الفصل الخمسون

211 4 0
                                    

خرج من السيارة وهو يدور حولها قبل ان يلفت نظره شكل زجاج النافذة الخاص بالكرسي بجانب السائق ، وهو يضيق عينيه السوداوين محدقا ببقعة البصاق التي ما تزال آثارها مطبوعة على الزجاج ، ليحرك بعدها رأسه بيأس وهو يتمتم بابتسامة ساخرة  
"مجنونة !"
غادر بعدها اتجاه البناية وهو يدخل لها مباشرة ، وبلحظات كان يحاول فتح باب الشقة بالمفتاح قبل ان يكتشف بأنه مفتوح من الاساس ، ليتغضن جبينه بدهشة وهو يدس المفتاح بجيب بنطاله قبل ان يفتح الباب بهدوء .
وما ان وصل بهو المنزل حتى تجمد بمكانه وهو يراقب المتطفلة التي دخلت منزله وجلست بوسطه وكأنها مالكته ، ليرفع رأسه عاليا وهو يتنفس بوجوم ويعطي نفسه حقنة صبر من هذا الابتلاء ، ليسمع بعدها صوتها الانثوي الناعم وهي تهمس بأناقة
"مساء الخير يا شادي ، هل تعلم كم من الوقت انتظرتك هنا ؟ هل كل هذا الوقت يأخذ العمل منك ؟ عليك ان توافق اكثر بين حياتك العملية والشخصية"
اخفض رأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة ملتوية بضيق
"لو كنت اعلم بوجودك لما عدت للمنزل من الاساس ، لذا اعذريني على هذا الكلام ولكن نفسي لا ترغب برؤيتكِ بمنزلي !"
ارتفع حاجبيها بدهشة منفعلة وهي تهمس بابتسامة مهذبة    
"هذه مزحة لطيفة منك ، ولكني لم احب المقطع الاخير بها ، لقد جرحني بشدة وكسر مشاعري"
تقدم بخطواته بصمت وهو يجلس على الاريكة القريبة ليرفع قدمه ويبدأ بخلع الحذاء عنها ، لتتابع كلامها بعدها بلطف وهي تراقبه باهتمام
"هل انت جائع ؟ هل احضر لك العشاء ؟ ام تريدنا ان نتبادل الاحاديث بيننا ونفرغ الهموم والمشاكل بين بعضنا ؟ سوف يسرني هذا كثيرا مساعدتك على تخطي شقاء يومك"
ردّ عليها ببرود وهو ينشغل بفك رباط حذائه
"هل تحاولين اخذ دور زوجتي ؟"
ضحكت برقة وهي تنهض عن الاريكة برشاقة وتقترب بخطواتها نحوه بلحظات حتى استقرت تجلس بجواره وهي تهمس بقرب اذنه بثقة  
"بالطبع لن استطيع اخذ مكان زوجتك الأولى ، ولكني استطيع لعب دور حبيبتك المزيفة"
توقف (شادي) عما يفعل وهو يقول باستهزاء  
"يبدو بأنكِ من الناس الذين يكذبون الكذبة ويصدقونها ، أليس كذلك ؟"
ارجعت خصلاتها خلف اذنها وهي تقترب من اذنه هامسة بنشوة
"انا من الناس الذين يعيشون الكذبة ويعطونها حقها ، وهذه الكذبة تكسبني الكثير من المتعة والربح وهذا اكثر ما يهمني"
اخفض قدمه وهو يدير وجهه بعيدا قائلا بجمود
"من اين حصلتي على مفتاح شقتي ؟"
وضعت مرفقها على كتفه وهي تهمس بتفكير بديهي
"لقد حصلت على نسخة اضافية من صديقي السمسار ، فهو لا يرفض لي طلب"
نفض كتفه بقوة وهو يبتعد بجلوسه عنها يصنع مسافة صغيرة بينهما ، ليتمتم بعدها بخفوت جاف
"سأتكلم مع السمسار بنفسي بوقت آخر ، واما انتِ....."
قطع كلامه وهو يلتفت بوجهه نحوها ليمد يده لها قائلا بأمر
"وانتِ يمكنكِ اعطائي المفتاح والرحيل من شقتي حالاً"
تراجعت للخلف قليلا وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بتحدي
"وإذا لم افعل ، فماذا ستفعل ؟"
حرك رأسه للأمام وهو يقول ببساطة
"سوف اضطر لتغيير قفل الباب"
حركت يدها بسرعة وهي تهمس بتروي
"حسنا ، حسنا سوف اعطيك المفتاح ، لا داعي لفعل كل هذه الاجراءات"
نهضت وهي تتجه لحقيبتها مباشرة لتعود بلحظة وهي تخرج المفتاح من جيب الحقيبة ، لتقدمه له وهي تقول بابتسامة ودودة
"هل هكذا متعادلين ؟"
اخذ منها المفتاح بهدوء وهو يدسه بجيب بنطاله قائلا بجفاء
"اتمنى ألا يكون لديكِ نسخة اخرى عن المفتاح"
ضحكت بمرح مزيف وهي تجلس بجانبه هامسة ببراءة
"لا ليس لدي المزيد ، ولكن إذا اردت الحصول على شيء احصل عليه بدون ان يوقفني رادع"
عقد حاجبيه بجمود وهو ينظر للأمام قائلا باقتضاب
"متى تفكرين بالرحيل من هنا ؟"
رفعت ذقنها بإيباء وهي تقول بابتسامة واثقة
"عندما احصل على المقابل لخدماتي التي اقدمها لك ، وبما انك لن تفعل هذا إذاً عندما ترضى انت عن خدماتي"
زفر انفاسه بتعب وهو يمسد على جبينه بأصابعه قائلا بتصلب
"فقط اريد ان اعلم كيف استطاع والدك تحملك كل هذه السنوات ؟ يبدو بأنه يمارس تمارين اليوغا بحياته !"
عادت (لينا) للاقتراب من جانبه وهي تقول بمرونة
"يبدو بأنه قد وهبني هذه الصفة ايضا بقدرتي على تحملك كل هذه السنوات التي تفوق مدة تعارفك بزوجتك !"
نظر لها ببرود وهو يقول بخفوت ناقم
"لا تحاولي اللعب بصياغة الكلمات فهذا يضايقني !"
اومأت برأسها بوداعة وصمت قبل ان يتابع كلامه قائلا باستياء
"وايضا انا لا افهم كيف تستطيعين الخروج من منزلك بهذه الساعة ودخول منازل الغرباء بهذه الاريحية ؟! ألا يسأل عنكِ والدكِ ابدا ؟ أليس هناك رقابة بعائلتك ؟"
حركت كتفيها باستهانة وهي تقول بخفوت مرتاح وكأنه امر اعتيادي
"ليس هناك احد لديه السلطة عليّ للتحكم بحياتي ، فكل شخص لديه حياته الخاصة التي يعيشها بطريقته ، وانا لست طفلة حتى احتاج للرقابة او يضعون احد يحرسني فوق رأسي ، وهذا هو القانون الذي نعيش عليه بالمنزل ، وابي يعرف جيدا عواقب مخالفة هذا القانون ومحاولة تشديد الطوق من حولي ، فهو عندها سوف يخسر ابنته الوحيدة للأبد !"
ارتفع حاجب واحد بسخرية وهو يدير عينيه بعيدا ليهمس بعدها بابتسامة جامدة
"لقد كانت محقة بفكرة مداهمة مكتبه"
جذبه صوتها الناعم وهي تهمس بجانب اذنه تماما بدلال
"بماذا تهمس مع نفسك ؟"
انتفض وهو يقف بمكانه باستقامة ليشير بعدها بذراعه لباب الشقة وهو يقول بحزم
"يكفي إلى هنا يا لينا ، وغادري من شقتي حالاً"
وقفت بسرعة عن الاريكة وهي تنفض يديها على جانبيها قائلة بخفوت متبرم  
"اسمح لي ان اقدم لك خدماتي على الاقل ، فنحن لم نستطع اجراء حديث ودي بيننا منذ وقت طويل ، ما رأيك ان نفعلها اليوم ونقضي باقي الليل بالسهر والحديث كما بالأيام الخوالي ؟"
التفت نحوها وهو ما يزال يشير بذراعه نحو الباب قائلا بنفاذ صبر
"لا اريد ان اعيد كلامي مرتين يا لينا ، هيا اخرجي من هنا حالاً ولا تتلاعبي بصبري اكثر ! اخرجي وألا....."
قاطعه صوت رنين هاتفه حديثه ليوجه ذراعه نحوها بإشارة انتظار وهو يخرج الهاتف بيده الاخرى ، وما ان اجاب على الهاتف حتى جائه صوت من بالطرف الآخر يقول بحزم
"اسمعني يا شادي وقبل ان تقول اي شيء تعال لمشفى المدينة بسرعة ، فهناك امور مهمة قد حدثت وانا بحاجة لك الآن"
بهتت ملامحه عند ذكر امر المشفى ولم يخطر بباله سوى صورة زوجته المجنونة التي كادت تقدم اليوم على انهاء حياتها بدون ذرة تردد ، ليقول من فوره بارتباك ما ان وجد صوته بصعوبة
"ماذا...ماذا هناك ؟ ما لذي يجري معك ؟"
ردّ عليه بهدوء ينهي الحديث
"عندما تصل سنتكلم بكل شيء ، لا تنسى المجيئ بسرعة ، انا بانتظارك"
ابعد الهاتف عن اذنه ما ان فصل الخط وهو يخفض ذراعه الاخرى من امامها ، ليجلس مجددا على الاريكة وهو يعود لانتعال حذائه من جديد ، لتقول الواقفة بجانبه وهي تراقبه بعيون خضراء ثاقبة
"ماذا يجري ؟ هل هناك من خطب ؟"
قال (شادي) بجفاء وهو مشغول برباط حذائه
"امور عائلية لا علاقة لكِ بها ، والافضل لكِ ان تغادري من هنا لأنني لن ابقى معكِ اكثر"
تجمدت تقاسيمها الفاتنة بهدوء وهي تهمس بابتسامة جانبية بمغزى
"هل لها علاقة بمشاكل زوجتك المجنونة ؟ فهي لا تدع الانسان يهنئ بحياته من كمية العقد والمشاكل التي تعاني منها !"
صرخ فجأة بجموح وهو يقف امامها بلحظة
"لينا كفي عن جلب سيرة زوجتي بالسوء ، فأنا لا اسمح لكِ"
اشار بعدها بذراعه اتجاه الباب وهو يقول بصرامة
"هيا اخرجي من المنزل ولا تأخريني اكثر"
كتفت ذراعيها بجمود وهي تقول بتصميم
"وانا لن اخرج من هنا حتى تخبرني عن وجهتك الحالية ، فربما تحتاج إلي هناك......."
قاطعها (شادي) وهو يمسك بذراعها بقوة قائلا بحسم
"حسنا انا من سأطردكِ بنفسي"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بصدمة وهي تراه ينحني ويمسك بحقيبتها بيده الاخرى ليسحبها بعدها جهة الباب قبل ان يدفعها خارجه ، استدارت نحوه بسرعة وهي تشاهده يغلق باب الشقة بالمفتاح ، وما ان انتهى حتى التفت نحوها وهو يقذف لها بالحقيبة والتي تلقتها على صدرها وبين ذراعيها ، ليلوح بعدها برأس المفتاح بوجهها وهو يتمتم بانفعال صارم  
"هذه آخر مرة تتجرأين بها على الدخول مساحة منزلي وحياتي الشخصية ، فقد سئمت كثيرا من هذه اللعبة ، وحان الوقت لتنتهي هنا ، وإذا لم تفعلي ذلك بنفسك فوالدكِ سيفعلها !"
انفرجت شفتيها بشهيق مكتوم وهو يستدير بعيدا عنها ويغادر جهة السلالم بدون ادنى انتظار ، لتتنفس بعدها بغضب جامح وهي تنفض شعرها القصير للخلف هامسة بتوعد
"لن اسامحك يا شادي الفكهاني ، وترقب انتقامي لك ولزوجتك فاقدة العقل والاهلية !"
_______________________________
كان يسير بالممر الطويل وهو يتخبط بالأروقة ويسأل كل من هناك عن عنوان الوجهة المطلوبة ، ليسير بعدها بممر فارغ نسبيا يوجد به اقلية من الممرضين بسبب الوقت المتأخر من الليل ، حتى لمح نهاية الطريق ينجلي امامه وتظهر خلفها واحته المفقودة التي تاهت بوصلته بتحديد الطريق إليها ، لتتحرك خطواته تلقائيا بسرعة اكبر وصورتها تتضح اكثر واكثر مثل طيف جميل يسحر العقل ويحيي القلب الميت ويعطي للخيال حياة .
جذب نظرها صوت الخطوات القريبة وهي تلتفت برأسها للجهة الاخرى بعفوية ، وقبل ان تدرك كان يسحبها من ذراعها ويدسها بأحضانه بدون سؤال وكأنه يطمئن نفسه بوجودها بداخل صدره وحوله واستشعار برودة قلبها الذي ينصهر بحنايا قلبه ، لتنتفض بعدها بارتجاف لا إرادي مر على سائر جسدها  المحجوز بقضبان احضانه التي تشعر بها لأول مرة بقسوة الجليد الذي يخدش الجلد ويجرح الروح ، وما ان مرت لحظات اطول حتى همست بين ضلوعه بخفوت ضعيف   
"انت تؤلمني يا شادي"
تشنجت عضلاته من حولها وهو يفلتها من فوره بدون ان يتركها تماما وهو يتفحص ذراعيها وجسدها قائلا بخفوت مضطرب
"هل انتِ بخير ؟ هل تعانين من اي اصابات او اضرار ؟ اخبريني اين مكان الوجع !"
حركت رأسها بضيق وهي تتلوى بين ذراعيه هامسة بتشنج  
"انا بخير ، بخير ، بخير جدا"
استقرت يديه حول وجهها وخصلات شعرها تحيط بأصابعه وهو يهمس قربها بحرارة
"هل انتِ بخير حقا ؟"
حدقت به بتمعن وهي تشعر بقوتها تتداعى امام عاطفته التي باتت اقوى نقاط ضعفها ، لتمسك بعدها بيديه من حول وجهها وهي تهمس بخفوت به لمحة عتاب
"عندما تسألني هكذا لا اشعر بأني بخير"
ارتفع حاجبيه بتصلب ويديه تنقبضان حول وجهها بجمود قاسي ، ليتدخل بعدها صوت الخطوات القادمة من بعيد يتبعها بالقول بجدية  
"واخيرا وصلت ! لقد كنت بانتظارك"
ابتعد بسرعة عنها بمسافة خطوات وهو يدير وجهه بعيدا ما ان وصل (احمد) لهما ليقول بعدها بوجوم
"هل قاطعت شيء مهم بينكما ؟"
قال (شادي) بسرعة وهو ينظر له بجمود
"لا انا كنت فقط....."
توقف عن الكلام وهو يقترب منه خطوتين قائلا بعبوس محتد
"لقد اتصلت بي للمجيئ للمشفى بأقصى سرعة ، ولكن ما اراه امامي بأن ماسة بخير ولا تعاني من اي اصابات ! إذاً لماذا احضرتني للمشفى ؟ وماذا تفعلان هنا من الاساس ؟"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا باستنكار جاد
"من اخبرك بهذا الكلام ؟ ليست ماسة هي المصابة ، بل زوجتي هي المصابة ! هل جلبت سيرة ماسة بحديثي ؟"
امتقعت ملامحه وهو يحك رأسه بتفكير قائلا بتجهم
"ما ادراني انا ! عندما قلت مشفى ذهب تفكيري لشخص آخر ! ولكنك ملام ايضا لأنك لم تفسر لي شيء بتلك المكالمة السريعة"
ادار عينيه بعيدا وهو يقول بجفاء
"إذاً اعذرني على ما حدث ، بالمرة القادمة سأتأكد من شرح كل شيء بالمكالمة لكي لا يحدث سوء فهم مجددا"
حرك رأسه بعدم اهتمام وهو يقول بالموضوع الاكثر اهمية
"اتركني من هذا الآن ، واخبرني ماذا حدث مع روميساء ؟ هل هي بخير ؟"
تنهد (احمد) بجمود وهو يقول بهدوء جاد
"لقد خضعت لعملية استئصال الزائدة اليوم صباحا ، وستمكث بالمشفى ست ايام على الاقل"
اومأ برأسه للأسفل وهو يقول بهدوء رسمي
"حمد لله على سلامتها"
حانت منه التفاتة نحو الساكنة بمكانها تلتزم الصمت التام وكأنه لا وجود لها ، ليعود بنظره للأمام وهو يتقمص الشخصية الجادة قائلا ببرود
"حسنا لا اريد ان اكون قليل ذوق ، ولكن لما احضرتني بهذه الساعة ؟ وما هي المشكلة التي تعاني منها ؟"
حرك رأسه بإشارة نحو الواقفة بينهما وهو يقول بعبوس مستاء  
"لقد احضرتك من اجل ان تأخذ زوجتك المصون من هنا ، فهي لا تصغي لكلامي ابدا ، وتتعمد تجاهل كل تعليماتي واوامري ، واخبرتها بأنه لا يجوز بقاء اكثر من فرد واحد برفقة المريضة ، ولكنها تحمل رأس صلب لم ارى بعناده بحياتي !"
ارتسمت ابتسامة ساخرة على محياه وهو يتمتم ببساطة
"وهل هناك من يقدر على عنادها ؟"
تدخل الفرد الصامت بينهما وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بجموح
"لن اغادر من هنا ، اذكر بأني قد اخبرتك بذلك ، يمكنك انت المغادرة والعودة للمنزل ، انا سأبقى مرافقة مع شقيقتي بالمشفى"
استدار (احمد) نحوها وهو يقول بكل ما يستطيع من هدوء ومنطقية
"ماسة لا تجادلي بهذا الآن ، لقد قررنا بأنني انا سأبقى مع روميساء بالمشفى وانتِ ستذهبين للمنزل مع شادي بسبب تأخر الوقت ، وقد كنتِ قد اعطيتي موافقتك هذا الصباح ! ما لذي تغير الآن ؟"
اشاحت بوجهها بعيدا وهي تقول بعناد شرس
"لقد غيرت رأيي"
ادار رأسه بعيدا وهو يتنفس بكبت من هذا الجدال العقيم ، ليشير بعينيه لشقيقه ليتدخل بهذه المسألة التي طالت اكثر مما ينبغي ، ليأخذ (شادي) دفة الحديث وهو يتقدم نحوها خطوات قائلا بهدوء جاف
"هيا يا ماسة لا تعاندي اكثر لكي لا نزعج المرضى الآخرين بهذا الوقت المتأخر ، نحن سنغادر من هنا ، وبالصباح الباكر تزورين شقيقتك ، ولا تقلقي عليها ما دام زوجها موجود بقربها فلن يصيبها مكروه او اذى....."
قاطعته (ماسة) وهي ترفع يديها باستسلام قائلة بانفعال حانق  
"حسنا ، حسنا كما تريدان ، سأغادر من هنا ، ولكن بشرط ان يوصلني احمد للمنزل ، فلن اخرج من هنا ألا بهذه الطريقة"
نظر لها (احمد) بصدمة من طلبها المفاجئ وهو يقول بتفكير مرتبك  
"ولكني يا ماسة انا......"
قاطعه صوت اعلى وهو يقول بغضب اخرجه عن هدوئه
"ستذهبين معي يا ماسة ، وانتهى الجدال هنا"
نظرت له بضيق وهي تقول بخفوت شرس
"لست انت من تتخذ القرار عني...."
قاطعها مجددا بقوة وهو يشدد على اسنانه بحدة يحاول كبح المشاعر بداخله التي اشعلت سفنه
"اخرسي يا ماسة"
صمتت تماما وهي تعض على طرف شفتيها بعصبية تكاد تدميها بدون ان يرى الهدير الذي حرك الامواج بعينيها الجامحتين ، ليقول بعدها الذي اتخذ قراره بإنهاء الخلاف
"لا بأس يا ماسة ، انا سأوصلكِ للمنزل كي ننهي هذا الخلاف"
قال (شادي) بسرعة وهو ينظر له باستنكار
"احمد !"
غيمت اجواء جليدية بين ثلاثتهم لبرهة قبل ان تقطعه التي زفرت انفاسها بغيظ وهي تستدير بعيدا عنهما هامسة ببهوت  
"سأذهب اولاً لتوديع روميساء قبل رحيلي"
تحركت بعدها بدون ان تنتظر ردّ منهما وهي تدخل لغرفتها مباشرة ، لينقل نظره لشقيقه وهو يقول بجمود قاتم
"لا تحاول مرة اخرى حل خلاف بيني وبين زوجتي"
حرك عينيه بملل وهو يتمتم ببرود
"زوج مجانين !"
تجاهله (شادي) وهو يتأمل باب الغرفة بسكون وكأنه يحاول الولوج لها من الباب واختراق قلبها الجليدي الذي اصبح بانجماد المحيط .
_______________________________
اوقف السيارة على محاذاة الطريق بثبات وهو يطفئ المحرك بصمت ، ليخلع بعدها حزام الامان وهو يفتح الباب ويخرج منه ، ليدور حول السيارة بلمح البصر قبل ان يفتح الباب للكرسي المجاور وهو يفرد ذراعه لها قائلا بإيجاز
"اخرجي"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول بإيباء
"لن اخرج قبل ان تأخذني لمنزلي ، فأنا لم اطلب منك ان تحضرني لمنزلك !"
رفع رأسه يستنشق هواء الليل بصبر وهو يقول بخفوت جاد 
"لن استطيع ترككِ بالشقة لوحدك بما ان روميساء بالمشفى ، وانتهى الحديث بهذا الامر"
تجمدت ملامحها بسطح جليدي وهي تشدد من تكتيف ذراعيها بصمت تستخدم سلاحها الشهير بالتعبير عن رفضها ، لينحني بعدها على جذعه وهو ينتقل للهجوم الفعلي بما ان الكلام لم يجدي معها ، ليقبض على ذراعها بقوة وهو يسحبها للخارج بقسوة .
استلت ذراعها بعنف وهي تلتفت نحوه قائلة بجمود
"استطيع السير وحدي"
اغلق باب السيارة خلفها وهو يقول بتصلب
"هيا سيري امامي"
رمت خصلاتها خلف كتفها وهي تسير اتجاه مدخل البناية باندفاع ، ليدس بعدها مفتاح السيارة بجيب بنطاله وهو يلحق بها داخل البناية .
فتح (شادي) باب الشقة امامها على اتساعه وهو يقول بأمر
"ادخلي"
رفعت ذقنها بإيباء بدون ان تمتثل للأمر القائل ، ليزفر انفاسه بيأس وهو يمسك بذراعها مجددا ويدفعها للداخل ، وبلحظة كان يغلق باب الشقة من خلفهما بالمفتاح من اجل دواعي السلامة والحيطة وهو يعلم جيدا مدى جنونها لأي مراحل يصل .
استدارت نحوه بعنفوان وهي تصرخ بغضب
"متوحش بدائي ! ماذا تظن نفسك فاعل بجلبي لمنزلك ؟ ايها المخادع الخائن......"
تقدم بسرعة نحوها وهو يضع اصبعه امام فمه قائلا بحزم
"هششششش ، لا تصرخي عاليا ، سيسمعكِ الجيران وتسببين لنا بفضيحة بمنتصف الليل !"
زمت شفتيها بضيق وهي تضرب الارض بقدمها بصمت تكبح غضبها العالي بداخلها ، ليخفض بعدها يده وهو يدير رأسه جانبا قائلا بحدة يوجه الدفاع له   
"وايضا انا الذي من المفترض ان يغضب بيننا ! بعد كل ما قلته وتفوهت به من حماقة امام احمد ، وانتِ تطلبين منه ان يوصلك بكل وقاحة وتبجح ! كيف تتجرأين على التصرف هكذا بوجودي ؟ هل احمد زوجك ام انا ؟"
ارتفع حاجب واحد باستهزاء وهي تفرد ذراعيها على جانبيها قائلة بتعجب ساخر
"ماذا بك ؟ هل يعقل بأن تكون قد غرت ؟ لا تغار ارجوك لكي لا يصيبني الإغماء ! فأنت الوحيد الذي لا يحق له الغيرة"
نظر لها بعيون سوداء تقدح شرارا وهو يقول بانفعال مكبوت
"ماسة كفي عن هذه الطريقة بالتكلم معي بسخرية ! فأنا ليس لدي صبر طويل لأتحمل مزاجك المشتعل فقط لأنكِ غاضبة مني ، ومتأكد بأنكِ تفعلين كل هذا عن قصد لتغيظيني وتجعليني اغار عليكِ !"
ضربت قبضتيها على وركيها بعصبية وهي تقول بضراوة
"اجل انا غاضبة منك ! هل تعلم السبب ؟ لأنك تدفعني دائما للشعور بالغيرة التي تنزف بقلبي دماً ، والآن تأتي وتتبجح امامي بأنك غاضب مني بسبب طلبي من احمد ان يوصلني معه ! وماذا عن خروجك الدائم بصحبة صديقتك الشقراء وقضاء الوقت المسلي معها ؟ وظهورك بالتلفاز برفقتها وتعريفها للعالم على انها حبيبتك المثالية التي تود الزواج منها ! لست الوحيد المسموح له بالغضب والتصرف بتملك ورجولة ناحية امرأته ، لأنني انا ايضا انسانة ويحق لي الشعور كما تشعر انت ، فلم يخلق الغضب للرجال فقط ولم تكن الغيرة حكر لكم وحدكم ! هل فهمت يا متغطرس ؟ هل فهمت ؟"
كبل ذراعيها بقبضتيه بلحظة وهو يقول امام وجهها بفحيح شرس ألهب جليد بشرتها
"قلت لكِ يكفي يا ماسة ، لا اريد سماع هذا الحوار مجددا ، لا اريد الجدال معكِ اكثر ، لماذا تصرين على جلب الوجع لكلينا ؟ هل انتِ انسانة محبة للألم والوجع ؟"
تلبدت ملامحها بغيوم سوداوية احتلت سماء عينيها الهائجتين وكأنه اصاب بسهمه اعماقها ، لتنتشل بعدها ذراعيها بقوة وهي تقول بعنف
"اتركني"
اخفض يديه وهو يراقب التي استدارت بعيدا عنه توليه ظهرها وهي تبدو تحاول استعادة ضبط جماحها ، وما هي ألا لحظات حتى كان يعانق كتفيها وهو يحاصرها بين ذراعيه ليهمس بأذنها بخفوت منفعل تخلل بالأعماق  
"انا اعتذر يا ألماستي ، يبدو بأنني قد بالغت قليلا بغضبي عليكِ ، كان عليّ ان اكون اكثر صبرا بالتعامل معكِ بعد مرور كل هذا الوقت الطويل على علاقتنا"
تنفست بهدوء وهي تخفض نصف اهدابها هامسة بخفوت متبرم  
"لم اسمع منك لقب ألماستي منذ وقت طويل فقد نسيته كما نسيت صاحبته !"
ارتفع حاجبيه بانتباه مشدوه وهو يقول بخفوت مرح
"هل فعلت هذا حقا ؟ لم اكن اعلم بذلك ، إذاً اعتذر منكِ حقا على حرمانك من سماع هذا اللقب !"
ردت عليه من فورها بعدائية
"واعتذارك مرفوض"
ضحك بأذنها بصخب عالي وهو يتوقع مسبقا هذا الجواب منها ، لتقبض على يديها بحرارة ما ان شعرت بأصابعه تبعد خصلاتها عن جانبها وكتفها وهو يمس بشفتيه اذنها قبل ان يهمس بها بعاطفة هادرة
"هل نستطيع فتح صفحة صفح بيننا اليوم ؟"
ردت عليه مباشرة بتعثر حتى خلطت بالكلمات
"بلى ، اقصد كلا ، كلا"
شدد من تطويق كتفيها وهو يدسها بين ثنايا صدره الصلب الذي تشعر به يخفق قلبه بظهرها ، ليطبع شفتيه بقبلة مسننة على عنقها الابيض هامسا بحرارة
"لقد جنيتِ على نفسك"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بموجة اجتازت حد الخطر وهو يديرها نحوه بدورة كاملة طيرت شعرها على جانب واحد ، ليمسك بعدها بجانب وجهها وهو يسرق قبلته من شفتيها السخيتين بدون اكتفاء واصابع يده تتغلغل بخصلاتها الكثيفة المشبعة بالنعومة والحرارة تمده بالطاقة اللازمة بعاطفة هائلة ، وما ان تركها للحظة حتى همس امام شفتيها المنفرجتين بخفوت اجش مهلك
"هل تريدين المزيد من هذه القبلات ؟"
فتحت شفتيها بأنفاس متلاحقة تضرب وجهه وتعيد الهياج والنشاط له مثل تدفق الينابيع الحارة بأوردة قلبه ، لتتعلق بعنقه تلقائيا وهي توهبه قبلة باردة مثل مكعب السكر المحلى بدون شروط او اسباب ، ليعتقل خصرها المستدير بين ذراعيه وهو يسابقها بصراع القبلات التي اخذت كامل مشاعرهما وحواسهما وجسدتها بداخل قلبيهما مثل حلم يقظة ناعم .
تركها بعدها لوهلة وهو يهمس من بين انفاسه بإجهاد عاطفي
"احبكِ يا ألماسة شادي"
تشبثت يديها بياقة قميصه وهي تهمس بلهاث عاصف 
"اكرهك يا شادي الفكهاني"
اتسعت ابتسامته بنشوة وهو يحيط عنقها بكفه ليقربها منه ويتمتم بتحدي
"سنكتشف لأي مدى تكرهيني !"
حطت قبلته على جبينها العريض وهو يسحبها من خصرها ويسندها عند اقرب جدار ، ليفك بعدها اول زرين من قميصها وهو ينجرف بتقبيل ملامحها المرسومة ثم عنقها الطويل حتى نحرها الناعم وكأنه يحفظ تفاصيلها بدقة عن ظهر قلب ، بينما كانت يديها تتمردان بالفطرة وتفك اصابعهما الصغيرة ازرار القميص واحدا تلو الآخر ببطء عابث .
شهقت بعدها بوجل ما ان ارتفعت عن الارض بلمح البصر وهو يسكتها بقبلة دافئة اعادتهما للمجرى الصحيح ، لتتعلق بغيمتها بسلاسة تلقائية التي اصبحت تحلق بها وتدور من حولها بمجرة بعيدة ، بدون ان تهتم للوجهة القادمة وهي تشفي جروحها ونواقصها وثغراتها بأمل حي ما يزال يعيش بقلبها الجليدي الذي انحبس بالظلمة لأعوام طويلة .
_______________________________
جلست على عتبات السلم وهي تضم ساقيها بين ذراعيها وتبكي بحرقة بدون ان تصدر صوت ، لتزم شفتيها الزهريتين بارتجاف وهي تحاول خنق عبراتها وشهقاتها الصغيرة بداخل قلبها كي لا تفلت للخارج وتجذب السمع ، كما تفعل دائما بعادتها القديمة منذ طفولتها البكاء لوحدها بمكان منعزل وبعيدا عن كل العيون والآذان ، لتمسح بعدها بقبضتها الصغيرة وجنتيها المبتلتين بالدموع وهي تأخذ انفاسها بكل ثانية بنشيج متقطع .
اتسعت حدقتيها الخضراوين السابحتين بالدموع ما ان سمعت صوت خطوات تنزل عتبات السلم ، لتغطي بذراعها عينيها وتمسح دموعها بكم قميصها بدون ان تلقي نظرة حولها ، ليتوقف الصوت بجوارها وهو يتبعها بالقول بخفوت مرح
"ما لذي حدث مع فتاتي الصغيرة ؟ لماذا تختبئ هنا بينما الجميع يبحث عنها ؟"
تجمدت بمكانها بسكون بدون اي تعليق وهي تخفي وجهها بذراعها ، ليجلس بعدها بجوارها على عتبة السلم وهو يقول ببحة صوته الحنونة
"لماذا لا تريدين الظهور بالساحة امام إدارة المدرسة ؟ ألا تريدين استلام جائزتك التي استحقيتها ؟ ألا تريدين سماع تصفيقات الجمهور لكِ ومباركة الكبار لكِ ؟!"
رفعت رأسها قليلا وهي تحركه بالنفي بشدة هامسة بكلمات صغيرة متقطعة
"لا ، لا اريد...لا اريدها"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يقول بهدوء جاد يجاري جملتها الناقصة
"ما هو الذي لا تريدينه ؟ الظهور امام الجماهير ! ام استلام جائزتك ! ام سماع تصفيقات وتهنئة إدارة المدرسة لكِ ! ام مقابلة خصومك الذين حققوا الفوز عليكِ !"
شددت من ضم ساقيها بذراعها وهي تبكي برجفة مرت على طول جسدها الصغير وبللت ذراعها الاخرى من تحت عينيها ، ليأتيها صوت الجالس بقربها بنبرة اكثر عطفا
"لماذا تبكين يا فتاتي القوية ؟ ما هو الشيء القيم والكبير الذي يبكيكِ هكذا ؟ لم اعهدكِ ضعيفة هكذا تبكين من الاخفاقات الصغيرة والعوائق الوهمية !"
اخذت انفاس قصيرة وهي تهمس بخفوت باكي صغير
"انا لست قوية يا ابي ، لست قوية ابدا ، انا فاشلة وخاسرة ومهزومة ، لقد خذلت الجميع يا ابي ، لقد خذلتك ايضا !"
مسح على رأسها الصغير بكفه وهو يقول بخفوت اجش حاني
"لماذا تقولين هذا عن نفسكِ يا ابنتي ؟ هل ينعت الانسان نفسه بالفاشل بدون سبب ؟ ألن تقولي لوالدك عن المشكلة التي تزعجك ؟"
صمتت عن البكاء لوهلة قبل ان تخفض ذراعها ببطء وهي تعانق بها ساقيها لتهمس بعدها بأسى حزين  
"لقد وعدتك بأني سأحقق الفوز واحصل على المرتبة الاولى والميدالية الذهبية بالمسابقة الرياضية ، ولكني نكثت وعدي وفشلت بالحصول عليها ، لقد سمحت لهم بأخذ المرتبة الأولى مني ، لقد خذلتك يا ابي بعد ان وثقت بي وشجعتني ، لقد خذلتك ابنتك القوية وهزمت شر هزيمة"
زفر انفاسه بهدوء وهو يسحب يده عن رأسها ليوجه نظره للأمام قائلا بابتسامة جادة
"ولكنكِ اخذتِ المرتبة الثانية وحصلتِ على الميدالية الفضية ، أليس كذلك ؟"
اومأت برأسها ببطء وهي تهمس بخفوت بائس 
"بلى ولكنها ليست الميدالية الذهبية ، وانا وعدتك بأني لن احصل سوى على الميدالية الذهبية ، ولن انزل عن المرتبة الأولى......"
قاطعها بهدوء وهو ينظر لها بدفء
"وما لمانع لو حصلتي على المرتبة الثانية او الميدالية الفضية ؟ ألا يكون هذا فوز ايضا ؟ ألا يقال لكل من بذل مجهود بالسعي وراء هدفه بأنه فائز !"
نظرت له بعينين كبيرتين نديتين وهي تهمس بعبوس طفيف
"ولكن يا ابي......"
قاطعها مجددا وهو يمسك بكتفيها الصغيرين قائلا بابتسامة متزنة غضنت زوايا عينيه
"اسمعي يا صغيرتي ما سأقول لكِ ، ليس العيب بفشلك وحصولك على مرتبة اقل مما توقعتِ ، العيب هو عدم محاولتك وعدم السعي وراء احلامك بحجة الخوف من الفشل ! لذا عليكِ ان تبذلي جهدا اكبر بتمهيد طريقك فوق الاخفاقات للصعود بالسلم للأعلى ، وربما بالمحاولة الثانية ستحصلين على المرتبة الاولى او بالمحاولة الثالثة او التي بعدها ، لأنه ليس ما يهم الطريقة او عدد الاخفاقات او عدد التعثرات بل النتيجة بالنهاية هي التي تهم وهي التي نسعى لها جميعا"
اتسعت حدقتيها بوميض خاطف بين غلالة الدموع النقية وهي تهمس بتبرم طفولي
"ولكني قد خذلتك يا ابي ، خذلتك رغم قدومك للمسابقة اليوم وتشجيعك لي ودعمي ، لم اعد الفتاة التي تفخر بها ، لم تعد تراني تليق بالفتاة القوية التي لا يقهرها شيء !"
اتسعت ابتسامته بعطف وهو يربت على رأسها بدعم قائلا بقوة
"من قال هذا الكلام يا ابنتي ؟ انا افتخر بكِ دائما ، افتخر بكل انجاز تحققينه بحياتك ، افتخر بكل موقف يثبت بأنكِ ابنة ابيكِ حقا ، حتى لو حصلتِ على المرتبة الثانية او الثالثة او الاخيرة سيبقى والدكِ يفتخر بكِ ويراكِ فتاته القوية التي لا تقهر ، لذا لا تدعي الاخفاقات تهزمك او تحنيك عن هدفك فهكذا لن تكوني ابنتي التي اعرفها التي تتحدى المستحيل وتمضي قدما"
زحفت الابتسامة على محياها بارتجاف وهي تهمس بفرحة طفولية انارت بسرور    
"حقا !"
اومأ برأسه بابتسامة عريضة وهو يقول بهدوء واثق
"حقا يا ابنتي ، والآن علينا الذهاب واستلام جائزتك وميداليتك الفضية التي تستحقينها ، فهذه تكون حصاد مجهودك وتعبك ، لذا عليكِ ان تفخري بإنجازاتك مهما كانت صغيرة وغير مهمة فهي التي تذكرك بما بذلتِ من اجلها وكم سعيتِ ورائها ! فهكذا الانسان يتعرف على نفسه ويعطيها الدفعة للتقدم للأمام وتحقيق الانتصارات بحياته"
زمت شفتيها ببكاء وهي تومئ برأسها بالإيجاب هامسة بخفوت
"حاضر يا ابي"
اتسعت ابتسامته وهو يفرد ذراعيه لها قائلا بحنان ابوي
"تعالي إلى هنا يا فتاتي القوية"
اغرورقت عيناها بالدموع الحارة وهي ترتمي بأحضانه لتتعلق بعنقه بذراعيها النحيلتين بتشبث وهي تبكي بسعادة غامرة ، ليمسك بكتفيها بلحظة وهو يبعدها عنه قائلا بحزم حنون
"هيا بنا نذهب ، لكي لا نتأخر اكثر وتضيع عليكِ جائزتك ويسلبون منكِ إنجازاتك"
هزت رأسها بقوة وهي تمسح دموعها بكفيها ليقف بعدها عن درجات السلم وهو ويحملها فوق كتفه عاليا وكأنها ترى العالم بأسره فوق جبل شاهق ، لتجد نفسها بعدها بلحظات فوق منصة الفائزين والمسؤولون يسلمونها ميداليتها الفضية ، وما ان تلفتت من حولها حتى صدمت باختفاء والدها الذي كان يحتل مكان بين الجماهير ، لتدور بعينيها بخوف تربص بها وهي تبحث عنه بكل الارجاء قبل ان تلمحه يغادر بعيدا وهو يوليها ظهره ، ولم تشعر بنفسها وهي تنزل عن المنصة وتجري بسرعة نحو الطريق التي توصل له وهي تتباعد كلما اقتربت اكثر .
وقعت بعدها على ركبتيها وهي تمد بيدها الصغيرة صارخة للظل الذي بدأ الظلام بابتلاعه بعيدا عنها
"ابي انا هنا ، ابي لا ترحل وتتركني ، ابي لقد وقعت ساعدني ، عد يا ابي ، انا بحاجة ماسة لك ، انا احتاجك بشدة ، لا استطيع المضي قدما بدونك ، عد يا ابي ، ابييييي !"
نهضت بسرعة عن السرير وهي تشهق بقوة وعضلاتها تتشنج بتقلص وتتسع بعد ان افاقت من دوامة احلامها السحيقة ، لتزفر انفاس طويلة مجهدة وهي تعيد تنظيم خفقات قلبها واعصابها الحسية والفكرية ، وما ان التفتت جانبا حتى فوجئت بوجود زوجها الجالس فوق الكرسي بجانب السرير ورأسه متراجع للخلف وهو يغرق بنوم عميق .
مسحت جبينها المتعرق بكفها وهي تستقيم بجلوسها بإرهاق ، لتنظر بعدها للسقف بصورة مشوشة بسبب الدموع التي تكدست بمقلتيها بعذاب بعد ان عادت الكوابيس القديمة لمطاردتها والتي لم تفارقها طول سنوات طفولتها منذ حادثة وفاة والدها ، لتستغفر ربها كثيرا وهي تمسح على صدرها مكان ضربات قلبها التي احترقت من سرعتها وهي تغوص بداخلها .
عادت بالنظر للجالس بجوارها وهي تشرد بملامح وجهه وجسده وهيئته بدون إرادة منها وكأنها تجسده مكان والدها الراحل ، وهذا ما حدث بيوم عزاء زوج والدتها عندما بكت بشدة امام قبر والدها واحتضنها هو بين ذراعيه بدون دعوة او سبب .
ابتلعت غصتها بصعوبة جرحت حنجرتها وقلبها وهي ما تزال تغرق بتفاصيله بهدوء تشبع غريزتها التي تاقت لوجود سند يمثل والدها ، لتُخرج بعدها قدميها من تحت الغطاء وهي تنهض عن السرير برفق ، لتقترب بعدها من الكرسي وهي تسحب الغطاء الخاص بها لتضعه فوق النائم والذي قضى الليل بطوله هنا .
غزت ملامحها بسمة حانية وهي تحيط وجهه بيديها لتعدل وضعه فوق ظهر الكرسي باستقامة ، لتسحب بعدها يد واحدة وهي تمسح بها على شعره الناعم تتخلله بأصابعها الرقيقة لتسرحه للخلف كما تفعل عادةً مع تلاميذها المفضلين ، وبيدها الاخرى تحيط بها جانب وجهه وهي تتلمس بأظافرها شعيرات لحيته البيضاء البارزة قليلا وتخدش باطن كفها بلطف .
حركت (روميساء) رأسها بإفاقة وهي تسحب يديها على مضض ما ان شعرت بنفسها تتهور اكثر من الحد ، لتعود بسرعة لمكانها وهي تجلس على طرف السرير بهدوء ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تهمس بخفوت مرير وكأنها تشي بسر بدون علمه
"يا ليتني استطيع نسيان الماضي وشق طريقي معك ، فأنت هو الملجئ الذي لطالما بحثت عنه منذ فقدان والدي ، لذا شكرا لك على قبول طلب اللجوء لك"
احنت حاجبيها بحزن وهي تمد كفيها لتتمسك بيده المستريحة فوق ذراع الكرسي ، لتميل نحوه لا شعوريا حتى اراحت جانب خدها فوقها وهي تهمس ببكاء ناعم
"احبك يا احمد الفكهاني ، احبك بقدر حبي لوالدي ، احبك يا منزلي وملجئي ، احبك لدرجة الخوف من خسارتك ايضا !"
تحشرج صوتها بالنهاية وهي تنشج ببكائها وكأنها نفس الطفلة بذلك الحلم الذي تبحث عن الامان والحماية بحضن والدها والذي هجرها طفلة ضعيفة محملة بكل اعباء الحياة الصعبة والتي تفوق سنها ، وكلماته هي الذكرى الوحيدة التي تبقت لها لتتسلح بها بالقوة وتمضي قدما .
_______________________________
كورت شفتيها بامتعاض وهي تحتضن ساقيها بين ذراعيها وتنظر بعيدا بإيباء ، وهذا حالها منذ وصول طائرتها لبلد غربي آخر ونزولها مريضة بهذه المشفى الكبيرة ، وهي لا تعلم اي شيء مما يحدث من حولها شوش عقلها وعكر مزاجها الذي ما كاد يتحسن من الرحلة حتى باتت مجرد حقيبة سفر ينقلها من مكان لآخر ترضخ فقط للأوامر .
تنفست ببؤس وهي تشرد بالفراغ امامها بدون اي حياة ، لتفيق بعدها على صوت الواقف بقرب السرير يأخذ دور المراقب فقط وهو يقول بهدوء مرح يضيف اجواء لطيفة من حولها
"هيا ابتهجي يا قلب هشام ، فهذا العبوس لا يليق بكِ فعلا ، وإذا بقيتِ هكذا فسوف اطلب من كل العاملين بالمشفى تسليتك حتى يروق مزاجك"
عقدت حاجبيها بحدة فوق مقلتيها الحارقتين بغضب وهي تقول بقنوط خافت
"لقد كان من المفترض ان نعود لبلدنا ومنزلنا ، ولكنك بدلا من ذلك نقلتني من مشفى لمشفى آخر ببلد غريبة عنا ! ما لذي تخطط لفعله بالضبط بهذه الحركة ؟"
تنفس بهدوء وهو يقول بجدية يعيد الكلام السابق الذي كرره على مسامعها اكثر من مرة
"لقد اخبرتكِ بهذا اكثر من مرة يا غزل ، بسبب دواعي صحية وابقاء على حياتك انتِ ستخضعين لعملية زراعة قلب جديد ، وبما اننا استطعنا اخيرا إيجاد المتبرع المناسب والذي سيتم اخذ قلبه لكِ ، فليس هناك داعي للانتظار اكثر وكلما اسرعنا بفعلها يكون افضل لسلامتك ولنا ، وقد استشرت طبيبتك الخاصة بنفسي ووافقتني بالرأي ، ما لذي ليس مفهوم بكلامي ؟"
اشاحت بوجهها بجمود وهي تقول باستنكار حانق
"انا لا افهم ، هذا الكلام كله لا افهمه ! الذي افهمه بأنني من المفترض ان اكون الآن بمنزلي بين وسط عائلتي واهلي وليس بالنصف الآخر من العالم اخضع لعملية قلب !"
دار حول السرير بلحظات قبل ان يجاورها بلحظة وهو يمسك بكفها يحتضنها بين يديه قائلا بقوة
"غزل هذا الامر جاد ، ولا يتحمل اي نوع من الاستخفاف والبرود ، انتِ قد وصلتِ لعمر متقدم يسمح لكِ بإجراء تلك العملية ، وإذا اهملتها اكثر من ذلك فقد تتضرر صحتك وتهدد حياتك"
سحبت يدها بقوة وهي تخفض ساقيها اسفل السرير قائلة بانفعال خرج عن السيطرة
"وانا قد اعدت عليك مئات المرات بأني بخير ، وهذه الحوادث مثل الإغماء وضيق النفس دائما اصادفها بحياتي اليومية ، لذا ليس هناك داعي لكل هذا الخوف والحيطة عليّ ! لأن قلبي بخير ، قلبي بخير ولا يحتاج للاستبدال فهو ما يزال يعمل بكل قوة وينبض بكل نشاط ، لذا ارجوك اتركني واترك قلبي وشأنه!"
تلبدت ملامحه بجمود وهو يقول بخفوت قاتم
"ولكنكِ لم تصادفي حادثة توقف قلبك عن النبض ! هل تنتظرين حلول هذه الحادثة مجددا لكي تصدقي بأنكِ تعانين من اعتلال بقلبك الذي لم يعد صالح للعمل اكثر ؟"
زمت شفتيها بعبوس بعد ان ضربها بمقتل لتشير بعدها بأصبعها السبابة جهة قلبها وهي تهمس بخفوت حارق
"انت تتألم من قلبي صحيح ! تخاف من ان يموت بين يديك بأي لحظة وتحمل انت تلك التهمة ! إذا كنت لست اهل بحمل هذه المسؤولية التي اتعبتك فيمكنك اخلاء سبيلي ببساطة بدلا من البحث عن الحلول البديلة بحماية حياتي وقلبي من مصيرهما المحتوم"
امسك بكتفيها بسرعة وهو يديرها نحوه قائلا بغضب مستعر يشدد على كلماته
"ما هذا الهراء الذي تهذين به ؟ هل تتخيلين ان افعلها واخلي سبيلك هكذا بعد ان دخلتِ قلبي بسرعة خاطفة ؟ لقد حملت على عاتقي حماية قلبك من الجميع ومن نفسكِ ، حتى لو كلفني الامر التبرع بقلبي من اجلي ان تعيشي انتِ ! فلن اتوانى عن فعلها لكِ"
اغرورقت عيناها بدموع تسربت من شرخ بقلبها العليل وهي تهمس بخفوت مرتجف بمرارة
"هل انا اموت بالفعل ؟"
تصلبت يديه على كتفيها لوهلة وتسارعت انفاسه بوتيرة مختلفة قبل ان يجذبها لصدره وهو يحتضنها بكل ما يملك من قوة علها تفهم قيمتها وتقدر ذلك ، ليطبع قبلته على رأسها الناعم بقوة وهو يقول فوقه بخفوت اجش عميق
"لن يحدث شيء كهذا ! فنحن سنعمل بكل ما نقدر لنتلافى حدوث تلك الاضرار الجسيمة ، وانا اعدكِ بأن اكون معكِ بكل خطوة بهذه العملية واما الباقي فسنتركه على الله"
تشبثت يديها بظهر سترته وهي تهمس ببحة مريرة
"هل ستنتهي حياتي لو لم اجري تلك العملية ؟ هل من الممكن ان ينتهي قلبي عن العمل نهائياً ويتوقف عن النبض للأبد ؟"
شدد يديه من حولها يكاد يكسر عظامها الهشة وهو يغرز اصابعه بخصلات شعرها القصيرة بقسوة قائلا بهدوء جاد
"كل شيء سيكون بخير يا عصفورة قلبي ، لذا توقفي عن قول كلام سابق لأوانه ، هل هذا مفهوم ؟"
شهقت ببكاء خافت مثل انين الظبي المجروح وهي تهمس بصوتها الحزين الكسير
"هل ستحبني حتى لو استبدلت قلبي ؟ هل ستبقى تحبني بقدر حبك الحالي ؟ هل ستستطيع التأقلم مع هذا التغيير الكبير بحياتنا ؟"
تنفس بحرارة حتى سحب صدره للداخل تكاد تغوص بحنايا قلبه وهو يطوقها بين ذراعيه بقوة ، لينزع اصابعه عن شعرها بعد ان اقتلع بعض الخصلات وهو يقول بصوت خفيض بشعلة مشاعره التي نمت على يديها
"انا احبكِ الآن وإلى نهاية عمري ، يكفي ان يكون هناك قلب بين اضلعك ينبض بالحياة ويسمعني صوت انفاسكِ ، وعندها لن اطلب من الله اكثر من ذلك"
شهقت بموجة بكاء اعلى وهي تسقي قميصه بدموعها السخية بدون توقف وكأن قلبها هو من يبكي ويرثي الحب ، لتحبس باقي دموعها بحنجرتها وهي تبتعد عن صدره ما ان سمعت صوت انفتاح باب الغرفة بدون سابق إنذار ، ليلتفت كليهما بنفس اللحظة نحو الباب والذي ظهرت منه صاحبة الدخول السريع وهي تهمس بقلب مكدوم بالأسى
"ابنتي الصغيرة"
نهض بعدها عن جانبها وهو يفسح المجال للمرأة التي دارت حول السرير بلمح البصر حتى وصلت لابنتها ، لتجلس بجانبها وهي تأخذها بين احضانها بلحظة وتبكي بحرقة امومة لم تستطع ضبطها طويلا وهي تصل حافة الانهيار ، لتعانقها الاخرى بقوة وهي تجهش ببكاء مرير وتسمح لنفسها بتحرير اسرها .
اشاح بوجهه بعيدا وهو ينسحب من امامهما ويتجه نحو الباب الذي يقف بإطاره والدها ، وما ان مر من جانبه حتى قال بهدوء وقور
"جزاك الله خيرا يا بني"
اومأ (هشام) برأسه وهو يقول بخفوت مجهد 
"سأترككم الآن لقضاء وقتكم العائلي معا ، فلابد بأنكم مشتاقين لبعضكم كثيرا ، عن إذنك الآن"
غادر بعدها قبل سماع إجابته وهو يخرج نفسه من ذلك النطاق الخانق بقلب انهكه تمثيل الصمود والقوة امام احبائه .
______________________________
زفرت انفاسها بهدوء وهي تستجمع كامل تركيزها بنقطة واحدة تحاول عدم التشتت عنها والتي تكون قراءة الاوراق امامها باستخدام حواسها الذهنية والعقلية ، لتشرد بعدها بخيالها لوهلة وهي تجسد رسومات وهمية من مقتطفات حياتها سحبت قلبها بعمق الموج الهادر ، لتنتفض بسرعة وهي تحرك رأسها بعنف تمسح تلك الافكار البلهاء من عقلها والتي اخذتها بعيدا عن مهام عملها .
ألقت بالأوراق جانبا وهي ترجع بظهرها للخلف وترفع رأسها عاليا برحلة تأمل الفراغ من حولها ، لتنقر بأصبعها على جانب رأسها وهي تقول بتأنيب خافت   
"تبا لك يا دماغي ! لماذا لا تعمل بشكل سليم ؟ ايها المحتال الصغير ! هل بدأت تتضامن مع قلبي ؟"
اخفضت اصبعها ببطء وهي تسترق النظر نحو مزهرية الازهار التي ما تزال تحتل جزء من سطح المكتب كأول ذكرى لها بيومها الاول ، وما ان اعتلت ملامحها بسمة حالمة حتى اختفت بلحظة على صوت رنين الهاتف الذي اعادها لصوابها .
اعتدلت بجلوسها وهي تمسك بالهاتف من على سطح المكتب ، وما ان ظهر لها الرقم المجهول والذي حفظته عن ظهر قلب حتى عبست ملامحها بتجهم وهي تهمس بقنوط   
"لم يكن ينقصني سواكِ الآن !"
تأملت الرقم للحظات وهي تسند ذقنها فوق قبضتها تنتظر حتى تصل لليأس ، ولكن لم يحدث شيء من هذا والرنين ما يزال مستمر بتواصل غير منقطع وبإصرار كبير ، لتتنفس بعدها باستسلام وهي تتنحنح بصوتها لتجيب على الهاتف قائلة بجفاء
"ماذا تريدين مني يا نحلة النحس ؟ ارى بأن رقمي قد اعجبكِ كثيرا حتى تتصلي بي بكل يوم يطيب لكِ !"
ردت عليها بالطرف الآخر بصوت خافت مشتد مختلف عن نبرتها الساخرة المعتادة
"ليس لدي مزاج لتبادل الطرائف معكِ والمزاح ، فأنا موضوعي هذه المرة جاد"
ارتفع حاجب واحد بسخرية وكأنها تستمع لفتاة اخرى فقدت عقلها وكشفت عن شخصيتها الحقيقية ، لتلوي بعدها شفتيها بشبه ابتسامة وهي تقول بخفوت مستهجن
"ماذا حدث معكِ ؟ اين ذهبت لباقة شخصيتك المبتذلة ؟ هل يعقل بأن تكوني قد تعرضتِ لخذلان كبير كسرك لهذه الدرجة ؟ ولكنكِ تستحقين بالفعل ما يحدث معكِ فهذه نهاية كل الاشرار بالعالم يا عزيزتي"
قالت (لينا) بسرعة بعصبية اشعلتها بكلماتها
"انتبهي لكلماتكِ يا حثالة المجتمع ! فأنا وانتِ لسنا من نفس المستوى حتى نتحاور بكل هذه الاريحية واتقبل تصرفاتك المستفزة ، لذا اعرفي مع من تتكلمين قبل ان تتفوهي بأي كلام معي !"
قبضت على يدها الحرة بقوة وهي تقول من بين اسنانها بحدة  
"يا إلهي ! انتِ حتما ستعيشين وتموتين فاجرة ! ولكن اللوم لا يقع عليكِ وحدك بل على التي فكرت بالإجابة على اتصالك وإسكات هذا الرنين المزعج ، ولا اعلم حقا متى ستصبحين امرأة ناضجة حقيقية لديها كرامة وحياء وعقل يفكر بشكل سليم !"
احتدت انفاسها بلحظتين وهي تقول من فورها باحتقار متأجج بالحقد
"لا تحكمي على الناس وتنسين نفسكِ من هذا الحكم ! فأنتِ لست سوى مختلة عقلية تتلاعب بأرواح الناس وتقتلع قلوبهم ! ولا تستطيعين مقارنة نفسكِ بي بهذا المضمار ، فلست انا الشريرة الوحيدة هنا بل انتِ كذلك يا صاحبة الرداء الاسود"
غامت ملامحها بظلمة حالكة سكنت عينيها الهائجتين لتتلاطم البحار بداخلهما بعنف ، لتشدد بيدها على الهاتف وهي تقول بخفوت شرس بعد ان عكرت مزاجها
"لقد تماديتِ كثيرا ! وانا لن اتحمل سماع المزيد من هذا الهراء الفارغ ! لذا افصلي الخط الآن ولا تعاودي الاتصال بهذا الرقم من جديد ، فهذه ستكون مكالمتنا الاخيرة بحياتنا والتي لن تتكرر مجددا"
ما ان كانت ستفصل الخط بالفعل حتى سبقتها التي قالت بالطرف الآخر بعجلة تراجع نفسها
"انتظري يا حلوتي ، لما كل هذه السرعة ؟ فأنا لم ادخل بموضوعنا بعد ؟"
اعادت الهاتف لأذنها وهي تقول بدون اي مقدمات
"عن اي موضوع تتكلمين ؟"
تنحنحت بصوتها وهي تقول بجدية باردة
"لن ينفع على الهاتف ، اريد منكِ القدوم لمنزلي الصيفي لإجراء ذاك الحديث الخاص بيننا ، والغرض منها سيكون ابرام اتفاقية سلام ستحل كل مشاكلنا من جذورها ، فما رأيكِ بهذه الفكرة ؟"
ردت عليها من فورها بجحود
"ما لذي تخططين له بعرض هذه الفكرة ؟ انتِ....."
زمت شفتيها تفكر بالأمر مليا قبل ان تقول ببساطة
"حسنا لا بأس ، انا موافقة"
صمتت لحظات قبل ان تقول بخفوت مستغرب   
"هل هذا يعني بأنكِ موافقة ؟ هل وافقتِ بهذه السرعة ؟"
عقدت حاجبيها بتصلب وهي تقول بخفوت متحفز  
"بلى موافقة ، وانا حتى قادمة إليكِ الآن ، فقد سئمت من هذا الوضع وحان الوقت المناسب لنضع الحد له"
ردت عليها بخفوت واثق بعد ان حصلت على مرادها
"جيد ، إذاً سأرسل لكِ موقع منزلي برسالة نصية ، وانتِ تعالي للعنوان المرسل بمفردك بدون اصطحاب احد ، هل كلامي مفهوم ؟"
اومأت (ماسة) برأسها بابتسامة ساذجة وهي تهمس بخفوت
"حسنا يا سيدتي ، سأفعل ذلك ، كوني على استعداد لاستقبال زيارتي"
اخفضت الهاتف بعد انقطاع الخط وهي تشرد بالشاشة السوداء بصمت والتي تعكس صورة محياها وكأنها تحاكم نفسها ، وما ان وصلت الرسالة المنتظرة واضاءت الشاشة حتى نهضت بسرعة عن الكرسي وهي تدس الهاتف بجيب سترتها القطنية وتلملم الاوراق التي كانت تطالعها لتضمها بين ذراعيها ، امسكت بعدها بالحقيبة وهي تضع حزامها فوق كتفها لتجري بسرعة خارج المكتب .
ما ان وصلت الباب حتى انفتح قبلها وظهر منه صاحب الملامح المتلبدة وهو يتأملها عن كثب لبرهة ، ليقول بعدها بهدوء صارم ما ان كشف نيتها بالخروج
"إلى اين يا مهندسة ماسة ؟ لم نبدأ بالتدريب بعد واصبحتِ تفوتين دروسك !"
اشاحت بوجهها بضيق وهي تدس خصلاتها الطويلة خلف اذنها هامسة بخفوت جاد
"اعتذر منك ، ولكن طرأ لي عمل مستعجل عليّ اتمامه فورا ، لذا انا مضطرة للمغادرة الآن"
تجمدت ملامحه وهو يرفع ساعة معصمه امامها ليشير لها بأصبع يده الاخرى قائلا بعملية
"لم ينتهي دوام العمل ليسمح لكِ بالمغادرة !"
تنهدت بجمود وهي تنظر له بقوة لتمد له الاوراق بحوزتها قائلة بابتسامة واثقة
"هذه تقارير العمل الاخير وتلخيص دروس التدريب التي طلبتها مني ، وهكذا استطيع المغادرة مبكرا بدون الداعي لانتظار انتهاء دوام العمل ، صحيح ؟"
تغضن جبينه بتصلب وهو يستلم الاوراق منها بصمت ليتفحصها بعدها بعين دقيقة على مهل ، وبغضون لحظات كان يومئ برأسه وهو يقول برضا
"حسنا لا بأس بها"
تنفست الصعداء وهي تحاول اجتيازه من عند الباب قائلة بعجلة
"إذاً عن إذنك الآن"
اوقفتها الذراع التي امتدت عند إطار الباب تعيق عليها مهمة المرور ، وما ان رفعت وجهها المرسوم بمعالم غاضبة حتى سبقها الذي قال بجدية بدون اي تكلف
"هل انتِ بخير ؟"
ابتلعت ريقها ببعض الارتعاش ما ان فاجئها بالسؤال لتختلق بعدها ابتسامة مهذبة وهي تقول بإيباء واثق
"انا بخير جدا ، ومنذ متى لم اكن بخير ؟ لا تدع المظاهر تخدعك مجددا !"
ارتفع حاجبيه ببهوت وهو ينوي الكلام لولا التي انسحبت بسرعة وهي تنخفض من تحت ذراعه وتمر منها كما فعلت بالمرة الماضية ، ليلتفت بوجهه للخلف وهو يتابع التي صرخت بقوة تكمل طريقها بعيدا   
"وداعا يا سيدي المدير"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يستقيم بمكانه ويخفض يده عن إطار الباب ، ليعود بعدها بنظره للأوراق بين يديه والتي لخصت بها كل شيء دار بينهما منذ بداية خوض دورات التدريب معها رغم تدهور حالها وحزنها آن ذاك ، ليتمتم بعدها بخفوت منبهر يصرح بالاعتراف
"كلامها قليل ولكنها ذات تأثير كبير !"
______________________________
خرجت من سيارة الاجرة وهي تمسك بحزام حقيبتها وتغلق الباب بيدها الاخرى ، لتتأمل بعدها الطريق الممهد امامها والمرصوف بالحجارة والذي يوصل للمنزل المنفرد بهذه المنطقة الجبلية ، وكل منزل يبعد عن الآخر مسافة لا تقل عن امتار وكأن كل منها منفصل بعالم مختلف .
تنهدت بهدوء وهي تعزم امرها قائلة بخفوت متأهب
"لنرى ما يمكننا فعله بحل هذه المسألة !"
تقدمت بخطواتها وهي تسير على الطريق بثبات وقوة ، وما ان وصلت امام باب المنزل حتى قاطع افكارها صوت طنين هاتفها بجيب سترتها بتوقيت غير مثالي ، لتخرجه بعدها بجمود وهي تشرد لوهلة بالاسم المضاء بالشاشة ، وما هي ألا لحظات حتى كانت تجيب على الهاتف قائلة بطبيعية
"صباح الخير يا زوجي"
اجابها (شادي) من فوره بصوت قوي صارم   
"اين انتِ يا ماسة ؟ لماذا لا اجدك بمكان عملك ؟"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تتأمل الباب امامها قائلة بخفوت متشدق  
"اعتذر على هذا ولكني قد غادرت العمل مبكرا اليوم بسبب عمل مستعجل"
ردّ عليها من فوره باستغراب  
"اي عمل مستعجل هذا ؟ اين انتِ الآن ؟"
دست خصلاتها خلف اذنها وهي تهمس ببساطة
"انا الآن امام منزل غريمي ، اعتذر اقصد منزل حبيبتك المزيفة ، فقد قررنا ان نعقد اتفاق هدنة بيننا ينهي كل هذه الحروب"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يقول بلحظة بانفعال هادر  
"ماذا ؟ بمنزل لينا ! وما عملكِ عندها ؟ عودي من عندك حالاً وألا....."
قاطعته بجموح وهي تقبض على يدها الحرة بقوة  
"ليس هناك تراجع بعد الآن يا شادي ، فأنا قد وصلت مرحلة اخاطر بها بكل شيء بسبيل تحقيق اهدافي ! ويمكنك اعتبارها زيارة لمنزل صديقة زوجي بجلسة نقاش ودية"
احتدت انفاسه بضيق وهو يقول بثورة  
"ماسة إذا لم تتراجعي عن هذه الحركة فلن تتصوري ما ستكون عليها النتائج ، وها انا احذركِ الآن !"
حركت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تهمس بخفوت ميت من سلم امره لشيطان عقله
"لم يعد هناك ما اخسره بحياتي !"
اخفضت الهاتف عن اذنها وهي تغلق الخط والإرسال لكي لا يستقبل المزيد من الاتصالات ، لتعيد بعدها الهاتف لجيب سترتها وهي تعدل من هيئتها وتنفض ذيل حصانها خلف كتفها ، لتتخذ الخطوة الحاسمة وهي تقرع الجرس مرة واحدة هامسة بترقب متقد
"حانت اللحظة التي اطوي بها هذه الصفحة"
ارتفعت ابتسامتها ببرود ما ان انفتح الباب امامها واستقبلتها خادمة المنزل ، وقبل ان تتكلم سبقتها الخادمة وهي تفسح لها المجال قائلة بترحاب
"تفضلي بالدخول يا آنسة ماسة ، السيدة لينا بانتظارك بالداخل"
اومأت برأسها بهدوء وهي تدلف للداخل بالفعل وتسير خلف الخادمة التي ترشدها للطريق ، وما ان وصلت حتى نظرت من حولها وهي تجد نفسها بغرفة ضيوف فسيحة تتكون من اثاث راقي وجدران واضواء من الذهب الفاخر ، لتتوقف بنظرها عند صاحبة المنزل والتي نهضت عن الاريكة وهي تمد لها كفها هامسة بابتسامة لبقة
"اهلا وسهلا بكِ يا زائرتي العزيزة ، لقد نورتِ منزلي بقدومك إليه"
ارتفع حاجبيها باستهانة وهي تقترب منها عدة خطوات قبل ان تصافح كفها بقوة هامسة بابتسامة طفيفة
"شكرا لكِ على هذا الاستقبال يا صديقة زوجي"
مالت ابتسامتها بصمت وهي تسحب كفها لتشير بعدها للأريكة خلفها قائلة بهدوء
"تفضلي بالجلوس يا عزيزتي لكي نستطيع التحدث بيننا براحة اكبر"
حركت كتفيها ببرود وهي تجلس على الاريكة ببساطة قبل ان توجه نظرها للخادمة الساكنة بينهما وهي تقول لها بمودة مزيفة
"لو سمحتِ هل تستطيعين ان تجلبي لي كأس من العصير البارد ؟ فقد جف ريقي من المشوار الطويل بالوصول إلى هنا ، هل هذا ممكن ؟"
نظرت الخادمة ناحية سيدتها تطلب إذنها لتقول لها بابتسامة جامدة
"ما بكِ ؟ ألم تسمعي طلبها ؟ اذهبي واحضري العصير حالاً فهي ضيفتنا اليوم"
اومأت برأسها بانصياع وهي تنوي الرحيل لولا التي سبقتها وهي تقول بتساؤل حائر  
"انتظري لحظة ، كيف تذهبين قبل ان تأخذي طلب سيدتك ؟"
قالت (لينا) من فورها بتصلب  
"انا لا احتاج لشيء....."
قاطعتها بسرعة وهي تقول بجدية مستفزة وكأنها تستخدم قوة المنطق بالتأثير على الخصم
"بل انتِ بحاجة لشرب العصير لكي لا يجف حلقك بمنتصف النقاش الذي سنخوض به مطولا ، ام انكِ تفضلين شرب اشياء اخرى غير العصائر الطبيعية ؟"
بهتت ملامحها وهي تشعر بمعنى آخر بحديثها وصل لها بطريقة غير مباشرة ، لتنظر بعدها للخادمة وهي تقول لها بعملية
"احضري لنا كأسين من العصير يا ثريا...على الفور"
امتثلت لطلبها وهي تقول بتهذيب
"حاضر"
غادرت بعدها الخادمة خارج الغرفة بصمت ، لتجلس (لينا) فوق الاريكة مجددا وهي تضع ساق فوق الاخرى رفعت اطراف تنورتها السوداء القصيرة لفوق ركبتيها مع قميص احمر من الشيفون يصل فوق السرة وكأنها لا تملك اموال طائلة تستر بها جسدها ، وبالمقارنة بها فهي لا تستطيع مسابقتها بهذا المضمار والذي ختمته بفجور روحها وتعريتها على العلن !
ضمت اطراف سترتها القطنية بلون الكراميل وهي تحمي نفسها من ذبذباتها التي بدأت تصيبها بنفور بروحها ، لتنجذب بعدها لصوتها الناعم ما ان قالت بابتسامة انثوية
"إذاً هل نبدأ بموضوع نقاشنا ؟"
حركت كتفيها ببرود وهي تقول بخفوت جاف  
"ستقدمين لي معروف كبير"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول بخفوت مباشر
"سأدخل بالموضوع مباشرة بدون اي مقدمات ، اريد منكِ الخروج من حياتنا ومن المجرة بأكملها وكأنه لم يكن لكِ وجود يوما"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بدهشة وهي تتقدم بجلوسها قائلة بتفكير بديهي وكأنها تفسر الامر بعقلها
"دعيني افهم كلامكِ اولاً ، تريدين مني الرحيل عن حياتكم وعن البلاد والاختفاء عن الوجود ! ولكن كيف سيحدث هذا ؟ ينتابني الفضول حيال هذا الامر"
ارتسمت ابتسامة واثقة على محياها وهي تقول بدهاء
"الامر سيكون كالآتي انا اقدم لكِ عرض وانتِ ستقبلين بكل امتنان ، ونوع العرض يتضمن امتيازات الاستقرار خارج البلاد وبشقة تؤمن كل احتياجاتك...وعمل بشركة مرموقة وحياة مرفهة من كل النواحي ، فأنا اعرف اقارب من مناصب عالية يعيشون بالخارج يمكنهم مساعدتك وتقديم الدعم لكِ ، ويمكنكِ اعتبارها منحة دولية كالتي كنتِ تحصلين عليها بفترة دراستك بالجامعة ، ولكن الفرق بأنها منحة هجرة تؤهلك للسفر خارج العالم والانتساب للفرع الذي يعجبك بالشركة التي ستنضمين لها ، وإذا رغبتِ بإكمال دراساتك العليا بجامعة امريكية فلن تمانع باستقطابك لها وحصولك على شهادة الماجستير والدكتوراه بها ، فكما اعرف بأنكِ مجرمة وسارقة اعرف ايضا بأنكِ من الطلبة الأوائل بدفعتك التي حققتِ بها اكبر الإنجازات على مر السنوات !"
كانت تحدق بها بجمود وهي تسرد قائمة احلامها بالماضي التي كانت تسعى لتحقيقها بكل جهدها ما بين طفولتها المنسية ومراهقتها المظلمة باب هش عتيق ، لتضم بعدها كفيها بحجرها بقوة وهي تقول بخفوت باهت
"هل تطلبين مني هجر حياتي وعائلتي وزوجي وذكرياتي ؟ هل تريدين مني ترك كل هذا وراء ظهري والسفر بعيدا ؟ هذه لا تعتبر منحة هجرة بل هي غربة ومعاناة ! انتِ تريدين إرسالي للمنفى فقط لكي تبعديني عن حياتك ! ما كل هذه القسوة ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تخفض ساقيها وتعتدل بجلوسها قبل ان تهمس ببديهية تعدل كلامها
"لا تنظري لها من هذا الجانب ، فأنا على ثقة كبيرة بأنكِ ستعتادين على الوضع هناك وتتأقلمين بمحيطه مع مرور الوقت ، ولن تهجري احد من عائلتك لأنكِ ستتمكنين من التواصل معهم على الهاتف ولن تنقطعي عنهم ، بالرغم من انني اراهن ان كان هناك عائلة حقيقية قد تسأل عنكِ وتهتم بأمرك ! ولكن كما قلت انظري للإيجابيات بالموضوع وتفوقها على السلبيات وقارني بينهما"
ارتفعت زاوية ابتسامتها بالتواء ساخر وهي تقول بخفوت مستهجن
"هل تظنين حقا بأنني قد افكر بالموافقة على مثل هذا العرض ؟ او هل وهمك عقلك بأني سأفعلها واقبل بعرضك ؟ ربما لو كان بالماضي لكنت سررت كثيرا بالحصول على مثل هذه الفرصة المثالية ، ولكن الآن هناك امر قد تغير بحياتي حتم على كل الاشياء بالتغير ! وانا الآن لا افكر بالسفر او الرحيل من حياة احد ، بل سأبقى مستقرة هنا واعيش حياتي كما احب ، فما يهم عندي هو الحاضر فقط ولا ماضي او مستقبل قد يعنيني بعد هذه اللحظة !"
تجمدت ملامحها بتعبير قاسي وهي تقول بفجور  
"انتِ كاذبة ! هل تعلمين لماذا ؟ لأنني اعلم جيدا ما هو مسعاكِ بالحياة ، انتِ هدفك ليس الحب او العائلة بل الثروة وإيصال اسمكِ للمجد والعلى ، تحاولين اخفاء نواياكِ واهدافك الحقيقية ودفنها بتمثيل الكبرياء والشموخ ، ولكنني اعرف جيدا نفسكِ الحقيقية ، اعرف منذ ان استوليت على مرتبة مهمة بحياة شادي والذي تستخدمينه وسيلة بتحقيق كل ما منعت عنه نفسكِ وحرمت منه ، ترسمين عليه طريقك وطموحاتك بالوصول لمراتب لم تحلمي بها يوما ! تخبئين به ماضيكِ الاسود والحقائق التي تخصك ليكون غطاء عليكِ يبرئك من جرائمك وذنوبك بالحياة !"
قبضت على كلتا يديها فوق ركبتيها تكبح مشاعرها التي اجادت حرقها وهي تقول من بين اسنانها بعدائية  
"إذاً اعتذر على تخييب مخططاتك وظهوري خلاف ظنونك السيئة نحوي !"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تهمس باستنكار
"هل تسخرين مني الآن ؟ ألن تعترفي بحقيقة كلامي ؟"
ادارت رأسها للجهة الاخرى وهي تهمس ببرود
"ليس لأنها قد نفعت مع كمال قد تنفع معي كذلك !"
نهضت بسرعة عن الاريكة وهي تصرخ بجموح  
"انتِ...."
قاطع النقاش الحاد صوت دخول الخادمة وهي تحمل صينية كؤوس العصير ، لتتلبك ما ان رأت وضع سيدتها وهي تهمس بأدب
"لقد وصل العصير ، واعتذر حقا على التأخير"
لوحت بذراعها نحوها وهي تصرخ بتقريع
"اين كنتِ يا ثريا ؟ هل كل هذا الوقت يأخذ تحضير العصير ؟"
هزت رأسها بارتجاف وهي تعتذر مجددا ، لتقاطعها التي بدأت تتأفف بنفاذ صبر
"هيا قدمي العصير وغادري"
اقتربت من الطاولة بالوسط وهي توزع عليها كأسين العصير ، لتحمل بعدها الصينية وهي تومئ برأسها باحترام قبل ان تغادر من الغرفة .
امسكت (ماسة) بكأس العصير الخاص بها وهي تحدق بلونه البنفسجي قائلة بخفوت مستهزئ
"اتمنى فقط ألا يكون مخلوط بالكحول"
نظرت لها بارتباك وهي تهمس بوجوم
"هذا عصير توت طبيعي ، ليس اي شيء آخر"
ابتسمت ببرود وهي تشتم رائحته من باب الحيطة لكي لا تكرر خطأ الماضي الذي كان لطخة سوداء بحياتها ، وما ان تأكدت من مزيح التوت الطبيعي به حتى اخذت تشرب منه بهدوء تروي حلقها الذي جف فعلا وتصحر بقلبها .
ضمت يديها حول الكأس بعد ان تجرعت نصفها وهي تراقب التي جلست من جديد قائلة بابتسامة متزنة
"حسنا لنعد لموضوعنا السابق الآن"
شبكت يديها حول الكأس وهي تهمس بخفوت ساخر
"ماذا لديكِ ايضا ؟ تفضلي"
ابتسمت بثقة وهي تخرج ورقة مطوية من خلف وسادة الاريكة ، لتلوح بعدها بالورقة وهي تقول بابتسامة منتشيه وكأنها تخرج ورقتها الرابحة
"هذه قد تغير رأيكِ حتما ، تعالي وألقي نظرة"
تلبدت ملامحها بطبقة جليد وهي تنهض عن الاريكة قبل ان تدور حول الطاولة وتصل لها ، وما ان اصبحت بجانبها حتى مدت الورقة لها وهي تقول بتملق   
"هيا خذي الورقة"
تجمدت بمكانها وهي تميل نحوها والكأس بيدها حتى انسكب باقي العصير على الورقة مباشرة والتي ارسلت بدورها لتنورتها السوداء وساقيها المكشوفتين من تحتها ، استقامت بسرعة ما ان شهقت الاخرى بفزع وهي تقفز بمكانها وتنفض تنورتها مثل التي اصيبت بتيار كهربائي ، لتنظر لها بغضب مشتعل ما ان قالت لها بابتسامة نادمة
"اعتذر لم انتبه ، لقد نسيت وجود الكأس بيدي"
اشارت لها بأصبعها السبابة وهي تقول بعصبية بالغة قدحت بعينيها الخضراوين
"انتظريني هنا ، ولا تتحركي من مكانك سنتمتر واحد"
ابتعدت عن طريقها ما ان اندفعت تمر مثل العاصفة بسرعة وهي تخرج من الغرفة بأكملها ، لتحرك كتفيها بلا مبالاة وهي تضع كأسها الفارغة فوق سطح الطاولة ، دارت حول الطاولة وهي تخرج من جيب سترتها قرص دواء صغير ، لترفع بعدها يدها وهي تسقط القرص بداخل العصير الممتلئ وهو يذوب بقلبها بثواني .
نقلت نظرها بسرعة نحو باب الغرفة والذي دخلت منه صاحبة التنورة السوداء النظيفة التي تبدو غيرتها بشبيهة لها ، لترفع نظرها لوجهها ما ان تقدمت نحوها مباشرة وهي تمسك بالورقة بيدها ، وما ان وقفت امامها حتى سبقتها بالكلام قائلة بأسف مزيف    
"اعتذر حقا يا عزيزتي ، لم اقصد التسبب بكل هذه الفوضى...."
قاطعتها بجمود وهي تمد لها ورقة جديدة بعد ان تخلصت من القديمة التي غرقت بالعصير
"اقرئي المكتوب بالورقة بتمعن وفكري به"
اخذت منها الورقة بأطراف اصابعها وهي تفتحها امامها ، بينما جلست (لينا) على الاريكة وهي تتناول كأس العصير الممتلئ لتشرب منه جرعة واحدة وهي تكررها عدة مرات حتى انتهى العصير .
كانت (ماسة) تحدق بالورقة بقراءة سريعة وهي تشاهد شريط حياتها السوداوية مسجل بهذه المقالة ، لتخفض بعدها الورقة عن نظرها وهي تقول بخفوت قاتم 
"ماذا تريدين ان تفعلي بهذه المقالة ؟ هل تفكرين بنشرها مثلا ؟"
وضعت كأس العصير على الطاولة وهي تقول بابتسامة متلاعبة   
"يعني شيء من هذا القبيل ، ما رأيكِ انتِ هل افعلها وانشرها ؟"
كشرت ملامحها وهي ترفع الورقة امام نظرها تمسك بها بالعرض وتمزقها نصفين لتستمر بعدها بتمزيقها إرباً إرباً ، وما ان تجمعت قطع صغيرة بيدها حتى نشرتها بوجهها وهي تضربها بها كومة واحدة ، لتقول بعدها بابتسامة باردة تشحنها بكراهية قلبها
"هذا هو جوابي الصريح على سؤالك ، ما رأيكِ به ؟"
نفضت شعرها وملابسها بقسوة قبل ان تهب واقفة وهي تصرخ بضراوة  
"كيف تتجرأين ؟ هل تعلمين ما سيحل بكِ الآن ؟ هل تعلمين...."
تشوشت الصورة امامها وهي تترنح قليلا للخلف بدوار لحظي افقدها ثباتها ، لتستغل (ماسة) الفرصة وهي تكبل كتفيها بيديها وتدفعها للخلف هامسة بترقب  
"لا اعلم ما سيحل بي ، ولكني اعلم ما سيحل بكِ انتِ"
وقعت نصف مستلقية على الاريكة وهي لا تقوى على النهوض وكأن جسدها مخدر بالكامل ، لتتخذ مكانا بجوار رأسها وهي تمسح على شعرها الاشقر بكفها هامسة ببراءة مزيفة 
"اعتذر يا ابنة الوزير ، ولكنكِ من تمادى اولاً وتخطى الحدود ، وانا الآن فقط ألقنك الدروس التي كنتِ تذيقيني إياها واحدة تلو الاخرى ، وانا عندما ينفذ صبري ويفلت الامر من يدي يحدث تماما كما يحدث معكِ الآن !"
زفرت نفس طويل بتعب وهي تنظر للأمام لتسند بعدها يديها فوق ركبتيها هامسة بخفوت عابس وكأنها تفرغ الفجوة بقلبها  
"لقد كنتِ السبب بانهيارات كثيرة بحياتي ، بالبداية لم افهم سبب حقدك نحوي ، بعدها فهمت بالتدريج نواياكِ الحقيقية ، كنت اتجاهل واكبح تصرفاتك بداخلي وامرر افعالك لأنني لم اكن املك تلك التعويذة السحرية التي دخلت لها بإرادتي الحرة وقيدت قلبي بقيودها ، وعندما اصبحت املكه ووجدت سعادتي التي تأخرت بإدراكها ، عرفت بأنكِ ستكونين العائق الاكبر بحياتي ، وكنتِ كذلك منذ حفلة زفافي وانتِ تستخدمين كل انواع الحيل والمؤامرات ضدي بكل هجوم لتصلي لهدفك وتدمري ذاك الرابط بيننا ، حتى تخليتِ عن كل مبادئك واخلاقك وتعريتِ عن صورتك بإطار مرتبتك المرموقة ونسبك العريق ! فليست كل المراتب والمناصب تحدد داخل الانسان وصفاته بل التصرفات هي التي تحكم هنا !"
مسحت بقبضتها خدها وهي تتنفس باتزان وكأنها تستنزف روحها ، لتتابع بعدها كلامها بكراهية اكبر
"ولكنني استطعت اخذ حقي المسلوب من الجميع ولم اترك محصول عليّ ألا وحصدته ، هل تذكرين اول لقاء بيننا ؟ كان عندما سكبتِ القهوة الساخنة على ذراعي ! ولكنني رددتها لكِ عندما سكبت العصير على تنورتك الجميلة . هل تذكرين عندما قدمتِ لي عصير مخلوط بالكحول وفقدت صوابي حينها ؟ لقد ورطتني بفضيحة ووصمت كلطخة سوداء بسجل بحياتي ، ولكن لا تقلقي بهذا الشأن فأنا سجلي من الاساس لم يكن ناصع البياض حتى افكر بهذه اللطخة ! وانظري إليكِ لقد رددتها لكِ وخلطت عصيرك بحبة منوم ، ولا تخافي فهي تأثيرها مؤقت يستغرق وقت قصير ولن يدوم للأبد ، فأنا لم اصل بعد لمستواكِ وان افكر بوضع مشروبات روحانية بعصيرك او حبوب مسممة ! فقط درس صغير لكي تتعلمي قليلا من آداب الذوق والحياء"
مسحت جفنيها الحمراوين بقبضتها وهي تدير وجهها نحوها تراقب رأسها المستلقي بجانبها ونصف عينيها المفتوحتين وكأنها لا تعي ما يدور من حولها ، لترسم بعدها ابتسامة ساخرة على محياها وهي تقول بنبرة شقية وكأنها تلاعب الثعبان
"انتِ الآن لا تستطيعين تحريك جسدك قيد انملة او النطق ، ولكنكِ تسمعيني جيدا وتريني بوضوح ، وهذا يكفيني واكثر ويريحني جدا ، وكأنني اكلم صديقتي الخيالية التي تسمع همومي وشكواي وتؤنس وحدتي ووحشتي !"
ضربت بقبضتها على صدرها بغصة قاتلة وهي تقول بحزن موجع
"هكذا انا منذ طفولتي ، ولم استطع تغيير هذه النفس مهما حاولت ، عندما يسيء احدهم لي ويمتلئ رصيده عندي ارد له الاساءة بالإساءة . عندما تحترق احشائي وقلبي بداخلي لا استطيع كبتها وافضل ان اتقيأ بها للخارج واحترق معهم ! فأنا بكل مرة اتعرض بها لجرح او كسر او إهانة تزيد من فجوة روحي وظلام قلبي حتى لا يعود هناك مكان للمسامحة او الغفران بطريق حياتي ، بل فقط الحقد والانتقام هو الذي يغذي قلبي ويشعل جذوة حياتي ويسقيني المرار والظلم حتى بت اسوء قبحا من الاشرار ! ومن كثرة ما تعرضت له على مرور سنوات حياتي لم اعد اكترث إذا كنت بنظرهم شرير او صالح او كنت صديق او عدو . فقد جعلوني بالنهاية انا الظالمة وهم الابرياء المظلومين ! لست انا السيئة بل البشر همّ الذين لا يملكون النظرة الصحيحة للأشياء ويخطؤون بالحكم !"
تنفست بضيق مكبوت بعد ان انتهت من تفريغ طاقتها الداخلية وكل شحناتها السلبية بالكلام ، لتنظر بعدها للنائمة بجوارها والتي اغلقت عينيها هذه المرة وذهبت بسبات عميق بعد ان قاومت تأثير الدواء عليها فترة طويلة ، لتدنو برأسها نحوها وهي تقول بعبوس مستاء
"هل نمتِ يا لينا ؟ هل ذهبتِ وتركتني ؟"
زمت شفتيها بوجوم وهي تهمس من بينهما بكره     
"إذاً اتمنى لكِ نوما سيئاً بقدر افعالك"
نهضت بعدها عن جانبها وهي تقف باستقامة تتأملها من علو للحظات ، لتستدير بعدها وهي ترمي ذيل حصانها خلفها ، قبل ان تتجه للنافذة الوحيدة بالغرفة وهي تقف امامها بشرود تتأمل العالم بعينين مجردتين من المشاعر ، لترفع يدها بلحظة وهي تغطي عينيها بظاهرها هامسة بخفوت يائس وكأنها تعلن سطوة ضعفها الفطري عليها
"متى ستقلعين عن هذه العادة القديمة يا ماسة ؟"
_______________________________
قرع جرس الباب بسرعة وهو يتنفس بلهاث وصدر يخفق بخوف ، وما ان فتح الباب وظهرت الخادمة حتى اندفع وهو يدخل امامها بدون استئذان ، لتفيق بعدها من صدمتها وهي تلحق به بسرعة صارخة باستنكار
"انتظر هنا يا سيد ، من سمح لك بالدخول للمنزل ؟ هل تعلم عقوبة اقتحام منزل ابنة الوزير ؟......"
ابتلعت كلماتها بذعر ما ان وقف امامها تماما بملامح جليدية ليقول بعدها بتصلب خافت
"اين هي سيدتك الآن ؟ هل استقبلت الزائرة التي قدمت إليها ؟"
حركت رأسها بالنفي قبل ان تعدلها وهي تومئ بالإيجاب ، لتقول بعدها بخفوت وجل
"اجل انها تستقبل ضيفتها الآن"
تجمدت ملامحه ببهوت وهو يقول من فوره بقوة
"اين هما الآن ؟"
انتفضت بخوف وهي تشير بيدها نحو جهة معينة قائلة بخفوت مرتبك
"بغرفة الضيوف الجناح الغربي"
تحرك بسرعة وهو يغادر من امامها نحو الجهة التي اشارت إليها ، ليقف بعدها امام الغرفة المقصودة وهو يفتحها مباشرة بدون مقدمات ، تسمر بمكانه وعينيه تقعان تلقائيا على الجالسة فوق الاريكة بأريحية والتي لوحت له بيدها ما ان انتبهت له وكأنها ترحب به بوضع طبيعي .
ترك مقبض الباب وهو يتقدم للداخل بحذر وعقله يتنبأ بالقادم بدون ان يراه والذي لم يخيب ظنه ، لتتسع عيناه بصدمة وهو يراقب الجسد الممدد على الاريكة غائب عن الوعي او قد يكون تحول الآن لجثة هامدة ، لينتشل نظراته بعيدا عنها وهو ينقلها للفرد الآخر بالغرفة قبل ان يشير لها بذراعه وهو يهمس بخفوت خطير  
"ماذا فعلتِ لها ؟"
رفعت يديها وكتفيها بآن واحد بعلامة الجهل وهي تقول ببراءة
"لم افعل شيء هي التي جنت على نفسها بنفسها !"
صرخ (شادي) بلحظة بغضب جامح
"ماسة !"
اقتحم صوت الخادمة من خلفه المكان وهي تشاهد المنظر امامها بذعر
"يا إلهي ! يا إلهي ! ماذا فعلتم بسيدتي ؟ ماذا فعلتم بها ايها القتلة !"
استدار برأسه مثل الطلق نحو الخادمة التي شحب لونها وهو يصرخ بها بصرامة بعد ان فقد زمام السيطرة
"هلا صمتِ قليلا رجاءً ؟"
اضطربت انفاسها بهلع وهي تفر هاربة من باب الغرفة بلمح البصر وكأنه بهذه الحركة شغل جهاز الإنذار ، لتجذب سمعه التي قالت بابتسامة جانبية بمغزى
"كيف عرفت عنوان المكان ؟ انت حقا تبهرني بكل مرة بالطريقة التي تستطيع بها إيجادي بدون ان تتكلف اي عناء بذلك ! هل تركب جهاز استشعار فوق رأسك يتنبأ بالاتجاهات التي عليه سلكها ؟"
سار نحوها بخطوات ذئب مفترس قبل ان ينقض على ذراعها وهو يوقفها امامه بقوة ، وبلحظة كان يهزها بعنف وهو يصرخ بوجهها بغضب عاصف
"ما لذي تخططين لفعله ؟ وماذا فعلتِ بها ؟ هيا اعترفي ما لذي أجرمتِ به هذه المرة ! كيف وصلت لهذه الحالة ؟"
اشاحت بوجهها بعيدا تتلافى اصطدام انفاسه الحارقة بها وهي تقول بخفوت ممتعض بدون ان تهاب منه  
"لا اسمح لك بإدانتي بهذه الطريقة ، فلست المجرمة الوحيدة والمذنبة بهذا العالم ! وعليك ان تحاكم اولاً البادي بهذه الجريمة ، فليس كل شيء يعتمد على النتيجة فقط بل عليك بالنظر للأسباب قبل ان تقفز للنتيجة مباشرة لكي لا تظلم كلا الطرفين بالقضية !"
احتدت ملامحه وهو يشير بذراعه الاخرى للجسد الساكن فوق الاريكة قائلا بصبر على وشك النفاذ
"إذاً اخبريني كيف وصلت لتلك الحالة والنتيجة ؟ أليس هناك سبب وراء غيابها عن الوعي بالوقت الذي كنتِ موجودة به معها ؟ هيا قولي يا صاحبة الاسباب كيف اوصلتها لهذه الحالة ؟ هل يعقل بأن تكوني سممتها ؟....."
نظرت له بسرعة بعينين واسعتين وهي تقول بعبوس حانق
"كلا ليس لهذه الدرجة ! لم افعل شيء مهم سوى خلط عصيرها بحبة منوم لتأخذ قيلولة قصيرة وليس نوم ابدي ، ولا تقلق بشأنها فهي سوف تستعيد وعيها بغضون دقائق على الاغلب ، انت فقط استرح ولا تتعب نفسك بالتفكير والخوف فكل شيء تحت السيطرة"
تنفس بيأس وهو يخفض ذراعه على جانبه بقوة قائلا بجمود صخري
"ولماذا فعلتِ ذلك ؟ ماذا استفدتِ من هذه الحركة الجنونية ؟ هل ارتاح ضميرك الآن ؟ هل ارتاح قلبك....."
نفضت ذراعها بعيدا عن قبضته بعنف وهي تصرخ بضراوة
"هذا لأنها فعلت معي نفس الشيء ، هي التي خلطت بعصيري مشروبات روحانية بتلك الحفلة التي افسدت الوثاق بيننا ومزقته ، هل تظنني سأمررها لها واصمت ؟ لقد صمت كثيرا على افعالها ! ولكن إلى هنا وكفى ، من الآن وصاعدا عليها ان تتجرع كل ما سقتني إياه واذاقتني المرار به واحدا تلو الآخر ، فلن اكون المجرمة ماسة إذا لم اندم كل شخص اساء بحقي يوما وقلل من شأني مهما كانت مكانته الاجتماعية والمهنية !"
مسح على شعره بكلتا يديه بإرهاق وهو يستغفر ربه بصمت قاتل ، ليقول بعدها بجمود وهو يخفض يديه بقوة
"ألم اخبركِ بها من قبل يا ماسة ؟ الانتقام ليس الحل لكل المشاكل ! الانتقام لا يحل شيء بل يزيد من سوء حالتك ويغمسك بالآثام اكثر ، هل انتِ سعيدة بهذه الحالة ؟ هل انتِ سعيدة بهذه النتيجة ؟"
ضربت قبضتيها على جانبيها وهي تقول باستهجان شرس
"لا تتكلم وانت لم تجرب يوما ان تشعر بما اشعر به !"
ادار رأسه جانبا وهو يتمالك اعصابه بلحظة لكي لا يفقد صوابه ، ليشير بيده نحو الفرد الثالث الغائب عن الوعي وهو يقول بتصلب جاد
"وماذا سنفعل بهذه الجريمة الآن ؟ هل تظنين بأننا سننفذ من كل هذا ببساطة بعد ان شهدت عليكِ الخادمة ؟ كيف ستخرجين نفسكِ من هذا المأزق ؟"
ارتسمت ابتسامة باردة على محياها وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة وكأنها لا تهتم بمصيرها ، ليتحرك بعدها من امامها وهو يتجه نحو النائمة بسكون قبل ان يقف بجوار رأسها وهو يشرف عليها من علو ، وما ان مال بجذعه قليلا حتى تدخلت التي وصلت له بلحظات وضربت صدره وهي تعيده خطوة للخلف قائلة باستنكار
"ما لذي تنوي فعله ؟"
استقام بمكانه وهو يعقد حاجبيه بحدة قائلا بتجهم
"كنت اريد سماع صوت تنفسها لكي اتأكد بأنها ما تزال على قيد الحياة"
رمت اصبعها السبابة خلفها وهي تقول بهجوم ضاري
"لن اسمح لك بلمس هذه المرأة او الاقتراب منها ، فأنت زوجي انا وليس زوجها هي ! وإذا اقتربت منها سنتمتر واحد فأنا سأقطعك بمخالبي وامزقك بأنيابي ! وقد اعذر من انذر"
رفع رأسه وهو يطلق ضحكة صغيرة تعبر عن دهشته وصدمته بآن واحد قبل ان يعود بنظره لها وهو يقول باستهجان
"هل هذا وقته حقا ؟ كم انتِ مجنونة !"
نقلت اصبعها السبابة نحوه تتابع بتهديد
"لقد حذرتك ، وانا لا امزح"
تلبدت ملامحه ببهوت وهو يمسك بطرف سترتها من كتفها يقربها منه قائلا بوجوم
"متى ستكفين عن هذا الجنون ؟"
حركت كتفيها باستخفاف وهي تسند اصبعها تحت ذقنها هامسة بتملق   
"انا انسانة مجرمة بالحب"
شرد للحظة بحركتها العابرة التي قصفت حصونه من جديد بأنوثتها الماكرة التي لا غالب لها ، ليدفعها بعدها من طرف سترتها وهو يقول بخفوت حازم
"حسنا إذاً افحصيها انتِ ، وتأكدي من حياتها ، وادعي ألا تموت اليوم على يدينا !"
لوت شفتيها بضيق وهي تلتفت نحوها قبل ان تهبط جالسة بجوار رأسها ، لتدنو بوجهها سنتمترات وهي ترفع اصبعها وتقربه من مجال تنفسها وانفها ، وما ان تأكدت من انتظام تنفسها حتى رفعت وجهها وهي تقول بشبح ابتسامة ساخرة
"انها تتنفس ، وهذا يعني بأنها على قيد الحياة ، فكيف ستقتل حبة منوم انسان ؟ وخاصة ان كانت قطة بتسع ارواح !"
ضيق حدقتيه السوداوين بجمود وهو يتمتم بجفاء
"كفى يا ماسة......"
صمت من فوره ما ان داهمت الغرفة دورية شرطة مسلحين وبوضعية الاستعداد وكأنهم امسكوا بهم بالجرم المشهود ، ليقول فرد منهم بصرامة عملية وهو يوجه السلاح بينهما  
"ارفعوا ايديكم ، وارموا سلاح الجريمة"
رفع (شادي) يديه بسرعة وهو يقول بتوضيح جاد
"هناك سوء تفاهم قد حدث هنا ، اسمعوني انا....."
قاطعه نفس الرجل بصرامة اكبر وهو لا يتبع سوى الاوامر
"اصمت ولا تتفوه بأي كلمة ، ستذهبون معنا للمخفر وهناك يمكنكم التكلم امام النيابة العامة"
ادار عينيه نحو الجالسة بجانبه تبادله النظر بدهشة مفتعلة وهي تحرك كتفيها ببراءة ، لينظر بعدها للشرطة المحاصرين المكان وهو يرفع يديه عاليا باستسلام قائلا
"حسنا سنفعل تماما ما تريدونه ، ولكن لا داعي لاستخدام العنف معنا فنحن اناس مسالمين جدا ولا نملك حتى اي سلاح جريمة نواجه به !"
ردّ عليه الشرطي نفسه بنبرة آلية
"نحن من يقرر ذلك وليس انت"
حانت منه التفاتة ناحية الجالسة تلتزم الصمت وكأنه لا علاقة لها بما يجري ، ليهمس بعدها من بين اسنانه بفحيح حارق
"قفي يا رأس المشاكل"
وقفت بهدوء وهي تأخذ مكانها بجانبه بكل ادب ، ليخفض بعدها يده وهو يشبكها بيدها يكاد يكسرها ليهمس لها بخفوت مهدد بعد ان احرقت برود اعصابه وجعلته رمادا  
"اعتبري نفسكِ ميتة"
اتسعت ابتسامتها ببرود وهو يسحبها معه اتجاه باب الغرفة امام عيون الشرطة والخادمة التي اختبأت بزاوية بعيدة تختلس النظر بخوف من ان يكشف امرها وبأنها من ابلغت عنهما .
_______________________________
طرق على قضبان الزنزانة بقبضته وهو يصرخ بالحارس الواقف بالخارج
"اسمعني نحن لم نرتكب اي جريمة حتى تحجزونا هكذا مثل المجرمين ، اتركني اتكلم مع رئيسك واشرح له الموقف بنفسي ، وانا واثق بأنه عندما يعرف هويتي ومن اكون سيغير رأيه فورا"
ردّ عليه الحارس وهو يعيد نفس الجملة التي قالها الجميع بانتظام  
"عندما يحضر الرئيس سنسمح لكما بإعطاء افادتكما ، واما الآن فعليكما بالتزام الصمت والهدوء حتى يتم استدعائكما"
استدار بعدها وهو يغادر من المكان ليصرخ من خلفه وهو يضرب على القضبان بقوة اكبر
"لا ترحل انتظر ، على الاقل احضر لي هاتفي فأنا احتاجه لأجراء مكالمة طارئة ، ألا تسمعني ؟ ستندم كثيرا على تجاهلي ، ستندمون جميعكم !"
تنفس بجمود وهو يضرب جبينه على القضبان الحديدية بقهر ، ليقطع الصمت صوت شريكته بالسجن الآخر وهي تقول بسخرية باردة
"احسنت يا شادي الفكهاني ابن حوت الفكهاني ، يبدو بأن مراتبك وصلاحياتك لا تسير بهذا المكان ، يا له من امر مؤسف !"
استدار لها بملامح مكفهرة وهو يراقبها جالسة بزاوية السجن الملاصق لقضبان سجنه ، ليقول بعدها بحاجبين منعقدين بحدة وهو ما يزال يتمالك اعصابه بعد كل ما فعلت
"تتكلمين بسخرية وتثرثرين بينما انتِ السبب بكل ما يجري معنا ! كيف ما يزال لديك طاقة للتكلم بأريحية هكذا ؟ هل تظنين نفسكِ موجودة بسيرك ؟"
حركت كتفيها بلا مبالاة وهي تقول بخفوت فاتر
"لم يجبرك احد على المجيئ ركضا لذاك المنزل والتورط معي بالجريمة"
شدد على اسنانه بصرير وهو يقول من بينهما باستنكار حاد
"اجل انا الآن اصبحت الملام بكل ما جرى معنا ، وانا الذي تسبب بكل هذه الحوادث بحياتنا وليس احد آخر !"
حركت كتفيها من جديد وكأنها هواية وهي تقول ببساطة مستفزة
"المجرم يعترف بجريمته بالنهاية"
لوح بأصبعه نحوها وهو يقول بانفعال هادر
"اخرسي يا ماسة ، وتوقفي عن تحريك كتفيك بتلك الطريقة المستفزة ! فقد اصبحت تضايقني بشدة !"
احنت كتفيها للأسفل وهي تقول بلطافة خادعة تتقنها بالفطرة
"حاضر"
زفر انفاسه بتعب وهو يسند ظهره على القضبان الحديدية ونظره شارد بالفراغ ، ليقول بعدها باستياء عابس وكأنه يهذي 
"يا إلهي كيف وصل بي الحال هكذا ؟! لا اصدق بأنكِ استطعتِ ان تجريني معكِ لكل هذا ! فقط اريد ان اعرف هل هناك عمل جيد فعلته بحياتك بأكملها تجازين عليه بآخرتك ؟"
امسكت ذقنها بيدها وهي تفكر للحظة قبل ان تقول بابتسامة باهتة  
"اتذكر بأنني قد اطعمت قطة ضالة كانت تلتصق بساقي طول طريق المدرسة كل يوم ، ولكنها بعدها بحوالي شهر اختفت القطة عن ملاحقتي ، وبعد التقصي عن الموضوع اكتشفت بأنها قد دهست تحت سيارة مسرعة لتلقى حتفها هناك"
ارتفع حاجبيه بانتباه شديد وهي تتكلم عن قطة وكأنه بشري وانسان عزيز عليها فقدته من حياتها ، ليخفض رأسه قليلا وهو يقول بأسى يتجاوب معها
"تعازي الحارة لكِ ، يبدو بأنها كانت تمتلك مكانة خاصة بقلبك"
حركت رأسها بشرود وهي تريح كفيها على ركبتيها هامسة بخفوت قاتم   
"ليس الامر كذلك ، ولكن عندما تعتاد على وجود شيء او فعل شيء معين بحياتك تتألم بلحظة خسارته وتشعر بفراغ موحش من بعده ، وهذا هو ما كان ينتابني بذلك الوقت"
رفع رأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية باستهزاء
"ليس هناك اختلاف عن الذي قلته ، فهي قد امتلكت مكانة مهمة بحياتك لأنكِ قد اعتدتِ على وجودها ، انتِ فقط من لا تريدين الاعتراف بذلك !"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تقول بمرارة سوداء ما تزال تهيم بذكرياتها القديمة  
"لقد اعتدت عليها لأنني شعرت بأنها تشبهني ، انطوائية وحيدة جميع الناس والمارة ينفرون منها وينبذونها ، تريد صنع وجود وكيان لها لكن لا احد يعطيها فرصة ، تطلب طعام وملجئ ورعاية مقابل ضمان بعدم اذيتك او مسك بسوء ، لقد كانت حادة المزاج وشرسة بسبب الناس المسيئين من حولها والذين جعلوها بهذه الصورة السيئة ، واعتقد بأن هذه هي الاسباب التي جعلتني اشفق عليها واحسن إليها واعطيها كل ما حرمت منه بسبب المخلوقات التي تسمى بشر !"
كان يحدق بها بصمت وهي تتكلم بكل جوارحها وانسانيتها اتجاه مخلوق ضعيف لم يتصور بأنها قد تحمل كل هذه المشاعر نحوه بينما ماتت ضمائر البشر ! بهتت ملامحه ما ان وجهت عينيها نحوه ببحار مظلمة سكنت العاصفة بهما وبردت وهي تتجاوب مع مزاج صاحبتها ، لتقول بعدها بابتسامة شقية تعود لشخصيتها الساخرة
"وهذا كان موجز حكاية قطتي ، هل اعجبتك القصة ؟"
استقام بعيدا عن القضبان وهو يرفع رأسه عاليا قائلا باستهجان  
"يا إلهي انظروا إلى الوضع الذي وصلنا له ! بدل ان نفكر بمصيبتنا الحالية نستمع لحكاية قطتك من الماضي بين قضبان السجن ، هل من الممكن ان يسوء الوضع اكثر من ذلك ؟"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تهمس بغيظ
"لم يجبرك احد على الاستماع لقصتي بكل هذا الإذعان وابداء الحزن والاسى عليها !"
نظر لها بسرعة وهو يقترب منها بخطوات واسعة ، لتعتدل بجلوسها بعيدا عن القضبان ما ان وقف بالقرب منها ليقول بعدها بتحذير خطير 
"هل تعلمي لولا هذه القضبان التي تفصل بيننا ماذا كان من الممكن ان افعل بكِ ؟!"
اقتربت بوجهها من القضبان وهي تهمس بابتسامة خبيثة
"ماذا كنت فعلت ؟ هذا الامر يثيرني"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يضرب قدمه بالأرض قائلا بتوبيخ
"انضبطي يا فتاة !"
عادت بجلوسها بارتعاد وهي تلتزم الصمت بالفعل بعد ذلك التوبيخ الصارم ، ليحك بعدها شعره بتشعت وهو يقول بإرهاق
"ياربي لا تفقدني صوابي !"
ارتمى بعدها جالسا على الكرسي الملاصق لها والقضبان تفصل بينهما ، ليتنفس بعدها بإنهاك وهو يريح يديه فوق ركبتيه قائلا بضيق  
"كيف تستطيعين الحفاظ على برود اعصابك بهذه الاوضاع ؟ لا وايضا تمزحين وتروين القصص ! انتِ حقا غير معقولة !"
اسندت جبينها على القضبان الحديدية بينهما وهي تقول بابتسامة شقت طريقها بجمود    
"لو تعلم عن كم الجرائم التي ارتكبتها بحياتي لما قلت هذا الكلام !"
نظر لها بتمعن وهو ينحني بالقرب من وجهها قائلا بهدوء عميق
"اعلم جيدا عن جرائمك ، جريمة محاولة قتل جارك العجوز ، ومحاولة قتل سائق الحافلة ، وكلتاهما جريمتين غير مكتملتين"
ارتعشت اطرافها بلسعة باردة وهي تبعد جبينها بسرعة هامسة بخفوت مضطرب
"كيف عرفت ؟"
رفع رأسه عاليا وهو يقول بابتسامة باردة
"هذا سر يخصني وحدي"
غضنت جبينها بضيق وهي تشيح بوجهها هامسة بحنق
"مزعج"
ساد الصمت بينهما اسوار عالية بنيت من حولهما حتى اختلى كل شيء وتبقت فقط القضبان فاصل بينهما ، ليقطعه بعدها التي ضمت كفيها بحجرها وهي تهمس بتحشرج طفيف
"وهل تصدق حوادث تلك الجريمتين ؟"
حاد بنظره نحوها وهو يقول بابتسامة هادئة   
"لا اصدق ما لا تراه عيناي ، فأول خطوة بالتصديق هو رؤيته بعينيّ ، بعدها تأتي خطوة البحث عن الاسباب والدافع"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تهمس من بينهما بخفوت حزين
"وهل ستصدقني لو قلت لك بأنني بريئة من كل هذا ؟ ربما اكون قد افتعلت بعض المشاكل ولكن لدي اسبابي المقنعة التي دفعتني لأكون هكذا"
ردّ عليها بنفس الابتسامة بنبرة متزنة وكأنه يشاركها بسرية حوارها  
"وانا اصدقك ، وانتظر اليوم الذي تقرين به بأسبابك"
نظرت له بصمت وهي ترسم ابتسامة ودودة على محياها حركت الموج بعينيها الزرقاوين بصفاء البحر ، لتهمس بعدها بلحظة بخفوت وهي تغير دفة الحوار
"هل تعلم بأنني قد اطلقت اسم على قطتي ؟ اسميتها اكتوبر ، هل تعلم السبب ؟ لأن اول معرفتي بها كانت بشهر اكتوبر بيوم كانت السماء به ماطرة والجو شديد التقلب ببداية دخول الخريف ، وايضا لأنني تعرفت عليها بهذا الشهر واختفت بنهايته"
كان يحدق بها عن كثب وهو يشاطرها شعورها الحالي ليقول بعدها بابتسامة تشابه ابتسامتها بنوع من التآلف
"كيف كانت تبدو قطتك ؟"
اخفضت رأسها حتى انسدل ذيل حصانها على كتفها وهي تهمس بخفوت حزين
"كانت هزيلة جدا ذو شعر اسود مشعث بعينين زرقاوين كبيرتين ، وكانت تخيف كل سكان الحي بشكلها الغير مألوف والذي يجلب الرعب لهم ، ولكنني لم اكن اخافها ابدا بل كنت اراها شيء فريد واستثنائي وتستحق العيش كباقي المخلوقات ! ولكنها عندما تتأذى تؤذي وبشدة وعندما تلاطفها تلاصقك بقوة وتبادلك الحب"
التوت ابتسامته بسحر اللحظات التي يقضيها معها وهو يقول بخفوت ماكر
"اشعر بأنني اعرف قطة تشبهها كثيرا لا تنفك تدفعني دوما للجنون ، ولكنني بكل مرة اعود واعشقها اكثر من المرة التي تسبقها وكأنها المرة الاولى !"
رفعت رأسها وهي توجه نظرت جانبية نحوه بدون ان تمنع ابتسامة خجولة من احتلال محياها ، لتهمس بعدها بخفوت مرح
"يبدو بأن مزاجك قد تحسن عن السابق ، هل بدأ الوضع يروق لك ؟"
ادار رأسه بعيدا وهو يتكأ على الجدار من خلفه قائلا بقلة حيلة  
"ليس باليد حيلة فقد نفذت مني كل خيارات النجاة ! ولم يعد هناك سبيل سوى التأقلم مع الاوضاع الراهنة ، فقد صادفنا الكثير من المواقف الجنونية التي اوقعتنا بها منذ معرفتي بكِ ، فلن يمر يوم سليم ألا وعليكِ ترك بصمة جميلة عليه يذكرنا به لمدى الحياة لكي لا ينسى من الذاكرة ، كما حدث بحادثة اختطافك من قبل عصابة سوداء ، ورمي نفسكِ من فوق الجسر بعمق البحر ، والرقص بوسط حفلة زفاف امام الحشود ، والوقوف امام سيارة مسرعة بمنتهى الجنون ، وآخرها ارتكاب جريمة ودخولنا للسجن ، واخاف كثيرا من توقع القادم من حياتنا والذي سيقودنا هذه المرة لحبل المشنقة بلا شك !"
مالت ابتسامتها بسعادة وكأنها تسمع إطراء عالي رفرف له قلبها القاسي ، لتحيط بعدها بيده التي تمسك القضبان بأصابعها الرقيقة وهي تهمس بتودد
"انظر للجانب المشرق بهذه القصة ، فنحن ما نزال معا رغم كل شيء"
كبح ابتسامته بطرف اسنانه وهو يدير رأسه نحوها قائلا بحالة الميؤوس منه  
"مجنونة !"
اتسعت ابتسامتها وهي تتكأ بكتفها على القضبان وتشدد من التمسك بيده وكأنها الرابط الوحيد التي تشعرها بوجوده بقربها من بين ظلام المكان وبرودة قضبانه الحديدية بسجن حقيقي يختلف عن سجن حياتها الماضية...ولكنها لا تقارن بها بعد ان بات موجود معها .
_______________________________
سار بالرواق الطويل نحو الغرفة التي لم يبارح التفكير بها لثانية واحدة وهو يدور حول نفس النقطة بدون ان يطاوعه قلبه بالابتعاد ، وما ان وصل لها وفتح بابها حتى تفاجئ بخلوها تماما والسرير الابيض مرتب جيدا وكأنه لم يتواجد احد قط بهذه الغرفة !
ركض بسرعة للداخل وهو يتوجه للحمام المرفق تلقائيا ، وما ان اكتشف خلوه كذلك حتى ازدادت وتيرة انفاسه بحدة وهو يشدد بيده على مقبض الباب بسعير حارق قبل ان يهمس بكلمة واحدة بخفوت ملتاع  
"غزل !"
استدار بسرعة على عقبيه وهو ينطلق جريا خارج المكان بأقصى سرعة ، ولم يعي بأنه قد مر من جانب والدة زوجته ألا عندما هتفت باسمه بقوة
"ابني هشام إلى اين ؟ لماذا كل هذه العجلة ؟"
توقف بقوة وهو يعود ادراجه بنفس السرعة ، ليلتفت نحوها مباشرة وهو يلوح بذراعه خلفها قائلا بهياج مندفع 
"اين هي غزل يا عمتي جويرية ؟"
تعقدت ملامحها بارتباك وهي تشير بأصبعها للخلف قائلة بخفوت مستغرب
"أليست بغرفتها ؟ ألم تكن ذاهب لغرفتها الآن ؟"
حرك رأسه جانبا وهو يزفر انفاسه بصعوبة اكبر ليقول بعدها بخفوت واجم
"لا ليست بغرفتها ، لهذا سألتكِ عن مكانها"
رفعت يدها لخدها الشاحب وهي تهمس بخفوت مشوش 
"إذا لم تكن بغرفتها اين ستكون ؟! هل بحثت عنها بالحمام...."
قاطعها وهو يقول من فوره بجمود
"ليست هناك كذلك"
تأوهت بقوة وهي تتراجع خطوتين للخلف ويدها على صدرها هامسة بجزع خافت
"آه يا إلهي ! ابنتي مفقودة ! اين ستكون ذهبت ؟ اين من الممكن ان تختفي ؟......"
امسك بذراعيها بسرعة قبل ان تفقد توازنها وهو يقول بهدوء يطمئنها
"اهدئي يا عمتي جويرية ، لا داعي لكل هذا الهلع ، بالتأكيد ستكون هنا بالأرجاء ، اين ستبتعد مثلا ؟....."
قالت (جويرية) بسرعة بوجه شاحب   
"ماذا لو اصابها مكروه ؟......"
قاطعها (هشام) بقوة وهو يربت على كتفيها برفق
"بعيد الشر عنها يا عمتي ! لن يحدث لها شيء وانا موجود ، انتِ فقط ادعي ان تكون داخل اسوار المشفى ولم تغادر بعيدا عنه"
زفرت انفاسها ببطء شديد وهي تهمس بقلب وجل
"يارب احفظ لي ابنتي من كل مكروه ، يارب"
اخفض يديه عن كتفيها ليمسك بكفيها ويحتضنهما بين يديه وهو يقول بهدوء جاد
"هل تكلمتِ معها بشيء ازعجها ؟ او تشاجرتِ معها بموضوع ضايقها ؟....."
تغضن جبينها بحيرة وهي تحرك رأسها بالنفي قائلة بهدوء
"لا لم يحدث اي شيء من هذا ، لقد كانت جلسة عائلية هادئة ولم تتكلم هي اساسا حتى نتشاجر بشيء !"
رفع رأسه وهو يتنهد بضيق اصبح يطبق على صدره اكثر بدون مهرب ، ليقول بعدها وهو يخفض رأسه باتزان 
"اين هو السيد رأفت ؟"
ردت عليه بخفوت مجهد
"لقد ذهب للمطار لإكمال إجراءات السفر ونقل باقي الاغراض لسكننا الجديد"
اومأ برأسه بهدوء وهو يشدد على يديها قائلا بحزم جاد
"حسنا إذاً لن نضيع المزيد من الوقت بدون فعل شيء ، نحن سنبحث عنها بمفردنا ، انتِ ستبحثين بإرجاء المشفى بأكمله وتسألين الاطباء والاستعلامات عنها ، وانا سأبحث عنها بخارجه ، وبإذن الله سنجدها بأقرب وقت قبل عودة السيد رأفت"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تهمس بأسى حزين
"حسنا ، فهمت يا بني ، انت اذهب وابحث عنها ، ولا تنسى الاتصال بي باللحظة التي تجدها بها"
سحب يديه وهو يعطيها ظهره قائلا بعجلة 
"ابحثي جيدا يا عمتي ، وراسليني بحال وجدتِ اي خبر عنها"
وصل الطابق الارضي وهو يسير ببهو المشفى قبل ان يوقفه هتاف عالي من خلفه اربكه وشتت ذهنه
"سيد هشام ، سيد هشام"
استدار للخلف ليلتقط صاحب الهتاف والذي كان الطفل شقيق زوجته وهو يجري نحوه بسرعة ، عبست ملامحه وهو يقول للطفل الذي وقف امامه بلحظات  
"ماذا تفعل هنا يا يامن ؟ هيا اصعد وابقى مع والدتك ، لا تتنقل بالمكان لوحدك ، قد تضيع ونصبح بمصيبة اخرى !"
ما ان استدار بعيدا عنه حتى عاد الطفل للكلام بعفوية
"عليك الذهاب واللحاق بشقيقتي ، فلن تستفيد شيئا لو بحثت عنها بداخل المشفى"
تجمدت ملامحه بصدمة وهو يلتفت نحوه قائلا بخفوت مندهش
"ماذا ؟ كيف عرفت ؟"
تراجع (يامن) للخلف برهبة ما ان انحنى امامه بلمح البصر وهو يمسك بكتفيه بقوة قائلا بجمود صخري
"انت تعرف مكانها صحيح ! اين رأيتها ؟ وماذا اخبرتك ؟ هيا تكلم !"
عبست ملامحه بتبرم وهو يلوح بيديه قائلا ببراءة  
"عدني اولاً بأنك لن تخبر احدا بأنني من قال لك هذا الكلام"
تنفس بهدوء وهو يقول باستسلام عله ينتهي من هذه المعضلة
"انا اعدك ، هل ستخبرني الآن ؟"
ابتسم الطفل برضا وهو يرفع كفه حول فمه هامسا بخفوت حذر  
"لقد رأيتها وهي تغادر المشفى ، وعندما سألتها اخبرتني بأنها لا تريد إجراء العملية ولا تريد استبدال قلبها ، وتُفضل الهروب لآخر العالم على المجازفة بحياتها"
غامت ملامحه بقتامة داكنة وكأن سواد العالم قد سكن بقلبه بألم جديد ، ليشدد بعدها على كتفيه الصغيرتين وهو يعود للواقع قائلا بجدية
"وهل اخبرتك إلى اين ستذهب ؟"
اخفض كفه عن فمه وهو يحرك كتفيه بعلامة الجهل قائلا بعبوس
"لا لم تخبرني عن وجهتها فقط قالت لي بأنها ستذهب لمكان لا يجدها احد به ، ولم افهم ما هو هذا المكان !"
اخفض رأسه بيأس وكأن الحِمل يزداد ثقل فوق كاهله بدون رحمة ، فهل هذا هو مصيره ان يبقى الخوف ملازم له طيلة حياته حتى يفقدها للأبد ؟
رفع رأسه بسرعة وهو يدرك قيمة الوقت الذي يضيع منه هباءً ، ليربت بعدها على كتفه وهو يهب واقفا قائلا بصرامة  
"انت لا تفكر بشيء الآن ، واذهب لوالدتك وابقى بجوارها ولا تخبرها بأي شيء من ذاك الكلام ، سمعتني ؟"
اومأ برأسه وهو يلوح بقبضته الصغيرة قائلا بابتسامة جادة   
"لا تعد قبل ان تجد شقيقتي ، وألا لن اسامحك ابدا"
غادر بعدها وهو يجري بالطريق التي جاء منها ، ليتنفس بعدها بإرهاق وهو يتمتم بكبت
"ماذا تفعلين بنفسكِ بقلب ينازع بالحياة ؟"
نفض رأسه بسرعة وهو يستدير ويغادر من بوابة المشفى بدون ان يفكر بأي شيء سوى إيجادها حتى لو كلفه ان يجوب بلاد الغرباء بأكملها .
__________________________________
بعدها بساعة كان يوقف السيارة امام مدخل المشفى بعد ان دار بها كل الاماكن القريبة بحثا عن الهاربة الصغيرة ، ليضرب بعدها على المقود بقوة وهو يشتم بكبت بعد ان اهدر كامل طاقته بالبحث عنها وكأنه يبحث عن ابرة بكومة قش ، ليخلع بعدها الحزام بإرهاق وهو يخرج من السيارة بهدوء .
اغلق الباب خلفه بقوة وهو يسند ظهره عليه لثواني ، ليمسح بعدها على وجهه المتعرق بيديه وهو يستغفر ربه ويبعد كل الافكار السيئة عن ذهنه ، ليتحرك بلحظة بعيدا عن السيارة وهو يشق طريقه نحو مدخل المشفى ، ولم يوقف سيره سوى ظهور الطفلة من العدم والتي اندفعت امامه بلمح البصر حتى اصطدمت به بقوة ، ليتراجع للخلف بحذر ما ان تسمرت الطفلة بمكانها برهبة وكأنها تستعد لتلقي التوبيخ على تصرفها .
زفر (هشام) انفاسه بجمود وهو يتأمل قمة رأسها وضفيرتها السوداء التي ترتاح على كتفها ليقول بعدها بجدية  
"هل انتِ بخير ؟"
اومأت برأسها الصغير بسرعة وهي تجثو على ركبتيها وتلتقط شيء من الارض قبل ان تقف بنفس اللحظة ، لتهمس بعدها بخفوت طفولي مرتبك
"اعتذر ، اعتذر منك يا سيدي"
وقبل ان يعلق كانت تنطلق جريا وثوبها الوردي الصغير يتطاير من حول ساقيها وهي تكمل طريقها بالالتفاف حول المشفى ، لتغزو ملامحه علامات الاستفهام وهو يتسائل عن وجهة الطفلة التي اختفت خلف البناية مثل السراب ! ليقتفي بعدها اثرها وهو يسلك طريقها ذاته ويلتف حول البناية بعد ان اثارت فضوله ، وما ان وصل للحديقة بفناء المشفى حتى تسمر بمكانه بلحظة نسي معها الطفلة وفقد الشعور بالمحيط من حوله .
كان يراقب فتاته المفقودة التي ارعبت قلبه من ساعة تجلس فوق مقاعد الحديقة وتتأمل الخضار والطبيعة من حولها بشيء من الوحشة...هزيلة صغيرة مثل عصفورة وقعت من نافذة غرفته...ترتدي ثياب المشفى البيضاء مثل ملاك حزين حكم على قلبه بالموت...وهي شاردة بالعالم المسور امامها بصمت فارغ بدون ان تعبأ بحاضر او مستقبل او بمكان او زمان .
افاق من تأمله على صورة الطفلة التي دخلت بمحيط نظره وهي تقدم للفتاة الجالسة قطف زهرة هامسة بابتهاج  
"لقد وجدتها من اجلك"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يكتشف الآن الشيء الذي اوقعته الطفلة امامه والذي لم يكن سوى قطف زهرة ، وليست اي زهرة بل كانت زهرة الهندباء التي تمنحك فرصة بتمني امنية والنفخ على شمسها لتنتشر شموس صغيرة منها وتنشر بذورها ، ليجذبه من دائرة التفكير صوتها المنغم وهي تقول بابتسامة حزينة
"لقد وجدتها حقا ! وانا الذي ظننت بأنها نادرة الوجود ، ولكنكِ استطعتِ إيجادها بسهولة كبيرة !"
اومأت الطفلة برأسها بحماس وهي تقول بابتسامة كبيرة
"هذه لكِ انتِ ، لقد احضرتها لكِ لتزيل عنكِ الحزن وتحقق امنيتك التي تصعب عليكِ تحقيقها"
ارتفعت طرف ابتسامتها بحزن وهي تهمس بخفوت لطيف
"شكرا لكِ يا عزيزتي ، ولكنني لا احتاج لتحقيق اي امنية ، يمكنكِ الاحتفاظ بها وتحقيق امنيتك"
حركت رأسها بإصرار وهي تمد الزهرة لها هامسة بخفوت عابس  
"بل انا قد احضرتها لكِ انتِ ، ألم تقولي بأنكِ تتمنين الحصول على زهرة الهندباء ! وبأن لديكِ امنية تسعين لتحقيقها ! ولن تتحقق إذا لم تستغلي فرصتك الآن"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تدس خصلاتها المتطايرة خلف اذنها ، لتهمس بعدها بابتسامة شاردة
"وهل تصدقين بأن امنيتك ستتحقق ما ان تطلبيها وتنفخين على الزهرة ؟"
اومأت برأسها بقوة وهي تقول بثقة كبيرة     
"ربما تتحقق بعد اسبوع ، وربما بعد شهور ، المهم ان تكوني مؤمنة بنفسك وبتحقيق امنيتك"
اتسعت ابتسامتها بعدوى منها وهي تمسك بيدها الصغيرة حول غصن الزهرة ، لتقول بعدها بخفوت وهي تشدد على يدها الصغيرة
"إذاً لنتفق على تمني امنية لكل واحدة منا والنفخ على الزهرة بنفس اللحظة لكي تتحقق امنياتنا !"
اتسعت ابتسامتها بفرح وهي تهمس بلهفة
"موافقة"
اقتربت بوجهها امام الزهرة وهي تهمس بترقب
"عندما اعد لثلاث ننفخ عليها معا ، واحد ، اثنان ، ثلاث"
نفخت كليهما على الزهرة بقوة بذات اللحظة حتى تطايرت شموس صغيرة من حولهما انتشرت بعدها تحلق بالسماء فوقهما ، لتفيق بعدها على صوت الطفلة التي افلتت يديها لتقفز بسعادة كبيرة وهي تتابع طيران شموسها
"يا للروعة ! ستحلق بالسماء وتبحث عن امنياتنا وتحققها لنا"
ارتفع حاجبيها بتعجب من خيال الطفلة البريئة ذات القلب والتفكير النظيف ، لتنتبه بعدها لنظراتها التي اتجهت نحوها مباشرة وهي تسألها ببراءة
"ماذا تمنيتِ ؟"
ضاقت عيناه بتركيز عند سؤالها وهو ينطلق بخطواته نحوهما بثبات وبدون صوت ، بينما كانت (غزل) شاردة تماما بدون ان تعي شيء من حولها ، ولم تشعر سوى بالتصاق الطفلة بجانب ساقيها بحركة مفاجئة استرعت انتباهها ، لترفع بعدها وجهها عاليا قبل ان تصطدم بالواقف بالقرب منهما يخفي شعاع الشمس بظله وهو يهمس بخفوت جاف
"وجدتكِ اخيرا"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تنزع نظراتها بعيدا عنه برجفة اخترقت صميم قلبها ، لتمسك بعدها بكتفين الطفلة وهي توقفها امامها قائلة بحنية   
"اذهبي وألعبي بالجوار ، وإياكِ وان تبتعدي كثيرا عن المكان ، فأنا لدي امور هامة عليّ القيام بها الآن ، حسنا ؟"
حادت بعينيها نحو الرجل بارتياب قبل ان تعود بنظرها للعينان العسليتان وهي تومئ برأسها هامسة بامتثال
"حاضر"
تركتها بعدها وهي تغادر بعيدا عنهما داخل الحديقة ، ليقول بعدها الذي ما يزال يتابع رحيل الطفلة
"يبدو بأنكِ قد عقدتِ صداقة جميلة مع الطفلة ، بينما انا مشغول بالبحث عنكِ بكل بقاع الارض وقلبي على كفي انتِ تمرحين هنا مع الاطفال ! ما كل هذا الاستهتار بحياتك ؟ ما كل هذه الا مبالاة عندكِ ؟....."
قاطعته بجمود وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة ببأس
"إذا كنت قد انتهيت من محاضرتك يمكنك ان تخبرني الآن كيف عرفت مكاني ؟"
ادار عينيه جانبا وهو يقول بجدية صارمة
"انا اتكلم معكِ بجدية يا غزل ، لذا هلا اعطيتني القليل من انتباهك ؟ ما سبب هذا التصرف ؟ ما لذي طرأ ببالك فجأة حتى تخرجي من المشفى بهذه الطريقة ؟......"
قاطعته (غزل) مجددا وهي تقول بجزم
"يامن هو من اخبرك صحيح ؟ ذلك المحتال لن اسامحه ! انا سوف....."
قاطعها بصراخ صارم بعد ان فقد اعصابه
"غزل كفي عن التفوه بالسخافات واستمعي لما اقول !"
زمت شفتيها بتبرم عابس وهي تشيح بوجهها بصمت ، ليتنفس بعدها بقوة وهو يقول باتزان جاد
"اجل هو من اخبرني بخروجك من المشفى ، ولكنه لم يخبرني باحتمال ان اجدك بحديقة المشفى تلعبين مع الاطفال وانا ابحث عنكِ بكل مكان بشوارع البلد ! لقد اضعتِ الكثير من وقتي على ذلك"
تمتمت بقنوط خافت
"تستحق ذلك"
احتدت ملامحه بلحظة وهو يقول بغضب هادر
"غزل ركزي معي هنا ، وتوقفي عن التهامس مع نفسكِ ، لقد قال لي يامن ايضا بأنكِ تنوين الهروب من إجراء العملية ، هل هذا صحيح ؟"
شدت على اسنانها وهي تهمس من بينهما بضيق
"سحقا له ذلك الثرثار !"
صرخ بقوة اكبر وهو يلتقط همساتها الخفيضة التي تتسلل من شفتيها لأذنيه خلسة
"اخبرتكِ بأن تتوقفي عن التهامس مع نفسكِ ! أليس لديكِ جواب على سؤالي ؟ هل اكل القط لسانك ؟"
رفعت عينيها الواسعتين بوميض خاطف وهي تضرب بقبضتها على ركبتها قائلة بجموح
"اجل لقد كنت اخطط للهروب بعيدا ، فأنا لا اريد اجراء تلك العملية ، ولن يجبرني احد على فعلها إذا لم اكن اريد ذلك !"
ضرب بقبضته على جانبه وهو يقول بغضب اكبر منها
"الامر ليس بيدكِ ، لم يعد الموضوع بيدكِ ، فأما ان تخضعي لتلك العملية بالسلم ، واما ان نستخدم العنف بسبيل ذلك ، فحياتكِ ليست مزحة ابدا !"
احمرت وجنتيها بغضب متوهج حتى كادت تصاب بالحمى وهي تصرخ كذلك باستنكار
"وحياتي ليست لعبة بين ايديكم ! وقلبي لن يسلبه احد مني ، فأما ان اعيش به ، او اموت معه !"
غامت ملامحه بسحابة غطت قلبه واستعمرت صدره وهو يقول بلحظة بخفوت متصلب
"لن يحدث سوى ما اقوله ، وكلامي هو الذي سيطبق"
فغرت شفتيها بأنفاس حارة وهي تهمس من فورها بخفوت مرير
"لماذا لا تفهم خطورة هذه العملية ؟ لماذا لا تفهم ؟ قد لا يتقبل جسدي القلب الجديد ! قد لا يتشارك الحياة معه ! عندها سأموت حتما ، سأموت....."
جثى بسرعة على ركبتيه امامها وهو يضم يديها الصغيرتين بحجرها بين كفيه قبل ان يقول بهدوء يشوبه بعض الاضطراب العاطفي
"لن يحدث شيء من هذا ، فنحن سنتأكد جيدا من محي كل تلك الاحتمالات من القائمة قبل خضوعك للعملية ، فأنتِ ستكونين تحت ايدي اطباء من النخبة لن يرتكبوا مثل هذه الاخطاء بعملهم وسيكون إنجاز هذا الامر بالنسبة لهم بمنتهى السهولة ، لذا ارتاحي من هذه الناحية واطمئني"
طرفت بعينيها العسليتين بدموع حبيسة وهي تهمس بخفوت آسر   
"ولكنك لا تملك الضمان على هذا الكلام ، انت فقط تحاول ان تطمئن نفسك لكي تطمئنني انا ، ولكنني اعرف جيدا نهاية مثل هذه العمليات التي تكون نسبة النجاح بها ضعيفة جدا !"
قبض على يديها بين كفيه بقوة وهو يشيح بنظره قائلا بخفوت قاتم وكأنه يستصعب تقبل الفكرة
"هلا توقفتِ عن ابتكار مثل هذه الافكار والكلمات الفارغة ؟ فأنا لا احب سماع الهراء ، او الجدال بهذا الهراء ، كفي عن ذلك"
احنت حاجبيها الرقيقين بوجوم وهي تراقبه بحزن عميق قبل ان تقول بعبوس مستاء
"انت تهدر وقتك ومجهودك بلا فائدة ! بما ان مصير هذا الامر معروف ، ولا اريدك ان تبني آمال عالية وتتعلق بها للأبد....."
قاطعها وهو يغمض عينيه بعذاب
"غزل يكفي"
ردت عليه من فورها بخفوت حازم
"لا تقاطعني قبل ان انهي كلامي"
تنفست بهدوء وهي تتابع كلامها بقوة اكبر تضغط على جراح قلبها
"لا اريدك ان تعيش الحزن او الأمل طيلة حياتك ، بل اريدك ان تبدأ حياتك من جديد ، وتبحث عن سعادتك بمكان آخر يليق بك اكثر ، وانا متأكدة بأنك ستجدها بمكان ما تعوضك عن كل ما عشته سابقا وللآن ، وسأدعو دائما بأن يسعدك الله بالقدر الذي اسعدتني به بحياتي القصيرة معك ، فأنت شخص يستحق الحصول على السعادة"
فتح عينيه على اتساعهما وهو ينظر لها مباشرة قبل ان يقول بانفعال حاد بعد ان نفخت قلبه بالفعل
"ألم اخبركِ ان تتوقفي يا غزل ؟ ألم تفهمي بعد ؟ انا سعادتي تكمن معكِ فقط ، سعادتي تكون عندما اسمع صوت نبضات قلبك على كفي ، سعادتي تكون عندما اعرف بأنكِ حية نشاطر الحياة والحب والحزن معا ، انتِ هي سعادتي يا غزل ، فلماذا تريدين حرماني من هذه السعادة ؟ لماذا تريدين اقصائي بعيدا عنها ؟"
شهقت بانتحاب وهي تستل يدها من داخل كفيه لتحيط بعدها جانب وجهه بهدوء وهي تهمس بابتسامة باكية
"لهذا السبب تحديدا اريد سعادتك ، فأنت شخص رائع يا هشام ، انت متفهم ، وحنون ، ومراعي ، ومثقف ، وتملك قلب جميل ، محظوظة هي جدا من تقع بحبك ، انت تستحق تلك السعادة ، تستحق ان تعيش مع من تليق بك شكلا وجوهرا ، تستحق ان تكون الرجل الأسعد على الإطلاق !"
ردّ عليها من فوره بخفوت مستهجن
"وانا لا اريد الوقوع بالحب مع شخص غيرك ، ولا اريد تجربة تلك المشاعر مع احد سواكِ ، لأنني احبكِ انتِ وليس احد آخر !"
نفضت كفيها بعيدا عنه وهي تلوح بقبضتيها بالهواء صارخة بضراوة مشاعرها التي وصلت حدها
"وانا لا اريد منك ذلك ، لا اريد منك ان تعذب نفسك بهذا الحب ، لا اريد منك ان تتعلق بحب جثة فاقدة القلب والروح ! عليلة العقل والقلب ! لا تستطيع مبادلتك كامل مشاعرها بسبب تجربتها السابقة بالحب ! جردتها من كل شيء تملكه عن مشاعر الحب ومبادلتها مع الآخرين ، انت تريد امرأة جديرة بالحب ، امرأة لم تجرب الحب من قبل ، امرأة تحبك بكل كيانها وقلبها ، امرأة حقيقية تملك قلب ينبض باسمك وحدك !"
ضمت شفتيها بارتعاش ما ان اقترب منها بلمح البصر وهو يحط بشفتيه على جبينها بقوة يخمد كل حروبها بثانية ، ليهمس بعدها فوق جبينها الصغير بخفوت اجش مستعر وصل منتهاه
"وانا سعيد بهذه المشاعر وراضي بها ، ويمكنني ان احبكِ بقلبك المريض وعقلك الساذج لسنوات اطول بدون اي ملل او كلل وبدون انتظار مقابل عليها ، لأنني اعرف جيدا بأن هذا ما احبه وارغب به اكثر من اي شيء آخر"
زفرت انفاسها بنشيج حتى تدفقت الدموع بمقلتيها العسليتين بكثافة وهي تنظر لوجهه المحبب لقلبها تحت نافذة تمطر عليها بغزارة ، قبل ان تهمس بابتسامة متكسرة بأسى
"لو كانت القلوب تباع بالأسواق لاشتريت لك قلباً جديدا يحبك وحدك ولا يعرف سواك ! فأنت شخص يستحق الحب يا هشام"
ازدادت انفاسه سخونة على بشرتها وهو يقتنص خدها بقبلة لطيفة قبل ان يهمس فوقها بحرارة
"لا بأس بذلك يا قلب هشام ، فأنا قلبي يكفينا معا ويتسع لكلينا بدون الحاجة لقلب آخر ، ويمكننا مشاركة الحب به بيننا للأبد"
ارتسمت ابتسامة رقيقة على محياها وهي تستقبل مشاعره وعطفه وحنانه الذي لم تكن تعرف عنه قبلاً وكأنها ولدت على يديه ، ليريح بعدها يديه على جانبي ساقيها وهو يهمس بجانب اذنها بخفوت خبيث
"صحيح كدت انسى سؤالكِ ! ماذا كانت الامنية التي تمنيتها قبل قليل ؟"
شحبت ملامحها وهي تخفض وجهها قليلا هامسة ببهوت
"لقد كنت تسمعني إذاً !"
اومأ برأسه بثقة وهو يدس خصلاتها القصيرة خلف اذنها برقة قائلا بقوة
"اجل لقد سمعتكِ ، واريد ان اعرف الآن ماذا كانت الامنية ؟"
ابتلعت ريقها بجمود وهي تهمس بخفوت محرج تصرح بسرها
"لقد تمنيت ان تبقى تحبني لعشر سنوات اخرى"
ضحك بخفوت اجش وهو يزيح خصلات عن جانبها ويقبل خدها بقوة ليهمس بعدها بخفوت شغوف  
"انظروا لهذه الانانية الصغيرة ! انا مستعد لأحبكِ طول العمر وليس لعشر سنوات فقط"
ابتسمت بحياء تشرب ببشرتها الصافية بدون كلام ليعود بعدها للخلف قليلا قائلا بتفكير
"بالمناسبة لما حضرتي لهذا المكان ؟"
شردت بنظراتها بعيدا وهي تقول بخفوت جاد 
"لقد كنت افكر بالذهاب بعيدا ، ولكنني تعبت بأول خطواتي للخارج لذا ارتأيت للجلوس هنا واخذ استراحة قصيرة ، وبعدها قابلت تلك الطفلة التي كانت تلعب بالجوار ، واندمجت بمحيطها سريعا واخذني باقي الوقت معها بدون ان انتبه"
ابتسم بهدوء بدون ان ينطق بكلام ما عدا تعليق صغير خرج منه بدون إرادة
"يا لكِ من طفلة !"
نظرت له بعبوس بدون ان تعلق على كلامه بسبب مجيئ الطفلة التي عادت لهما ببسمة تعتلي محياها ، وما ان وقفت بالقرب منهما حتى سبقها الذي قال بجدية وهو ينظر لها بقوة
"ما لذي تفعلينه وحدكِ يا صغيرة ؟ اين هما والديكِ عنكِ ؟"
عبست ملامحها بحزن هي تلتصق بصديقتها المقربة والتي قالت بسرعة بصوت متعاطف  
"والدتها مريضة بوباء خطير وهي نزيلة بهذا المشفى وهذا بعد سفرها من بلادها لتخضع للعلاج ، واما والدها فهو مشغول بالتنقل بين البلدين والعمل على توفير كل المستلزمات التي قد يحتاجوا لها بالسكن الجديد ، لذا بقيت هذه الطفلة وحدها بهذه المشفى الكبيرة ، وقد قررت المجيئ للحديقة وقطف بعض الازهار لوالدتها المريضة وجلبها لها لغرفتها"
تغضن جبينه بتصلب وهو يشعر بذنب قاتل يغرق قلبه ويعذب ضميره ، لينظر بعدها للطفلة الساكنة وهو يقول بأسف شديد
"اعتذر يا صغيرة ، لم اكن اعلم بذلك ، واتمنى السلامة لوالدتك"
ردت عليه بخفوت مختصر بتحفظ   
"شكرا"
حرك رأسه بعيدا وهو يستقيم بمكانه قائلا بحزم
"هيا سنذهب للداخل ، لكي نطمئن على وضعك اكثر ، وكي لا تسوء حالتكِ هنا"
جذب انتباهه صوت الطفلة وهي تتكلم بعفوية
"هل تحبها يا سيد ؟"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يوجه نظره نحوها لوهلة قبل ان ينقله نحو الجالسة امامه ليهمس بعدها ببسمة طفيفة
"بالطبع احبها واكثر من نفسي"
اعتلت ابتسامة خجولة محياها البشوش بصمت ، لتقول الطفلة مجددا وهي تتخذ موقف جاد
"إذا كنت تحبها حقا فلا تحزنها او تبكيها ، لأنك هكذا تكون مجرد كاذب !"
عقد حاجبيه بصدمة وهو ينظر لها وكأنه يرى كائن عجيب امامه ، لترسم بعدها ابتسامة كبيرة على محياها وهي تلوح بيدها هامسة ببهجة  
"وداعا يا غزلي ، اراكِ لاحقا"
غادرت بعيدا عنهما وهي تركض بأقصى سرعة جهة بوابة فناء المشفى ، حرك رأسه بضحكة صغيرة وهو ينحني امام الجالسة ليدس ذراعه تحت ساقيها قائلا بوعيد
"ستندمين على كل هذا"
رفعها عاليا بذراعيه وهي تتعلق بعنقه تلقائيا بخفة الريشة ، لتريح بعدها رأسها على كتفه العريض ما ان سار بها خارج الحديقة ، وهي تفكر بحقيقة الامنية التي قالتها وكذبت بها على (هشام) ، وقد تمنت بالواقع (بأن يجدها ويأتي إليها) وهذا ما حدث تماما .

نهاية الفصل.......

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن