كانت تتنفس الهواء النقي بارتياح بعد ان غادرت قاعة المناسبات والتي تحولت لمكان ضاغط عليها بدون اي متنفس للهواء ، لتنظر بعدها للحديقة من حولها والسابحة بالظلام الحالك وإنارة خافتة موزعة بكل زوايا الحديقة بدفء حميمي ، اخفضت نظرها لحذائيها الامعين وهي تدوس بهما على شتلات العشب الصغيرة والندية من الجو البارد ، لتفكر بعدها برفيقها بالحفلة والذي حرموها منه بعد ان انشغل مع مدراء الاعمال بالكلام عن صفقات العمل ما ان بدأوا بالكلام معه ليتجمعوا من حوله بدون ان يتركوا لها اي منفذ للوصول له او الكلام معه ، حتى انها قد اصطدمت نظراتها بزوجته (سلوى) بالحفلة والتي كانت تنظر لها بتجهم واضح يحمل الكثير وكأنها تلمح لها بأنه غير مرحب بها بالحفلة ، وهذا ما دفعها لتخرج لخارج القاعة لتستطيع اخذ راحة من تمثيل دور المرأة النبيلة والذي تعبت كثيرا منه وقد اكتشفت بالنهاية بأنها لا شيء بتلك الحفلة بدون وجود (احمد) بجانبها .
انتفضت بوجل ما ان سمعت صوت غريب يقول من خلفها بحيرة
"روميساء !"
استدارت بسرعة للخلف بجزع وهي تنظر للشخص المنادي بعبوس واجم ، بينما تقدم الغريب نحوها وهو يعدل النظارة من فوق عينيه قائلا بتفكير
"هذه انتِ حقا !"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تهمس بخفوت متصلب
"من تقصد ؟"
وقف الغريب امامها وهو يعقد حاجبيه بتركيز قائلا بقوة
"ألا تذكريني حقا ؟ لقد كنا نعمل معا بنفس متجر البقالة الخاص بأبو مسعود ، ذلك الرجل الكبير بالسن والسمين بعض الشيء"
حركت (روميساء) عينيها بشرود بعيدا عنه وهي تفكر بأنها كيف ستنسى ذلك الرجل والذي ذاقت منه الويل والعذاب ! وقد كان دائما يتصوب لها الأخطاء فقط لكي يجد حجة ليخصم من راتبها والذي لم يكن يكفي لشراء منه زجاجة ماء ترتوي منها بوقت العمل ، وهو يشغل اكبر عدد من الاطفال والمراهقين عنده ليوفر على نفسه المال بدلا من تشغيل عمال كبار يستنفذون كل ماله بيوم واحد ، بما انهم اطفال جاهلين ويقبلون بالقليل من المال أياً كان والذي يغطي مصاريف طعامهم فقط ليبقوا على قيد الحياة .
تصلبت ملامحها وهي تقول ببرود جامد
"لا اذكر عن ماذا تتكلم ؟ قد تكون شبهت عليّ فتاة أخرى !"
عبست ملامح الغريب وهو يقترب منها اكثر قائلا بتصميم مريب
"بل هذه انتِ اعرفكِ من عينيكِ الخضراوين الكبيرتين وملامحكِ الشفافة ، ومن المستحيل ان اخطئ بشكلكِ والذي حفظته عن ظهر قلب فهذا الوجه لا ينسى ابدا !"
عضت على طرف شفتيها بضيق وهي تحاول تجاوزه قائلة ببرود مرتبك
"عن اذنك عليّ الذهاب ، وداعا"
عاد الغريب ليقف امامها وهو يعيق طريقها ليمسك بذراعها بيد وهو يشير لنفسه بيده الأخرى قائلا بانفعال حاد
"ما بكِ لما تتصرفين معي هكذا ؟ وهل حقا نسيتِ صديقك رضوان والذي كان يساعدكِ بحمل الصناديق الثقيلة ؟ ام ان حياة الرفاهية والغنى قد غيرتكِ ونسيتِ اصدقائك !"
تنفست بارتجاف وهي تنظر له بحزن عميق أبى ان يتركها وترتاح من ماضي ملطخ بالسواد والشقاء افسد طفولتها وكل معنى للسعادة بحياتها ، لتقول بعدها بابتسامة شاردة وهي تنظر بعيدا عنه بهدوء
"اعتذر منك يا رضوان ، ولكني احاول نسيان الماضي وكل شيء يتعلق به ، فأنا لم اعد تلك المراهقة العاملة والتي كان كل ما يهمها هو ان تكسب القرش لتعطيه لعمها"
ارتفع حاجبيه وهو على وشك الكلام قبل ان تسبقه المقابلة له بالكلام وهي تستل ذراعها بعيدا عنه ببطء
"وانظر ايضا لنفسك ! لم تعد ذلك المراهق والذي كان دائما يسبب المشاكل لرئيسه بالعمل لتحل علينا لعنته ونتعاقب جميعا على افعاله ، فقد اصبحت الآن من مدراء الاعمال وشخصية مرموقة مهمة ، وغير مناسب ابدا ان نتكلم عن ماضي سيفسد صورتنا الحالية والتي اصبحنا عليها الآن"
امتقعت ملامحه بعدم رضا وقبل ان يتحرك اي منهما اقتحم خلوتهما صوت صلب وهو يهمس بخفوت خطير
"روميساء"
وقبل ان تلتفت (روميساء) نحو صاحب الصوت كان قد تجاوزها بسرعة الطلق لتتجه لكمته باتجاه الذي لم يستطع تداركها وهي تصيب نظارته والتي انكسرت لنصفين لتقع ارضا ، قبل ان يمسك بلحظة بياقة قميصه بقبضتيه وهو يقدم وجهه امامه بقوة ، ليقول بعدها بشراسة خافتة تظهر عليه بهذا الشكل المريب لأول مرة
"ما لذي كنت تفعله مع ابنة عمتي يا حقير ؟ هل كان لديك نوايا سيئة نحوها ؟ كان عليّ ان اعرف هذا من تحديقك الدائم نحوها بدون ان تبعد نظرك عنها ولو لثانية منذ بداية الحفلة ! فيبدو بأن السيد عزام لم يعرف جيدا كيف يختار شركائه ومساعديه بالشكل الصحيح"
انتفض (رضوان) وهو يحاول نزع قبضتيه بعيدا عن ياقته قائلا بغضب مكتوم
"ماذا تظن نفسك فاعلا يا ابن الفكهاني ؟ انسيت بأن هناك شراكة تجمع شركتنا معكم ! وما تفعله بي لن يعجب ابدا السيد عزام نصران"
ردّ عليه ببرود ساخر وهو يهزه من ياقته
"آخر ما يهمني هو هذه الشراكة السخيفة والتي كانت خطأ منذ البداية ! فأنتم لستم أهل للثقة والأمانة لنضع يدنا بيدكم القذرة ، بالبداية حاول سيدك ان يخطئ بحق ابي وعائلة شقيقته والآن انت تحاول التعدي على شرفنا ! وهذا ما لن اسمح بحدوثه ابدا"
كانت (روميساء) تتنقل بنظرها بينهما بذهول وذعر وهي تحاول استيعاب الحقائق والتي انهالت عليها فجأة والتي ستقضي على حياتها النبيلة بأكملها ، فقد تبين بأن هذا الاحمق كان يراقبها بدون ان تنتبه او تعي ما حولها والأسوء بأنه مساعد الرجل والذي عمل شراكة مع خالها ! وهذا يعني بأن الشراكة قد انهارت قبل ان تبدأ وهي السبب الرئيسي بكل هذه المشكلة .
تحركت بسرعة باتجاههما وهي تندفع نحو (احمد) لتمسك بذراعه والتي عادت لتلكم الرجل بقوة ، لتهمس بعدها برجاء متوسل تنقذ ما تبقى من كرامة الرجل
"اترك الرجل يا احمد ، فهو لم يفعل شيء ولم يخطئ بحقي وهو صديقي القديم ، اتركه اتوسل إليك....."
دفعها (احمد) بذراعه بعيدا وهو يقول بصرامة قاسية مشيرا بيده بعيدا بأمر
"اخرسي يا روميساء ولا تتدخلي بعملي وبما افعله به ، وهيا عودي لداخل المنزل فورا ، وألا رأيتِ مني شيء لن يعجبكِ ابدا ولن يسرك !"
شهقت بذعر ما ان عاد للصراخ بثورة اكبر
"قلتُ لكِ ارحلي"
تحركت (روميساء) بالفعل صاغرة وهي تستدير بعيدا عنهم وبعيدا عن مظهر صديقها (رضوان) المشوه بالكدمات والذي لا تعلم من اين ظهر تحديدا وكيف تجسد من الماضي الخاص بها فجأة ؟ لتسير بعدها بخنوع وهي تحاول إمساك اطراف ثوبها الطويل من الاسفل بصعوبة ، قبل ان تسرع بخطواتها وهي تجري بعيدا عنهم بتعثر واضح بدون ان تهتم لأطراف الثوب والذي تمزق من الأسفل وتلطخ بتراب الحديقة من تعثرها به اكثر من مرة وكل ما يهمها هو ان تبتعد عن كل هذه الضجة والتي اصمت اذنيها بطنين مؤلم .
______________________________
كانت تستند بظهرها بالجدار الخشن والمسور حول الحديقة وهي تنظر بعيدا بشرود مكتفة ذراعيها فوق صدرها بجمود ساكن ، وهذا حالها منذ مغادرة (مازن) المكان ليتركها تتخبط بأفكارها مثل التائه بطرق الحياة ويحاول إيجاد المسار الصحيح والمعنى الحقيقي من وجوده بهذا العالم الوسيع ، لطالما كانت ترى العالم يدور من حولها وكل واحد منهم يختار طريقه منها لتوصله للسعادة الأبدية والذي انتظرها كثيرا ليستقر بالنهاية بنوم طويل بدون اي تعب او احلام فقط يرتاح من السير الطويل بهذا الطريق والذي انهك قواه .
بداية بوالدها والذي رحل بعيدا عن هذا العالم قبل ان تراه وتعرف شيئاً عنه لتصل لوالدتها والتي رحلت بدون ان يشعر بها احد او ان يحزن على رحيلها احد ، فلم تكن ذات سمعة طيبة او معروفة عند الناس ليكون رحيلها بالنهاية شيء عابر عندهم بدون ان يهز لهم بدن او يرف لهم دمعة ، وبالنسبة لها ولشقيقتها فقد كان بداية الجحيم لهما وليس حزنا عليها بل لأنها العائل الوحيد والذي كان يمثل لهما الحياة المستقرة والهادئة بظل زوج والدتهما ، فقد كان وجودها بعالمهما امرا مسلما منه بدون ان تؤثر عليهما بمشاعر غريزة الأمومة والتي كانت معدومة عندها بسبب عدم إتقانها لهذا الدور وعدم مناسبتها له من الأساس فقد كان دورها بحياتهما العائل لهما فقط .
حركت عينيها بجمود نحو الواقف امامها بالظلام والذي يبعد عنها عدة خطوات وهو يبدد الصمت قائلا بحيرة
"هل ستبقين واقفة هنا طويلاً ؟ فقد تأخر الوقت كثيرا واصبح الجو بارداً"
ردت عليه بابتسامة ساخرة وهي تتنقل بنظرها بملامحه الجادة بدون ان تخفي بعض من طفولتها
"هل تريد انت ايضا التحكم بي والتدخل بما لا يعنيك ولا يخصك بشيء ؟"
تقدم اكثر عدة خطوات بعيدا عن الظلام وهو يقول بجمود معتاد عليه
"انا لم اتدخل بما لا يعنيني فقط اقول ما اراه امامي ، فأنتِ واقفة هنا منذ ربع ساعة تقريبا وهذا ليس جيد على صحتك بهذا الجو البارد ونحن بمقتبل الخريف"
عقدت حاجبيها بتجهم وهي تضيق عينيها ناظرة له بقتامة قبل ان تقول بجفاء
"هذا رائع تبين بأن هناك طفل يراقبني ! لا ويعطيني النصائح ايضا وهو يمثل امامي دور العاقل الرزين"
لم تهتز ملامحه ولو قليلا وهو يقول بابتسامة باردة ورثها عن والده
"اولاً انا لستُ طفلا ، وثانياً انتِ ابنة عمتي لذا امركِ يهمني مثل باقي افراد العائلة ، لذا يمكنكِ السخرية من نصائحي بقدر ما تشائين ولكنها لا تنفي صدقها وحقيقتها"
ابتعدت (ماسة) عن الجدار بانفعال وهي تهمس بحنق بالغ
"كفى ايها الطفل الثرثار ، لا اريد سماع اي كلمة منك ، وهيا اذهب وعد لحفلة عائلتك التافهة وألا قلقوا عليك وافتقدوك"
عبست ملامحه بجمود وهو يحدق بتركيز بهيئتها الفوضوية من شعرها المنثور بعشوائية حول وجهها لسترتها السوداء والمتسخة بأتربة السور والذي كانت تستند عليه من لحظة ، ليهمس بعدها بلحظات بتركيز جاد
"انتِ تبدين فتاة شرسة من هيئتكِ وشكلكِ ، ولكن بداخلكِ تقبع فتاة رقيقة مكسورة الجناحين تحتاج للعناية والرفق وجبر جرحها ، لتستطيع العودة للطيران من جديد والخروج من هذا الجسد لتظهر عندها هويتكِ الحقيقية والبعيدة كل البعد عن الجمود والذي يلفكِ دائما"
حدقت به بقوة للحظات وهي ترفع حاجبيها ببطء واجم قبل ان تهمس بتشدق وهي تتنقل بنظرها ببدلته السوداء الأنيقة والتي تناسب حجمه لتصل لشعره المصفف للخلف بعناية فائقة ليبدو رجل اعمال صغير
"هل تحاول لعب دور الطبيب والمريض معي ؟ لأنه لا يروقني ابدا ان يحاول احد تفسير دواخلي بهذه الطريقة ، هل فهمت ؟"
اومأ برأسه بطاعة تامة وهو ينظر لها بعيون سوداء متسعة بحماس منتظرا اشارتها التالية ، لتقول بعدها (ماسة) وهي ترفع حاجبيها بخفة
"ذكرني باسمك مرة أخرى !"
ردّ عليها (زين) بسرعة بثقة تفوق سنه
"اسمي زين الفكهاني"
ابتسمت بإعجاب بثقة هذا الطفل والذي سيكون له مستقبل حافل بالأحلام الكثيرة وهذا ظاهر بملامح وجهه والتي تنضح قوة تختلف عن قوة اشقائه الكبار بأضعاف ، ليقطع عليها تفكيرها صوت (زين) وهو يعود للكلام بلهجة عملية حفظها من تعايشه الطويل بمجال ادارة الأعمال
"هل تريدين معرفة المزيد من المعلومات عني ؟ انا اخوض مناقشات وصفقات باجتماعات والدي بالشركة واتكلم مع مدراء كبار بالعمل ، واشترك ايضا بمراكز كثيرة للتعلم بجانب المدرسة ومنها تعلم اللغة الفرنسية والاسبانية والصينية ، وايضا مراكز لتعلم الدفاع عن النفس...."
قاطعته بحدة وهي تقطع المسافة بينهما بسرعة لتغلق فمه بكفها قائلة بنفاذ صبر
"اصمت ، ومن اخبرك بأني اهتم بكل هذا ؟ اراهن بأنك لم تتكلم مع فتيات بحياتك من قبل"
ابعدت كفها بسرعة عنه ما ان افاقت على نفسها وهي تتجاوز حدودها المرسومة مع افراد العائلة فهذا بالنهاية ليس طفل لتسكته هكذا وهو يبدو بعمر الرابعة عشر يكاد يوازيها طولا ، عادت بعدها للنظر له ما ان قال بابتسامة هادئة
"انتِ على حق بكلامكِ فأنا لم اتعامل بحياتي مع اي فتاة ، فقد كان دائما ابي يقول بأنه لا حاجة لي للتكلم مع الفتيات واللواتي لا فائدة من وجودهن سوى بانحراف جنس الذكور عن الطريق الصحيح ، وحتى والدتي لم اعرفها فقد توفيت ما ان انجبتني"
امتقعت ملامحها وهي تنظر لملامحه الباردة ما ان تكلم عن والدته بكل هذه البساطة وكأنها شيء غير مهم او عابر بحياته ، لتقول بعدها وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة
"حسنا انا لا اعرف ولا افهم بعبارات التعاطف والمواساة والتي يلقونها الآخرون على اسماع الناس والذين فقدوا شخص عزيز عليهم ! فأنا ارى بأنها جميعها مجرد مظاهر بالية وكلمات لن تعيد الأحياء من قبورهم ، فقط كل ما استطيع قوله لك هو رحمه الله"
كان (زين) يركز بحركاتها وكلامها بانشداه مسحور قبل ان يقول بابتسامة جانبية بابتهاج
"كلامكِ ومنطقكِ غريب ، ولكنه يعجبني كثيرا ويروقني"
ادارت عينيها بعيدا عنه بملل وهي تستمع له ما ان تابع كلامه قائلا بحماس متلهف
"انا سعيد جدا بالتكلم معكِ ، فأنتِ اول فتاة اتكلم معها بحياتي !"
عادت للنظر له ببرود وهي تقول بسخرية خافتة
"اهدئ لما كل هذا الحماس ؟ لم يبقى سوى ان تحدد معي موعد لأول فتاة تكلمت معها بحياتك !"
ابتسم (زين) باتساع اكبر وهو يعود لثقته المعتادة قائلا
"هذا سيكون يوم السعد والهنا ، لأني سأخرج مع فتاة جميلة مثلكِ !"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بصدمة وهي تنظر له هامسة بضيق واضح
"طفل وقح"
استمر (زين) بالابتسام بهدوء واتزان استطاع المحافظة عليهما بعيدا عن البلاهة والمرح والتي يتميز بهما شقيقه الآخر ، لتحرك بعدها رأسها بتعب من الهواء البارد والذي بدأ يسبب لها الصداع لتسير عندها بعيدا عنه وهي تتجاوزه بصمت ، ولكن ما ان وقفت بمحاذاته حتى وضعت كفها على كتفه قائلة ببرود غامض
"حظاً موفقاً بحياتك ايها الطبيب النفسي زين الفكهاني !"
اكملت بعدها سيرها بعيدا عنه وهي تغادر الحديقة بأكملها باتجاه باب الفناء الخلفي ، بينما اتسعت عينيه السوداوين من تركته خلفها وهو يستدير للخلف قائلا بصوت مشدوه
"كيف علمتي بأني احلم بأن اصبح طبيب نفسي ؟"
ولكن كانت (ماسة) قد دخلت من الباب بالفعل بدون ان تجيبه وهي تتركه يحترق بنيرانه ليعلم كيف عرفت عنه وكشفت حلمه السري ؟ ألا إذا كانت ساحرة وتستطيع قراءة الأفكار وهذا ليس بعيد عن ذات العيون الزرقاء !
____________________________
كان جو من الهدوء والرقي يسود بالحفلة الهادئة قبل ان يقطعها (محراب) وهو يرفع الكأس الخاص به بيده ليطرق عليه بالملعقة بيده الأخرى ليخرج عندها صوت رنان لفت الأنظار إليه بثواني وكل التركيز نحوه ، ليحوم عندها جو من الرهبة والسكون على نفوس الجميع وقد خفت الكلام بينهم نهائياً حتى لم يعد هناك اي اثر للضجة والتي كانت تلفهم قبل ثواني ، صدح بعدها بلحظات صوت (محراب) وهو يخفض الكأس للأسفل قائلا بوقار امام العيون المتطلعة بفضول
"اريد ان اقدم الشكر بهذه المناسبة والسبب والذي دفعنا لعمل هذه الحفلة الجميلة والودية والتي جمعت الشركتين معا ، هو السيد عزام نصران ورئيس شركة الاتصالات"
بدأ التصفيق الحار بالارتفاع تدريجيا بين الناس بحماس كبير ، بينما كانت الانظار متجهة لصاحب الشكر وهو (عزام) والذي كان يبتسم لهم بوقار متحفظ وهدوء ينضح بملامحه المتصلبة ، لينقطع بعدها الصوت ما ان عاد (محراب) للكلام وهو يرفع كفه عاليا بحزم ليتابع كلامه ونظراته ترمق الآخر بهدوء
"وإذا لم يكن هناك مانع من السيد عزام ، اريد ان اقول كلام مهم على الملأ وملاحظة صغيرة على طبيعة هذه الشراكة وسيرها"
ساد الصمت بينهم والأنظار معلقة بصاحب الإجابة والذي ارتفع حاجبيه بصدمة من المفاجأة الغير متوقعة قبل ان يحرك رأسه بالإيجاب بجمود ، ليحرك بعدها (محراب) عينيه بعيدا عنه وهو يتنقل بنظره بين وجوه البشر بتمهل والذين اعتاد على رؤيتهم بكل اجتماعاته ليدرس بنظراته جميع دواخلهم ، قال بعدها بابتسامة جادة تغضنت معها زواياها بغموض
"الجميع يعلم بأن كل من عمل معي وحدثت بعدها شراكة بيننا كانت دائما وما تزال مبنية على الثقة والمودة والصدق والأمانة والمتبادلة بين الطرفين ، وهي اهم خصال عليها ان تتميز بها اي شراكة معي ، وغير هذا فستنهار الشراكة وتبوء بالفشل قبل البدء بدون هذه الصفات ، فأهم شيء هو البدء بالأساس ومعالجته من البداية وألا ازداد المرض اكثر وتحول لوباء من الصعب ازالته من نفوس البشر ، لينتشر بكل العاملين بالشركة لننسى عندها الهدف الحقيقي من هذه الشراكة ، لينتهي حينها بخسارة فادحة للشركتين معا وليس الثقة بينهما فقط"
ساد الصمت بكل ارجاء القاعة برهبة بدون ان يسمع لهم اي نفس وكأن القاعة قد فرغت فجأة من الموجودين ولم يتبقى منهم احد ، ليتابع بعدها (محراب) كلامه ببرود وهو يتجاهل الصمت المحدق به ونظرات الرجل الآخر الجامدة عليه بقوة
"ولكن للأسف فقد اخترق السيد عزام هذه القوانين والمبنية بشركتنا منذ الأزل بدون ان يعلم اهميتها بالنسبة للسيد حوت الفكهاني ! لذا سأقولها وامام الجميع لتصبح عبرة بالنسبة لكل شخص يفكر بالعمل بشراكة تربطه مع شركتنا وهو بأنني ألغي هذه الشراكة نهائياً والتي لن اسمح باستمرارها اكثر من هذا ، فهي ليس لها مكان بشركتي ولا تستحق ان تعمل ويكون لها وجود بشركة حوت الفكهاني ، واتمنى حقا ان تكون قد وصلتكم رسالتي جيدا وفهمتم مقصدي ، امسية سعيدة"
مرت لحظات صامتة على الجميع قبل ان تبدأ الهمهمات الجانبية بالخروج تدريجيا بين الناس لينحل الصمت بينهم ويتحول لضوضاء صاخبة انتشرت بكل انحاء القاعة الواسعة ، ومشاعر من الذهول والوجوم والغضب بدأت بالانتشار بينهم بثواني معدودة ، بينما كان الوحيد الصامت من بينهم هو (عزام) والذي كانت ملامحه الهادئة بجمود تنضح بإعصار بداخله يوشك على الخروج للقضاء على البشرية بأكملها وهو يتلقى اكبر إهانة تلقاها بحياته العملية ستتناقلها الأجيال للسنوات القادمة !
ليقطع بعدها إعصار المشاعر والثرثرة الفارغة والتي لفتهم بسرعة مذهلة هو صوت الداخل من باب الشرفة الجانبية والذي كان يصرخ بأنين مكتوم استطاع لفت الانتباه إليه
"سيد نصران ! انظر ماذا فعلوا بي الخونة والذين كانوا يدعون النزاهة والشرف امامك ؟"
انفضت الناس من حوله بعيدا عنه ليظهر الرجل صاحب العبارة والذي كان يبدو بأبشع صوره بوجهه المهشم والمكدوم وسترته الرثة والدماء تقطر من جبينه لتشكل خط واضح على وجهه ، وهو يرتدي فوق عينيه نظارته المقسومة لنصفين ليتحول من رجل اعمال محترم لرجل متسول تورط بشجار مع اناس اكبر منه مكانة ورتبة .
كان (عزام) اول من تقدم نحوه بسرعة وهو ينظر له بذعر لأول ردة فعل تظهر على ملامحه منذ بداية الحفلة بعيدا عن الهدوء والذي كان يحافظ عليه طول الحفلة ، ليقف بعدها امامه وهو يمسك بكتفيه بحذر قائلا بجمود خطير
"من فعل بك هذا يا رضوان ؟"
رفع عندها نظراته بحقد وهو يشير بعينيه نحو جهة معينة بشر مكتوم ، لينظر بعدها للمكان والذي كان يشير له ليصدم بالمسؤول عن حالة مدير اعماله وهو ابن شريكه (احمد) والذي كان ينظر لكل من حوله ببرود جليدي وكأن شيء لم يكن ، عاد بنظره للواقف امامه بغموض دام للحظات وكأنه يحاول استجماع افكاره والتي عادت للتجمع برأسه بهدوء خطير ، ليعود للالتفات نحو السيد الكبير وصاحب الحفلة والذي ما يزال جامد بمكانه ينتظر نهاية المهزلة امامه وهو يخفي بوادر صدمته من فعلة ابنه بمهارة عالية يحسد عليها .
قطع الصمت صوت (عزام) لأول مرة وهو يقول باستنكار واضح بتلك النبرة الجامدة بحقد
"لا اصدق ما اراه امامي يا سيد محراب فكهاني ! لم اكن اعلم بأنكم قد انحدرتم لهذا المستوى الدنيء والحقير لتدخلوا شاب صغير مجرد عامل عندي بمخططاتكم الحقيرة لتنتقموا مني شخصياً ، وهو لا دخل له بكل هذا العمل بيننا ، ولكنك محق بشيء واحد وهو بأن هذه الشراكة عليها ان تنتهي هنا ، فأنا لا ارحب ابدا بشراكة اناس امثالكم كل ما يهمهم هو تدمير خصومهم وكل من يربطهم بصلة بدون الاهتمام لأحد او اعطاء شان لأحد !"
كانت الانظار تتنقل بحماس وتشوق بين مدير الأعمال الأول (عزام) والذي اظهر انيابه وبين مدير الأعمال الثاني (محراب) والصامت وكأنها حرب الثيران من سيفوز بينهم بهذه الحرب الباردة والتي تخفي من خلفها الكثير بمجال إدارة الأعمال ، بينما كان (احمد) يضغط على اسنانه بقسوة وهو يحاول ضبط اعصابه بشق الانفس لكي لا يخنق هذا الرجل المتسلط الذي يكون بعمر والده ومعه الاحمق والذي اخطأ عندما تركه يفلت من بين قبضتيه حياً بدون ان يقتله ، وما يسكته عن التدخل بهذه الحرب هي نظرات والده الصارمة والتي كانت تشيعه بقوة وحزم يفهمه جيدا ويعلم تبعاته ، ليتابع بعدها بلحظات (عزام) كلامه بتصلب وهو يسحب معه مدير اعماله من ذراعه بعيدا عنهم قائلا
"شكرا لك على الحفلة اللطيفة والتي لم يكتب لها النجاح للأسف ، واتمنى ألا تتكرر مرة أخرى مع اناس غير مضمونة نواياهم نحونا ، والآن وداعا وإلى لقاء آخر لن يكون مثل سابقه ، اعدك بذلك"
اختفى صاحب الصوت مع مدير اعماله لخارج القاعة الضخمة بهدوء مريب ، وما هي ألا ثواني حتى عادت الثرثرة المزعجة للأجواء والتي اصبحت خانقة للجميع ، والنصف الأول بدأ بمغادرة القاعة من خلف (عزام) والنصف الآخر ما يزال ينتظر بتأهب بقية الحرب الباردة بعيدا عن اجواء الحفلات الروتينية .
ولم يرى احد النظرات الخضراء الدامعة بشحوب والتي كانت تنظر للأجواء من حولها بأنفاس منقبضة ذاهلة وهي تمسك بكفها شفتيها مانعة الشهقات المذبوحة من الخروج وقبضتها الأخرى تضرب على صدرها بغصة وبذنب يعتصر فؤادها يكاد يقتلها حية !
____________________________
دخلت للغرفة بسرعة وهي تجري باتجاه سريرها قبل ان تندفع نحوه لتدفن وجهها بملاءته البيضاء الناعمة...وهي تجهش ببكاء مرير مرتجف اخرجته دفعة واحدة والذنب بصدرها ينهش جسدها بانقباض حاد بدون اي رحمة وكأنها مطرقة تضرب قلبها بقوة على فعلتها والتي دمرت حياة كثير من الناس وعلى رأسهم عمل خالها (محراب) بدون ان تقصد كل ذلك...وهي التي لم تكن تفكر سوى بحضور الحفلة والاستمتاع بوقتها كما كانت تتمنى منذ سنوات لينقلب كل شيء ما ان واجهت ماضيها والذي لطالما ابقته طي النسيان لفترة طويلة...فيبدو بأنه دائما هناك اشياء عليها ان تنغص عليها حياتها دوما مهما حاولت التظاهر بالسعادة والراحة الأبدية...ومن اين ستأتي هذه السعادة وماضيها ما يزال معلق بها وهو يلاحقها اينما ذهبت مثل قيد حديدي يقيد حركتها عن الحرية ؟...وهذا ما نحصل عليه دائما عندما لا نحذر مما نتمناه لنتحمل عندها نتائج افعالنا بأنفسنا !
شعرت بعدها بلحظات بيد تربت على شعرها والذي انحلت عقدته بعشوائية بدون اي كلام وقد كان هذا من الفتاة والتي لم تنتبه لوجودها بالغرفة من الأساس وهي نفسها من كانت تقف امام نافذة الغرفة العملاقة بشرود بعيدا عن الجميع ، قالت بعدها المدثرة على السرير وهي تميل برأسها نحوها بنحيب
"لقد اخطئتُ يا ماسة ! وخطأي هذه المرة كبير للغاية ، وقد يكلفنا حياتنا بهذا المنزل ، فهو اكيد لن يغفر لنا ما حدث ابدا !"
كانت ملامحها جامدة بدون اي تعبير منطوق وهي تستمع لصوتها المبحوح المتقطع والذي لم تستطع تبين اي كلمة منه ! وما هي المشكلة حقا والتي حدثت معها بالحفلة اوصلتها لهذه الحالة ؟ فهذه هي طبيعة (روميساء) التي تعرفها فتاة حساسة لأبعد الحدود وخاصة عندما تخطئ بحق احدهم كما الآن وحازمة بوقت الجدية عندما يخطئ احد بحقها او تلاحظ اخطاء الآخرين ، واما عندما تخطئ هي بحقهم فهي تنهار تماما وتُحمل نفسها كل المسؤولية كاملة لتتحول لفراشة جريحة تحتاج للمواساة والتجبير حتى تحل المشكلة الخاصة بها وتطمئن لحلها وبأنه ليس هناك احد قد تأذى من حلها ومن تبعاته .
عادت (روميساء) للكلام بنفس البحة الحزينة وهي تمسك بالعقد الالماسي من حول عنقها بيدها بارتجاف
"اشعر بنفسي سأختنق يا ماسة ، لما كل هذا يحدث معنا ولما يصر القدر على خلق مثل هذه العقبات امامنا بعد ان كنا قد تجاوزناها بصعوبة وانتهينا منها ؟!"
كانت تحرك رأسها بشرود واجم وكفها ما تزال تربت على رأسها برتابة صامتة ، لتعود (روميساء) للتنفس بتقطع من بين شهقاتها الحزينة وهي تهمس بانفعال ويدها تتلمس على عقدها وعلى باقي مجوهراتها بضياع
"هذه المجوهرات وكل هذا ليس لي ، ولم يخلق لي ابدا ، انظري ماذا حدث وما آلت إليه الأمور بأول يوم لي بتجربة الدخول لهذا العالم الغريب والذي لا ننتمي إليه ! لقد دمرته تماما ولم يتبقى احد لم يصله دماري ويتأذى ! لقد دمرت اعمالهم نهائياً وحياتنا بأكملها بعد ان كانت قد تحسنت قليلا"
عادت بعدها لدفن وجهها بانهيار قبل ان تنتفض فجأة وهي تمسك بكف (ماسة) باندفاع تلقائي قائلة بحزن عميق والعبرة ما تزال تخنق صوتها
"سامحيني يا شقيقتي الصغرى ، بدلا من جعل حياتنا مريحة وافضل من السابق دمرتها كلياً بسبب غبائي ورغبتي بتجربة عالم دمر حياتنا ، والآن سنضطر لمغادرة هذا المنزل وترك حياتنا الجديدة للأبد"
سحبت (ماسة) كفها بعيدا عنها وهي تنهض من جانب السرير بصمت ، بينما كانت النظرات الخضراء الندية معلقة بشقيقتها وهي تشهق بخفوت مرتجف خفت عن السابق ، لتهمس بعدها لأول مرة بتفكير غامض وهي تنظر لها بقوة
"تقصدين بأنهم سيطردوننا من المنزل بعد فعلتك !"
اندفعت بسرعة بعيدا عن الملاءة وهي تجلس فوق السرير قائلة بتعثر حزين
"ليس هكذا هو الأمر تماما....."
قاطعتها وهي تنظر بعيدا عنها قائلة بخفوت مشتد
"اسمعي يا روميساء ، اريد ان اقول لكِ امرا مهماً ، واتمنى حقا ان تسانديني به"
ابتلعت (روميساء) ريقها برهبة مع غصتها الحزينة وهي ترفع كفها لتمسح دموعها عن خديها بارتجاف شديد وعينيها الحمراوين من البكاء تنظران بتأهب لما ستقوله شقيقتها والتي تبدو كل علامات التحفز ظاهرة فوق ملامحها بقوة ، لتتابع بعدها الواقفة امامها كلامها بجمود نحت بملامحها الحجرية بقسوة وهي تقبض على كفيها بجانبي جسدها بقوة
"اريد ان نعود لمنزلنا القديم ، واقصد بكلامي منزل عمي قيس اليوم قبل الغد"
______________________________
كان يحدق به بصمت وهو يحك ذقنه بتفكير عميق ونظراته متغضنة بحدة مرعبة تستطيع القضاء على اعتى الرجال امامه ، فقد كانت نظراته الرمادية والتي تنذر بوشك حدوث عواصف رعدية غائمة تستطيع قلع الأخضر واليابس وهي معلقة بابنه والجالس امام المكتب بسكون وهو يسند قبضتيه فوق ركبتيه بهدوء وصمت ، ليبدأ بعدها (محراب) بالكلام وهو يعتدل بجلوسه بعيدا عن سطح المكتب قائلا بهدوء مريب
"إذاً هل ستخبرني بالسبب والذي جعلك تتصرف بكل هذه الهمجية والتي تخرج من ابن محراب الكبير لأول مرة ؟ والابن والذي سيتوكل اعمال العائلة من بعد محراب الفكهاني ليرفع اسمها عاليا كما هو متوقع منك ! ام ان بوادر الهزيمة قد بدأت بالظهور عليك من الآن ومن قبل ان تبدأ باستلام المكان !"
تنفس (احمد) بكبت وهي يشعر بجدران الغرفة تكاد تطبق على صدره بقوة وكلام والده يزيد من ضيقه اكثر مما هو فيه الآن ، فهذه هي طريقة والده بعقابه وعتابه وهو بأن يذكره بالمرتبة والتي سيصل لها والآمال المعلقة به منذ سنوات وأي خطأ صغير سيؤدي لدمار العمارة والتي بنيت فوق اتعاب سلالة عائلة الفكهاني ، وكأن كل اجداده يعتمدون عليه من بعد والده ليرفع اسم عملهم للأفق بدون ان يصدر منه اي خطأ ولو كان غير مقصود فهو بالنهاية بشر وغير منزه من الأخطاء ! ولكن من سيقتنع بهذا الكلام وهو يشعر بغضب والده الصامت يكاد يحرقه حيا وهو الذي اعتاد على إرضاءه بشتى الطرق لتكون هذه نقطة سوداء جديدة بحياته المثالية !
تابع بعدها بلحظات كلامه بقوة وهو يضم قبضتيه بتصلب فوق سطح المكتب
"والآن ألن تخبرني ما لذي حولك لهذه النسخة المتهورة والتي لا تفكر بعواقب افعالها مثل شقيقك الأصغر ؟ هل هي من افعال بنات الفاروق ؟ هل بدأت تتأثر بسحر النساء يا احمد ؟....."
قاطعه (احمد) وهو يقول بانفعال غاضب
"ابي ارجوك"
تصلبت ملامحه وعينيه تنظران لابنه ولكل تشنجاته بتركيز حاد ، ليعود بعدها (محراب) للكلام بقوة متجاهلا كلامه الأخير وهو يزيد من الضغط عليه بأسلوب المدراء الاشداء
"تكلم يا احمد ولا تزيد الظنون برأسي ، لما فعلت كل هذا بمدير اعمال عزام ؟ ما لذي جعلك تتصرف على هذا النحو المجنون وانت تظهرنا امام الناس بموقع المتهم الظالم والذي يفعل اي شيء من اجل الوصول لمصالحه ؟"
اتسعت عينيه بجزع ليقول بعدها بخفوت مرتبك
"قبل ان اخبرك بالسبب ، هل حقا انهيت الشراكة والتي كانت تجمعك مع عزام نصران ؟"
مرت لحظات مشحونة بالمشاعر المتنافرة قبل ان يقطعها (محراب) وهو يتمتم ببرود
"اجل هذا ما حدث ، والآن هل ستجيب على سؤالي ؟"
زفر انفاسه ببعض الراحة قبل ان يرفع وجهه بقوة باتجاه والده قائلا بجمود بارد
"لقد حاول التقرب من روميساء ، وقد رأيته معها بحديقة المنزل...."
قاطعه (محراب) وهو يقول بصرامة جادة بدون اي مواربة
"هل انت متأكد بأنك قد رأيته وهو يتقرب منها ؟ وليس هي من كانت تتقرب منه او قد يكون مثلا احد من معارفها !"
رفع حاجبيه بوجوم من تفسير والده للأمر والذي ذكره بكلامها عندما اخبرته حقا بأنه صديقها من بين موجة غضبه ، ولكنه يعلم جيدا بأنها كاذبة ولم تقل هذا سوى لحمايته من براثنه لا اكثر !
قال بعدها بلحظات بضيق وهو يشدد من القبض على كفيه بقوة
"غير صحيح يا أبي ، فقد رأيته بأم عينيّ وهو يراقب بها منذ بداية الحفلة بدون ان يتركها وشأنها ، وبالنهاية حاصرها بالحديقة ليحاول التقرب منها بطريقة دنيئة"
عقد حاجبيه بغموض وهو يهمس ببرود جليدي وعينيه تحاولان النفاذ لابنه بطريقته ليعرف كل دواخله
"هل هذا ما حدث حقا ؟ ام انه من نسج خيالك يا احمد ومن قلبك الملهوف عليها !"
ادار وجهه بسرعة نحو والده بصدمة دامت لثواني قبل ان يهمس باستنكار حاد
"ما هذا الكلام الغريب والذي تقوله يا أبي ؟....."
قاطعه بقوة وهو يضرب على سطح المكتب بقبضته بصرامة صدمته
"كفى هراءً يا احمد ! أتظنني طفلاً امامك لا اعرف ولا ارى ما يحدث بالمنزل من وراء ظهري ؟ او تظن بأني لا اعلم كيف استطاعت روميساء حضور الحفلة ومن اين جلبت كل هذه الثقة لتحضرها ! ومن اين حصلت من الأساس على الملابس والمجوهرات والتي تساوي ثروة طائلة"
ردّ عليه من فوره بحيرة مستاءة
"اتقصد بأنك لم تكن ترغب بحضورها للحفلة !"
عاد (محراب) للقول بصرامة حادة ترددت صداها بالغرفة الواسعة
"لا تغير الموضوع يا احمد ، وتكلم ما لذي يدور برأسك ويجعلك تعامل تلك الفتاة بكل هذا اللطف والودّ ؟ فلا تنسى بأنك بالنهاية رجل متزوج وعليه الحرص بعلاقاته النسائية جيدا"
تجهمت ملامحه من كلام والده والذي ضربه بالصميم وكأنه عليه دفع ثمن معاملته اللطيفة معها والتي تكون اقل ما تستحقه بعد حياة الشقاء والذل والتي عاشتها بعيدا عنهم وكأنهم ليسوا عائلتها ، انتفض (احمد) بعدها بلحظات واقفا عن الأريكة وهو يقول باستهجان واضح
"ليس هذا ما كنتُ اتوقعه منك يا أبي ! الشكوك وظن السوء بي وانت الذي تعرفني جيدا وقد تربيتُ على يديك وكنت دائما مثلي الأعلى وافضلك بكل شيء على والدتي ! وبخصوص روميساء فأنا لم اخطئ ابدا بمعاملتي معها فهذا ما تستحقه فتاة حرمت من العيش بين عائلتها الحقيقية والمرفهة لتدفع ثمن خطأ لم ترتكبه بحياتها"
ساد صمت ثقيل على كليهما بعد كلماته وهو يطلق اتهامات مجحفة باتجاه والده تخرج منه لأول مرة بكل هذا القهر ، فهو بحياته لم يعارض على اي قرارات تخرج من والده وحتى لو كانت خاطئة وقاسية وبها ظلم بحق الآخرين ، فهو يبقى كبير العائلة وقدوته والذي عليه ان يقتدي به ويسير على خطاه مهما كانت تلك الخطى مليئة بالألغام والظلم .
استدار بعدها بلحظات بعيدا عن والده الجامد بمكانه كالصرح والذي لا يهزه ريح ، ليستمع بعدها لصوت والده وهو يقول بحدة اخفت تحمل من القوة والكراهية الكثير
"اسمع ما سأقوله جيدا يا احمد فأنا لن اكرر كلامي مرتين ، إياك وان تحاول التعمق بعلاقتك مع بنات مايرين فقد يلقون عليك بلعنة باستخدام جمالهما الملفت للأنظار ! فأنا ادرى الناس بهذا الجمال والذي يجلب اللعنة لحياة افراده مثل ما حدث معنا بسبب عمتك مايرين ، لذا املي بك بأن تبقى بعيدا عن مجالهما ودائرة تفكيرهما ، فهما بالنهاية ليسوا من عائلة الفكهاني بل من عائلة الفاروق واقامتهما معنا هنا لإبعاد الشبهة عنهما وكل من يفكر بأذيتهما لا اكثر ولا أقل"
زفر (احمد) انفاسه بتشنج غاضب والأفكار تتصارع برأسه بتناقض بحلبة عقله بدون ان تتركه وشأنه ، ليحرك بعدها رأسه ببرود بدأ يؤلمه وهو يشعر بصداع من كل ما يحدث معه سيشطره لنصفين ، ليغادر بعدها من غرفة المكتب بأكملها بصمت قاتل وبسكون لف المكان بأكمله بثواني .
_______________________________
احتضنت حقيبة ملابسهما بحجرها وهي شاردة بالطريق المتحرك بجانبها بسلاسة ونشاط بالنسبة لصباح يوم جديد ومشرق ، وجميع البشر قد بدأوا بالتحرك كل منهم نحو وجهته وهدفه بالحياة بحماس بالغ سيتبخر بنهاية اليوم ككل الأيام السابقة .
التفتت (روميساء) جانبا وهي تقول بشحوب حزين
"كان من المفترض ان نخبرهم عن مغادرتنا للمنزل ، وان نشكرهم على حسن ضيافتهم معنا"
رمقتها (ماسة) بضيق من إعادتها نفس الموضوع معها منذ مغادرتهما للمنزل بدون علم احد ، لتقول بعدها بنفاذ صبر حانق
"روميساء لقد اخبرتكِ بأننا لسنا مدينين لأحد بشيء لنقلق على مغادرتنا لمنزلهم بدون علمهم ، وضيافتنا عندهم لم تتجاوز الأسبوع حتى ! وايضا لقد اعدنا كل شيء يخصهم لمكانه الصحيح واقصد بكلامي الثوب والمجوهرات ، لذا لا داعي لتفكري بهم وهم اصلا لم يفكروا بنا يوماً !"
عبست ملامحها بأسى وهي تهمس بنشيج
"ولكن...."
قاطعتها بعصبية بالغة وهي تقبض على كفيها بحجرها بقوة
"ارجوكِ يا روميساء ، فلنتوقف عن التكلم عن هذا الموضوع رجاءً"
اعادت نظراتها للنافذة بجانبها بشرود شاحب بدون ان تعلق على كلامها الأخير ، لتقول بعدها بلحظات بتفكير واجم
"لم تخبريني حتى الآن ، لما خطرت على بالكِ فكرة العودة لمنزل عمي قيس بهذا الوقت ؟ ظننت بأنكِ قد تخليتِ عن فكرة العودة تماما !"
تجمدت ملامحها ببرود صخري وهي تفكر بكلام (مازن) والذي لم يبارح ذهنها منذ البارحة فقد ملت كثيراً من تهديداته ومضايقاته لها على مدار سنوات طويلة ، وتعلم علم اليقين بأنه لا يهدد احدا من فراغ !
قالت بعدها بابتسامة هادئة غير معبرة
"تعلمين جيدا بأني لم احب ابدا فكرة العيش بمنزل الخال محراب فهو بالنهاية ليس مكاننا الحقيقي ، وايضا انتِ قلتِ بأننا سنطرد من المنزل بكل الأحوال ، لذا من الأفضل ان نخرج منه بكرامتنا افضل لنا"
ردت عليها من فورها وهي ترفع حاجبيها ببهوت
"ولكني لستُ متأكدة تماما ، إذا كان سيطردنا ام لا ، او إذا كان سيؤثر على حياتنا ، فأنا قد دمرتُ شراكة عمله بأكملها بفعلتي"
كانت (ماسة) تنظر بعيدا عنها بدون ان تفكر بسؤالها عن فعلتها تلك والتي لم تخبرها عن طبيعتها للآن والتي قلبت حياتها هكذا ، ليدوم الصمت بينهما طول الطريق وقد بدأت رحلتهما قبل موعد الشروق بساعات بسبب طول المسافة بين المنطقتين .
وقفت بعدها بلحظات سيارة الأجرة ببداية طريق الحيّ والذي يوصلهم لمنزلهم بسبب ضيق الطرقات هناك والذي يمنع بها دخول السيارات إليها .
خرجت (روميساء) من السيارة بعد ان حاسبت السائق وهي تضع حزام الحقيبة فوق كتفها بهدوء ، لتشعر بعدها بتحرك سيارة الأجرة بعيدا عنهما وهي تخلف الغبار من خلفها .
وقفت الأخرى بجانبها بصمت وهي تقول بخفوت لا يكاد يسمع
"هل تذكرتِ شيئاً ؟"
التفتت (روميساء) بوجهها نحوها بهدوء قبل ان تهمس بابتسامة شاردة
"تقريبا"
حركت رأسها ببرود وهي تتحرك بعيدا عنها باتجاه الطريق المؤدي لمنزلهما ، بينما لحقتها (روميساء) بخطوات هادئة بدون ان تنطق بأي كلمة ، وذكرى بعيدة ترافقهما لتطرق ذكريات الماضي عن اول زيارة لهما بهذا الحيّ مع زوج والدتهما والذي اصبح بالنسبة لهما كل شيء بعالمهما الصغير .
فتحت (ماسة) باب المنزل امامها وهي تدفعه بدون استخدام المفتاح لتدخل إليه بصمت ، بينما كانت (روميساء) تتابعها بحيرة قبل ان تصل لها بخطوتين وتمسك بذراعها بقوة وهي تقول بجدية عابسة
"ماسة هل هذا المنزل ما يزال مؤجر لنا ؟ ام ان هناك شخص آخر استأجره !"
قاطع عليهما حوارهما صوت ناعس وهو يقول بكسل واضح
"مرحبا ببنات زوجة عمي قيس ، شرفتما منزلي المتواضع"
افلتت (روميساء) ذراعها لتستدير نحوه بقوة قبل ان تتدارك صدمة وجوده بالمنزل لتقول بلحظة بعبوس متجهم ناظرة لهيئته الفوضوية بتفحص
"ما لذي تفعله بمنزل قيس يا مازن ؟ ولما تقول بأنه منزلك ؟"
تقدم (مازن) بعيدا عن باب الغرفة بخطوات كسولة ليقف امامها بثقة قبل ان يفرد ذراعيه قائلا بترحاب وبشاشة بالغة
"مرحبا بالجميلة روميساء ، أتعلمين بأنني قد اشتقتُ لكِ كثيرا ولكن ليس بالقدر والذي اشتقتُ به لشقيقتك !"
ارتفع حاجبيها بانشداه مصدوم لتتحول ملامحها بلحظات لصرامة حادة معتادة على إظهارها امام امثاله وممن يتجاوزون حدودهم معها بدون اي حياء ، لتقول بعدها بحزم وهي ترفع اصبعها نحوه بتهديد واضح
"لا تحاول تجاوز حدودك معنا يا مازن ، فأنا ما أزال احترمك للآن من اجل مكانة والدك والقرابة والتي تربطك بعمي قيس ، لذا لا تجبرني ان استخدم معك طريقة اخرى ستقلل كثيرا من قيمتك !"
كان (مازن) يبتسم لها ببرود وهو ينظر لصرامتها الشرسة والشبيهة بصرامة شقيقتها ، ليقول بعدها ببلادة وهو ينظر للواقفة بجانبها بخبث واضح
"ولكني لم اخطئ بالكلام معكِ ولم اكذب عندما قلت بأن هذا المنزل قد اصبح منزلي ، ولكني سأسمح لكما بالعيش فيه وسأسامحكِ على كلامكِ هذا فقط لأنكِ شقيقة زوجتي المستقبلية......"
صرخت (ماسة) فجأة بانفعال حاد
"كفى يا مازن"
حرك عينيه العسليتين الناعستين بعيدا عنها ببرود مستفز ، لتتدخل بعدها (روميساء) بالكلام وهي تلتفت بقوة نحو شقيقتها قائلة بذهول غاضب
"ما لذي يجري هنا يا ماسة ؟ وهل الكلام والذي يقوله هذا المخبول صحيح ؟"
رفعت مقلتيها الزرقاوين باتجاه شقيقتها بغموض للحظات ، لتقول بعدها بتصلب خافت وهي تمسك بذراع شقيقتها بقوة
"لقد تأخرتِ كثيرا على عملكِ يا روميساء ، وعليكِ الذهاب بسرعة وتجهيز نفسكِ قبل ان تضيع فرصة العمل الأخيرة منكِ"
زمت شفتيها بتفكير وهي تنظر لها بشحوب حزين فهي على حق بكلامها وهذه تكون فرصتها الأخيرة والمتبقية لها بالعمل ولا تريد ان تُطرد منها بعد ان وجدتها اخيرا وهذا بعد عناء طويل ، لتسير بعدها بسرعة بعيدا عنها باتجاه غرفتهما وهي ما تزال تحمل حقيبة ملابسهما على كتفها ، ولم تنسى ان تلقي نظرات مستنكرة وغاضبة باتجاه المسمى (مازن) وهي الذي لم ترتح له يوماً بحياتها .
تجمدت (ماسة) بمكانها وهي شاردة بأثر شقيقتها ببهوت ، لتسمع بعدها صوت ساخر وهو يقول بقربها ببلاهة مزعجة
"شقيقتك بريئة للغاية ولا تعرف شيئاً عن مخططاتنا ، هذا امر مؤسف للغاية ، لقد اثارت شفقتي عليها حقا"
التفتت (ماسة) نحوه بحدة وهي تقول بتحذير حاد
"إياك يا مازن ان تُدخل شقيقتي بمخططاتك الوضيعة او ان تُسمعها منك كلام طائش لا معنى له ! ووجودي بهذا المنزل سيكون حل مؤقت حتى نجد مسكن آخر غيره ، لذا لا يذهب تفكيرك لبعيد يا ابن جلال"
اختفت الابتسامة عن وجهه قبل ان يقترب منها عدة خطوات وهو يقول بهدوء مريب
"لا بأس يا ماسة افعلي ما تشائين وبكل ما ترغبين بفعله ، وانا سعيد جدا بعودتكِ لمنزل قيس ، فهو سيبقى دائما مفتوحة ابوابه امامكِ يا جميلتي"
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بغضب بدون ان تعلق على كلامه ، ليتابع بعدها (مازن) كلامه بسعادة مصطنعة وهو يكمل طريقه لخارج المنزل
"خذا راحتكما كاملة بالمنزل ، فأنا سأغادر من هنا ، ولكني سأعود يوماً ما وهذا سيكون قريباً جدا"
كانت (ماسة) تستمع لكلامه ببرود وهي تنظر بعيدا عنه بحدة وتحديدا لسقف المنزل من فوقها والمتشقق باصفرار والذي يختلف تماما عن السقف المزين بالدهان الابيض والذي كانت تراه بالأيام السابقة والتي عاشتها بمنزل خالها ، فهل اخطئت بعودتها لهذا المنزل والذي يحمل اتعس ذكرياتها لها ولشقيقتها ؟
______________________________
كانت ترفع كفها عاليا وهي تكتب بالطبشور على طول اللوح امامها بشرود مشوش اصبح يلازمها مؤخراً ، لينكسر بعدها عامود الطبشور بأصابعها للمرة والتي لا تعلم كم من كثرة ما انكسر معها بدون ان تعرف السبب لذلك ! لتعود لإلقائه بعيدا بسلة المهملات قبل ان تلتقط طبشور ابيض آخر من على سطح المكتب ، تنفست بعدها بضيق ما ان عادت الضحكات المكتومة بالخروج من الاطفال المشاغبين من خلفها ، وهي لا تعلم ما هي طبيعة هؤلاء الاطفال والذين لا يتعلمون الدرس من أول مرة ومنهم من يستمتعون بهذه الافعال وإغاظتها بها بتكرارها بصورة مستمرة ؟
التفتت (روميساء) بسرعة نحوهم بقوة وهي تلقي بالطبشور ارضا لا إراديا من فرط الغضب حتى تكسر لألف قطعة لتقول بعدها بتحذير قاطع
"ما هو الذي يدعو للضحك الآن ؟ وكم مرة أخبرتكم بأني لا احب سماع الضحكات من وراء ظهري !"
صمتت الضحكات تماما للحظات قبل ان تعود بصخب ما ان قال طفل وقح من بينهم ببراءة مصطنعة
"لما كل هذا الغضب يا استاذة روميساء ؟ وما ذنب الطبشور لتنفثِ به غضبكِ هكذا ؟ إذا كنتِ ترغبين سأحضر لكِ بنفسي طبشور منيع عن الكسر"
عبست ملامحها بحنق وهي تكاد تنفجر من الضغط والذي تشعر به وهؤلاء الأطفال يزيدون من إحباطها وسخطها وكأنه ينقصها مزيد من صداع ووجع الرأس ، لطالما احبت التدريس وعشقته عندما يقربها من الاطفال الأحب على قلبها ، ولكن هؤلاء الاطفال لا يستحقون اي نوع من المحبة بل يستحقون الضرب والقسوة لكي يتعلموا احترام الكبار ويعتدلون بتصرفاتهم ، فليس اللين والرفق هو الحل بكل شيء وهذا ما تعلمته من تعايشها مع هؤلاء العفاريت .
انتفضت فجأة صارخة بكل قوة وهي تضرب بقبضتها على سطح المكتب لتوقف صوت الضحك المرتفع والذي اتلف اعصابها المتعبة
"كفى توقفوا عن الضحك ، ألم تتعلموا شيئاً عن احترام الأكبر منكم سنا ومكانة وعدم السخرية منه مهما حدث ؟ وهو يحاول بكل جهده تقديم العلم لكم ولعقولكم الفارغة !....."
صمتت ما ان سمعت صوت اعلى منها صرامة وهو يصرخ بأمر
"من الذي تجرأ واغضب المعلمة ايتها الحيوانات عديمة التربية ! من اجل ان احيل حياته لجحيم"
عضت (روميساء) على طرف شفتيها باستياء وهي ترفع قبضتها لجبينها لتضربه برفق على الورطة والتي وقعت بها الآن لتكتمل مصيبتها مع وجود هذا المدير العابث والذي يترصدها بكل فصولها ، لتلتفت بعدها بحذر نحوه ما ان شعرت بخطواته المقتربة منها وهو يسير باتجاهها بثقة عالية يحسد عليها .
اخفضت قبضتها وهي تبتلع ريقها برهبة لتبتسم عندها بهدوء مرتجف وهي تحاول تجميع خيوط ذهنها المنهك لتكون معه ، وقف امامها تماما وهو يتجول بنظراته بين الطلاب الصامتين بغضب ليصل بنظره للواقفة بجانبه وهو يتمعن بعينيها الخضراوين المهتزتين وخيوط من الإنهاك محفورة حول حدقتيها بوضوح ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية بغموض
"يبدو بأنكِ لستِ على طبيعتكِ اليوم يا روميساء ، ما لذي حدث معكِ ؟ هل تعانين من امراض وتخفين عني الأمر ؟"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي ترفع كفها لتدس خصلات شعرها لخلف اذنها برفق قائلة بعملية
"كلا لا اعاني من اي امراض يا سيدي المدير ، فقط اشعر بإنهاك طفيف وصداع من قلة النوم ، لا شيء مهم"
حرك (نادر) رأسه وهو يمثل التفهم الشديد ليمسك بعدها بذقنه قائلا بإيجاز
"واكيد هؤلاء العفاريت الصغيرة يسببون لكِ صداع فوق صداعكِ ، ولكن لا تقلقي فأنا اعرف جيدا عملي معهم"
عقدت حاجبيها بوجوم وهي تهمس ببرود قاسي بدون ان تمنع نفسها
"وما هو الذي ستقدر على فعله معهم يا سيدي المدير ؟ لو انك حقا تعرف عملك معهم لما انتظرت كل هذا الوقت بعد ان اصبح من الصعب السيطرة على تصرفاتهم المتمردة والتي تعرقل سير عمل المعلمات ! ولكني اعلم جيدا السبب وهو الخوف من خسارتهم وتوقف دعم الحكومة لمدرستكم العتيقة"
كان (نادر) ينظر لها بجمود بدون اي تعبير وحاجبيه يرتفعان للأعلى بخطر وشيك وهو يستمع لإهانتها العلنية عن مكانته بالعمل والتي تخرج لأول مرة من موظفيه ، بينما تداركت (روميساء) نفسها وهي تقول بارتباك شديد
"انا اعتذر حقا ، لم اقصد ان اهينك بكلامي يا سيدي المدير...."
قاطعها بغموض وهو يعود للابتسام بهدوء
"لا بأس يا روميساء ، ولكني لن اترككِ تكملين عملكِ بالفصل بهذه الحالة المزرية ، فأنا لستُ مدير عديم الرحمة لهذه الدرجة ، لذا اريد منكِ ان تتفضلي معي لمكتبي لتوقعي على اوراق خروجك"
اومأت برأسها باهتزاز فقد استنفذت عندها كل طاقتها والتي كانت تملكها بحوزتها وإذا بقيت بهذا المكان اكثر من هذا وبين هؤلاء الطلاب فأكيد سيغشى عليها بالنهاية ، تحرك بعدها من سبقها بالخروج من الفصل بصمت مريب ، لتمسك بعدها بحقيبتها وهي تضعها فوق كتفها بصمت قبل ان تسير بثبات لخارج الفصل بدون ان تعلق بأي كلمة وقبل إطلاق جرس انتهاء الحصة .
دخلت للمكتب بهدوء وهي تنظر للمدير والذي كان يجلس على الأريكة امام المكتب وهي يضع اوراق امامه ، وما ان لمحها حتى قال بابتسامة جانبية بارتياب
"تعالي واجلسي يا روميساء ، لقد جهزت لكِ اوراق خروجك لتستطيعي اخذ راحة بالباقي من يومكِ"
تقدمت باتجاهه بخطوات حذرة قبل ان تجلس على بعد مسافة منه بتردد متوجس ، ليقول (نادر) بعدها وهو يحاول الالتصاق بها تماما مشيرا بذراعه امامه للأوراق ببساطة
"أرأيتِ كم من الكرم والذي اتمتع به بقلبي نحوكِ ! صدقيني ليس كل الناس يحصلون على هذه المعاملة المميزة والتي تحصلين عليها مني"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تنظر للأوراق امامها بتشوش تائه ، لتقول بعدها بتركيز وهي تقبض على كفيها بتصلب على وشك خسارته
"اين هو القلم لأوقع به على الأوراق ؟"
اخرج (نادر) بلحظات القلم من جيب سترته وهو يرفعه امام وجهها قائلا بابتسامة بدون اي مرح
"هذا هو القلم"
رفعت كفها بهدوء بدون ان تنظر إليه لتحاول إمساك القلم والذي وقع منه فجأة بقصد منه ، ليقول بعدها بحزن مزيف وهو يهمس بجانب اذنها
"اعتذر حقا يا روميساء ، فيبدو بأنه قد انزلق من يدي بدون قصد"
اشاحت بوجهها بضيق وهي تتنفس بانقباض لتهمس بعدها بجمود
"لا بأس ، انا سأحضر القلم بنفسي"
ولكن ما ان كانت ستتحرك من مكانها خطوة حتى قيدها بذراعه على حين غرة وهو يحاوط كتفيها بقوة قبل ان يهمس عند جانب وجهها بتسلية واضحة
"إلى اين تريدين الهروب مني يا جميلة ؟ لقد اصبحتُ افقد السيطرة على نفسي بسرعة وليس من الجيد ان تدفعيني لكل هذا الانتظار العقيم !"
رفعت قبضتيها بحذر وهي تحاول إبعاده عنها بدفع صدره قائلة بجزع
"هلا ابتعدت عني رجاءً ؟ فأنت الآن تتجاوز حدودك معي"
شدد (نادر) من معانقة كتفيها وهو يقترب من جانب عنقها قائلا بغضب مكتوم
"انتِ التي بدأتِ تتجاوزين حدودكِ معي بإهاناتكِ المبطنة نحوي ، ولكني لا امانع هذا فأنا احب كثيرا هذا النوع من الفتيات ويثير عندي غريزتي والتي لن تهدأ ابدا قبل ان تحصل على مرادها"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تحاول تجميع افكارها الهاربة منها بخضم ما يحدث معها ، لتهمس بعدها باستياء مشوش
"ولكن هذا الذي تفعله لا يناسب ابدا مكانة مدير مدرسة ! وخاصة بأنك متزوج"
رفع (نادر) رأسه عاليا وهو يضحك بسخرية قائلا بدهشة قميئة
"من اخبركِ يا بلهاء بأني متزوج ؟"
اخفضت نظراتها وهي تقول بتلعثم متوجس
"لقد كنت تتكلم معها ، بذلك اليوم....."
ردّ عليها ببساطة وهو يلصق شفتيه بجانب اذنها بعبث
"تلك لم تكن زوجتي"
اتسعت عينيها الخضراوين بذعر مشدوه وكأنها افاقت على نفسها وهي تستعيد كل كلماته بتلك المكالمة المريبة بأول مقابلة بينهما ، لتنتفض بعدها صارخة وهي تدفعه بكل قوة بعيدا عنها بغريزة الخوف
"ابتعد عني يا منحرف وإياك وان تقترب مني ولو قليلا ، وألا فضحتك بكل المدرسة وشوهت سمعتك والتي لا تليق بمدير عابث مثلك !"
استطاعت التحرر من تقييده لتجري بسرعة نحو باب الغرفة وهي تحاول فتحه بصعوبة لأول مرة من فرط الذعر والذي تشعر به ، ولكن ما ان استطاعت فتحه اخيرا حتى عاد لأغلاقه بقوة بقبضته وهو يقول من خلفها بغضب بدأ يظهر على ملامحه بوحشية
"اخبرتكِ بأنكِ لن تستطيعي الهروب مني ، ليس هذه المرة ايضا فقد مللت من لعب دور المشاهد معكِ والدوران حولكِ حتى تفهمي ما اريده منكِ ، وهذا سيكون بلا شك ثمن عملكِ معنا هنا بهذه المدرسة ، فلا تظني بأني من الكرم أن اوظفكِ عندي ببساطة واطرد المعلمة القديمة من اجل ان تحلي مكانها بسمعتك السيئة !"
تجمدت يديها فوق مقبض الباب بصدمة وهي تستمع لأمور لم تكن تعلم عنها وقد ضربتها بالصميم لتزيد من شعورها بالإهانة والقذارة والتي عاشت عليها منذ سنوات طويلة لتصل بالنهاية لمستوى لم تصل إليه بحياتها وكله من اجل وظيفة تعيش عليها ، عادت بعدها لتشدد على مقبض الباب بقوة تجتاحها لأول مرة وهي تهمس بجمود صخري
"شكرا لك لأنك وضحت لي هدفك الحقيقي من توظيفي هنا ، فهذه الوظيفة لم تعد تروقني ابدا وليست من مستواي ، لذا عذرا منك إذا كان قد حدث بيننا سوء تفاهم"
تغضن جبين (نادر) بعدم استيعاب متجهم وملامحه تزداد شراسة ممتقعة ، بينما استغلت (روميساء) لحظة شروده لتدفع الباب للخلف بقوة وهي تدفع قبضته بعيدا عنه لتخرج بسرعة من غرفة المكتب بأكملها بلمح البصر .
ما ان وصلت بلحظات لمدخل المدرسة وهي تجري بتعثر من تكدس الدموع بحدقتيها بخنوع حتى اصطدمت بجسد صلب كان يسير للداخل عكس مسارها ، لتشعر بعدها براحة غريبة وكأنها قد وصلت لنقطة النهاية بحياتها وهي تتعرف على هذا الحضن والجسد بغريزة فطرية ، لتعانق بلحظة خصره بذراعيها تلقائياً وهي تخرج كل ما كانت تكبته بداخلها ولم تستطع يوماً اخراجه امام احد فقط كي لا تضعف امام نفسها حتى انهارت تماما وهي تصل لحافة الهاوية ولم يعد هناك اي مجال للتراجع الآن .
______________________________
كانت ترتب الأوراق امامها وهي تسلمها الواحدة تلو الأخرى لوالدها والجالس امام المكتب ليختم الورقة بيده بالختم الخاص بالعمل وهي تجلس على مقعد بجانبه تماما ، ليقطع انسجامهما بالعمل صوت الذي دخل للمكتب وهو يقول بعملية جادة
"عذراً سيد جلال على المقاطعة ، ولكني احتاج لتختم لي هذه المنشورات لأستطيع توزيعها على المكاتب"
قبضت بيديها على الأوراق بقوة وهي تنظر للأسفل بوجوم صامت ، بينما قال (جلال) بهدوء وهو يحرك رأسه بالإيجاب ليرفع ذراعه نحوه
"اعطني المنشورات وانا سأختمها لك بنفسي ، وبعدها يمكنك توزيعها على المكاتب"
رفع (جواد) كفه بالمنشورات ليلتقطها منه الجالس امامه قبل ان يبدأ بختمها بسرعة وسلاسة ، بينما كانت تحاول الجالسة بالقرب منه تعمد عدم النظر له وهي تنظر للأوراق بين كفيها بتركيز لم يعد له وجود منذ دخوله بعد ان شوش عليها افكارها .
رفع بعدها بلحظات المنشورات باتجاهه وهو يقول باتزان
"لقد اصبحت جاهزة ، يمكنك الآن نشرها وتوزيعها ، ولا تنسى بأن هذا العمل عليه ان ينتهي بعشر دقائق"
ابعد عينيه بسكون عن الفتاة الصامتة والتي تتقصد عدم النظر له ، ليرفع بعدها يده وهو يلتقط المنشورات منه بهدوء لينظر لها بتركيز وهو يتصفحها بين يديه بصمت .
رفع نظراته السوداء القاتمة باتجاه الجالس امامه وهو يقول بابتسامة هادئة غير معبرة
"شكرا لك على وقتك يا سيد جلال ، ولكن هناك مشكلة صغيرة احتاج مساعدتك بها"
زمت (صفاء) شفتيها الورديتين بحنق وهي تفكر بما يريده من والدها الآن وما هي المشكلة والتي يواجهها ليستنجد برئيسه ؟ قال بعدها (جلال) بابتسامة متسعة بقوة
"تفضل ابني جواد ، اخبرني بمشكلتك"
حرك رأسه بهدوء وهو يعود بنظره للتي ما تزال متمسكة بصمتها بعناد قبل ان يقول بابتسامة جانبية بإحراج
"انا حقا خجل مما سأطلبه منك يا سيد جلال ، ولكني لا استطيع ان انكر بأني احتاج لمساعدتك بشدة"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يتمتم بجدية
"تكلم بني ، لقد اقلقتني !"
بقيت (صفاء) على جمودها وهي تشتعل بنيران الرهبة والتوجس مما سيطلبه من والدها فهذا الشخص لا تستطيع ان تأمن له بالخير ابدا ، ليقول بعدها من حرك حدقتيه جانبا بهدوء بالغ وهو يلوح بالمنشورات بيده
"المشكلة هي بأنني لا استطيع توزيع المنشورات على مكاتب المنطقة المقصودة بعشر دقائق فقط وهذا سيأخذ مني وقتاً طويلاً ، وانا احتاج لكل دقيقة بالعمل من اجل ان انجز ما تبقى لدي من مهام أخرى ، وانت تعلم ايضا بأني لا استطيع تأجيل وقت توزيع المنشورات فقد تأخرنا عليهم بما فيه الكفاية"
حرك (جلال) رأسه بتفكير عميق وهو يقول بهدوء
"انت على حق بكلامك ، ولكن كيف سنحل هذه المشكلة فالوقت امامنا ضيق جدا ؟"
تنهدت براحة وقد بدأت ملامحها المشدودة تلين ما ان تبين بأنه امر لا يخصها بشيء وليس لها علاقة به ، بينما قال (جواد) فجأة بحزم مريب
"الحل هو بأنني احتاج لمساعدة رفيق معي ليوزع نصف المنشورات بالمكاتب الموجودة بمنطقة معينة وانا اتكفل بالمناطق الأخرى ، لنستطيع الانتهاء من العمل على الوقت بدون ان يأخذ منّا وقتاً طويلا"
رفعت رأسها بسرعة بوجل بدون صوت وهي تنظر له بحنق مشتعل فهي متأكدة بأنه كان يقصدها بكلامه ويريد ان يورطها معه لتساعده بمهامه فقد اصبحت تفهم جيدا طريقة تفكيره المراوغة بمكر ، لتتلاقى بعدها عينيها العسليتين الحانقتين مع عينيه السوداوين العميقتين للحظات وهو ينظر لها بتركيز شعرت به ينفذ لروحها ليزهقها بين يديه بقوة وبدون اي رحمة وكأنه يتحداها ان تتكلم بخصوص هذا الأمر !
اخفضت نظراتها بضعف ما ان صدح صوت (جلال) وهو يقول بجدية صارمة
"أليس هناك احد من العاملين لديه وقت ليذهب معك ويساعدك ؟ او انتظر انا سأطلب منهم الحضور ومساعدتك....."
قاطعه (جواد) وهو يقول بابتسامة هادئة بجدية
"لا داعي لفعل ذلك يا سيد جلال ، فمنهم من لم يأتي للعمل بعد ومنهم من وصل لعمله الآن ولا يجد الوقت لأحد"
تغضن جبينه بتفكير عميق وهو ينظر حوله بهدوء لتقع نظراته على ابنته والناظرة للأسفل بجمود ، ليقول بعدها بابتسامة حنونة وهو يربت على كتف ابنته بقوة
"ابنتي صفاء تستطيع مساعدتك ، فهي تعلم جيدا ما عليها فعله وقد استلمت مهام توزيع المنشورات اكثر من مرة وبمناطق مختلفة ، لذا هي ستكون افضل رفيق لك"
انتفضت المقصودة بالكلام وهي ترفع وجهها لوالدها بارتباك وقد حدث ما كانت تتوقعه تماما ، لتهمس بعدها باستنكار عابس
"ولكن يا ابي ، أليس هناك احد غيري ليستلم هذه المهمة ؟...."
عاد (جلال) للكلام وهو ما يزال يربت على كتفها بقوة قائلا بثقة بالغة
"اذهبي معه يا ابنتي فهو يحتاج للمساعدة ، وانتِ افضل من يساعد بهذه الأمور ، ولا تخافي من جواد فأنا اعرفه جيدا فهو شخص محترم وشريف ومجتهد جدا بعمله ولن يمسكِ بسوء"
فتحت (صفاء) شفتيها اكثر من مرة وهي تحاول صياغة كلام منطقي لتتهرب من هذه المهمة والتي سقطت عليها من العدم ، لتقول بعدها بابتسامة شاحبة بلطف
"ولكنك تحتاج لمساعدتي يا ابي بالأوراق وبالختم ، ولا تستطيع فعل كل شيء لوحدك"
قال (جلال) بابتسامة متسعة بتغضن وهو يمسح هذه المرة على رأسها بحنية
"لا تقلقي من هذه الناحية فأنا استطيع إكمال عملي لوحدي فهو ليس بالشيء الصعب ، واساسا لم يتبقى لدي سوى القليل وانهي عملي هنا"
عبست ملامحها بارتجاف وهو يغلق عليها كل السبل بوجهها للنجاة منه ، ليقطع عليها تفكيرها صوت (جواد) وهو يقول بجفاء خافت
"هل ستذهبين معي يا آنسة صفاء لأوصلكِ للمنطقة والتي ستوزعين بها المنشورات ؟ ام اني اثقل عليكِ كثيرا بهذه المهمة !"
اومأت برأسها بالإيجاب بهدوء بدون اي كلام وهي تنظر لنظرات والدها الحانية بفخر ، لتتحرك بعدها بتثاقل وهي تتحامل على نفسها لتنهض عن المقعد ببطء وتلتقط حقيبتها معها لتضعها فوق كتفها بهدوء واجم .
سارت باتجاه (جواد) والذي سبقها بالخروج لتقول بلحظة وهي تلتفت بنصف وجهها نحو والدها وبابتسامة صغيرة بحنان
"وداعا يا ابي"
لتغادر بعدها خلف (جواد) بسرعة قبل ان تخرج من بناء دار النشر بأكمله ، لتلمحه بعدها من بعيد وهو يشير لها لسيارته لتصعد معه قبل ان يركب هو بمقعد السائق ، تحركت من فورها بخطوات متعثرة باتجاه سيارته قبل ان تفتح الباب لتجلس بجانب مقعده تماما بصمت .
شغل بعدها محرك السيارة ليتحرك بها بعيدا على الطريق وبصمت دام للحظات ، بينما رفعت (صفاء) رأسها بحذر وهي تعطي نفسها حرية التنقل بنظرها بسيارته الرائعة من الداخل كما بالخارج وهي تصنف من السيارات الرياضية عالية الجودة ، وكم تمنت دائما لو تحصل على رخصة قيادة ومعها سيارة رائعة شبيهة بها لتستطيع عندها مسابقتها مع الريح وبكل الاماكن والتي حلمت بالذهاب لها بطفولتها والاستمتاع بمنظر السيارات و المركبات والتي تحاول اللحاق بها بدون جدوى مثل سباق حيّ ! ولكنها تبقى مجرد احلام يقظة كما كانت تقول (ماسة) عندما تسخر من امنياتها الطفولية ، ولكن ليس لها سوى التخيل والعيش بعالمها الوهمي والذي ليس له وجود سوى بمخيلتها الواسعة .
امتعضت ملامحها ما ان قال (جواد) مخترقا غمامة شرودها الحالم
"ماذا ؟ أهذه أول مرة ترين بها سيارة بحياتك ؟"
عضت على طرف شفتيها بحنق فها هو قد عاد للسخرية منها مجددا كالعادة بعد ان اكتشفت بأنها كانت مكشوفة امامه ، لتدير بعدها رأسها للنافذة بقوة وهي تقول باستياء
"لا ليس هكذا هو الأمر ، ولكني لم اعتد على ركوب سيارات عصرية وحديثة مثل سيارتك ، فوالدي يملك سيارة قديمة واما شقيقي فهو لا يسمح لي بركوب سيارته والتي هي لا تقارن بجمال سيارتك !"
حدق بها بغموض ليرفقها برفع حاجبيه بحيرة واجمة وهو يستمع لمديح عن سيارته لأول مرة يسمع مثله فلا احد بهذه الأيام يهتم بمدح سيارة موجودة شبيهة لها بكل الطرقات ! تغضن بعدها جبينه بغضب وهو يشعر بحركتها المستمرة بعدم ارتياح وهي ترنو بعينيها نحوه بين الحين والآخر ويديها مضمومتين بارتباك واضح اجهد تفكيره وعقله ، ليقول بعدها بنفاذ صبر وهو يشدد من قبضتيه على عجلة القيادة بتحكم
"توقفي عن هذا ، وتكلمي ماذا تريدين ؟"
نظرت له بتوجس من انفعاله المفاجئ لتنكمش عندها عند زاوية مقعدها وهي تهمس بإحراج مرتبك
"كنتُ اريد ان أطلب منك فقط ، إذا كنت لا تمانع بالطبع ان تفتح لي زجاج النافذة بجانبي !"
حاد بنظراته نحو النافذة بوجوم قبل ان يضغط على الازرار بجانبه بقوة ليفتح عندها قفل النافذة ويبدأ بالنزول آلياً ، لتتسع عينيها العسليتين بحماس وبفرح طفولي قبل ان تُخرج ذراعها من زجاج النافذة بحذر لتحرك كفها بانسيابية مع هواء الصباح العليل والذي يمزج الدفء مع البرودة ، بينما كان (جواد) يراقبها بين الحين والآخر بدون ان يمنع ابتسامة زحفت لشفتيه بتصلب لأول مرة تخرج بهذا الشكل ، وسعادة غريبة احتلت كل ملامحه وكيانه فجأة بدون إرادة منه وكأنها تستطيع التحكم بمزاج الشخص وتغييره حسب تصرفاتها وتقلباتها الحالية بطبيعتها العفوية والتي تؤثر على الآخرين بسحرها الخاص .
_____________________________
طرقت على الطاولة امامها بمقدمة قلم الرصاص بيدها برتابة هادئة وهي تشرد بعيدا عن صوت الاستاذ والذي ملئ صوته القاعة بأكملها بقوة حضوره ، لتخفض بعدها نظرها بعبوس للورقة والتي هبطت امامها بسلاسة فوق سطح الطاولة بهدوء .
رفعت كفها لتلتقط الورقة المطوية امامها قبل ان تفتحها بهدوء لتظهر الكلمات المدونة امامها بوضوح
(هل انتِ متفرغة بعد هذه المحاضرة ؟ لأني ارغب بالخروج معكِ إذا لم يكن لديكِ مانع)
اخفضت الورقة من امامها وهي تتلفت من حولها بتركيز بحثاً عن صاحب الرسالة ، لتقع نظراتها على الشاب الوحيد والذي كان يبتسم لها بوقاحة وهو يغمز لها بجرأة واضحة بدون ان يعير احدا انتباها ، عبست ملامحها بضيق وهي ترفع الورقة امام عينيه لتمزقها لنصفين بدون ان تهتم لنظراته والتي تحولت لاستنكار غاضب .
عادت بنظرها للأمام بهدوء بعد ان ألقت بالورقة بعيدا لتلمح بعدها بثواني ورقة أخرى هبطت فوق سطح المكتب بنفس الطريقة ، لتقبض بعدها على يديها بجمود وهي تلتفت لنفس الجهة لتراه مجددا على نفس الوضعية وبنفس الابتسامة البلهاء ، وما ان كانت على وشك الإمساك بالورقة امامها حتى تدخلت يد اخرى وهي تسبقها بإمساك الورقة .
انتفضت بعدها بسرعة واقفة بجزع وهي تنظر للأستاذ والذي كان يفتح الورقة بأصابعه الطويلة بصمت مريب ارهبها ، بينما كانت (غزل) تنظر له بعينيها العسليتين المخضرتين بتوجس وقلق من المكتوب بالورقة والذي اكيد سيقضي على مستقبلها الدراسي !
كان (هشام) ينظر بجمود للمكتوب بالورقة بيده بهدوء بالغ استطاع إتقانه امام طلابه والذين حلّ عليهم الصمت فجأة مترقبين بحماس ما سيجري الآن عندما يمسك الاستاذ بأحد الطلاب المشاغبين بالمحاضرة
(لا تظني بأنكِ بهذه الحركة سترهبينني ، فأنتِ تعجبينني بكل حالاتكِ ولن اتوقف قبل ان احصل على اهتمامك)
بعد قراءة هذه الكلمات تجعدت الورقة بداخل قبضته لتختفي معالمها تماما ، بينما انفرجت شفتيها بانشداه صاحبة الرسالة وهي تنظر للورقة المسكينة والتي اختفت بداخل قبضته وملامحه تحولت لجمود بارد غير معبر عن شيء وبعيدا عن ملامح البشاشة والتي كان يتحلى بها بالمحاضرة .
قطع الوجوم والمحيط من حولهم صوت (هشام) وهو يخفض قبضته قائلا بتصلب حاد
"كيف وصلت هذه الورقة لكِ ؟ ومن صاحب هذه الرسالة ؟"
اخفضت نظراتها للأسفل بصمت وهي تعض على طرف شفتيها بارتباك ممتعض من الموقف والذي وضعت به بوقت لا تحسد عليه ، وهي حتى الآن لم تعلم ما لذي كان مكتوب بتلك الرسالة والتي اكيد لا تتضمن كلام رائع ؟ لو تعلم فقط كيف يفكر بها الآن بعد تلك الرسالة الوقحة والتي ستقلل من مرتبتها وقيمتها عنده اضعاف !
اعاد (هشام) كلامه وهو يقول بنفاذ صبر وقد بدأت التمتمات بالخروج من حولهما تدريجياً بريبة
"ما لذي اصابكِ يا غزل ؟ هل اصبتِ بالصمم !"
عبست ملامحها ببؤس وهي على وشك الصراخ بوجهه بأن يتوقف عن إهانتها وامام جميع طلاب قسمها وقد اصبحت اضحوكتهم بسببه ، وهي لا تعلم لماذا دائما كل المواقف المحرجة والمخزية تحدث امامه تحديدا من بين الجميع ؟
قالت بعدها بلحظات بخفوت مشتد مغتاظ
"لا اعلم"
عقد حاجبيه بجمود متصلب يخفي من خلفه الكثير وهو يبعد نظره باتجاه الطلاب من حوله وقد بدأت تصله همساتهم الساخرة مع نظراتهم المتجهة نحوهما بفضول مرتقب ، لتتحول ملامحه بلحظات لصرامة مشتعلة وهو يضرب بقبضته على الطاولة امامه بقوة رجت بالقاعة بأكملها ودبت الرعب بأوصال الواقفة امامه بتشنج وهو يتبعها بصوته الحازم المحتد قائلا بأمر
"كفى لا أريد سماع اي كلمة ، وألا قسما بالله بأن ادخل معكم المادة بأكملها بالاختبار القادم ، وقد اعذر من انذر !"
ساد الصمت فجأة بكل إرجاء القاعة برهبة وصوت الاستاذ يتردد بالقاعة بصدى مهيب والوجوم يلوح بالأفق بينهم وعلامات السخط والضيق واضحة على ملامحهم ، بينما كانت (غزل) تبتلع ريقها بحشرجة مؤلمة وهي تشعر باختناق غريب بالأجواء القاتمة من حولها عادة ما يصيبها عندما تشعر بالضغط من حولها وهذا الذي يحدث معها اكبر ضغط تتعرض له بحياتها .
تجمدت اطرافها ما ان عاد (هشام) للكلام وهو يقول بخشونة محذرة
"اسمعوا ما سأقوله لكم جيدا لأني لن اعيده مرة اخرى ، إذا تكررت هذه الأفعال امامي مجددا بوقت المحاضرة ولمحت اي ورقة تطير هناك او هناك فلا تلوموا عندها سوى انفسكم ! هل هذا مفهوم ؟"
شدد على آخر كلماته بصرامة وهو ينظر للطلاب الصامتين من حوله بوجوم ، ليقول بعدها ببرود وهو يستدير بعيدا عنهم باتزان
"لقد انتهت المحاضرة الآن ، وسنكمل الشرح بالمحاضرة القادمة من حيث توقفنا ، حظاً موفقاً"
بدأ الطلاب بالتحرك بسرعة وكأنه قد افرج عنهم اخيراً ليبدأوا بالخروج من القاعة واحداً تلو الآخر ، لتتحرك بسرعة الجامدة بمكانها وهي تقوم بتحضير حقيبتها لتضعها فوق كتفها وهي تستعد للمغادرة ، قبل ان يوقفها بآخر لحظة صوت (هشام) وهو يعطيها ظهره قائلا بجفاء بارد
"غزل اتبعيني ، اريد التكلم معكِ"
زفرت انفاسها باضطراب وهي تحك جبينها بكفها بانفعال غاضب ، بينما سار (هشام) بعيدا عنها وهو يسبقها لخارج القاعة ، شددت من الإمساك بحزام حقيبتها لثواني قبل ان تتبعه بسرعة بخنوع لخارج القاعة وهي تمشي بخطوات مهتزة وخوف مما هي مقدمة عليه الآن .
وقفت خلفه بخارج القاعة بعد ان قل عدد الطلاب المتواجدين بالممرات ، وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها الذي كان يعطيها ظهره وهو يقول بغموض جاد
"ألن تخبريني الآن بالشخص والذي ارسل لكِ هذه الرسالة ؟"
رفعت حاجبيها بوجوم وهي تفكر بحنق بالذي يدور برأسه ولما كل هذا الاصرار ليعرف من صاحب الرسالة ؟ همست بعدها بلحظات بخفوت حزين
"اخبرتك بأني لا اعلم....."
استدار نحوها بقوة وهو يقول باستنكار ساخر
"لما تحاولين اخفاء الحقيقة عني ؟ هل تخافين عليه مني لهذا لا تريدين قول اسمه امامي ؟"
امتقعت ملامحها وهي تتنفس بحدة من كل هذا الجدال العقيم من اجل شخص لا يستحق حقا كل هذا الاهتمام ، كانت ترغب بإخباره بالحقيقة وإراحة نفسها منه ولكنها تعلم جيدا بأنها بهذه الطريقة ستزيد على نفسها وجع رأس من صاحب الرسالة والذي لن يتركها وشأنها بعد ان توشي به ، وهي لا ينقصها حقا ان تزيد رصيدها اكثر من كره الآخرين لها اكثر مما هي عليه .
اشاحت بوجهها بعيدا عنه بحنق وهي تقول بحدة بالغة
"ارجوك استاذ هشام توقف عن اعادة نفس السؤال عليّ فهذا ليس من حقك ابدا ، وايضا لقد اجبتك على سؤالك بالفعل ، واكثر من هذا لا املك لأخبرك به"
تصلبت ملامحه لبرهة قبل ان يحرك رأسه بهدوء قائلا باستياء
"حسنا كما تريدين ، ولا بأس سأهتم انا بهذا الموضوع بدلا عنكِ"
تنفست الصعداء قبل ان تنظر له بارتياب وتوجس ما ان سمعت آخر كلماته وهي لا تفهم بماذا يفكر ولما يحمل الموضوع اكبر من حجمه ؟ لتعبس بعدها بتشنج ما ان عاد للكلام قائلا بتذكر وهو يرفع قبضته باتجاهها
"بالمناسبة ، هذه لكِ إذا كنتِ ما تزالين ترغبين بقراءتها"
نظرت لكفها المفرودة وهو يضع الورقة المجعدة بداخل راحة كفها ببساطة ، ليستدير بعدها بهدوء دام للحظات قبل ان يسير بعيدا عنها بصمت غريب ، وما ان اختفى عن نظرها حتى فتحت من فورها الورقة المجعدة والتي تمزقت قليلا من ثناياها قبل ان تتسع عينيها بوجل وهي ترى ما كانت تتوقعه تماما واسوء بكثير ، وهي لا تعلم بأي وجه ستنظر إليه الآن بعد ان قرأ هذه الكلمات والتي جعلت وجهها يتلون باحمرار الخزي والاحراج ! بدون ان تمنع نفسها من لعن حظها العاثر والذي يورطها دائما بمثل هذه المواقف مع استاذها الصارم والذي لا يتوقف عن إحراجها والسخرية منها بكل مرة تقابله بها !نهاية الفصل.......
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...