كانت تعقد شعرها للخلف على شكل ذيل حصان بإحكام وهي تراقب بانعكاس المرآة تموجات عينيها القاتمتين بسكون ، وما ان انتهت حتى اخفضت ذراعيها بهدوء وهي تتنفس عدة مرات بتهدج عاد لاحتلال كيانها بثورة لم تخبو ولو قليلا على مدار الساعات الماضية ، وكأن الشعور بالمهانة والذل بالحياة لا يريد ان يترك تفكيرها للحظة ! بالرغم من انها لم ترتكب اي خطأ شائن يعرضها لتأنيب النفس او الشفقة على الذات ! ولكن التفكير برضوخها وقبولها بالأمر الواقع يشعرها بالكره الشديد والنفور من نفسها وما وصلت له حالتها من سلبية لم تتعرض لها بحياتها ، وحتى بوضعها السابق مع زوج والدتها فلم يكن يوما بإرادتها الحرة بعد ان نفذت منها كل السبل للتحرر منه ، مقابل وضعها الحالي والذي تملك به كل الوسائل للهروب امامها بدون ان تستغل شيء منها برغبة قوية بالتشبث بتلك العلاقة الواهية والتي قدمت لها كل ما كان محظور عنها وبعد ان استعادة بها نفسها الضائعة بالحياة .
استغفرت ربها وهي تعيد خصلات غرتها الطويلة بعيدا عن حاجبيها بعد ان استطالت كثيرا واكثر مما ينبغي ، وهذا يدل على الوقت الطويل والذي مضى بلمح البصر منذ آخر مرة اهتمت بها بنفسها ، فهل كل هذا بسبب تفكيرها الدائم بحل الحقائق المخفية والتي تحوم من حولها بحلقة لا نهائية ؟!
تصلبت بمكانها بقوة وهي تقبض على يديها بعزم ، لتستدير بلحظة وهي تخرج من الحمام بهدوء بدون ان تنسى التقاط الثوب المعلق عند مقبض الباب .
وقفت بعدها امام الخزانة وهي تفتحها بهدوء لتعلق بلحظة الثوب الملعون بين ملابسها وهي تدسه هذه المرة بعيدا عن العين وبزاوية غير مرئية ، لتخفض بعدها يديها وهي ترتب الملابس الاخرى بعشوائية ، تسمرت بمكانها ما ان وصل لسمعها صوت طنين هاتف مدفون تستطيع سماعه جيدا ، لتتلفت من حولها بريبة قبل ان تقع عينيها على النائم بالسرير بسبات عميق وهو يصدر صوت الطنين الخافت من عنده .
عضت على طرف شفتيها بتأهب منتفض وهي تتقدم باتجاه السرير عدة خطوات حذرة بدون ان تصدر صوت وقع خطواتها ، وما ان وصلت امامه حتى مرت بعينيها على جسده ببطء لتتوقف لوهلة عند جيب بنطاله والذي كان يهتز بطنين الهاتف وكأنه محشور .
عقدت حاجبيها بتحفز وهي ترفع يدها لتدسها بداخل جيب بنطاله بحرص شديد بدون ان تشعر الشخص النائم بحركاتها ، لتخرج بلحظة الهاتف من الجيب الضيق بنجاح وهي تبتسم بسعادة خفية بدون ان تشعر بتخبطات قلبها والتي زادت من فوضى حواسها بثواني ، رفعت الهاتف الذي ما يزال يصدر صوت الرنين امام عينيها بهدوء ، ليتغضن جبينها لبرهة وهي تلمح الاسم المنير بالشاشة والذي زاد من تشتت افكارها اكثر عن السابق (مونتريال) .
ضمت شفتيها بوجوم وهي لا تفهم معنى هذه الكلمة والتي تبدو تشير إلى اسم عائلة ما ؟ ولكن من هي تلك العائلة ! ومن المتصل ؟
عبست ملامحها ما ان انفصل الخط بعد فترة طويلة من الرنين المستمر بهذا الصباح الباكر وقبل شروق الشمس ، وما ان كانت على وشك اعادة الهاتف لمكانه حتى صدر صوت رنين رسالة سريعة بعد لحظة من انفصال الخط ، لتعود لرفع الهاتف بسرعة وبعينين متسعتين وهي تلمح الرسالة المعلقة فوق طرف الهاتف التي وصلت من لحظة .
شددت لا شعوريا على الهاتف بقبضتيها وهي تموج بكل انواع المشاعر التي بدأت بافتراس محياها وسطح روحها الثائرة من جديد ، وهي تتابع مضمون الرسالة المختصرة والتي اوضحت جيدا عن هوية مرسلها
(اعتذر على الإزعاج ! ولكني بحاجة لوجودك الآن مجددا ، ارجوك ان لا تخيب ظني بك ، فأنا ليس لي سواك !)
ارتمت ذراعها جانبا بدون شعور والكثير من الافكار تتلاطم بذهنها الشارد بحرب طاحنة ، وكل ما وصلت له من استنتاجات مهمة بأنه كان عند هذا الشخص مسبقا وقبل وصوله للمنزل والذي يدل من معرفتها بوجوده بالبلد الآن ومن قولها كلمة (مجددا) ! وهذا يعني بأنها ليست اول من توجه له فور عودته من السفر بل هناك من حصل على شرف استقباله اولاً وذهابه له مباشرة !
تصلبت ملامحها بلحظة فاصلة وهي تخفي كل انفعال كان يسيطر على محياها بلحظة بمهارة اتقنت تقمصها على مدار سنوات ، لتستدير بلحظة وهي تسير بخطوات جامدة باتجاه الخزانة المفتوحة ، وما ان وصلت امامها حتى القت بالهاتف داخل الخزانة بإهمال متعمد بدون حتى ان تتعب نفسها برؤية مكان سقوطه !
اغلقت الخزانة من جانبيها بهدوء ظاهري وكأن شيء لم يكن ، لتتجه من فورها نحو حقيبتها وهي تلتقطها بطريقها لتسير بلحظة لخارج الغرفة بثبات تام تحسد عليه .
كانت تنزل السلالم بعزيمة واندفاع سرعان ما تبخرا بلحظات قصيرة ، لتقف بعدها على الدرجات الاخيرة وهي تستريح بالجلوس فوقها بصمت احتل كيانها بلحظة وهي تطلق العنان لأفكارها لتسبح بأعماق بحرها المعزول عن البشر .
زمت شفتيها ببؤس وهي تستمع لصوت الخطوات من خلفها ليتبعها الصوت المألوف قائلا بنفس نبرته الجادة المتحدية
"ماذا تفعل العروس هنا بهذا الوقت المبكر ؟ هل هناك ما يضايقها ويعكر عليها مزاجها ؟"
تنفست بضيق وهي تهمس بلحظة بخفوت بارد
"لقد اخطئت ايها الطفل ! فأنا الآن لم اعد عروس فقد فقدت هذا الحق منذ ايام"
وصل لها بلحظات وهو يقف على نفس الدرجة هامسا بابتسامة صغيرة بمرح
"ولكني مع ذلك ما ازال اراكِ عروس ، فأنا اعرف بأن العروس تبقى عروس حتى تنجب لها اطفال وتتحول من عروس لمدبرة منزلية"
اشاحت بوجهها بشرود وهي تهمس بغموض
"ربما !"
حادت بنظراتها باتجاه الذي جلس بجانبها ببساطة لتقول بلحظة بوجوم عابس
"ما لذي ايقظك بهذا الوقت من الصباح ؟ ام انك تتعمد ملاحقتي لتزعجني على الدوام !"
حرك رأسه بالنفي وهو يهمس بابتسامة جادة بعملية تفوق سنه
"لا ليس هذا هو السبب ، انا معتاد على الاستيقاظ مبكرا بسبب بداية حصصي اليومية على الساعة السابعة صباحا والتي اتعلم بها عن ادارة الأعمال وعن كل شيء يتعلق بصفقات الشركات ، وهذا يحدث فقط قبل بداية دوام المدرسة ، ولكي اؤخذ الفائدة والعلم واستغلال وقت الفراغ بما يفيد مصلحة العمل"
حركت عينيها بملل وهي تهمس بابتسامة ساخرة بجمود
"يبدو بأنه يجهز ثمار المستقبل !"
نظر لها بتفكير لوهلة قبل ان يقول بابتسامة متسعة ببراءة
"وانتِ ما لذي ايقظك يا عروس ؟"
رفعت عينيها بهدوء وهي تهمس بعدم اهتمام حقيقي
"لدي اليوم جامعة ومحاضرتي تبدأ من الساعة الثامنة صباحا ، ولا احب ان اكون مهملة بمواعيدي"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يهمس بخفوت حائر
"ولكن الوقت مبكر جدا على الخروج ! يعني لديكِ ساعات اضافية حتى تبدأ محاضرتك الأولى ، إذاً لما كل هذا الاستعجال ؟"
ردت عليه من فورها بضيق واضح
"لأنني من الاشخاص الذين يحبون الاستيقاظ مبكرا قبل موعد الشروق بساعات ، وهذا الأمر لا يتعلق ابدا بخصوص مواعيد محاضراتي ، هل فهمت الآن ؟"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بما توصل له عقله المفكر
"تقصدين هذا نظام حياتك وهذا ما تبرمج عليه عقلك ؟"
رفعت حاجبيها بهدوء وهي تتمتم بشرود
"شيء من هذا القبيل !"
اخفض نظره قليلا وهو يهمس بعدها بلحظات بتردد
"هل تشعرين بالاشتياق لزوجك ؟ لهذا اصبح مزاجك معكر بالآونة الاخيرة !"
امتعضت ملامحها وهي تقبض على يديها فوق ركبتيها بلحظة هامسة بجمود صخري
"من اين تجلب مثل هذا الكلام ؟ يا لك من ساذج !"
عاد للكلام مجددا بدون ان يأبه بكلامها الاخير وهو يقول بقوة
"انا واثق بأن هناك سبب وراء تغيبه الطويل عنكِ ، فأنا اعرف شادي جيدا هو لا يتقصد ايذاء احد وخاصة إذا كان هذا الشخص مهم جدا بحياته وعزيز عليه وانتِ اكثر شخص قد يكون مقرب منه و....."
قاطعته بحدة وهي تلتفت نحوه بتجهم غاضب
"توقف عن هذه التفاهات ! فأنا لا ينقصني سماعها من طفل صغير مثلك يظن بأن الحياة جميلة وكل شيء يصلح بكلمتين صغيرتين منك ! بل الامر اصعب بكثير مما تظن ويفكر به عقلك الآلي"
اخفض (زين) وجهه للأسفل بوجوم بدون كلام وهي تشعر بهالة حزن غريبة بدأت تحوم من حولهما تكاد تقتلها ، لتتأفف بعدها بضيق وهي تهمس بخفوت حانق
"لا تبدأ بالحزن مثل الاطفال الآن ، فأنا لا اريد ان احمل ذنب جرح كرامة طفل مثلك !"
حرك رأسه بشرود وهو يهمس بابتسامة هادئة باتزان يحسد عليه
"لا تقلقي انا بخير ، فقد اعتدت على سماع هذا الكلام كثيرا من شقيقي شادي ، فهو لا يتوقف عن نعتي بالرجل الآلي الساذج ، لذا لا بأس بذلك"
عقدت حاجبيها بغموض وهي تنظر له بهدوء للحظات قبل ان تهمس بخفوت باهت
"بالمناسبة لما يبدو على شادي بأنه يكرهك فقد لاحظت كثيرا اسلوبه الجاف معك ؟ أليس هذا صحيحاً !"
رفع وجهه بهدوء وهو يهمس بشبه ابتسامة اختفت عنها معالم المرح
"اجل صحيح ، الحقيقة امي توفيت فور ولادتي تماما بسبب سوء الحمل عليها وتقدم العمر بها ، وبسبب هذا الأمر اصبح شادي يحملني مسؤولية موتها كاملة فهو يعتبرني لعنة على العائلة والتي تسببت بدمارها"
كانت تتابع كلامه بانشداه صامت بدون اي شعور يسكن محياها البارد ، فهي لا ترى بأن السبب مقنع لهذه الدرجة ليدفعه ليكره هذا الطفل الصغير والذي جاء بنهاية عمر والدته ! فهل هناك سبب آخر غيره لا تعلم عنه ؟
حركت رأسها للأمام وهي تضم يديها معا هامسة بوجوم
"هل انت متأكد من كلامك ؟ فهذا لا يعتبر سبب حقيقي ليكره احدهم شقيقه !"
التفت نحوها بلحظة وهو يقول بتفكير عميق
"لا اعلم حقا ؟ ولكن قد يكون عامل التأثير بحياته الماضية له اثر كذلك !"
نظرت له باهتمام وهي تهمس باستغراب
"عامل التأثير ؟"
اومأ برأسه بقوة وهو يتابع كلامه بثرثرة عملية
"اجل فأنا اعلم بأن تأثير ترك الأم لطفلها بمسؤولية زوجة الأب له دور كبير بلعب بشخصية الطفل ، بالرغم من ان زوجة الأب كانت مثال افضل بكثير من الأم الحقيقية والتي تخلت عن طفلها ورحلت !"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين ببطء مرتعش وهي تحاول تفسير كلام هذا الطفل والذي ينطبق على حياة (شادي) الماضية والتي لا تعلم الكثير عنها حتى هذه اللحظة ! لتهمس ببهوت وهي تكرر كلامه بعقلها
"تقصد بأن التي اهتمت بتربية شادي تكون زوجة والده ؟"
اومأ برأسه مجددا وهو يلوح بيده قائلا ببساطة
"صحيح والدتي هي التي اهتمت بتربية شادي بصغره ، وهذا لأن والدته قد غادرت بعيدا خارج البلاد منذ زمن طويل"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس بسرعة بتفكير
"وماذا عن والدته الحقيقية ؟ اين هي الآن ؟"
حرك كتفيه إشارة الجهل وهو يهمس بخفوت هادئ
"لا اعلم ! ليس لدي معلومات عن هذا الأمر !"
زفرت انفاسها بهدوء وهي تمسد على جبينها بتفكير قاتم للحظات ، لتنتفض بعدها واقفة بمكانها وهي تعدل من وضع حزام حقيبتها فوق كتفها هامسة ببرود
"إذاً وداعا ايها الطفل ، وبالتوفيق بحصصك اليومية"
رفع رأسه بسرعة وهو يتابع بنظره التي نزلت باقي الدرجات قائلا بحيرة
"ولكن الوقت ما يزال مبكر !"
ردت عليه وهي تلوح له بيدها قائلة بلا مبالاة
"كما اخبرتك لا احب ان اكون مهملة بمواعيدي"
لتكمل طريقها باتجاه باب المنزل بخطوات متسارعة تضاهي نبضات قلبها وافكار مشتتة عادت للتخبط بأعماق بحارها...بنقطة جديدة توضحت الآن...
______________________________
كان الطفل ذو السنوات الخمس يسير بخطوات صغيرة مترددة وهو يتابع بنظره المرأة الواقفة امام باب المنزل وبيدها تمسك مقبض حقيبتها الكبيرة وهي تنوي الرحيل ، لتتباطء بعدها خطواته الصغيرة بثواني ما ان اقترب من مكان وقوفها امام المدخل ، ليقف بعدها بصمت دام للحظات وهو ينظر لظهرها بعيون ضائعة بتشتت مشاعره المبعثرة بدون ان يحدد ترتيب شعوره الآن وما عليه التصرف به !
قبض على يديه الصغيرتين وهو يهمس بخفوت حائر وعينيه تنتقل لحقيبة السفر بجانبها بوجوم
"إلى اين تريدين الرحيل يا أمي ؟"
ساد الصمت بينهما طويلا بدون اي إجابة تريح بها الطفل الحائر وهو ما يزال ينتظر تفسير موضح لكل ما يجري امامه ، وعندما طال الصمت بينهما اكثر مما يحتمل عقل طفل حتى عاد للسؤال مجددا بنفس الصوت الحائر ممزوج بخوف اللحظة
"امي لما انتِ صامتة ؟ ألا تريدين ان تقولي لي عن المكان الذاهبة إليه !"
ضم شفتيه بارتعاش اكتسح ملامحه بلحظة ما ان شاهد التي تحركت من امامه باتجاه باب المنزل مباشرة ، لينتفض تلقائيا قاطعا المسافة بينهما بخطوتين وهو يمسك بحقيبتها بتشبث هامسا بعناد عابس
"امي !......"
قاطعته الكلمات الباردة بدون اي حياة جمدت قلب الطفل الواقف بقربها وكأنه لا صلة تربط بينهما
"اذهب يا شادي ، وارجع لوالدك الآن ، فأنا لم اعد اريدك !"
اتسعت عينيه بذهول الدموع الساكنة بهما وهو يخفض يديه بعيدا عن الحقيبة بجمود تحجرت معه كل الاشياء المتحركة بداخله ومن حوله ، ولم يسمع بعدها سوى صوت تحرك عجلات حقيبتها الضخمة على الأرض الرخامية المصقولة مثل مشاعرها والتي لم تحمل يوما اي حنين نحو طفلها الوحيد منذ ولادته لهذه اللحظة .
رفع ذراعه بعيدا عن عينيه وهو يرجعها لخلف رأسه بهدوء ساكن شبيه بلحظة اكتشاف مشاعر والدته الحقيقية نحوه ومكانه بحياتها ، ليخفض بعدها جفنيه فوق عينيه ببطء منهك ما يزال تأثير تعب السفر يؤثر على خلايا جسده المخدر وهو يعود لنفس الذكرى البعيدة ، عندما كان ما يزال يقف امام مدخل المنزل الفارغ بعد رحيل والدته ليشعر بلحظة بيد دافئة وهي تمسح على رأسه بحنان بعث الراحة والاستقرار بمشاعره المضطربة ، قبل ان يسمع ذلك الصوت الحنون وهو يهمس بعطف واطمئنان اخترق هالة قلبه الحزين
"لا بأس يا صغيري ، كل شيء سيكون على ما يرام"
اغمض عينيه على ضباب الذكرى والتي اسرته بلحظة ليحصرها بقضبان عقله المنيع ، كما جميع ذكرياته والتي تحاول دائما تعكير صفو حياته بدون ان يفتح لها السبيل ، فهو يؤمن دائما بأن الذي لا يستحق وجوده بحياته ليس له مكان بعقله ولن يكون .
تنهد بهدوء وهو يرفع كفه ليمسح على وجهه مستغفرا ربه عدة مرات ، لينهض بعدها عن السرير بخمول وهو يمسد على ذراعه بيده الاخرى بتشنج ما يزال يحكم عضلات جسده من طريقة نومه ، قبل ان يستقيم بمكانه لوهلة وهو يوزع نظراته ببرود بأنحاء الغرفة الفارغة ، ليهمس بعدها بابتسامة برزت بطرف شفتيه بوجوم
"لقد رحلت !"
تغضن جبينه بحيرة وهو يفتش بجيوبه بضيق بدون ان يجد هاتفه بأي منها ، ليتلفت بعدها من حوله بتخبط وهو ينفض فراش السرير بدون ان يجد اي اثر لهاتفه ، ضرب جبينه بقبضته بقوة وهو يحاول تذكر المكان والذي سقط منه الهاتف ، لتقع نظراته بالنهاية على الخزانة وهو يستمع لصوت طنين خافت يصدر منها بدون ان يتأكد من صدق سمعه !
تقدم بسرعة باتجاه الخزانة وهو يفتح جانبيها بقوة ليصدم برؤية الهاتف والذي كان ملقى بين الملابس الفوضوية بإهمال ، امسك بالهاتف بهدوء حذر وهو ينظر لهوية المتصل والذي دفعه ليتلبس ملامح العبوس بلحظة ، ليضع من فوره الهاتف على اذنه وهو يجيب على الاتصال بكلمات موجزة
"ماذا الآن ؟ ألم اخبركِ بعدم الاتصال بي وانا بالمنزل !"
اجابت من فورها بارتباك متعثر
"اعتذر بشدة ، ولكن الأمر ضروري جدا ! وانا احتاج لوجودك ، ارجوك"
عقد حاجبيه بضيق وهو يهمس بانفعال مكبوت
"ألم اكن متواجد عندكِ بالأمس وتكلمنا بكل شيء يخص حياتك القادمة وكل ما ستلتزمين به من الآن وصاعدا ! ماذا بقي الآن ؟"
تنفست باضطراب للحظات لتهمس بعدها بخفوت حذر
"اجل صحيح ، ولكنك نسيت بأن اليوم هو موعدي الأول عند الدكتورة الخاصة والتي وضعتني عندها ! وانا لا استطيع الذهاب بمفردي لأنني لا اعرف اساسا شيء عن تلك العيادة ومكانها ؟ وكيف عليّ ان اتصرف هناك ؟"
ارتفع حاجبيه بتجهم لوهلة وهو يهمس بخفوت حانق
"سحقا ! كيف نسيت مثل هذا الأمر ؟"
ردت عليه بالطرف الآخر بإحراج ما ان ضاق الوضع بها
"لا بأس يا شادي ، لن يحدث شيء إذا تجاهلت الموعد فأنا لا اعتقد بأنه سيكون هناك مانع !....."
قاطعها بلحظة وهو يهمس من بين اسنانه بحدة صارمة
"اخرسي يا ميرا ، انا سأتكلم مع الدكتورة لتنقل موعدنا بعد ربع ساعة ، لذا استعدي بهذا الوقت حتى اصل لكِ ، فهمتِ ما اقول ؟"
صمتت للحظات قبل ان تهمس بخنوع
"حاضر"
فصل الخط بلحظة وهو يخفض ذراعه بعنف مستغفرا ربه من جديد بكبت مخنوق يكاد يودي به ، ليعود لفتح الهاتف مجددا وهو يلمح رسالة فائتة بصندوق الرسائل الواردة ، وما ان فتح الرسالة حتى انقلبت ملامحه بجمود صخري انبثق بروحه مثل البراكين الهائجة والتي فاضت عن الفوهة ، لينظر بعدها للخزانة المفتوحة امامه لبرهة قبل ان يغلقها بيده الحرة بعنف كادت تحطمها لأجزاء ، وهو يهمس بكلمة واحدة بفورة المشاعر الثائرة
"تلك المجنونة !"
بعدها بدقائق كان يخرج من الغرفة بعد ان انتهى من الاستحمام وتبديل ملابسه بخمس دقائق فقط ، ليصطدم بطريقه بكتف احدهم وهو يتراجع للخلف بلحظة قائلا بعبوس
"اعتذر بشدة ، لم انتبه"
توقف (احمد) امامه وهو يهمس بحاجبين مرفوعين بدهشة
"شادي ! متى عدت من السفر ؟"
ابتسم بصعوبة وهو يحرك كتفيه قائلا ببساطة
"لقد عدت بالأمس ، ونمت ليلتي هنا فور وصولي للمنزل مساءً ، ولم اكن ارغب بإزعاج اي منكم بهذا الوقت المتأخر"
تأوه (شادي) ما ان ضربه على كتفه بقبضته بخفة وهو يقول باستياء عابس
"كل هذا حدث ولم تخبرني يا مزعج ! كان عليك على الأقل ان تترك لنا خبر عن موعد عودتك لنستطيع استقبالك بالشكل اللازم ، ولكن يبدو بأنك لا تريد مقابلة اي منا ! صحيح ؟"
عض على زاوية ابتسامته وهو يربت على كتفه قائلا بمرح
"هيا لا تغضب يا شقيقي ، المهم بأني قد عدت لكم معافاً سليماً ، والامور الاخرى مثل العتاب والغضب ليس لها داعي"
عقد حاجبيه بدون ان تلين ملامحه وهو يهمس بتصلب
"مغرور"
اخفض يده بهدوء احتل محياه بلحظة ليهمس بعدها بعجلة ناظرا للساعة بمعصمه بإشارة
"حسنا انا سأذهب الآن ، فقد تأخرت على موعد مهم عليّ الذهاب له حالاً ، لذا عذرا !"
سكنت ملامح (شادي) ما ان قال المقابل له بنبرة تغيرت ببعض القلق الجاد
"هل تكلمت مع زوجتك ؟ اعتقد بأنها ليست راضية عن تصرفك الاخير وتركها بهذه الطريقة بعد زفافكما بأيام !"
اختفت ابتسامته بلحظة بدون اي تعبير ليرتسم البرود على ملامحه وهو يهمس بشرود واثق
"لا تقلق من هذا يا احمد ، فكل شيء تحت السيطرة !"
قطب جبينه بعدم رضا وقبل ان يعلق على كلامه كان يسبقه الآخر بالكلام وهو يتجاوزه بعجلة
"نتكلم عن هذا بوقت آخر يا احمد ، فأنا ليس لدي الوقت الآن !"
استدار (احمد) بسرعة وهو يقول من خلفه بقوة
"ولكن ماذا عن حضور مائدة الفطور ؟"
لوح بذراعه جانبا وهو يهمس بلا مبالاة
"لا بأس فأنا لا احضر مائدة الفطور عادةً ، ولن يشكل فارق إذا لم احضرها هذه المرة ايضا !"
عاد للكلام بسرعة بارتفاع ما ان وصل الآخر لأول درجات السلم
"هل كان سبب سفرك من اجل العمل ؟ سبب حقيقي !"
توقف عند اول درجة للحظتين فقط وهو يلتفت بنصف وجهه بشبح ابتسامة هامسا بجمود
"وهل هناك سبب آخر ؟"
وبعدها بلحظات كان يكمل طريقه بنزول السلالم بدون ان يعطي انتباه للساكن بمكانه ما يزال ينظر بأثره بغموض ، وهو يشعر بأمور كثيرة قد تغيرت بشقيقه الصغير منذ عودته من السفر بل بالأحرى منذ حفلة زفافه من ابنة عمته ؟ فهو لم يراه بتلك الحالة الغريبة سوى مرتين فقط واحدة عند وفاة والدته الروحية والثانية عند وفاة والدته الحقيقية...والتي يبدو بأنها تركت الأثر نفسه بروحه بطريقة مختلفة ادت لهذه الصورة التي وصل لها الآن !
_______________________________
خرج من السيارة بهدوء وهو يرفع نظره لهدفه المنشود اليوم ، ليزفر بعدها انفاسه عدة مرات بتأهب وهو يجهز نفسه لحرب مقابلة عائلة زوجته العزيزة والذين لا يعلم لما يبعثون دائما كل الاضطراب بكيانه منذ لحظة ارتباطه بهم ؟ ليحاول دائما بكل جهده وبكل مقابلة تحدث بينهم ليكون على الصورة الرسمية والتي عليه تقمصها امامهم بأكمل وجه وكما يريدون ان يكون زوج ابنتهم ! بدون ان يعلم إلى متى سيبقى هذا الهاجس المتمثل بتكوين صورته امامهم ملازم له بهذه الطريقة ؟
استغفر ربه بهدوء وهو يعزم امره بعد ان حوصر من كل الجهات ولم يعد هناك مهرب من زيارتهم الحتمية والتي كان يحاول كل جهده تجاهلها بالفترة الماضية بشتى الطرق ، وكل هذا من اجل ألا تعاود (روميساء) فتح الموضوع معه مجددا وإزعاجه به ولكي لا تعود لحزنها الشارد والذي اصبح يستحوذ على جزء مهم بحياتها ، وهو يتمنى حقا ان تفكر بنفسها وبابنها اكثر بعيدا عن كل مشتتات الحياة والتي تحوم من حولهما !
وصل امام مدخل المنزل وهو يرفع يده ينوي قرع الجرس امامه ، ليتوقف بآخر لحظة ما ان سمع هتاف خافت باسمه ، ليستدير من فوره وهو يقابل التي وصلت امامه بثواني وهي تهمس بابتسامة هادئة بلطف
"مرحبا بزوج شقيقتي ، لقد مر وقت طويل على آخر مرة رأيتك بها ! كيف حالك ؟"
تنفس الصعداء وهو يبتسم باتساع متزن ما ان قابل الفرد الوحيد بهذه العائلة والذي لا يشعره بثقل الزيارة عكس باقي افرادها وكأنها لا تنتمي لهم ، ليقول بعدها بلحظة برفق ممزوج بالعطف على هذه الطفلة الشبيهة بالنسمة الناعمة بحياة الآخرين
"الحمد الله كل شيء بأفضل حال ، وسعدت كثيرا بمقابلتك يا غزل ، اتمنى ان تكون كل امور دراستك بخير وما تزالين على نفس الاجتهاد والمثابرة !"
اومأت برأسها بشرود لوهلة وهي تهمس بابتسامة متسعة برقة
"شكرا لك على اهتمامك يا احمد ، انا بخير وما ازال اتابع دراستي الجامعية باجتهاد بدون ان يوقف شيء طريقي ، انت الذي عليك ان تبذل جهد اكبر بما ان هناك مولود جديد قادم على الطريق !"
ارتفع حاجبيه ببطء وهو يتمتم بتفكير غامض
"إذاً لقد اصبحتِ تعلمين بالأمر !"
عقدت حاجبيها بارتباك وهي تهمس بتردد
"ألم يكن من المفترض ان اعلم ؟"
حرك رأسه بسرعة بالنفي وهو يقول بمودة
"لا ليس هكذا هو الأمر يا صغيرة ، ولكن لم اتوقع ان ينتشر هذا الخبر بهذه السرعة ! ومع ذلك سعيد جدا بمعرفتكم بالأمر قبل ان اكون انا من اخبركم به"
ابتسمت برقة وهي تهمس بمرح لتعدل على صورة شقيقتها
"حسنا انت تعلم شقيقتي سلوى لا تعرف كيف تخفي اسرارها عن احد"
قطب جبينه بجمود وهو يهمس بخفوت جليدي
"وهذه هي المشكلة والتي تعكر علينا سير حياتنا"
زمت (غزل) شفتيها بوجوم وهي تحرك كفها تلقائيا هامسة بسعادة مغيرة مجرى تفكيره
"صحيح المهم مبروك حمل زوجتك ، واتمنى لها ولادة طبيعية وان يصل المولد بكامل صحته ، فهذه الفترة مهمة جدا بحياة كل عائلة وخاصة بأنه الطفل الأول لكم"
عاد بنظره لها وهو يبتسم بهدوء قائلا بامتنان
"شكرا على تفهمك يا غزل ، يبدو بأنكِ كنتِ عائدة من الخارج ! هل كل شيء بخير ؟"
عضت على طرف شفتيها وهي تهمس ببعض الامتعاض
"ماذا تقصد ؟ هل يجب ان يكون هناك شيء سيء لأخرج من المنزل ؟"
ارتفع حاجبيه بارتباك وهو يهمس بتعديل جاد
"لا انا اقصد بأنني لا اراكِ تخرجين من المنزل عادةً ، فقد ظننت بأن حالتكِ لا تسمح لكِ بالتواجد بالأماكن المكتظة بالناس وبمفردك بدون اي رفيق ! أليس كذلك ؟"
حركت رأسها بضحكة صغيرة وهي تقول بجدية مرحة
"لا يا احمد انا لم اصل بعد لهذه الحالة الميؤوسة منها ! وايضا لقد كنت بزيارة دورية عند الدكتورة الخاصة بحالتي ، ولم اذهب لأي مكان آخر كما تفكر"
ابتسم بهدوء متغضن وهو يتمتم براحة
"حقا هذا جيد ! واعتذر على سوء الفهم والظن الخطأ ، اتمنى ان تقبلي اعتذاري !"
اومأت برأسها بثغرها الباسم ببراءة وهو يراقب هالتها الدافئة مثل نسمة منعشة تنشرها ببرودة المكان المتناقض عنها ، وهو ما يزال محتار بأمر الاختلاف الرهيب بين الشقيقتين واللتين تبدوان النقيض عن بعضهما بكل شيء وليسوا من نفس الطبقة والتي نشئوا منها معا وهذا ما كان يراه ويشغل تفكيره منذ دخوله لهذه العائلة ؟!
افاق من افكاره على صوتها المنغم وهي تهمس بلطف
"وانت ايضا يبدو بأنك قد اتيت لمنزلنا للتو ؟ هل هذه زيارة عائلية فأنا نادرا ما اراك تزورنا بالمنزل لوحدك بدون زوجتك ؟ صحيح !"
تصلبت ملامحه بتجمد وهو يشعر بنفسه قد كشف امامها وكان عليه توقع هذا بسبب تصرفاته الواضحة للعين والتي لا يتكبد اي عناء بإخفائها ! ليبتسم بعدها بتوتر وهو يحاول تعديل صورته قائلا بجدية هادئة
"نعم مجرد زيارة ودية من اجل ان اطمئن على عائلة زوجتي ، وايضا لكي ارى كيف اصبحت حالة السيدة جويرية الآن ! فقد سمعت بأنها متعبة جدا وهو ما جعل سلوى تلازمها طول الاسبوع الفائت وعدم قدرتها على العودة لمنزلنا !"
ارتفع حاجبيها الصغيرين بدهشة لحظية وهي تحاول فهم كل كلمة نطق بها الآن وكأنها تتحدث مع شخص يهذي ! لتهمس من فورها ببهوت منذهل
"حقا !"
عقد حاجبيه بغموض غزت ملامحه بلحظة وهو يتمتم بوجوم
"اجل حقا ، هل تشككين بصدق كلامي يا غزل ؟"
ضحكت بارتباك ممزوج بالحياء المفرط استبد بها وهي تعض على طرف شفتيها ببؤس بحركة غير ملحوظة ، وهي تشتم بداخلها على الغباء المحدق بحياتها والمتمثل بتصرفات عائلتها والتي لا تستطيع التكهن بمخططاتهم والتي اصبحت جزء منها بدون ان تنتبه او يخطر على بالها ! فإلى ماذا يريدون ان يصلوا بهذه الكذبة السخيفة وسهلة الانكشاف ؟
عادت للنظر له بعينيها العسليتين الواسعتين ما ان قال المقابل لها بتوجس واضح
"ما بكِ يا غزل ؟ هل كل شيء على ما يرام ؟"
اومأت برأسها بارتجاف وهي تلوح بذراعها هامسة بابتسامة مزيفة
"اجل بخير يا احمد ، ولكني تذكرت بأنه عليّ اخبار العائلة بزيارتك المفاجئة لتستعد لاستقبالك ، ولكي اتأكد بأن الجميع متواجد بالمنزل ، اقصد من اجل القيام بواجب الضيافة على اكمل وجه ، تعلم جيدا عن ماذا اتحدث !"
تعقدت ملامحه لوهلة وهو يهمس بقوة
"لا ارى داعي لذلك !...."
قاطعته بعجلة وهي تتجاوزه باتجاه باب المنزل
"حسنا ، لن اتأخر عليك"
عبست ملامحه ما ان دخلت للمنزل بالفعل وبدون ان تمهله الوقت للتعقيب على كلامها الاخير ، وهو لا يعلم ماذا دهاها الآن لتنقلب هكذا بلحظة ؟ وهو الذي ظن بأنها تختلف عن عائلتها لتعود بالنهاية لأصلها الحقيقي ! ليهمس بعدها باستهجان خافت
"الجينات تحكم !"
شرد بعيدا للحظات لا شعوريا وهو يفكر فقط بما عليه التصرف به مواجهة تلك العائلة والتي تهتم بالمبادئ اكثر من تطبيقها ، همس بعدها بابتسامة تشنجت عند زاوية شفتيه بهدوء
"كل الذي يحدث معي بسببك يا روميساء ؟ هل انتِ سعيدة الآن ؟"
التفت بهدوء بمواجهة الباب ما ان فُتح بلحظة واطلت منه تلك الفتاة مجددا وهي تهمس بابتسامة صغيرة بترحيب يشوبها الارتباك
"حسنا يا احمد ، هيا تفضل بالدخول ، فأنت مرحب بك بأي وقت"
حرك رأسه بيأس للحظات وهو يسير للداخل امامها ما ان افسحت المجال له هامسا بجمود
"لقد كنت قد شككت لوهلة !"
ارتجفت ابتسامتها بشحوب وهي تغلق باب المنزل من خلفه برفق ، لتتبعه بسرعة لغرفة الجلوس قبل ان تتوقف عند إطار الباب وهي تهمس له ببهجة فشلت بتمثيلها
"انت يمكنك ان ترتاح قليلا ، وانا سأذهب لأحضر شقيقتي لتقدم لك الضيافة ، دقائق وتكون عندك ، استمتع بوقتك"
غادرت بسرعة بعيدا بدون ان تنتظر رده على كلامها الاخير فقد استنفذت كل طاقتها بهذه التمثيلية الغبية ، لتتوقف بعدها امام والدتها التي كانت تنظر لها بإمارات الغضب المعتادة وهي تتبعها بالهمس بعصبية خافتة بضيق
"ما لذي تفعلينه ؟ ألم اطلب منكِ....."
قاطعتها بنفاذ صبر وهي تكتف ذراعيها بقنوط
"ارجوكِ يا امي ، اعفيني من كل هذا ، فأنا ليس لي طاقة لأتحمل المزيد بشيء لم اعلم عنه سوى مؤخرا !"
زفرت انفاسها بيأس لوهلة وهي تمسد على جبينها بعصبية هامسة بسخط
"حقا ميؤوس منكِ !"
نظرت لها للحظات بشرود قبل ان تنقل نظرها باتجاه غرفة الجلوس لتهمس عندها بخفوت واهي
"ما لفائدة التي سوف تجنوها من هذه الكذبة ؟ انا ارى بأن افضل ما عليكم فعله هو تقبل الحقيقة والتوقف عن تكذيبها !....."
قاطعتها بملامح صارمة وهي تمسك خصرها بقوة
"اخرسي يا غزل ولا كلمة ، وإياكِ وان تتدخلي بأي شيء تفعله والدتك ، فأنا لم اطلب منكِ ان تبدي رأيكِ او ان تحاولي اعطاء النصح ! وانتِ نفسكِ تحتاجين إليه اكثر من سلوى !"
عبست ملامحها بلحظة وهي تستدير بعيدا عنها هامسة ببرود متعمد
"إذا كان هذا كلامكِ يا امي ! إذاً رجاءً افعلي ما تشائين بعيدا عني ولا تحاولي بأي طريقة ربطي بخططكم وكل شيء تفعلونه من وراء ظهري ، فأنا اُفضل البقاء خارجا على ان اشارك بمثل هذه الخطط الفارغة !"
اكملت طريقها باتجاه السلالم بدون ان تأبه بنظرات والدتها الغاضبة ولا ان تسأل عن تفاصيل خطتهم وما ينوين فعله بها ؟ مثلما لم تسأل عن سبب مبيت شقيقتها عندهم طول الاسبوع الفائت بدون ان تعود لمنزل زوجها ؟ ولا ان تعلم عن سبب انهيارها الاخير والذي لم يصدر عنه اي صوت عكس طبيعتها ؟ حتى موضوع حمل زوجته لم تعلم عنه سوى مصادفة عابرة ! وهي فقط تشاهد بدون ان تشارك بشيء وهذا اكثر ما اجادته بحياتها .
_______________________________
كان يسند ذقنه بقبضته بهدوء وهو ينتظر منذ ما يقارب النصف ساعة بغرفة الجلوس وحيدا بدون ان يعبره احد ، وهذا بعد مغادرة (غزل) المكان بدون ان يظهر لها اثر ولا الشخص الذي كان من المفترض ان يستقبله منذ لحظة قدومه للمنزل ! وهو يشعر بنفسه قد اصبح ضيف غير مرحب به بالمنزل ولا مكان له بهذه العائلة والتي يبدو لم تعد تطيق وجوده بينهم ! وقد فكر كثيرا بأن الهروب الآن هو افضل حل وجيه بموقفه هذا والذي لا يحسد عليه وقبل ان يتورط اكثر ويصبح وجبة سهلة المنال بنظرهم ليبثوا بها شرورهم .
وما ان كان على وشك النهوض بعد ان ضاق ذرعا من هذا الوضع المزعج حتى سمع صوت خطوات احدهم تقترب من باب الغرفة بهدوء مريب طال للحظات ، ليستقيم بعدها بوقوفه وهو يقول بضجر قبل ان يلمح هوية القادم
"اسمعي يا غزل ، انا سأرحل الآن وشكرا لكِ على هذا الاستقبال الكريم"
تجمدت ملامحه ما ان سمع صوت التي وقفت عند إطار الباب بلحظة وهي تهمس بحيرة خافتة
"لما كل هذه العجلة ؟ لم يكد يمر على وصولك شيء ! ألا إذا كنت لا ترغب اساسا بالبقاء ومجبر على المجيئ ؟"
تنحنح بصلابة وهو يعدل كلامه قائلا ببرود متجهم
"لقد ظننت بأنكِ غزل ! اعتذر على قلة ادبي وعدم الانتباه لكِ"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تهمس من بين اسنانها ببؤس
"لا بأس يا احمد ، لم يحدث شيء"
ارتفع حاجبيه بتعجب وهو يدقق النظر بهيئتها العادية البعيدة عن التبرج والصخب والذي دائما ما تجلبه معها بصوت احذيتها العالية وبنبرة صوتها الرنانة ، فما لذي تريد ان تثبته بهذه التغيرات الجديدة عليها ؟ إلا إذا كانت جزء من مخططات جديدة تستعد لتصوبها ناحيته لتقضي على هدوء حياته مجددا !
قال بعدها بلحظات وهو ينظر لها بصرامة بدأت بالتجلي على محياه
"ولكن لما كل هذا التأخير ؟ أتعلمين منذ متى وانا انتظر هنا بدون ان يعبرني احد ! حتى غزل اخبرتني بقدومك وبعدها اختفت معك ؟ هل لهذه الدرجة كانت زيارتي ثقيلة عليكم ؟"
زمت شفتيها بحنق وهي تحيد بنظراتها جانبا هامسة بإيباء
"اعتذر على هذا ، ولكن تجهيز نفسي لاستقبالك اخذ مني وقت طويل ، وخاصة بأنني لم اكن اتوقع زيارتك هذه بدون سابق إنذار او موعد !"
عقد حاجبيه بجمود وهو يتمتم بجفاء
"وهذا هو المتوقع منكِ دائما ! حتى لو غبت عنكِ عدة سنوات ستبقين بنفس التفكير والمنطق"
امتعضت ملامحها وهي تعود بالنظر له بضيق عاد ليستولي على كيانها بلحظة ، لتتنفس بعدها بتهدج مشتعل عدة مرات وهي توبخ نفسها متذكرة كلام والدتها الصارم عن حسن ضيافة زوجها واستقباله بالصورة اللائقة وبتهذيب بالغ ، لتختلق بعدها ابتسامة مزيفة وهي تهمس بخفوت بارد
"مرحبا بك بمنزل عائلتي يا احمد ، ما سبب هذه الزيارة المفاجئة يا ترى ؟ هل شعرت بالاشتياق لزوجتك السابقة ؟"
تغضن جبينه بوجوم وهو يتمتم بتعجب ساخر
"زوجة سابقة ! تتكلمين وكأنني غبت عنكِ لأشهر وليس لأسبوع واحد ؟ لا اعلم متى ستتعلمين الاسلوب الصحيح بالكلام بدل التفوه بهذه الألفاظ القبيحة !"
عضت على طرف شفتيها بغضب لحظي وهي تهمس من بينهما باستياء
"تقصد بأنني لست المعنية بزيارتك صحيح ؟"
اومأ برأسه بجمود وهو يهمس بدون اي مواربة
"اجل بالطبع ، فقد اتيت لزيارتكم اليوم من اجل ان اطمئن على حالة السيدة جويرية وكيف اصبحت الآن وليس لشيء آخر ! لذا لا تدعي خيالك يأخذك بعيدا يا سلوى لكي لا يخذلك"
قبضت على يديها بقوة وهي تهمس من بين اسنانها بسخط
"عذرا على سوء الفهم ! ولكنك انت من طلب حضوري لاستقبالك ! بينما كان يمكنك الذهاب لمقابلة والدتي مباشرة بدون ان تعرضني لمثل هذه الإهانة...."
قاطعها بحاجبين مرفوعين باستنكار عابس
"اجل بخصوص هذا الأمر لم تعطني غزل الفرصة لأوضح لها سبب زيارتي وهي ذهبت من تلقاء نفسها لتحضرك إلى هنا ! وانا بالحقيقة لم استطع التصرف لوحدي والتوجه لغرفة والدتك لأن هذا سيكون قمة بقلة التهذيب وعدم احترام حرمة المنزل ، لذا انتظرت بمكاني حتى يأتي احد من العائلة ويصبح مرحب بي بالمنزل ، فهمتِ ؟"
فغرت شفتيها بارتعاش لثواني قبل ان تهمس بعبوس خافت
"منذ متى اصبحت تعاملني بكل هذه القسوة يا احمد ؟ هل السبب بكل هذا زوجتك والتي اخذت مكاني بحياتك بعد ان حملت بطفلك الحبيب ؟ أليس كذلك اجبني !"
ضيق عينيه لوهلة وابتسامة ساخرة شقت طرف شفتيه بلحظة ليقول عندها باستهزاء واضح
"اسألي نفسكِ هذا السؤال وستعرفين السبب الذي دفعني لأعاملك بهذه الطريقة ! فيبدو بأن كذبتك الغبية قد اخفقت بالنهاية ، لم اكن اريد التصرف على هذا النحو ولكنك من يدفعني بكل مرة يا سلوى بدون ان تفكري بالعواقب !"
تلجلجت بمكانها بارتجاف وهي تهمس بعدم فهم متعمد
"ماذا تقصد بكلامك ؟ هل تظن بأني سأفهم كل شيء بطريقة الألغاز هذه !"
دس يديه بجيبي بنطاله وهو يتمتم ببساطة
"كل هذه الفترة والتي قضيتها بمنزل عائلتك بحجة بأن والدتك متعبة ومريضة كانت كلها كذبة منكِ ، ولا اعلم حقا السبب لكل هذا الكذب والخداع ؟ ولكنني مع ذلك لم اتوقع غير هذا منكِ !"
انتفضت فجأة وهي تلوح بذراعها صارخة باستنكار مرتجف
"كذب ! هذا غير صحيح ؟ من اخبرك بهذا الكلام ! هل هي حيلة من زوجتك لتوقع بي....."
قاطعها مجددا بصرامة وبصوت جهوري نافذ
"اخرسي يا سلوى ! ألن نتوقف عن هذا الحديث الفارغ والذي لن نخرج بطائل منه ؟ لقد اخبرتكِ بها ولن اعيدها مجددا لسانك الطويل ابعدي سهامه الطائشة عن زوجتي فأنا لن استطيع ان اكبح غضبي عنكِ طويلا وعلى كل ما تتفوهين به بحقها ، لذا حاولي احترامها قليلا واخذ القليل من محاسنها بدلا من اتهامها دائما والنقمة عليها بموجة حقدك الاسود وغيرتك المريضة نحوها !"
شددت على يديها بغضب حارق حتى آلمت مفاصلهما وهي تهمس بعيون ما تزال تقدح بقهر موجع لم ينطفئ على مدى ايام
"لما لا تكون عادل معي لمرة واحدة ؟ لما عليك ان تقف بصفها دائما بكل موقف يحدث معنا ! ألستُ انا بنفس مرتبة زوجتك ولدي حقوق عليكِ مثلها تماما ؟ لما لا تنصفني وتعاملني مثلها ؟ لما لا تحبني مثلها ؟ لما لا استطيع ان احمل بطفلك ؟....."
قاطعها بلحظة بخفوت اجش صارم
"لأنكِ لا تشبهينها يا سلوى ، وتوقفي عن مثل هذا النوع من الكلام الساذج ! فأنتِ تستطيعين تغيير نفسكِ بيديك وتشويه صورتك بإرادتك ! لا احد يستطيع فعلها غيرك"
نظرت له للحظات بمقلتيها الدامعة بحرارة لتمسح بعدها خديها ببطء وهي تهمس بحزن بائس
"هل من المفترض ان يفرحني كلامك ؟"
تنهد بتصلب وهو يمسد على جبينه بإرهاق لوهلة ليهمس بعدها بلحظات وهو ينفض ذراعيه للأسفل بحزم
"حسنا يا سلوى ، انا الآن سأرحل من هنا فقد اضعت الكثير من الوقت بهذه الزيارة ، لذا لديكِ خيارين لا ثالث لهما ، اما ان تغادري معي وتعودي للمنزل وكأن شيء لم يكن ، واما ان تبقي بمنزل عائلتك بقدر ما تشائين وعندها سينتهي كل شيء كان بيننا ولن اصفح لكِ كذبتك تلك بل سأقولها لكل افراد العائلة لتكون درس لكِ ، والخيار بين يديكِ وانتِ من ستقرر مصير هذه العلاقة !"
اتسعت عينيها بانشداه مصدوم بدون ان تمنع الحزن من احتلال محياها ، لتهمس بعدها بعصبية فقدت صوابها
"كيف تتجرأ يا احمد ! انا لن اسمح......"
قطعت كلامها صاحبة الصوت الصارم والتي انضمت لهما بلحظة
"سلوى ستعود معك"
اتجهت الانظار نحو التي دخلت للغرفة وهي تسير امامهم بخيلاء قبل ان تقف بجانب ابنتها وهي تقول بابتسامة انيقة بثقة متكلمة عن الجميع
"حسنا يا احمد ، إذا كنت تريد من سلوى ان تعود معك الآن ! فهي ستجهز نفسها حالاً وتعود معك مثل اي زوجة مطيعة ، فنحن لا نريد ان نصنع اي مشاكل بين العائلتين بسبب خصام بين الزوجين يستطيعون حله بينهما ، صحيح ؟"
حرك (احمد) رأسه بجمود بدون اي تعبير وهو يتمتم بجفاء
"لا امانع فأنا ايضا لا اريد حدوث اي مشاكل بالعائلة وكله سيكون لصالح الجميع ، لذا ارجوكِ ان تفهمي هذا الكلام لابنتك فقد يأست حقا من مهمة شرح هذا لها ، والآن عذرا !"
استدار بعيدا عنهما بلحظة وهو يقول بأمر مسلط
"سأنتظركِ بالسيارة حتى تنتهي من تجهيز نفسك لنغادر ، لذا لا تتأخري كثيرا لكي لا اترككِ هنا وارحل"
غادر بعدها لخارج الغرفة لتلتفت بسرعة صاحبة الصوت الحزين وهي تهمس بأسى محروق
"امي لماذا فعلتِ هذا ؟ ألم تسمعي ما قال !...."
قاطعتها بملامح صارمة وهي تقول بأمر نافذ الصبر
"اصمتي يا سلوى ، ألم تفهمي بعد ما يحدث امامكِ وما يريد ان يوصله لكِ يا غبية ! لقد بدأ بخطة التخلص من العقبة الوحيدة بحياته وبعد ان يأس من مهمة تغييرك للأفضل بالمقارنة مع زوجته والتي تبدو النقيض عنكِ تماما ، لذا فكري اكثر قبل ان تقترفي اي تصرف قد يودي بحياتك للنهاية !"
تشنجت بمكانها وهي تنظر بعيدا عنها بحرقة تكاد تلتهم روحها المنتفضة بإيباء لتهمس بعدها بقلة حيلة وضعف
"وماذا تقترحين ان افعل يا امي ؟ فقط اشاهد واصمت وانا ارى الجميع سعداء بينما انا احترق بحزني !"
ربتت على كتفها برفق وهي تهمس بابتسامة قوية تحاول دعم ابنتها بكل ما تستطيع
"لا تقلقي يا ابنتي ، انا معكِ ولن اتركك لوحدك مهما حدث ، وكل شيء سيكون على افضل ما يرام ما دامت والدتك موجودة بحياتك"
_______________________________
كان يجلس فوق مقاعد الانتظار بصمت خيم على الاجواء من حوله بسحابة قاتمة اسرت حياته ، وهو يسند يديه فوق ركبتيه بهدوء بينما نظراته مسلطة على الأرض المصقولة من اسفل قدميه بدون اي تعبير او انفعال يعلو تقاسيم ملامحه الباردة ، ليتنفس بعدها بسكون ظاهري للحظات وكل وتر متصل بعقله متأهب بانقباض غريزي يكاد ينفجر من فرط الانتظار والذي زاد عن الحد المعقول بالنسبة لمدى صبره واحتماله والذي لا يتحمل دقيقة واحدة انتظار !
رفع يديه بسرعة وهو يمسح وجهه ببطء شديد تخلل به بعض الإنهاك والذي ما يزال يسيطر على اجزاء من جسده بسبب تعب السفر وقلة النوم بالأيام الماضية ، ليخفض بعدها يديه وهو يضم قبضته امام شفتيه ليردد على اصابعه دعوة الاستغفار عدة مرات كما يفعل دائما ليهدأ القليل من فورة مشاعره الثائرة وجموح الغضب المسيطر على تفكيره بالآونة الاخيرة من الوضع الذي ضاق ذرعا منه .
ارتفعت زاوية من ابتسامته بشرود غائم وهو يتأمل اصابع كفه المقبوضة بتصلب ، وهو يتوقف عن ترديد الكلمة بلحظة ساكنة طافت على ملامحه بغموض وما ان عادت كلمات والدته لتمر على خاطره بتدفق حنان مشاعرها الفائضة بين كل كلمة تنطق بها
(شادي لقد وجدت لك الحل المناسب لمشكلة فورات غضبك والتي لا تستطيع السيطرة عليها وهي تؤدي دائما للكوارث الغير محمودة ، لذا اخترت لك افضل طريقة قد تهدأ من غضبك ومن شعورك بالتشتت بالحياة بمراحل مراهقتك ، وهي بسيطة جدا ولا تحتاج لمجهود فكل ما عليك فعله هو ضم قبضة يدك امامك والترديد على اصابعك بالاستغفار عدة مرات حتى تشعر بالراحة التامة تسكن روحك واختفاء طبقة التشتت والضياع بحياتك ، عندها فقط يمكنك التوقف والتصرف برجاحة عقلك المعهودة ، وانا واثقة بأنك اكثر من قادر على فعلها لأنك ابني !)
زفر انفاسه براحة لوهلة وهو يخفض قبضته ليرجع رأسه للخلف قليلا قبل ان يسنده بظهر الكرسي وهو يشعر بنفس الراحة والطمأنينة والتي تجتاح كيانه كلما تذكر شيء يخص طيف والدته الراحلة والتي كل ما يربطه بها هي تشابك ارواحهما ، بدون ان يدع جزء من الخراب بالوصول لتلك الذكريات المحفوظة برأسه والتي تنسيه دائما مرارة تخلي والدته عنه طفلا بسبيل عيش الحياة والحرية بدون اي قيود تمنعها وبعد ان اكتشفت بأن عمرها يضيع وهي تدفن نفسها بين رجل عجوز وزوجته الاكبر سنا منه ، بدون ان يمنعها وجود طفل يبدو بأنها لم ترغب به يوما !
نهض بقوة ما ان فتح باب الغرفة بجانبه وهو ينظر للتي خرجت منه بخطوات هادئة بصمت ، وما ان رفعت وجهها قليلا ناحيته حتى تعثرت بخطوة من خطواتها وهي تكاد تقع ارضا ، قبل ان يقف امامها بلحظة وهو يمسك بذراعيها بقوة ليثبتها بمكانها برفق شديد .
تنفست (وفاء) بوجل وهي تحاول تعديل وضع وقوفها بعيدا عنه بارتجاف طغى على حركاتها بضعف ، لتتمسك من فورها بذراعيه بتشبث ما ان شعرت بعودة الدوار يموج برأسها بلحظة ، لتنتفض برأسها عاليا ما ان قصف صوته بجمود وهو ما يزال يسند ذراعيها
"لما تأخرتِ بغرفة العناية ؟ هل كل هذا الوقت يأخذ الفحص ؟"
ابتلعت ريقها يتشنج وهي تهمس بخفوت محرج
"هذا لأنه اول تجربة لي بالفحص ، وقد احتاج الأمر وقت طويل حتى انتهينا منه"
عقد حاجبيه بجمود لبرهة وهو يشعر بارتجاف جسدها بدون ان تقدر على الوقوف بثبات ، ليقول بعدها بوجوم وهو يشعر بذراعيها النحيلين يكاد يشعر بعظامها البارزة منهما
"وما بكِ الآن ؟ لما لا تستطيعين الوقوف !"
اخفضت وجهها بحياء وهي تهمس بتشتت
"هذا لأني....."
تدخلت الطبيبة الخاصة بحالتها وهي تقول من خلفها بابتسامة بشوشة
"كل شيء على ما يرام سيد فكهاني ، فقط تحتاج لبعض الراحة بسبب تأثير المخدر والذي يبدو لم يتحمل جسدها مفعوله وخاصة بأنها اول تجربة لها ! وبعدها بغضون دقائق كل امورها ستكون بأفضل حال ما ان تأخذ قسط من الراحة"
اومأ برأسه بدون اي تعبير وهو يهمس بهدوء جاد
"إذاً وكيف كانت نتائج الفحص ؟ اتمنى ألا يكون هناك اي مشاكل بحالتها !"
اتسعت ابتسامة الطبيبة بعملية وهي تهمس باطمئنان
"لا داعي للقلق يا سيدي ، فقد تأكدت من حالة الجنين والسيدة وهما بأفضل صحة وعافية ، فقط هناك بعض الامراض الحيوية من سوء التغذية وفقر بالدم ، ولكن الحل بسيط جدا وهو ان يتغذى جسدها جيدا وتهتم اكثر بنظام طعامها"
شدد اكثر على ذراعيها ليدفعها لترفع وجهها نحوه بتوجس وهي تشعر بهالة جمود جسده الصلب على وشك تجميدها بمكانها ، لينطق بعد عدة لحظات بهدوء مريب عاد لتقمصه
"شكرا لكِ سنحاول العمل على نصيحتك ، هل هناك ادوية توصينا بشرائها من اجل حالتها ؟ فنحن لن نعود إلى عيادتك بوقت قريب كما تعلمين !"
حركت رأسها بتفهم وهي تهمس بخفوت عملي
"حاليا لن استطيع كتابة اي ادوية لها قبل ان اتأكد من صحة اخذها لها وعدم اضرارها بالجنين ، وعندما ارى الأدوية التي تناسبها سأخبرك بالأمر حالاً ويمكنك عندها شرائها من عيادتي"
ابتسم بجمود وهو يهمس بامتنان جاف
"إذاً شكرا لكِ على خدماتكِ ، والآن عذرا علينا الرحيل فقد تأخرت على عملي !"
ليستدير بعدها بلحظة وهو يمسك بذراعها ليلفها حول ذراعه وهو يدعها تتمسك بها بقوة قبل ان يسير معها خطوة بخطوة بحذر ، ليتسمر بمكانه قليلا ما ان عادت الطبيبة للكلام بهدوء حذر
"هل هذه زوجتك ؟"
قطب جبينه بتصلب قاتم اخذت منه لحظات قبل ان يهمس بعزم خافت
"نعم زوجتي ، وهذا الكلام لن يعرف عنه احد لأنكِ تعلمين جيدا ما ستكون عليه العواقب !"
ردت الطبيبة بسرعة بطاعة تخلل بها الخوف
"اجل اكيد سيد فكهاني"
اكمل سيره بهدوء وهو يسحب التي جمدتها الصدمة حتى كادت تقع اكثر من مرة ، ليلتفت بنصف وجهه بوجوم وهو يتمتم بحنق
"ماذا هناك ؟"
حركت رأسها بالنفي باهتزاز وهي تكمل سيرها معه بصمت رافقهما حتى نهاية الطريق خارج العيادة ، ليقف كليهما امام السيارة والتي فتح بابها بجانب السائق وهو يدخلها لتجلس على المقعد بعجلة ، قبل ان يدور حول السيارة بلمح البصر وهو يتخذ مكانه عند مقعد السائق .
نظرت امامها بهدوء وهي تضم يديها معا بارتجاف ما يزال يطغى على جسدها المخدر ، ليتحرك بعدها بالسيارة بعيدا قبل ان يهمس بأمر
"ضعي حزام الأمان يا ميرا"
رفعت رأسها بانتفاض وهي تضع الحزام حول جسدها بسرعة كما طلب ، لتنظر بعدها للنافذة بجانبها بشرود والطريق يسير معها بسرعة ثابتة بهدوء ، زمت شفتيها بلحظة وهي تهمس بخفوت بدون ان تمنع السؤال من القفز لشفتيها
"لماذا اخبرت الطبيبة بأني زوجتك ؟ لم يكن هناك داعي للكذب !"
شدد اكثر على عجلة القيادة لبرهة وهو يقول بتصلب قاسي
"لم اطلب رأيكِ بالأمر ! فأنا الذي احدد ما هو الصالح لي وما هو الذي لا يسبب اكثر الاضرار لي ، لذا اصمتي نهائيا لأنه لا ينقصني سماع رأيك بأمر انتِ المتسبب الرئيسي به !"
عضت على طرف شفتيها بتوتر وهي تخفض نظرها ليديها الساكنتين بحجرها وبعد ان خف ارتجاف جسدها من المخدر بدون ان يمحي صورة ارتجاف ملامحها الذابلة .
قال بعدها بلحظات اخرى برفق وهو يحيد بنظراته نحوها بجمود
"كيف اصبحتِ الآن يا ميرا ؟"
رمشت بعينيها بارتجاف بسعادة لحظية وهي تومأ برأسها هامسة بابتسامة خفية بخفوت
"اجل لقد اصبحت افضل"
التفتت نحوه لوهلة وهي تراقبه بابتسامة متسعة اعتلت ملامحها الذابلة ببهجة واضحة ، لينطق بعدها الذي ضاق ذرعا من هذه النظرات وهو يهمس بملل
"ما سبب الابتسام الآن ؟"
اخفضت نظراتها قليلا وهي تهمس بابتسامة ما تزال تطوف على ملامحها بحزن
"الحقيقة بأنك لم تعد تناديني بإسم ابنة جيهان فقد اصبحت تناديني بإسمي مجردا ، وهذا الأمر يسعدني كثيرا"
ارتفع حاجبيه ببهوت وهو يتمتم بلحظة بدون اي تعبير
"حسنا لم يكن الأمر يسعدني عندما اطلق عليكِ ذلك اللقب فهو يذكرني بأمور لا اود تذكرها ! وايضا لن استطيع تفادي اسئلة الناس عندما يسمعون بما اناديكِ به وهذا الأمر سيعرضنا للكثير من المواقف المزعجة ، لذا من الافضل ان اناديكِ بهذا الاسم والذي لن يجلب اي صخب لحياتي ، ولكنه مع ذلك لن يزيل حقيقتك ومن تكونين بنظري"
زادت من ضم يديها معا بارتعاش وهي تزفر انفاسها بحزن استولى على روحها بعد ان قضى على فرحتها الصغيرة بلحظة ، لتهمس بعدها لا شعوريا ببسمة حزينة طافت على شفتيها
"لقد ارادت رؤيتك بشدة ، لدرجة بأنها قاومت المرض لأيام لتعيش لليوم الذي تراك فيه"
ساد الصمت الثقيل على اجواء السيارة بينهما والتي لم يعد يُسمع منها سوى صوت محركها ، ولم تشعر بسرعة السيارة وهي تزداد تدريجيا بالثانية الواحدة وصوته يخرج هادئا بخشونة ساخرة
"ما هذا الهراء الذي تتفوهين به ؟"
امتقعت ملامحها وهي تتابع كلامها بهمس اخفت رغم الاجواء الغائمة من حولها
"صدقني يا شادي انا اقول الحقيقة ، لقد كانت تحبك وهي نادمة......"
قاطعها وهو يضرب المقود بقوة قائلا بازدراء واضح
"اخرسي يا ميرا ، لا تدعيني اصب جماح غضبي عليكِ الآن ! فقط اصمتِ وإياكِ وان تتفوهي بمزيد من هذا الكلام امامي مرة اخرى ، سمعتي ؟"
اومأت برأسها باهتزاز وهي تمسح دموعها المتسربة من مقلتيها بقبضتها بسكون ، لتعود للشرود مجددا بالنافذة بجانبها بدون ان تضيف كلام آخر .
وصلت السيارة امام البناية الفارهة والتي اصبحت تسكن بها مؤخرا ، وما ان فتحت باب السيارة بجانبها حتى قال الساكن بمكانه بهدوء جاد
"هل تستطيعين الوصول لشقتك لوحدك ؟ ام ان هذا صعب عليكِ كذلك !"
عبست ملامحها وهي تشعر بنبرة غضبه تنضح بصوته بعد ان فاض به الكيل من مسؤوليتها والتي تبدو اتعبت كاهله ! لتقول بسرعة بقوة خائرة باهتزاز طفيف
"لا انا بخير ، يمكنني الذهاب لوحدي ، وشكرا لك على تعبك معي"
مرت لحظات قبل ان يهمس بهدوء بارد
"هذا افضل ، وحاولي الانتباه على نفسكِ اكثر لكي لا اضطر للعودة لكِ مجددا ، فأنا ليس لدي الوقت بطوله لأقضيه معك"
اومأت برأسها مجددا بشحوب ممتقع وهي تخرج من باب السيارة بصمت ، وما ان اغلقت باب السيارة من خلفها بهدوء حتى تحركت من امامها بسرعة بعيدا عنها بلمح البصر ، وهي تنظر بعيدا بالغبار الذي اثارته من حولها بوجوم لتهمس بلحظة بحزن عميق
"هو لا يريد ان يدرك الحقيقة !"
رفعت نظراتها عاليا وكلام بعيد ما يزال يراودها بأفكارها كجزء من ذكرياتها المنسية والتي سبقت تحول كل شيء بحياتها
(يا ليت الزمن يعود بي يوما ، لما اقترفت كل هذا الكم من الاخطاء بحياتي ! وهذا من اجل ان يعلمك بأن الندم لن يصلح ما فات والتمني لن يعيد الزمن للوراء ، لذا إياكِ والانتظار لليوم الذي حتى الندم لن ينفع به ومع الذي رحل ولن يبقى لكِ سوى ماضيكِ يلوح امامكِ دائما ، تذكري هذا بكل لحظة ودقيقة تعيشين بها يا ميرا !)
______________________________
كان يقف بميلان مستريح بظهره على الجدار الاسمنتي من خلفه وهو يشرد بغمامة صمته البعيدة والتي اصبحت تأسر عالمه مؤخرا....وهو يشعر بنفسه يعود لتلك المرحلة الفاصلة من حياته والتي سبقت دخول العاصفة لها والتي دمرت روح على يديه ليعيش بذنبها وبذكراها المتبقي من حياته...وبعد ان تأكد من مسح ذاكرته وروحه عن كل اثر باقي من تلك الذكريات لسنوات وكأنها لم يكن لها وجود بحياته الحافلة بالأخطاء....ها هو يعود مجددا لنفس تلك الهوة السحيقة من ذكرياته مصحوبة بالذنب والذي توسع اكثر بدائرة حياته بدون سبيل لتصحيح كل هذا !...
حرك رأسه عاليا وهو يتأمل ببرود سيقان اوراق الياسمين المعلقة على حواف الجدار المستند عليه وهي تشكل ظل تحميه فوق رأسه من اشعة الشمس الحارقة ، وهذا حال باقي المنازل الحجرية بمثل هذه المناطق الشبه ريفية والتي تهتم بالزراعة والرعي اكثر من حداثة البناء بدون ان يدخل التطور والتحديث لها ، وهذا الأمر جعل اغلب السكان يغادرون هذه المناطق والتي تعاني من قلة توفر المساعدات الطبية والتعليمية بها حتى اصبحت عبارة عن اراضي زراعية ومنازل قديمة يعيش بها نسبة قليلة ومن بقي من الناس قاطنا بها بدون ان ينجذب بسحر المناطق الحضرية .
اخفض رأسه وهو يرهف السمع لصوت الهدوء الذي كان يحوم بالمكان والذي نادرا ما تمر به بعض السيارات والمركبات الصغيرة بسبب طرقها الوعرة والمطبات الكثيرة بها ، ليخترق بعدها سمعه الشارد بين موجة ضباب صمته صوت الخطوات الراكضة قبل ان يتبعها بلحظات الصوت المحرج بطفولية محببة
"اعتذر على التأخر ! هل انتظرتني طويلا ؟"
تنهد بقوة عدة مرات وهو يهمس مع نفسه بابتسامة مائلة بافتراس
"اجل تأخرتِ كثيرا ، ألن تتوقفي عن هذه العادة بالتأخر يا مدللة ؟"
اجاب نفس الصوت الطفولي بحزن مبرر
"اعتذر مجددا يا مازن ، لا اعلم متى سوف اتعلم الاستيقاظ مبكرا ؟ فأنا لا احب حقا التأخر عليك ، وسعيدة جدا بأنك دائما تواصل انتظاري مهما بلغ مدى تأخري كما الآن !"
حرك رأسه بيأس وهو يهمس بخفوت ساخر
"لا تتأملي كثيرا يا فتاة ! فأنا ليس لدي صبر لأنتظركِ كل هذا الوقت الطويل بكل مرة ، وعليكِ ان تكوني ممتنة بأنني ما ازال صابر عليكِ لهذه اللحظة !"
صمتت للحظتين فقط ليسمع صوتها مجددا بخفوت يتخلله بعض الحياء عندما يتعلق الأمر بمشاعرها الوليدة المبكرة
"اعلم بأنك لن تفعلها ! فأنا اعرف مازن جيدا والذي سيكون مستعد لينتظر مدللته طول العمر بدون اي ملل مهما طالت مدة تأخرها وكانت مصدر إزعاج له ، لأنه بالواقع يحبها ويثق بها كما هي تحبه وتثق به كذلك"
قطب جبينه بجمود صخري وهو يميل برأسه جانبا بحركة طفيفة ناظرا بعينيه العسليتين للفراغ الموحش من حوله وبعد ان اختفت خيالات الماضي البعيد والمكلل بتلك الفجوة السوداء والتي حفرها بنفسه ليقع بشر اعماله ، لم يكن يتوقع بحياته ان يحيك قصة حب مزيف مع فتاة تقرب ان تكون طفلة فكل علاقاته كانت محدودة بالفتيات الاكبر سنا منه او بنفس عمره بسبب جاذبيته ناحية الجنس الآخر ! ولكن سرعان ما ان ينتهي الأمر بخيانتهن او هجرهن بعيدا بدون رغبة حقيقية بالاستمرار بعلاقة لا قيمة لها بحياته ، وخاصة بأنه قد حدد علاقته الرئيسية مسبقا والتي ربطها بتلك الطفلة المجنونة وهو يضعها بقمة اهدافه القادمة واساس مخططاته المستقبلية ، ولكن الذي حدث ناقض مخططاته تماما مع تلك المراهقة الصغيرة والتي جرب معها كل انواع المشاعر المزيفة والتي يشعر بها الآن فقط بقيمتها الحقيقية واهميتها بحياته !
رفع نظره ليعود لتأمل اوراق الياسمين الصغيرة والتي لطالما كانت رفيقته برحلة انتظاره لتلك المدللة والتي تتعمد التأخر على الدوام ولتكون مكان لقائهما الثابت وبداية رحلة ذهابهما للمدرسة ، ليرفع بعدها ذراعه عاليا وهو يقطع بعض الأوراق بيده بقوة ليقرب الاوراق امام نظره وهو يهمس لها بشبه ابتسامة باهتة
"لقد ربحتِ يا مدللة ، فيبدو بأنني حقا لا استطيع التوقف عن انتظارك مهما طالت مدة تأخرك !"
قبض على اوراق الياسمين بداخل يده بقوة ما ان وصل لسمعه هذه المرة اصوت خطوات راكضة حقيقية تقترب من مكان وقوفه ، ليتغضن جبينه بلحظة بوجوم وهو يخفض قبضتيه بصمت اجتاح حياته فجأة ، لينقل بعدها نظراته ببطء للجانب الآخر قبل ان يلمح امرأة متوسطة العمر تتوقف على بعد خطوات منه وهي تحني جسدها قليلا وانفاسها تخرج بلهاث واضح من الجري الطويل على ما يبدو !
ضيق عينيه بحدة وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله وبلمحة خاطفة علم بأنها قاطنة بهذه المناطق ، ادار عينيه بعيدا عنها بملل وهو يفكر بحظه العاثر والذي يلقيه دائما بمواجهة هذا النوع من الفتيات العاملات تحديدا !
رفعت الفتاة نظراتها بريبة لتتجمد بمكانها لوهلة وهي تراقب الواقف امامها مستند بالجدار بطريقة همجية لا تبشر بالخير ، لينتفض كل جزء بجسدها بإدراك لا شعوريا ما ان اكتشفت هوية الواقف امامها والذي قابلته بذلك اليوم بصباح العمل والذي كان سيكون آخر يوم بحياتها المهنية والبشرية ! فمن اين ظهر لها الآن ؟
ابتلعت ريقها بتوجس ما ان وجه نظرات جانبية نحوها وهو يتبعها بالهمس بضيق واضح حفظت نبرة صوته الشرسة
"ماذا هناك ؟ هل يعجبك شكلي ؟"
تلجلجت بمكانها وهي تشيح بنظراتها بعيدا عنه بحياء لون وجهها بامتقاع ، لتزفر بعدها انفاسها بهدوء وهي تحاول استجماع شجاعتها الضائعة امام هذا النوع من الرجال والذي سبق وتعاملت معه ، لتختار عندها الوسيلة الاسهل بالتخلص منه والخروج سالمة بدون اي مشاكل وبما انه لم يعرف من تكون للآن ! لتهمس من فورها بلحظات ببرود متعمد
"اعتذر على سوء الفهم ، ولكني شبهتك بشخص آخر"
نظر لها للحظات وهو يستقيم بمكانه ببطء اوقع قلبها بين قدميها وكل شحناتها تتابع حركاته بتنافر رهيب ، وكل تفكيرها الآن يدور بنقطة واحدة وهي إذا كان قد كشف هويتها ؟ ليقول بعدها بعدم اهتمام وهو ينقل نظراته بعيدا عنها
"هذا امر شيق ! اتساءل إذا كنت حقا اشبه الشخص والذي ظننته بي إلى هذه الدرجة ؟"
زمت شفتيها بارتعاش وهي تخفض نظراتها بتفكير مضطرب لتهمس بعدها بعبوس مرتجف
"لا ليس كما تظن ! مجرد شبه بسيط ! لا تهتم"
مالت ابتسامته ببرود مفترس وهو ما يزال يدقق النظر بها ولأول مرة يلاحظ بأنها تقارب بداية العشرين واكثر بملابس عملية تعطيها مظهر اكبر من عمرها وانطباع بأنها سيدة تجاوزت عمر الثلاثين وهذا ما شعر به للوهلة الأولى ، ليعبس بعدها بتشنج وهو يهمس بتفكير شارد
"هل تعيشين بهذه المنطقة ؟"
رفعت عينيها نحوه بحيرة لتقول بسرعة ما ان تقابلت مع نظراته الحارقة والتي توديها قتيلا
"اجل انا اعيش هنا منذ زمن ، هل تحتاج مساعدة بالطريق فأنا اعلم اغلب اماكن هذه المنطقة بيت بيت ؟"
ارتفع حاجبيه بانتباه لوهلة ليقول بعدها بابتسامة غريبة بريبة
"هذا يساعدني كثيرا ، إذاً هل تعرفين منزل عائلة مصعب ؟"
عقدت حاجبيها بتفكير لثواني قبل ان تقول بسرعة وهي ترفع يدها بتذكر
"اجل تذكرت تلك العائلة قد انتقلت من هذه المنطقة منذ سنوات ، وتقريبا منذ تلك الحادثة لم يعد يظهر لهم اثر"
اومأ برأسه وهو يدعي التفهم بالرغم من انه يعرف الحقيقة مسبقا ، ليتابع تحقيقه الهادئ وهو يقول بحيرة عابسة
"ولكن لماذا انتقلوا من الحي ؟ هل تعرفين السبب ؟"
ارتبكت ملامحها وهي تنظر بعيدا بتوتر على ذكرى تلك الحادثة التي شغلت الحي بأكمله ، لتقول بعدها بلحظات بحزن انضح بصوتها بخفوت
"السبب هو بأن ابنة تلك العائلة قد ماتت مقتولة بسبب إشاعة تقول بأنها كانت تواعد ابن عصابات ، وهذا الأمر قد ادى إلى نشر الكثير من الإشاعات عن القصة ومنهم يقول بأن الموت لها افضل ورحمة من العيش بعد العار والذي جلبته لكل نسلها وكل من يقرب لها بصلة !"
شدد من القبض على يديه بقسوة الجليد وهو يتنفس من بينهما باشتعال منصهر عاد ليستولي على كيانه ، لينظر نحوها بلحظة بانتباه وهي تتابع كلامها بقهر شديد وبنبرة غضب عارمة
"ولكنهم نسوا بأنها ليست الملامة الوحيدة بكل الذي حدث ! فقد تجاهلوا الطرف الآخر والاساسي بهذه العلاقة والجميع فقط يلوم الفتاة المقتولة ، هكذا هي طبيعة مجتمعنا المتدني والذي لا يجد سوى الفتاة ليوقعوا عليها الذنب والسخط بسبب انها اضعف المخلوقات ولا تقدر على الدفاع عن نفسها بدون ان ينظروا لأنفسهم وبأن فتيات العالم ليسوا معصومين عن الخطأ مثل الرجال ، ولكن هذا ارحم لها من العيش طول حياتها تلام وتهان بسبب خطأ واحد سيكلفها تجريح وتخديش طيلة حياتها ستتمنى بها ان تموت ألف مرة !"
تنفست بقوة بعد ان انتهت من سيل كلماتها الثائرة والتي خرجت عن سيطرتها دفعة واحدة وامام رجل غريب عنها ، لتتدارك موقفها بسرعة ما ان لاحظت صمت الواقف امامها وهي تلوح بيديها هامسة بتبرير متوتر
"اعتذر يبدو بأن الدفاع عن النفس قد اخذني بعيدا...."
قاطعها الذي رفع عينيه بعيدا عنها متجاهلا كلامها الاخير وهو يهمس بشبح ابتسامة
"وجهة نظر لا بأس بها !"
انفرجت شفتيها بانشداه بدون ان تفهم فحوى جملته الاخيرة والتي تجمع عدة معاني ؟ لتفضل عندها الصمت تماما وهي تشتم لسانها المنطلق الطويل والذي ثرثر اكثر مما ينبغي وهو يظهر غريزة الدفاع بأسوء وقت وامام آخر شخص كانت تود منه سماع ثرثرتها ! ولن تلومه ابدا لو صوب المسدس فوق رأسها مثل المرة السابقة لتتعلم ان تحشر لسانها بداخل فمها بدون ان تخرجه امام امثاله !
انتفضت برجفة سريعة ما ان تحرك المقابل لها والذي استدار بعيدا عنها وهو يقول بصوت خفيض هادئ يختلف عن نبرة صوته المعتادة
"حسنا عليّ الذهاب الآن ، وشكرا لكِ على هذه المعلومات الشيقة ، انتبهي على نفسكِ من الطريق يا رجاء"
سار بعدها بعيدا عنها باتجاه الطريق التي جاء منها امام عينيها المشدوهتين بصدمة اسرتها لوهلة ، لتشهق بعدها بصدمة وهي ترفع قبضتها لا إراديا لفمها هامسة بلا وعي بتشتت
"كيف عرف اسمي ذلك المجرم ؟"
اخذت عدة انفاس منفعلة وهي تحاول ان تهدأ قليلا من فورة اضطرابها من هول اللحظة وكأنها تعايش كابوس ، لتحين منها نظرة للساعة بمعصمها وهي تعود للشهيق بصدمة اكبر هامسة بانذهال
"يا إلهي لقد تأخرت كثيرا !"
انطلقت بسرعة تجري بعيدا بطريق معاكس عن الآخر قبل ان تتدارك نفسها وهي تعود لتغيير وجهتها للطريق الصحيح بلحظة تشتت عقلها بمجريات ما حدث ، بدون ان تفكر اكثر بكيفية معرفته باسمها وبأنه قد اكتشف هويتها بالفعل من اللحظة الأولى بدون ان تعلم بذلك او تشعر !
_______________________________
وقفت امام بناء الشركة وهي تنظر بعيون متسعة بطقس غائم يكسوها عواصف على وشك التحرر من داخل قوقعة روحها الثائرة...لتتنهد بعدها بابتسامة متمايلة بتحفز واستعداد للانطلاق بحربها بسبيل تحقيق هدفها الجديد القابع خلف اسوار هذه الشركة...وكأنها قد عادت مرة اخرى لتلك الشخصية القديمة المطموسة بداخل هويتها والتي صنعتها بداخلها الحياة القاسية وبين التأقلم ببيئة العصابات لتصبح ما هي عليه الآن !...بدون ان تستطيع تغيير مكونها الاساسي والذي انزرع بتربة روحها والتي ما تزال تحافظ عليها بكبريائها الطموح .
دخلت مباشرة للشركة وهي تسير بثبات خطواتها المعتادة والتي لا تحيد عن طريقها الممهد ، ونظراتها تتوزع بالمكان بحذرها الغريزي المتنبئ بأي خطر قد يحوم من حولها ، لتمسك بعدها بطرف اصابعها مقدمة قبعتها وهي تحيد قليلا بخطواتها بعيدا عن طريق مجموعة من العاملين كانوا يسيرون بخط مستقيم امامها مباشرة .
توقفت على محاذاة الجدار وهي تنظر لهم بأطراف عينيها الغائمة بعد ان تخلصت منهم بدون ان يكشف احد هويتها للآن ، لتكمل بعدها طريقها من فورها باتجاه المكتب وهدفها المقصود ، وبعد عدة لحظات كانت تقف بجمود مثل تمثال جليدي مجرد من المشاعر امام المكتب الذي كانت تجلس عليه السكرتيرة الجديدة والتي حلت مكانها منذ تركت الوظيفة ، ولكن ليس هذا ما بعث الشرارات الحارقة بحدقتيها الداكنتين بلحظة بل هيئة السكرتيرة التي تبدو بنفس عمرها وهي ترتدي افظع الملابس من الممكن ان تراها على هيئة مخلوق ! ولا تلائم بأي شكل موقع الوظيفة التي هي بها الآن ! وهي تمرر نظرات نافرة بازدراء من تنورتها القصيرة التي لا تتعدى ركبتيها يعلوها قميص قصير بدون اكمام بألوان صاخبة لا تندرج تحت الموضة ومع طبقة تكسو وجهها بتبرج صاخب اخفى ملامحها عنها ، وهي تظهر بذات الوقت نيتها الحقيقية والسبب بأخذ هذه الوظيفة والتي لا تتناسب معها لتوقع بعض الفرائس السهلة بعرضها السخي لهم ! هذا إذا لم توقع رئيس عملها نفسه ؟
عضت على طرف شفتيها بقسوة بآخر نقطة توصلت لها بأمواج عقلها الهائجة ، لتطفئ كل هذا بلحظة خاطفة وهي تستمر بمهمتها المنشودة حتى لو اضطرت بها لتحمل هذه النوعيات المزعجة من البشر لتوصلها لمآربها ، توقفت مباشرة امام مكتبها وهي تفتعل ابتسامة بلهاء هامسة لها بمودة معدومة
"مرحبا يا آنسة"
اجابتها السكرتيرة بعملية فظة بدون ان ترفع رأسها نحوها وكأنها معتادة على تكرار نفس الاجابة لكل من يقابلها
"اعتذر ولكن المهندس شادي غائب عن العمل بسبب ظروف خاصة ! لذا إذا كنت تريد مقابلته عليك ان تحجز موعد مسبقا حتى يأتي وقت عودته"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تحاول السيطرة على ذرات غضبها ببوادر فقدان تحكم جماحها ، لتزفر انفاسها للحظات وهي تكتف ذراعيها هامسة بضيق متسلط
"ولكنني قد سمعت بأنه قد عاد من السفر بالأمس ، وهذا يعني بأنه من المفترض ان يعود للعمل اليوم !"
رفعت السكرتيرة وجهها بلحظة وهي توجه لها نظرات متعالية من رأسها حتى اخمص قدميها ، لتقول بعدها بابتسامة ساخرة بحاجبين مرفوعين بخفة
"حسنا لم يصلنا اي معلومات بهذا الخصوص ، لذا هو واضح بأنه لن يعود قبل يوم غد !"
اومأت برأسها بجمود وهي تهمس بابتسامة اتسعت ببساطة
"لا امانع من انتظار عودته !"
عبست ملامحها بنفور واضح وهي تريح ذقنها فوق قبضتها هامسة بتفكير قاتم
"ومن تكونين انتِ بالنسبة له ؟"
مالت على مكتبها بجسدها برشاقة وهي تهمس مقابل وجهها بابتسامة جانبية بتملك
"انا بالنسبة له عميل مهم جدا من الدرجة الأولى ويتجاوز مخيلتك المحدودة"
ارتعشت ملامحها وهي تتراجع تلقائيا هامسة ببلاهة بشفتين حمراوين بلونهما القاني المصبوغ
"ماذا تقصدين ؟ ومن تكونين تحديدا !"
زمت شفتيها بتفكير لوهلة قبل ان تهمس من بينهما بحذر متسلي
"ستعرفين كل شيء بالوقت المناسب !"
ردت عليها بسرعة باستنكار عابس
"مستحيل ! انتِ كاذبة ! فلا يبدو عليكِ ابدا بأنكِ من النوع الذي قد يلفت انتباه شخص مثل المهندس المحترم شادي ؟"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهي تهمس بتحدي سافر
"هل تراهنين ؟"
تجمدت ملامحها بارتباك ظهر واضحا على محياها ، لتتراجع (ماسة) باستقامة امامها وهي تهمس بابتسامة هادئة بظرافة
"إذاً ليس لدي حل سوى ان انتظره امام مكتبه !"
امتعضت ملامح السكرتيرة وهي تراقب التي جلست على الاريكة امام مكتبها بأريحية وكأنها تملك المكان ، لتمثل بعدها ملامح الغرور الواثق وهي تهمس بعصبية نافرة
"يا لكِ من وقحة ! حسنا انتظري كما تشائين لأنه لن يظهر اليوم وسيذهب كل تعبك بانتظاره هباءً ، فهو لن يخالف توقعاتي ولن يأتي اليوم للشركة فقط من اجل ان يرضي غرورك"
امسكت بطرف قبعتها وهي تهمس بابتسامة صغيرة بغيظ
"سنرى يا قبيحة !"
اتسعت عينيها بصدمة منذهلة انطبعت بملامحها المتبرجة وهي تشيح بوجهها بذات اللحظة هامسة من بين اسنانها بغضب مستعر
"اللعنة عليكِ"
تجاهلتها (ماسة) وهي تلوح بساقيها امامها بعدم اهتمام ، لتقول بعدها بدقائق وهي تعود للنظر لها بكسل
"اريد قدح من القهوة الساخنة المحضرة على اليد ، لذا هلا حضرتي لي قدح لو تكرمتي ؟"
ارتفع حاجبيها باستنكار وهي تتقدم بجلوسها هامسة بإيباء
"اذهبي وحضريه بنفسكِ ، فأنا لست خادمة عندكِ"
لوت شفتيها بشبه ابتسامة عابسة وهي تهمس بتفكير مستاء
"ولكنكِ خادمة حقا ! أليست هذه هي وظيفتك ؟"
انتفضت واقفة وهي تصرخ بغضب فقدت زمام امورها
"ماذا ! هل تظنيني خادمة ؟ كيف تتجرأين يا منتحلة ؟....."
قاطعتها بهدوء بالغ وهي تلوح بيدها امام فمها بإشارة للصمت
"اهدئي يا فتاة ، نحن لا نريد افتعال اي مشاكل من اجل موقعكِ بهذه الشركة ، فإذا وصل للرئيس كيف تعاملين عملاءه فهو لن يتساهل معكِ ابدا ! وهذا كله لصالح وظيفتك هنا"
عضت على طرف شفتيها باستياء حانق بدون ان تعلق بكلام آخر ، لتتحرك من فورها بعيدا عن المكتب بخطوات مشتعلة وتنورتها تتراقص من حولها بدعوة مبتذلة رخيصة ، لتصرخ بسرعة بصوت مرتفع ناحية التي غادرت خارج المكتب بالفعل
"لا تنسي اريدها محضرة بيديكِ وفورية !"
تنفست الصعداء وهي تنهض عن الاريكة بهدوء لتدور من فورها بخطوات انيقة حول المكتب الخاص بالسكرتيرة ، قبل ان تصبح بلحظة مقابل الحاسوب المفتوح امامها على صفحة العملاء ، رفعت يديها ببطء وهي تتنفس بمهل لتبدأ بالضغط على الازرار بتركيز بأصابعها الطويلة وبثواني كانت تفتح امامها عدة نوافذ بمئة كلمة سر وقفل ، لتقضي عليها الواحدة تلو الاخرى بمهارة محترف اعتاد على فن فتح الأقفال المحكمة والتي لا تستطيع الصمود امام اصابعها الخبيرة طويلا ، وعينيها تعكس كل الصور على الشاشة بانتباه مشدود وبتأهب واضح وكأنها متواجدة بنفس الغرفة الصغيرة وليس امامها سوى عشر دقائق تفصلها عن الانتهاء من مهمتها المستحيلة والتي تصعب على اذكى الخبراء وليس فقط على طفلة لم تتجاوز عمر الرابعة عشر ! وهذه كانت ميزة الفتاة المعجزة وكنز تلك العصابة والتي لم يستطع احد مجاراتها بها لتكون هي مفتاح لكل ابواب رفاهيتهم !
تجمدت اصابعها ما ان وصلت للقائمة والتي تحوي على اسماء العاملين السابقين مكان سكرتيرته ، لتتنقل بعدها بينهم بتمهل شديد قبل ان تتصوب من فورها على الاسم المقصود ، (وفاء شديد) .
ضمت شفتيها بارتعاش وهي تدخل على معلوماتها الشخصية ، لتتجاهل كل ما ليس له صلة بهدفها وهي تكتشف بأنها غير متزوجة وعملت معه بهذه الوظيفة لمدة ثلاث سنوات ، وبنفس الوقت الذي غادرت به العمل كان وقت توظيفها هي مكانها ، وهذا يعني بأنها قد كانت البديلة عنها بدون ان تفهم سبب تركها للعمل !
تغضن جبينها بحدة ما ان علقت نظراتها على شيء آخر مدون بين معلوماتها وهو مكان التنشئة الاصلية وهو خارج البلاد بدون اي تفاصيل عن الأمر ، ولكن لما لا يبدو عليها بأنها من عائلة اجنبية ؟ واين عائلتها اساسا ؟ وبعدها صفحة بيضاء لا يوجد معلومات اخرى !
ضربت على سطح المكتب بقبضتها بقوة وهي تتنفس ببؤس فيبدو بأنها قد خرجت بالنهاية فاضية الأيدي بدون اي معلومات تفيد فضولها وسر الحقائق المخفية التي تعيش معها ! فأما ان تكون تلك الفتاة قد طمست هويتها عن الجميع بنجاح ؟ واما ان تكون هي من الغباء الذي جعلها تغفل عن سر مهم يكشف لها حقيقتها ؟
ما ان كانت على وشك اغلاق الصفحة حتى وقعت عينيها على رقمها مدون مع معلوماتها ، زمت شفتيها بتفكير وهي تحفظ الرقم بنظرة خاطفة له ، لتغلق بعدها الصفحة بأكملها وهي تعود لنفس الصفحة التي كانت عليها بالسابق ، استقامت بمكانها وهي ترفع يدها لتنزع القبعة عن رأسها بلحظة بخواء قبل ان تتخلل شعرها المعقود بتعب مفاصلها وهي تهمس بعزم مرهق
"عليّ ان اساوم الأمر مع تلك الفتاة المدعوة وفاء شديد ، واعرف الحقيقة الكاملة منها وألا لن ارتاح قبل ان احرق حياة كل من يربط بهذه القصة بصلة !"
_______________________________
كان يسير باتجاه الرواق المؤدي لمكتبه بملامح متلبدة بجمود بدون اي حياة...لتتباطء خطواته رويدا رويدا ما ان بدأ بلمح التي ظهرت بمجال نظره بلحظة الجالسة امام مكتب السكرتيرة الخاصة به تضع ساق فوق الأخرى بخيلاء...وهو يمرر نظرات مندهشة باتساع لا إرادي على قمة رأسها والتي تعتلي قبعة ذكورية مع ملابس عملية تستطيع بها استفزاز الناظر لها والتشكيك بضعف نظره !...وليس بسبب عيب بها او نقص بإمكانياتها الجمالية بل بسبب شكلها الاقرب للذكوري من الصبياني بدون ان يحدد اصل جنسها الحقيقي تحت كل هذه الاقنعة المخبئة تحتها ؟!
توقفت خطواته تماما بدون ان يصل للمكتب ما ان وقعت نظراته هذه المرة على وجهها الذي ارتفع نحوه بلحظة وعينيها تتسع ببحار غائمة بتموج قاتم ، وما هي ألا لحظة واحدة حتى تتبعت حواس إدراكه للخطر القابع امامه وهو يلمح ابتسامتها التي احتلت محياها بسيطرة حولت عينيها لسماء حالمة بغيوم انقشعت عنها الظلمة ، وكما توقع بدأت بالنهوض بعيدا عن المقعد بطريقة مدروسة وهي تتحرك باندفاع اطلقت سراح جماحها المعهود ليتربص لهما ، لتصل له فقط بمهلة لحظات قبل ان تنقض على الواقف بمكانه بدون سابق إنذار وهي تتعلق بعنقه بكل قوة جديدة عليه حاصرتهما بعالمها وفصلتهما عن الواقع لثواني !
حرر ابتسامة متسعة شقت طريقها بملامحه الباردة ما ان همست المتعلقة به بشفتين حمراوين مغريتين
"اهلا بعودتك يا عزيزي ، تأخرت كثيرا !"
رفع يديه بدون ان يتحكم بقيودهما واللتين اطلقت سراحهما بدون ان يأبه بموقعه الحالي بمكان عمله وبمؤشر إدراكه بخطر الخوض بلعبتها ، ليمسك بخصرها بهدوء الموج وهو يهمس بخفوت اجش نادم
"اعتذر يا عزيزتي ، لو كنت اعلم بوجودك لما اخذت كل هذا الوقت بالمجيئ !"
اومأت برأسها بنفس الابتسامة المغرية وهي تخفض يديها عن عنقه لتمسك بهما طرفي سترته لتهمس بلحظة برقة لا متناهية
"لا بأس ، المهم بأنك قد وصلت يا عزيزي"
عض على طرف شفتيه بكبت وهو يشعر بانهيار حصونه وتمادي بدأ يعبث بتيارات عقله ليهمس من بين اسنانه بفورة
"لا تتمادي اكثر بلعبتك لكي لا نندم على هذا طيلة حياتنا !"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تتراجع عدة خطوات للخلف بدون ان تترك اسر عينيه بتلك الاحداق المجنونة بلغات التحدي والتي اعتاد على اتقانها ، ليخفض بعدها يديه عن خصرها على مضض وهو يدسهما بجيبي بنطاله قبل ان يوجه نظراته لمسار آخر قائلا بود واضح
"صباح الخير يا سالي ، نهارك سعيد"
انتفضت صاحبة الملامح المنذهلة والتي كانت تحدق بهما بشفتين منفرجتين وفك ساقط ببلاهة مسرحية ، لتتمالك بعدها نفسها بسرعة وهي تنهض باهتزاز لتهمس بتعثر محمر ربط لسانها لوهلة
"صباح... ، صباح الخير سيدي ، مرحبا بعودتك ، لم تشرفنا برؤيتك منذ وقت طويل ، وانا الذي ظننت بأنك غائب عن العمل اليوم !"
ابتسم بعملية وهو يقول بهدوء ساحر متجاهلا النظرات المسلطة عليه بحنق
"شكرا على مجهودك يا عزيزتي ، ولكن قد حان الوقت الآن لاستلام مهامي بالعمل كما يجب ان يحدث واخفف من الحمل الملقى عليكِ ، واعتذر بشدة على طول الفترة والتي حملتكِ بها المسؤولية كاملة ، فكل هذا كان خارج عن إرادتي"
ارتجفت بمكانها بحياء طاف على ملامحها المتبرجة وهي تهمس بابتسامة صغيرة بامتنان
"لا داعي لهذا يا سيد شادي ، فأنا موجودة هنا لخدمتك وسعيدة جدا بوضع كامل ثقتك بي !"
عبست ملامح (ماسة) بغيظ وهي تشعر بمضمون الكلام الودي بينهما يتجاوز حدود الرسمية التي يجب ان تكون بين مدير وموظفته وهي تعبث البراكين بغريزتها الهائجة ، نظرت بعدها للذي تجاوزها وهو يتجه مباشرة لمكتبه بدون اي كلام آخر ، لتسير بعدها عدة خطوات رشيقة امام مكتب السكرتيرة وهي تهمس لها بشبه ابتسامة ساخرة بشماتة قبل ان تغادر بعيدا
"مبروك لي الفوز بالرهان يا قبيحة"
نظرت لها بامتعاض غاضب احمر معها وجهها المتبرج مثل المسخ وهي تنظر للتي غادرت باتجاه المكتب بدون ان تهتم بالشعلة والتي اوقدتها من لحظة كما تفعل عادةً مع كل من يعترضها ويحاول افساد رتابة حياتها الهادئة .
دخلت للمكتب وهي تتشرب بملامح البرود والذي عاد لتلبسها بلحظة هامسة باستياء ساخر
"هل قلت للتو عزيزتي ؟"
استدار نحوها الواقف امام المكتب وهو يرفع عينيه قليلا هامسا بسخافة متعمدة
"هل بالغت بالكلام وانحدرت كثيرا بالتمثيل ؟ لم اتوقع ان تجرحكِ الكلمة بحقك لهذه الدرجة والذي يدفعك للسخط عليّ !"
اغلقت باب المكتب من خلفها بعنف ليدفعه للهمس بتسلية واضحة
"مهلك على الباب يا صبيانية !"
عبست ملامحها بشيطانية وهي تتقدم بسرعة عدة خطوات امامه هامسة باستنكار
"من التي تدعوها بالصبيانية ؟"
حرك كتفيه بإشارة ساخرة وهو ينظر لها من رأسها حتى اخمص قدميها ليتبعها بهمس واجم
"حسنا هيئتك وتصرفاتك اكبر دليل على انني تزوجت طفلة لا تتجاوز عمر العاشرة بأنوثة معدومة شبيهة بالصبيان !"
توقفت للحظة بجمود لتعبس بسرعة بتجهم وهي تلوح بذراعها هامسة بحنق
"لم يجبرك احد على الارتباط بفتاة صبيانية بعمر ابنتك !"
ارتفع حاجبيه باهتمام مشدود لبرهة ليهمس من فوره بابتسامة ملتوية بسيطرة
"ولكني مع ذلك احبها ، مع كل عيوبها احبها !"
انفرجت شفتيها بهالة من الذهول اللحظي والذي اجتاحها بقوة اعترافه والذي ينطق به لأول مرة بوضوح ليزيد من اغلال قلبها بقيد سلطه على حياتها منذ وقت ليس ببعيد ، لتشيح بوجهها بسرعة بعيدا عنه وهي تتنفس بثورة تشعر بها تكاد تقتلع احشاء روحها بدون اي سبيل للنفاذ من سلاسل مشاعره !
قبضت على يديها فجأة بألم وهي تهمس بجفاء مفاجئ
"هل هذا هو الأسلوب والذي تتبعه دائما مع كل فتاة تقابلها بحياتك ؟ هل هذه هي مهاراتك بالإيقاع بقلوب الفتيات العذراوات كما فعلت قبل قليل مع تلك السكرتيرة التي تبدو هائمة بحبك !"
تجمدت الاجواء بينهما بصقيع جليدي اصم اي صوت آخر بصدى ارواحهما الخاوية ، ليبتسم بلحظة بنفس البرود وهو يحرك ذراعه هامسا بلا مبالاة
"إذاً تقصدين تلك السكرتيرة الصغيرة ! الحقيقة احب ان اعامل الجميع وكل من يقدم لي معروف بالود والمجاملة ، لكي يشعر بقيمة مجهوده والذي بذله لإرضائي وهذا مثل جزء من شخصيتي لا استطيع تغييره بسهولة فقط لأعدل نظرتكِ نحوي !"
زمت شفتيها بوجوم وهي ترفع نظراتها نحوه بإيباء هامسة بازدراء وهي تصم اذنيها عن سماع اي صوت آخر يتلاعب بمشاعرها
"هذه صفة جميلة بك يا زوجي العزيز ! ولكن عندما يتجاوز اسلوبك الودود ولطفك الحد المعقول مع اناس لا يستحقون ما تقدمه لهم من عطايا ستصبح عندها مجرد شخص ساذج بنظرهم ، الآن فقط عرفت كيف حصلت على لقب معشوق الفتيات !"
ساد الصمت بينهما للحظات طويلة قبل ان تشق شبه ابتسامة على زاوية شفتيه وهو يتمتم بجفاء
"هذا فقط بمنظوركِ الاحمق يا ألماستي ، وايضا كيف لي ان اتجاهل مجاملة الفتيات الفاتنات على عطائهن بالعمل معي ؟ هذا سيكون بمنتهى الوقاحة !"
اتسعت مقلتيها البحريتين بذهول وهي تلوح بذراعها للخلف هامسة بتعجب ساخر
"هل تقصد تلك المسخ بالفتيات الفاتنات ؟ انها اشبه بضفدع تلوث بوحل البحيرة !"
ارتفع حاجبيه ببطء مشدوه لثواني قبل ان ينفجر بالضحك فجأة وهو يتمسك بطرف المكتب من خلفه وقد اطلق العنان لموجة ضحكه والتي تخرج لأول مرة بكل هذه القوة والانشراح ، شردت قليلا بشكله وهو يضحك بقوة وبانبساط ممزوج برجولة ساحرة لا تستطيع ان تغفل عنها قيدت غلالة روحها بقوة اكبر .
ادارت عينيها بعيدا عنه لوهلة ما ان توقف عن الضحك ليقول فجأة بأنفاس منفعلة بشك
"هل يعقل بأنكِ تغارين منها يا عزيزتي ؟"
نظرت له بسرعة لتصطدم بعينيه الصلبتين وبعد ان عاد لقناعه الجاد البارد ، لتقول بسرعة وهي تشدد من القبض على يديها بامتعاض ساخر
"بماذا تهذي ؟ هل تظن بأني سأشعر بالغيرة حقا اتجاه ذلك المسخ ؟ إذا كان هذا حقا تفكيرك فأنت إذاً واهم....."
قاطعها بسرعة بابتسامة ملتوية وبملامح اكثر ثقة
"لقد قصدت بكلامي بأنكِ تغارين منها لأنني قلت لها كلام ودود ونعتها بالجميلة ؟ أليس كذلك !"
ضمت شفتيها بارتعاش سرى بكامل جسدها بلمحة خاطفة قبل ان تهمس بخفوت باهت بدون اي تعبير
"افعل ما تريد وتكلم مع الفتيات بقدر ما تشاء وكما يحلو لك ! وعندما تنتهي قد تفكر عندها بالعودة لزوجتك الصبيانية والتي تمتلك اقل انوثة من الباقين واقل مرتبة ، افعل ما تريد ولكن إياك وان تقارني بتلك الحثالة مجددا ، فهمت ؟"
حرك رأسه للأسفل قليلا وهو يهمس بخفوت شارد
"هل هذا ما تريدينه ؟"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تصرخ بغضب
"انت إيها الماكر !....."
قطعت كلامها بوجل ما ان اندفع نحوها بخطوتين بلمح البصر ليقيدها من كتفيها بقوة جعلتها تتراجع تلقائيا بتعثر حتى ارتطمت بالأريكة بلحظة وهي تسقط نصف مستلقية ، وباللحظة التالية كان يحاصرها بأنفاسه الهوجاء والتي اجتاحت كيانها بثواني وهو يتبعها بقبلته القاتلة والتي تشعر بها مختلفة عن اي مرة سابقة ! وهو يعبر بها عن كل ما لا يستطيع بوحه لها بمشاعر حررت مقاليد قلبها بثواني طغت على كل الاصوات الحائلة بينهما .
تنفست بارتعاش محتقن ما ان حررها وهو يهمس بقوة هادرة بعثت بمجريات حياتها
"هل فهمتِ الآن الفرق بينكِ وبين الفتيات الأخريات ؟ ام اعيد الشرح لكِ مجددا !"
حركت رأسها بالنفي بحركة طفيفة تكاد تختنق من هول موقفها بدون ان يحررها من وجوده الطاغي من حولها ، ليتلمس بعدها بأطراف اصابعه جانب وجهها للحظات قبل ان ينتشل القبعة بعيدا عن رأسها وهو يلقي بها بطول ذراعه جانبا .
رفعت عينيها الواسعتين باهتزاز مماثل لكل عضلة بجسدها ما ان نطق بابتسامة هادئة بخفوت آسر
"حتى لو ارتديتِ مئة تنكر تخفين به شكلك الحقيقي تحت انوثتك المدفونة ! فأنتِ ستبقين من اسرتني سابقا ومن نظرة واحدة لسماء بحار عينيكِ !"
تسمرت بمكانها بتجمد طاف على ملامحها وهي ترمش بعينيها الدامعتين عدة مرات بدون ان تمنع نفسها من التأثر بالسيطرة على جموح كيانها الذي انطفئ بلحظة ، لترتجف داخليا على ملمس اصبعه الذي وصل لأطراف احداقها وهو يهمس بشرود هائم
"فقط لو افهم ما سبب تسرب الدموع دائما بعينيكِ ! إذا كانت من تأثير العدسات ام هي طبيعة بعينيكِ البحريتين واللتين لا يجيدان سوى التفنن بإثارتي ؟"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تشيح بوجهها بلحظة باتجاه باب المكتب والذي فُتح فجأة بدون طرق ، لتطل السكرتيرة من خلف الباب وهي تقول بعملية
"المعذرة سيد شادي....."
تحنطت السكرتيرة بمكانها بذهول الموقف والذي وضعت به وهي تشاهد الذين ما يزالان على وضعهما الحالي والذي يبعث التأكيد برأس الناظر لهما بدون اي شك ، لتخفض رأسها بسرعة للأسفل بخزي وهي تهمس بتلعثم محمر تكاد تختنق بكلامها
"اعتذر ! اعتذر بشدة على المقاطعة ! اقصد اعتذر على الدخول بدون اذن ! عذرا منكما...."
تدخل الذي استقام بعيدا عنها وهو يقول باتزان بدون اي تأثر او خجل من منظره امامها
"لا داعي للاعتذار فلم يحدث شيء تحرجي عليه ! فنحن بالنهاية ازواج ونستحق بعض الوقت بمفردنا ، ولكن يبدو بأن الجميع يصر على افساد لحظات خلوتنا بوقاحة منقطعة النظير !"
ارتجفت اكثر وهي تعود للاعتذار بإحراج اكبر
"اعتذر مجددا ، لم اكن اعلم....."
عاد للكلام بملامح جادة بدون اي مرح
"حسنا ماذا كنتِ تريدين ؟"
رفعت وجهها نحوه بوجل وهي تمد قدح القهوة الممسكة به بارتجاف طغى على حركاتها هامسة بآلية
"هذا قدح القهوة الخاص بالآنسة ، فهي لم تكمله وتركته عند مكتبي....."
قاطعها بجدية وهو يعدل على كلامها بتسلط
"لا تقولي آنسة ، بل قولي زوجة السيد شادي ، فهي تكون زوجتي لا تنسي وانتبهي لألفاظك اكثر ، فهذه اهم صفة عندي بالعمل"
اومأت برأسها بانصياع وهي تهمس بخفوت مرتبك من خزي موقفها
"حاضر"
تقدم امامها عدة خطوات قبل ان يلتقط القدح منها وهو يقول بأمر صارم
"حسنا يمكنكِ الذهاب الآن ، ومرة اخرى إياكِ والدخول لمكتبي بدون طرق او استئذان ، فلن استطيع ان اتغاضى عن اخطائكِ لفترة طويلة !"
عادت للإيماء بارتجاف وهي تنسحب بسرعة بتعثر لخارج المكتب بعد ان تلقت إهانة لن تنساها بحياتها ، لينظر بعدها باتجاه التي قالت ببرود خافت
"لم اكن اعلم بأنك تملك هذا الجانب !"
حرك رأسه بابتسامة وهو يتجه مباشرة للمكتب ليجلس بلحظات على كرسيه باسترخاء هامسا بغموض
"من اي ناحية تقصدين ؟"
زمت شفتيها لوهلة وهي تهمس بخفوت مستاء
"اقصد بأنك كنت صارما مع الفتاة بشكل مبالغ به ، ولم ارى بأنها قد اخطأت لهذه الدرجة !"
عقد حاجبيه وهو يحرك قدح القهوة جانبا هامسا ببساطة
"لا احب التهاون بالعمل ، وهي قد تجاوزت حدودها المرسومة بالعمل وهذا ما لا اسمح به"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين بغموض لبرهة لتهمس بعدها بقنوط عابس
"حقا انت ماكر !"
تجاهل كلامها الاخير وهو يرتشف من قدح القهوة بهدوء مستمتع ، لتهمس من فورها بحاجبين مرفوعين بصدمة
"هذا الذي تشرب منه قدح القهوة الخاص بي !"
اخفض نظره لقدح القهوة بتفكير وهو يهمس بخفوت مبتسم
"ولكن الذي اعرفه بأنكِ لا تحبين القهوة ! إذاً لن تمانعي لو شربته بدلا عنكِ بما انكِ قد طلبته ولا يوجد احد لشربه ومن التبذير التخلص منه"
تبرمت شفتيها بوجوم بدون ان تمنع نفسها وهي تهمس بحنق
"ولكني قد شربت منه !"
اتسعت ابتسامته بانتشاء اكبر وهو يهمس بخفوت واثق مكملا شرب قهوته باستمتاع واضح
"وهذا ما يجعل مذاقها اطيب ! فكل شيء قد وضع عليه بصمة من زوجتي لن يستطيع احد مقاومة سحر بصماتها ، اعلم هذا جيدا لأني قد جربت"
ابتلعت ريقها بحياء وهي تخفض نظراتها بتخبط بعيدا عن منظره والذي اسرها مجددا بدون إرادة منها ، وهي تشعر ببوادر ضعفها واستسلامها الجديد لكل شيء يسيطر عليها بغلالة تقيدت بها واحكمت قيدها ومختلفة عن كل انواع القيود بحياتها...وهذا اجمل ما فيها !
______________________________
اعتلت ابتسامة شاردة عند زاوية شفتيه وعينيه على ورقة الاختبار امامه والتي كان يمسك بها بتأمل منذ ما يقارب النصف ساعة ، وهو يقرأ محتواها وكلماتها بدقة لا متناهية وباهتمام بالغ لا يتطلب كل هذا بقراءة ورقة اختبار احد طلابه المألوفين ! ليعيد قراءة نفس النص الاخير المكتوب بزاوية الورقة بنهاية اسئلة الاختبار حتى حفظ احرفها الصغيرة عن ظهر قلب
(هذا اقصى ما استطيع تقديمه بالاختبار ، لذا ارجو منك ان تتساهل معي قليلا ولا تقسو عليّ بوضع درجتي النهائية ! فكل انسان بالحياة له حدود بقدراته وليس هناك من شخص كامل ، المهم هو العمل وبذل المجهود بطريق احلامنا ، فلا تنسى هذا كلامك انت وليس كلامي انا ! وشكرا لك على تفهمك يا هشام)
تنهد ببعض اليأس بدون ان يفقد ابتسامته الشاردة والتي ازدادت بميلان شغوف لا تظهر سوى بالحالات النادرة والتي قلما كانت تظهر بحياته العملية المجردة من العواطف ، وكل فكره بشكلها الطفولي المتوسل الذي كان يعلو ملامحها بلحظة كتابتها لهذه الرسالة بنهاية اختبارها ، وهي لا تتوقف عن ابهاره بكل مرة يتقابل معها وبكل محاضرة يلقيها على اسماعها بمكان حجرة دراستهما بمنزلها والذي اصبح العالم الخاص بهما وحدهما بدون اي طلاب آخرين يسرقون اهتمامه وتركيزه عنها ، وقد اصبح ذاك الوقت والذي يقضيه مع محاضراتها المنفردة بمثابة الوقت المستقطع والذي يظهر به شخصيته الطبيعية معها والاجازة والتي كان يهفو لها بحياته .
عبست ملامحه ما ان اخترق ضباب افكاره صوت التي وقفت امام طاولة المحاضرات وهي تهمس له بتردد واضح
"هل تسمح لي بالكلام يا استاذ هشام ؟"
رفع (هشام) نظره بهدوء باتجاه الواقفة امامه بحياء واضح ، ليترك عندها الورقة جانبا وهو يضم قبضتيه فوق سطح الطاولة قائلا باتزان جاد عاد لتلبسه
"تكلمي يا ماندي ، ماذا تريدين ؟ هل استطيع مساعدتك ؟"
ارتبكت ملامحها اكثر وهي تحاول صياغة الكلام هامسة بخفوت شديد
"الحقيقة لقد طلبت منا العمل على مشروع جديد يخص احضار وسيلة للمادة ، وقد تكفلت بمهمة تقسيمنا على شكل ثنائيات للعمل معا ، ولكني لا ارى بأنني سأستطيع التعاون مع الشريك والذي اخترته لي ! فقد كنت اظن بأني سأكون مع صديقتي بهذا ولكني وجدت نفسي مع شخص آخر لا استطيع التآلف معه !"
قطب جبينه بجمود لوهلة ليقول بعدها بجدية عملية بدون ان يحيد بنظراته عنها
"ولكنني فعلت هذا يا ماندي بسبيل تحقيق الهدف المنشود من المشروع ، فأنا اريد منكم ان تكونوا متعاونين مع بعضكم ومتآلفين مع شركائكم مهما كانت طبيعة الشريك الآخر المختار لكم ، لذا فكرت بمزج وخلط الاسماء معا ووضع كل منكم مع شريك مختلف عن الآخر وبعيدا عن شركائكم المعتادين ، لتستطيعوا التكيف مع الوضع والظروف الراهنة والتي قد تحاصر حياتكم وكيفية التصرف بذلك الموقف العصيب"
ردت عليه بسرعة بعبوس متوتر يكاد يفتك بها من إحراج الموقف
"ولكن يا استاذ هشام هذه ليست المشكلة ! انا استطيع التعاون مع اي شريك تختاره لي ولا امانع هذا ، المشكلة هي بشريكتي نفسها فهي لا تريد مساعدتي بشيء وترفض كلياً التعامل معي او ان نعمل معا بنفس المجموعة ، وتقول لي دائما بأن حظها العاثر وضعها مع شريك من امثالي لا تقرب لمستواها !"
عقد حاجبيه ببطء وبوجوم بدأ يستولي على ملامحه الرزينة ليخرجه عن هدوئه المعهود ، ليقول من فوره بتصلب قاتم
"ما اسم تلك الشريكة ؟"
اجابت بسرعة بتوتر اكبر
"سامية المنذر"
اعتلى الجمود محياه وهو يحاول السيطرة على قوة الغضب الجبارة والتي تهدد بتدمير آخر ذرة اتزان عنده ما ان مر وقع الاسم على ذاكرته والتي لا تخلو من الحقد المكنون نحوه ومن قلبه المحمل ناحيته ، لينهض بلحظة واقفا عن مقعده وهو يوجه نظراته بأنحاء القاعة المكتظة بجميع انواع الطلاب وهو يبحث عن فريسته المقصودة وسبب المشاكل بأقرب الناس له !
قال فجأة بصوت جهوري آمر ما ان وصل للرهينة
"سامية المنذر تعالي امامي الآن"
انتقلت كل الأنظار ناحية التي تحركت من مكانها بخيلاء وهي تتجه مباشرة امام طاولة الاستاذ الواقف بانتظارها بخطوات متقاطعة بوقاحة منقطعة النظير ، وما ان وقفت بلحظات امامه بجانب الفتاة الاخرى حتى قالت بنظرات بريئة بدلال انثوي
"نعم يا استاذ هشام ! هل من مشكلة ؟"
احتدت ملامحه بلحظة وهو يكتف ذراعيه بتصلب قائلا بصرامة منخفضة
"هل ما سمعته صحيح بخصوص العمل على المشروع والذي طلبته منكم قبل يومين ؟"
ابتسمت بإغراء وهي تميل فوق سطح الطاولة هامسة بحيرة خافتة
"وما لذي سمعته ؟"
تجهمت ملامحه بلحظة وهو يضرب على سطح الطاولة بلمح البصر هزتها بمكانها ليهمس عندها بأمر
"احترمي نفسكِ وقفي امامي باتزان !"
اعتدلت بمكانها بعبوس وهي تنظر للذي اكمل كلامه بصرامته المعتادة والتي يتخلل بها الوقار
"لماذا تعاملين شريكتكِ بكل هذا الاحتقار ؟ ألم اطلب منكم ان تعملوا مع شركائكم المختارين بود وتعاون لترفعوا من درجاتكم ! ام تحاولين الاستهانة بأوامري الصارمة والواضحة للجميع والتمرد عليها بمضايقة شريكتكِ والتي اخترتها معكِ ؟"
امتعضت ملامحها بضيق وهي تحيد بنظراتها للساكنة بمكانها بازدراء ، لتقول بعدها بلحظات بجموح وهي تنظر امامها بإيباء متعالي
"ولكني لست راضية عن تقسيمك للثنائيات هكذا ! فقد اخترت لي شريكة عديمة الفائدة لا يعتمد عليها ، كيف لي ان اعمل مع فتاة مثلها لا تنتمي لعالمي ؟....."
قاطعها بغضب صارم وهو ينظر لها بقوة تظهر على محياه لأول مرة بكل هذا الازدراء والتعنيف
"كفى هراءً يا سامية ! لقد اخبرتكِ بها من قبل انا لا اسمح لكِ بإهانة الطلاب الآخرين بهذا الشكل الغير مسموح به بداخل قاعة الدرس ! فهذه جامعة وليست ملهاة كل شيء يسير حسب مزاجك وما يعجبك انتِ فقط ، لذا اقول لكِ مجددا إذا لم تراعي المبادئ والتي وضعتها لكم وبقيتِ تتجاوزين الحدود المرسومة مع زملائك بالدفعة ، فيؤسفني بأنني سأقول لكِ لا يشرفني ان تكوني طالبة عندي بهذا المساق !"
فغرت شفتيها بصدمة لحظية قبل ان تنتفض بمكانها بعنف وهي تستند بيديها على سطح الطاولة قائلة باستنكار منفعل
"ماذا تقصد بهذا الكلام يا استاذ ؟ هل تحاول التخلص مني ؟....."
قاطعها مجددا وهو يهمس بآخر كلامه المنتهي وبعد ان فقد السيطرة على قيود غضبه
"هذا آخر كلام عندي يا سامية ، لذا افضل شيء تفعلينه بحالتك لكي لا اضطر بالنهاية لحرمانك من المساق هو العمل على تعديل سلوككِ وتصرفاتكِ مع الناس وطلاب دفعتك ، ومن اجل مستقبلك المهني بعد تخرجك والذي سيكتب بملفك الشخصي ، لذا انتبهي فأنا لن اتهاون معكِ بعد الآن !"
عضت على طرف شفتيها بقهر لمع بحدقتيها بشرارة حارقة بصمت ، لتستدير بلحظة بعيدا عنه وهي تهمس بنفور خافت قبل ان تكمل طريقها بعيدا عنهم
"لقد توقعت هذا ! فيبدو بأنك لا تعطف سوى على امثال تلك الفتاة المختبئة تحت رداء براءتها"
اكملت طريقها لخارج القاعة امام انظار الجميع المشدوهة بتركيز منذ بداية النقاش الحاد بينهما ، ليزفر بعدها انفاسه بقوة وهو ينقل نظراته للفتاة الاخرى قائلا لها بحزم جاد
"لا تقلقي يا ماندي ، سأبحث لكِ عن شريكة اخرى لتتعاوني معها بالمشروع"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بامتنان خجل
"شكرا جزيلا لك يا استاذ ، انا ممتنة جدا لك"
اومأ برأسه بتصلب وهو يحمل حقيبته مع الأوراق ليغادر باتجاه باب القاعة قائلا بصوت جهوري قاطع
"لقد انتهت المحاضرة"
غادر بعدها بعيدا عن انظارهم المسلطة على مكان اختفاءه ، وكل ما كان يدور برؤوسهم آن ذاك عن سبب انقلاب استاذهم الصارم الرزين وجعله بهذه الصورة الغاضبة وكأنه ينوي الانقضاض على احدهم !
وصل (هشام) للممر الطويل والذي يبعد عن قاعات المحاضرات وكل فكره مشغول بصحة ما فعله الآن من تناقض عن شخصيته الصبورة والتي لا تنفعل ولا تنهز رغم الصعاب والتي تمر امامها ! فماذا تغير به الآن ليغضب كل هذا الغضب من كلام تلك الفتاة الوقحة والتي لا تسوى شيء بحياته ؟
توقف لبرهة وهو يراقب بتعجب الحشد الكبير عند منتصف الرواق ، ليسرع بعدها بخطواته بلحظات وهو ما يزال يدقق بالمنظر امامه بوجوم اكتسح ملامحه بدون ان يحيد بنظراته عنهم ، وما ان وصل قريب من التجمع حتى تغضن جبينه بارتياب وهو يلمح الشاب الواقف امام الفتاة الباكية والتي على ما يبدو قد جرحها بشدة بدون ان يتبين مكمن المشكلة بينهما ؟
ارتفع حاجبيه بهدوء ما ان غادر الشاب بعيدا عن الفتاة بدون كلام يبدو بأنه قد استنزفه امام الفتاة قبل قدومه ، واما الفتاة فلم يتحرك بها ساكن وهي متجمدة بمكانها بدون حراك من هول الصدمة والتي لم تفق منها بعد .
حرك عينيه بعيدا بملل وهو يستدير للجهة الاخرى ليتابع سيره بطريق اخرى ، ولكن ما لم يتوقعه ان تتباطأ خطواته على مسمع بعض الكلام والذي بدأ بالوصول لأذنيه بثرثرة مزعجة
"هل رأيته كيف اهانها امام الجميع ؟ بالرغم من انهم لم يكد يمر أيام على خطبتهما وكانا معا مثل عصافير الحب !"
تسارعت خطواته تلقائيا بعيدا عن سماع تلك القصص التافهة والتي تخص مشاكل العالم الشخصية ، بدون ان يشعر بتصلب خطواته لوهلة والتي توقفت عن الحركة تماما مثل كل شيء يحيط به ما ان وصل له كلام آخر بازدراء ساخر
"ولكن هذا ليس جديد على ذلك المتلاعب ، فقد فعلها من قبل وتخلى عن الفتاة الجميلة غزل رأفت وقد كانا معا مثل عصافير الحب واكثر !"
تكورت قبضتيه بتسمر لحظي قبل ان يعود كل شيء لطبيعته المعهودة وهو يتابع طريقه بعيدا عن سماع المزيد من تلك الثرثرة والتي اصبحت تثقل عليه بحمل كبير وبألم اخذ يتوسع بموطن روحه بدون إرادة منه او خلاص ...
______________________________
امسكت بقبعتها من على الأرض بهدوء وهي تتمعن بالنظر لها باهتمام بالغ وقد لاحظت خدش بسيط بمقدمة طرف القبعة ، لتعقد بعدها حاجبيها بحدة وهي تستمع للصوت المتسلي من خلفها وهو يقول بتساؤل
"إذاً يا آنستي ما سبب زيارتك لمكتبي اليوم ؟ أليس لديكِ بهذا الوقت جامعة !"
زفرت انفاسها ببؤس وهي تستقيم بمكانها هامسة بغيظ بدون ان تنظر له
"بلى لدي جامعة"
ارتفع حاجبيه بتعجب للحظات وهو ينظر لظهرها المتصلب والمرسوم بشموخ تمثال احترافي يأبى استرسال الكلام معه ، ليقول بعدها باستياء وبعد ان يأس من انتظار تكملة كلامها
"حسنا ولماذا لم تذهبي للجامعة اليوم ؟"
مرت لحظتين لتليها استدارت الجسد امام عينيه برشاقة لتستقر على القبعة والتي عادت لفوق رأسها قبل ان تهمس بخفوت وكتفيها يتحركان مع كلامها بسلاسة
"لقد قررت التغيب عن الجامعة اليوم واستغلال الفرصة بالمجيئ لمكتبك بالصباح الباكر"
تغضن جبينه بحيرة وهو يريح يده فوق خده قائلا باهتمام
"ولماذا ؟"
سارت امامه بخطوات واسعة لتصل للمكتب والذي مالت عليه بخفة وهي تهمس امام عينيه مباشرة بابتسامة اتسعت بمغزى
"من اجل قضاء الوقت معك"
تغضنت زاوية شفتيه بابتسامة طفيفة وعينيه تلاحق خطوط ملامحها المحفورة بدقة بقرب المسافة بينهما ، ليعض بعدها على طرف شفتيه بمكر وهو يرفع يده بعيدا عن خده ليضرب بأصبعه السبابة طرف انفها الطويل هامسا بصوت اجش خافت
"ماهرة بالتلاعب بالكلام ! كما ماهرة بلعب بمشاعري والتي تتحرك حسب طبيعة مزاجك !"
رفعت وجهها قليلا وهي تهمس بابتسامة صغيرة بغرور
"اعتقد بأنني احاول مجاراتك !"
امسك ذقنه بأصابعه وعينيه على تموج عينيها البحريتين واللتين تظهران بمهارة فنون حيلهما المتلاعبة بقلب اي انسان ، ليهمس بعدها بابتسامة اتسعت بتسلية
"هل لهذه الدرجة لديكِ الشغف لقضاء الوقت معي لتفوتي محاضراتك لليوم والتي لم تفعليها من قبل ؟"
ردت عليه ببساطة وهي تبتسم بثقة فاتنة
"اجل كثيرا"
حرك رأسه بدهشة مما يسمع ليقول بعدها بابتسامة مسترخية بنشوة
"رائع ! يبدو بأن الكثير من التغييرات قد طرأت على زوجتي بفترة غيابي ؟ وهذا اكيد للأفضل ! متشوق لقضاء الليل معكِ واحياء كل ليالي الجفاف العاطفي بيننا"
زمت شفتيها بفرط الحياء والذي يبعثه دائما بخلايا روحها وهي تشيح بنظراتها هامسة بحنق
"يا لوقاحتك !"
اخفض نظراته لا شعوريا لكفها الممسكة بطرف المكتب واصابعها النحيلة تطرق على سطح المكتب بتوتر واضح دائما ما ينتابها بعلاقتهما العاطفية ، ليقبض بلمح البصر على كفها بقوة وهو يضم اصابعها بداخل قبضته بتملك ورأسه يتلامس مع رأسها برفق ليتبعها بالهمس بنبرة صوته الخفيضة بانتشاء
"اعشق كلمة وقح منكِ ، فهي إذا لم تعرفي تثير الغرور بالرجل وتسعد طبيعته التي تهوى ارتشاف كل شيء جميل بالمرأة !"
عادت بعينيها نحوه لوهلة بتحدي النظرات المعتاد بينهما والذي يمزج كل أنواع المشاعر بين حرارة نظراتهما الملتهبة ، لتتنفس بلحظة التي ابتعدت عن سطح المكتب بخفة وهي تستل كفها من داخل قبضته لتمسك بعدها بمقدمة قبعتها وهي تحاول تحاشي نظراته هامسة ببرود جاد
"لا تسيء الظن وتبتعد بعقلك بأمور لن تحدث مطلقا ! فقد اتيت إليك من الصباح الباكر لأحقق معك ببعض الاسئلة"
تراجع بجلوسه وكأنه قد تلقى ضربة غير متوقعة بوجهه وهو يهمس بخفوت ساخر
"حسنا ليس هناك من جديد فقد توقعت هذا !"
عقدت حاجبيها بقناع الجمود والذي تلبسها بلحظة وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بخفوت جاد
"لقد تأخرت كثيرا اليوم بالوصول للعمل ! بالرغم من انك ملتزم دائما بخصوص مواعيد دوام عملك ، صحيح ؟"
ابتسم بهدوء وهو يرد عليها ببساطة بالغة
"تعلمين بأنني عدت من السفر بالأمس وبهذه الحالة احتاج ليومين حد اقصى من الراحة لأستطيع بهم استعادة طاقتي ونشاطي ! ومع ذلك ارغمت نفسي واتيت للعمل اليوم بدون ان اهتم للتعب الجسماني وقلة النوم كما ترين....."
قاطعته من فورها بتشنج ممتعض
"توقف عن المراوغة ! واجبني على سؤالي"
حدق بها للحظات قبل ان يحرك كتفيه هامسا بعدم اهتمام
"لقد استغرقت بالنوم"
عبست ملامحها وهي تهمس من بين اسنانها بوجوم
"لم تفعل ، فقد اخبرني الخدم بأنك قد غادرت من المنزل الساعة الثامنة صباحا !"
اتسعت عينيه لوهلة وهو يضرب بيده على اعلى صدره قائلا بابتسامة مسرحية
"هل تراقبيني يا زوجتي ؟ يبدو بأنكِ قد جهزتِ جيش من الجواسيس ليتتبع تحركاتي !"
عضت على طرف شفتيها بغضب مكتوم وهي تهمس بوجوم خافت
"هل ستجيب ام لا ؟"
تنهد بهدوء وهو ينظر بعيدا عنها قائلا بجمود
"لقد ذهبت لمكان آخر قبل ان اتجه للعمل"
ردت بسرعة بخفوت مشتد
"إلى اين ذهبت ؟"
حاد بنظراته نحوها وهو يهمس بخفوت بارد
"تعلمين مسبقا صحيح ؟"
ارتجفت اطرافها بصقيع انفاسها والتي تجمدت بحنجرتها لوهلة ، لتهمس بعدها بانفعال ساخر بدون إرادة منها
"إذاً تعترف بفعلتك بكل فخر ! مزعج"
اشاحت بوجهها جانبا لبرهة وهي تتنفس باحتقان مشتعل ، لتشدد من القبض على يديها بألم وهي تكمل تحقيقها هامسة ببهوت
"ماذا تعني مونتريال ؟"
غيم الصمت بينهما للحظات فاصلة قبل ان يخرج الهمس ببرود عبث الجليد بروحها
"لا اعلم !"
التفتت من فورها ناحيته بهياج استبد بها وهي تطبق على اسنانها بغضب لتصرخ بلحظة باستنكار
"اخبرتك ان تتوقف عن الكذب والمراوغة ! فأنا اكره بشدة هذا الجانب الساخر منك ! توقف......"
صمتت بارتجاف داخلي ما ان وقف الذي قال بقوة بتصلب جاد
"اخرسي يا ماسة ! فأنتِ التي عليكِ التوقف عن المراوغة بالأسئلة المبهمة والتي لا يوجد داعي منها ، فأنا اعلم جيدا بكل شيء قد رأيته بصباح اليوم ، لذا توقفي عن كل هذه الاسئلة الغير مجدية سوى بتعذيب نفسك !"
غامت ملامحها قليلا بصمت وهي تخفض نظراتها المظللة بسحابة كاتمة اجتاحت كيانها الهائج ، لتهمس بلحظة باستهزاء متصلب
"لن تتغير ابدا ، احمق الفكهاني"
ما ان استدارت بعيدا عنه بلحظة حتى شعرت بذراعه وهي تعتقل خصرها من الخلف بلمح البصر بدون ان تعلم كيف قطع المسافة بينهما بتلك السرعة ! لتنحصر نبضات قلبها الثائرة بفجوة بروحها قبل ان تتسارع باللحظة التالية بصخب اصم اذنيها ما ان اصبحت بداخل احضان المسيطر على حياتها من كل اتجاه وذراعيه تطوقان جسدها بقوة تخللت عظامها الهشة بدفء وجوده المحتل كيانها .
همس بعدها الذي ضربت انفاسه اذنها بحرارة كلماته
"لما تحبين تعقيد كل شيء بحياتنا يا ألماستي ؟ بالرغم من ان الحياة اسهل بكثير مما تتخيلين ! فقط لو تتوقفي عن كل هذا"
ضمت شفتيها بارتعاش سرى على طول جسدها المخدر تحت هالته المسيطرة ، لتنظر بسرعة امامها ما ان سمعت الطرق على باب المكتب ليتبعها فتحه للمرة الثانية ليطل نفس الوجه المتبرج هامسة بعملية
"سيدي اعتذر عن الإزعاج ، ولكن هناك عميل....."
احمرت السكرتيرة بارتباك على المشهد الحي امامها وهي تهمس بسرعة بتشتت محرج
"اعتذر مجددا ! لم اقصد ان ادخل بهذه اللحظة ! لذا اعتذر بشدة ، والآن عذرا"
اوقفها مكانها الذي استقام باتزان وهو يقول بجدية صارمة
"اسمعي يا سالي ، اريد منكِ ان تلغي كل المواعيد لليوم مع العملاء ، فأنا قد قررت المغادرة الآن مع زوجتي بأمر طارئ ، لذا اهتمي بالباقي لليوم وشكرا على تفهمك"
فغرت (سالي) شفتيها بارتجاف وهي تحاول الكلام ليخرج على شكل همس متلعثم بانذهال
"ولكن يا سيدي لم تكد تعود للعمل سوى اليوم بعد غياب طويل ! وايضا....."
قاطعها بقوة وهو يقول بحزم جاد
"هذا قراري يا سالي ولا اريد نقاش بالأمر ، وايضا موضوع عودتي للعمل اليوم كان قرار خاطئ ومتسرع"
اومأت برأسها بارتجاف طفيف وهي تنسحب بسرعة من فرط إحراجها الذي تعيشه لمرتين هامسة بخفوت
"حاضر"
حرك (شادي) رأسه باتجاه التي نطقت بجمود صخري
"كيف تستطيع التصرف بكل هذه الا مبالاة مع هذه النوعية من البشر الطفيلية !"
رفع ذراعه وهو يحك شعره بتفكير لثواني قبل ان يهمس بابتسامة باردة
"اعتقد بأنني تأقلمت !"
حادت بنظراتها نحوه بضيق ممتعض بدون كلام ، ليبتسم بعدها بالتواء متسلي وهو يهمس بحاجبين مرفوعين بتذكر
"صحيح كيف عرفتِ بأمر مجيئي للعمل اليوم ؟ لماذا كنتِ بكل هذا التأكد بأني رغم كل شيء سآتي للعمل ؟"
ابتسمت بهدوء شديد وهي تلوح بيدها هامسة بغموض
"الحدس !"
حرك رأسه بشبه ابتسامة وهو يتجه بلحظة لسترته المعلقة على الكرسي من خلف المكتب ، ليرتديها بعدها فوق كتفيه بلحظات وهو يدخل ذراعيه بداخلها وامام عينيها الباردتين بدون شعور .
وقف امامها وهو يمسك بيدها الباردة بدون مقدمات قائلا بنفس ابتسامته الباردة بسحره الخاص
"لنغادر الآن يا عزيزتي ولنقضي وقتنا معا بمكان لا يوجد به طفيليات مزعجة قد تعكر علينا صفو جونا ، ألم تكن هذه رغبتك !"
تشنجت ابتسامتها بضيق وهي تنظر بعيدا عنه بعدم اهتمام وبدون ان تستطيع افلات يدها والتي دخلت مملكة قبضته الساحقة لأصابعها...وبدون سبيل للتخلص من وجوده والذي رسخ هناك بالفعل وتفرع .
_____________________________
وضع كأس العصير المحلى امامها يعلوها طبقة من الكريمة البيضاء المخفوقة مع حبة كرز صغيرة تحتل القمة ، لتتابع بنظراتها الذي وصل امام الطرف الآخر من الطاولة وهو يضع امامه كأس العصير الآخر الذي يحوي على نفس نوع العصير الخاص بها مع اختلاف بسيط بلون الكريمة البنية التي تعلو كأسه .
زفرت (ماسة) انفاسها بهدوء وهي تنصب مرفقها فوق الطاولة لتريح ذقنها فوق قبضتها هامسة بشرود واجم
"ما هذا الذي نفعله هنا ؟"
جلس على الكرسي المقابل لها بأريحية وملامح الرخاء تعلو محياه الباسم ، وهو يقول بابتسامة ساحرة اتسعت بجدية
"لقد احضرتكِ لهذا المكان الهادئ والمنعزل عن العالم الخارجي بعد ان وجدت بأنه الأنسب لقضاء الوقت والذي نختلي به مع بعضنا اخيرا بدون إزعاج البشر ، وخاصة بأن البشر بهذا الوقت نادرا حتى تجدي منهم من يزور مثل هذه الأماكن الصغيرة والتي لا تشكل واجهة جذابة لهم ، لذا استمتعي بوقتك بقدر ما تشائين يا عزيزتي فلن يزعجك احد هنا او يضايقك بعد الآن"
حركت عينيها جانبا وهي تحدق بديكور المكان القريب من الكوخ الخشبي اكثر من مقهى بأجواء حميمية اكثر مما يحتمل عقلها وقلبها المتأرجحين على خيط منطق عاطفتها ، وهي تلاحظ الاعداد القليلة لرواد المكان الذين لا يتجاوزون عن ثلاث او اربع زوار كما قال فهو ليس من الاماكن المشهورة او المعروفة لتجذب السكان القاطنين بالمناطق المجاورة !
عادت بنظرها للأمام ما ان تابع كلامه بنفس ابتسامته المسترخية وهو يخلط الكريمة مع العصير بالملعقة الصغيرة قائلا بهدوء
"استمتعي بمشروبك البارد يا ألماستي ، فقد يطفئ القليل من جموح عقلك الثائر منذ الصباح ويوقف الأسئلة التي ما تزال تعيش بمنابت عقلك السميك !"
زمت شفتيها بحنق وهي تهمس من بينهما بقنوط بدون ان تجاريه
"اخبرتك بأني لا احب الاشياء الحلوة !"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يهمس بتفكير بدون ان ينظر لها
"لماذا ؟ هل تعانين من السكري ؟"
ردت عليه من فورها بعبوس اكبر
"لا اعاني من شيء ! فقط لا احبها مثل كل شيء جميل يجذب الأنظار له"
غرف من الكريمة الرخوية وهو يدسها بفمه بلحظة قائلا بحاجبين مرتفعين بدهشة متسلية
"حقا غريبة ! لا تحبين القهوة السوداء بسبب مرارتها ولا تحبين كذلك الاشياء الحلوة بسبب السكر بها ! إذاً ما هو وضعكِ بالحياة بين هذين الاثنين ؟ قد تكونين حاجز غير مرئي بينهما او قد تكونين مخلوق يحاول اثبات وجوده بعالمه الخاص ! أليس كذلك يا ألماستي ؟"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بتموج غائم اسر هالتها للحظات بدون ان تدرك ذلك ، وسؤال واحد يراودها دائما منذ ولادتها ما هي طبيعة شخصيتها بين هذين المكونين ؟ وهل هي حقا مجرد حاجز عالقة بينهما بدون فائدة من وجودها !
رمشت بمقلتيها الواسعتين بارتجاف وهي تستمع للذي تكلم مجددا بنفس ابتسامته المتسلية بمتعة وكأنه يتذوق الأحرف مع الكريمة بانتشاء مثير
"ما بكِ يا بلهاء ؟ ألا تعلمين بأنكِ بالفعل لستِ من كلتا الاثنتين ! بل انتِ المكون الجديد الذي لا يمزج مع اي منهما فقد خلق بهذا الكون الوسيع ليخالف كل الاشياء المعتادة والمتمحورة من حوله ليتميز بفرادة نوعه ! لذا كل ما اقوله لكِ بأنكِ اجمل مخلوق مثير قد وجد بين جميع شخصيات البشر ، أليس كلامي صحيح يا ألماستي ؟"
انفرجت شفتيها بانشداه لوهلة وهي تعض على طرف شفتيها ببطء مرتعش قبل ان تحني نظراتها هامسة بصوت مغتاظ باستياء
"كيف تستطيع اللعب بالكلمات هكذا ؟ فقط لو اعلم اي شخصية هي التي تتقمصها !"
رد عليها وهو يحرك كتفيه ببساطة هادئة
"ربما اكون مثل حالتكِ فنحن الاثنين لا شبيه لنا بهذا العالم فقد خالفنا الجميع وحتى انفسنا !"
رفعت حاجبيها بوجوم وهي تهمس من فورها بضيق
"ولكننا مع ذلك لا نشبه شخصيات بعضنا ولن نكون"
حرك رأسه وهو يتابع استمتاعه بمذاق الكريمة بفمه والملعقة نصفها يتأرجح خارج فمه وعقله شارد بمكان آخر وكأنه يعيش بعالمه البعيد عنها تماما والذي حجزه بأسوار منيعة من المستحيل عليها اجتيازها ، وهذا الشعور كان يلازمها دائما عندما يصر جميع من حولها ان يقصونها بعيدا عن عالمهم بدون ان تعطي الأمر اهتماما كبيرا بسبب انعدام عامل الاجتماع عندها ، ولكن الآن فقط تشعر بذلك الشعور يزداد عبئا على روحها المحملة بالكثير من سوداوية الماضي تكاد تقضي على مذاق السعادة والذي بدأ يتخلل اخيرا بأروقة حياتها الباردة بعد تعب وشقاء استمرا طويلا ! ام هي مجرد اوهام من مخيلتها لا اكثر ؟
ابتلعت ريقها بقوة وهي تخفض رأسها بضعف لحظي احتل كيانها لوهلة قبل ان تهمس بخفوت واهي وهي تكور قبضتيها بحجرها
"هل نستطيع الذهاب الآن فقد ضقت ذرعا من المكان ؟"
عقد حاجبيه بجمود وهو يعود بنظره نحوها ليهمس بلحظة ببرود جاد
"لما كل هذه العجلة يا عزيزتي ؟ وكأنكِ لستِ من طلب قضاء الوقت معي والاختلاء وحدنا ! أليست تلك رغبتك انتِ منذ البداية ؟"
ضربت فجأة بقبضتيها على سطح الطاولة هزت كأس العصير بمكانه وهي تهمس من بين اسنانها بجموح اطلقت سراحه
"توقف عن القول بكل مرة بأنها كانت رغبتي ! فقد كنت اود بالفعل قضاء الوقت معك لأعرف حقا ما تكون شخصيتك الحقيقية وما تخفيه عني ! وما لذي يدفعك لتكون بكل هذه الشراسة بأقصائي بعيدا عن اسرارك المسورة ؟ وإذا كنت حقا تهتم بأمر زوجتك التي لم تحسب لها حساب حال معرفتها بما يدور من حولك !"
حدق بها بجمود للحظات بدون كلام بأجواء ضبابية مائلة للحزن ليقطعها الذي نطق اخيرا بابتسامة غامضة بعمق
"وهل عرفتِ اي من اسئلتكِ تلك ؟"
رفعت وجهها بسرعة بارتجاف وهي تزيد من عبوس ملامحها تدريجيا حتى انتفضت بلحظة واقفة بقوة وهي تتمتم بصوت باهت غاب عنه بحة الغضب
"لم اعد اريد ان اعرف ، فقد ايقنت بأنني قد دخلت بلعبة خاسرة تلاعبت بقوانينها بدون ان اعلم ! ومع شخص غير عادل مثلك !"
مالت ابتسامته ببرود مسترخي وهو يلوح بالملعقة هامسا ببسمة هادئة
"الحياة غير عادلة يا ألماستي ، لذا لا تتوقعي مجددا الرحمة من الخصم المقابل لكِ لكي لا يصدمك بنتيجته !"
شددت من القبض على يديها بقوة بهمس جاف لا يكاد يسمع
"لقد صدمتني بشدة يا شادي واكثر مما تتصور ! هل لهذه الدرجة انت بلا رحمة ؟"
غامت ملامحه بهدوء والهزل يغيب عنها بلحظة بدون ان يستطيع النطق بالمزيد من الكلام والذي تصلب بحنجرته وليس فقط بسبب تجلي الحزن بملامحها الفاتنة بسكون بل ايضا بسبب ظهور التي لفتت انتباهه من خلفها بلمحة خاطفة ، لتدخل بعدها على الجدال الحامي بينهما وهي تهمس بسعادة غامرة
"مرحبا بالعرسان ، لم اركما منذ فترة طويلة ، انا سعيدة جدا بهذه المصادفة الفريدة والتي جمعتنا"
عبست ملامح (ماسة) بغضب وهي توجه نظراتها للذي ما يزال جالس مقابل لها بملامح تدل على الانزعاج الواضح من هذه المقاطعة ، لتشق من فورها ابتسامة ساخرة محياها وهي تحمل حقيبتها بهدوء هامسة باستهزاء مستاء
" يبدو بأن مهمة قضاء الوقت بالخلاء قد فشلت ! فقد اخطئت بتوقعاتك يا سيدي ! وها هو قد تبين بأن صنف الطفيلين يعرفون هذا المكان ايضا ، وهذا ليس غريب على معشوق الملايين والمُطارد من الجميع !"
تغضن جبينه بوجوم بدون ان يجاريها هذه المرة وبعد ان غادرت بعيدا امام عينين خضراوين تشيعها بنظرات حاقدة بازدراء خفي ، لينقل بعدها نظراته ببرود للتي قالت امامه بخفوت محرج بدلال
"اعتذر على هذه المقاطعة يا شادي ، يبدو بأن ظهوري المفاجئ لم يرق لكم !"
حرك رأسه بالنفي وهو يقول بشرود بدون اي مرح
"لا بأس يا لينا ، يمكنكِ الجلوس إذا اردتِ !"
ابتهجت ملامحها بغرور وهي تجلس من فورها بخيلاء على الكرسي والذي كانت تجلس عليه الأخرى ، لتقول بعدها بسعادة مزيفة وهي تنظر لكأس العصير الممتلئ الغير ملموس
"ما هذا العصير يا شادي ؟ هل هو يخص زوجتك ؟"
نظر بعبوس لكأس العصير للحظات ليحيد بعدها بنظراته جانبا وهو يتمتم بلا مبالاة
"يمكنكِ شربه إذا اردتِ ؟ فهو سينتهي بمقلب القمامة على كل حال !"
اتسعت ابتسامتها اكثر وبدلال واضح وهي تلعق من الكريمة عليها بسعادة كبيرة غمرت كيانها ، بينما شرد (شادي) بمكان اختفاء زوجته بدون ان يكلف نفسه عناء مهمة لحاقها وبعد ان ألقت به بتلك الكلمة الاخيرة والتي نعتتها به بكل قهر...فهل هو حقا بلا رحمة ؟نهاية الفصل.......
أنت تقرأ
بحر من دموع
Narrativa generale"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...