاستنجاد بشقيقك الوحيد فلديه مشاكل مع زوجته تكفيه وليس لديه متسع لكِ ايضا"
اخفضت الهاتف عن اذنها تدريجيا وهي تحاول استيعاب الصدمة الاخيرة التي تلقتها للتو ، ولم تكن عن حقيقة مكانها بحياة شقيقها والتي تعرفها مسبقا بل حقيقة معرفته بمشاكله مع زوجته التي كانت المسبب بها على الدوام وعلى ما يبدو قد غادر الشقة للحاق بها .
تنفست بارتعاش اختلج بروحها وهي ما تزال تمسد على صدرها بألم اخترق قفصها الصدري ، لتنزل بعدها بيدها تلقائيا لمستوى بطنها البارزة وهي تمسح عليها بهدوء تبث لها بعض الطمأنينة والسكينة ، لتهمس لها بخفوت حزين بمرارة اجبرت على تذوقها
"يبدو بأننا قد اثقلنا على خالك كثيرا حتى بدأ يسئم منا ، وقد حان الوقت الآن لتركه وشأنه والخروج من تحت جناحه حتى يستطيع حل مشاكله والاستقرار بحياته الزوجية ، وانا لن اتحمل ان يتضرر شقيقي الوحيد من مشاكلي ومن عائلتي لأي سبب كان"
عزمت امرها بثواني وهي تقف باستقامة ويديها متشابكتين فوق بطنها تعطيها القوة وتستمد القوة منها ، لتتحرك بعدها بخطوات ثابتة لخارج الغرفة وهي تدعو بهمس خافت تطلب العون
"يارب كون معي وألهمني القوة"
خرجت بعدها من الشقة بأكملها تاركة الحقيبة المفتوحة خلفها تنتظر عودة صاحبتها والتي رحلت إلى غير عودة بعد ان ذهبت لمصيرها المحتوم بقدميها !
_______________________________
اخفض الهاتف عن اذنه وهو يدسه بجيب سترته بدون ان ينسى امر الواقفة بجواره والتي كانت ترمقه بنظرات مستفهمة بجمود ، ليحرك رأسه نحوها وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"انها قادمة ، فلا تقلقي"
ادارت وجهها للأمام وهي تحدق بمدخل البناية بتحفز على وشك اصطياد فريستها ، وبغضون ثواني كان يخرج من باب البناية هدفهم المنشود وهو يتلفت من حوله بتشتت واضح ، وما ان التقطت عينيها وجودهما حتى تسمرت بمكانها بصدمة وهي تتنقل بينهما بذعر تجلى على شحوب ملامحها ، لتتقدم بعدها نحوهما بخطوات شبه متزنة وهي تحاول الحفاظ على هدوئها امام صدمة رؤيتهما معا .
وما ان وقفت على بعد خطوات منهما حتى حطت عينيها على صاحبة الصوت الرقيق وهي تقول بابتسامة ماكرة
"مرحبا يا عزيزتي وفاء ، مر وقت طويل جدا ، ولكني سعيدة برؤيتك بكامل صحتك وعافيتك"
ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تدور بعينيها بينهما قائلة بتوجس مرتبك
"ماذا يجري هنا ؟ وكيف حدث كل هذا ! هل كنتما تعملان معا !"
تقدمت (لينا) خطوتين وهي تأخذ دفة الحديث لتقول لها بابتسامة واثقة بخيلاء
"الحقيقة بعد هروبكِ واختبائك بجحرك مثل الجبناء وقطع كل الاتصالات بيننا ، اضطررت عندها للبحث عن نقاط ضعفك والتي ستأخذ مكانكِ وتكون اوفى منكِ ، فقد كشفتِ بحركتكِ هذه بأن حتى الكلاب اوفى من جنس البشر ، وبأن ليس كل البشر تستطيع الوثوق بهم حتى لو كنت تمسك كل حبائلهم واسرارهم !"
تغضنت تقاسيمها بضعف وهي تهمس بخفوت متحشرج بمرارة
"كيف يمكنكِ فعل كل هذا بي ؟ كيف استطعتِ استخدامه بمخططاتك وألاعيبكِ بتدمير حياتنا للحصول على اهدافك المريضة ! انتِ تعلمين بكامل قصتي وما عانيته بسبيل ألا تدمري حياة احد بسبب مشاكلي الخاصة ، ومع كل ذلك لم يرأف هذا لكِ ولم يحرك جزء من ضميرك الميت ! هل لهذه الدرجة وصل بكِ الطموح لأهدافك مهما كانت الوسيلة المستخدمة ؟ هل لهذه الدرجة وصل بكِ جنون العظمة لمستويات غير محمودة العواقب ؟"
رفعت حاجبيها بانبهار تمثيلي وهي تقول بابتسامة هادئة بدون اي تعبير
"أسألي نفسكِ كل هذه الاسئلة وستعرفين الجواب لها ، فأنتِ السبب بكل ما وصلنا له ، لو انكِ مشيتِ على مخططي منذ البداية ولم تنسحبي منه لكنا الآن نحتفل بانتصارنا ولكنتِ الآن قد ضمنت حياتكِ مع ابنكِ الصغير ، ولكن بسبب هروبك واحتمائك تحت جناح شقيقك كلفتنا الكثير وجعلتنا ندفع ثمن ثقتنا بكِ ، وماذا حدث الآن ؟ ها انتِ تعودين لي صاغرة خانعة بعد ان ضاق شقيقك ذرعا منكِ واكتفى من مشاكلك !"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تهمس بخفوت مشتد ببأس
"هل هذه هي الأسباب والتي جعلتك تحضرين زوجي السابق ليعمل معكِ ويكون سلاحك الجديد ؟ ماذا ستجنين من هذه الألاعيب الرخيصة ! فأنا اعلم جيدا بأن اعادته لحياتي وعقد ارتباطنا لن يفيدك بشيء ، واعتقد بأنكِ قد استنجدت بالشخص الخطأ ليكون حجر الشطرنج بلعبتك والذي لن يستطيع مساعدتك بقيد انملة ، وانا اساسا غير موافقة على فكرة الارتباط به من جديد...ولكن قد اوافق بشرط ان تتركي عائلة شقيقي وشأنها"
ارتجفت ملامحها بشحوب ما ان خرجت منها ضحكة صغيرة مستفزة بدون اي مرح ، وما ان انتهت حتى لوحت بذراعها جانبا جهة الساكن بمكانه وهي تقول بتعجب ساخر
"هل ظننتِ حقا بأني قد اهتم بأمر ارتباطك من هذا الرجل من عدمه ؟ هل صدقتي بالفعل بأن كل ذلك الكلام عن اعادة زواجكما من اجل الطفل والذي قام بتأليفه سيكون حقيقة ! يا للفتاة المسكينة ! لقد اثرتِ شفقتي عليكِ حقا للحال التي وصلتي لها والتي لا يحسد عليها ، فلم يعد احد يريدك بحياته لا شقيقك الوحيد ولا حتى زوجك المزيف ، لا احد !"
اضطربت ملامحها بشحوب اكبر وهي تحاول استيعاب المكيدة التي حاكت من حولها بدون ان تشعر وهي وقعت بالمصيدة ، لتنقل نظراتها لا شعوريا نحو الشخص المسؤول عن كل معاناة تتجرعها للآن بدون ان يكتفي حتى ارتشف آخر قطرة دم منها ومن طفلها ، وما ان تمالكت نفسها بثواني حتى قالت بعبوس مرتجف بدون ان تتركه نظراتها بازدراء واضح
"إذاً هكذا هو الأمر ! هل كل ذلك الكلام الذي سمعته بالهاتف كان من تأليف زعيمتك ؟ وانا الذي ظننت بأنه قد ظهر لك بعض الحياء والابوة بتذكر ابنك الذي رميته مع والدته ، بالرغم من استحالة عودتك رجل حقيقي بعد كل ما جعلتني امر به واعيشه ، ولكنه كان كما قلت تماما عديم الرجولة والابوة والكرامة حتى تجعل امرأة تديرك مثل الخادم تحت امرتها ، وهذا هو ما يليق بك تماما ومكانك الحقيقي بين انصاف الرجال ، لقد كنت اكبر لعنة واكبر قذارة واكبر خطيئة تسقط بحياتي وبحياة ابني والذي سيجبر على اخذ موروثاتك القذرة والتي حقنت بدمائنا مثل السم ، اللعنة عليك يا ظالم ! اللعنة على امثالك !"
تجهمت ملامحه وهو على وشك الانقضاض عليها لولا الذراع التي امتدت امامه وهي تقول بأمر صارم اخرجها عن صورتها الرقيقة
"اهدئ يا كمال ، فنحن لم ننتهي من الحديث بعد ، عليك ان تتحلى بالصبر اكثر"
سكنت ملامحه بدون ان ينظر لها وهو يوجه كامل تركيزه للواقفة امامه قبل ان يقول لها بابتسامة باردة باحتقار واضح
"يا لكِ من بلهاء لم تتغيري بحياتكِ ! وتتأملين ان اغامر بالعودة لكِ مجددا بعد ان اكتفيت باللعب بكِ ، عليكِ ان تحمدي ربكِ بأنني ما ازال صامت عن إهاناتك وقلة ادبكِ معي احتراما للموجودة بيننا والتي ستكون طوق نجاتك الوحيد ، لذا لا تأخذي حريتكِ وتتطاولي معي اكثر لكي لا اندم على سكوتي عنكِ ، واذهبي انتِ وابنكِ للجحيم ، فأنا لا يهمني امركما"
اهتزت حدقتيها بألم طفيف وهي تخفض نصف جفنيها تحاول احتواء الضربة الغادرة التي اصابتها بالصميم وبمحور حياتها ، لتتنفس بعدها لبرهة مسحت بها الألم عن ملامحها قبل ان تهمس بخفوت جاف
"ماذا تريدون مني ؟ لماذا ناديتموني إلى هنا ؟ هل بقي لديكم شيء تهينوني وتذلوني به اكثر مما فعلتم ! بماذا اذنبتم معكم حتى تحملون كل هذا اتجاهي ؟ كل ما اطلبه ان تتركوني انا وطفلي وشأننا فقط"
غامت ملامح (لينا) بغموض وهي تتقدم اكثر نحوها لتلوح بأصبعها الطويل امام بطنها البارزة من تحت قميصها هامسة بخفوت خبيث
"هذا هو ما نريده منكِ ، طفلكِ هو سلاحي الجديد واداتي بالوصول لمآربي واهدافي"
انصعقت ملامحها وهي تنتفض للخلف خطوات ويديها تحتضنان بطنها بحماية غريزية ، لتقول بعدها بثبات لم يخفى الاضطراب به
"ماذا تعنين بكلامكِ ؟ ماذا تريدين من طفلي ! ماذا تريدون منه ؟"
حركت رأسها ببرود وهي تفرد يديها على جانبيها هامسة بابتسامة متشفية
"لا تقلقي يا وفاء نحن سنريحك من هذا الألم نهائيا ، ولكن إذا لم تتعاوني معنا سيصعب علينا انتزاع هذا الألم منكِ وسيترك آثار غير حميدة بداخلك ، وسنقول كان حادث مؤسف توفيا به الأم وطفلها"
اتسعت حدقتيها بذعر وهي ما تزال تتراجع للخلف بتعثر طفيف على اثر الصدمة الاخيرة وكأنها قد وقعت بحفرة سحيقة ، وما ان افاقت على نفسها حتى لوحت بكفها امامهما بتهديد صامت وهي تهمس بقوة شرسة
"إياكما ولمس ابني بسوء ، من يقترب من ابني سيلقى حتفه ، لا احد يستطيع انتزاعه مني ، لن اسمح لكما بذلك ! لن اسمح لكم !"
استدارت (ميرا) بسرعة بعيدا عنهما وهي تكمل طريقها بخطوات متعثرة بتسارع اقرب للهرولة وكأنها تحاول الهروب من اسوار مصيدتهما ، بينما كان (كمال) يقول لشريكته التي كانت تنظر لنفس الوجهة بعملية
"هل سنتركها تهرب ؟"
حركت (لينا) رأسها بإيباء وهي تخرج مفتاح السيارة من جيب سترتها ، ليتدلى بعدها على طرف اصبعها هامسة بابتسامة شريرة بنوايا مطمورة
"بالطبع لن نفعل ذلك ، فهل يترك الصائد فريسته دون اصابتها والحصول على غنائمها ؟"
اتسعت ابتسامته بنفس النوايا الشريرة وهو يلتقط مفتاح السيارة منها قائلا بامتثال مبتذل
"امركِ يا ابنة الوزير ، سيحدث ما تريدين تماما"
ابتسمت بعدها بشماتة وهي تراقب بعينيها الخضراوين القانصتين جهة الفريسة الهاربة من مخالب غدرها والتي ستقتص منها ومن ابنها وتجني حصادها .
______________________________
خرج من غرفة المكتب وهو يتجاوز مكتب السكرتيرة والتي قال لها بعملية جادة
"حولي ما تبقى من مواعيد للغد صباحا ، فقد تأخر الوقت بالفعل ، وانا على عجلة من امري"
ردت عليه السكرتيرة من فورها بطاعة
"حاضر يا سيد احمد"
سار بالممر الطويل الخاص بالمكاتب وهو ينوي الوصول للمصعد ، ليتوقف بلحظة على صوت هتاف انثوي قادم من الخلف ، ليستدير بعدها بهدوء وهو ينظر لصاحبة الهتاف التي جرت نحوه بسرعة ، وما ان وقفت امامه باندفاع حتى كادت تتعرقل بكعبي حذائيها وهو يفرد يديه امامها بدون ان يلامسها بوضعية استعداد بحال سقوطها ، ليتنفس بعدها الصعداء ما ان استطاعت الحفاظ على اتزانها وهي تهمس بخفوت محرج
"اعتذر يا سيد احمد ، يبدو بأنني قد اثرت ذعرك وحيطتك بتصرفي الاخرق"
اخفض يديه وهو يدسهما بجيبي بنطاله قائلا باتزان جاد تقمصه بلحظة
"لا بأس يا جميلة ، ولكن مرة اخرى انتبهي لخطواتك لكي لا تكسري عنقك او ساقك بآلة التعذيب التي تنتعلينها كل يوم ، فأنا اُفضل الاحذية الرياضية بالعمل وبالأمور التي تتطلب الحركة والسير الطويل"
ابتسمت بهدوء وهي تقول بخفوت عملي
"يبدو بأنه لديك خبرة واسعة بهذا المجال يا سيد احمد ، ولكن لا اعتقد بأني سأستطيع الالتزام بهذا الكلام فهو بالنسبة لنا نحن الفتيات مثل جزء من الاتيكيت من الصعب الاقلاع عنه"
حرك عينيه بعيدا بشرود وهو يقول بتفكير هائم
"وما لدي انا لا تعرف شيء عن الاتيكيت وكأنها تناقض العالم بتميزها"
عقدت (جميلة) حاجبيها بريبة وهي تهمس بخفوت مرتبك
"ماذا كنت تقول ؟"
نظر لها بسرعة وهو يقول بهدوء جاد
"كنت اقول يبدو بأن تعدد الزوجات يعطي للمرء خبرات ودروس قيمة لتكون مواعظ له تفيده بكيفية التغلب على الصعاب بحياته ، ألا توافقين الرأي ؟"
حركت كتفيها بعدم مبالاة وهي تقول بمرح
"لا اعلم فأنا لم اجرب الزواج بعد"
التوت ابتسامته بهدوء وهو يقول ببساطة
"هذا من حسن حظك"
تغضن جبينها بعدم فهم قبل ان يقول بسرعة بقناع الجدية الصارمة
"حسنا يا جميلة ، اخبريني الآن سبب هذا الهتاف الطارئ ؟ هل هناك من خطب ؟"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تقول بابتسامة رسمية
"اجل لقد تم استدعائك بطلب من الرئيس الكبير حوت الفكهاني وهو الآن ينتظرك بمكتبه ، واعتقد بأنه من الافضل ان تذهب له بسرعة فقد تأخرنا عليه بالفعل"
اومأ برأسه بصمت لتحين منه نظرة على الساعة بمعصمه لوهلة ، ليخفض بعدها كفه وهو يقول بهدوء مشتد
"انتِ على حق سأذهب له حالا ، شكرا لكِ يا جميلة ، وحظا موفقا بالعمل"
تجاوزها بسرعة وهو يغادر بعيدا باتجاه الطريق التي جاء منها ، بينما التي تركها من خلفه كانت تراقبه بابتسامة واسعة وهي تهمس بغبطة
"امثالك حلال عليهم الزواج من اربع وليس من اثنين"
كان (احمد) يقف امام المكتب والذي يقبع من خلفه الجبل الشامخ بكبرياء ما يزال يحافظ عليه بدون ان يؤثر به تراكمات واتعاب مكانته والتي لم تتزعزع لسنوات ، ليقطع بعدها الصمت الذي قال بهدوء جامد دائما ما يتقمصه امام والده
"هل طلبتني يا ابي ؟ خير ماذا هناك ؟"
نظر له (محراب) بحدة جليدية تمثلت بعينيه الرماديتين وهو يقول بتفكير لا يقبل الشك
"هل كنت تنوي مغادرة الشركة ؟ أليس من المبكر الخروج الآن !"
تجمدت ملامحه بخطوط قاتمة وهو يقول بهدوء جليدي شبيه بهدوء والده
"لقد تأخر الوقت كثيرا ، لذا قررت العودة للمنزل بعد يوم شاق من العمل"
سكنت ملامحه بدون ان تلين او يفقد حدة عينيه وهو يقول بجمود اكبر
"لقد قصدت بسؤالي هل انتهيت من اعمالك ؟ هل انجزت كل الاعمال المنطوية عليك بدورك !"
حرك عينيه بعيدا وهو يكسر حرب العيون بكشف الحقائق المخفية ليتبعها بالقول بانهزام ممقوت
"لقد اجلت باقي المواعيد ليوم غد ، فأنا لن اتحمل المزيد من الضغوطات لي وللموظفين الذين يعملون عندي ، وقد قررت اليوم مغادرة العمل مبكرا ، هل اخطئت بهذا التصرف ؟"
تغضنت تقاسيمه بمنحنيات قاسية وهو يقول بكل استهجان كما كان متوقع منه
"انت لم تخطئ وحدك بل جميع الموظفين الذين يعملون عندك سيتحملون خطأك ايضا ، ماذا تظن نفسك فاعلا بتأجيل مواعيد هامة تخص العمل للغد ؟ هل لديك امور اهم تدعي لترك العمل جانبا والسعي خلفها ؟ كم مرة اخبرتك بأهمية العمل لدينا وان يكون اول مسؤولياتك واولياتك بالحياة وبعدها تأتي الامور الثانوية ! لما لا تفهم اهمية مكانتك بالشركة والترقيات التي ستحصل عليها لاستلام كافة اعمال شركات حوت الفكهاني والتي ستصبح ملكك يوما ما ؟ هل تفهم معنى ان تأخذ مكان وقمة هرم حوت الفكهاني ؟"
زفر انفاسه بضيق وهو يقول بإصرار غير قابل للنقاش
"ابي لا تحاول معي كثيرا بطريقتك المعتادة بتحميلي كامل المسؤولية من اجل ان تردعني عن مسعاي ، فأنا قد قررت واتخذته بناء على وجهة نظري ومبدأي وهذا هو ما سيحدث"
تنهد (محراب) بتحشرج التعب وهو يدير عينيه بعيدا قائلا بسخرية قاتمة وكأنه يأنب نفسه
"اكبر خطأ حدث بحياتك هو الزواج مرتين ، كان افضل ان تبقى على زواج المصلحة والذي لا يجلب لنا لا هم ولا شد اعصاب ، ولكن زواج الحب يجلب كل انواع الهلاك لصاحبه واختبارات عصيبة لا تنتهي ، لقد ظننت بأنك لن تخضع لسيطرة سلطان الحب ، ولكني ارى بأنك قد خضعت لسيطرة اقوى بكثير مما تخيلت حتى غيرتك وقلبتك مئة درجة ، لقد كنت اخاف بالسابق من تجبر زوجتك الأولى وجعلك طوع امرها ، ولكن انظر من التي سيطرت عليك واصبحت طوع امرها ! حقا كما يقولون النساء بمئة لون ونوع !"
ارتفعت زاوية ابتسامته وهو يعقب على كلامه قائلا باستهزاء واضح
"لقد نسيت يا ابي مقولة هذا الشبل من هذا الاسد"
نظر له بحدة توسعت بها حدقتيه الرماديتين وهو يقول بصرامة نافذة جمدت الدماء بعروقه البارزة
"إياك وان تقارن حالتي بحالتك ، فلا يوجد بينهما اي شبه ، فأنت ستبقى زوج النساء"
قطب جبينه بتجهم عند هذا اللقب والذي اصبح يسمعه كثيرا من والده بفترات غضبه عليه ، ليقول من فوره بنفس الجمود وهو يرد له بالمثل
"وإياك يا ابي ان تقارن زوجتي الثانية بباقي النساء ، فهي لا تقارن بكل نساء العالم"
ارتفع حاجبيه ببطء ساخر اقرب للاستهجان قبل ان ينفض كل هذا بلحظة وهو يضم قبضتيه فوق سطح المكتب قائلا بصوت جهوري عملي
"هذا كله لا يهمني فأنا لم استدعيك لمكتبي للتكلم عن حياتك الشخصية بل عن العمل ، فهذا المكان لحصاد الأيدي العاملة وانتاج العقول اليقظة ، واما الحسابات الشخصية فهي خارج حدود الشركة ، والأهم من ذلك هو موضوعنا الاساسي لقد اخترتك من اجل رحلة صفقة روسيا والتي سلمتك ملفها ، وانت تعلم جيدا اهميتها ودرجة نجاحها بالنسبة لنا ، وقد وصلنا معلومات بأن زبائننا هناك مستعدون لبرم الاتفاق بيننا ويعجلون بحضورنا ، لذا حجزت لك مقعد سفر بأول طائرة وجهزت لك كل شيء قد تحتاج إليه هناك لتستطيع حل الامور بينهم بسرعة وانهاء الصفقة"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يحك جبينه بأطراف اصابعه بتفكير ليقول بعدها باستفسار جاف
"ومتى سيكون موعد الرحلة ؟"
اجابه (محراب) بهدوء بدون ادنى تردد
"بعد يومين من الآن"
تلبدت ملامحه بغمامة شاردة وهو يقول بوجوم عابس
"ألا نستطيع تأجيل الرحلة للأسبوع المقبل ؟ فأنا لدي التزامات اخرى هذه الأيام !"
تقدم بجلوسه فوق سطح المكتب وهو يقول بصوت جهوري حازم
"ماذا كنا نقول من لحظة يا احمد ؟ العمل هو اهم اولوياتنا بالحياة وهذا ما عليه ان يكون عندك ايضا ! ما لذي اصابك بهذه الفترة حتى اصبحت تتجاهل كل توصياتي وتحذيراتي ؟ اين ذهب ابن والده الذي لا يسير من غير كلمته ورضاه والذي لا يؤجل اي عمل يطلبه منه للغد وبدون ان يخوض معه بجدال او نقاش ؟!"
تنفس (احمد) بجهد امتلئ بصدره وهو يقول باقتضاب
"ابي لم اقل شيئاً ، فقط سألتك إذا كنت تستطيع تأجيل الرحلة ، هل اذنبت بهذا السؤال ؟"
ضرب بقبضته على سطح المكتب وهو يقول بأمر صارم
"لا لا يوجد تأجيل ، هل هذا يكفي لتعطي هذا الموضوع اولوياتك وترمي كل شيء آخر خارج حدود العمل ؟"
اشاح بنظراته جانبا لوهلة وهو يفكر بأمر آخر بعيد عن العمل اخذ حيز بتفكيره منذ وقت ، ليعود بنظره لوالده وهو يقول ببعض التردد
"ابي هل لي بطلب ؟ ولكن بدون اي غضب او انفعال"
عبست ملامحه بعدم ارتياح وهو يقول بهدوء مريب
"هيا تكلم ، ماذا تريد ؟"
زفر انفاسه بهدوء قبل ان يقول مباشرة بقرار حاسم
"هل استطيع حجز تذكرة طائرة لزوجتي ؟ فأنا اريد ان تشاركني بهذه الرحلة كرفيق سفر"
حرك رأسه بيأس وهو يقول بابتسامة ساخرة بدون اي مرح
"احمد هل تسخر مني ؟ هل تراني لدي الوقت لسماع مثل هذه التفاهات ؟ ألم نتكلم بموضوع الامور الشخصية والتي عليها ان تبقى خارج حدود العمل ! لماذا تصر على تجاهل كلامي بهذه الطريقة وكأنني اكلم جدار اصم لا يشعر ولا يسمع ؟ انا لا استطيع تحمل تحكمات زوجتك بك وهي بعيدة عن العمل ! فكيف سيكون الوضع وهي قريبة منك وبصفقة مهمة مصيرية بحياتنا المهنية والعملية ؟ هل تدرك مدى الخسارة التي سنتعرض لها لو فشلت بهذه المهمة ؟"
شدد على اسنانه بغيظ وهو يقول من بينهما بجمود حاد
"لقد اخبرتك يا ابي بدون اي غضب او انفعال ، وايضا هي ستكون رفيقة سفر مثل اي رفيق يذهب معي بالرحلة والتي يسمح بجلب اي شخص مقرب معك ، وهذه ليست اول مرة تحدث فكل رؤساء الاعمال يحضرون زوجاتهم معهم برحلات عملهم ولأي مكان يذهبون إليه ، وإذا كنت خائف من ان تسبب لي التشوش او عدم التركيز بالعمل فعليك ان تكون مطمئن من هذه الناحية فهي وجودها بالقرب مني سيريحني اكثر من وجودها بعيدا عني وسيسهل عليّ بالعمل اكثر مما تتوقع ! وليس لديك اي اعذار او حجج تمنعني من اصطحاب زوجتي بهذه الرحلة ، ولا تنسى بأننا منذ زواجنا لم اصطحبها معي بأي رحلات شهر عسل او عطلات عمل خارج البلاد ، وهذا اقل شيء تستحقه زوجة احمد الفكهاني وابن اثرى رجال الاعمال"
ضيق عينيه بتحدي اخذت منه لحظات قبل ان يدير عينيه بعيدا وهو يقول بجفاء بارد
"افعل ما تشاء بحياتك ، فبكل الاحوال لن تستمع لكلامي وستفعل ما يدور برأسك ، حقا انت زوج النساء !"
اتسعت ابتسامته تلقائيا وهو يخفض رأسه قائلا بامتنان متحشرج
"شكرا لك يا ابي ، سأبذل كل ما بوسعي بهذه الصفقة واعدك ان انجح بها وارفع رأسك دائما"
بعدها بلحظات قصيرة كان يخرج من الشركة بدون ان تفارق البسمة شفتيه وهو يسرع بخطواته على درجات سلم المدخل ، وما ان وصل عند المرآب حتى دخل لسيارته باللحظة التالية وهو يستعد للانطلاق ، ليتسمر لوهلة وهو يشعر باهتزاز الهاتف بجيب سترته يعلن عن وصول رسالة ، ليخرج بعدها الهاتف بهدوء وهو يفتح الرسالة الغامضة بحيرة اكبر
(إذا كنت تهتم بأمر زوجتك ، اذهب للعنوان المدون بالأسفل وتأكد بنفسك عندها ستعرف زوجتك التي لم تستطع رؤيتها يوما)
غامت ملامحه ببطء شديد اختفت معها خطوط ابتسامته والتي تحولت لعبوس طفيف غير مفهوم مجرد انشداد بزوايا شفتيه ، وبثواني كان يغلق الهاتف بصمت بعد ان حفظ العنوان برأسه وهو يشغل محرك السيارة لينطلق بعيدا بلمح البصر وكل ما يسعى له التأكد من صحة نواياه والتي اصبحت تنحرف لمستوى خطير غير محمود العواقب .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن