وقف امامها بملامح صارمة وهو يكتف ذراعيه بتصلب قائلا بأمر لا يقبل الجدال
"انا سأبقى ملازم هذا المكان ولن اتركه لأي ظرف ولا من اجل رضى غيري ، فهذه الموجودة بالغرفة تكون زوجتي انا وتخصني اكثر منكم ، وهذا آخر كلام عندي"
ردت عليه المقابلة له بشرارات حاقدة وهي تلوح بذراعها هامسة من بين اسنانها بقنوط
"اخبرتك بأننا لا نحتاج لخدماتك هنا ولا لوسائلك لتحسين حالة روميساء التي كنت انت المسبب بها ، لذا ارحل من هنا رجاءً وارحنا من وجودك الغير نافع والغير مفيد من كل الجهات ، فأنا التي سأبقى بجوارها وليس احد آخر غيري"
تصلبت خطوط ملامحه والتي اظهرت التعب والصراع والذي يعاني به منذ الصباح وهذه العلقة تزيد بؤس يومه مرارة وكأنه ينقصه وجودها وسماع تعليقاتها اللاذعة والتي تجيد تصويبها عليه ، ليشيح بعدها بوجهه جانبا بزفرة متعبة عبرت عن كل شيء يشعر به وهو يتبعها بالهمس بجمود ما يزال يحافظ عليه
"قولي ما تشائين يا ماسة ، ولكني لن اغادر من هذا المكان ، فكما هي شقيقتك هي زوجتي كذلك ! ولا تنسي بأنكِ انتِ ايضا لم تكوني معها بتلك اللحظات !"
احتدت ملامحها بلحظة بعواصف احتلت مقلتيها الزرقاوين وهي تشدد من القبض على يديها هامسة بخفوت شرس
"كيف تجرؤ على مقارنتي بحالتك ؟ انت يا سيدي تجاوزت بإهمالك واستهتارك حد خسارة طفلكما الأول وثقة روميساء بنفسها معك ! والآن حاول استعادة ثقتها بنفسها وبك ايها البطل المغوار"
اطبق على اسنانه بحالة من التماسك والثبات وهو يتحلى بالصبر بشق الأنفس قبل ان يفقد عقله وينسى مبادئه امامها ، ليقول بعدها وهو يوجه كلامه هذه المرة للساكن بمكانه يراقبهما بدون ان يشارك بحل الخصام بينهما
"شادي لا تبقى واقف هكذا مثل الاخرس ! حاول السيطرة على زوجتك العلقة فقد بدأ صبري ينفذ معها ويثور ، لك صبر ايوب حقا بالتعامل مع هذه المخلوقة !"
امسكت خصرها بتحفز وهي تحرك رأسها جانبا باستفزاز هامسة ببرود
"فقط العاجز عن الدفاع عن نفسه هو الذي يسمى بالأخرس ، كان الله بعون روميساء مع زوج معدوم الشخصية مثلك"
ضيق عينيه الرماديتين بحلول عاصفة وهو يقول بآخر صبر متبقي برأسه
"شادي"
تدخل الفرد الثالث بينهما لأول مرة وهو يقف بجوار زوجته قائلا بهدوء يحسد عليه وهو يفك التشاحن بينهما
"هذا النزاع الطفولي لن يفيد روميساء ولن يساعدها بحالتها ، انا ارى ان نستمع لكلام ماسة فهي عندها وجهة نظر سديدة ، بقاء ماسة افضل بجانب شقيقتها بما انها تعايشت معها وتفهمها اكثر منا وهي الآن بحاجة لوجود اقرب شخص لها بحياتها وليس من ضمن قائمة من تخلوا عنها بالماضي ، وانت يا احمد يمكنك المغادرة والعودة للمنزل واخذ قسط من الراحة حتى صباح الغد فأنت لم ترتاح على مدار ساعات العمل وبعدها ملازمة المشفى طول النهار حتى حلول الليل ، وايضا لا تنسى بأننا لم نخبر احد من العائلة عن قصة إجهاض روميساء ! وانت الشخص المناسب ليوصل لهم هذه الرسالة ويطمئنهم على استقرار حالتها ، فأنت لديك مسؤوليات اخرى عليك اتمامها بجانب الاهتمام بزوجتك يا احمد"
تغضن جبينه بغمامة كاسرة اكتسحت محياه بثانية وهو يتمنى بهذه اللحظة لو يتخلص من كل مسؤولياته الملقاة على عاتقه والبقاء بجانب زوجته لآخر رمق بحياته ، ولكن قدره ان يكون الابن الكبير للعائلة والذي يأخذ جميع الادوار بها برداء المثالية والذي عليه تقمصه دائما بدون اي سبيل للفرار ، قال بعدها بعدم اقتناع بحاجبين منحنيين بوجوم
"ولكني يا شادي احتاج بشدة للبقاء معها ، وايضا من سيهتم بتلبية احتياجاتها ومستلزماتها ؟....."
قاطعه (شادي) بهدوء وهو يبتسم برفق
"لا تقلق يا احمد فأنا موجود مع ماسة هنا ونحن لن نتخلى عنها ، وسنهتم بكل شيء يخصها من احتياجات وطلبات ، وليس هناك داعي للتعجل على رؤيتها فأنت غدا صباحا ستراها امامك وهي بصحة افضل وتبقى بجوارها !"
زفر انفاسه بنفس الوجوم لوهلة ليقول بعدها برضوخ يائس
"حسنا لا بأس ، سأعتمد عليكما بمهمة رعايتها ، لذا ارجو منكما ان تحرصا على الاهتمام بها جيدا وتخبرون بكل ما يستجد عنها"
تحركت التي قالت بكلمة واحدة ببرود جليدي
"واخيرا !"
انسحبت بعيدا عنهما عدة خطوات لتجلس على مقاعد الانتظار بجمود نحت على ملامحها الصخرية ، ليقول (شادي) بمواساة وهو يربت على كتف شقيقه بدعم
"لا تقلق من شيء يا احمد ، كل شيء سيكون تحت السيطرة ، ويمكنك الرحيل وانت مطمئن البال فزوجتك ستكون بين أيدي امينة"
اومأ برأسه بهدوء وهو يوجه نظراته لباب الغرفة قائلا بلهفة خفية
"حسنا اريد رؤيتها قبل ان ارحل....."
قاطعه الصوت البارد وهي تنظر بعيدا عنهما
"روميساء الآن نائمة بعد ان اخذت الدواء ، ولا نريد ان نزعجها بزيارة لن تغير شيء بحالتها !"
نظر لها (شادي) بضيق وهو يتنهد بيأس وكأنها مأمور شرطة يشرف على الغرفة بمنع اي مخلوق بدخولها ، ليتحرك بعدها الذي استدار بعيدا عنهم على مضض وهو يقول بتردد واضح
"لا تنسوا اعلموني بأي جديد يحدث مع روميساء ، وانا سأحاول غدا القدوم للمشفى قبل شروق الشمس"
اومأ (شادي) برأسه وهو يلوح له بيده بجانب رأسه بطاعة ، ليعود بعدها للكلام قائلا بسخط وهو يكمل طريقه بعيدا عنهما
"وحاول ايضا السيطرة على زوجتك العلقة بعيدا عن زوجتي ، فأنا لا اريدها ان تصبح نسخة اخرى عنها"
اخفض ذراعه ما ان اختفى شقيقه عن نظره ليلتفت بعدها للجالسة بمكانها بدون حراك وكأنها تمثال حي رسم من الرخام القاسي الغير قابل للكسر ، ليتنهد بعدها بوجوم وهو يتقدم امامها عدة خطوات قبل ان يقف بالقرب منها قائلا بجدية غامضة
"هل هذا اسلوب تتكلمين به مع زوج شقيقتك ؟ لقد كدت تتعاركين معه بنزال حامي وكأنه من عمرك !"
لم تظهر اي ردة فعل على محياها سوى لمحة ابتسامة هازئة وهي تهمس بخفوت
"لقد كنت احاول ان اكون قمة بالتهذيب معه ، ولكنه من كان يستفزني بتصرفاته الصبيانية"
ارتفع حاجب واحد بخفة وهو يقول بتعجب ساخر
"ليس هناك احد صبياني اكثر منكِ ! فقط اتمنى لو تتحلين ببعض الصبر والهدوء والحلم وعقلانية اكثر امام من يكبركِ عمرا ويتكلم معكِ بلباقة وادب"
التفتت نحوه بعبوس وهي تهمس بقنوط غاضب
"لم يتكلم معي بلباقة بتاتا ! لقد اطلق عليّ لقب علقة ، هل يعجبك ان يطلق الناس على زوجتك اسم علقة ؟"
تغلبت عليه ابتسامة متسلية بتمايل وهو يقول بحزن زائف
"حسنا انتِ تستحقين الحصول على هذا اللقب فقد كنتِ مستفزة بشكل لا يطاق حتى كدت اجزم بإصابة احمد بجلطة حتمية بأي لحظة ! ولولا ان احمد من النوع الهادئ الذي لا يتأثر بالوسائل المستفزة لكان قتلكِ وقطع لسانك ، واراهن بأن يكون هناك احد بالعالم يتحمل انقلاب مزاجك وغضبك الجانح والذي لا يقدر احد على الصمود امامه !"
حركت رأسها ببرود وهي تنظر بعيدا هامسة بتفكير شارد
"انت على حق لم يكن هناك احد يصمد امام غضبي واستفزازي قبل ان يعلن سريعا استسلامه امامي ، حتى حصلت على ألقاب كثيرة بسبب هذا الأمر طول مسيرة حياتي ، مثل مستفزة ، وقحة ، جريئة ، حرباءة ، صبيانية ، شفرة ، جرثومة ، متوحشة ، زرقاء"
عقد حاجبيه عند آخر كلمة وهو يهمس بحيرة واجمة
"ماذا تعني زرقاء ؟"
رفعت رأسها بانتباه وهي تبتسم بغرابة لتميل برأسها جانبا هامسة بحزن اسر عقله لوهلة
"لقد كانت كلمة ابتكروها اعدائي عندما فرغت كلمات الاستفزاز من رأسهم ، ليطلقوا عليّ كلمة زرقاء بسبب ان اللون الازرق يميل للحزن والكآبة والبرود بردود الافعال ومن اجل ان تناسب لون عيناي ، لذا اصبح لقب يخصني وحدي حتى اشتهر بكل مكان اذهب إليه"
تغضن جبينه بجمود وهو يفيق من هالتها التي سحرته كالعادة بلحظات حزنها النادرة ، ليخفض بعدها رأسه قليلا وهو يميل بنفس طريقتها ليصبح وجهها مقابل لوجهه لا يفصل بينهما سوى سنتمترات قليلة ليهمس عندها بابتسامة مسترخية بخفوت اجش
"ولكنهم لا يعرفون بأن اللون الازرق هو اجمل الألوان بالعالم والتي لا تليق سوى من يحمل سمات عينيكِ مثل تموج البحر بالعواصف وتلون السماء بالسحب ! وكل من يطلق عليكِ ذلك اللقب يكون من دافع الغيرة لا اكثر بسبب تفردك بلون عينان غير موجودة بأسواق العدسات"
انفرجت شفتيها لوهلة وهي تحاول تصليب نفسها بهالة قيدت حركة مفاصلها المتصلبة ، لترمش بعينيها بضيق ما ان شعرت بأنفاسه الساخنة تلفح وجهها وتطير خصلات غرتها الطويلة ، ليهمس بعدها بلحظات بخفوت مثير
"تعجبني خصلات غرتك الطويلة وهي تتمرد امام عينيكِ لتحجب الألوان عن ناظرها بعناد شبيه بصاحبتها !"
انتفضت فجأة وهي تدفعه بقبضتيها لتستقيم واقفة بلحظة قبل ان تلتفت نحوه لتلوح بسبابتها بوجهه قائلة بجمود
"إياك والاقتراب مني مجددا يا شادي الفكهاني ، فنحن الآن بمشفى عام وليس من اللائق ان نمسك بهذا الشكل ، لذا احفظ كلمات غزلك ولحظاتك العاطفية بمكان يتناسب مع الموقف"
وقف امامها بلحظة وهو يعض على طرف شفتيه هامسا من بين اسنانه بإثارة
"اعدك ان اردها لكِ مضاعفة يا ماسة"
غادرت من امامه وهي تلوح بذراعها هامسة ببرود مستفز
"سنرى يا شادي الفكهاني !"
دخلت بعدها لغرفة شقيقتها وهي تتركه واقفا من خلفها يتوعد لها بالكثير وبشوق جارف للخلوة معها كما ينبغي ولكن بعيدا عن كل مشتتات الحياة والتي اصبحت تقيد علاقتهما بسلاسلها المتينة ، وكل ما يطمئنه ويريح قلبه بهذه اللحظات بأنها قد عادت لحالتها السابقة المعهودة والمختلفة عن التي جاءت بها للمشفى وكأنه جنون من نوع آخر قد تلبسها وغير تصرفاتها الشبه طبيعية !
_____________________________
كانت تريح رأسها لظهر السرير المعدني وهي تحارب النعاس بشتى الطرق لينسج الخيوط حول عقلها ويسحبها لأحلامها بغفوتها المسائية والتي قيدتها بشباكها الفتاكة لتعيدها لتلك الهوة السوداء السحيقة والتي لم تكد تتخلص منها بأحلامها ، لتسمع بعدها لهاث انفاسها المتسارع ونبضات قلبها التي تكاد تنخر اذنيها بألم موجع وهي محصورة بزاوية بعيدة بجانب الاريكة الباردة وبعيدا عن كل الاعين المسترقة والمتسللة بالمكان ، كانت حينها تتكور بجلستها وهي تنظر بعينيها الدامعتين للأقدام الثقيلة المتحركة بالمكان بأصوات مثل قرع الطبول برأسها ويديها تحجبان اذنيها عن سماع اي صوت من الممكن ان يتسرب لمجرى سمعها ، وهي تنشج بمكانها بدموع صامتة كتمتها بداخل روحها هزت كيانها وعصرت قلبها الصغير بقبضة من حديد وكل شيء بداخلها ينتفض بعنف بحالة لا تنتابها سوى عندما تصل لموضع الخطر من تجربة فقدان احدهم بحياتها الباردة ، لتنتفض مجددا بطريقة مختلفة هزت جسدها بأكمله بارتعاش وهي تسمع صوت خطوات تستطيع تمييز وقعها على الأرض يتبعها الصوت الخافت برنة الحزن المتخلل بها
"ماسة اين انتِ ؟ ماسة اين انتِ يا صغيرة ؟"
بقيت على سكونها عدة لحظات قبل ان تصل الخطوات عند موضع جلوسها بثواني ، لترفع بعدها عينيها الدامعتين بهلع ما ان ركعت الاخرى على ركبتيها وهي تتنفس الصعداء هامسة براحة
"حمد الله انتِ بخير ، لقد اخفتني عليكِ بشدة يا ماسة !"
اخفضت يديها عن اذنيها ببطء لوهلة قبل ان ترتمي بأحضان شقيقتها باندفاع وهي تكمل بكاءها الصامت بنشيج متقطع اقتحم صدرها وهز كليهما معا ، لتهمس بخفوت مرتجف بأنفاس قصيرة طغى عليها رهاب الخوف
"لقد ماتت امي يا روميساء ، فقد رأيتهم وهم يحضرون جثة امي للمنزل ، وجاء عمي قيس ومعه مجموعة اناس غرباء"
مسحت على رأسها بكفها بحنان وهي تمسح بكفها الآخر دموعها التي سالت على وجنتيها هامسة بعتاب رقيق
"اخبرتكِ ان تبقي بغرفتك ولا تخرجي منها حتى اعود من المدرسة ! ولكنكِ عصيت أوامري وخرجتي منها كالعادة"
تمسكت بزي المدرسة الخاص بشقيقتها بتشبث وهي تهمس بنحيب زاد من ارتجاف جسدها الصغير
"ولكنك تأخرتِ كثيرا ، وقد وعدتني بعدم التأخر ، لقد ظننت بأنكِ قد رحلتِ مع امي !"
زادت من تطويق جسدها لتحصر انتفاضاته وهي تمتصها بجسدها والذي يتلقف دائما انفعالاتها وهي تهمس فوق رأسها بمحبة متجاهلة الخوف الذي زرعته كذلك بقلبها
"لا تقلقي يا صغيرتي الباكية ، انا ما ازال بجوارك للآن ، ولن اتخلى عنكِ بهذه البساطة التي تظنين ، فأنتِ وانا سنبقى دائما معا ولن يفصلنا عن بعضنا سوى الموت"
اراحت رأسها على صدرها ببعض الطمأنينة الخالصة والتي دائما ما تزرعها وتدخلها بقلبها بدفء وجودها بحياتها حتى اصبحت مقيدة بها برباط خفي لا يشعر به ولا يراه سوى من صنعه بينهما ، لتربت بعدها على رأسها وهي تهمس لها بتهويدة ناعمة بثت الراحة لكليهما لتفصلهما عن كل الاحزان التي تدور من حولهما
"اللهم ابعد الحزن والشقاء عن صغيرتي ، اللهم ابعد الوجع والألم عن طريق حياتنا ، اللهم احفظنا برعايتك الواسعة ، فنحن لا احد لنا سواك"
كان كلامها مثل المسكن لروحها والمرهم لجروحها وهي تلفها بخيوط من نور ربطت بين قلبيهما بهالة دافئة واطفئت انتفاضات خفقات جسدها وهي تبدل الطنين بأذنيها لصوت ضربات القلب بداخل صاحبة الجسد التي تحتويها وهي تخترق سمعها بنغمة تعايشت وتربت معها ، فلا احد يعلم بقيمة (روميساء) بحياتها والتي لم تكن يوما شقيقتها وحسب بل كانت الروح التي ولدت وانفصلت عنها بنفس الرحم لتسبقها بولادتها بخمس سنوات وهو ما يفصل بين سنوات حياتهما وما صنع الرباط الاخوي المتين بينهما بدون ان يكون هناك دخيل بعلاقتهما التي نشبت منذ الطفولة واستقرت لتأخذ مكان الوالدين ومكان افراد العائلة والتي تمثلت بهما وحدهما .
عصرت جفنيها فوق احداقها بقوة وشباك عقلها تعود لمرحلة تاريخية اخرى قبل سنوات مضت وما تلى احداث ومعاناة من وفاة والدتهما ، وهي ما تزال تتجرع الألم والشقاء والذي تضاعف على موت والدتها لتكون سلسلة جديدة من ذل وتجريح انهك كيانها ، وهي تسمع صراخ وتوبيخ من والدة طالبة بالمدرسة قامت بتشويه معالم وجهها بعد الإهانة التي تلقتها منها لتدخل معها بعراك حامي ، وصوت تلك المرأة الواقفة امامها تشدد على يد ابنتها كان يخترق شرود ذهنها بكلمات شرسة تكاد تنقض عليها
"يا متوحشة كيف تتجرأين على فعل هذا بابنتي ؟ ألم يعلمك احد الأدب بالتصرف مع زملائك ! هذا ليس تصرف فتاة طبيعية بل فتاة مجنونة فاقدة الأهلية ! واجزم بأنكِ لم تتلقي اي تربية سليمة بحياتك تعلمك التمييز بين الصواب والخطأ ! ولكني لن اصمت عن فعلتك هذه ! لن اصمت !"
ابتسمت الطفلة التي لم تتجاوز عمر الثانية عشرة وهي تستمع لكلام المرأة التي فقدت اعصابها على ابنتها التي اخذت منها نفس الوحشية والدناءة ، وهي تستقبل كلامها المهين والجارح بآذان مرهفة اعتادت على سماع شتى انواع الألفاظ من جميع امهات الطلاب بفصلها واللواتي لم يروق لهن تعاملها الشرس مع بناتهن حتى اصبحت الكائن المكروه والمنفر بالنسبة لهن ولبناتهن ، وهذه المرأة لا تختلف عنهن سوى بدفاعها الضاري عن ابنتها وهي تتابع صراخها الغاضب بوجهها باشمئزاز واستنكار بآن واحد
"اريد ان ارى والديّ هذه الفتاة حالاً لأخبرهم عن تربيتهم العاطلة لها والتي تشرف الدفن عليها ، فأنا لن اصمت قبل ان احضر جميع من يتولى مسؤولية هذه المتوحشة والتي كادت تصيب ابنتي بعاهة مستديمة ، فهذه الفتاة إذا لم تحول للحالات النفسية ولم تحل مشكلتها فقد تتكاثر وتصيب اطفال آخرين بالعدوى ! وكله بسبب إهمال واستهتار من والديها واللذان لم يعرفا كيفية تربية هذه الجرثومة !"
تجمدت ملامحها الباردة وهي تكور شفتيها الصغيرتين بشبه ابتسامة ساخرة على ذكر امر والديها واللذان لم يعد لهما وجود بحياتها ، ولكنها قد صدقت بجملة واحدة بأنهما لم يعرفا كيفية تربيتها لأنهما بالواقع لم يكن لهما وجود بجزء من مراحل تربيتها والتي تولت الحياة هذه المهمة ، ليقصف بعدها صوت المديرة التي كانت تجلس على المكتب المقابل لهم بغرفة الإدارة وهي تقول بكل عملية ما تزال تحافظ عليها
"ارجوكِ ان تسامحينا يا سيدة سعاد على الذي حدث لابنتك ، واتمنى ان نتغاضى عن كل الذي حصل فهو مجرد عراك اطفال ويحدث كل يوم بالمدرسة ، لذا ارجو منكِ ان تغفري لنا زلتنا هذه ونعدك بالانتباه على ابنتك بشكل اكثر حرصا وعدم الغفلة عنها ، وسنتأكد بالمرات القادمة من عدم تكرار هذا بين الطلاب مرة اخرى"
ولكن تلك المرأة زادت من شراستها بدون ان ترضخ للاستسلام وهي تهز ابنتها بجانبها وبيدها الاخرى كانت تشير بها على الفتاة امامها صارخة بعنف
"كيف تريدين مني ان اتغاضى عن فعلتها بعد ان شوهت ملامح الفتاة ؟ هل هي حقا فتاة طبيعية حتى تفعل مثل هذا التصرف ! انا لن اتراجع عن حق ابنتي المسلوب حتى تركع هذه الفتاة امامي وتعتذر من ابنتي امام الجميع ، وغير هذا لن اقبل بأي حلول تداري بها جروح وكرامة ابنتي المسكينة التي كانت ضحية بين يدي هذه المجنونة"
رفعت الطفلة رأسها باتجاه المديرة التي وجهت الكلام لها وهي تقول بأمر جاد
"هيا يا ماسة اعتذري من زميلتك ووالدتها"
ادارت رأسها باتجاه المعنية بكلامها قبل ان ترفعه بإيباء وهي تهمس بقوة نافرة تفوق سنها وكأنها تبصق الكلام بوجهيهما
"لن اعتذر على خطأ لم ارتكبه ، وابنتكِ التي تدعي البراءة هي التي عليها الاعتذار مني على إهانتي امام كل الفصل"
صدرت شهقة من الأم الشرسة وهي تزيد بكلامها من لهيب جنونها لتندفع تلقائيا بلحظات وهي ترفع كفها عاليا صارخة بكل قهر
"يا قليلة التربية......"
اخفضت وجهها الصغير لا شعوريا وهي تسمع صوت الصفعة تصيب شخص آخر غيرها بدون ان تلمسها ، لترفع وجهها برجفة خاطفة وهي تحدق باتساع مقلتيها الزرقاوين للتي وقفت امامها بذات اللحظة والتي وقع بها الكف على وجهها ليطبع بعلامة على وجنتها اليمنى من قوة الصفعة التي كادت تصيبها ، لتبتلع بعدها ريقها بلهاث طفيف هامسة بأحرف متقطعة باسم واحد
"روميساء !"
انتفضت المرأة الثائرة وهي تتراجع بارتجاف طغى على كفها والتي انزلتها برهبة حلت على الجميع ، ليقطع الصمت صوت المديرة مجددا التي تأهبت واقفة وهي تصرخ بتوبيخ قاسي خرجت عن صورتها الرزينة
"انا لا اسمح بحدوث مثل هذه التصرفات بمكتبي ، لذا اعتذر على هذا يا سيدة سعاد ولكن هذه المشاكل الشخصية بين ابنتكِ وبين الفتاة تحل بينهما وبالتراضي وليس بالصفع على الملأ ! فأنتِ ليس لديكِ اي حق بالتصرف من تلقاء نفسكِ وامام الإدارة والتي تهتم بسير كل شيء بالنظام وبالعدل مع الجميع ، وحق ابنتكِ سيأخذ بالطريقة الصحيحة وبدون اي مشاكل"
كانت المرأة على وشك قول شيء بعد ان استعادة ضراوتها لولا التي سبقتها بالكلام وهي تندفع امامها مخفضة رأسها بذل لتهمس من فورها برجاء حزين
"ارجوكِ يا سيدتي ان تغفري فعلة شقيقتي ماسة هذه المرة ، فهي لم تقصد ان تؤذي او تصيب ابنتكِ بمكروه ، وانا اعتذر بالنيابة عني وعنها على كل ما سببته لابنتكِ ، ارجوكِ ان تسامحيها يا سيدتي ونعدك بأنها لن تكررها ، ارجوكِ"
قبضت على يديها الصغيرتين بجانب جسدها بقوة وهي تنظر بدموع خائنة برزت على اطراف مقلتيها الثائرتين من الذل والهوان والذي تعرضه لشقيقتها لتتوسل السماح من الآخرين ، ليعود صوت المديرة ليعلو فوق اصواتهم وهي تقول بحزم حاد
"روميساء خذي شقيقتكِ ماسة وغادريها للمنزل ، وغدا صباحا اريد ان اراكما امامي بمكتب الإدارة ، هل هذا مفهوم ؟"
اجابت التي كانت تحني رأسها وهي تهمس بتهذيب وطاعة
"حاضر يا ايتها المديرة ، وشكرا لكِ على تفهمك"
وكان هذا آخر كلام يدور بينهم قبل ان تخرجا من المدرسة بأكملها بطريق العودة للمنزل ، كانت تمسك بيد شقيقتها الكبرى وهي تحدق بالصفعة الدموية التي ما تزال تزين خدها الايمن مثل علامة لا تزول ، لتعبس ملامحها بلحظة وهي تنفض يدها بعيدا عنها بعنف دفع كليهما للتوقف بمنتصف الطريق ، لتلتفت (روميساء) للخلف بدهشة وهي تراقب التي اخفضت نظراتها لتهمس بارتجاف منفعل ببؤس
"لما فعلتِ هذا ؟ من الذي اعطاكِ الحق بالتدخل بتلك اللحظة ؟ كم مرة اخبرتكِ ان تبقي بعيدة عن مشاكلي لكي لا يصلك الاذى ! فأنا استطيع تدبر امري وحدي بدون تدخلك"
تنهدت بهدوء وهي تنظر بعيدا عنها هامسة بشرود
"وكيف يمكنكِ تدبر امرك ؟ لقد كنتِ على وشك ان تفصلي من المدرسة بسبب تهورك والتطاول على الاكبر منكِ سنا !"
رفعت قبضتها الصغيرة وهي تلوح بها صارخة باستنكار
"لم ارتكب اي خطأ ولم احاول التطاول على احد ! كل الذي فعلته بأني دافعت عن نفسي امام تلك الحيوانات الهجينة ، هل اصبح الدفاع عن النفس جريمة ؟ هل تظنين بأني سأصمت عن حقي كما تفعلين انتِ واطلب السماح من كل من يقلل من قيمتي ؟....."
استدارت نحوها فجأة وهي ترفع اصبعها امام شفتيها هامسة بأمر قاسي
"اخرسي يا ماسة"
صمتت بالفعل كما تأمرها دائما والوحيدة التي تستطيع الصمت امامها بدون ان تأخذ حقها منها ، لتتنفس بعدها بتعب وهي تنحني امامها لتصل لطولها قبل ان تمسك بكتفيها ببعض الهدوء الذي ما تزال تتحلى به مع كل هموم الحياة الملقاة على كاهلها ، لتهمس بلحظات بابتسامة شاحبة ببعض الرقة
"كل الذي افعله يا عزيزتي من اجل مصلحتك ومستقبلكِ بالحياة ، فماذا سيفيد فصلكِ من المدرسة وجعل نفسكِ طعم امام الناس ؟ نحن علينا بالتأقلم بهذا العالم بقدر ما نستطيع ومحاولة التعايش مع هذا المجتمع الجديد ، لنستطيع ان نبني حياة لنا وحدنا بالمستقبل ولكي نقدر بالنهاية على التحرر من عبودية قيس ، لذا علينا بالتحمل والصبر وارضاء كل البشر الكارهين لنا حتى نصل للاستقلالية ، هل تستطيعين فعل هذا من اجلي ؟"
تنفست بنشيج وهي تخفض عينيها بدموع حبيسة هامسة بعبوس مستاء
"ولكني لا اريدكِ ان تتلقي الألم عني بعد الآن ، لن اتحمل ان اراكِ تتألمين بسبيل ارضاء البشر الكارهين لي ، لا اريد ان اكون ثقل وحِمل عليكِ ، اريد فقط ان ينصفنا العالم يوما ! لما لا احد يحبنا ؟"
غيم الحزن عليهما لثواني قبل ان تسمع الهمس الخافت بنفس الكلمة الشهيرة والتي تستخدمها بكل المواقف
"لا تقلقي يا ماسة ، كل شيء سيكون بخير"
رفعت عينيها الواسعتين ببركتي الدموع وهي تنظر للوجه الباسم تزين خدها العلامة الحمراء والتي تحولت لبريق وردي باهت وكأنه لا هموم تحملها بداخلها ببسمة طفيفة مملوءة بالتفاؤل المعدوم بحياتهما فقط تتصنع الابتسام ، ولم تتحمل بعدها الغصة التي تحررت بروحها وهي تسكب دموعها السابحة على وجنتيها مثل خيوط امتلأت بالكثير من الغل والحزن والثورة والكثير تشابك وتداخل معها حتى انهارت باكية بنواح عالي شبيه ببكاء الأطفال ، لتشعر بعدها بثواني بالذراعين تحاوطان جسدها الصغير لتربت على احزانها وتطيب على جروحها بدون ان تبالي كليهما بالمكان وبالوقت الزمني الذي سجل بذكرياتهما للأبد .
فتحت عينيها بإنهاك وهي تفيق من هوة ذكرياتها السحيقة والتي تأخذها إليها بكل مرة ، لتميل برأسها جانبا وهي تتأمل النائمة على السرير المجاور لها بسكون تام وبراحة طافت على ملامحها الهادئة ، لا يقطع الصمت السائد بالمكان سوى صوت جهاز دقات القلب المنتظمة وحركات عجلات الاسطوانة المتصلة بها للآن .
نهضت بعدها عن السرير والذي وضعوه لها بطلب منها بنفس غرفة شقيقتها لتبقى بجوارها ما ان احتاجتها ، ولكنها لم تتوقع ان يغلبها الارهاق والنعاس وتذهب بغفوة مع ذكرياتها البائسة والتي تزورها بأسوء اللحظات وكأنها تتقصد ربط الذكريات مع مجريات الأحداث بعقلها الباطن !
سارت عدة خطوات باتجاه النائمة على السرير بدون حراك لتميل بلحظة بجذعها وهي تقرب اذنها من وجهها لتتأكد من انتظام تنفسها بخوف خفي ما يزال يسكنها ، لتزفر عندها انفاسها براحة وهي تستقيم لوهلة قبل ان تهبط ارضا بلحظات بخمول سيطر عليها لتجلس بجانب سريرها بتعب ارخى مفاصلها ، اسندت بعدها جانب رأسها على السرير وهي تحاول امساك الكف المتصلة بأنبوب المغذي لتشعر بنبضات معصمها مثل اكسير الحياة والتي تمدها بها منذ طفولتها لهذه اللحظة ، وهي ما تزال تعيش على نبضات قلبها التي كانت تسمعها بأذنيها بكل عناق يحدث بينهما بدون ان تتخلى عن دفء الشعور بها ، وهمسات متقطعة افلتت من بين شفتيها المرتجفتين بأنين حزين معيدة نفس مقولة شقيقتها
"كل شيء سيكون بخير ، انا اعدك"
_______________________________
دخل للمنزل بخطوات ثابتة وبقلب مثقل محمل بالهموم وعقل يتأرجح على لهب مشاعره الحبيسة منذ الصباح الباكر وكأنه بقارورة انغلق بها على نفسه بسلاسل حديدية قيدت عواطفه المدفونة التي كانت تعصف بذهنه على مدار ساعات طوال...وبدون ان يشعر احد بما يعانيه حالياً والتي فاقت معاناة فقدان اول طفل له ما يزال جنين برحم والدته لم يرى شيء من الحياة بعد...فهل هذا هو قدرهما من الحياة تجرع الألم بمجريات علاقتهما والتي لم تكد تنتهي بفرحة وجود طفل بينهما وثمرة حبهما لتعود لنقطة البداية من جديد ؟!
تنهد بتعب وهو يقف امام السلالم للحظات قصيرة وهو يفكر بالطريقة التي وقعت بها على بداية درجات السلم ! وكيف كان حالها بتلك اللحظات التي سبقت فقدانها للوعي ؟ وكم ارهقه التفكير بتلك المعضلة وخياله المرهف والذي رسم كل الصور برأسه لتكون وقعها اكبر على قلبه ومؤلمة اكثر من مشاهدتها حقيقة متجسدة امامه !
اكمل طريقه بصعود السلم ومع كل خطوة كان يزيد من ضربات قلبه المرهق مع كل ما شهده اليوم لتتشبث قبضته لا إراديا بحاجز السلم البارد باستماته لآخر رمق ، وما ان انتهى من مهمة صعود السلم حتى انتقل للمهمة التالية وهي التوجه لغرفة كبير العائلة ، وصل بعدها بدقائق امام غرفة والده وهو يطرق على الباب عدة طرقات بأدب قائلا بخفوت متزن
"ابي هل ما تزال مستيقظ ؟ ام اعود لاحقاً !"
تباطأت الطرقات على الباب حتى انضبت تماما وهو يصلب قبضته امام سطح الباب للحظات قبل ان يخفضها بعيدا ، ليزفر بعدها انفاسه بتعب اكبر كان يجثم فوق صدره مثل صخرة مدببة اثقلت على حياته ، ليقول مجددا بخفوت خاوي وهو يستدير بعيدا
"حسنا تصبح على خير يا ابي"
وصل بخطواته الثابتة للمسار المؤدي للغرف الخاصة لكل من زوجاته ، ليدخل بعدها عند اول جناح بالممر وهو يدلف بخطوات جامدة سرعان ما خابت ما ان لمح الكائن الجالس بسكون بمنتصف بهو الجناح المظلم ، ارتفع حاجبيه تدريجيا بدهشة لحظية وهو يحاول استيعاب صدمة وجودها بالمكان على عقله المشتت قبل ان يتبعها بالهمس بجمود باهت تراخت معه ملامحه المشدودة
"لما ما تزالين مستيقظة يا سلوى ؟ وماذا تفعلين خارج غرفتك ؟"
نهضت واقفة عن الاريكة بهدوء مريب قبل ان تسير نحوه بخطوات متأنية بتهادي واضح ، وما ان اصبحت مقابلة له على بعد خطوة حتى ارتمت على صدره بلحظة وهي تعانق خصره بذراعيها بقوة سمرته بمكانه لوهلة ، لتهمس بعدها بخفوت ساكن وكأنها تستعد لتلقي الخبر الاسوء ببرودة اعصاب
"لقد خفت كثيرا ، انا سعيدة بعودتك"
تجمدت عضلة فكه وهو يحاول تلقي الصدمة الجديدة بحياته والتي اصبحت عبارة عن سلسلة آلام لا تنتهي ، ليمسك بعدها بكتفيها برفق وهو يهمس بخشونة خافتة
"لما الخوف الآن يا سلوى ؟ ليست اول مرة اتأخر فيها بالعودة للمنزل !"
شددت من تطويق خصره بذراعيها وهي تغوص وجهها بصدره الصلب هامسة بين منحنيات عضلاته بدلال ناعم
"ولكنني خفت كثيرا من ان تكون قد رحلت وتركتني بعد ان ضقت ذرعا مني ، فقد كنت تلمح لي كثيرا بالآونة الاخيرة بأنك ستتخلى عني وستحاول التخلص مني بأقرب فرصة تحصل عليها !"
تنفس بجمود وهو يهمس باستنكار عابس
"ما هذا الهراء الذي تتفوهين به يا سلوى ؟ هل من كل عقلك تتكلمين عن هذا بعد كل ما حدث اليوم ؟ ألم تكوني متواجدة بالصباح عندما !....."
تراجع عن الكلام ما ان وصل للنقطة المهمة والتي دمرت وحسمت حياته اليوم بانتهاء فرحته الوليدة مؤخرا ، ليفيق من افكاره على صوت التي قالت بخفوت مريب بدون ان تنظر له
"وما هو الذي حدث اليوم ؟ كل ما اعرفه بأن زوجتك الجميلة قد نقلت للمشفى بالصباح بسبب إهمال واستهتار كبير منها بدون ان تقدر المسؤولية التي تحملها على عاتقها !....."
انتصب بعيدا عنها وهو يقول بجمود نافذ تسرب بعضلات جسده بلحظة
"انتِ ايضا يا سلوى ! لما لا يقدر احد المعاناة التي نمر بها الآن ؟ هل جميعكم تحملون كل هذه القسوة بقلوبكم ؟"
عضت على طرف شفتيها بتأنيب من كلامها الذي لم يكن يجدر ان يخرج منها الآن ، لتعود من فورها لترسم الحزن على محياها وهي تربت على ذراعه هامسة بالسؤال البديهي والذي خطر على بالها بلحظة
"كيف حالها الآن ؟ هل هي بخير ؟"
نظر لها للحظات بجمود صامت عبر عن الصراع الذي يسكن بدواخله وكل شيء كان يود قوله ، ليشيح بعدها بوجهه جانبا بهدوء وهو يتمتم بخواء بارد
"لقد نجت من مرحلة الخطر واصبحت حالتها مستقرة الآن"
اومأت برأسها بتفهم ساخر وهي مستمرة بالمسح على ذراعه لتهمس باستياء رغم معرفتها بالجواب مسبقا
"وماذا عن الطفل ؟"
عصفت ملامحه بكل انواع المشاعر المحجوزة بداخله ليمسد على جبينه بدوار مفاجئ وهو يستدير بعيدا عنها هامسا بصوت منهك خائر القوى
"يكفي كلام عن هذا الموضوع يا سلوى ، فأنا احتاج للراحة الماسة الآن وليس لدي الوقت او القوة لخوض اي نقاش معكِ"
امسكت بذراعه بسرعة وهي تهمس بابتسامة متملقة
"يبدو عليك التعب والارهاق يا احمد ، تعال واجلس قليلا واعدك لن ازعجك بالكلام ابدا"
وقبل ان يبدي اي اعتراض سحبته بسرعة من ذراعه باتجاه الاريكة بقوة بدون اي انتظار ، ليجلس من فوره على الاريكة بإنهاك استبد به وهو يريح رأسه على المسند من خلفه وكفه فوق عينيه بارتخاء تام ، بينما جلست الاخرى بجواره وهي ترفع كفها ببطء لتمسح بأصابعها على طول ذراعه بنعومة هامسة بحزن اتقنت تقمصه
"لم تخبرني بعد عن حال الطفل يا احمد ! هل اصابه مكروه ؟ هل هو بخير ؟"
تصلبت اطراف جسده برعشة خاطفة وهو يعصر عينيه بأصابعه بألم مبرح لا يريد ان يفارقه ، ليهمس بلحظة بنبرة خاوية تجردت منها كل معالم الحياة
"لقد رحل الطفل"
ارتسم الحزن والأسى على محياها بمهارة وهي تشدد بلمسات اصابعها على قماش سترته قبل ان تهمس بذهول مستنكر تلون بصوتها بلحظات
"هل هذا يعني بأن روميساء قد اجهضت الطفل ؟ مستحيل كيف من الممكن ان يحدث كل هذا بغمضة عين ! لقد كانت بالصباح بأفضل حال ولا تعاني من شيء ! كيف وصلت لهذه الحال ؟......"
قاطعها فجأة وهو يميل بجسده للأمام ليريح كفيه فوق ركبتيه هامسا بقهر شديد تحشرج بصوته
"انا السبب بكل معاناة تمر بها الآن ، لو كنت معها بتلك اللحظات ! فقط لو رضخت لطلبها وقضيت اليوم برفقتها ولم اتركها لذلك القدر والذي سرق منا طفلنا الأول والذي رزقنا به بعد تعب وشقاء خاض به كلينا ! ولكن كل شيء قد انتهى قبل ان نشعر به ونتنغم بسعادته والتي لم تقدر لنا !"
قبضت على يديها فجأة والجمود يكتسح محياها بدون اي شعور ، لتعود لترخي مفاصلها بثواني وهي تطوق هذه المرة ذراعه واصابعها ما تزال تدلك على ذراعه صعودا لكتفه بلمسات ناعمة ، لتقرب بعدها وجهها من جانب اذنه وهي تهمس بخفوت مغري بمواساة
"اهدئ يا عزيزي ، فهذا الذي تفعله بنفسك لن يفيدك بشيء سوى زيادة التعب الجسدي والمعنوي عليك ، وانت تبدو لي مرهق جدا وتحتاج للراحة التامة ، واراهن بأنك لم تأخذ قسط من الراحة منذ الصباح ! لذا دعني ازيح عنك هذا الألم واريحك من كل هذه الهموم والاحزان والتي تكتلت بروحك وقلبك ، وانا اعدك بأنك معي لن تشعر بأي معاناة بحياتك"
حرك رأسه بشرود متعب وكأنه لم يسمعها وهو يهمهم مع نفسه بكلمات مبهمة بحزن عميق يأبى ان يتركه ، لتستغل فرصة غيابه عن عالمه الحاضر وهي تتمادى بحركات يديها واللتين وصلتا لياقة قميصه بنعومة طوقت مشاعره الحبيسة واصابعها تتلاعب بأزرار القميص هامسة بشفتيها بابتسامة منتشيه بإغراء
"سلمني نفسك يا احمد ، وانا اؤكد لك بأني سأحررك من حزنك ومن تأنيب ضميرك بثواني ، فقط اعطني من وقتك القليل لأضمد على جراحك وامسح على آلامك"
عندما لم يصدر اي ردة فعل تمردت على صمته وهي تلصق نفسها بصدره لتطبع قبلاتها على جانب وجهه وهي تنزل بها على عنقه بسلاسة وبمحاولة ضعيفة لدمجه بعالمها واختراق حزنه بشغف وقوة قبلاتها ، لتشعر بلحظات بتصلب جسده المشدود والذي افاق من الخمول وهو يرفع رأسه بانتصاب لوهلة ليتبعها بالنهوض باندفاع وكأنه قد اصيب بصعقة اعادته لكامل وعيه ، تنفس بعدها بجمود صخري وهو يلتفت بنصف وجهه بعد ان عادت ملامحه لصرامتها المعتادة هامسا بجفاء بارد
"ما هذا الذي كنتِ تفعلينه يا سلوى ؟"
اعتدلت بجلوسها وهي تنفض خصلات شعرها المتشابكة بتمرد قائلة بحدة مرتجفة تداري بها إهانتها
"لقد كنت احاول مساعدتك بحزنك ، ولم اقصد ان اجرحك باختراق عالمك المنيع ، فيبدو بأن هذا العالم خاص فقط بك وبزوجتك الاخرى والتي ما تزال تأخذ عقلك للآن !"
عقد حاجبيه بحدة وهو يقول بعبوس صارم فقد السيطرة عليه
"ليس هكذا تتم المساعدة يا سلوى !"
لوت شفتيها بسخرية وهي تحرك عينيها بعيدا هامسة باستهزاء
"لا تقلق لن اكررها معك مجددا ، ويمكنك اكمال معاناتك مع تأنيب الضمير على اميرتك الحزينة"
تنهد بانفعال مكبوت وهو يحك جبينه بدوار مبرح ، ليلتفت بسرعة امامه وهو يتمتم بوجوم بعد ان عزم امره
"اذهبي للنوم يا سلوى ، فأنا لن استطيع السهر معكِ اكثر ، فلدي غدا صحوة مبكرة للذهاب للمشفى قبل شروق الشمس"
عندما لم يسمع اي ردّ منها اكمل طريقه لخارج الجناح بنفس الخطوات الثابتة ، ولم يسمع تلك الجملة القصيرة من الحاقدة من خلفه وهي تهمس بكل غل ما يزال يسيطر على كيانها المشروخ
"تستحق كل ما يحصل لك ولأميرتك الفاجرة الولهان بها !"
وصل (احمد) داخل غرفته وهو ينشر نظراته بخواء بأنحاء المكان الفارغ وكأنه يرى طيفها يحوم من حوله بهالة مأسورة ، ليرتمي بعدها جالسا على طرف السرير بلحظة وهو يمسك رأسه بيديه بألم كان يزداد ثقلا وكأنه يحمل الكون فوق رأسه حتى يشعر به يكاد ينفجر ، ليخفض يديه ببطء وهو يمسح وجهه بتعب لوهلة ما ان اجتاح ذهنه آخر كلمات سمعها من زوجته الجميلة ببسمتها المحبة والتي تعتلي محياها البشوش على الدوام وهو ما يزال يرى يدها التي كانت تلوح عاليا بحماس طفولي
(لا تتأخر بالعودة يا احمد ، فأنا سأكون بانتظارك بفارغ الصبر)
ضحك بحشرجة شعر بها تخرج من صميم روحه وهو يتهم القدر من سخريته منه والمتاهة والتي ادخله لها ، ولولا المجريات الاخيرة والتي حدثت معهما لكانا الآن يعيشان ليلتهما معا والتي كان من المفترض فعلها كما تواعدا من قبل !
قبض على يديه امام جبينه وهو يهمس بابتسامة مرتخية بتأنيب قاهر
"سامحيني يا عزيزتي ، فأنا بعد كل شيء لم اوفي بوعدي لكِ ، فلا انتِ استطعتِ انتظاري ولا انا استطعت العودة لكِ !"
______________________________
تغضن جبينها بضيق وهي تشعر ببرودة تلسع وجنتها مختلفة عن البرودة الساكنة بأطرافها والمخيمة من حولها شبيه بصقيع روحها...لترمش بعدها بعينيها المرهقتين عدة مرات بصعوبة حتى فتحتهما بالنهاية على اتساعهما ما ان اكتملت صورة الوجه المقابل لها على بعد سنتيمترات قليلة...لينطق بعدها الجالس بجوارها بابتسامة مائلة لمحتها رغم الظلام المحيط بهم
"واخيرا استيقظتِ ! لقد كنت قد فقدت الأمل من استيقاظك"
تسارعت انفاسها بلحظات وهي على وشك التكلم بغضب اهوج عاد لاحتلال روحها قبل ان تسبقها اليد التي كممت فمها وهو يقول بخفوت صارم
"احجزي غضبكِ قليلا يا ألماستي من اجل ألا يصل صوتك لشقيقتك النائمة"
رمشت بعينيها بارتجاف لحظي وهي ترفع حدقتيها باتجاه السرير الذي كانت تستند عليه وغفت هناك بمكانها ، لتعود بنظرها لنفس الشخص ما ان قال بهدوء جاد
"انا الآن سأبعد يدي عن فمكِ ، ولكن عليكِ ان تعديني أولاً بأنكِ لن تصدري اي صوت ، إذا كنتِ موافقة على كلامي حركي رأسكِ لأتأكد من صدق وعدكِ !"
حدقت به بمقلتيها الواسعتين بأمواج غائمة قبل ان تحرك رأسه بإيماءة طفيفة بجمود ، لتتسع بعدها ابتسامته بهدوء وهو يخفض كفه بعيدا عن فمها ببطء استشعر معه بدفء انفاسها وبنعومة بشرتها على اصابعه الخشنة ، وبلحظة كانت تنتفض بعيدا عنه وهي تزحف للخلف هامسة بعبوس واجم
"ما لذي تفعله بغرفة شقيقتي ؟ وكيف تتجرأ على دخولها بدون إذن ؟"
زفر انفاسه بيأس وهو يحرك رأسه علامة الملل هامسا بجمود
"كنت اعلم بأنكِ لن توفي بوعدكِ لي ، فأنتِ دائما تخالفين ظنوني !"
زمت شفتيها بحنق وهي تلوح بيدها هامسة بسخرية
"حقا ! لقد قلت ما اشعر به انا ايضا !"
عقد حاجبيه بتصلب قلبت ملامحه بعيدا عن المرح ، لتهمس من فورها بجدية وهي تتقدم بجلوسها بتحفز
"لم تجب على سؤالي ! ما لذي تفعله بغرفة شقيقتي ؟ هل تظن نفسك تملك المشفى ؟....."
قاطعها بصرامة اكبر وهو يتقدم بجلوسه مثلها حتى اصبحت وجوهما مقابل بعضهما البعض
"وهل تظنين نفسكِ تملكين غرفة شقيقتك ؟ تمنعين من تشائين وتدخلين إليها بالوقت الذي تريدين ! لقد نسيتِ بأن هناك اناس احق منكِ بدخول هذه الغرفة التابعة للمشفى الذي يعملون به"
ارتفع حاجبيها بارتباك ينتابها لأول مرة وهي تهمس بعبوس غاضب
"توقف عن السخرية بهذه الطريقة ، واجبني عن سؤالي ، ما لذي احضرك إلى هنا ؟ ألم يحن الوقت لتتركني انفرد مع نفسي قليلا"
مالت ابتسامته بافتراس احتلت ملامحه وهو يتمتم بأنفاس دافئة وصلت إليها عبر فحيح كلامه
"وهل تظنين بأني سأسمح لكِ بالانفراد مع نفسك ؟"
ابتلعت ريقها باضطراب بدون ان تجيبه بشيء وهي تحيد بنظراتها بعيدا عنه لوهلة ، لترتجف بلسعة خاطفة وهي تعود للشعور بنفس البرودة على وجنتها قبل ان تنظر بسرعة امامها وهي تحدق بعلبة العصير المعدنية التي كان يحملها بيده ، وجهت بعدها نظراتها بحيرة لصاحب اليد والذي قال بلحظة بابتسام هادئ
"ما رأيكِ بهذا ؟ لقد احضرت لكلينا علب عصير وشطائر للعشاء ، بما اننا لم نتناول شيء ولم نضع لقمة طعام بأفواهنا منذ الصباح ، وليس من الصحي النوم على معدة فارغة"
تجمدت ملامحها لوهلة وهي تتراجع بعيدا عنه هامسة ببرود
"لست جائعة ، ويمكنك الرحيل من هنا والاستمتاع بطعامك بعيدا عني"
تنهد للحظات وهو ينهض على ركبتيه بدون ان ينسى امساك ذراعها وهو يسحبها لتستقيم بالوقوف معه ، لتقاوم بعدها باستماته وهي تحاول سحب ذراعها ما ان وصل بها لباب الغرفة بثواني هامسة بشراسة مكتومة
"اتركني يا شادي....."
قاطعها بتشديد وهو يضع اصبعه على شفتيه هامسا بحزم
"هششش ، إياكِ وان تصدري اي نفس"
عضت على طرف شفتيها بامتعاض بدون كلام وهو مستمر بسحبها لخارج الغرفة ، وما ان اصبحا بالخارج حتى افلت ذراعها بصمت وهو يتقدمها بالسير بعيدا ، لتدلك بعدها على ذراعها بوجوم وهي تشاهد الذي جلس عند مقاعد الانتظار بهدوء ليشير بيده للمقعد بجواره بأمر .
رفعت رأسها بإيباء وهي تتقدم امامه لتجلس بالنهاية على اقصى طرف المقاعد بعيدا عنه ، ليرتفع عندها حاجبيه ببرود لوهلة قبل ان يغير مكانه وهو يجلس بالقرب منها ، وما ان حاولت النهوض مجددا حتى شبت اصابعه بذراعها وهو يهمس بكل ما يستطيع من ثبات متزن
"حاولي النهوض من مكانكِ لأجعل هذه الليلة لا تنسى بالنسبة لكِ !"
تسمرت قليلا وهي تعتدل بجلوسها بدون ان تصدر اي حركة اخرى ، ليرخي بعدها اصابعه على ذراعها بثواني وهو يخفض قبضته بعيدا عنها ، ليرفع بعدها الكيس بجانبه وهو يخرج منه شطيرة قبل ان يسلمها لها قائلا بهدوء
"امسكي"
نظرت للشطيرة بيده لبرهة قبل ان تمسك بها بهدوء بدون اي تعبير ، ليعود ليخرج من الكيس شطيرة اخرى له مع علب العصير المعدنية ، قبل ان يعود للنظر للساكنة بجواره وهي مشغولة بفتح غلاف الشطيرة ببطء شديد عبث بأعصابه ، ولم يتمالك نفسه بعدها وهو يرفع علبة العصير بلحظة بدون ان يمنع نفسه وهو يقربها من خدها كما فعل معها سابقا ، لترتعش بنفس الرجفة المثيرة وهي ترفع عينان غائمتين بزرقة داكنة هامسة بعبوس
"هلا توقفت عن فعل هذه الحركة ؟"
عض على طرف ابتسامته بإثارة وهو يلوح بالعلبة امامها قائلا بتسلية
"ولكنها تناسبكِ فهي باردة مثل برودة اعصابكِ تماما !"
عبست ملامحها بحنق وهي تبعد عينيها عنه هامسة بغيظ
"دائما تستمتع بفعل كل شيء يغيظني على حساب مشاعري وكبريائي"
ابتسم بهدوء وهو يضع علبة العصير فوق ساقيها قائلا ببرود متعمد
"هذه كذبة جديدة اختلقها عقلك الاحمق ، فأنا لا اذكر بأني قد ضايقتك من قبل على حساب مشاعرك وكرامتك !"
حركت عينيها بملل وهي تقضم من طرف الشطيرة بهدوء شديد لتلوك اللقمة بفمها بصعوبة وكأنها تحاول ان تستسيغ طعمها والذي اصبح اشبه بقطعة صخرة ببلعومها المتحجر بتقلبات معدتها ، لترفع بعدها علبة العصير بيدها الاخرى وهي تحاول فتح سدادتها المغلقة بإحكام بدون جدوى .
نظرت للجالس بجانبها والذي انشغل بتناول شطيرته بشرود بعيدا عنها ، لتبتسم بعدها بتفكير وهي ترفع علبة العصير لتضرب بها على خده كما كان يفعل معها ايقظته من شروده بلحظة ، التفت بسرعة نحوها بدهشة اتسعت بعينيه وهو يهمس بذهول عابس
"هل كررتِ نفس حركتي للتو ؟"
عادت لتحرك علبة العصير امامه وهي تشير بأصبعها الطويل للسدادة ، ليقول بعدها بحاجبين مرفوعين بتفكير
"هل تريدين مني فتح علبة العصير ؟"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تمد علبة العصير له ، ليتناوله منها بعبوس حائر وهو يفتح السدادة بأصبعه قائلا باستياء
"يمكنكِ قولها ببساطة ! لا داعي للخجل وتمثيل انكِ خرساء !"
تجاهلت كلامه وهي تنتشل العلبة منه ما ان انتهى من فتحها ، لترتشف منها بسرعة وهي تبتلع اللقمة القاسية بجوفها والتي اعاقت عليها مجرى التنفس والنطق لثواني ، لتتنفس بعدها براحة وهي تمسح على فمها بظاهر كفها بهدوء ، عبست ملامحها بلحظة وهي تستمع للذي كان يتكلم بيأس وهو ينظر بعيدا عنها
"يا للوقاحة ! ألن تتعلمي ابدا الأدب بالتصرف ؟ عندما يقدم لكِ احد معروف او يساعدك بشيء عليكِ برد الجميل له ولو بجملة امتنان صغيرة تعبر عن مدى سعادتك بمساعدته ، هل فهمتِ يا ذات الوجه العبوس ؟"
التفتت نحوه بغضب عند آخر كلمة نطق بها لتتقابل مع نظراته المسلطة عليها بقوة ، قبل ان تعود بسرعة للنظر امامها وهي تهمس بارتباك خافت
"شكرا لك"
ارتفع حاجبيه ببطء شديد وهو يحك ذقنه لوهلة قبل ان يهمس باستياء ساخر
"جيد لا بأس بأسلوبكِ الآن ، بالرغم من انه ينقصه اللباقة بالكلام والابتسامة الجميلة وانتِ تنطقين بالكلام امام محدثكِ أياً كان ! ولكن هذا ابعد ما يكون عنكِ يا ذات الوجه العبوس !"
انتفضت بغضب وهي تتقدم بوجهها امامه هامسة من بين اسنانها بشعلة على وشك التحرر من جنبات روحها
"توقف عن تلقيبي هكذا ! فهذه إهانة اسوء من كل الألقاب والتي قيلت عني من قبل"
حرك رأسه وهو يهمس بحاجب واحد بمكر
"حتى اسوء من لقب زرقاء !"
ضيقت عينيها الزرقاوين بقسوة وهي تهمس بشفتين متكورتين بغيظ
"اجل"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يريح يده بجانب جسدها ليتابعها بالنظر عن كثب قبل ان يرفع يده الاخرى وهو يتلمس بأصبعه السبابة جانب وجهها هامسا بمغزى
"لن اتوقف قبل ان ارى الابتسامة تغزو تقاسيم وجهكِ وتبدل هذا الوجه العبوس ، عندها قد اتخلى عن تسميتك بذلك اللقب"
ارتجفت عضلة خديها تحت ملمس اصبعه المتمرد وهي تشعر بفورة مشاعرها الثائرة تتدفق لمحياها باحمرار طفيف اشعل وجهها بثواني ، لتشيح بعدها بوجهها بعيدا عن يده وهي تنتصب بجلوسها بعيدا عنه بجمود معيدة السيطرة على قيود عواطفها والتي اصبحت تتسرب منها مؤخرا .
اعتدل (شادي) بجلوسه بدون ان يبعد ناظريه عنها وهو يلمح طرف ابتسامتها التي غزت محياها لا شعوريا ، لتلوي عندها طرف شفتيه بابتسامة جانبية وهو يكتف ذراعيه قائلا بهدوء
"واخيرا بدأتِ تفهمين كلامي يا باردة ، انظري ما اجمل الابتسامة على وجهكِ وانتِ تحررينها من جحرها لتتألق على وجهك وتظهر انوثتها الطاغية !"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تحيد بنظراتها نحوه هامسة بوجوم
"يا لك من ماكر بلعب بمشاعر الفتيات !"
تغضنت زاوية ابتسامته بدون كلام وهو يكمل تناول شطيرته المتبقية بهدوء غامض غيم عليهما سويا ، حاد بعدها بنظره نحوها وهو يحدق بعلبة العصير بيدها لوهلة ليقول عندها بلحظات بخفوت غامض
"هل ستنهين هذا العصير ؟"
اخفضت رأسها للأسفل قليلا وهي تهمس ببرود خافت
"لا لا اعتقد....."
اتسعت حدقتيها بصدمة ما ان انتشل علبة العصير منها بلمح البصر ليرتشف منها بثواني قليلة قبل ان تراها بعدها تطير وهو يلقي بها بسلة المهملات امامهما ، تنفست بارتعاش وهي تنظر له بحدة هامسة بعبوس حانق
"من سمح لك بشرب عصيري !"
مسح فمه بكفه وهو يهمس ببرود جليدي
"انتِ قلتي بأنكِ لن تكمليه ، وانا فعلت واجبي اتجاه الاشياء الخاصة بزوجتي لكي لا يشربه احد من بعدك"
انفرجت شفتيها بذهول غزى ملامحها وهي ترفع حاجبيها بآن واحد هامسة بغيظ
"ومن المختل الذي سيفعلها ويشرب من عصير خاص بغيره ؟"
حرك رأسه بابتسامة صغيرة وهو يلوح بيده هامسا بخفوت متسلط
"الاحتياط واجب ، فهذا الأمر لا تساهل او استهانة به !"
عادت بنظرها للأمام وهي تهمس بعبوس مستاء
"لا اعلم ما هي المتعة بشرب عصير غيرك بعد ان شرب منه ؟"
عض على طرف ابتسامته وهو يميل بوجهه نحوها حتى اصبح على مقربة من اذنها هامسا بتجويفها بصوت اجش متسلي
"متعة لا تضاهيها اي متعة بالعالم ! فما لا تعرفينه يا عزيزتي بأن هذه الامور تزيد من تجاذب القطبين المتنافرين ليصبحا اكثر توافقا واكثر تشاركية !"
حادت بنظراتها نحوه ببرود وهي تبتسم بميلان طفيف هامسة بخفوت ساخر
"يبدو بأنك مستمتع بلعب على كل اوتار علاقتنا لتجعلها عبارة عن تحدي خاص بك وحدك !"
اومأ برأسه بهدوء وهو يتلمس بأصبعه الخصلات القصيرة المتمردة امام اذنها ليعيدها للخلف برفق قبل ان يهمس بخفوت مرتخي
"هذه ساحة حربنا يا ماسة والتحدي هو الفيصل بيننا"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تخفض نظرها للشطيرة بيدها للحظات ، لتقول بعدها بقنوط وهي تمد الشطيرة امامه
"إذاً هل تستطيع اكمال هذه الشطيرة عني ؟ من اجل ان تنجح علاقتنا كما تقول قوانين التجاذب عندك"
تراجع بجلوسه وهو يقطب جبينه بجمود بعيدا عن الهزل قائلا بجدية نافذة
"لا تحلمي بها ! عليكِ ان تنهي هذه الشطيرة كاملة من اجل ان تتغذي جيدا فأنتِ لم تتناولي شيء منذ الصباح ، ولا اريد سماع اي شكوى او تذمر بخصوص هذا الأمر"
نظرت للشطيرة بين يديها وهي تهمس بتذمر عابس
"يا للقسوة !"
زفر انفاسه بهدوء وهو ينهض عن المقعد بلحظة ليمسك بالكيس الذي يحوي بقايا الطعام ، قبل ان يلتفت نحوها لوهلة وهو يشير بيده للشطيرة قائلا بأمر صارم
"انا سأذهب لأحضر لنا كأسين من الماء ، وبهذا الوقت عليكِ ان تكوني قد انهيت طعامك لكي لا ارغمك على تناولها بطريقتي ، هل هذا مفهوم ؟"
ادارت عينيها بعيدا عنه وهي تهمس بصوت خافت بقهر وصله واضحا
"لم اعرفك قاسي هكذا !"
ابتسم بهدوء وهو يستدير للأمام ليهمس بآخر كلمات قبل ان يغادر بعيدا
"توقعي كل شيء يا عزيزتي ، فلا تنسي بالحب كل شيء مباح"
نظرت بسرعة باتجاه الممر الفارغ بعد ان اختفى منه يتبعه كلامه الاخير ، لتحني بعدها جذعها قليلا وهي تنصب مرفقها فوق ركبتها لتسند ذقنها على قبضتها وهمسة غادرت شفتيها مكررة كلمة من جملته
"الحب !"
نظرت بعدها للشطيرة الكبيرة تزينها اسنانها الصغيرة على زاويتها وهي تلوح بها امام وجهها بدون اي رغبة بإكمالها بعد ان اكتفت من تأثيرها على معدتها المتقلبة والتي تحملت الكثير اليوم ، لترجع بعدها رأسها لظهر المقعد وهي تشرد بعيدا بأفكارها هامسة بابتسامة هاوية تألقت على زاوية شفتيها بضعف
"اللعنة على هذا الحب وعلى تأثيره والذي بدأ يرهق كيانها !"
_____________________________
افاقت من النوم وهي تفتح جفنيها المرهقين بصعوبة على ضوء اشعة الشمس المتسلل من ستائر النافذة ، لترفع بعدها قبضتها المضمومة وهي تفرك بها عينيها بنعاس واضح ما يزال يسلط برمال سحره عليها ، وهي التي لم يغمض لها جفن طول الليل إلا بعد بلوج الفجر بساعات الشروق الأولى لتغفو فقط لساعات قليلة انهكت قواها .
حانت منها التفاتة جانبا بإنهاك قبل ان تتسع حدقتيها الغائمتين على اقصى اتساعهما لوهلة على مرأى السرير الفارغ المجاور لها ، لتنتفض بعدها لا شعوريا جالسة على السرير وهي توزع نظراتها بأنحاء الغرفة الفارغة باهتزاز طفيف غيم على نظراتها برهبة الخوف ، لتنهض عن السرير باللحظة التالية وهي تدور حول نفسها بتشتت لم تشعر به منذ سنوات وكأنها عادت لرهاب الطفولة الذي كان ينتابها بين الحين والآخر .
انتصبت بمكانها وهي تنظر بتوجس لباب الحمام المرفق الذي فُتح فجأة لتخرج منه من كانت تبحث عنها من لحظة برفقة الممرضة الخاصة بها وهي تمسك بمرفقها تساعدها على السير بخطوات متأنية ، بينما كانت (روميساء) تحاول سحب مرفقها بضعف وهي تتذمر هامسة بعبوس حانق
"اخبرتكِ بأنه ليس هناك داعي من وجودكِ معي بالحمام ومرافقتي إليه ! فأنا استطيع تدبر اموري وحدي ، فقد اصبحت بحال افضل واستطيع القيام بمهامي الشخصية لوحدي"
اجابتها الممرضة بأدب وهي تصر على مساعدتها بالسير معها بحرص
"لا بأس يا آنسة روميساء ، فأنا موجودة هنا لتقديم العون لكِ ومساعدتك بكل واجباتك الشخصية على اكمل وجه ، فهذه هي وظيفتي هنا"
لانت ملامحها براحة تسربت بجزيئات وجهها لتحرر ابتسامة هاوية بشحوب ملامحها الرخامية ، قبل ان تهمس من فورها بلهفة لم تستطع السيطرة عليها
"روميساء"
التفتت (روميساء) نحوها وهي تغضن زوايا عينيها الخضراوين بحنان تخصه لها وحدها قبل ان تهمس بابتسام شاحب بلطف
"ماسة متى استيقظتِ ؟ ما يزال الوقت مبكرا على الاستيقاظ !"
عبست ملامحها بارتجاف وهي تشدد من القبض على يديها بانقباض احتل احشاءها وهي تسمع ذلك السؤال البديهي من شقيقتها بعد كل ما حدث معهما وبمجريات الأمس وكأنها عادت لطبيعتها الصارمة الامومية والتي تتلبسها على الدوام ، وكأنها لم تذرف اي دمعة بالأمس على فقدانها جنينها والذي لم يعش بداخلها سوى لنصف شهر فقط رحل مع الكثير من السعادة التي جلبها معه بغمضة عين !
افاقت من بحر افكارها على صوت المقابلة لها وهي تقول بعبوس غزى محياها بلحظة
"ماسة هلا طلبتي من الممرضة ان تتركني وشأني ؟ فأنا قادرة على تدبر اموري وحدي ، فهذه ليست اول مرة اتعرض بها لنكسة بحياتي والتي لا تقارن بما كنا نعيشه سابقا !"
عقدت حاجبيها ببعض الألم وهي تبدله بسرعة للجمود الصخري الذي اعتلى محياها لوهلة ، لتتقدم عدة خطوات امام شقيقتها قبل ان تمسك بذراعها وهي توجه كلامها للممرضة هامسة بعملية جادة
"يمكنكِ الذهاب الآن ، فأنا من سيهتم بأمرها من الآن وصاعداً"
ردت الممرضة من فورها بجدية هادئة
"ولكن هذا عملي انا ، ولا استطيع ترك المريضة بعهدتك فقد وصانا السيد فكهاني....."
قاطعتها فجأة بصوت خافت مشتد
"انا قلت اخرجي من هنا !"
تلبكت ملامحها بارتجاف وهي تخفض رأسها بطاعة هامسة بأدب
"حاضر ، سأذهب لأحضر فطور الآنسة روميساء ، عن اذنكما الآن"
غادرت بعيدا عنهما لخارج الغرفة بثواني ، لتقول بعدها التي كانت تنظر لها بامتعاض متذمر
"اخبرتكم بأني بخير واستطيع الاهتمام بنفسي ! لما تصرون على ملازمتي وكأني عاجزة ولا اقدر على فعل شيء ؟....."
كانت قد وصلت بها للسرير وهي تجلسها عليه قائلة بحزم غير مبالي بكلامها الاخير
"هذا من اجل مصلحتك يا روميساء ، فأنتِ قد اصبحت مهملة جدا بخصوص صحتك وغير مبالية بما يحدث معكِ"
جلست بتعب على طرف السرير وهي تسند نفسها بيديها على جانبي جسدها هامسة بابتسامة صغيرة بحزن
"وكيف ستقدرين على الاهتمام بي وانتِ بالكاد تستطيعين الاهتمام بنفسكِ ؟"
نظرت لها بعينين ضيقتين وهي تكتف ذراعيها بنفس صرامة شقيقتها قائلة بحزم
"لا تقلقي فأنا املك قوة سيطرة استطيع بها الاعتناء بنفسي وبكِ ، فأنتِ لست الوحيدة التي تملكين هذه القوة بالعالم !"
اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي تريح يدها فوق بطنها براحة هامسة بمحبة
"رائع ! يبدو بأنكِ قد ورثت بعض من جينات شقيقتك بعد كل شيء"
مالت ابتسامتها ببعض الشرود هامسة بهدوء
"اكيد ألسنا شقيقتين من نفس الوالدين !"
اومأت برأسها بهدوء وهي تمسح على بطنها هامسة بصوت انخفض ببهوت
"اجل"
زفرت انفاسها بصمت وهي تجلس بجوار شقيقتها على نفس السرير قبل ان تنظر بعيدا كما تفعل هامسة بخفوت
"كيف تشعرين اليوم يا روميساء ؟"
حركت رأسها بإيماءة طفيفة وهي تهمس باتزان
"بخير ، كل شيء بخير"
حادت بنظراتها جانبا وهي تعلق على كفها المستريحة على بطنها قبل ان يسبقها السؤال وهو يقفز لشفتيها بوجوم
"هل انتِ متأكدة ؟ فقد كنتِ بالأمس بحالة خطيرة جدا اقرب للموت....."
بترت كلماتها وهي تعيد ناظريها للأمام برجفة خاطفة سكنت محياها ، لتقول بعدها التي كانت تمسح على بطنها برفق هامسة برقة هادئة بدون اي حياة
"لا بأس يا ماسة فكل شيء مقدر بحياتنا عليه ان يحدث ، وهذا هو قدرنا بالحياة منذ ان ولدنا"
انتفضت بجسدها للأمام وهي تقبض على يديها فوق ركبتيها هامسة بتحفز مستاء
"تقولين مقدر ! لقد حدث كل هذا بسبب إهمالك بالانتباه على نفسكِ ، لم اعهدك بكل هذا الاستهتار يا روميساء ! لم اتوقع منكِ ان تصلي لهذا الحد بالإهمال بحياتك ! لماذا فعلت هذا بنفسكِ ؟ لماذا ؟"
مرت لحظتين غيم بهما الصمت المشحون بينهما قبل ان يصلها همسها بنبرة خافتة اقرب للجمود
"تتكلمين وكأنني تقصدت فعل كل هذا بنفسي وبطفلي ! لقد تحملت آلام كثيرة واخطاء بحياتي الماضية ، ولكنها لا تقارن بخسارة اغلى ما استطعت امتلاكه بحياتي وبجزء حي مزروع بداخلي ! لقد فاق هذا كل ألم كنت اشعر به لأنني ببساطة من قتله !"
رفعت رأسها ببطء وهي توجه لها نظرات خاوية اكتسحت حياتهما لوهلة ، لتهمس بعدها بحزن لحظي غيم على نظراتها
"انا آسفة ، لم اقصد ان اوجه لكِ اللوم"
حركت رأسها نحوها وهي تعيد الابتسامة الحانية على محياها هامسة بهدوء
"لا عليكِ يا ماسة ، فالمهم بكل هذا بأننا ما نزال احياء معافيين بعد كل حادثة او فاجعة نقع بها وهي ليست الأولى"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بعيدا عنها وهي تهمس بخفوت بارد
"وهذا هو الجزء المؤلم بحياتنا ، الخسارة والحزن عليه بدون ان نشاركه الوداع او نرحل معه"
شحبت ملامحها بحزن لوهلة قبل ان تلوح بيدها بارتباك وهي تهمس مغيرة الاجواء البائسة بينهما
"حسنا ، لم تخبريني اين هو احمد فأنا لم اره منذ ان استيقظت ؟ هل ينتظر بالخارج ؟"
تجمدت ملامحها بلحظة وهي تكتف ذراعيها هامسة ببساطة
"لقد غادر المكان مساء الأمس لأنه لديه مسؤوليات اخرى بالمنزل والعمل عليه اتمامها ، لذا بقيت انا وشادي بالمشفى معكِ طول الليل حال إذا احتجتِ لوجود احد منا بجوارك او تدهورت صحتك"
اهتزت زاوية من شفتيها بوجوم سرعان ما بدلته بابتسامة متسعة وهي تهمس بجدية مزيفة
"اجل انتِ على حق لن يستطيع البقاء بالمشفى وترك عائلته واعماله المتراكمة بما انه المسؤول عن كل شيء بالعائلة ، كيف فكرت بأنه من الممكن ان يكون ما يزال موجود بالمشفى لهذه اللحظة ؟ حتى انتِ يا ماسة لم يكن من الجدير بكِ البقاء هنا مع زوجك طول الليل من اجل الاطمئنان عليّ ! فأنا كما قلت لكم استطيع تدبر اموري لوحدي"
نظرت لها بطرف عينيها بمغزى قبل ان تهمس بجفاء مغتاظ
"يبدو بأن رحيله مبكرا وعدم بقاءه بجانبك قد اثر عليكِ بشدة ، لذا تتكلمين بكل هذا التوتر المنفعل !"
ارتجفت اطرافها ويدها تقبض على اعلى بطنها لا إراديا لتلوح بعدها بيدها الحرة وهي تهمس بتوتر مشحون
"لا ليس هناك شيء من هذا الكلام ! فأنا اتفهم جيدا ظروف الناس ولا احمل شيء ضد احد"
عقدت حاجبيها بعدم اقتناع وهي تشيح بوجهها بعيدا عنها لتتأفف بعدها بنفاذ صبر وهي تهمس باستياء
"لا داعي لكل هذا التوتر والتمثيل امامي بأنكِ لم تتأثري ، والحقيقة بأنه لم يرحل بإرادته فقد ارغمناه انا وشادي على الرحيل بعد ان وجدنا بأنه ليس من الصحة بقاءنا جميعا بالمشفى ، لذا وافق على المغادرة بالنهاية بعد محاولات طويلة بين اخذ وشد"
اتسعت حدقتيها بانشداه لوهلة وهي ترفع قبضتها لصدرها الخافق بلهيب السعادة لم تستطع السيطرة عليها وهي تغمر كيانها بأكمله ، لتعقد بعدها حاجبيها بريبة وهي تعود بنظرها لها هامسة بمرح
"لماذا اشعر بأنكِ تحملين الكثير ضد احمد ؟ ما لذي فعله لتكوني بكل هذا الانفعال بالتكلم عنه ؟"
اسندت ذقنها فوق راحة يدها وهي تهمس باقتضاب بارد لم يخفى نفير انفاسها الشرسة منه
"ليس وحده من احمل ضده اللوم بل جميع من تسبب او كان عامل بأذيتك فأنا لن احمل له عندها سوى الكره والعداء ، وهو لن يكون استثناء عنهم وخاصة بأنه اقرب الاشخاص لكِ والمتوقع منه ان يكون السند والقوة لعائلتك الجديدة التي بدأت تثمر ، ولكن كما كنت اقول لكِ دائما لا تعطي ثقتك لكل من يعجبك وترينه بطل امامكِ فأنتِ لا تعلمين متى ستنقلب صورته هذه للنقيض ويتخلى عنكِ عند الحاجة !"
امتقعت ملامحها وهي تهمس بعبوس معاتب
"انتِ تبالغين بتصوير شخصية احمد ! فهو ليس هذا النوع من الرجال ، وايضا كل الذي حدث بالأمس كان بغيابه ومقدر ان يحدث وهو ليس له اي علاقة به ، لأنه من المستحيل ان يسمح لشيء ان يحدث لطفلنا فهو ابنه كما هو ابني !"
التفتت نحوها بلحظة وهي تهمس بعينين ثاقبتين بجمود تلون بصوتها الباهت
"هل تقصدين بكلامكِ بأنه يهتم لأمرك من اجل الطفل بداخلك لا غير ؟ ولو تخير بينكما فهو سوف يختار إنقاذ الطفل عليكِ !"
تجمدت النظرات بينهما بصقيع الاجواء التي غيمت عليهما سويا ، لتعبس بعدها صاحبة الملامح الشاحبة بهدوء وهي تشيح بوجهها باللحظة التالية هامسة بعصبية حانقة
"سحقا لنظرتكِ المتشائمة يا ماسة ! فقط لو افهم بماذا اخطئت معكِ لتتكلمي هكذا ؟ سحقا لكِ"
نقلت نظراتها للأمام وهي تهمس بابتسامة شاردة بغموض
"اعتذر لكوني ذات نظرة متشائمة"
مرت لحظات قليلة قبل ان يصدح صوت طرق خافت على الباب ليتبعها دخول الممرضة التي كانت تحمل صينية الفطور بين يديها ، لتنهض (ماسة) من مكانها وهي تتقدم بجمود امام الممرضة لتتناول الصينية منها بدون ان تنسى ان تشيعها بنظرات جامدة تستطيع تحجير قلب صاحبها ، بينما تراجعت الممرضة بأدب وهي تغادر امام نظراتهما المتناقضة عن بعضهما .
قطعت (روميساء) الصمت وهي تهمس بحزم غاضب
"ما كان عليكِ التصرف معها هكذا ! فهي لم تخطأ بشيء سوى وقوعها تحت كرهك العدائي"
استدارت امامها بهدوء وهي ترفع حاجب واحد هامسة بحدة
"ذنبها بأنها تعمل لصالح عائلة الفكهاني"
تنفست بيأس وهي ترتفع على السرير قبل ان تستقر جالسة عليه بتعب وكفها مستريحة فوق بطنها ، بينما وقفت (ماسة) بجوارها وهي تضع الصينية الخشبية ذات الاذرع السفلية على جانبي جسدها بحرص ، لتقول بعدها وهي تستقيم بهدوء عملي
"تناولي فطوركِ يا روميساء ، وانا سأذهب لأرى كيف الحال بالخارج ، ولأجهز اوراق خروجكِ من هذا المكان ، لذا اعتمدي عليّ بكل شيء"
قالت بسرعة ببسمة طفيفة مملوءة بالمشاعر ما ان همت بالمغادرة
"ماسة هل سيأتي احمد إلى هنا ؟ اقصد ألن يأتي لرؤيتي مجددا !"
تصلب جسدها بجمود للحظات وهي توليها ظهرها لتلوح بعدها بذراعها ببرود هامسة بجفاء
"قال بأنه سيأتي بالصباح قبل شروق الشمس ، ولا اعلم إذا كان صادقاً ام كاذباً"
حركت رأسها بشرود وهي تمسد على صدرها بألم بحالة رهبة وخوف من اقتراب اللحظة وبعد كل ما حدث بينهما وتفوهت به بالأمس ، بينما تحركت الاخرى بخطوات ثابتة ازدادت سرعتها على الارض الرخامية وقلبها ما يزال يقرع بطبيعة غريزتها ولسان حالها يقول
(ارجوك لا تقتلها مجددا)
______________________________
كانت تسير بالممر الفارغ وهي تبحث بعينيها عن شريكها الذي رافقها ليلة امس بطولها حتى بلوج الفجر بدون ان يتركها وشأنها لثانية حتى ضاقت ذرعا منه ومن عناده الشرس بمنافستها بتحدي سافر ، وهي متيقنة بأنه سيكون الآن يغوص بأحلامه السعيدة بسبب السهر الطويل بالأمس والتي لن يفيق منها قبل ساعات إذا لم يكن لليوم الثاني ! ومع ذلك هناك هاجس يدفعها للذهاب والاطمئنان عليه وبالأحرى تريد رؤيته مجددا بتوق غريب اصبح يلف حياتها مؤخرا بقيد جميل .
توقفت خطواتها وهي تضيق عينيها ما ان لمحت الذي كان يسير بالرواق المقابل لها ، لتقبض على يديها لا شعوريا وهي تهمس ببؤس
"احمد ما لذي يفعله هنا ؟ ولما لم يأتي لغرفة روميساء ؟"
عقدت حاجبيها بارتياب اكبر ما ان اختفى عن نظرها خلف جدار الممر المؤدي للجهة الاخرى من المشفى ، لتسرع بخطواتها تلقائياً وهي تتجه لنفس المسار الذي سلكه من لحظة بدون ان تشعره بوجودها .
وبلحظات كانت تقف بهدوء وهي تشاهد الذي دخل لغرفة مكتب الطبيب والذي عرفت عنه من الاسم المكتوب على اللافتة المعلقة على سطح بابها ، لم تستطع منع الفضول من نهش احشاءها بتوجس وخوف من ذهابه شخصيا لمقابلة الطبيب بسرية ألا إذا كانت حالة طارئة تخص وضع (روميساء) تستدعي وجوده ! لتعزم امرها بالنهاية وهي تستند بالجدار المجاور لباب الغرفة لتستطيع استراق السمع عليهما بما انهم مصرين على عدم اطلاعهم بالكلام الذي يودون قوله بسرية تامة !
عقدت حاجبيها بتركيز ما ان وصلها صوت الطبيب وهو يقول بجدية عملية
"اعتذر على ازعاجك بطلب مقابلتك بهذا الوقت والتكلم على انفراد ، فأنا لا اريد ان يصل هذا الكلام للملأ ، ولو لم يكن بكل هذه الأهمية لما اخفيته عنكم لهذه اللحظة خوفا من ان تسيئوا الفهم او نخطأ بتوقعاتنا !"
كانت تغضن جبينها بوجوم اكتسح محياها بلحظة وهي تحاول تفسير كلامه المبهم والغير واضح وكأنه يخفي سرا خطيرا سيؤثر بحياة الجميع ! ليقول من بالطرف الآخر بالمحادثة بلباقة مهذبة
"لا بأس يا دكتور حمود ، انت فقط اخبرني بما يعتمل بداخلك ويثير شكوك هكذا ، فأنا لن ارتاح قبل ان اعرف كل شيء يخص حالة زوجتي وكل ما قد يؤثر بها للأسوء"
اتسعت حدقتيها بتأهب متحفز وكأنها قد وصلت للنقطة الأهم بحوارهم ، ليخرج بعدها صوت الطبيب بنبرة اكثر عملية بدون ان يخفي الاسى والذي تخلل بصوته
"الحقيقة يا سيد فكهاني لا اعلم كيف اخبرك بها او كيف ابدأ بها ! ولكن ما اكتشفناه مؤخرا بعد تحاليل وفحوصات كثيرة بأن المسبب بفقدان الجنين هي اعشاب خاصة تخللت بالسوائل التي شربتها بآخر مرة ليؤدي لموت الجنين بداخلها بدقائق فقط ، وقد تأكدنا من هذا عدة مرات وليس مرة واحدة لدحض الشكوك من اذهاننا ولكي نعطيكم الجواب الاكيد ، وهذا ما اردت اخبارك به يا سيد فكهاني لتكون اكثر حرصا على حياة زوجتك بالفترة القادمة"
كان (احمد) يستمع له بذهول سمره عن الحركة للحظات وهو يحاول استيعاب ما نطق به الآن والذي دخل لعقله مثل الصاعقة التي ضربت كل منطق وكل شعور بعقله المشتت الضائع ، بينما الاخرى التي ضربتها نفس الصاعقة بقوة اكبر وبطريقة مختلفة اثارت عنفوان روحها المحبوسة بقضبان عالية لتتغلغل بأجزاء جسدها وتخرجه عن هدوءه .
قطع الصمت الذي تنفس بذهول وهو يقول بصدمة عدم الاستيعاب وكأنه يتكلم عن شخص آخر
"مستحيل يا دكتور حمود ! فأنا الذي اعرفه واخبروني به بأنها قد سقطت على اولى درجات السلم ! كيف يكون لهذا علاقة بالأعشاب التي تتكلم عنه ؟"
ردّ عليه من فوره بجدية هادئة متناقضة عن حالة الجالس امامه وهو يزيد طعنه بسكين الحقائق المتتالية
"يبدو بأنكم مخطئون فليس هناك اي علامة تدل بأنها قد اجهضت الجنين من سقوطها على درجات السلم ، ولو كان كلامك صحيحا لظهر علامات خدوش او آثار رضوض على جسدها ! ولكن الذي رأيناه بأن الاذى لم يصل لجسدها السليم بل الأذى والألم كان يقبع بداخل احشاءها عند موضع الجنين ، وما انا متأكد منه بأنها قد تألمت بشدة وعانت وتحملت الكثير قبل ان تغيب عن الوعي فمفعول هذه الاعشاب اقوى مما تتصور ، لذا نجاتها وحدها من هذه الفاجعة تعد معجزة تحمد عليها ، وخاصة بأنها قد شربت كمية كبيرة من هذه الاعشاب والتي تكفي كمية صغيرة منها لتقتل انسان بكامل صحته وليس الجنين فقط"
كانت انفاسه تتسارع بتهدج انتفخ معه صدره بالكثير من المشاعر والألم الساكن بينهما والذي فاق تحمله ، وفكرة تحملها كل هذا الألم والمعاناة قبل غيابها الكامل عن الوعي قبضت على فؤاده بقبضة من حديد انهت عليه ! ليحاول بعدها ان يخرج كلامه بصعوبة وهو يقول بتحشرج واهي بخفوت حذر
"وما هي المعلومات التي تعرفها عن هذه الاعشاب التي شربت منها روميساء ؟"
حرك رأسه بتفكير لوهلة وهو يقول بجمود هادئ
"لا املك الكثير من المعلومات عنها ، ولكن كل ما اعرفه بأنها مكون قاتل وخطير ولا يستخدم سوى لأغراض طبية غير ذلك يمنع استخدامها بالحياة اليومية منعا باتا ، بسبب اعراضها وما تسببه لمتناولها من تعب وارهاق جسدي وامور كثيرة لا تحصى تؤثر برحم الانثى وبالجنين القابع بداخلها"
اومأ برأسه بدون اي معالم تعلو ملامحه فقدت معها الحياة بجمود محياه ، لينهض بعدها عن المقعد بحذر وهو يستمع لباقي كلام الطبيب وهو يقول بنفس النبرة الجادة
"عليك ان تنتبه اكثر على زوجتك يا احمد ، وتلتزم معها بالأدوية الحيوية وفيتامينات لجسدها بسبب ما تعرض له من نقص عليه ان يعوضه بأكلات صحية والانتظام بالأدوية ، وانا قد قلت هذا لمصلحتك لكي تحتاط من كل شيء يدور من حولك ، فلا احد يعلم قد يؤثر هذا على إنجابها بالمرات القادمة بالمستقبل وهذا ما لا ارجو حدوثه !"
غادر من غرفة المكتب بصمت بدون ان يعبر على كلامه الاخير بشيء ضاع منه كل الكلام والشعور ببضعة كلمات شلت عضلات عقله المشدودة ، ليتسمر بمكانه بصدمة للمرة الثانية وهو يحدق بالواقفة امامه والتي اعترضت طريقه بلمح البصر لا تقل عنه صدمة وكأنها دوامة مشاعر ابتلعت كليهما سويا بلحظات بدون سبيل للتحرر .
حرك عضلة حلقه بمرارة وهو يبتلع ريقه بارتباك ليهمس بعدها بتشنج خاوي حاول جعله بنبرة صوته الطبيعية
"ماذا تفعلين هنا يا ماسة ؟ ألم تكوني برفقة روميساء ! كيف تتركينها وحدها بهذه الأوضاع ؟"
زفرت انفاسها عدة مرات ببرودة وكأنها تستعد لتفريغ العاصفة بداخلها والتي قضت على كل شيء حي بروحها ، لتحرك شفتيها المتيبستين بجمود وهي تهمس بعداوة
"من الذي فعلها ؟"
ارتفع حاجبيه ببطء شديد لبرهة قبل ان يهمس بابتسامة متشققة ببرود
"من الذي فعل من ؟"
اندفعت فجأة صارخة وهي تلوح بقبضتها عاليا بسخط غاضب
"من الذي يفكر بقتل شقيقتي وطفلها ؟"
تغضن جبينه بلمحة ألم خاطفة وهو يرفع يده امام وجهها بإشارة صارمة هامسا بصوت خفيض
"اخفضي صوتكِ يا ماسة ، لكي لا يسمع احد ما تتفوهين به !"
اخفضت ذراعيها بقوة عصبية وهي تهمس من بين اسنانها بحنق
"وما لغريب بالذي اتفوه به ؟ أليست هذه هي الحقيقة ! أليس هذا ما كنت تتكلم به مع الطبيب بسرية تامة بعيدا عن الجميع لكي لا يشهد احد على شناعة ما حدث وعن هوية مرتكبها !"
امسك انفه بأصابعه بألم منفر وهو يحاول استجداء صبره امام كل المواجع التي تتلاحق فوق رأسه ، ليقول بعد عدة لحظات بهدوء على وشك النفاذ منه
"نحن لسنا متأكدين بعد من هذا الكلام يا ماسة ، هو مجرد افتراض وليس من الاكيد ان يكون صحيح !"
ردت بسرعة باشتعال متقد على وشك حرقه
"هل تقصد بأن موت الطفل ايضا لم يكن بسبب تلك الاعشاب ؟ إذاً ماذا سيكون غيره إذا كان وقوع السلم ليس له اثر !"
نفض يديه للأسفل وهو يهمس من بين اسنانه بجمود صخري تلبسه بلحظة
"كفى يا ماسة ، نحن لن نتكلم عن هذا الموضوع بالوقت الحالي ، وسيبقى سر بيننا لن يخرج على مسامع احد ، حسنا !"
تجهمت ملامحها بثانية وهي تلوح بذراعها هامسة باستنكار حاد
"لا ليس بهذا البساطة ! انا لست مضطرة لأخفي على جريمة احد وخاصة عندما يكون المرتكب قد اذى شقيقتي وكاد يودي بحياتها ، هل تريد مني ان اصمت عن حقها بهذه السهولة التي تتخيلها ؟ إذا كنت ستدافع عنه وتحميه من براثني فأنا لن اكون مثلك ولن اسمح بحدوث هذا !....."
قاطعها بصوت مشتد منفعل على وشك الانهيار امامها والتوسل لها لتصمت
"ارجوكِ ليس الآن ، لا تفعليها وهي ما تزال بتلك الحالة ، لن تتحمل مثل هذا الخبر الموجع وستلوم عندها نفسها اكثر وتدخليها بدوامة لوم اخرى ، إذا كنتِ تفكرين بمصلحة شقيقتك وصحتها لن تفعليها الآن"
عبست ملامحها ببهوت جمدت كل شيء من حولهما بصمت المكان ، لتستدير بعدها للجهة الاخرى وهي تسير عدة خطوات امامه بثبات تحسد عليه قبل ان تتوقف لوهلة بجمود وهي ترفع وجهها قليلا بسكون مريب ، لتهمس بعدها بلحظات بخفوت بارد فقدت كل آثار الثورة التي كانت تحتلها
"لن اخبر روميساء بأي شيء سمعته للتو ، وهذا سيكون حتى اتأكد من هوية المرتكب الحقيقي والذي لن يشفع عندي اي شيء يخصه ولو كان كبير العائلة نفسه ! وعندها لن اتوانى عن اخبار روميساء بكل شيء حدث معها ، ولن يمنعني عن فعلها احد ، فلا احد يملك السلطة عليّ ولا بالتحكم بقراراتي ! لا احد !"
غادرت بعدها امام ناظريه وهي تتركه بتشتت اكبر عن السابق حتى كاد يشعر بصوت ضربات قلبه على وشك الانفجار من كل هذا الكبت الذي يعانيه ، ليتخلل بعدها خصلات شعره بأصابعه بعنف مضغوط وهو يرفع عينيه عاليا لوهلة قبل ان يهمس للسراب امامه بمناجاته الوحيدة والسبيل للتفريغ عن كل ما يعتريه
"يا إلهي الرحمة ! لم اعد احتمل اكثر من هذا ، هذا يفوق مقدرتي الطبيعية على الاحتمال ! يا إلهي ارحمني !"
_______________________________
تنهدت بإنهاك وهي تسند خدها بقبضتها بشرود صامت غيم على محياها وتفاصيل حياتها المنعزلة عن الجميع لوهلة ، لتخفض بعدها جفنيها فوق احداقها المائلة لألوان الغروب المتقلب والذي احتار بأمره العالم بأسره بسبب تموج ألوانه كل حين حسب مزاج ومشاعر صاحبته ، وهذه الحالة اصبحت تحوم من حولها بكثرة التساؤلات والمشاعر المسورة بعالمها المليء بالندوب والتشوهات وكأنها حلقة مفرغة علقت بها منذ زمن وقيدت بمقاليد مشاعرها الضارية ، وهي ما تزال للآن تتألم من تلك المشاعر بدون سبيل للتحرر منها اندلعت بصميم روحها منذ بداية خروجها من عزلتها اخيرا قبل ان تعود لها مجددا بحصون عالية وقيود اكثر قوة .
فتحت عينيها على اتساعهما فجأة ليظهر لونهما العسلي الذائب بالألم الساكن بهما والذي لم تستطع انتشال نفسها منه للآن ، قبل ان تنقلب الألوان بعينيها لضباب باهت ما ان وقعتا على الشيء البراق الذي يعلو طاولة الزينة وهو يلمع بقوة الشمس الساطعة التي اغشت نظرها عن رؤية غيرها ، لتتسمر عضلات وجهها برعشة طفيفة خدرت اطرافها لوهلة وهي تعبس بارتجاف غير واعي ما ان مرت سحابة الذكريات القاتمة والتي تسحبها دائما لنفس الهوة ذاتها ، نقلت نظراتها بعيدا بهدوء جامد وهي تتلبس نفس الملامح الباهتة التي فقدت كل معالم الحياة الجميلة بوحدة موحشة تحيطها على الدوام .
حركت وجهها بقوة وهي تنفخ انفاس قصيرة لتخرج من دوامة الحزن على الذات التي اقسمت يوما بعدم العودة لها وعدم السماح لها باحتلال عالمها ، شددت على قبضتها المتكورة على خدها وهي تستذكر السبب بعودتها لتلك الدوامة مجددا والتي جلبها موضوع مفاتحة الزواج قبل يومين والتي لم تقلب كيانها فقط بل غيرت موجة مشاعرها وتفكيرها بعصف ذهني ارهقها بشدة واستنزف طاقتها الاخيرة ، بدون ان تحدد الاجابة التي عليها تقديمها لأستاذها صاحب عرض الزواج والتي تختلف تماما عن اجابة سؤال باختبار شفهي سيكون اسهل بكثير مما تعاني منه على مدار يومين كاملين ! وهي لا تعلم حقا من اين جاءت هذه المصيبة والتي لم تحسب لها اي حساب بعالمها البارد الخالي من المشاعر ؟
تأففت بنفاذ صبر وهي تنهض عن المقعد امام النافذة بقوة بعد ان تعبت من المحاربة مع وحدتها القاتلة والتي تجلب لها كل انواع المرارة بحياتها وهي تتلخص كلها امام عينيها ، لتقرر بالنهاية الخروج من جحرها وهي تتجه مباشرة لباب الغرفة التي بدأت تخنقها بجدرانها الباردة وبصمتها المقيت .
وصلت بلحظات للطريق المؤدي للمطبخ بنهاية الرواق لتدلف له من فورها بدون ان تعير احد من الموجودين اهتماما ، وما ان وقفت امام الخزائن حتى اخرجت منها علبة القهوة الفورية قبل ان تمسك بالملعقة بثواني وهي تغرف منه لتضع كمية كبيرة بالأبريق الكهربائي لتغمره بعدها بالماء حتى المنتصف ، وقفت امام الخزائن التي تحفظ موائد المطبخ الكريستالية وهي تحاول الوصول للأكواب بالرف الأعلى ، تدخلت الخادمة الصغيرة التي وقفت بجوارها وهي تهمس بمودة
"هل تحتاجين للمساعدة ؟ استطيع ان احضر لكِ الكوب إذا اردتِ !"
استمرت بالتشبث بطرف رخام المطبخ وهي ترتفع على اطراف اصابع قدميها هامسة بخفوت
"لا شكرا ، استطيع تدبر اموري"
ابتسمت بانتصار ما ان امسكت بطرف الكوب اخيرا قبل ان ينزلق من بين اصابعها بلمح البصر وهو يقع امام ناظريها ليصل للأرض بثواني ويتهشم لمئة قطعة وشظية ، انتفضت معتدلة باستقامة ما ان صدح بلحظات صوت عند باب المطبخ بهجوم ضاري مستعد للانقضاض
"ما كان هذا الصوت من لحظة ؟ من الذي عبث وكسر من محتويات الموائد الغالية ؟ لأني عندما اعرف الفاعل لن ارحمه على هذه الفعلة !"
قالت بسرعة التي ابتسمت بإحراج وهي ترفع يدها بفكاهية
"انا الفاعلة يا امي ، لقد اوقعت الكوب بمحض الخطأ ، لذا لا داعي لتعاقبي احد على فعلتي"
عبست ملامحها باستهجان وهي تمسك خصرها بقوة هامسة بيأس
"انتِ يا غزل مجددا ، أتعلمين كم مرة اوقعتِ بها وكسرت من الموائد بسبب استهتارك الغير مبالي ؟ لقد زادت اخطائكِ كثيرا بالآونة الاخيرة بشكل لا يحتمل ولا يطاق ابدا !"
تعمقت ابتسامتها حتى اصبحت مجرد التواء على زاوية شفتيها وهي تهمس بسخرية
"هل هذا يعني بأني معاقبة خصم شهر من راتبي ام ستطردينني من المنزل بسبب استهتاري وعدم مسؤوليتي بالحفاظ على موائدك المقدسة ؟"
اتسعت عينيها بشرارات غاضبة وهي تضرب على خصرها هامسة بعصبية مهددة
"هذا ليس وقت مزاحكِ السخيف يا غزل ! فأنا اتكلم هنا بموضوع جدي ومصيري ، اخبريني كيف ستفتحين منزل وتربين عائلة وانتِ تتصرفين على هذا النحو من الاستهتار واللامبالاة ؟ انتِ حتى لا تستطيعين الاعتماد على نفسكِ بمنزل عائلتك إذاً كيف ستهتمين بمنزل كامل لوحدك !"
غامت حدقتيها لا شعوريا بألوان سحابة الحزن قبل ان تهمس من فورها بابتسامة صغيرة بمرح تمثيلي
"لا تقلقي يا امي ، فأنا قد فكرت كثيرا بالأمر ! وافضل حل وجدته هو البقاء بجوارك بمنزل عائلتي لكي لا تشعري بالوحدة بدوني ، وبالمقابل لكي لا اكسر موائد احد عند عائلة اخرى لن تحتمل وجودي بينهم مثل عائلتي"
عقدت حاجبيها بغضب اكبر على وشك الفتك بها وهي تضرب يديها معا هامسة باستياء حانق
"لا فائدة من الكلام معكِ ، فأنتِ ستبقين فتاة بائسة فارغة العقل والقلب"
غادرت بعدها من امام المطبخ بعد كلامها الاخير والذي اثار حالة من الجمود بقلب ابنتها ، ولا تعلم إذا كانت تقصد كلامها بالمعنى الحرفي ام خرج منها من فورة غضبها التي اوقدتها بداخلها ؟
تنهدت بهدوء وهي تنحني بلحظة على ركبتيها لتجمع قطع الزجاج من على الأرض بصمت ، قبل ان ترتفع عينيها ناحية التي انحنت امامها كذلك وهي تجمع قطع الزجاج معها هامسة بلطف
"لا بأس يا آنسة غزل ، استطيع ان انظفه بنفسي"
حركت يدها بالرفض وهي تهمس بابتسامة محرجة
"لا داعي لذلك يا عزيزتي ، انا التي اوقعت الكوب وعليّ تحمل نتائج فعلتي"
اومأت الخادمة برأسها وهي تهمس بإصرار
"ومع ذلك انا مصرة على مساعدتك ولن اترككِ بهذه المشكلة وحدك ، فقد سبق وساعدتني كثيرا من قبل بكوارث اكبر وهذا جزء من ردّ الجميل لكِ !"
ابتسمت بمودة وهي ترتفع واقفة بهدوء قبل ان تقف الخادمة معها وهي تفتح كيس بلاستيكي كان بحوزتها لتلقي به كليهما قطع الزجاج المهشم بداخله بحرص شديد ، اخذت الكيس بعدها لتلقي به بسلة المهملات بزاوية المطبخ ، بينما الاخرى عادت للعمل على القهوة الخاصة بها بدون اي روح تسكن محياها وكل ما تتأمله ان تنتهي من هذه المهمة بسرعة .
انتفضت من سحابة شرودها على صوت نفس الخادمة التي كانت تلقي بزجاج الكوب بسلة المهملات
"هل انتِ بخير يا آنسة غزل ؟ فقد اصبحتِ تتصرفين بغرابة بالآونة الاخيرة وكأنكِ تفكرين بمعضلة واستعصى عليكِ حلها !"
التفتت نحوها بارتباك وهي تلوح بيدها هامسة بمرح مزيف
"ماذا تقصدين اتصرف بغرابة ؟ هل انا حقا شخص غريب الاطوار لهذه الدرجة حتى احصل على انتقادات منكِ ومن امي ؟"
وقفت الخادمة بسرعة باضطراب وهي تهمس بتصحيح مبتسم
"لا يا آنستي اكيد ليس هذا ما قصدته ! فأنتِ لستِ من هذا النوع ابدا ، ولكن تصرفاتكِ توحي دائما بالحزن القابع بها وكأنكِ بعالم غير عالمنا ! هل هناك ما يضايقك ولا تستطيعين التوقف عن التفكير به ؟"
انحنت عينيها قليلا بهالة شرود لحظي قبل ان تهمس بابتسامة باهتة بوجوم
"انتِ فضولية جدا يا حلا ، لم اعرفكِ هكذا !"
ارتبكت ملامح (حلا) وهي تتقدم امامها بسرعة هامسة بابتسامة صغيرة بندم
"انا اعتذر إذا كان الموضوع قد ضايقكِ ، ولكني لا احب ان اراكِ حزينة ومشتتة التفكير بهذا الشكل فأنتِ اقرب الاشخاص لي ودائما ما تساعديني عندما اقع بالمشاكل وانا اريد مساعدتكِ كذلك ! لذا هل تسمحين لي ؟"
ارتفع حاجبيها بصدمة لوهلة قبل ان تتسع ابتسامتها بمحبة وهي تربت على كتفها هامسة بحنية
"وانا ايضا اعتبركِ من المقربين مني مثل مرتبة شقيقتي الصغرى ، بما انني لا املك شقيقات صغيرات كما ترين !"
تهللت اساريرها بابتهاج وهي تقبض على يديها معا عند صدرها هامسة ببريق الأمل
"إذاً هل ستفصحين الآن بما يعتمل بداخلك ؟ فأنا احب كثيرا ان اسمعكِ وان اعطيكِ النصح بمثل هذه المشاكل !"
اتسعت عينيها بجزع وهي تلوح بيديها الاثنتين هامسة بتهرب
"لا ليس هناك شيء مما تفكرين به يا حلا ! وهي مجرد مشاكل دراسية بالجامعة ليس لها اي معنى لتكوني بكل هذا التحفز والحماس"
عقدت حاجبيها بقوة بعدم الاستسلام وهي تهمس بابتسامة ماكرة بمرح
"مع ذلك اشعر بأن الأمر اكبر بكثير من مجرد مشاكل دراسية ! هل يعقل بأن يكون وراء تصرفاتكِ الغريبة قصة حب معلقة تنتظر اكتمالها وشخص ملهوف بكِ ينتظر إشارة منكِ ؟"
انفرجت شفتيها بأنفاس ذاهلة طافت على محياها بلحظة لتخفض يدها بسرعة وهي تتصنع ابتسامة ظريفة هامسة بتعجب ساخر
"من اين اتيتِ بهذا الاستنتاج المجنون يا حلا ؟ بل كيف خطر على بالكِ ؟"
ردت بسرعة بابتسامة كبيرة بلهفة
"إذاً هل استنتاجي صحيح ؟"
زفرت انفاسها بوجوم وهي تكتف ذراعيها هامسة بتصلب
"بالطبع غير صحيح يا حلا ، فأنا لا اؤمن بهذا النوع من قصص الحب"
عبست ملامحها بحزن وكأنها على وشك البكاء لترفع بعدها قبضتها لصدرها وهي تهمس بخفوت حالم بسعادة
"ولماذا لا تحبين تجربة مثل هذه القصص الرائعة ومشاعر الحب الجياشة ؟ انا ارى بأن من يخوض بهذه القصص يكون محظوظ جدا ويعيش اجمل سنوات حياته ، وكم اتمنى ان يأتي دوري بهذه القصص واعيش ايضا قصة حبي الخاصة التي ستجعلني اتحول من خادمة لأميرة زماني !"
عقدت حاجبيها بغمامة واجمة سيطرت على تقاطيع ملامحها الدقيقة بدون ان تشاركها بسعادتها ، لتتنفس بعدها بجمود هاوي وهي تهمس بابتسامة شاردة اعتلت محياها بلحظة
"هذا فقط بمخيلتكِ يا حلا ، ولكنه بالواقع شيء مختلف تماما عن احلام يقظتكِ !"
ارتجفت ابتسامتها بتوجس وهي تهمس بوجوم حائر
"تتكلمين وكأنه لديكِ خبرة بهذه القصص يا آنستي ! لأنه بالواقع......"
قاطعتها بنفس الصوت الباهت ببرود
"يمكنكِ القول بأنني خضت تجربة مشابهة لما تقولينه كانت فاشلة !"
اتسعت عيناها بذهول وهي تغطي فمها بكفها هامسة بخفوت مرتجف
"يا للخسارة ! لم اكن اعلم حقا ! اعتذر على هذا يا آنستي"
انحنت ابتسامتها بذبول وهي تحرك رأسها هامسة ببسمة طفيفة
"لا بأس يا حلا ، فقد مر على هذه القصة اكثر من سنة ! وانا قد نسيت الأمر حقا"
حركت رأسها بإمارات الاسى التي اعتلت محياها وهي تمسك بكتفيها باندفاع قائلة امام وجهها بحفنة تفاؤل عالية
"لا تقولي هذا الكلام يا آنستي ، عليكِ ان تتحلي اكثر بالصبر والقوة وانا واثقة بأن فارسكِ الحقيقي والنبيل سيأتي وينتشلك من هذا الحزن على حصانه الابيض ، فقط كوني على علم بأن هذا العالم لن يترككِ تعانين من قصة حب فاشلة ، ومهما فشلتِ وسقطتِ مرات عديدة عليكِ بإعادة المحاولة حتى تجدي سعادتك الحقيقية والتي ستعوضك عن كل ما فاتك من سعادة بحياتك"
اتسعت حدقتيها العسليتين ببريق مموج بالمشاعر والتي خلقتها هذه الفتاة بداخلها ببضعة كلمات صغيرة غيرت مسار تفكيرها ، لتحرك بعدها رأسها بإيماءة مهتزة وهي تهمس برهبة خافتة
"حسنا يا حلا ، سأحاول اتباع نصيحتك ، وشكرا لكِ على الدعم"
ابتعدت عنها (حلا) بلحظة وهي تعود للابتسام بلطف هامسة بمودة
"انا بالخدمة يا آنستي"
ابتسمت بارتجاف وهي تفيق على صوت صفير الابريق الكهربائي والذي انتهى من تجهيز القهوة ، لتتحرك الخادمة بسرعة وهي تخرج كوب كريستالي آخر من الخزانة بثواني لتسكب به القهوة السائلة بحذر ، قبل ان تقدمها امام الساكنة بمكانها وهي تهمس لها بأدب
"تفضلي يا آنستي ، لقد اصبحت القهوة جاهزة"
اومأت برأسها بحياء وهي تتناول الكوب منها هامسة بابتسامة عطف
"شكرا لكِ يا حلا ، لقد ساعدني الكلام معكِ كثيرا اكثر مما تتصورين"
اومأت برأسها بابتسامة مشعة بالسعادة وهي تهمس ببهجة
"سعيدة لأنني استطعت مساعدتك ولو بالقليل ، وإذا احتجتِ لأي مساعدة بأي وقت لا تترددي بطلبي"
ابتسمت بامتنان وهي تمسح على كتفها بعطف ، وما ان استدارت بعيدا عنها حتى قالت بلحظة بابتسامة هادئة
"وشيء آخر ، ليس هناك داعي للألقاب بيننا ، ويمكنكِ مناداتي باسمي مجردا فنحن باعتبار شقيقات ولا يجوز مناداة شقيقتك الكبرى سوى باسمها ، مفهوم ؟"
اومأت برأسها بطاعة وبسعادة غامرة احتلت ملامحها الاقرب للطفولية ، لتغادر بعدها لخارج المطبخ بخطوات خافتة سرعان ما ثبتت وخابت امام درجات السلم ، تنفست بنفس الشرود الواجم وهي تحدق بدخان الكوب الساخن بين يديها بدوائر تائهة ، قبل ان ترفع وجهها بلحظة بإيباء تغلب عليها وهي تحدد مصيرها القادم بحياتها والاجابة والتي عليها ان توصلها لصاحب عرض الزواج ، وكل ما تفكر به الآن هي اللحظة الحاسمة والتي ستغير بها مجرى حياتها وتكشف بها كل الاوراق التي كانت مخفية بحياتها وحان الوقت المناسب لإظهارها...عندها فقط سينتهي كل شيء كما بدء تماما .
_______________________________
كتفت ذراعيها بجمود وهي تراقب بعينين ساكنتين بضباب اكتسح محياها الطريق السريع بجوارها من خلال زجاج النافذة البارد والذي كان يمرر لها خيوط من اشعة الشمس بدون ان توصل لها اي دفء يطرد البرودة الساكنة بعظامها ، وهي تختلف تماما عن الحالة السابقة التي جاءت بها للمشفى بتموج المشاعر والافكار والتي مرت على ذهنها بشكل خيالات واضطرابات بدقائق قصيرة حرقت روحها طول مسيرة الوصول للمشفى ، اما الآن وهي تعود من نفس الطريق للمنزل بعد ان غادروا المشفى وانهوا الاوراق المطلوبة لخروج المريضة تشعر ببرودة جليدية وانعدام مشاعر تحتل عالمها الخاوي وكأنها النقيض عن تلك الحالة تماما ، وقد يعود السبب للفوارق الواضحة بين الحالتين بداية برفيقها برحلة العودة والذي يجلس بجوارها ولم يكن سوى زوج شقيقتها والذي تبدل بزوجها الغائب ، وثانيا تبدل مشاعرها الثائرة لشيء آخر مختلف عن الخوف الغريزي والذي تلبسها من قبل وهي تتوجه هذه المرة لأحد آخر غير شقيقتها وهو السبب بتحجير مشاعرها وانطفاء كل ما كانت تشعر به ، وهي ما تزال لا تصدق للآن كيف تركها ذلك المحتال الخائن بهذا الأمر وحدها وهي تكتشف مغادرته للمشفى باكرا بدون ان يخبرها او يعلم احد عن سبب رحيله ؟ ليخون ويخرق اتفاقهم بالبقاء معا بالمشفى قبل ان يهرب باليوم التالي ما ان سنحت له الفرصة ! ليخالف عندها كلامه وتوقعاتها كما يفعل دائما واكثر ما يفلح به !
اسندت جانب قبضتها على زجاج النافذة وهي تهمس مع نفسها بعبوس مرتجف بصوت غير مسموع
"سحقا لك من متلاعب ! اعدك بأني لن اسامحك عليها ما حييت ، سمعت يا احمق الفكهاني !"
ابعدت قبضتها كما جانب وجهها وهي تعتدل بجلوسها بسكون جامد ، لتنقل بعدها عينيها بهدوء عند المقاعد الخلفية وهي تلمح جانب وجه الساكنة بجوار النافذة على نفس شرودها الصامت منذ بداية رحلة العودة وكأنها دوامة واسعة كتمت اصوات ثلاثتهم بهوة سحيقة لم يتجرأ احد منهم على الخروج منها للآن ، وهي تكاد تشتعل من الغيظ على الوضع الذي وصلت له بعد ان ارغمت على الجلوس بالمقعد الامامي بدل شقيقتها خشية على حالتها التي ما تزال غير مستقرة وقد تتأذى من اي اصطدام او مطب صغير ! لتعود بعدها بنظرها للأمام بلحظات بدون اي تعبير او ردة فعل تسكن منحنيات ملامحها الجليدية المرسومة من رخام قاسي بعناية لا يقبل الانصياع او الخضوع .
تنفست الصعداء بعدها بدقائق قليلة ما ان دخلت السيارة اسوار منزل العائلة ، وما هي ألا لحظة حتى اندفعت وهي تخرج من السيارة بلمح البصر بدون ان تعطيه الفرصة ليتأكد من وضع اصطفاف السيارة ، ليتنفس بعدها ببؤس وهو يفرك عينيه بأصابعه بكبت قبل ان يتحرك من مكانه وهو يخرج من السيارة بأكملها .
تسمر بمكانه للحظة ما ان وجد (ماسة) وهي تساعد شقيقتها على الخروج من باب السيارة بالاستناد بمرفقيها لتستطيع الوقوف بعدها على قدميها ، وما ان فعلت حتى تمسكت بذراعها بيد وهي تبعد خصلات شعرها المتمردة فوق كتفها باليد الاخرى بإنهاك واضح خدر حركاتها المحدودة ، لتغلق (ماسة) باب السيارة من خلفها بلحظة وهي تسحبها بخطوات بطيئة متناغمة مع خطواتها بدون ان تترك كفها الممسك بذراعها بتشبث لا إرادي .
وما ان وصلت كليهما امام نظره حتى قال بابتسامة جانبية لا تحمل اي مرح
"هلا تتركين لي مهمة مساعدة زوجتي بنفسي ؟"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه وهي تكمل سيرها امام مدخل المنزل قائلة بجمود
"لا شكرا ، فنحن نتدبر امورنا لوحدنا"
عبست ملامحه بتصلب وهو يرى التي اكملت طريقها بدون ان تأبه له وبعد ان سرقت بهجة روحه منه ، ليتحرك بعدها على مضض وهو يلحق بهما بخطوات واسعة بدأت بالتسارع تدريجيا حتى تحولت لهرولة زادت من خفقات صدره ونبضات قلبه المتهدج ألماً وشوقاً .
ما ان تجاوز بوابة المنزل حتى تجمدت خطواته بالأرض والتي ابتلعت منه كل الطاقة المخزنة بداخله بثواني معدودة ، وهو يشاهد ثلاثة افراد من عائلته ظهروا بمجال نظره اثنان منهم يقفان امام مدخل المنزل عند الاستقبال والفرد الثالث اكتفى بالوقوف بعيدا عند درجات السلم ينظر من بعيد بدون ان يكون بينهم .
نقل نظره ناحية الفتاتين الواقفتين على بعد خطوات منه ، وما ان كان على وشك الكلام حتى سبقه الصوت الجهوري المعروف وهو يوجه الكلام له بصرامة وكأنه لا يرى احد غيره
"لقد تأخرت اليوم ايضا بالذهاب للعمل يا احمد ! لا تنسى ما حدث يوم امس والخسائر والتي كان من الممكن ان نتعرض لها بسبب انسحابك بمنتصف العمل قبل اتمامه ، وهذا ليس جيد ابدا بسير العمل ولا بمصلحته بالنسبة لمرتبتك الحساسة بالشركة والتي قد تفقدها بسبب تهورك"
تشنجت ملامحه بلحظة ما ان اصبح محط نظرات الجميع بالدائرة ، ليقبض بعدها على يديه بقوة غير ملحوظة قبل ان يقول بعبوس هادئ رغم كل الانفعال الهادر بداخله
"اعتذر إذا كنت قد ازعجتك بتصرفاتي يا ابي ، ولكني كما اخبرتك لقد كانت حالة طارئة واضطررت بسببها لترك العمل وتأجيل البقية ، فكل شيء بالحياة يعوض ويستمر ولكن هناك اشياء لا تعوض وتكون خسارتها كبيرة جدا واكثر من مجرد مشروع عمل او صفقة لن تغير من سير حياتنا شيء !"
تلبدت ملامح والده بغموض وهو يقول بهدوء جاد
"ماذا ؟ هل تتهمني بما حدث لزوجتك ؟ اخبرني ماذا سينفع الندم بعد حدوث الخسارة لو انك فكرت بعقلك المغيب الذي اصبح يتبع اوامره من عواطفك لوجدت بأن انقاذ خسارة العمل التي ستليها خسارات متتالية افضل من اللحاق بزوجتك والتي لا تعد خسارة بحياتنا ؟ فلا تنسى لست اول رجل بالعالم تصاب زوجته بنكسة مفاجئة !"
غيم الصمت بينهم بقوة المشاعر الثائرة والتي اشعل فتيلها بداخل كل واحد منهم والتي لا تنتظر سوى كلمة واحدة لتحرق الأرض ومن فيها ، لتحاول (ماسة) التدخل بدوامة صمتهم بعد ان ضاقت بها ثورة مشاعرها لولا القبضة والتي شددت على ذراعها تأمرها بحركة صامتة بعدم التدخل بقوة خائرة ، وهي تحيد بنظراتها ناحية وجهها البارد بدون اي تعبير او ملامح تسكن تلك التقاسيم الذابلة بحالة جفاف مريبة ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بغضب مكتوم وهي تمتثل لأمر شقيقتها والتي تعلم جيدا عدم مقدرتها على تحمل اي ضغط او حرب كلامية اكثر من هذا .
عاد (احمد) للكلام بنبرة غريبة وهو يضيق عينيه بجمود هامسا بمرارة انبثقت بصوته
"انت على حق يا ابي لقد خسرت وخسارة كبيرة لا تعوض بكل اموال العالم ! فقد رحل الطفل الذي انتظرناه طويلا وخسرناه بوقت لن ينفع فيه الندم او العتاب"
ساد صمت اطول عن السابق بمشاعر مختلفة طغت عليها غصة الحزن على رحيل الجنين برحم والدته ، لينطق بعدها الجبل الشامخ امامه بلحظات وهو يقول بصوت قاسي لم يتأثر بكلام ابنه ولو قليلا وكأنه خبر متوقع
"حسنا وما لجديد بالأمر ؟ هذه هي اقدار الحياة ونحن علينا بالتأقلم معها فليس كل شيء يسير حسب هوانا وكما نبتغيه منها ! ولكن ما لم اتوقعه منك ان تكون بكل هذا الضعف يا احمد لدرجة ان تصاب بنكسة خسارة طفل لم يولد للحياة بعد لتقرر الاعتكاف عن العمل والهروب منه من اجل هذا السبب !"
نظر بسرعة لوالده ببعض الصدمة وهو يلوح بذراعه قائلا باستنكار فقد زمام السيطرة عليه
"ارجوك يا ابي توقف عن التكلم عن العمل بكل شيء وادخاله بهذه الأمور الشخصية والحساسة بالنسبة لنا ! فليس كل شيء بالحياة يتعلق بالعمل واخذ مرتبة عالية به ! فهناك اشياء بالحياة اهم من العمل بكثير ولحظات نستحق التفكير بها وتأملها بعيدا عن العمل"
ضاقت عيناه الرماديتان بلحظات قبل ان يقول بنفس الصوت الجهوري المعروف بنبرته النافذة
"انت الذي بدأت اولاً بإدخال امور العمل بعواطفك ومشاكلك الشخصية منذ انسحابك بمنتصف العمل تاركا كل شيء خلف ظهرك للحاق بالسراب واتباع بما يملي عليه قلبك ، لذا ليس لديك اي حق بالتذمر والغضب الآن بعد ان ادخلتنا بهذه الحرب فهذا سيكون هروب آخر منك لن اغفره لك كما افعل دائما !"
امتقعت ملامحه وهو يشيح بوجهه جانبا بانفعال اصبح يهدد بالانفجار الوشيك بداخل روحه الصاخبة والتي تضخمت بالكثير ، ليقطع الصمت هذه المرة الصوت البارد وهي تتململ بمكانها بضجر
"عذرا ولكني مضطرة لقطع حديثكم الشيق والانسحاب لأخذ شقيقتي لترتاح بغرفتها ، فهي ما تزال متعبة وتحتاج للراحة بعد كل ما تعرضت له وتجرعته من مصائب عائلة زوجها"
اتبعت كلامها بالسير من فورها وهي تسحب شقيقتها امام انظارهم باتجاه السلالم ، لتتوقف فجأة ما ان تدخل الفرد الصامت الواقف بجانب والده وهو يقول بمرح
"حمد الله على سلامتك يا زوجة شقيقي ، سعيد بعودتك لنا بصحة كاملة فقد نورتِ المنزل بوجودك"
اومأت برأسها بامتنان بدون ان تتفوه بكلمة ، وما ان اصبحت على محاذاة من الجبل الصامت حتى نطق بجمود هادئ بدون اي معالم
"حمد الله على سلامتك يا روميساء"
اتسعت حدقتيها باهتزاز وهي تنظر لصاحب العبارة والتي لم تتوقع ان تسمعها منه بعد كل ما قاله عنها من لحظة بدون ان يظهر اي اسف اتجاه الطفل الراحل ! لتحرك رأسها بعيدا عنهم وهي تهمس بشبه ابتسامة باهتة بخفوت
"شكرا لك يا خالي محراب"
لتصل بعدها كليهما لبداية درجات السلم والتي ما تزال تقبع هناك الساكنة بمكانها تشاهد كل شيء يحدث امامها بصمت ، لتقف عند حاجز السلم بعيدا عن طريقهما قبل ان تتسمر بمكانها بذهول متصلب تجمدت معها الدماء بعروقها ما ان التقطت تلك العينان الحاقدة الموجهة لها بتصميم مريب يثير الشكوك والرعب بقلب الناظر لها وكأنها تهددها او تتوعد لها بطريقة غير مباشرة ! هل يعقل بأنها قد اكتشفت فعلتها بشقيقتها ؟ ولكن مستحيل كيف من الممكن ان تعرف بأنها الفاعل وهي قد تأكدت جيدا من طمر الادلة ومسح آثارها بدون ان تسمح لشيء ان يدينها او يوصلها لهم ! إذاً ما سبب تلك النظرات الحاقدة التي تحمل سعير غير مرئي سوى لها ؟
اشاحت بوجهها بتوتر استبد بها بدون كلام ما ان اكملت كليهما صعود درجات السلم بعيدا عنها ، بينما الذي كان يراقب بهما بتركيز حاد متتبع كل خطوة وترنح يصدر منها اشعل حريق قلبه اكثر عن السابق والمندلع منذ زمن ، ليتحرك من فوره وهو يسير بخطوات ثابتة باتجاه مسار نظره والذي قطعه بصوت والده الصارم بأمر نافذ بدون اي رحمة
"احمد اريد ان اراك بالشركة بغضون ربع ساعة بدون اي تأخير ، وصدقني إذا تأخرت على الموعد ولو دقيقة واحدة فأنا عندها سأسحب المشروع منك واعطيه لشخص آخر غيرك يهتم بقوانين العمل ويلتزم بمواعيده ولا يسمح لعواطفه بالتأثير عليه ! وقد اعذر من انذر !"
غادر بعدها صاحب الكلام بعيدا عنهم يتبعه ابنه الصغير والذي يلازمه على الدوام ، بينما تابع الآخر سيره باتجاه السلالم بهرولة بدون ان يأبه لكل حرف مهدد نطق به والده والذي لن يتردد عن فعلها فهو لا ينطق شيء او يفعل شيء من فراغ ، ولم يهتم كذلك لهتاف الواقفة بمنتصف السلم وهو يبتعد عن نظرها بثواني بدون ان يسمع نشيج انفاسها بنطق اسمه بعد ان بعثت الخوف بداخلها وتدفق الدماء بأوردتها وتفكيرها فقط يدور بما سيحدث لها لو تم اكتشاف امرها حقا ؟!
_____________________________
ساعدتها بالجلوس على طرف السرير ببطء وتمهل شديد وهي تتأكد من استقامة جسدها المرتخي الذي ما يزال يعاني من مفعول المسكن والذي كان موصول بجسدها منذ لحظة دخولها للمشفى ، لترفع بعدها جسدها بوهن فوق الملاءة عدة سنتمترات حتى اسندته على ظهر السرير براحة تسربت بمنحنيات اطرافها المتصلبة والتي خارت قواها تماما ، لتراقب التي رفعت الغطاء فوق جسدها برفق ليشملها كلها بثواني حتى مستوى صدرها بقليل وهي تعطي كل تركيزها لما تفعله يديها .
تنهدت بهدوء وهي تشيح بوجهها بشرود احاط عالمها لوهلة قبل ان تهمس بابتسامة شاحبة بوهن
"كم انا سعيدة بعودتي للمنزل ولسرير غرفتي الدافئ والذي يختلف تماما عن سرير المشفى القاسي ! بالرغم من عودتي مختلفة تماما عن السابق وكأننا عدنا لأول يوم لنا بهذا المنزل والذي احتوانا بعد منزل قيس"
استقامت بمكانها وهي تنظر لها بجمود لتتحرك بعدها امام المنضدة وهي تلتقط شريحة اقراص الدواء هامسة ببرود
"يبدو بأننا ما نزال نفس الفتاتين المنبوذتين بكل عالم ندخل إليه بدون ان يتقبل وجودنا به"
اومأت برأسها بهدوء وهي تحرك كتفيها بوهن هامسة بوجوم
"يبدو كذلك !"
حادت (ماسة) بنظراتها نحوها وهي تسكب كأس من الماء البارد قبل ان تمسك قرص الدواء بيدها الاخرى هامسة بعبوس
"هل كل هذا البؤس بسبب كلام خالنا محراب عن خسارتك والتي لا تعد خسارة ؟ ام عدم اهتمامه بأمر رحيل طفلك ! ولكنه بالحقيقة لا يلام فقد نسيتِ معلومة مهمة بأننا ما نزال لهذه اللحظة بنات مايرين الملعونات بهذه العائلة ، ولا تتوقعي معاملة تختلف عن التي كانت عليها بلحظة دخولنا لهذا المنزل !"
رفعت وجهها عاليا بنفس الشرود وهي تهمس بخفوت بارد
"هل تعتقدين بأني قد انسى مثل هذا الامر ؟ لقد تركت لنا والدتنا انطباع سيء عند جميع من نعرفهم ويقرب لنا ! وبرغم كل محاولاتنا لتغيير نظرة الآخرين نحونا ليقبلوا بنا كما نحن على طبيعتنا نعود للفشل من جديد ونتعرض للمعايرة النفسية والمعنوية بسبب خلفية والدتنا وزوجها واللذان لم يتركا لنا اي عامل ينجدنا من هذا العالم ، وكل ما كنت آمله ان تتغير صورتنا امامهم ما ان ننتمي وننتسب لعائلة الفكهاني ونصبح من افرادهم ونختلط بحياتهم ، ولكن على ما يبدو بأن هذا لم يحدث !"
زفرت انفاسها بضيق وهي تقف بجانب السرير لتمد بكفها التي يستقر بها قرص الدواء هامسة بخفوت
"لا تفكري كثيرا بالأمر يا روميساء ، يكفي بأن نكون احياء بصحة جيدة لنساند بعضنا البعض بوقت الشدائد كما كنا نفعل بالماضي ، صحيح ؟"
رفعت حدقتيها الخضراوين نحوها بشحوب قبل ان تبتسم برفق حاني هامسة بهدوء
"اكيد يا صغيرتي ، بما ان الطفل قد رحل سريعا فقد عدنا وحدنا من جديد بهذا العالم الوسيع ! ولا اعتقد بأني سأفكر مجددا بإنجاب الاطفال بعد كل ما حدث ! ربما سأكتفي بما امتلكه ولن اطلب المزيد"
تغضن جبينها بوجوم وهي تنظر ليدها التي التقطت قرص الدواء منها لتضعه بفمها بلحظة قبل ان تتبعها بكأس الماء وهي ترتشف منه على مهل ، وما ان انتهت حتى اعادت الكأس الفارغ لمكانه فوق المنضدة الجانبية ، لتقول بعدها بلحظات وهي تكتف ذراعيها بجدية آمرة
"الآن عليكِ بالنوم والراحة فهذا الدواء يعمل على تسكين آلامكِ وارخاء مفاصل جسدكِ من التصلب ، وإذا شعرتِ بأي شيء غير طبيعي او احتجتِ لمساعدة فقط اهتفي باسمي وانا سأكون معكِ بالخارج ، حسنا !"
اومأت برأسها بابتسامة اتسعت باسترخاء وهي تلوح بيدها هامسة بمرح
"هل تحاولين ان تلعبي دوري ؟ لأنكِ لو كنتِ كذلك فلن تفلحي ابدا بتمثيل شخصيتي والتي اديتها معكِ على مدار سنوات !"
حركت رأسها بابتسامة صغيرة شقت محياها ببهوت وهي تهمس بخفوت
"انتِ على حق فلا احد يستطيع ان يمثل شخصيتك والتي تميزتِ بها منذ مولدنا ، انا فقط احاول التأكد من عدم تكرار ما حدث معكِ بالأمس ، فقد كان خطأ مني لا يغتفر ابدا !"
ما ان استدارت بعيدا عنها بثواني حتى عادت للكلام بسرعة وهي تهتف بحزن
"ماسة انا لم ارى شادي برفقتك ! ألم تخبريني بأنكِ قد بت ليلة البارحة مع شادي بالمشفى ! ام لم يكن موجودا من الاساس ؟"
صمتت للحظتين بسكون قبل ان تحرك كتفيها باستخفاف وهي تهمس ببرود بالغ
"كان موجودا معنا بالفعل ، وبعدها رحل صباحا ، ولا اعلم حقا إلى اين رحل ؟"
شحبت ملامحها بغموض بدون ان تعطيها الفرصة للرد فقد سبقتها بالكلام وهي تتابع سيرها لخارج الغرفة
"نامي جيدا يا روميساء ، ولا تشغلي بالكِ بشيء ، وبالوقت الذي تحتاجيني به سأكون عندك"
غادرت بعدها لخارج الغرفة وهي تقف بمنتصف بهو الجناح بوجوم اكتسح عالمها لوهلة ، لتنتفض بعدها بانتباه ما ان سمعت الطرق القوي على باب الجناح والذي قلب ملامحها للجمود الكاسر ، لتأخذ منها عدة لحظات قبل ان تحرك قدميها بهدوء باتجاه الباب بخطوات جامدة تستطيع اختراق الارض السائرة عليها ، وما ان فتحت الباب ببطء حتى ظهر امامها من توقعت وجوده وليس بسبب حدسها فقط بل بسبب نظراته المسلطة عليهما والتي كانت تلحق بهما على السلالم !
تنفست بعدها بسخط لتعبر عن نفورها البادي على ملامحها وهي تهمس بإيجاز
"ماذا تريد ؟"
قطب جبينه بجمود بدون ان يعير ملامح النفور على وجهها والتي لم تكلف نفسها بإخفائها وهو يتمتم بجفاء
"اتيت لرؤية روميساء ، وألا ما لذي جلبني افعله امام جناحها مثلا ؟"
عقدت حاجبيها بتصلب وهي تدير عينيها للخلف بمغزى قبل ان تعيدهما نحوه هامسة بعفوية
"اعتذر يا سيد احمد ، ولكن روميساء قد اخذت الدواء من لحظات وستكون الآن قد ذهبت بسبات عميق ، لذا ارجو منك ان تعذرنا ولكنه غير مسموح لك برؤيتها الآن !"
تصلبت ملامحه وهو يحاول السيطرة على غضبه الذي كبحه طويلا قائلا من بين اسنانه المطبقة بجمود
"ومع ذلك هذا السبب لن يمنعني من رؤيتها ، وانا واثق بأنكِ قد ابتكرت هذه الكذبة الآن من اجل ألا تسمحي لي برؤيتها والانفراد معها !"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تضرب بقبضتها على إطار الباب هامسة بشراسة غاضبة
"ماذا تقصد بكلامك ؟ لقد اخبرتك بالحقيقة كاملة ! وهي بأن روميساء نائمة بعد ان اخذت الدواء من لحظات ، ولك الحرية بتصديقها ام لا ؟ فهذه ليست مشكلتي !"
ضرب فجأة الارض بقدميه بنفاذ صبر وهو يقول بحنق عابس بعد ان فاض به الكيل
"ماسة لا تغضبيني اكثر من هذا وتدفعيني لفعل ما لا يليق معكِ ! فأنا ما ازال احتمل وقاحتك لهذه اللحظة لأنكِ تكونين شقيقة زوجتي الصغرى وزوجة شقيقي بذات الوقت ، لذا احترمي قليلا هذا الرابط بيننا واتركيني ارى زوجتي لمرة واحدة !"
زمت شفتيها بقوة وهي ترفع يدها امامه هامسة بجمود
"ابتعد من امامي"
تراجع تلقائياً للخلف برهبة من اندفاعها المجنون ، لتغلق بعدها باب الجناح من خلفها وهي تستند عليه محاصرة المكان بذراعيها المرتفعتين لتهمس بلحظة بوقاحة مستفزة
"والآن ارني كيف ستستطيع تجاوزي يا محترم بدون ان تلمسني او تفسد ذلك الرابط بيننا ؟ وصدقني لست اول وآخر رجل اردعه عن طريقي واضع حدا له ! فأنا قادرة على ابعادك واخراجك من حياة روميساء ببساطة بدون اي عناء فقط عندما تعطيني هي الإشارة !"
ارتفع حاجبيه بصدمة والذهول يغمر محياه ليطبق على اسنانه بلحظة وهو يقاوم الغضب العارم من التمرد عليه والذي سيقضي على صورته المثالية عند (روميساء) وشقيقتها ، ليوجه بعدها نظراته نحوها بغموض وهو يهمس من بين اسنانه بغضب مكتوم
"ألن تتوقفي عن هذه الوقاحة والتي تجاوزتِ بها كل الحدود ! فأنا لا اعلم لما كل هذا الدفاع والتأهب امامي وكأنني ارتكبت جريمة بحقكما ؟ كل ما اريده هو رؤيتها قليلا والتكلم معها على انفراد ! هل اخطئت بهذا الطلب وكأني اتكلم عن شخص غريب لا يربطني به شيء ؟"
حركت رأسها جانبا وهي تقول بخفوت بارد بدون اي رحمة
"وانا اخبرتك بها ولن اكررها لك بكل دقيقة روميساء الآن نائمة ولا تستطيع رؤية احد ! لذا ارح نفسك وغادر من هنا فأنت تضيع وقت كلينا ، وخاصة بأنه لديك عمل الآن بالشركة عليك اللحاق به لكي لا تتلقى توبيخ وخسارة جديدة فوق خسارتك السابقة لن تستطيع تعويضها وستكون نهاية مأساوية بحياة عائلة الفكهاني"
تنهد بتعب وهو يشعر ببوادر الاستسلام والفشل الذريع يلوح امامه بالأفق بعد ان افقدته كل الحق بالوصول لزوجته المختبئة خلف اسوار الجناح الذي كان من المفترض ان يجمعهما معا ! ليستدير بعدها للجانب الآخر وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بهدوء عاد لتقمصه
"حسنا يا ماسة لا بأس ، اهتمي بها جيدا حتى عودتي ، فأنا لن اتراجع عن حقي برؤيتها ولن تستطيعي منعي طويلا عن فعلها"
ضيقت عينيها الزرقاوين بقسوة بدون كلام وهي تشاهد الذي غادر من امامها بعيدا وهو يحمل خيبة جديدة فوق الخيبات السابقة والتي تراكمت عليه بدون ان يرحمه احد ، بينما الواقفة بمكانها تتشبث بإطارات الباب على جانبيها وهي تشرد بمكان اختفاءه هامسة بمرارة ساخرة
"يا لحظنا العاثر الذي اوقعنا مع حمقى عائلة الفكهاني !"نهاية الفصل.........
أنت تقرأ
بحر من دموع
Fiction générale"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...