خرج من الغرفة بملامح متلبدة وروح فارغة وهو يقطع المسافة لبهو الجناح ، ليقابل بعدها التي وقفت امامه فجأة بعد ان تعبت من الدوران بمتاهة الانتظار العصيبة وهي تنتظر اي خبر يطمئن قلبها الملكوم ، وبعد عدة لحظات كانت تخرج عن صمتها وهي تشير بعينيها الحزنتين اتجاه باب الغرفة هامسة بأسى خافت
"كيف حالها الآن ؟ وماذا حدث معها بالضبط ؟ كيف وصلت لهذه الحالة ؟ ارجوك اخبرني بأنها بخير !"
ابتلع ريقه بتصلب وهو يمسد جبينه بأصابعه بحكة عصيبة ليقول بعدها بهدوء ظاهري بجدية
"لا تقلقي يا روميساء ، انها بخير وبأفضل حال ، فقط تحتاج لأخذ قسط من الراحة كما قال الطبيب ، هذا كل شيء"
تنهدت براحة وهي ما تزال تراقب باب الغرفة بحسرة قبل ان تهمس بخفوت حائر
"وما سبب غيابها عن الوعي هكذا ؟ فقد كانت تصرفاتها غير طبيعية بالحفلة ! هل قال الطبيب شيء مهم بخصوص حالتها ؟"
ادار عينيه بعيدا عنها لوهلة وهو يستذكر كلام الطبيب الذي اصابه بشلل عصبي وبانقطاع وتر حساس بحياته ، ليقول من فوره ببساطة بالغة وكأن شيء لم يكن
"لقد اخبرتكِ يا زوجة اخي كل شيء على ما يرام ، وكل ما حدث بأنها قد تعرضت لضغط شديد من ضوضاء الحفلة جعلتها تدخل بنوبات جنونها المعتادة قبل ان تفقد وعيها فورا ، يعني هبوط بالضغط والدم ادى لسقوطها الفوري ، وانتِ ادرى مني بحالة شقيقتك العصبية ونوباتها !"
اومأت (روميساء) برأسها للأسفل وهي تهمس بهدوء فاتر
"قد تكون على حق بكلامك فهي تصيبها هذه النوبات كثيرا عندما تتعرض للضغط الشديد مما حولها ، ولكني لم اشعر بأنها قد مرت بهذه الحالة من قبل وفقدت وعيها هكذا ! حالتها يوم عن يوم تزداد سوءً !"
تعقدت ملامحه بصراع صامت وهو ينظر لها بدون اي شعور او تعبير ، ليقول بعدها بهدوء وهو يغير مضمون الموضوع
"إذا كنتِ ترغبين يمكنكِ الدخول للاطمئنان عليها او مبيت ليلتكِ عندها ، انا لا امانع"
نظرت له بسرعة بارتعاش وهي تلوح بيديها برفض هامسة بلباقة بدون ان تظهر مشاعرها الداخلية
"لا ليس هناك داعي لهذا يا شادي ، وايضا لا اريد ان ازعجكما بتطفلي عليكما ، ومتأكدة بأنها ستكون بخير تحت عهدتك فأنت يمكنك الاعتناء بها ورعايتها اكثر مني ، كل ما اردته فقط هو الاطمئنان على حالتها منك ومعرفة ما قال الطبيب"
تلبدت ملامحه بوجوم وهو يزفر انفاسه بصدر ضائق ، ليقول بعدها بلحظات بمواجهة مباشرة بدون اي مقدمات
"ماذا يحدث بينكما ؟ هل هي مشاكل شقيقات ام اشياء اكثر تطوراً ومن الاستحالة اصلاحها ؟! بالرغم من معرفتي بشراسة زوجتي وصعوبة التفاهم معها ، ولكنها معكِ انتِ تختلف مئة درجة وتكون اكثر تهذيبا وطبيعية بخلاف تعاملها مع الآخرين ! إذاً ما هي المشكلة ؟"
اتسعت حدقتيها بغيوم ضبابية شاحبة وهي تهمس بخفوت عابس
"من اين جلبت فكرة بأننا متخاصمتين ؟ يعني لماذا خطرت على بالك كل هذه الاسئلة ؟!"
حرك رأسه بعيدا جهة باب الغرفة المغلق وهو يقول بهدوء شارد وكأنه عالق بنقطة معينة
"اعرف جيدا قراءة الحزن بعينيها عندما تخاصم احدهم كما تفعل معي دائما ، وقد رأيت هذه النظرات موجهة نحوك عندما هتفت باسمكِ قبل غيابها عن الوعي ، فقد شملتنا انا وانتِ بنفس القائمة السوداء والتي لا يدخلها سوى من يسبب لها بالجرح ويكسرها ، أليس هذا ما حدث يا روميساء ؟"
احنت حاجبيها السوداوين بحزن عميق وهي تخفض نظرها عندما استبد بها الضعف الخائن ، لتأخذ بعدها عدة انفاس قصيرة وهي تقول بهدوء ظاهري
"انها تحتاج لبعض الوقت للهدوء ونسيان ما حدث ، فأنا اعرفها جيدا مهما تضررت العلاقة بيننا وجرحنا بعضنا البعض فهي بالنهاية ستعود لحالها تلقائيا ، ومهما حصل بيننا من تباعد وثغرات فهي تبقى شقيقتي الوحيدة التي لا استطيع الاستغناء عنها او التوقف عن تقديم حقوقي الاخوية اتجاهها ، هذا ما استطيع قوله لك اجابة عن اسئلتك"
اومأ (شادي) برأسه بهدوء وهو يقول بشبح ابتسامة ساخرة
"اعرف شعوركِ جيدا واتفهمك ، فكل ما يهمني الآن ان تكون بخير فقط وتتوقف عن تعذيب نفسها وتعذيبنا معها ! عندها قد تتغير امور كثيرة بحياتنا"
رفعت (روميساء) حدقتيها الخضراوين بحزن وهي تهمس بابتسامة هادئة يشوبها بعض القلق
"إن شاء الله ستكون بخير ، المهم ان تكون بجانبها دائما وتحاول احتوائها اكثر والاهتمام بجروحها ، فأنا لن استطيع التواجد قربها بالوقت الحالي ، لذا هلا فعلت هذا من اجلي ؟"
اعاد نظراته نحوها بجمود وهو يقول بجدية عابسة
"هل انتِ متأكدة من قرارك ؟ لا اعتقد بأن فكرة الابتعاد عن شقيقتك سيصلح العلاقة المكسورة بينكما او يجبر جراحها !"
حركت رأسها بالنفي وهي ترفع قبضتها لصدرها هامسة بخفوت مرير
"بل الحال هكذا افضل ، فأنا اعلم جيدا بأن الاقتراب منها بهذه الفترة سيزيد سوء التفاهم بيننا وشعلة الغضب بداخلها ! ولا اريد ان اصنع جروح اخرى بيننا وهي بهذه الحالة الغير واعية تقريبا ! لذا سأعطيها وقتها لترميم نفسها وانخماد غضبها ، فهذا ما كنا نفعله بين بعضنا فيما مضى"
ادار عينيه جانبا وهو يحرك كتفيه ببرود قائلا بعدم اهتمام
"انتِ ادرى بهذا الامر ، ولكني اتمنى حقا ان تصلح العلاقة بينكما بأسرع وقت ، فأنا اعرف بأنكِ الوحيدة التي تستطيع اختراق مكنونات تلك الشرسة وترويضها كما ينبغي"
اعتلت ابتسامتها الحنونة فوق ملامحها بصمت وهي تتراجع بخطواتها قائلة بمودة
"يبدو بأنني سأترك هذه المهمة لك ، لذا اعتمد عليك بالاهتمام بصحة شقيقتي وتغيير حالتها النفسية ، وإذا طرأ اي جديد على حالتها او تدهورت صحتها فلا تنسى اخباري فأنا قلبي سيبقى معها دائما ، والآن عمت مساءً"
اومأ برأسه بصمت وهو ينظر لخطواتها التي غادرت الجناح بأكمله خلفت الوحشة والظلمة من حوله ، ليتحرك بعدها بلحظات نحو الاريكة قبل ان يجلس عليها بإجهاد مضني وهو يغطي وجهه بيديه بحالة انهيار صامت ، بدون ان تتركه كلماتها الاخيرة التي تضمنت اتهامات كانت مثل الشظايا على قلبه ونظراتها العاتبة التي كانت مثل السكاكين على روحه قبل فقدان كل شيء بدون ان تعطيه الفرصة للتوضيح او للكلام ، ليكون نهاية النقاش هو ما دمر الباقي من سلام حياتهما وهو ما بعثر كبريائهما لأشلاء تناثرت بالأفق البعيد !
(كيف تتجرأ على تعليقي بك هكذا كل هذه المدة ؟ كيف تتجرأ على فعلها بي رغم معرفتك بكل ما عشناه سوياً ؟ بما انك قد اخترت هذه الطريق وهذا الاسلوب بالتحدي ، فأنا سأقلب الطاولة عليك واتحداك بالمثل ولن يكون هناك نزاهة او شرف بهذه اللعبة !)
قبضت اصابع يديه على وجهه بصراع مستميت بين امواج عقله المتلاطمة بكبرياء وبين هدير قلبه المغرم بها حد الوجع والذي فاق كل احتمال ، فهل هناك سبيل للنجاة من هاذين الشعورين ؟!
______________________________
دلفت للغرفة بخطوات مترددة خجولة وهي تنظر بطرف عينيها للمكان المنير على ضوء المصباح الشاحب المتدرج بألوان ناعمة تدفئ القلوب وتمسح على آهاته ، لتستمر بتقدمها البطيء الشبه متعرج حتى وصلت للسرير الواسع قبل ان تجلس على طرفه بحرص تكاد تنزلق عن ملاءته الحريرية بانسياب .
ضمت قبضتيها الصغيرتين بتكور وهي تحصر نظراتها على مكان جلوسها فقط بدون الابتعاد بأفكارها او خيالاتها التي ارهقت عقلها المسكين منذ بداية اليوم ، ضغطت بأصبع الإبهام على باطن كفها الاخرى تحاول تهدئة ارتجاف عروقها الدموية الموصلة بوريد قلبها مباشرة وهي تثور بثانية وتخمد بثانية اخرى مثل تيارات جهاز دقات القلب .
شحبت الدماء من وجهها حتى زادت دقات القلب بسمفونية صاخبة وهي تستمع للصوت القادم بالخارج يعلن عن دخوله الوشيك لحياتها ، وما هي ألا لحظات قصيرة تضيفها لقائمة حياتها المأساوية حتى انفتح الباب بهدوء بالغ تردد صداه بقلبها بدوى الألم اللعين !
عضت على طرف شفتيها تخفي ارتجاف غير ظاهر عن الاعين التي اصبحت محط اهتمامها والتي تدور من حولها كل المحاور ، لتضيق بعدها حدقتيها العسليتين بقتامة واللتين اخذتا لون مزاجها الحالي وهي تكتم كل مشاعرهما بداخلهما ، ولم يوقظها من غفوتها اللحظية سوى الصوت الذي انبثق لها من بعيد بهدوء شديد
"كيف حالكِ ؟ هل انتِ بخير ؟"
اتسعت حدقتيها برجفة طفيفة وهي تعود بنظراتها لقبضتيها المستكينتين ، لتهمس بعدها بخفوت متعثر بفكر مشوش
"كيف سأكون ؟ وهل كنت تتوقع ان اكون بحالة اسوء من هذه !؟"
ارتفع حاجبيه ببهوت وهو يتقدم نحوها عدة خطوات ببطء قاتل اثار بها رهبة غير معهودة وجعلها تستعيد ما قالته من لحظة ، وما ان وقف بالقرب من مكان جلوسها حتى قال مجددا ببساطة وهو يدعي عدم الفهم
"ماذا تقصدين بهذا الكلام ؟ هل هناك ما تريدين الإفصاح عنه وتخجلين من قوله امام زوجك الحالي ؟"
حركت رأسها بالنفي بقوة وهي تفرك قبضتيها معا هامسة بهدوء مشتت
"لا ليس هناك شيء من هذا القبيل ، وانسى تماما ما قلته لك من لحظة ، فقد كنت اعاني من تخبط بالأفكار وقد اختلطت عليّ مشاعري بسبب الاجواء الجديدة والتي لم استطع التكيف معها للآن !"
اومأ برأسه باهتمام بدون ان ترى حركته وهو يميل قليلا على جذعه حتى اقترب من قمة رأسها ، ليقول بعدها بأنفاس هادئة بدون ان يتنازل عن موقفه بإفراغ صندوق اسرارها
"ولكني لم احصل على جواب واضح لسؤالي السابق ، وهو كيف حالكِ الآن ؟"
تغضن جبينها بحيرة وهي تهمس بوجوم عابس
"ماذا تريدني ان اجيب ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته بغموض وهو يهمس فوق رأسها بخفوت اجش عميق
"اريد ان اعرف ما هو شعوركِ الآن ؟ او ماذا ينتابكِ اتجاهي ؟ يعني خائفة ام متوترة ام مرهقة ام ضجرة ! اريد ان اعرف أياً منها تشعرين يا غزل"
ابتلعت (غزل) ريقها بغصة مسننة جارحة وهي تحجر كل مشاعرها الداخلية عن التسرب للسطح تحت تأثير سؤاله العفوي ، لتهمس بعد عدة لحظات بتبرم عابس بنغمة صوتها الحزينة
"لا اشعر بشيء ، ليس هناك شيء محدد !"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يقول بتصميم على الرأي
"هذا الجواب ليس كافي يا غزل ! انا اريدكِ ان تجيبي بكل وضوح وبصدق اكبر ، فهذا هو اهم شيء ببداية كل علاقة اساسيات الصدق والصراحة بين كل زوجين"
عضت على طرف شفتيها بفرط شعورها الحالي وهي تهمس من بينهما بانفعال لا إرادي خرج عن مقدرتها
"ليس لدي شيء اضافي لأقوله لك ، فكل شيء يخصني تعرفه اكثر مني ! لذا هلا تخطينا البدايات المملة وبدأت بفعل ما يتوجب عليك فعله وتزوجتني من اجله ؟"
غامت ملامحه بصفحة جليد قاسية جمدت اطراف ابتسامته ومسحت الهزل عنه وهو يعقب قائلا بخبث واضح
"وما هو الشيء الذي يتوجب عليّ فعله ؟ لقد اصابني الفضول حقا لمعرفة سبب زواجي منكِ !"
انفرجت شفتيها بأنفاس مضطربة وهي تقع بفخ كلماتها الساذجة بسبب عجلتها لحدوث الامر المحتوم ! وكل هذا بسبب الخوف الذي نشب مخالب بقلبها وهو يتقلب بانتظار مستعر فقدت السيطرة عليه واخلت سبيله ، لتحشر انفاسها الاخيرة برئتيها الجافتين ما ان وصلها لفحات انفاسه الحارة خلال تجويف اذنها الصغيرة وهو يهمس بنبرة متسلطة متلذذة
"إذا كنتِ تريدين حدوث هذا بأسرع وقت وبعجلة هكذا فلا امانع ذلك ، المهم هو امتلاك الروح المستعدة والمتلهفة والحماس الذي سيغمرنا معا بهذا الطوفان ، واعدكِ ألا تخرجي منه حية حتى اطبع صك ملكيتي عليكِ يا زوجتي الصغيرة !"
اخرجت (غزل) انفاسها بشهقة غادرة وهي ترفع وجهها بسرعة وكفها تحجب انفاسه عن اذنها قائلة بوجل خافت
"لا تفعل هذا !"
تسمرت تقاسيمه بصمت ما ان ظهر له وجهها الصغير الذي ارتفع امامه لأول مرة منذ دخوله للغرفة ، وهو يستمتع بتأمل تفاصيل وجهها من منحنيات صغيرة رقيقة وخطوط ضعف وهوان تحت طبقة من ألوان الطيف والتي لم تزيدها سوى طفولية شكلا بخلاف دواخلها والتي يعرفها حق المعرفة ، ليتنفس بعدها بتهدج ثائر اذاب صقيع مشاعره وتحجر قلبه وهو يتبعها بالهمس بلطف خائن
"ما بكِ مع هذه الكلمة ؟ لقد قلتها ايضا امام والدكِ والآن امامي ! هل ترينني وحش نهم على وشك تناولك بلقمة واحدة ؟"
زمت شفتيها اكثر من مرة بصراع مضني وهي تجيب بعد رحلة تردد بخفوت متحشرج على وشك الإغماء
"انا خائفة ! خائفة جدا !"
لانت ملامحه برقة استبدت به وهو يرفع يده بصمت ليحاوط جانب وجهها بدفء عذب ، قبل ان يقترب سنتمترات منها وهو يتمتم برفق شديد يبث بها بعض الطمأنينة بعد ان زالت قشرة الجليد بينهما
"لا تخافي يا اميرتي الصغيرة ، فأنا اعدكِ ان ازيل عنكِ هذا الخوف نهائياً والذي سيتبدل بشعور آخر مختلف تماما ستحبينه كثيرا وتتأقلمين معه !"
غامت عينيها بحزن وانحنت طرف شفتيها بارتخاء ضعيف بدون ان يسمح لها بالاكتمال وهو يقتحم غمامتها بقبلته الرقيقة على شفتها السفلى....والتي غارت بعدها وتبخرت معها الرقة والعطف ولم يبقى سوى الجموح يحاوط بينهما...حتى تمسكت يديها تلقائيا بذراعي سترته بينما كفه تتشبث بمؤخرة رأسها ليستمتع بتلك اللحظة الاستثنائية بدون اي مقاطعة التي عبرت عن لهفته الكبيرة بانتظار وشوق لحلول هذا اليوم الذي قصف به كل الحواجز القسرية وحقق فيها مبتغاه وطموحه .
ما ان شعرت بنفسها تنزلق على ملاءة السرير حتى اعتقلت ذراعه خصرها وهو يثبتها بالقرب من صدره وبين ذراعيه....ليحرر شفتيها بلحظة وهو يستقر بقبلته الساخنة عند جبينها يطفئ من جمرات اشتعالهما التي صهرت قلوبهما ويعطيها الفرصة لسحب بعض الاكسجين لجسدها الضعيف وهي تزيد من ضخ الدماء بقلبها الصغير...وبعدها بلحظات كانت تستلقي على السرير من خلفها ورأسها يستريح على وسادته الناعمة وهي تراقبه يشرف عليها من علو....بدون ان تتبين شيء من ملامحه بعد ان طوقت عينيها غلالة دموع غير مرئية اخترقت غشاء قوقعتها والتي احتمت بداخلها لسنوات عديدة .
وما ان لمحته وهو يدنو من مستواها ببطء ارتعد بأوصالها حتى اغمضت عينيها بشدة تعصرهما عن كل تلك الصور من عقلها ومخيلتها ، وعندما طال الانتظار دقائق طرفت بعينيها بتشنج متألم وهي تنظر لوجهه الذي توقف بالقرب من شفتيها بدون الإتيان بأي حركة ، وما ان تلاقت نظراتهما بوجوم مبهم حتى شعرت بطعم قبلة صغيرة على شفتيها لا توازي سباق قبلاته السابقة شعرت بها ببرودة جليدية وهو يهمس بعدها بخفوت هادئ غير معبر
"لقد انتهى ، انتهى"
تغضنت تقاسيمها بضعف لبرهة قبل ان يستقيم بعيدا عنها وهو يجلس على طرف السرير امام نظراتها الغشائية بدموع مكتومة ، وبعدها بلحظات كان ينتصب واقفا وهو يرتدي سترته التي لا تعلم بأي مرحلة بالضبط كان قد خلعها ، فقد كان كل تفكيرها منحصر عن سبب موقفه الحالي وهو ينهي كل الحروب بقبلة صغيرة لا تعادل افكارها السابقة عن مخططات واحداث هذه الليلة بل لا تساوي شيء امام قبلاته الضارية ببداية هذه العاصفة ! فما لذي حدث له هكذا ؟ هل استسلم بهذه السهولة امام ممانعتها الضعيفة ؟ ام هل يعقل بأنه قد خاب ظنه بها بعد ان اكتشف سوء اختياره ؟!
عبست ملامحها بحزن منكسر وهي تراه ينهض عن السرير وهو يوليها ظهره بصمت ما يزال يغيم من حولهما ، ليشد انتباهها الصوت الخفيض الخارج من التمثال امامها بهمس جاف
"تصبحين على خير"
انفرجت شفتيها الملتهبتين بأنفاس مشدوهة وهي تراقب الجسد الذي اختفى من امامها بلمح البصر ، بدون ان تملك المقدرة على الاعتدال باستلقائها وهي ما تزال على نفس حالتها المصدومة مثل جثة فارقت روحها جسدها .
ارخت عضلات جفنيها المرهقين فوق عينيها الميتتين وهي تمنح نفسها فرصة ضبط نفسها ولملمت شتاتها ، لتتذكر العبارة الاخيرة التي نطق بها بنهاية هذا اليوم والتي لم تكن جديدة عليها وهي معتادة على سماعها منه بكل ليلة مرت عليها بالشهر الفائت ، ولكنها بالواقع قد اختلفت الآن فهي لم تعد رسالة نصية تفصل بينهما اميال بل رسالة حقيقية نطق بها صاحبها شخصيا فقط التشابه بينهما هي المشاعر نفسها والفتور ذاته بكلا الحالتين ، ومع ذلك ما تزال تتمنى لو تعود لتلك الرسائل النصية وتكتفي بها افضل من هذا الدمار الذي حلّ بها وجعلها تتذوق مرارة الواقع بكل ذل وهوان ، لتغفو بالنهاية بمكانها ودمعة صغيرة رافقتها تسقي بشرتها وتخط طريقها فوق ألوان التبرج والتي مسحتها وخلفت التحور من حولها مثل حال قلبها الذي سال عليه دموع غزيرة وما تزال تسيل لتترك بكل مرة كسر مختلف وجرح اصبح من الصعب تطهير مكانه !...
_______________________________
فتحت جفنيها بتثاقل كبير وهي تحاول ارخاء اطراف جسدها المشدودة لتستطيع الاستفاقة من امواج غيبوبتها التي تشعر بها لأول مرة مهلكة حد الموت ، وكأن عقلها يرفض استعادة صور الحاضر المؤلم وقلبها يصارع بغريزة الحياة بعد ان غرق بدوامة الظلام التي سحبت كل مشاعر واحاسيس مخزنة بصميمه ، وما ان اقتحم النور غشاء عينيها الغارقتين بظلمة غير واضحة حتى مرت صور ليلة امس بسرعة خاطفة مثل ذكريات تسربت من فيلم كئيب لتعيد عقلها لتلك البؤرة السوداء من جديد وتشحن قلبها بالمزيد من ظلمة الموت وانت حي .
ابتلعت ريقها بغصة قاتلة علقت بمنتصف الحنجرة بدون ان تتزحزح او تختفي لتخرج بالنهاية دمعة سائلة متأخرة حفرت طريقها على وجنتها الحمراء بمعاناة صامتة خاضتها طيلة ليلة امس التي لا تقارن بكل سنوات حياتها بين المجابهة والكفاح ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تفعل كما تفعل دائما بكل مطب تقابله بحياتها يقتل جزء صغير منها ، لتمسح على وجنتها بظاهر كفها بشرود وكأن شيء لم يكن وهي تنهض ببطء عن السرير لتنتقل قدميها تلقائيا للأرض اسفلها .
شعرت بالعالم يدور من حولها بسرعة خيالية ما ان حاولت شب قدميها على الارض وكأن كل قواها قد تجمعت برأسها والذي اصبح بحجم الكوكب ، لتمسك جانب رأسها بسرعة وبيدها الاخرى تستند على ظهر السرير لمعاونتها على الوقوف باتزان والمهمة التي اصبحت الاصعب بالنسبة لحالتها ، وبعد ان اخذت عدة انفاس طويلة حجرت الألم برأسها المشروخ وكأن مطرقة تضرب فوقه ، حتى استندت اخيرا واقفة وهي تجر قدميها بشبه خطوات متينة بدون اي تراخي او استسلام وهي تعاند الألم بروح قوية اعتادت على مجابهة الصعاب .
وقفت فجأة بتعب بعد ان استنزف منها الألم مقدرتها على الاستمرار ، لتستند بعدها على حافة طاولة الزينة التي استطاعت الوصول لها بطريقها الطويلة ، وما ان رفعت عينيها قليلا بمواجهة امام نفسها لأول مرة حتى تصادمت مع صورتها التي ليس لها مسميات سوى شنيعة او قبيحة خرجت على حقيقتها تخت غلاف الجمال المبهر ، كان وجهها الشاحب يعلوه التقشف والذبول والكحل الاسود قد سال خطوط متعرجة تحت عينيها وفوق وجنتيها مثل شوارع تداخلت بحوادث مرورية مريعة ، وعينيها الداكنتين قد تخلل بهما سواد الكحل والذي شكل حلقات بزواياهما وداخلهما حتى تحول لمحلول اسود سام ، وشفتيها المستقيمتين بالعرض قد ذاب بريقهما الذهبي ولم يبقى سوى الجفاف والتقشر يعلوهما حتى فتحت بعض الجروح الصغيرة عليهما .
ابتسمت بشحوب ساخر وهي تميل بوجهها جانبا لتلقي نظرة عابرة على العلامة الحمراء التي تشير لصفعة واضحة لم تستطع الخطوط السوداء اخفائها ، لتحرك بعدها رأسها بحركة تهزئ نفسها وهي تهمس بخفوت مستاء قاهر
"لن استطيع اخفائها بسهولة ، لا الآن ولا بعد مليون سنة ! فقد حدثت وانتهى الامر !"
عادت بالنظر للأمام بعيون برقت بدموع سوداء سامة بشظايا روحها المتناثرة وهي تتبعها بالهمس بكل حقد حقنته بقلبها وبكل طرف ما يزال ينتفض لهذه اللحظة
"لن اسامح احد منكم ، لا السبب بها ولا الوسيلة لها ولا مرتكبها ، لا احد منكم سينفذ بعملته هذه !"
رمشت بعينيها مرة واحدة وهي تبتعد بسرعة من امام المرآة لتكمل الطريق للحمام المرفق بخطوات اكثر تعثرا بأطراف ثوبها الطويل ، وما ان اصبحت داخل الحمام حتى ادارت صنبور الماء وهي تغسل وجهها برشق الماء عليه امام حوض المغسلة بدون توقف ، وبعد عدة لحظات كانت تنزع المناديل الورقية من العلاقة وهي تمسح وجهها بها بعنف علها تخفي كل العلامات التي اصابتها من ليلة امس وتمحيها من عقلها وقلبها .
اخفضت المناديل عن وجهها وهي تقابل صورتها امام المرآة للمرة الثانية والتي خفت عن السابق وزالت عنها علامات البؤس والتعاسة التي بقيت من ليلة امس ، ولكن الحزن والمهانة ما يزالان ينضحان ببشرتها الشاحبة والبراكين تتأجج بحدقتيها الحمراوين بعد ان سحبت المحلول السام منهما .
نظرت للمناديل الورقية التي تلطخت بالسواد الفاحم حتى لم يعد للبياض مكان بها ، لتلقي بعدها بالمناديل بسلة النفايات وهي تشيعها بنظرات باردة رمت معها كل ما يخصها من مشاعر وذكريات احداث الامس ، خرجت بعدها بدقائق من الحمام وهي تعود للجلوس على طرف السرير ، لتتناول ابريق الماء فوق المنضدة الجانبية وهي تسكب الماء بالكأس بيدها الاخرى .
رفعت الكأس لطرف شفتيها وهي ترتشف منه ببطء شديد وكأنها تستسيغ طعم الماء الذي لا لون او نكهة له ، ورغم ذلك تشعر بنكهة لاذعة ما تزال عالقة بحواس تذوقها تثير الغثيان بمعدتها بشكل غير طبيعي ، ارتجفت الكأس بين يديها بأعصاب توترت بلحظة وهي تسمع صوت انفتاح باب الغرفة بقوة بدون سابق إنذار ! لتأخذ بعدها لحظات قصيرة بتأمل الكأس بين يديها وهي تستطيع استشعار صوت الانفاس التي بدأت تشاركها الاجواء بنفس الغرفة .
شددت على الكأس الفارغ بيدين قاسيتين وهي تخرج عن صمتها هامسة بخفوت تردد بصدى الغرفة
"اخرج من هنا"
ولكن يبدو وكأنه لم يسمعها او يتجاهلها وهو يحط بقدميه داخل غرفتها بخطوات خافتة ، لتعود للكلام مجددا بصوت اعلى قليلا وهي تقسو بأصابعها على الكأس الباردة
"قلت لك اخرج من هنا !"
وعندما استمرت الخطوات بالتقدم ثارت اعصابها لا شعوريا وهي ترفع الكأس بلحظة لتلقي بها بلمح البصر نحو مصدر الصوت بعشوائية صارخة
"ابتعد من هنا"
توقفت الخطوات ما ان تهشم الكأس بالقرب من القدمين الساكنتين بصمت ، لتتنفس بعدها بضيق لوهلة وكأنها تستعيد إدراكها ، عادت الخطوات لترنو بالقرب من اذنها بسرعة اكبر ليدفعها للانتفاض بلمح البصر وهي تنقض على ابريق الماء هذه المرة ، وقبل ان تصل للخطوة التالية بقذفه كان يقيد معصمها بقبضة حديدية بالهواء بدون ان تستطيع تحريكه ، ليمسك بيده الاخرى ابريق الماء وهو ينتشله منها ليضعه بعدها مكانه فوق المنضدة الجانبية ، وما ان عاد بنظراته لها وهي تتعمد تحاشي النظر عنه بكبرياء عالي حتى قال بهدوء منخفض بخطر محذر
"كفى يا ماسة ، كفى ! إياكِ وفعل اي خطوة متهورة اخرى ، لأننا لن نستطيع تحمل العواقب حينها !"
بقيت على صمتها ذاته بدون ان تعطيه ما يريد وهو ما يزال يقيد معصمها بقفل موصد ، وما ان طال الصمت بينهما اكثر حتى همست بكلمة واحدة وهي تحاول تحرير معصمها بضعف
"اتركني"
تركها على مضض وهو ينظر لها تحاول تعديل جلوسها والالتصاق بزاوية الفراش بصمت ، ليزفر انفاسه بكبت وهو يجلس بجانبها بدون مقدمات ومسافة قصيرة تفصل بينهما ، ليضم بعدها قبضتيه امامه بتصلب وهو يقول بهدوء جاد بتحشرج
"هل انتِ بخير ؟ كيف تشعرين الآن !"
حاد بنظراته نحوها ما ان قابل الصمت والخواء منها وكأنه لا وجود لها على ارض الواقع ، ليمرر بعدها نظراته الهادئة على جانب ثوبها الاسود الذي لم تخلعه للآن وجانب شعرها الطويل الغير مهذب ذو الانحناءات المجعدة وهو يخفي جانب وجهها عنه ، وكأنه ينقصه سواد اكثر من الذي يعايشه ليرى كل هذه العتمة تسورهما معا وتعمي بصيرتهما بخلاف حفلة الامس والتي كانت بها تشع نوراً وبهاءً ، وهي تزيد من امواج المشاعر السلبية التي تحيط بهما اغرقتهما حتى شغاف نفسيهما وضاعفت من مرارة تأنيب الضمير الذي لم يدعه يهنئ له بنوم طول الليل .
ضرب بقبضتيه على ركبته وهو يقول بجمود صارم يخلع عنه رداء الصمت القاتل
"اسمعي يا ماسة ، انا اريد التكلم معكِ ، لذا هلا اعطيتني انتباهك وتركيزك ؟ فما اريد ان اتكلم عنه مهم جدا !"
ولكن لا حياة لمن تنادي ليقول بعدها بقوة اكبر وهو ينتظر اي بادرة حياة منها
"رجاءً يا ماسة ، اعطيني القليل من انتباهك ، واتركي كل شيء وكل حساب جانبا ، رجاءً"
عندما لم يصدر منها شيء تمادى اكثر وهو يمسك بكتفها الصلبة ليديرها نحوه رغم ممانعتها الشديدة ، قبل ان يمسك بكتفيها بكلتا يديه بدون ان يسمح لها بالانسحاب وهو يقول بصوت خفيض بقوة
"انا اريد التكلم معكِ بكل هدوء وعقلانية ، لا تجبرينا على الخوض بأمور لا نريد فعلها !"
حدقت به بعينيها الواسعتين بزرقة حقيقية بدون اي ألوان اصطناعية تخللت بدواخله وتشربت بروحه المنهكة منها وعليها ، ليشعر بعدها بحياة تدب بشفتيها وهي تتبسم بلا تعبير هامسة بمرح مزيف
"هل هناك المزيد من التقريع والتجريح تريد قوله لي ؟ هل ما يزال لديكم المزيد من الكلام لي !"
تشنجت تقاطيع ملامحه بصراع مضني وهو يكور قبضتيه على كتفيها بصمت ، وما ان اوشك على الكلام حتى سبقته التي مالت بوجهها جانبا وهي تشير بأصبعها لخدها المحمر من الصفعة هامسة بخفوت ساخر مرير
"لا تتكلم معي من هذا الجانب ، بل تكلم معي من الجانب الفارغ فهو يحتاج لصفعة اخرى من اجل ان يكتمل ، ولا اريد ان تتألم عينيك بكل مرة عند رؤية صفعتك التي لن تزول عن خدي فهي ستبقى وصمة بعلاقتنا الاستثنائية"
ضم شفتيه بكبت وهي تنبش بالألم بمهارة وتحوم حول نفس المكان وكأنها شعلة صغيرة عادت لتوقدها بدواخل كل منهما ، ليزيح عينيه بمسافة سنتمترات وهو يقول بخشونة هادرة يحاول تبريد جروحها واطفاءها
"كفى يا ماسة ، توقفي عن التكلم بهذه الطريقة القاسية ! اتركيني ابرر موقفي امامك قبل ان تحكمي على اي شيء وتؤذي كلينا !"
زفرت (ماسة) انفاسها بنشيج ثائر وهي تخفض اصبعها عن خدها لتتنقل بأصبعها بينهما بدائرة مغلقة هامسة ببطء شديد قاتل
"ليس هناك كفى ! انت من فعلت كل هذا بنا ، لذا عليك تحمل كل النتائج ، ولكن الشيء الذي يحيرني على مدار ايام وسنوات ، هل استحقيتُ هذا الألم ؟ هل انا استحق كل هذا ؟ هل استحق كل جرح وكل إهانة وكل ألم اصابني ؟ هل استحق ؟"
تنفس (شادي) بغضب مكتوم وهي يحاول تمالك نفسه قائلا بهدوء شرس بدون النظر لها
"ماسة !"
تابعت كلامها بقوة اكبر بعد ان فقدت مقدرتها على كبحها بهياج زاد غليان دمائها
"هل استحق يا شادي ؟ هل استحق كل هذا !....."
هجم عليها بلحظة واحدة وهو يحشرها عند زاوية السرير وقبضتيه المتصلبتين على كتفيها ورأسها ملتصق بظهر السرير ووجهها لا يبعد عن وجهه سوى إنشات صغيرة ، ليلفح بعدها بشرتها الجافة بأنفاس حارة وهو يهمس بخفوت اجش بوهن
"توقفي يا ماسة ، توقفي عن استخدام هذا الاسلوب بالعتاب معي ، انا آسف ! آسف ! هل هذا يكفيكِ لترحمي نفسكِ قليلا وتعطينا فرصة للحديث والحوار ؟"
بهتت ملامحها الباردة بدون ان تلين وهي تتنقل بين عينيه بتحديق صامت بعينيها القاسيتين الغير متسامحتين ، لتهمس بعدها بأنفاس هادرة بتعجب ساخر لا يحمل اي لمحة رأفة وهي تشبك عينيه بعينيها المتألمتين
"تعلم جيدا بأن اسفك لن يغير شيء ! وايضا ألا ترى اي شيء مما اعانيه ؟ ألا ترون روحي وهي تتألم امامكم ؟ لقد اتحدتم جميعا على إيلامي وكسري ، جميعكم قد تساعدتم بتقطيعي إرباً إرباً حتى لم يتبقى مني سوى قطع صغيرة ما تزال تقاتل وتجابه بالحياة ، اخذتم مني كرامتي وثقتي بنفسي وروحي وحتى قلبي ! ماذا تبقى لي لأعيش من اجله ؟ ماذا ؟!"
احتدت ملامحه بألم غير ظاهري وهو يهز كتفيها بحركة طفيفة قائلا امام وجهها القاسي بهدوء حازم
"اخرسي يا ماسة ، لا تقولي المزيد من هذه الترهات ! انتِ الآن مشوشة وغير واعية ولا تعلمين بماذا تنطقين الآن ، لذا اخرسي تماما واسمعي الكلام فقط"
انتفضت بعنف وهي تلوح بذراعها بعشوائية صارخة بأعصاب متنافرة
"ما تزال تقول اخرسي ! بعد كل ما حصل تقول اخرسي ! لا اريد التكلم ، ولا اريد السماع ، فقط اتركني وشأني ، اخرج من غرفتي"
احكم قبضتيه على كتفيها حتى سمعت صوت احتكاك عظامها وهو يقسو بأصابعه عليها ، ليقول بعدها بصرامة قاطعة اختفى الهدوء بصوته ولم يبقى سوى الجفاء يحاوط بينهما
"اخرسي يا ماسة"
زمت شفتيها برجفة تمكنت من جسدها هزتها بصميم الوجع والذي اخترق غشاء قوتها ، وبدون ان تدرك كانت الدمعة الغادرة تسيل من عينها اليمنى كسرت حواجزها وخطت الطريق على مكان الصفعة تماما تلسع الجروح وتلهب الذكريات ، وبلحظة كانت تسقط على ظاهر قبضته المقيدة كتفها لتستقر بمكانها وهو يستشعر دفئها ومرارة طعمها بحلقه الجاف ، ليتبلع بعدها ريقه بحجر ناتئ جثم فوق صدره وهو يرخي قبضتيه عن كتفيها ، قبل ان يرفع يده ببطء ويمسح الدمعة بشفتيه بحركة بعثت الرهبة بدواخلها .
ما ان عاد بنظره لها بصمت حتى حاوط وجهها بكفيه برقة حانية تخللت بفؤادها وتاقت لها بشدة ، ليدنو بالقرب منها وهو يطبع قبلته فوق خدها المحمر لينجرف لطرف شفتيها بنفس قبلته الرقيقة التي تذيب قسوتها وتعلن عن مداهمة حصونها ، لتنفض كل هذا عن كيانها بسرعة وهي تستجلب ذكرى قبلة اخرى كانت عبارة عن إهانة اكثر منها عاطفة ، وما ان ابتعد عنها سنتمترات قصيرة حتى همست من فورها بشبح ابتسامة شحنتها بطاقة سلبية ما تزال مختزلة بها
"اتذكر هذه القبلة جيدا ! فقد قبلتني مثلها امام العالم اجمع ، عندما اردت ان تكسرني امامهم وتعلن عن سلطاتك ببصمة لن انساها بحياتي ، والجميع قد بدأ ينسج الخيالات عن قصة حب اسطورية تجمع بيننا ! ولا احد يعلم بأنها نقطة التحول بعالمنا وطريقة لاسترجاع كرامتك مني"
تصلبت يديه حول وجهها وهو يبتعد عنها بملامح مكفهرة دامت بينهما لوهلة ، ليرفع بعدها حاجبيه بإدراك متأخر وهو يواجهها بنظرات جادة قائلا بجمود قاتم
"انتِ تتذكرين كل هذا ! هل هذا يعني بأنكِ كنتِ بكامل وعيك ؟ ماذا تتذكرين ايضا ؟"
عضت على طرف شفتيها بألم وهي تشيح بنظراتها بعيدا هامسة بكلمات موجزة
"اتذكر فقط الذكريات المؤلمة والتي يستحيل ان تمحى عن الذاكرة ، واما سبب حدوثها وزمانها فلا اتذكر شيء منه"
حرك رأسه بتفكير لبرهة وهو ينوي قول شيء لتسبقه التي عادت للنظر له بألم وهي تهمس بخفوت خاوي ببأس
"لقد حاربت وجابهت كثيرا بحياتي لأخرج منها بأقل الاضرار الممكنة ، ولكن هذه المرة لم استطع المحاربة او المجابهة بشيء لأنني تألمت كثيرا ! لقد كان اكثر ألماً مما تخيلت وتوقعت ويفوق كل ما عشته سابقا ! يبدو بأنني قد بدأت افقد مهارتي وقوتي بعد كل هذه السنوات ! متى اصبحت نقطة ضعفي ؟ متى اصبحت تؤلمني لهذه الدرجة ؟ متى اصبحت بكل هذه القسوة والوحشية ؟!"
زفر انفاسه بتهدج وهو يحاوط جسدها بذراعيه ليسحبها لأحضانه بدون دعوة ويدفن وجهها بمنحنيات صدره العريض عله يخفيها عن العالم بأسره ، بينما يده تمسح على شعرها الاشعث الطويل بأصابعه التي تخللت بخصلاته وتعمقت بأمواجه ، وهو يدنو بالقرب من اذنها هامسا بخفوت شديد بصوت حاني
"اهدئي يا ألماستي ، توقفي عن هدري نفسكِ هكذا ! توقفي عن هدرها ! فأنتِ اغلى بكثير مما تتوقعين ، ولا اسمح لكِ ببخس ثمنها هكذا"
اغمضت عينيها بصمت خائر القوى بعد ان استنزفها الكثير من القوة النفسية للوصول لهذه المرحلة ، وبعد لحظات خاطفة كان يبعدها عن صدره وهو يعدل من تقسيم شعرها الذي اصبح بحالة من الفوضى العارمة كحالة صاحبته ، وما ان انتهى من تسريح شعرها حتى حط بشفتيه على جبينها العريض وهو يهمس بهدوء جاد صارم بعض الشيء
"سأترككِ لتأخذي قسط من الراحة الآن ، استجمعي نفسكِ وافكارك بعدها سنتكلم بكل شيء مهم وبكل النواقص التي تحتاج لتوضيح ، لذا حاولي ان تكوني مهذبة قليلا حتى يحين ذلك الوقت !"
كانت تحدق به بصمت قبل ان تشيح بوجهها جانبا بدون ان تضيف شيء على كلامه بحالة شرود بالفراغ ، ليتنفس بعدها بإجهاد كاسر وهو ينهض عن السرير لتحمله قدميه ناحية باب الغرفة ، وما ان وصل امام الباب حتى حانت منه التفاتة للخلف وهو ينظر لها بقلق قبل ان يقول بحزم جاد
"بعد ان تجهزي نفسكِ انزلي لتناول الفطور ، إياكِ وتضييع وجبة الفطور ، فهمتِ ؟"
عندما لم يجد اي ردّ منها وهذا ما توقعه حتى تحامل على نفسه وهو يخرج من الغرفة على مضض وبقلب لم يرتح بعد وهو اكثر من يعلم بطبيعتها الشرسة التي لا ترقد ! بينما الجالسة بمكانها كانت شاردة بالفراغ بوجوم وهي تنزع المشبك المتدلي على جانب شعرها لتلقي به ارضا بلا مبالاة ، لترسم بعدها خطوط حادة على محياها هامسة بخفوت غير متساهل
"لينا رواشدة لقد حفرت قبركِ بيديكِ !"
______________________________
كان جالس امام المكتب وهو يكتب على الحاسب الخاص به ليستجلب كل قواه العقلية والعضلية بما يفعله وعقله ما يزال ليس معه ، ليتوقف بعدها لبرهة وهو يضم قبضتيه امام شفتيه بشرود قاتم لم يفارق كيانه للحظة منذ خروجه من المنزل ، وافكاره تموج بكل مرة بزاوية مختلفة ووجهة اخرى وقلبه ينازع بين كل تلك الامواج التي سحبته بعيدا عن المد ودمرت بوصلة حياته .
تنفس باستغفار صامت وهو يدعو ألا ترتكب حماقة جديدة تعيدهما لموجة اخرى وتسحبهما معا ، وهذه المرة لن يستطيع ان يعود بها للبر بأمان بعد ان يكون قد فات الآوان على العودة واغرق الموج كل ما هو حي بداخلهما .
افاق على صوت الهاتف بجواره وهو يمسك به بأصابع حذرة وكأنه يستشعر ويتنبأ الخطر على بعد اتصال واحد ، وما ان ظهر له اسم المتصل حتى ابتلع ريقه بكل قوة يحجز الخوف المتجلي بداخله بصلابة يحسد عليها ، ليجيب بعدها على الاتصال بكل هدوء وثبات بدون ان يظهر شيء مما يجيش بداخله من مجرد اتصال
"نعم يا روميساء ! هل هناك مشاكل بالمنزل ؟"
اتاه الصوت من الطرف الآخر وهو يقول بهدوء مرتبك وكأنها تجهز للكارثة
"اسمعني يا شادي وبدون اي انفعال او غضب ، الحقيقة بأن ماسة قد غادرت المنزل قبل دقائق وهي تحمل حقيبة ملابسها بدون ان تستمع لكلام احد ، وقد تحدت حراس البوابة وعاندت لتخرج رغما عنهم......."
قاطعها (شادي) وهو يخرج من ذهوله اللحظي قائلا ببطء مستوعب
"هل قلتي ماسة غادرت ؟! إلى اين غادرت !"
ابتلعت ريقها بوجل وهي تقول من فورها بخفوت اقل انفعالا
"اجل ماسة قد غادرت من المنزل ومعها حقيبة ملابسها ، ولا اعلم إلى اين ذهبت ! فأنا كنت اراقبها من بعيد وهي تخرج من المنزل امام جميع افراد العائلة ، ولم استطع التدخل بالأمر لأنك تعرف السبب ، فهي عندما تكون غاضبة او مجروحة لا ترى احد امامها وتفعل امور متهورة بلا وعي تقريبا !"
امسك برأسه بصداع نصفي وهو يتخلل شعره بأصابعه يكاد يقتلع خصلاته بتعب استبد به ، ليحرك بعدها رأسه بشرود وهو يقول بتأكد اخير لما سمعه
"خرجت من المنزل ومعها حقيبة ملابسها ! صحيح ؟"
اومأت (روميساء) برأسها وعندما اكتشفت بأنها تتكلم على الهاتف قالت بسرعة بتأكيد مضطرب
"اجل هذا ما حصل ، انا لا اعلم ماذا تخطط له ! وإلى اين تريد الوصول ! ولكن عليك التصرف بسرعة بخصوص هذا الامر ، قبل ان تؤذي نفسها وتفعل امور لا عودة لها"
تجمدت ملامحه ببهوت وهو يقول بعملية جادة بعد ان بثت الخوف بحنايا روحه
"اجل يا روميساء اعلم ذلك جيدا ، ولا تقلقي فأنا سأتصرف بخصوص شقيقتك المجنونة واضبط جماحها لكي لا تفكر بفعلها مجددا"
ردت عليه (روميساء) بسرعة وهي تهمس بخفوت غير مطمئن
"ماذا تعني بهذا الكلام ؟ وماذا يحدث بينكما حتى اتخذت مثل هذا القرار المتسرع وخرجت من المنزل مع حقيبتها ! إذا كنت قد سببت مجددا الألم لشقيقتي بأي طريقة......"
قاطعها مجددا بصوت مجهد وهو يكاد ينفذ صبره
"انتِ اريحي نفسكِ يا روميساء ولا تجهديها اكثر ، وكل شيء سيكون تحت السيطرة من الآن وصاعدا ، لذا لا تشغلي نفسكِ كثيرا بهذه الامور وعودي لحياتك الاعتيادية ، حسنا ؟"
عبست ملامحها بشحوب وهي تعقب قائلة بجمود حازم غير متهاون اخرجها من صورتها الهادئة
"لا تنسى يا شادي بأني قد سامحتك على رفع يدك على شقيقتي وصفعها ، فقد كانت تستحق حينها لتفيق على نفسها وتدرك ما تفعله ، ولكن اي اخطاء اخرى وتطاول عليها فلن اسامح عليه ! فهي ليست فتاة وحيدة بدون اهل وسأبقى دائما اقف خلفها وادعمها ، وقد اعذر من انذر !"
اخفض (شادي) الهاتف عن اذنه وهو يفصل الخط بروح متلبدة بالكثير من الشحنات الداخلية التي عطلت باقي عمل الاعضاء ، لينهض بعدها عن الكرسي وهو يغلق الحاسب امامه بقوة كادت تحطمه قبل ان يتمتم بهدوء جامح فقد زمامه
"ماذا تفعلين يا ماسة ؟ ماذا ؟!"
بعدها بدقائق كان يقود السيارة على محاذاة الطريق الموصل للمنزل وهو يجوب بعينيه بكل مكان بحثا عن الفرس الهاربة من حظيرتها....وبعد مسافة امتار كان يلتقطها بعينيه وهي تتشبه بالفرس بمعنى الكلمة خاصة بعد ان بدلت ثوب الحفلة ببنطال جينز ضيق يعلوها قميص طويل بلون الازرق الشاحب....وهي تسير على الرصيف بخطوات رشيقة ثابتة تناسب جسدها الممشوق....وذيل حصانها المعقود بتهذيب انيق يتراقص خلف رأسها بحركة انسيابية بعفوية...وكأنها تتعمد جذب كل الاعين والانتباه لها بحركاتها العفوية وملابسها البسيطة وبأنوثتها الطاغية التي تظهر بفطرتها التي لا يمتلكها ويتقنها غيرها....وهذا كله فقط بشكلها الخارجي قبل النظر للملامح الصلبة والعينين المتمردتين ببحار هوجاء لا تعرف الرحمة او الخمود تغرقك حد الهلاك .
وصل بسيارته عند طرفها وهو يلاحظ سرعة خطواتها التي بدأت تسرع بعيدا عنه ، ليحرك رأسه بيأس منها وهو يزيد من سرعة السيارة حتى اوقفها بطريقها بنهاية المطاف ، ليخرج بعدها من السيارة ببساطة وهو يدور من حولها حتى وصل امام التي جمدتها الصدمة برهبة .
ما ان افاقت من لوعة ما حدث حتى تراجعت خطوتين للخلف بحذر وهي تتشبث بيديها بحزام حقيبتها قائلة بعناد شرس
"ابتعد عن طريقي افضل لك ولي ، وابعد السيارة عن الرصيف قبل ان تحصل على مخالفة بعدم ركوبها مجددا"
ابتسم بالتواء طفيف وهو يميل برأسه نحوها قائلا بتساؤل جاف
"ماذا تفعلين يا ماسة ؟ هل تريدين الجني على نفسكِ بهذا السلوك !"
ضحكت (ماسة) بسخرية بدون اي مرح وهي تهمس بنزق
"لقد جنيت على نفسي منذ لحظة زواجي منك"
حرك رأسه مجددا بيأس وكأنه يتوقع سماع مثل هذا الجواب الوقح منها مثل طقس روتيني ، ليقول بعدها وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله بجفاء
"لا بأس فقد اعتدت على سماع مثل هذه العبارات الجارحة من زوجتي المصون ، فهي عندما تتعرض للكسر او الخذلان اكثر ما تجيده عندها هو ان تجرح من يقف امامها بمنتهى الصفاقة ، وانا مستعد لسماع كل إهاناتك وقلة ادبكِ بسبيل ان تمحي الألم بداخلك وتعودي لي"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تهمس من بينهما بامتعاض حاد
"إذا كنت تفهمني جيدا ، لماذا ما تزال واقف امامي ؟ هل تنتظر ان اطرحك ارضا من اجل ان تشعر بالألم وتتركني وشأني ؟"
رفع رأسه عاليا وهو يمثل التفكير لوهلة قبل ان يعود بالنظر لها قائلا بابتسامة مسترخية وكأنه يجاري مستوى تفكيرها
"لا امانع ايضا ان تطرحيني ارضا ، وحتى لو رديتِ صفعتي بصفعة اخرى منكِ ، فلن اتزحزح من هنا قبل ان تسيري معي"
تأففت بنفاذ صبر وهي تشيح بوجهها جانبا بغضب على وشك الفتك بها ، لتهمس بعدها بعبوس مستاء باحتقان
"الحق ليس عليك بل على الذي نقل لك الخبر بسرعة مثل عيون الصقر ! وليس هناك احد آخر يفعلها غير شقيقتي المصون التي لا تصبح مخلصة وامينة سوى بأسوء الاوقات ، لو كانت انتظرت حتى ابتعدتُ قليلا واختفيتُ عن الانظار !"
ارتفع حاجبيه بانتباه منصت وهو يعقب قائلا بمرح مزيف
"من الجيد بأنها فعلت ذلك ، لقد اراحتني من مهمة البحث عنكِ بالأرجاء وقلب العالم فوق رأسكِ الصلب السميك"
نظرت له بغضب مكتوم وهي تهمس من بين اسنانها بحنق بالغ فاض عن الكيل
"هل تستمتع برؤيتي ذليلة مجروحة امامك ؟ لماذا لم تستطع البقاء بعيدا عني ! لماذا ظهرت بحياتي من الاساس ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يدور بعينيه حولها قائلا بحزم جاد
"هل انتهيتِ من افضاء كل ما يعتمل بصدرك ؟ فنحن لن نبقى هنا طويلا نختلق المزيد من الفضائح ! وانا ليس لدي الكثير من الوقت لأضيعه هنا ، لذا هلا نتحرك الآن !"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تنفض حقيبتها بعنف قائلة بعصبية اكبر
"لن اتحرك من هنا وقد قلت لك هذا ، وحتى لو تجمع نصف سكان الحي فلن اتحرك من مكاني......"
قطع كلامها وهو ينتشل حقيبة الملابس منها ليضعها على كتفه وهو يتحرك اتجاه سيارته ، لتلحق به بسرعة وهي تصرخ بضيق
"ما لذي تنوي فعله بحقيبتي ؟"
انفرجت شفتيها بأنفاس مرتعشة ما ان ألقى بحقيبتها على المقعد الخلفي بإهمال ، ليغلق بعدها الباب عليها قبل ان يفتح لها باب المقعد الامامي ، ليشير لها بذراعه وهو يقول بعملية مرنة
"هيا اركبي بالسيارة يا ماسة بدون اي مشاكل ، لكي لا افكر ان ألقي بكِ بداخلها كما فعلت بحقيبتك"
زمت شفتيها بعبوس حانق وهي تكتف ذراعيها بروح ابية بدون اي تنازل او انصياع امام تهديداته ، ليزفر بعدها انفاسه بضيق مكبوت وهو يقبض على ذراعها بدون مقدمات قبل ان يدفعها بداخل السيارة رغما عنها لتسقط على المقعد بقوة ، اغلق بسرعة الباب عليها بقفل المفتاح الآلي لكي لا يسمح لها بالخروج او التفكير بالفرار .
اخذ بعدها عدة انفاس وهو يطالع وجهها خلال زجاج النافذة الشفاف مثل حال عينيها المشروختين بشظايا دموع صغيرة ، وما ان انتهى من تأملها من خلف نافذة المحاكمة حتى تحرك من فوره وهو يدور حول السيارة بلحظات ، ليجلس بعدها بجوارها وهو يشغل محرك السيارة لتتحرك بعيدا عن الرصيف حتى اوقع شاخصة مرورية كانت منتصبة بالطريق اصدرت صوتا واضحا ، ليرمق بنظراته شريكته بالجريمة والتي تصوب نظراتها خارج النافذة وهو يقول لها بشبه ابتسامة متسلية
"لقد كسرنا قواعد المرور كما كسرنا قواعد علاقتنا ، يا لها من علاقة مثالية يسودها الود والتفاهم !"
نظرت له بأطراف حدقتيها الساكنتين قبل ان تعود بنظرها خارجا يكسوها البرود ، لينظر بعدها للأمام وهو يعطي تركيزه للطريق والذي ابتعد عن اللافتة الواقعة بعد ان وصلت جرائمهم بحق الصالح العام .
______________________________
سحبها معه طول طريق صعود الطوابق الواحد تلو الآخر حتى وصلا للطابق المطلوب ، ليقف بعدها امام باب الشقة وهو يضع حقيبتها ارضا قبل ان يخرج المفتاح من جيب بنطاله ، بينما كانت (ماسة) تحاول انتشال يدها من قبضته بصعوبة بدون ان يحررها ، وما ان كادت تفلت يدها حتى احكم عليها من جديد بقوة حطمت مفاصلها وهو يقول باقتضاب جاد
"اصبري قليلا يا ألماستي ، بقي القليل وننتهي من كل هذا"
كورت شفتيها بقنوط وهي على وشك الصراخ بشيء قبل ان يفتح الباب امامهما على اتساعه ، ليسحبها بعدها للداخل بقوة وهو يدفعها من يدها حتى تعثرت للأمام عدة خطوات وعدة امتار ، وما ان استقامت اخيرا وهي تلهث بهلع حتى استدارت للخلف بعنفوان التف معها ذيل حصانها الذي استقر على كتفها ، لتتسع مقلتيها الزرقاوين بجزع ما ان ألقى بالحقيبة عاليا بالهواء قبل ان تهبط بلحظات امام قدميها بسلاسة وكأنها شوال اسمنت .
ابتلعت (ماسة) ريقها بجمود وهي ترفع نظراتها نحوه بشرارات حارقة لتقول بعدها بجموح وهي تضرب الارض بقدمها بانفعال
"ما لذي تنوي فعله ؟ ولماذا احضرتني لهذه الشقة ؟ ما لذي تخطط له ؟"
تقدم عدة خطوات بعيدا عن الباب وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا بابتسامة هادئة بعمق
"نحن الآن بمنزلنا ، وهذا المكان سيصبح منزلكِ من الآن وصاعدا ، وكل شيء سيسر هنا حسب القوانين التي سأضعها انا وحسب الشروط التي سأتخذها لنا ، فقد حان الوقت للانفصال عن منزل العائلة وصنع عائلة مستقلة لنا وحدنا ، ما رأيكِ بهذا ؟"
اتسعت حدقتيها بأمواج عالية المدى وهي تهمس بخفوت ممتعض
"وهل قررت كل هذا لوحدك ؟ وماذا عن رأيي الشخصي بالأمر ؟ هل ستجبرني على السير على هواك وما يقوله عقلك !"
اومأ (شادي) برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية بثقة بالغة
"لو كان كلامكِ صحيحاً لما سألتكِ الآن عن رأيكِ ، وهذا يعني بأني اهتم برأي شريكتي بالمنزل وبعائلتي وبحياتي......"
قاطعته (ماسة) من فورها وهي تنفض ذراعيها بعنف
"هذا مرفوض ، انا ارفض اتباع خطتك باستبعادي خارج العالم ، ارفض قطعاً !"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يقول بجدية بعد ان اختفى الهزل عنه
"هذا ليس قراري وحدي بل كان قراركِ اولاً عندما غادرتِ المنزل امام جميع افراد العائلة بدون ان تعطي حساب لأحد ، ومع ذلك فقد اعجبتني الفكرة وحازت على اهتمامي وقررت تنفيذها بسبيل التغيير والتجديد ، فقد سئمت من العيش بمنزل عائلتنا وحان الوقت للانفصال عنهم ، وهذا القرار سيشملك كذلك بموافقتك او بدونها !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تهمس ببرود جليدي وخطواتها تتحرك باندفاع لا إرادي
"قُل ما تشاء ، ولكني لن ابقى بهذا المكان دقيقة واحدة....."
توقفت بمكانها ما ان سد الباب بجسده وهو يمسك مصراعيه بكلتا يديه يكاد يوازيه حجما وطولا ، لتعبس بعدها بسخط ما ان قال لها بهدوء شديد منذر
"ليس هناك خروج من هذا المنزل ، وهذا سيكون القانون الأول والذي سيتوجب عليكِ تنفيذه بكل طواعية ، لذا لا تحاولي تصعيب هذه المهمة علينا وتمزيق هذا الوفاق بيننا ، فلن اضمن ردة فعلي بالمرة القادمة التي تهربين بها من المنزل !"
كورت قبضتيها على جانبيها وهي تقول بحنق بالغ هاجت الدماء بمحياها
"ما لذي تريد ان تثبته بهذه التصرفات ؟ بأنك انت رجل المنزل وانا العبد المأمور تحت سيادتك ! هل هذا ما تريد ان تثبته ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته بنوايا دنيئة وهو يتحرك بعيدا عن الباب قائلا بصوت خفيض حاد
"سأريكِ بهذه اللحظة ماذا اريد ان اثبت لكِ !"
اضطربت ملامحها بخوف وهي تتراجع بخطواتها تلقائيا بغريزة الحذر ، لترفع كفها نحوه وهي تهمس بخفوت مهدد
"إياك وان تقترب خطوة اخرى مني ، تراجع للخلف ، تراجع فورا"
استمرت بتراجعها البطيء وهو ما يزال يتقدم امامها يترصد كل حركة لها ، وما ان اصطدمت بالجدار خلفها والذي انهى طريقها حتى شهقت بذعر ما ان وصل امامها بثواني وهو يحاصرها من جانبيها بدون ان يترك لها طريق للفرار ، لترفع ذراعيها بدافع الخوف وهي تهمس باستسلام خائر القوى
"حسنا انا استسلم ، هلا ابتعدت عن طريقي الآن ؟"
حرك رأسه للأعلى والاسفل بحركة التحدي المستفز والغير منطوق ، لترمش بعينيها بارتعاد تجلى على محياها ما ان مال برأسه عند جانب وجهها ليهمس بتجويف اذنها البيضاء الصغيرة بخفوت حارق
"لن استطيع الابتعاد بعد ان وصلت لهذه المرحلة ، فقد اصبح التراجع خيار صعب جدا"
عضت على طرف شفتيها بوجل خفي وهي تستشعر انفاسه الدافئة على خدها بتلامس رقيق بدون تقبيل يشعل الفؤاد بتدفق الحرارة تحت بشرتها الباردة ، لترتجف بمكانها بانتفاض حتى غصت بأنفاسها ما ان هبطت شفتيه على عنقها البيضاء بهجوم كاسح وطرف اسنانه تدمغ ببشرتها بعلامة حارقة ، لتحرر جزء من انفاسها بلوعة ما ان تبعها بقبلة رقيقة على مكان اسنانه تطيب جرحه الواضح وهو يتعمق بها لثواني معدودة قاتلة .
ما ان ابتعد بوجهه عن عنقها سنتمترات حتى همس بخفوت اجش حامي
"هذا ما اردت اثباته لكِ ، انتِ ملكية حصرية لي يا ألماستي ، وهذه علامة غالية لتثبت من هو المالك الحقيقي"
تسمرت خطوط ملامحها بهياج المشاعر التي تدفقت لوجهها المحتقن بالدماء الحارة بحياء مفرط ، ليرتفع بعدها وجهه امامها وهو يقابل عينيها الجامحتين بتحدي سافر دفعها للاستسلام بلحظة وهي تحجب عينيها بعيدا بضعف خائن ، وبعد ان فرغ من تأملها تحرك للخلف عدة خطوات وهو يراقبها عن كثب قبل ان يستدير ببساطة وهو يكمل خطواته خارج المنزل .
افاقت على صوت اغلاق باب الشقة وهي تدرك وضعها الحالي ، لتدب الحياة بها تلقائيا وهي تنطلق بسرعة جهة الباب ، وما ان حاولت تحريك المقبض بعنف حتى اكتشفت بأنه مغلق بالمفتاح عليها ، لتضرب الباب بقدمها بانفعال مفرط وهي تصرخ بسخط غاضب
"سحقا له ! ذلك المتحايل المخادع !"
جرت بسرعة اتجاه النافذة الوحيدة بالشقة وهي تفتح الستائر على اقصى اتساع ، لتتبعها بفتح زجاج النافذة على مصرعيها حتى ارتطمت جوانبها بالجدار ، تسمرت بعدها لوهلة وهي تراقب الذي خرج من البناية امام ناظريها باتجاه سيارته المصفوفة امامها .
توقف بعدها للحظة خاطفة فقط قبل ان يرتفع رأسه للأعلى لا شعوريا وكأنه قد توقع رؤيتها وهي تراقبه من النافذة بدون ان يتعب نفسه بالتفكير ، هذا إذا لم يكن لديه جهاز رادار بداخله يلتقط ذبذباتها وكل حركة بسيطة قد تفكر بفعلها بغيابه وبحضوره ! وكم هذا الامر يثير حنقها وسخطها منه !
تمسكت يديها بحاجز النافذة وهي تلمحه يشير بأصبعي السبابة والوسطى امام صدره جهة قلبه والتي تعني شيء واحد (انتِ بقلبي) ، لتشيح بعدها بوجهها جانبا بغضب هادر تمكن منها وهي تسمع صوت تحرك السيارة من على بعد امتار منها وصلها لفحات غبارها ، لتستسلم بلحظة للهدير الطنان بأذنيها وهي تصوب نظراتها لحركة السيارة التي شقت طريقها بعيدا جدا اخترقت المدى الوسيع ومجال رؤيتها ونطاق قلبها الخافق مثل عصفور اسير .
_______________________________
كانت تعبث بأغراض الحقيبة وهي تخرج كل شيء تضع يدها عليه بحالة جنون شرس جعلها تبث غضبها بجمادات غير حية ، ولم يكن المنزل بحالة افضل منها فقد قلبت كل شيء موجود ومسالم رأساً على عقب وكأن طوفان من العواصف قد احتل المكان وليس طوفان من المشاعر الهادرة اقام المكان ليصبح بهذه الحالة التي يرثى لها ، وبدون ان تستطيع قمع شعورها الحالي من الخذلان والهوان واسوء ما قد تشعر به بحياتها .
تنفست بتعب قاسي وهي تلقي بما بين يديها ارضا وآخر ما تبقى بالحقيبة التي فرغت تماما ، ليقطع سراب شرودها صوت رنين الهاتف والذي ملئ فراغ الشقة الصغيرة ، لتزحف بعدها على ركبتيها للخلف قبل ان تسند ظهرها على الجدار لتخرج الهاتف من جيب قميصها ، وبلحظة كانت تجيب على الهاتف بإجهاد وهي تدس خصلاتها خلف اذنها بيدها الحرة
"نعم ! ماذا هناك ؟"
سمعت صوت الطرف الآخر وهو يقول بمرح رقيق
"الشخص الطبيعي يقول صباح الخير ، ولكنكِ دائما ما تبدئين بسؤال ماذا هناك ! ومع ذلك سأكون لبقة معكِ واقول صباح الخير"
زفرت انفاسها بإنهاك معنوي وهي ترغم نفسها على رسم ابتسامة طفيفة تجاري دعابتها هامسة بوهن واضح
"عندما يكون هناك صباح جيد طبيعي سأقول عندها صباح الخير"
ردت عليها (صفاء) بخفوت قلق بعد ان سمعت اذنها الحساسة صوتها الضعيف
"هل انتِ بخير يا ماسة ؟ هل اتصلت بوقت غير ملائم ؟ بالرغم من اني دائما ما اتصل بهذه الساعة"
حركت رأسها جانبا بهدوء وهي تتأمل حقيبة الملابس الفارغة بخواء ، لتهمس بعدها بشبه ابتسامة صريحة بدون اي مراوغة
"لقد حبست بشقة لوحدي بدون طريق للفرار"
صمتت للحظات قصيرة تستوعب كلامها المفاجئ قبل ان تهمس لها بوجوم مرتبك
"ماذا تقولين يا ماسة ؟ هل بدأت تهذين بهذا الصباح ؟! وكنتِ تقولين عني مجنونة خيالية ابتدع اشياء من عقلي ! تبين بأنكِ اكثر جنونا مني"
عضت (ماسة) على طرف شفتيها وهي تهمس بوضوح بدون ان تجاريها اكثر
"وهل تعرفينني بكل هذا الجنون حتى اقول هذا الهراء عن نفسي ؟"
شهقت (صفاء) بإدراك وهي تقول من فورها بتوجس بالغ
"اين انتِ الآن ؟ من هو الذي حبسك ! من الذي لديه الجرأة على فعلها ؟ هل انتِ بخير ؟......"
قطعت استرسال كلامها بأعصاب باردة وكأنها ليست المحبوسة
"اهدئي يا عزيزتي ، فكل شيء مستقر للآن ولم يصل الامر لمستويات خطيرة ، انا فقط محبوسة تحت طائلة المسؤولية الزوجية !"
فغرت فاها الصغير ببلاهة قبل ان تتحول لضحكة مكتومة وصلت لها بوضوح وهي تهمس بمرح ساخر
"بالله عليكِ يا فتاة ! ماذا تفعلين بالرجال حتى تجعلي من نفسكِ هدف لهم يحبسونك ما ان تضيق بهم نفسهم ؟ لقد كنت اظنكِ هدف للفتيات فقط ولكنك اصبحت هدف للرجال كذلك !"
عبست ملامحها بسخط وهي تضرب بقبضتها بالهواء قائلة بنزق
"هل ترينني بمزاج جيد للمزاح بهذا الموضوع ؟ انا الآن اتمالك نفسي لكي لا احرق المنزل الموجودة به ! وكل ما يقيدني هو خوفي من الوقوع باتهام محاولة حرق البناية وسكانها وعندها سأنتقل من سجني الحالي لسجن حقيقي"
ضحكت بقوة اكبر خرجت عن إرادتها بعد ان فقدت القدرة على كبحها ، لتقول بعدها بلهاث طفيف وهي تخفت صوت ضحكاتها العذبة
"اعتذر يا عزيزتي ، اعتذر ، ولكن سماع مشاكلكِ حقا تكشف لي بأن العالم ما يزال على ما يرام ونستطيع العيش به بتسالم وتآلف !"
ردت عليها (ماسة) من فورها بحنق مستاء
"هل تجدين متعتكِ بسماع مشاكلي ؟ شكرا لكِ كثيراً لقد ساعدتني بهذه المكالمة ، صدقا ساعدتني كثيراً !"
عضت على طرف شفتيها بتأنيب وهي تهمس بلحظة بخفوت رقيق بمحبة
"اعذريني يا ماسة ، لقد كانت خارجة عن إرادتي ! إذاً هل هو زوجك من فعل هذا بكِ ؟"
تنفست (ماسة) بضيق وهي تمسد على جبينها بأصابعها هامسة بخفوت مشتد
"اجل هو ومن سيكون غيره سيفعلها !"
صمتت لحظتين بتفكير قبل ان تهمس مجددا بخفوت حالم بخيالها الخصب
"وما هو السبب يا ترى ؟ هل هي مشاكل عشاق مثل القصص التي نسمع عنها ؟ لم تبدأ قصة حبكما بعد ودخلنا على المشاكل مباشرة ! يا لها من حالة ميؤوس منها تلك التي تعيشان بها....."
قاطعتها (ماسة) بانفعال مفرط بعد ان احمر وجهها الشاحب باحمرار الغضب
"توقفي عن تصوير الامر بهذه الطريقة ، ليس هناك عاشق ولا قصة حب ! فقط هناك فتاة تأذت كرامتها وصفعت بسبب الشيء المسمى حب ومع الشريك المكتوب لها ان تعيش العمر المديد معه ! هل هناك قصة حب افضل من هذه ؟"
غامت ملامحها الناعمة بحزن وهي تهمس بأسى مرير بعد ان شعرت بموضع ألمها
"هل هو مؤلم لهذه الدرجة ؟"
بهتت ملامحها وزال الاحمرار عنها وهي تحط بكفها على وجنتها لا شعوريا وكأنها تسمع صدى الصفعة بأذنها من جديد ، لتهمس بعدها بلحظة بخفوت ضعيف متجرد من الشعور
"اجل مؤلم واكثر مما تتصورين"
زمت شفتيها برجفة لاذعة لوهلة قبل ان تهمس بنشيج خافت
"لو لم تكوني تحبينه لما تحملتِ كل هذا وصبرتي نفسكِ ! أليس كذلك ؟"
قبضت اناملها على وجنتها بقوة وهي تنفض الشعور الاخير عنها هامسة بعزم قاهر
"غير صحيح ، فقد اتخذت قراري ، وليس هناك رجعة عنه ، فقد انتهى كل شيء بالنسبة لي"
تلجلجت انفاسها بقلق نهش دواخلها وهي تقول بقلب غير مرتاح لتغير نبرة صوتها
"بماذا تفكرين يا ماسة ؟ اخبريني هل هناك افكار شيطانية تدور برأسكِ !"
اخفضت كفها بهدوء وهي تعتدل بجلوسها باستقامة لتقول لها بهدوء جاد تقمصها بلحظة
"انسي امري الآن ، واخبريني عنكِ انتِ ! ما سبب اتصالكِ بوضح النهار ؟"
اتسعت ابتسامتها بإشراق مضوي وهي تقول بحماس متلهف
"يبدو بأنكِ قد نسيتِ الامر تماما بخضم مشاكلك ! اليوم هو يومي الاول بالعودة للالتحاق بدراستي الجامعية التي تركتها بمنتصف الطريق ، وكنتِ قد وعدتني من قبل بمرافقتي بيومي الأول ، ولكن يبدو بأنكِ لن تستطيعي فعلها بعد الآن"
ارتفع حاجبيها بتذكر وهي تهمس بابتسامة طفيفة ببؤس
"اجل لقد كنت قد نسيت الامر بالفعل ، ولكن كما تعلمين انا الآن بوضع الحجز الإلزامي الغير مسموح لي بالخروج من المنزل حتى إشعار آخر ، وغير معروف إذا استطعت الذهاب معكِ للجامعة بيوم ما ام لا !"
اومأت (صفاء) برأسها بتفهم وهي تهمس بابتسامة لطيفة
"لا بأس بذلك ، المهم ان تكوني بخير وبصحة جيدة ، وحتى انحلال مشاكلكِ الحالية لن نستطيع رؤيتكِ بهذه الفترة ، وقد تكون فترة جيدة لنا لنستطيع بها التأقلم بمحيطنا الجديد"
زفرت انفاسها بهدوء وهي تريح رأسها على الجدار من خلفها هامسة بابتسامة خاوية
"حسنا ليس لدي شيء اخبركِ به سوى بالتوفيق بيومكِ الأول بالجامعة ، واتمنى ان يكون بشارة خير لكِ"
ردت عليها (صفاء) من فورها ببهجة غامرة
"شكرا لكِ ، اعتني بنفسكِ جيدا وطمئنيني عليكِ بين الحين والآخر"
تجمدت طرف ابتسامتها وهي تهمس باهتمام جاد
"وانتِ ايضا اعتني بنفسكِ وبالروح التي بدأت تتكّون بداخلك ، فهي لها حق عليكِ بالاعتناء بها اكثر من اي شيء بالعالم"
تغضنت تقاسيمها بدون ان تختفي ابتسامتها وهي تردف بنفس السعادة يرافقها الشغف
"اعلم هذا جيدا ، لذا لا تقلقي من شيء ، فأنا استطيع تدبر اموري"
احتدت ملامحها وهي تقول بهدوء اكثر جدية
"عليكِ بالإفصاح بهذا السر فقد كبر كثيرا وليس من الصحة تركه هكذا وقتاً اطول !"
زمت شفتيها بارتباك اكثر من مرة بوجل قبل ان تهمس بهدوء ظاهري بثقة معدومة
"سأحاول يا ماسة ، سأحاول بكل جهدي ، لا تقلقي بهذا الشأن"
اومأت (ماسة) برأسها بهدوء وهي تضيف بآخر الحديث بنبرة لطيفة
"إلى اللقاء يا صفاء ، حظاً موفقاً بيومك"
اخفضت الهاتف وهي تفصل الخط بعد ان قالت كلمات الوداع الاخيرة ، لتشرد بعدها بنظراتها بالفراغ امامها وكفها الحرة تمسد تلقائيا على عنقها الطويلة ، بدون ان تشعر بأنها قد وصلت للعلامة التي تظهر اثر اسنان واضح على بشرة عنقها ، جعلت ملامحها تتغضن وتلين وتعبس وكلها بآن واحد وهو يخالجها بمشاعر شرسة اصبحت مثل الجمر بحشا روحها .
_______________________________
دست الهاتف بجيب سترتها الجينز الوردية وهي تشرد بصورتها بالمرآة بعينين حالمتين ، لتضم بعدها سترتها من جانبيها وهي تتأمل جوانب شكلها بتمعن وتركيز ، بالحقيقة بأنها قد ازدادت بعض الكيلو غرامات على وزنها الحالي واصبحت شهيتها للطعام افضل عن السابق ، صحيح كانت مجرد تغيرات جسمية طفيفة ولكنها تستطيع ملاحظة الفرق بوضوح فما تغير بداخلها شيء اكبر بكثير مما يستطيعوا البشر العاديين رؤيته وملاحظته لامس شغاف روحها ونمى مثل بذرة سعادة بقلبها ، وكل هذه التغيرات كانت من اجله وبسبيل ان تعيش بعالمها الذي نسجته من حولها وداخلها ، فهي تؤمن بشيء واحد ما دام الخيال موجود فلن تتوقف عن صنع احلام جديدة تدفن بها احلامها القديمة وتحيى .
رفعت يدها وهي تعيد خصلة شاردة لخلف اذنها انسابت من ذيل حصانها بنعومة ، لتريح بعدها كفها على خدها المتورد بامتلاء وكفها الاخرى على بطنها وهي تهمس بحنين عاطفي متدفق بكل حنايا روحها
"انا وانت سنعيش بحلم واحد ، ولن نسمح لأحد بانتزاع هذا الحلم منا"
اخفضت يديها بهدوء ما ان وصلها صوت طرقات على باب الغرفة ، لتضم يديها تلقائيا وهي تقول بهدوء ظاهري
"تفضل"
فُتح الباب بلحظة وهو يدلف للغرفة بخطوات بطيئة بصمت ، وما ان حادت بنظراتها نحوه حتى كان يصل لها وهو يقول بابتسامة عملية
"صباح الخير"
اومأت (صفاء) برأسها ببسمة طفيفة وهي تردف بمودة
"صباح النور"
تجول بنظراته على هيئتها عن قرب لبرهة قبل ان يعود بنظره لعينيها وهو يهمس باهتمام مبتسم
"يبدو بأنكِ قد استعددتِ جيدا للعودة لفصول الجامعة ، هل انتِ متحمسة لاستكمال ما فاتك من سنوات بالجامعة ؟"
اتسعت ابتسامتها بشوق وهي تهمس بسعادة غامرة برقت بمقلتيها بشموس مبتهجة
"اجل متحمسة جدا ، ولا استطيع الانتظار اكثر لرؤية اساتذتي وطلاب دفعتي ، كم هو امر مشوق العودة لتلك الايام !"
تغضنت ابتسامته بوجوم وهو يعقب قائلا باقتضاب جاف
"كان من المفترض ان تتخرجي منذ شهر ، ولكن انظري لقد اخذتي شهر كامل من حياتك وهدرته من اجل شيء لا يستحق ، ولقد كنت السبب بسرقة هذا الشهر منكِ والذي كلفك نصف عمرك وحول حياتك لتعاسة"
غامت ملامحها بضبابية آسرة وهي تلوح بكفها بتلقائية تنفض الغيوم عنهما هامسة بابتسامة ظريفة
"لا تفكر بالأمر من هذا المنظور ، فالعبرة تكون بالنهايات واما البدايات تكون فقط تمهيد بحياتنا لاستقبال الافضل ، وانظر إلي ما ازال بريعان شبابي لم افقد قوتي وشغفي بالدراسة بعد ! فقد اخذ مني الامر شهرين فقط من عمري الحالي والذي يناهز الحادي والعشرون"
اخفض (مازن) عينيه العسليتين ارضا بشعور بالندم القاتل وهو يقول بوجوم متلبد
"يبدو بأنني لم استطع تقديم شيء جيد لكِ طيلة السنوات الحادية والعشرون من عمرك ! فقد قضيتها بين التجريح والشتم والضرب بسبب شخصيتي المتعجرفة والتي اخذتها طيلة تلك السنوات ، ولم افلح يوما بتقمص شخصية الاخ الجيد معكِ الذي كنتِ تتمنينه دائما ، لذا ارجو ان تسامحيني على كل تلك السنوات التي اخذت من حياتكِ الكثير ، ارجو ان تغفري لي زلاتي ولا تحملي الضغينة بقلبك ! فأنتِ تستحقين السعادة يا صفاء"
حفرت ابتسامة عميقة فوق ملامحها الناعمة وهي تمسح بطرف اصابعها تحت مقلتيها الواسعتين ، لتربت بعدها على كتفه بخفة وهي تهمس بعطف رغم الألم الغائر بداخلها
"لا بأس يا شقيقي الغالي ، كل شيء قد حدث بالأمس اصبح بالماضي ، لذا لا تشغل بالك به وابتهج ، فلا شيء يستحق الحزن عليه بعد الآن"
اومأ (مازن) برأسه بشرود بدون ان تتبدل حاله وهو ينظر بنقطة بعيدة ، لتتنفس بعدها بإجهاد وهي تلوح بيديها بعشوائية وكأنها تنفض هالة الحزن هاتفة بلهفة طفولية
"انسى كل شيء تحدثنا عنه الآن ، فأنت الآن تعكر مزاجي بأول يوم ببداية حياتي الجديدة ، وانا لا اطيق صبرا حتى اعود لاستكمال ما فاتني من فصول دراسية بالجامعة واغرق بالكتب والاختبارات حتى تسود عيني وانسى طعم النوم !"
حدق بها بحاجب واحد ساخر بعد ان زالت غلالة الحزن عنه وهو يقول بحنق متذمر
"لم ارى بحياتي من هو بكل هذا الشوق للعودة للدراسة والمذاكرة واسوء جزء بحياة الانسان ! لقد كانت اتعس ايام حياتي عندما كنت اتعرض للضرب والتوبيخ بسبب صعوبة حفظ جدول الضرب والذي كان اصعب من صحوة الصباح ، ولن انسى تعداد اصفار الاختبارات والتي كنت اتعرض بسببها للحبس القسري والحرمان من اللعب شهور حتى احسن درجاتي والتي لا ترتفع مهما حاولت ، اكثر شيء كنت اجيده بتلك الايام الصعبة هو اللحاق بطابور الصباح وحساب عدد الضربات التي كنت اتعرض لها من عصا اساتذتي التي تسلخ الجلد عن العظم"
عضت على طرف شفتيها بضحكة خرجت بدون وعي منها وهي تضم قبضتها فوق بطنها بحركة عابرة قائلة بسعادة حالمة
"لقد كانت ماسة على حق عندما قالت عنك بأن السلحفاة اسرع منك بالحفظ والارنب يجيد الحساب افضل منك ، وقد كانت محقة بنهاية المطاف فقد لائمتك تلك الإشعارات كثيرا وانت تحارب لتنتقل للمستوى الاعلى بالمدرسة ، فقد كانوا ينقلونك اساتذتك مرغمين للصف التالي لكي يتخلصوا منك ومن بلاويك ، هذه كانت دعوات الحكيمة ماسة والتي كانت تراك حالة ميؤوس منها بالمجتمع والعالم !"
تلبدت ملامحه بصفحة جليدية عبثت بقنوات عقله وهو يقول بموضوع آخر طرأ على باله
"ذكرتني كنت اريد سؤالكِ عن موضوع ، لماذا لم تأتي ماسة اليوم ؟ ألم تكونا تتفقان على الذهاب للجامعة معا ! ام انكما قررتما اللقاء بالجامعة !"
عضت (صفاء) على زاوية شفتيها بارتباك وهي تهمس بخفوت تتقمص اللامبالاة
"لن تستطيع المجيئ فقد طرأ لها عمل طارئ ولن تقدر على فعلها ، ربما بيوم آخر نذهب معا !"
اشاح (مازن) بوجهه جانبا وهو يهمهم ببرود
"لا بأس بذلك ، قد تكون تهربت عندما علمت بأنني من سأوصلك للجامعة بنفسي"
تغضن جبينها باضطراب وهي تهمس بابتسامة صغيرة بتودد
"لا تقل ذلك فأنا لم اخبرها بعد بأنك من ستوصلني بسيارتك ، يعني تراجعت قبل ان تعلم بذلك ، ليس لك علاقة بالأمر"
حرك رأسه بوجوم اكبر بدون ان يعلق على كلامها الاخير والذي كان هدفه تحسين صورته ، لتزفر انفاسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة حانية بدفء
"هل ما تزال تحمل الامل نحوها يا مازن ؟"
صمت للحظات قبل ان يحرك كتفيه ببرود وهو يعقب قائلا بلا تعبير محدد
"لا اعلم بالنسبة لهذا الامر يا صفاء ! ولكني لا استطيع سوى الشعور بالخسارة والندامة على اضاعتها عندما كانت يوما بمتناول يدي ! عندما كانت تدور وتلعب وتحيك الحيل امام عيني بدون ان يفصلني عنها شيء ، وانظري الآن لقد اصبحت اتوسل واترجى نظرة واحدة منها قد تعيدها لي وتحيي ذلك الامل من جديد ! ومع ذلك فأنا استحق كل ما حدث ويحدث معي فهي جزء من ذنوبي واخطائي بالعالم التي عادت لي بنهاية المطاف واذاقتني المرار والويل"
ضيقت حدقتيها العسليتين بحزن عميق وحسرة تشعر بها لأول مرة اتجاه شقيقها الكبير الذي يعاني من لوعة العشق المتأخر ، لتستمر بعدها بمسح بطنها بحلقات شاردة وهي تهمس بابتسامة عاطفية لونتها بمحبة
"عليك ان تمضي عنها وتنساها ، لن يفيدك تذكرها والعيش على املها سوى بجلب الوجع لك ، لذا عليك ان تصنع امل جديد مختلف تعيش على تحقيقه المتبقي من عمرك"
اعاد عينيه للأمام بصمت قبل ان ينحرف بعينيه للأسفل وهو يقول بتفكير هادئ
"ما خطب معدتك ؟ هل يؤلمك شيء بها ؟ فأنتِ تضعين يدكِ عليها منذ بداية حديثنا"
رفعت يدها بسرعة بارتباك وهي تعيد خصلات خلف اذنها هامسة بخفوت محرج
"لا لا يوجد شيء ، كل شيء على افضل ما يرام"
اومأ (مازن) برأسه بهدوء بدون ان يستغرق بالتفكير طويلا وهو يستدير بعيدا عنها ، ليقول بعدها بعملية جادة ينهي الحديث
"حسنا انا سأسبقكِ بإخراج السيارة من المرآب ، وانتِ عجلي بالخروج بسرعة ، فلا اريد ان اتأخر على ابي بدار النشر ، لكي لا اتلقى توبيخ آخر منه على تقصيري بالعمل"
اومأت برأسها بابتسامة زاهية بامتنان وهي تتأمل ظهره بعد ان خرج من الغرفة بلحظات ، لتستدير بعدها امام المرآة مجددا وهي تضم يديها امام بطنها المسطحة هامسة لها بلهفة غريزية
"لن اخبر عنك احد حتى تستقر تماما ، فأنت ستكون سري الصغير !"
اتسعت ابتسامتها بسعادة غمرت كيانها وهي تلف ذراعيها حول نفسها باحتضان دافئ امومي مملوء بحفنات من التفاؤل التي اصبحت تتشبث بها كما كانت تفعل بالماضي وكأنه هدية القدر الذي انبعث لها بأسوء اوقاتها تعاسة .
_______________________________
كان يقلب بالملفات بين يديه وهو يتفحصها الواحدة تلو الاخرى ويرمي الذي انتهى منه بالقمامة بجانب الطاولة ، ليمر بين يديه ملف مختلف عن باقي الملفات يحمل قصة طويلة وإخفاق ساحق وفشل ذريع من كل الجوانب انتهت منذ شهر تقريبا ، وما تزال آثارها تلحق به لهذا اليوم وتعذب قلبه العاشق وعقله الذي لا يفكر بسواها ، فهذا هو ملف صفقة روسيا التي كان من المفترض ان تقلع طائرتها منذ شهر تقريبا قبل ان ينقلب كل شيء ويتحول للأسوء لتصبح تلك الفكرة صعبة التحقيق ، وهو ما يزال يذكر جيدا غضب والده ورئيس الشركة والذي فجره لأول مرة على مدار سنوات من العمل برفقته وكله بسبب ألغاء الرحلة ، ليضطر والده بالنهاية للرضوخ للوضع الراهن وارسال موظف آخر بالشركة من طاقم النخبة لإنجاز الصفقة وانهاءها ، وهذا بعد سيل من التوبيخ والتقريع وخطاب طويل عن مسؤوليات العمل الموكلة إليه وهو يشحنها بطاقة غضب كادت تهدم المكتب فوق رأسه ، ولن ينسى الكلمات الاخيرة التي قالها والده بنهاية الخطاب يعلن عن نهاية النقاش الغاضب
(عليك ان تعلم بأنك لن تكسب شيء من هذه الافعال ، ونهاية هذا التمرد ستكون الخسارة ، ولا تقل بأني لم احذرك !)
تنفس بجمود خاوي وهو يلقي بالملف بسلة النفايات مع كل الآمال والاحلام التي وضعها بهذه الصفقة ، فلم يكن من الصحة ابدا مغادرة البلد وهو بهذه الحالة العصبية التي اقل مشكلة قد تشعل طبول الحرب بالمكان ولن يخمدها عندها شيء ، فكيف بالسفر بالطائرة ساعات والعيش بغربة ببلد آخر ؟ لن يتحمل ذلك ! لن يتحمل ابدا !
وضع الملفات جانبا وهو يمسد جبينه بكلتا يديه بصداع لحظي عاد لمداهمته ، ليشد بعدها سمعه صوت دخول احدهم للجناح يتبعها إيقاع الخطوات المتزنة بصمت بخلاف الحروب التي شنتها بداخله ، وهو يجزم بشم رائحة عطرها بالقرنفل الفواح والذي تتعمد استخدامه بأغلب عطورها ومستحضرات تجميلها وباستحمامها وبغسيل ملابسها ، وعندما سألها عن السبب ذات يوم اجابته ببساطة بأنه يحافظ على مناعة الانسان ويسكن الآلام وعلاج جيد لكل الامراض ، ومنذ ذلك الوقت وهو يدمن تلك الرائحة التي جعلته يشتهيها ويتذوقها منها كل يوم ، تلك المجنونة مهووسة الروائح الطبيعية !
ما ان قطعت خطواتها مسافة قصيرة حتى التقطت اذنه همستها الهادئة برسمية
"صباح الخير"
رفع نظره بسرعة ما ان اكملت سيرها بدون ادنى انتظار وهي تتجه للغرفة ، ليقول بسرعة بحزم وهو يريح يديه على ركبتيه
"توقفي بمكانكِ يا روميساء ، هناك ما اريد التكلم معكِ عنه ، لذا هلا اقتربتِ امامي رجاءً ؟"
اخذت (روميساء) عدة لحظات وهي تمسك بإطار باب الغرفة لتقول بعدها بهدوء باهت
"هل هو يتضمن عن حديث الامس ؟ فأنا لا اريد النقاش عن الموضوع اكثر"
تلبدت ملامحه بجمود وهو يتأمل سكونها والذي يبعث به كل المشاعر الخالدة قبل ان يقول بعملية جافة
"لا يتضمن اي شيء مما حدث بالأمس ، لذا هلا انصتي لكلامي رجاءً واقتربتِ !"
اومأت (روميساء) برأسها بشرود وهي تحرك كتفيها قائلة ببرود
"حسنا ، ليكن ذلك"
عقد حاجبيه بتركيز وهو يتابعها تقترب امامه بخطوات هادئة حتى لفحته برائحة القرنفل العذبة التي اكتسحت فراغ قلبه ، وما ان وقفت عند الطرف الآخر من الطاولة حتى كتفت ذراعيها بتصلب وهي تنظر بكل مكان ما عداه هامسة بعدم اهتمام
"إذاً عن ماذا تريد التكلم معي ؟! فأنا على عجلة من امري"
حرك عينيه جانبا وهو يتجاهل وقاحتها ليتمالك بعدها نفسه وهو يقول بجدية صارمة
"حسنا ، بخصوص الموضوع الذي سنتكلم عنه....."
توقف (احمد) عن الكلام بوجوم ما ان لاحظ شرود نظراتها بعيدا وكأنه يكلم الهواء والمستمع بعالم آخر ، قطب جبينه بجمود وهو يضرب بقبضته على ركبته قائلا بغضب غير مقروء
"روميساء انا اتكلم معكِ ! أليس لديكِ بعض حسن الاستماع والنظر لطرف المتكلم من باب الذوق والاحترام ؟ فأنا لن استطيع الكلام معكِ وانتِ تتخذين هذه الوضعية المزعجة"
تشنجت خطوط ملامحه ما ان برزت طرف ابتسامتها المتشفية وهي تتبعها بهمس بارد باستهزاء
"هل تذكر هذا الموقف من قبل يا احمد ؟ لقد اتخذته ضدي عندما كنا بالسيارة بعد مشكلة اقتحام منزل احد طلابي ، لم تكن تتجرأ على النظر لي وانا اخاطبك واتوسل لك لتسمعني وتعطيني حقي بالتبرير ، والآن عندما جاء دوري بالعتاب والمخاصمة لم يروق لك الوضع ! أليس لدي الحق بالغضب واخذ موقف منك ؟ هل هذا الشعور ممنوع عني كما منعت عني كل شيء وحكمت عليّ بالموت حية ؟"
اعتلت ملامحه غمامة سوداء داكنة وهو يعقب قائلا بانفعال هادر
"تعلمين جيدا بأن هناك اختلافات بين الموقفين ! وبأنكِ سبب كل خصام حدث معنا للآن ، ومع ذلك ما ازال اتجاهل واكتم على الجرح لكي لا يصل الامر لمنحنيات اخرى نحن بغنى عنها ، لذا لا تحاولي تقمص دور المظلوم امامي وتبدأي بالعتاب على شيء فارغ كنت قد تغاضيت عنه"
نفضت ذراعيها للأسفل بحركة عنيفة وهي تنظر له لأول مرة بتلك العينين المعذبتين قبل ان تقول باستنكار حاد خرج عن إراداتها
"هذا بالنسبة لنظرتك للأمر يا احمد ، ولكن بالنسبة لي فقد كان اكبر بكثير من مجرد شيء فارغ او غير مهم ! فقد كان طعن بكبريائي وتشكيك بثقتي بنفسي وجرح بكرامتي التي اهدرتها على مدار الشهر الفائت......"
قاطعها (احمد) بصرخة واحدة بنذير الخطر العاصف
"روميساء !"
كتمت انفاسها بطرف اسنانها على شفتها السفلى بدون الإتيان بحركة اخرى بعد ان جمد اطرافها بعينيه الثاقبتين هزئت قلبها ، لتتنفس بعدها بأنفاس قصيرة مجهدة وهي تتمتم بوجوم
"ماذا تريد مني يا احمد ؟"
فك اسر نظراتها وهو يخفض عينيه ليلتقط ورقة من بين الملفات المكدسة ، ليرفع بعدها الورقة لها وهو يقول بعملية جادة
"هذا استبيان الانتقال لمدرستك الجديدة بمنتصف الفصل الدراسي ، لقد عبئت معلوماتكِ كاملة فقط ينقصه توقيعك لأستطيع تسليمه للإدارة بالمدرسة ليتم قبولك رسمياً ، لذا انهي الامر وانجزي التوقيع بسرعة لكي اكمل الإجراءات"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بغابات مطرية وهي تهمس باستيعاب متأخر
"ماذا فعلت ؟"
ألجمت انفاسه لوهلة بدون ان يسمح للشفقة بتخلل رقاق قلبه وهو يلوح بالورقة نحوها قائلا بتقاسيم متحجرة
"لقد اتفقنا بذلك مسبقا وتحاورنا بالأمر يا روميساء ، لذا ليس هناك تراجع بهذا الموضوع بعد الآن ، وكلما اسرعتِ بالإنجاز وانتقلتِ لمكانكِ الجديد سيكون افضل لنا"
عقدت حاجبيها بتصلب طاف على محياها وهي تستلم الورقة منه بأطراف اصابعها ، لترفعها بعدها امام ناظريها وهي تتمعن بها بتدقيق بطيء مهلك ، وبعد عدة لحظات كانت تقلب الورقة امام عينيه المترقبتين وهي تمزقها نصفين بدون ادنى تردد قبل ان تلقي بالشقين بسلة القمامة بجواره .
مسحت يديها بقميصها العملي بحركة سخرية مقصودة لتشير بعدها بأصبعها السبابة جهة سلة النفايات وهي تردف ببرود قاتم
"لن تستطيع اجراء اي شيء يخص حياتي إذا لم يكن برضاي ، فهذه حياتي انا وهذه وظيفتي انا وهذه طموحاتي واهدافي انا ، فأنا لم ادرس واكافح بالوظائف طيلة تلك السنوات ليأتي من يتحكم بسير وظيفتي ويشكك بولائي واخلاصي لمهنتي ! لذا إذا لم يكن هناك دافع قوي يجعلني انتقل من وظيفتي الحالية فلن اتحرك منها ، فلست انت من تعب بتعليمي ولست انت من كان يكافح بسوق العمل ولست انت من اهتم بمصاريفي واحتياجاتي آنذاك ! لذا ليس لديك تبرير قوي او حجة تعطيك الحق بالتحكم بمسير وظيفتي ، ولا حتى الزواج يعطيك هذا الحق فقد بني منذ البداية على المصلحة ! وعندما انتهت المصالح انتهى معها التنازل"
كان (احمد) يضيق حدقتيه الرماديتين بتكتلات العواصف ضاق معه صدره وانقبضت يديه بانحصار الدماء بباطن كفيهما ، وما ان كان على وشك الكلام حتى تحركت من امامه وهي تتجه مباشرة للغرفة التي كانت على وشك دخولها سابقا ، ليزفر بعدها انفاسه بكبت ثائر بعد ان اخرجت الشياطين من عقله بتمردها الشرس .
نهض من مكانه بقوة وهو يلحقها لباب الغرفة ، وقبل ان يصل كانت تخرج من الغرفة مجددا وهي تحمل حقيبتها على كتفها تنوي المغادرة ، ليقف بطريقها بلمح البصر مثل الصرح العالي وهو يقول باستهجان صارم
"إلى اين تريدين الذهاب ؟ لقد انتهى دوام المدرسة ولم يعد هناك عمل تذهبين له ! هل تفكرين بالعمل بأيام العطلة كذلك ؟"
اشاحت (روميساء) بوجهها جانبا بجمود وهي تقول بتشدق ساخر
"لقد قررت المرور على منازل كُل من طلابي واعطاءهم دروس خصوصية ، ما رأيك بهذه الفكرة العظيمة ؟......"
قاطعها (احمد) بغضب مكتوم وهو يقبض على ذراعها بقوة
"لا تختبري صبري معكِ يا روميساء ! فهذا الموضوع لا يقبل المزاح او السخرية عليه ، وانا ما ازال اعطيكِ الحرية بالعمل بوظيفتك والتحرك بحياتك بطبيعية لأني اثق بكِ رغم كل شيء رأيته وسمعته ، لذا لا تندميني على هذه الثقة !"
اتسعت ابتسامتها بدون اي مرح وهي تنزع ذراعها بعيدا عنه هامسة باستهزاء خافت
"ليس هكذا تكون الثقة يا احمد ! احيانا تشعرني بأنك لم تجرب الثقة بحياتك ، هل وثقت بأحدهم قبلا ؟ ألم يعلمك احد كيف تكون الثقة ؟ وكيف طريقة كسبها !"
حدق بها بجمود قاسي قيد نظراتهما برباط خفي لوهلة قبل ان تعدل حزام الحقيبة فوق كتفها وهي تهمس بخفوت جاف
"سأذهب للمرور على المدرسة فقد استدعتني المديرة لكي اساعدها بموضوع نقل الطلاب الجدد والمتسربين حسب ملفاتهم ومعلوماتهم ، وانا قد قبلت مساعدتها بما انني متفرغة تماما واحب تقديم المساعدة لها فقد ساندتني وعاونتني كثيرا من قبل ، لذا هلا تسمح لي بالذهاب رجاءً ؟"
ادار (احمد) وجهه جانبا بغموض وهو يقول بحزم جاد
"ولم تجد غيركِ من موظفين المدرسة لتوكل له هذه المهمة وتستنجد بكِ ! على كل حال حاولي العودة مبكرا ولا تتأخري كثيرا بالخارج"
حانت منها التفاتة نحوه وهي تتحرك للخلف خطوتين قائلة ببرود اكتسح محياها
"ليس هناك داعي لهذه الشكليات الفارغة ، فأنت بكل الاحوال ستعرف كل شيء من السائق الخاص الذي وضعته فوق رأسي مثل الجاسوس المتعقب ! وكأنني مجرمة هاربة من العدالة وتخاف من ان يتم خداعك وتهرب بعدها من بين يديكِ !"
ضمت شفتيها بعبوس طفيف وهي تقترب منه اكثر لترفع رأسها بإيباء وهي تهمس بأسى خافت
"بدلا من اضاعة وقتك بمراقبة خطواتي وحفظ حركاتي ، عليك ان تتعلم بعض الدروس بالثقة واعطاء الطرف الآخر تلك الثقة ، فليس الحياة كلها اخذ فقط هناك ايضا عطاء بكل علاقة !"
بعد ان انهت كلامها سحبت نفسها وهي تخرج من الجناح بأكمله بدون ان تضيف المزيد على كلامها ، بينما كانت ما تزال العينين الثاقبتين تراقبين خروجها وهو يستنشق عبير القرنفل الذي ملئ مكانها بمرض خطير بدل ان يكون العلاج ومسكن لتلك الآلام .
_______________________________
كان صوت طرقات خفيضة تخترق نسيج عقلها المغيب وكأنها شبكة عنكبوت منسوجة بخيوط حريرية معقودة من حولها ، وهي تشعر بأوزان كبيرة فوق جفنيها الثقيلين بدون ان تملك القدرة على فتحهما سنتمتر واحد بإجهاد جبار قد تجاوز قوة جسدها الطبيعية ، وبعدها بلحظة خاطفة كانت تقشعر بدنها بشعور دافئ داعب بشرتها تحت سطح بارد وكأنها بركان خامد اعاد تنشيطه وفتح فوهته بمشاعر ثائرة ، ولم يوقظها من غفلة المشاعر سوى انطباق تلك الفوهة بشعلة نارية ألهبت انفاسها وتدفقت بهياج حامي بكامل جسدها الذي عاد من سباته ومن فجوته السحيقة .
انتفضت (غزل) بشهقة ناعمة مثل خرير القطة وهي تفتح عينيها على اقصى اتساعهما باندفاع غريزي ، لتلين بعدها تقاسيمها لوهلة ما ان وقعت عينيها العسليتين بكرياتهما الدموية على الوجه المقابل لها والذي لا يفصل بينهما سوى إنش واحد ، وهي تكتشف بإدراك متأخر سبب ذلك الحلم الخيالي الذي مر على غفوتها بلمسات ناعمة مثل اجنحة الفراشات ، لتضم شفتيها الصغيرتين بصراع عصيب وهي تهمس من بينهما بكلمة تسربت رغما عنها بإيقاع منغم
"هشام !"
رفرفت بجفنيها برعشة مداعبة ما ان اطبق على شفتيها بقبلة عميقة تظهر الشغف والوله بها بجرعة اكبر فاقت احتمال قلبها الصغير وغمرت مشاعرها الوليدة ، وما ان كادت تغيب عن العالم مجددا حتى كان يحررها بلحظة وهو يتبعها بقبلات صغيرة ناعمة حد الإدمان لا تستطيع الاكتفاء منها ، لتعود بعدها لوعيها ما ان لاحظت انجماد الدماء بأوردتها وبالأجواء من حولها والغمامة الدافئة تبتعد عنها رويدا رويدا ، وما ان رفعت وجهها عاليا حتى قابلت وجهه الجامد الذي يعلوها بقناع البرود القاسي ، قبل ان يزيح وجهه بعيدا ينهي تلك الحروب العاطفية بينهما وهو يهمس بجدية وكأنه يكلم الفراغ
"لقد احضرت خدمة الفنادق قائمة الفطور ، لذا تجهزي بسرعة واخرجي"
ابتلعت ريقها بغصة حارقة زادت خفقات صدرها وهو يكمل طريقه من امامها خارج الغرفة ، بعدها بلحظات سمعت صوته مجددا يتردد لها من بعيد وكأنها جبال تفصل بينهما
"لا تتأخري بالخروج"
عصرت جفنيها الحمراوين بشدة ما ان اغلق باب الغرفة من خلفه لتسود اجواء من البرود الصقيعي كما حدث بالأمس وكأنه يعيد الشريط مجددا ، بدون ان يكتفي بتعذيبها مرة واحدة بتلك النيران التي يحرقها بها بعاطفة قوية قبل ان تنسحب ببطء خادع وترميها بنفس الهوة ! فتحت جفنيها بدموع حبيسة وهي تمسح بكفها على خديها وعلى زاوية شفتيها بقوة وكأنها تفرك ذلك الشعور الخائن عنها والذي جرفها مثل التيار .
نهضت عن السرير وهي تجمع اكوام من حرير فستانها الطويل قبل ان تقف باستقامة وهي تجر خطاها للحمام المرفق ، بعدها بعشر دقائق كانت تخرج من الغرفة وهي تمشي بتردد خجول ويديها مضمومتين امام خصرها بتوتر مفرط ، وما ان وقفت امام المائدة المنظم فوقها اطباق الفطور حتى رفع الجالس نظره نحوها وهو يأخذ وقته بتأملها بصمت شديد ، كانت ترتدي فستان قصير بلون القهوة يصل لركبتيها بأكمام قصيرة منتفخة وبياقة واسعة مستديرة وشريطة سوداء معقودة عند منتصف خصرها ، واما شعرها القصير فقد عاد مصفف بنعومة يحدد دائرة وجهها الصغير بدون اي زينة او إكسسوارات ما عدا مشبك من اللؤلؤ والعقيق امسكت به غرتها عند جانب رأسها برقة .
اخفض (هشام) عينيه قليلا بعد ان اكتفى من تفحصها وهو يفرد ذراعه امامها قائلا بهدوء جاد
"هل تنتظرين دعوة للجلوس على مائدة الفطور ؟ هل ارجع لكِ الكرسي لتستطيعي الجلوس عليه !"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي ترجع الكرسي امامها لتجلس من فوقه بأدب ، ضمت يديها تحت سطح الطاولة بحياء وهي تشاهد الاطباق الموزعة امامها بعناية وترتيب بدون ان تبادر بحركة اخرى وكأنها تنتظر تطوع الجالس بالجهة المقابلة لتكون البداية له ، وما ان طال الصمت اكثر حتى قطعه (هشام) بصوت خفيض تغيرت نبرته بلطف مريب
"صحيح لقد نسيت الامر تماما ، صباح الخير يا زوجتي العزيزة ، اخيرا لقد اصبح بإمكاني الآن ألقاء تحية الصباح امامكِ شخصياً بدون ان يفصل بيننا مسافات او عبر رسائل مملة لن تكون بروعة تجربتها على ارض الواقع امام بعضنا وتحت سقف واحد ! ألا توافقيني بالرأي ايضا ؟"
احمرت وجنتيها بجمرتين مشتعلتين وهو يقول ما كان يدور بتفكيرها وخلدها منذ البارحة ، والآن بعد ان قال الامر مباشرة تشعر بنفسها تكاد تذوب بمكانها وتتحلل تحت الطاولة بعيدا عن الانظار ، لتفك ترابط يديها وهي ترفع يد لتلمس شفتها السفلى بضغط لا إرادي ما ان تذكرت قبلات الصباح العاطفية والتي تحولت لها رسالة تحية الصباح الجافة لقبلات شغوفة صريحة .
افاقت (غزل) على صوته الذي اقتحم خيالها المرهف وهو يقول بانتباه ساخر بعث القشعريرة بنفسها
"هل ما تزال قبلاتي تترك الاثر بقلبك المرهق ؟ يبدو بأنها قد اضافت نكهة جديدة لصباح زواجنا الأول ، ولكن لا تتأملي ان تكون نفس القبلات الشحيحة بكل مرة فلن تكفينا لإنجاب الاطفال كما تعرفين !"
ارتجفت اصابع يدها وهي تخفضها بقوة لا إرادية حتى عادت لتحشرها بين ساقيها قبل ان تهمس باضطراب مثير للشفقة
"لا الامر ليس كما يبدو ! انا اقصد بأنه ليس هكذا ، او انسى ما قلته الآن !"
تلبدت ملامحه بصمت وهي تتحاشى النظر له بخجل يكاد يفتك بها ، ليدير بعدها عينيه جانبا وهو يتمتم ببرود جليدي
"يا لكِ من مثيرة للشفقة !"
عضت على طرف شفتيها بوجع اجادت اخفائه بصميم قلبها الذي تمزق شر تمزيق تحت سطوة كلماته ، لتسمع بعدها صوت تحرك ادوات المائدة من ملاعق وشوك وهو يردف قائلا باهتمام جاف
"لقد تأخرتِ كثيرا بالاستيقاظ اليوم ! حاولت كثيرا الطرق على الباب والهتاف باسمكِ بدون ان يفلح معكِ شيء ، هل انتِ هكذا دائما نومكِ ثقيل ولا يجدي معكِ اي وسيلة لإيقاظك سوى بالاقتراب منكِ والصراخ بأذنك ؟"
لعقت طرف شفتيها بحركة عفوية وهي تهمس بابتسامة صغيرة بحزن
"نعم نومي ثقيل بعض الشيء ، فلا استطيع سماع الصوت الخافت او البعيد عني ، وقد كنت افوت دائما سماع صوت المنبه رغم وضعه بجانبي لكي استطيع سماعه والاستيقاظ عليه ، ولكني سأحاول من الآن وصاعدا ضبط المنبه من جديد لكي لا ازعجك بمهمة إيقاظي"
ارتفع حاجبيه بتفكير شارد لبرهة قبل ان ينظر لها بتدقيق وهو يعقب قائلا بابتسامة ظهرت بمرح لأول مرة
"الآن عرفت سبب تأخرك بحضور محاضراتك الصباحية بالمنزل ! وبذلك اليوم الذي قدمتي به اختبار بمكتبي وتأخرتِ عن الموعد المحدد ، يبدو بأنكِ تعانين من مشكلة عصيبة بحياتك"
اومأت (غزل) برأسها بلا معنى بدون ان تعلم ما سبب ذلك الإيماء المبهم والذي لا يدل سوى على موافقتها بسخريته واستصغار نفسها امامه ، ليتابع كلامه الذي انقلب عن المرح وهو يطرق بطرف الملعقة على الكأس الخزفي
"عليكِ ان تحاولي ضبط نظام حياتك وتغيير إعداداتك القديمة ، فأنتِ لم تعودي تعيشين حياة العزوبية بل اصبحت امرأة متزوجة مسؤولة عن منزل وعائلة ! وكلما استوعبتِ بشكل اسرع ما ينطوي عليكِ من واجبات وخدمات زوجية سيكون الامر اسهل علينا ، وتذكري بأن قبلات الصباح والنوم الهانئ لن تتكرر بحياتنا المقبلة كل يوم ، يعني بعد عودتنا من شهر العسل للاستقرار بمنزلنا ، لذا لا تفرحي كثيرا بما حدث وتعيشي سعادتكِ طويلا !"
رمقته بطرف حدقتيها باضطراب تجلى على محياها قبل ان تخفضهما بسرعة بشعور بالارتخاء والخضوع التام وكأنها تسلم مصيرها كيفما كان ، فهو ليس لديه علم بتاتا بأن سبب نومها الثقيل هي المهدئات والمسكنات التي كانت تتناولها بكثرة فيما مضى لتستطيع النوم بطبيعية بعيدا عن إزعاجات ضيق تنفسها وانخفاض نبضات قلبها الذي لم يعطيها الراحة يوما ، وهي ما تزال للآن تجاهد لتستطيع الحصول على نوم طبيعي مثل البشر الطبيعيين وكسب الحب والعيش بسعادة كما يفعلون وكأنهم قد فازوا بامتلاك العالم بأرضها وبحارها وسماءها !
اتسعت حدقتيها بانتباه وهي تلمح اليد التي امسكت بخبز التوست ليدهن سطحها بالمربى باستخدام سكينه الخاصة ، لترتفع بعدها امام عينيها المترقبتين وهو يقضم منها قطعة كبيرة وفمه يتحرك ببطء راقي حتى باستخدام موائد الطعام ، ولا تعلم لما سحرتها حركاته الراقية والمدروسة وهي تصبح مهووسة ومفتونة بكل اساليب واستراتيجيات حياته المثيرة للاهتمام !
رفعت عينيها بهدوء ما ان اصبحت محط استجواب وهو يقول بهدوء جاد
"ألا تريدين البدء بتناول فطورك ؟ ام تريدين لهذا الامر دعوة ايضا !"
حركت (غزل) رأسها بتشتت وهي تخفض نظرها بسرعة لأطباق الطعام الكثيرة التي سببت لها تلبك بمعدتها بدون داعي ، لتهمس بعدها بإحراج خافت
"لا اشعر برغبة بتناول الطعام ، ولا احبذ تناول الفطور بساعة مبكرة من الصباح"
كان (هشام) يؤكل خبز التوست الخاص به وهو يمثل التفكير ليقول بعدها بهدوء بارد
"هل سترفعين حظر الطعام على نفسكِ من الآن ؟ يمكنكِ فعلها بعد عودتنا من فندق شهر العسل ، ولكن الآن عليكِ بمحاولة استغلال كل وقتكِ بتناول اطعمة الفنادق الفاخرة والنوم الهانئ بأغلى الافرشة والخروج من عالمكِ الصغير ، وألا لن تعيشي هذه المتعة مرة اخرى وستندمين على تفويتها من بين يديكِ !"
عبست ملامحها بانكسار طفيف وهي تهمس بأسى
"غير صحيح ، لقد فهمت الامر بشكل خاطئ ! فهذه لم تكن يوما من اهتماماتي....."
قاطعها (هشام) وهو يدهن سطح خبز توست اخرى قائلا بابتسامة جانبية بمغزى
"الآن فهمتكِ جيدا ، انتِ تحاولين التدلل على زوجكِ بطرق غير مباشرة ، يروق لكِ التدلل يا عروس ، ويروقني انا اكثر !"
انعقد حاجبيها الصغيرين بتعجب وهو يمد لها خبز التوست بعد ان انتهى من دهنها قائلا بلطف لا يحمل اي مودة
"هيا لا تخجلي واقضمي منها ، كُلي من يدي زوجكِ ولا تخجلي ، فهذا طقس مهم من طقوس زواجنا المقدس بأول فطور لنا"
تشنجت ملامحها وهي تشيح بوجهها بفورة الدماء التي اشعلها وهي تهمس بانفعال لا إرادي
"لا اريد منك شيء ، رجاءً توقف عن تقمص هذا الدور !"
تسمرت يده بالهواء لوهلة قبل ان تنخفض بهدوء بدون صوت ليقول بعدها ببساطة مريبة
"كما تشائين ، انتِ ادرى بمصلحة نفسكِ ، وانا لا احب الضغط على احد"
ضمت شفتيها بصمت وهي مشغولة بالشرود بالبعيد بدون اي ردّ ، لتسمع بعدها صوت تحرك الكرسي للخلف ببطء وهو يعلن عن نهوض صاحبه ، وبعدها بلحظات قصيرة سمعت همس خافت وكأنها قطعة ثلج وقعت بقلبها
"بالهناء والشفاء"
تبعها بعدها وقع الخطوات الجامدة التي خرجت من المكان ومن الجناح بأكمله ، قبل ان يغلق الباب بهدوء شديد كان له صدى مدوي بصمت المكان الغارق بالسكون والخيبة .
انتقلت عينيها بلا وعي للطبق امامها والذي استقر فوقه خبز التوست الذي قام بدهنه وتقديمه لها ، لترفع يدها بارتجاف ناحية طبقها وهي تلتقط الخبز بأناملها الصغيرة ، وما ان رفعته لشفتيها حتى قضمت منه بصمت قطعة صغيرة كانت كافية لتحرض الدموع بمقلتيها وهي تجلب الآلام لنفسها وكأنها تقول للألم مرحبا وتقول للسعادة وداعا ! فهي هكذا دائما كما قال عنها مثيرة للشفقة !...
_______________________________
فتح الباب بهدوء وهو يتأمل المكان الغارق بظلمة حالكة وكأن لا سكان يعيشون بهذا المنزل ، ليضغط بعدها على مفتاح الضوء وهو ينشر النور ببهو الشقة الصغيرة ليوضح مدى الرؤية امامه ، وبعد بحث دام للحظات وجدها اخيرا ساكنة بجوار الجدار وهي تكور جسدها حول نفسها وحيدة بمنتصف الفوضى التي اثارتها بالأنحاء ، وهي تبدو مثل كرة مشحونة بشحنات سالبة اصطدمت بكل زاوية وغرض بقوة تدميرية قبل ان تستكين بزاوية الجدار بعد ان اجهدت قواها وانتهت طاقتها التدميرية التي تحلت بها ببداية اليوم ، وكم يتمنى لو تبقى هكذا ساكنة ضعيفة بدون اي قوة او طاقة مشحونة اتعبتهما على مدار ايام وشهور .
تنهد باستغفار صامت وهو يتقدم منها عدة خطوات متجاهل الملابس المرتمية بكل الانحاء ، وما ان وصل بالقرب منها حتى انخفض على جذعه بصمت وهو يجثو بجانبها تماما ، ليرفع بعدها يده ببطء وهو يعيد ذيل حصانها الطويل المنسدل على جانب وجهها برفق ، ليخرج بعدها بيده الاخرى كيس بلاستيكي كان بحوزته وهو يخرج منه علبة عصير معدنية .
قرب علبة العصير من خدها الثلجي وهو يلسعه ببرودة معدن العصير ، وبعد مرور لحظتين كانت تفتح شفتيها الحمراوين بأنفاس ساخنة يستطيع الشعور بلهيبها وكأن الحياة تدب بجسدها بشكل تلقائي ، بدون ان تعلم بالمشاعر التي بدأت تغمرهما بتواصل خفي وهو يستشعر اصغر انتفاض ونخزة بجسدها المشتعل مثل كرة اللهب ، وهو يتابع بعينيه رحلة افاقتها المثيرة والتي لم تأخذ اكثر من عشر ثواني قبل ان تشهق بانتحاب لا شعوري وهي تنزلق على جانبها بعيدا عن تلك النيران التي اجاد حرقها بها .
تأوهت (ماسة) بألم وهي تستند بذراعها على الارض الباردة وتستخدم يدها الاخرى لتزيح خصلات شعرها عن جانبها لتغطي بأناملها مكان اللسعة التي شعرت بها ، وما ان ادارت وجهها سنتمترات للأعلى حتى ظهر لها هوية المغتال الحقيقي الذي تسلل لحلمها خلسة وايقظها من غفوتها ، لتأخذ بعدها عدة انفاس جليدية وهي تهمس من بين اسنانها التي اصطكت ببعضها من الانفعال والبرد القارص بمفاصلها
"تبا لك !"
ارتفع حاجبيه بمغزى وهو يتجاهل همستها الغاضبة التي ستكون لا تحمل اي رسائل محبة او سعادة برؤيته ، ليراقب بعدها محاولتها العصيبة للجلوس باعتدال وهي تسند ظهرها بالجدار خلفها ، وما ان انتهت حتى تجمدت عينيها الحادتين على علبة العصير بيده بتفكير لا يقبل الاحتمال ، قبل ان تنتشل العلبة منه بلمح البصر وهي ترفعها بوجهه هامسة بأنفاس متسارعة بصوت مغتاظ
"هذه الحركات لم تعد تنطلي عليّ بعد الآن ، فقد اصبحت تثير غضبي وسخطي اكثر من السابق !"
تابع بعينيه الباردتين التي رمت العلبة بعيدا حتى انضمت بين الاغراض المبعثرة ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يشاركها بالجلوس بجوارها عند زاوية الجدار مثل المشردين ، ليفرد بعدها ذراعه وهو يشير بعشوائية للفوضى العارمة قائلا باستياء تمثيلي
"ما هذا الذي فعلته بالمنزل ؟ هل تفعلين هكذا بكل منزل نقرر السكن به !"
كتفت (ماسة) ذراعيها بجمود وهي تهمس بخفوت ساخر بدون اي تعبير
"ما لذي اعادك للمنزل ؟ هل تذكرت للتو بأن هناك حيوان اسير قد حجزته بقفصك اللعين ؟!"
حاد بعينيه نحوها وهو يقول بشبه ابتسامة بدون اي مرح
"لا اسمح لكِ بوصف نفسكِ بهذه التعبيرات والإيحاءات الرخيصة ! ولكن بالتفكير بالأمر فلا انسان عاقل يفعل ما فعلته بالمنزل !"
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تشيح بوجهها بعيدا عن نظره قبل ان تهمس بقنوط مغتاظ
"يا للإزعاج الغير مباشر ! لقد ابهرتني حقا بمدى تهذيبك ورقي اسلوبك !"
ادار (شادي) نظره للأمام ببرود وهو يتابع كلامه السابق بجدية هادئة
"وايضا لا تستطيعين نعت منزلنا الحالي بقفص لعين ، فهذا المنزل له حقوق ايضا باحترام مالكيه والحفاظ على ممتلكاته وسمعته"
رمقته بسرعة بنظرات حارقة وهي تضغط بأسنانها على طرف شفتيها هامسة بهدير شرس
"هذا ليس منزلي ، ولن اعيش به يوم واحد ، لن يحدث هذا ، لن اسمح بحدوثه !"
نظر لها عن قرب بعيون صقرية نفذت دواخلها وهو يقول بهدوء واثق يشدد على احرفها
"ليس الامر بأني سأسمح لكِ ام لا ! فقد حدث الامر بالفعل ، وانتِ عليكِ اما بالرضوخ والالتزام بالقواعد او اتعاب نفسكِ بالمحاربة والمجابهة بلا معنى ، ومن الجهتين ستكونين خاسرة ، لذا شغلي عقلكِ قليلا ولا تناطحي اكثر !"
امتعضت ملامحها باحمرار محتقن غزى محياها وهي تهمس بكلمة واحدة تبصقها بوجهه
"غير ممكن !"
اشاحت بوجهها بعيدا بإيباء وهي تنصب ساقيها امامها بحالة هدوء تام ، ليزفر بعدها انفاسه بكبت وهو ينهض من مكانه باتزان ، وما ان استقام امامها حتى قال بابتسامة جادة عادت لتعتلي محياه
"بالطبع ستكونين جائعة الآن ، فأنتِ لم تأكلي شيء من الصباح"
تبرمت شفتيها بوجوم وهي تهمس بخفوت عابس
"من الجميل بأنك قد لاحظت هذا ، قد تكون ايضا لاحظت بأن اقامتي هنا قد طالت كثيرا ، لذا هلا تسمح لي بالرحيل ؟"
حرك (شادي) رأسه بيأس وهو يمشي بطريق الاشياء المبعثرة لينحني بلحظة وهو يلتقط علبة العصير المعدنية من بين تلك الفوضى ، لينتصب بمكانه وهو يستدير للخلف قبل ان يردف بابتسامة هادئة
"لابد انكِ تتضورين جوعا ، ثواني لأحضر لكِ طعام تتناولينه ، فلن اسمح لزوجتي بالنوم هذه الليلة بمعدة فارغة"
تأففت (ماسة) بضيق وهي تدير وجهها للجهة الاخرى قبل ان تعقب بحنق ساخر
"لقد غمرني كرمك كثيرا حتى فاض واستفاض"
اكمل بخطواته اتجاه المطبخ مباشرة وهو يقول بتحذير خافت
"إياكِ والتحرك من مكانكِ حتى اعود"
ما ان غاب داخل المطبخ حتى قفزت من مكانها وهي تجري بسرعة اتجاه باب المنزل ، وما ان حاولت تحريك مقبضه حتى اكتشفت بأنه موصد بالمفتاح مسبقا ، لتضرب بقبضتها على المقبض بغضب حتى كادت تخلعه وهي تشتم بهمس خفيض محترق
"اللعنة عليه وعلى دهائه !"
عادت ادراجها بسرعة ما ان سمعت صوت حركة من المطبخ واثناء سيرها كانت تدوس على طرف زجاج مكسور من مزهرية حفرت بباطن قدمها ، لتصرخ من فورها بألم فاق احتمالها وهي تقفز بقدم واحدة وتمسك قدمها الاخرى بيديها ، وما ان خرج (شادي) من المطبخ على صراخها حتى اتسعت عينيه بارتياع وهو يجدها تقفز بمكانها مثل الارنب المسعور وذيل حصانها يرتفع ويهبط بظرافة مثيرة للضحك .
امسكها من كتفيها ليوقف حركتها قبل ان يعتقل خصرها بذراعه وهو يحملها ببساطة بدون ان يلامس قدمها الطائرة ، وما ان قطع مسافة خطوات حتى كان يريح جسدها فوق الاريكة الوثيرة ، ليجلس بعدها فوق الطاولة الصغيرة وهو يلتقط قدمها الصغيرة بكلتا يديه بحذر شديد ، ليقول بعدها بملامح عابسة وهو يلمح طرف قطعة الزجاج المخترقة كعب قدمها
"يا لكِ من معتوهة ! معتوهة بدرجة لا تتصورينها !"
صرخت (ماسة) بانتفاض وهي تمسك ساقها بتشبث ما ان حاول ملامسة قطعة الزجاج بأصبعه
"لا تفعل ، إياك ان تفعل !"
نظر لها بغيوم متلبدة بدون اي ليونة وهو يشدد على قدمها بيد واحدة بقسوة قائلا بخشونة هادرة خشبتها بمكانها
"إياكِ والإتيان بأي حركة ، لكي لا تدخل تلك الزجاجة برأسكِ وليس بقدمك ، سمعتي يا رأس الغباء !"
عضت على طرف شفتيها بممانعة وهي تشعر بالألم ينخز بجوانب جسدها ويكدس الدموع بأطراف مقلتيها الواسعتين ، وما ان حاول مجددا امساك طرف قطعة الزجاج حتى انتفضت لا شعوريا برفض وهي تهمس بانتحاب منكسر
"ارجوك لا اريد ، لا اريد ، هذا يفوق احتمالي ، ألا تشعر بألمي ولو قليلا ؟"
حدق بها بعينين غامضتين اسرتا عينيها المشوشتين بغشاء الدموع دامت بينهما لوهلة ، ليقول بعدها بابتسامة افترت عن شفتيه بشغف واضح
"انا دائما اشعر بكِ ، بحزنكِ وبألمِك وبفرحكِ ، وهذا هو ما يؤلمني ويقلق سكينتي وطمأنينتي !"
شردت بكلماته ببهوت قيدت كيانها وعقدت لسانها بدون ان تستطيع استحضار اي من مشاعرها الثائرة والمجروحة منه ، لتنتفض برجفة تختلف عن الأخريات فقد كانت تقتلع سبب الوجع وتعبث الراحة بكيانها المغتال ، لتعود بالنظر له وهو يخفض قدمها ليلوح بقطعة الزجاج الصغيرة التي خرجت من كعب قدمها وسببت كل هذه الآلام ، وهو يقول لها بابتسامة جانبية بمغزى
"لقد انتهى الألم الآن ، لذا ارتاحي يا حمقاء"
علقت عند آخر كلمة خرجت منه استحضرت الغضب القديم وكل المشاعر الثائرة بروحها الجامحة فقدت لجامها ، لتنزع قدمها بعيدا عن يديه وهي تخفضها بقوة آلمتها وضربت مكان الجرح ، وما ان حاولت النهوض باندفاع حتى كان يدنو عليها بكامل وزنه وهو يمسك بكتفيها ليعيدها جالسة رغما عنها وهي تكاد تغوص بمساند الاريكة ، ليقول بعدها امام وجهها القريب بهدوء حازم يناقض غليل انفاسه على بشرتها
"اهدئي والتزمي مكانكِ ، فلن تتحركي قبل ان نضمد جراحك ، لا تجعليني ألقنكِ الكلام بطريقتي"
صمتت بتجهم وعواصف ضارية تعلو طبقة ملامحها وتسور حدقتيها المغمورتين ببحيرات صغيرة ، ليفك بعدها حصارها وهو يستقيم امامها بسطوة نظراته القاتمة قبل ان ينسحب من امامها ، بعد مرور دقيقتين كان ينتهي من تضميد كعب قدمها بربطها بشاش ابيض بعد تطهيرها بالمعقم .
وقف بعدها وهو يأخذ علبة الإسعافات الاولية ليمسك بأصبع قدمها الكبير بتعمد وهو يقول بحزم قاسي
"لا تسيري عليها بقوة ، ولا تتعمدي الضغط عليها بحماقة ، لأني عندها لن اسأل عنكِ حتى لو اصبحت عرجاء ، وهذا الموضوع لا تهاون به !"
التوت شفتيها بشبه ابتسامة وهي تهمس بتشدق ساخر
"شكرا على المعلومة ، لقد اتعبت نفسك بلا داعي"
تنهد بقوة وهو يغادر من امامها حاملا اغراض الاسعافات الاولية ، لتمسد بعدها بأصابعها على قدمها بحذر شديد وكأنها تخاف ان تنخر الجرح من جديد والذي اصابها بسبب غبائها الغير محدود ، فهذه المجازفة التي تستحقها بعد كل التهور الذي افتعلته بهذا اليوم !
اخفضت قدمها ببطء وهي تستقر ارضا بدون ان تضغط عليها ، ليجذب انتباهها الذي عاد مجددا وهو يتخذ الطاولة الصغيرة مقعدا امامها وكأنه اعتاد على الوضع ، لتنظر بعدها للطبق الذي ارتفع وهو يحوي معكرونة سريعة التحضير كان قد جهزها قبل حصول الحادثة ، وما ان رفع الشوكة لمستوى فمها حتى ازاحت وجهها بعيدا وهي تهمس بإيباء
"لا اريد منك شيئاً ، ولا اشعر بالجوع"
لوح (شادي) بالشوكة امامها بإصرار وهو يقول بجمود صارم
"تناولي طعامكِ يا ماسة ، ولا تجادلي اكثر ، يكفي ما حدث معكِ للآن"
رمقته (ماسة) بطرف حدقتيها وهي تهمس بتمرد
"ولهذا السبب لا اريد شيء منك"
قرب مقدمة الشوكة من جانب وجهها وهو يقول بتصميم حارق
"هيا يا ماسة ، لا تعاندي......"
حركت يدها تلقائيا وهي تدفع الشوكة بقوة صارخة بغضب
"لا اريد ، ابتعد عني !"
طارت الشوكة بعيدا مثل الشهب قبل ان تنزلق بالنهاية تحت الاريكة ، لتتراجع بعدها للخلف غريزيا وهي تراقب الذي نهض امامها بطوله وضخامته التي ملأت المكان ، وبلحظات كان ينسحب من امامها بهدوء شديد يثير القشعريرة بالأبدان .
ما ان تنفست بارتياح حتى سمعت صوت خطواته وهو يعود حاملا شوكة جديدة مع نفس الطبق ، ليجلس بعدها امامها وكأن شيء لم يكن وهو يدس الشوكة بنفس وعاء المعكرونة ، لترفع حاجبيها السوداوين جراء الموقف الذي تراه وهي تتمتم بعبوس ساخر
"حقا ! هل تمزح معي ؟"
رفع الشوكة امامها وهو يقول بهدوء جاد يحسد عليه
"لا تحاولي التمنع اكثر ، لأنكِ كلما ازددت إصرارا وعنادا سأكون لكِ بالمرصاد للرد على مشاكساتك بما هو مناسب"
فغرت شفتيها المشدوهتين بارتجاف لا شعوري وهو يستغل الموقف بدس اللقمة بفمها بحركة سريعة ، وما ان شعرت بطعم المعكرونة بفمها حتى لانت ملامحها بشحوب وهي تستقبل لقيماته برضوخ مؤقت ، بدون ان تزيل غضب العيون المكسورة التي تجيش بأعاصير وعواصف بمنخفض جوي قاسي ، وهو يقابلها بعيون هادئة تستشف كل ما بداخلها وتحاول التغلغل بصميمها بعناد شرس ينافس عنادها الغير واعي الخارج من ألم وعطب لم يصطلح للآن .
______________________________
بعد ان وصل منتصف الليل كان يحرك مقبض باب الغرفة ليكتشف بأنه موصد بالمفتاح من الداخل ، تنفس بعدها بيأس وهو يفتش بجيوبه عن المفتاح الاحتياطي ، وما ان اخرجه حتى دس المفتاح بالقفل وهو يفتحه بحذر شديد .
دفع الباب نصف انفتاح بدون ان يصدر صوت وهو يتأمل ظلام الغرفة الساكنة ، ليتقدم بعدها خطوتين كبيرتين وهو يقفل الباب من خلفه على مهل ، استمر بخطواته الصامتة ناحية السرير الذي يأخذ نصف مساحة الغرفة حتى وقعت عينيه على الجسد المدثر تحت الغطاء يشير لكائن حي يسكن بهذه الغرفة ويغط بنوم عميق ، وليس هذا ما جذب انتباهه بل الوسادة التي تستقر بأحضانها بطريقة نومها الخاصة بمعانقة مخلوق جامد والتكور حول نفسها مثل الجنين الوحيد ، فهي على ما يبدو تُفضل معانقة الجدران والجمادات على معانقة الكائنات الحية والبشر والذين اكثر ما يجيدونه هو جرحها وكسرها !
ادار (شادي) وجهه بعيدا بملامح متلبدة وهو يقف بالنهاية امام النافذة المغلقة يعلوها الستار الذي اظلم انحاء الغرفة وكتمها ، ليفتح بعدها الستار بقوة وهو يتبعها بفتح النافذة على مصرعيها لتتسلل نسائم الهواء الليلية مع ضياء القمر الذي تسلط على وجه النائمة بالسرير وبانت بين عتمة الظلام .
اسند قبضتيه على إطار النافذة وهو يستمتع بنسيم الهواء العليل وبسكون العالم الموحش وكل شيء سابح بالظلام والوحدة ما عدا ضوء القمر المنير بالسماء والذي يشارك الجميع اسرارهم المستترة والدموع التي يسكبونها على احلامهم وكأنها رحلة تسامر مع القمر ، تنهد بعدها بإرهاق حقيقي وهو يمسد بأصابعه عند اعلى انفه بألم نخر عظامه وكأنها تتآكل من الداخل ، وهو بالواقع قد تآكل بالكامل ولم يبقى شيء سليم به ألا وحط عليه بألم جديد فتح جروح اخرى واخترق قشوره الحامية التي بناها على مدار سنوات وشهور وايام منذ وفاة والدته الروحية والتي ظنها اكبر الفواجع بحياته .
تراجع (شادي) عن النافذة وهو يشعر باهتزاز هاتفه الصامت بجيب بنطاله ، ليخرجه بعدها بهدوء وهو ينظر لهوية المتصل على الشاشة بعدم اهتمام ، قبل ان يجيب على الهاتف وهو يقول باقتضاب
"نعم يا احمد ؟ ما سبب هذا الاتصال بهذه الساعة !"
صمت للحظتين قبل ان يجيب بالطرف الآخر بصوت متزن جاد
"هل انت بخير ؟ هل ايقظتك من النوم ؟!"
حرك رأسه بشرود وهو يعطي ظهره للنافذة قائلا بخفوت باهت
"لا لم اكن نائما ، ولكن كما هو معروف بأنها ساعة نوم البشر على الاغلب ، لذا ما لذي يدفعك للاتصال بي بهذا الوقت ويمنع عنك النوم ؟"
تنفس (احمد) بجمود وصلت له بوضوح ليقول بعدها بجدية هادئة تقمصته بلحظة
"اين انت يا رجل ؟ لم استطع التكلم معك بالأمس فقد غادرت الحفلة بسرعة ، ولم استطع اللحاق بك اليوم فقد خرجت من المنزل قبل شروق الشمس ، هل تتعمد التهرب منا بكل فرصة تسنح لك ؟ لقد بدأت اشك حقا بأنك تعيش معنا بالمنزل ! على الاقل دعنا نعرف اخبارك ونطمئن عليك بين الحين والآخر بدلا من كل هذا الغموض والعيش بالخفية ! فأنت فرد من هذه العائلة يا شادي ، فرد لديك حقوق بها وواجبات عليك بالالتزام بها"
غامت ملامحه بصمت وكأنه يسمع كلام اعتادت اذنه على سماعه وهو يقول بابتسامة بمرح مزيف
"ماذا يا احمد ؟ هل شعرت بالقلق عليّ حقا ؟ من الجميل ان يكون هناك من يقلق بشأنك ويهتم بأمورك حتى لو من بعيد ، ولكن شكرا لك على الاهتمام ، لقد تأثرت بالفعل ، تأثرت كثيرا !"
تنهد (احمد) بخشونة وهو يقول من فوره بغضب هادر
"ما تزال تأخذ كل شيء بسخرية ومزاح ! انا جاد بما اقول يا شادي ، حتى لو كنت لا اتصل بك كثيرا ولكني اقلق بشأنك ، فأنت بهذا الاستهتار ستروح نفسك ومعك حياتك الزوجية ، وانا لا افهم كيف تعيش حياتك هكذا ! كل فترة تغيب بها عن المنزل مدة ايام واحيانا تطول لشهر وعندما تعود اخيرا يمر يومين وسرعان ما تعود للاختفاء والتواري من جديد ، هل هكذا اصبحت رجل ناضج متزوج مسؤول عن عائلة ؟ انت لم تختلف عما كنت عنه سابقا بغض النظر عن زواجك !"
اومأ (شادي) برأسه يمثل الإنصات والإذعان الشديد قبل ان يعقب قائلا ببرود قاتم
"لقد تغيرت يا اخي ، واكثر مما تتصور ، ولكن انتم الذين لا ترون سوى ما تريدون رؤيته ، ولا اقصدك انت بالكلام بالتأكيد ، فأنا اعلم جيدا بأن مشاكل زيجاتك جعلتك لا ترى امامك من خلفك ، واعذرك إذا كنت لا تسأل عني كثيرا ولا تتصل بي !"
ردّ عليه (احمد) بتصلب جاد بدون ان يجاري مزاحه
"الامر لا يدعو للسخرية ! وايضا اريد ان اعرف سبب غيابك الطويل هذه المرة ، ما لذي تخفيه عنا يا شادي ؟ صارحني بالقول ولا تخبئ عني ، ألست صندوق اسرارك كما كنت تسميني بالماضي !"
رفع رأسه عاليا وهو يريحه على إطار النافذة ليقول بعدها بهدوء غير مبالي
"حسنا إذا كنت تصر على هذا اسمعني ، شقيقتي من امي موجودة بالبلد وقد ضمنتها تحت مسؤوليتي وحمايتي ، هذا ملخص ما يحدث معي"
غيم الصمت بينهما للحظات قبل ان يقطعها صوت الطرف الآخر قائلا بتفكير عملي
"يعني كان حدسك بمحله عندما شككت بأمر وجودها بالبلد ! ولكن ما لذي يدفعها لترك والدها وعائلتها والالتجاء لك ؟! هل عائلتها تعرف بهذا الشأن ؟"
اخفض (شادي) رأسه بهدوء غائم وهو يقول بابتسامة تلونت باستهزاء وكأنه يسخر من قدره
"لقد هربت من عائلتها منذ سنوات ولا احد يعلم بمكانها الحالي ، وهي الآن تحمل طفل غير شرعي اخذتهما تحت عهدتي"
اضطربت ملامحه قليلا من المفاجأة الغير متوقعة وهو يقول بهدوء خفيض حذر
"وهل سيكون من الصحة فعل هذا ؟ انت تورط نفسك بالكثير يا شادي ! بل تحمل نفسك عبئ اكبر منك ! فلا تنسى بالنهاية انت رجل متزوج ولديك عائلة وحياة"
رفع يده الحرة وهو يمسح على عنقه بقوة قائلا بهدوء متماسك وكأنه يحمل هم جديد فوق هموم قلبه
"لا تقلق عليّ يا احمد ، فقد اعتدت على هذا الوضع منذ فترة طويلة ، وكما قلت افراد العائلة لديهم حقوق وواجبات علينا الالتزام بها ، وهذه الفتاة تبقى شقيقتي حتى لو كنت نبذتها سابقا ولكن الامر لا مهرب منه ، وايضا متى كنت فرد ثابت على عائلة واحدة ؟ فأنا شخص متزعزع املك والدتان بحياتي وشقيقين من كلا اطراف الوالدين !"
تجهمت ملامحه وهو يعقب قائلا بنبرة غاضبة بعتاب
"ما هذه السخافات التي تتفوه بها يا شادي ؟ انت ما زلت ابن عائلة الفكهاني ووالدك محراب الفكهاني ، ووالدتك هي والدتي ذاتها ابتهال ، وعائلتنا واحدة ، وقد نشأنا على ذلك المبدأ منذ الصغر وعائلة واحدة تحت سقف بيت واحد ، وتلك الشكليات الثانوية التي تتكلم عنها بخصوص الجينات والموروثات ، فهي لا تغير تلك الحقيقة التي عشنا عليها وانغرست بعقولنا وقلوبنا لسنوات ، فهمتني ؟"
اعتلت ابتسامته المسترخية فكت جمود ملامحه وهو يقول بامتنان صادق
"افهمك جيدا يا احمد ، افهمك كثيرا ، وهذه الحقيقة مهما كان مدى استحالتها فقد اسعدتني كثيرا ، فقد كنت انت وامي ابتهال اجمل عائلة احصل عليها ، شكرا لك على اتصالك المتأخر يا اخي"
تنهد (احمد) بهدوء وهو يقول بعبوس مرح
"يا لجنونك وانعدام حس مسؤوليتك ! إذاً ما لذي تفعله الآن ؟ هل كل امورك على ما يرام ؟"
حرك رأسه قليلا وهو يسلط نظره لوجه النائمة على السرير بسلام تحسد عليه ، ليقول بعدها بانحراف بسيط بابتسامته المرهقة
"لا شيء مهم ، فقط اتأمل بجمال الحياة وبنظرتي الظالمة نحوها وافكر بما خسرته وحصلت عليه"
ردّ عليه (احمد) بالطرف الآخر بتنهد يائس
"لا امل منك ! كنت اريد ايضا سؤالك عن شيء آخر ، كيف حال زوجتك ؟ فقد سمعت بأنها قد غابت عن الوعي مباشرة بعد خروجكما من الحفلة ، هل هناك شيء خطير يحدث بينكما ؟"
ابتلع ريقه بارتباك ظاهري وهو ما يزال يسبح برحلة تأملها الصامتة وكأنه بهذه الطريقة يطمئن على سلامتها ، ليصلب بعدها ظهره بانتصاب وهو يقول بهدوء واثق يبث الطمأنينة بنفسه
"لا تقلق حيال هذا الامر يا احمد ، فكل شيء الآن يسير على افضل ما يرام ، بل بالأصح بأنه من هذه اللحظة لن يكون هناك اي خوف او تفكير حيال هذه الامور ! كن متأكداً من ذلك"
صمت (احمد) باستيعاب لوهلة قبل ان يخرج صوته بهدوء متوجس
"ماذا تقصد بهذا الكلام ؟ ومتى ستعود للمنزل ! هل قررت الغياب عنا شهر آخر ؟ لقد كدت انسى آخر مرة رأيتك بها بالمنزل"
قطب جبينه بتصلب وهو يحرك رأسه للأمام قائلا بتصميم حاسم
"لقد قررت يا احمد ، انا سأعيش مع زوجتي بشقة لوحدنا بعيدا عن منزل العائلة ، فلم تروقنا تلك الاجواء ابدا ، وقد لاحظت بأن التغيير والتجديد سيكون افضل لكلينا من اجل بناء حياة زوجية سوية واكثر تسالم"
ارتفع حاجبيه بدهشة بدون ان يراها قبل ان يقول بهدوء متزن يحاول اخذ دور الراشد
"هل انت متأكد من قرارك ؟ فهذه بالنهاية حياتك الخاصة وليس لأحد الحق بالتدخل بها ، ولكن هل ستستطيع التأقلم مع هذا الوضع ؟ هل ستكون بخير بعيش الغربة مع زوجتك بعيدا عن الجميع ؟ فقد كنت سابقا تنافسني على العيش بمنزل العائلة مع زوجتك واولادك وبأنك لن تفترق عنا مهما حدث !"
عاد بنظره نحو النائمة وهو يقول بابتسامة جانبية اصطبغت بالإصرار والثقة
"هذا ما سيكون عليه الوضع الجديد يا شقيقي ، فقد اكتشفت بأن بناء عائلة والاهتمام بمسؤولياتك يتطلب تضحيات وتنازلات كثيرة ، وتغيير بسيط بمبادئ حياتك التي ترسخت بعقلك منذ زمن ، ولكن أليس الامر يستحق المغامرة ؟"
زفر انفاسه باستسلام وهو يقول بعدم اهتمام
"حسنا افعل ما تشاء إذا كان هذا يريحك ، ولكن حاول المرور على المنزل بين الفترة والاخرى فهناك تعيش عائلتك ، حسنا ؟"
اومأ برأسه بهدوء وهو يتمتم بكلمة واحدة بدون اي تعبير
"سأحاول يا احمد"
اغلق الخط بعد ان قال كلمات الوداع الاخيرة وهو يشرد بالهاتف للحظات ، ليدس بعدها الهاتف بجيب بنطاله وهو ينظر بنقطة بعيدة بفراغ الغرفة المظلمة بعد ان غطى ضياء القمر بعض الغيوم السوداء الشاسعة .
تحرك بعيدا عن النافذة وهو يدور حول السرير عدة خطوات واسعة ، وبلحظات كان يستلقي على الجانب الفارغ من السرير بجوار النائمة باستكانة ، وبسبب صغر مساحته كان يريح رأسه على وسادتها ذاتها وساقه تحتك بساقيها ولا يفصل بينهما سوى بضعة سنتمترات وهي توليه ظهرها وكأنها تخاصمه حتى بنومها .
تنهد بتعب وهو يستدير على جانبها ليرفع يده لها وهو يتخلل بخصلات شعرها المتحررة مثل ستارة فوق وسادتهما ، ليهمس بعدها فوق رأسها بخفوت اجش وكأنه يفشي بسر ليلي
"سترضين بالنهاية ، انا واثق من هذا بقدر ثقتي بحبك"
طبع شفتيه على رأسها بقبلة عميقة وهو يطوق ذراعيه من حول جسدها المنكمش ليحاصره بين ذراعيه وعلى صدره وداخل قلبه ، حتى وصلت يديه للوسادة التي تعانقها بتشبث وامان ليحتضنها معها وكل شيء يخصها اصبح بحوزته وملك له كما امتلكها سابقا روحيا وجسديا وختم على ذلك العقد .
________________________
تغضن جبينها بضيق منزعج ما ان اخترق غلاف احلامها الباردة ضوء ساطع الوضوح بشفافية ناعمة وبدفء حميمي تستطيع الاستشعار باحتوائه لها ، وكل برودة الليل وانجماد ذكرياتها قد ذابا وتغلغل الدفء بروحها التي اشرقت الشمس عليها وقشعت ظلمتها بنهار جديد ، رفرفت بعدها بجفنيها الواسعين عدة مرات حتى اتسعتا باكتمال استدارتهما بلونهما السماوي الصافي وباستقبال شعاع الشمس الذي ضرب محياها ليشملها بصباح مشرق مفعم بالحياة .
غامت ملامحها بلمحة خاطفة وهي تتأمل الطريق الذي ارتسم من شعاع الشمس حتى يصل لها ويوقظها على نوره ، لتعض بعدها على طرف شفتيها العابستين بوهن وهي تستنشق الرائحة المألوفة لديها بأنفها الحساس وترهف السمع لصوت الانفاس الدافئة بأذنيها الحمراوين بعاطفة خائنة دقت اجراسها بكامل انحاء جسدها الذي فاق من سباته ، لتدب الحياة بها فجأة وهي تحاول سحب نفسها ببطء من حول الذراعين المطوقين من جوانبها وكأنها قيود وهمية ما تربطها بمكانها وتمنعها من نشل نفسها من حصونه اللعينة التي لا تنكر انجذابها لها .
تنفست بإرهاق عصبي ليس له اي صلة بتعب جسدي اصبح ينجذب تلقائيا لشحنات عاطفية بدأت بهزيمتها بغدر ، لتمد بعدها ذراعيها امامها وهي تلقي الوسادة التي كان متمسك بها كليهما خارج السرير لتستطيع تحرير نفسها معها ، حركت ساقيها المضمومتين بعيدا وهي توصلهما لحافة السرير ، وبلحظات كانت تنقلب على جانبها لتكمل هبوطها المتسلل الذي تطلب منها كل الحذر والهدوء بحركاتها حتى استقرت خارج اسوار السرير بنجاح تحسد عليه .
استقامت على قدميها حتى شعرت بألم القدم المصابة ينخر بعظامها وبكل انحاء جسدها مثل الوباء ويدها ترجع شعرها المنفوش خلف كتفيها بصعوبة ، لتمسك بعدها خصرها بيديها بحالة تحفز واستعداد وهي تراقب الجاني نائم بسريرها بعد ان اقتحم غرفتها ومنامها وتسلل لأحلامها خلسة ، فلن تنكر ابدا ذلك الشعور الخادع الذي قيد احلامها وربط مشاعرها بسلسلة غير مرئية احاطت بها طول الليل وزادت غوصها بذلك الشعور الدافئ مثل ملامسة ينبوع ساخن بعز الشتاء .
زفرت انفاسها بإجهاد وهي تغير وجهة نظراتها اتجاه النافذة المفتوحة والتي تذكر بأنها قد اغلقتها قبل نومها ، حادت بعينيها لبرهة نحو الباب المغلق وهي تصيب ظنها مجددا بهوية مرتكب هذه الجريمة والذي على ما يبدو لا يريد تركها تختلي بنفسها وبجراحها ، ويفكر بوضع بصمة وانطباع على كل شيء موجود بداخل مملكته التي تاهت بها وعلقت بداخل قيودها بدون ان يترك لها طريق للفرار .
سارت بسرعة ناحية النافذة المفتوحة وهي تضغط على الألم بمقاومة قبل ان تتأمل سطوع الشمس النافذ من خلال الزجاج ، لتمسك بعدها بأشرعتها الزجاجية وهي تغلقهما بإحكام ، وما ان انتهت حتى تحاملت على نفسها وهي تكمل الزحف على الألم خارج الغرفة ، لتدلف بعدها للمطبخ مباشرة وهي تتبعها بفتح الثلاجة بقوة لتلتقط يدها بسرعة زجاجة ماء باردة ، قبل ان تغلق الثلاجة من جديد وهي تسحب نفسها خارج المطبخ بسرعة اكبر .
دخلت للغرفة التي عادت لها بخطوات سريعة باستعداد للحرب وروح متمردة لا تعرف الاستسلام ، وما ان وقفت بالقرب من السرير وامام ناظريها حتى فتحت غطاء الزجاجة بأصابع قوية ، لترفع بعدها طرفها لشفتيها وهي تأخذ جرعتين خاطفتين تنعش نفسها وتتأكد من مستوى برودتها .
انحرفت ابتسامتها بنوايا خبيثة وهي ترفع الزجاجة بالهواء فوق رأسه بشكل مائل ، وبلحظة كان الماء يسيل بخط مستقيم فوق رأس النائم لتكون مثل انهيار الجبل فوق رأس الغافل ، كانت بالبداية شهقات متقطعة قبل ان تتحول لانتفاض مذعور ايقظه من نومه وجعله يقفز جالسا .
مسح (شادي) على وجهه بذراعه قبل ان يرفع عينيه قليلا وهو يرى اليد الطائرة بالزجاجة التي فرغت من الماء عليه ، تلبدت ملامحه بغضب تدريجي وهو يتابع صاحبة الذراع والتي اوصلته لمرتكب الجريمة الحقيقي ، وما ان طالت النظرات بينهما بسعير مختلف عن السابق حتى قطعته التي حركت كتفيها بتلاعب وهي تهمس بابتسامة متشفية
"لقد اخذت نصيبك الذي تستحقه ، لكي لا تتسلل لغرف الآخرين بدون إذنها !"
زفر انفاسه بصدر متحجر من الماء البارد الذي اغرق نصف قميصه العلوي ، ليشير بعدها لحالته المزرية وهو يقول بابتسامة جامدة بمغزى
"هل هذا تفعله زوجة عاقلة بزوجها اثناء نومه ؟ لقد كدت اصاب بنوبة قلبية بسبب طريقتك بإيقاظي من نومي بصورة مفزعة ! ألا تعلمين مضار إيقاظ الانسان بصورة فجائية !"
حركت رأسها بالنفي وهي تلوح بالزجاجة تشير بفوهتها لنفسها هامسة بابتسامة بريئة
"لا اعلم اي شيء مما تتكلم عنه ، ولكني اعلم بأنك فعلت معي المثل عندما داهمت احلامي وايقظتني من نومي ، يعني انت الملام الأول بما حدث معك الآن !"
عض على طرف شفتيه بكبت وهو يحرك رأسه للأمام ليتكلم مع نفسه بصورة محبطة
"من المستحيل ان تتغير ! ليس هناك امل منها !"
احتدت ملامحها بشحنات متنافرة وقبل ان تنطق بكلمة كان يسبقها الذي عاد بالنظر لها وهو يقول بنبرة جادة جمدتها بمكانها
"ماذا سيحصل لو اصابني مكروه بسببك ؟ هل كنتِ ستسعدين عندما اتعرض لوعكة صحية او انتكاس بجسدي ؟! هل ستفرحين عندما تتخلصين من زوجك وتمحيه من حياتك ؟"
ارتجفت شفتيها لا شعوريا وهي تضمهما بقوة وذراعيها متساقطتين على جانبيها بارتخاء تام عبث بأوتارها الحساسة ، لتشق ابتسامة باهتة محياه وهو يقول بهدوء شديد بانت التسلية بصوته ما ان وصل لهدفه
"ماذا بكِ يا ماسة ؟ لما صمتِ عن الكلام هكذا ! ألا تريدين ان تسمعيني إجابة على سؤالي ؟ فأنا اعرف بأن عندكِ لكل سؤال جواب......"
تأففت بنفاذ صبر وهي تقول من فورها بصوت مغتاظ ويدها تعصر على الزجاجة بتوتر مفرط
"ما هذه السخافة التي تقولها ؟! هل تحاول اللعب بأعصابي بهذا النوع من الاسئلة ؟ هذا اسخف شيء اسمعه بحياتي ! غير منطقي !"
ارتفع حاجب واحد بانبهار وهو يتتبع تطور انفعالها الظاهر الذي اخرج له جانب جديد لها ، ليقول بعدها بابتسامة مائلة افترست اغلب ملامحه
"لن تحتملي حدوث هذا ، هكذا انتِ يا ماسة عندما تشعرين بالخوف تظهرين شراسة ودفاع غير واعي ، وعندما تشعرين بالحب تظهرين برود ولا مبالاة لكي تستطيعي اخفاء مشاعركِ بمهارة ، ولا تعلمين بأن زوجك يعرف كل هذا ويكشف كل نقاط ضعفك وقوتك ، لذا لا تحاولي التمثيل امامي لأنك اسوء ممثلة على الإطلاق خاصة عندما تتعمدين اخفاء تلك المشاعر !"
لوت شفتيها بامتعاض وهي تدير وجهها جانبا هامسة بقهر
"تبا لك"
اتسعت ابتسامته وهو يلوح بأصبعه نحوها قائلا بمكر وكأنه امسك بها بالجرم المشهود
"هذه هي ، هذه النظرة المطلوبة"
نظرت له بسرعة وهي تقول بجموح شرس حتى احمرت اذنيها بحرارة عالية
"يكفي يا شادي ! يكفي ! اذهب لتبديل ملابسك وللاستحمام قبل ان تصاب بالمرض ، هيا اذهب"
ارتفع حاجبيه بتسلية اكبر وهو يقول بابتسامة جانبية بقوة
"حقا ! هل اصبحت تهتمين بأمري ؟ لقد اعجبني هذا الاهتمام كثيرا ، لذا سأشكركِ بطريقتي الخاصة ، فأنا احب الافعال اكثر من الكلام بهذه المواقف فهي تعطي طابع اجمل"
اتسعت حدقتيها بتوجس وهي تراه ينهض عن السرير ببساطة ليخط بطريقه نحوها بهجوم مفترس ، لتتلجلج بعدها بمكانها بذعر وهي تتراجع للخلف بسرعة حتى اصطدمت بالنهاية بجدار الغرفة ، وبلحظة كان يحشرها بالزاوية بدون ان يدع لها فرصة للتحرك او الانسحاب بعد ان وقعت بالفخ بمنتهى السذاجة !
رفعت ذقنها المتصلب بتأهب وهي تقول بوجهه بجمود شرس
"ابتعد عن طريقي يا شادي ، ابتعد عني"
اسند يديه على جانبي وجهها وهو ينخفض منها اكثر بعيون صريحة غير مواربة نهشت مناعتها بقصف مدوي ، ليقول بعدها بلحظات بتفكير ساخر بدون ان يبتعد عنها
"ألا تلاحظين بأن صباحنا لم يبدأ كما ينبغي ان يكون بين اي زوجين طبيعيين ؟ فأنتِ قد بدأته بسكب الماء البارد على زوجك وبالسابق كنتِ تسمعيني موشح من كلماتك الساذجة التي تجيد قتل المشاعر ! ولكن هل جربتي يوما ان توقظيني على قبلاتك الشغوفة او تمتعي سمعي بهمساتك العاشقة ؟ هل جربتي ان تكوني تلك الزوجة الطبيعية ؟"
زمت شفتيها بعبوس محتقن بالدماء وهي تزيح نظراتها بعيدا هامسة بتشدق مستاء
"اُفضل ان اكون غير طبيعية على فعل هذه الامور ، وانا بالأساس هكذا ولن اغير نفسي من اجل احد ، وحتى لو كان من اجلك وهذا دافع اكبر"
تغضنت طرف ابتسامته وهو يفهم اتهامها جيدا الغير منطوق فهي ما تزال تحمل الكثير بقلبها ، ليقول من فوره بحرارة واضحة بدأت تلهب خطوط قسماتها
"ولكن انا لا اريد ان اكون مثلكِ ، فأنا زوج طبيعي ولن اسمح لزوجتي ان تكون غير طبيعية ، هكذا سيكون عليه الامر من الآن وصاعدا"
تشنجت ملامحها وهي تشيح بوجهها بعيدا تحاول حماية نفسها من لفحات انفاسه وقبلته التي هبطت على خدها بعمق حارق ، وبعد عدة لحظات كان ينحرف عن خدها ليصل لأذنها الساخنة وهو يهمس بها بصوت اجش ثائر
"هل اعجبتكِ قبلة الصباح ؟ اعدكِ ان تكون هذه القبلة مرافقة لنا بكل صباح جديد لكي لا اسمح لكِ بنسياني"
حررت (ماسة) انفاسها بضعف خائر وهي توشك على فقدان نفسها وتسليم اسلحتها ، وهو يتابع همسه بكلمات موجزة تحمل الشغف والهيام والذي قضى على مقاومة قلبها
"احبكِ يا ألماستي"
ادارت وجهها بسرعة باندفاع لا إرادي حتى قابلت وجهه القريب وصدمت قبلته التالية شفتيها بتلامس طفيف ، انتكست رأسها بسرعة وهي تخفضها للأسفل بحياء تآكل بوجهها باحمرار محتقن تصاعد بالدماء الحارة ، ليضحك بعدها بمرح شغوف لم يشعر به منذ زمن بعيد وهو يتراجع عدة خطوات ، ليميل بجذعه للأمام وهو يردف قائلا بابتسامة مملوءة بمشاعر ضارية
"لا تخجلي يا حبيبتي ، ليس هناك داعي للخجل ، فأنتِ بخجلكِ ستزهقين القلوب وتقتلعينها ! لذا رفقا بحالنا !"
ارتجفت انفاسها بتسارع وهي تتعمد عدم رفع نظرها عن الارض والتي تشعر بها بدأت تميد وتموج بكل كلمة لعينة ينطق بها ، لتلين بعدها ملامحه ويرق قلبه وهو يقرر اراحتها من فورة خجلها التي تتعمد التستر عليها بإرادة ضعيفة ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة بعطف وهو ينهي الحرب بينهما
"حسنا ، حسنا اهدئي ، انا سأذهب للحمام واستحم ، وانتِ بهذا الوقت حاولي تهدئة نفسكِ واستعادة ضبطها ، وبعدها اعود لكِ يا صغيرتي الخجولة"
قبضت على يديها بقهر صامت وهي تسمع صوت خطواته والتي خرجت من الغرفة ، لتزفر انفاسها بارتجاف رهيب وهي تمسك بيدها ذراعها الاخرى بمحاولة لضبط نفسها التائهة عن طريقها المنشود ، لترفع بعدها عينيها الواسعتين بغيوم ضبابية نحو الباب المفتوح وهي تقضم على طرف شفتيها بتأنيب صامت تحمل نفسها المسؤولية ، وعلى قلبها الاحمق كامل المسؤولية والعتاب والذي اشقاها على مدار الشهر الفائت واضناها لدرجة لم تعد بها تقوى على المقاومة .نهاية الفصل..........
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...