الفصل التاسع والعشرون

241 4 1
                                    

دخل للغرفة على اطراف اصابعه الصغيرة بتسلل وهو يحاول عدم اصدار اي ضجة وكل ما يصبو له هو الوصول للسرير الصغير الخاص بالطفلة النائمة عليه ، وبلحظة كان يتجمد بمكانه برجفة وكأنه متهم ألقي القبض عليه ما ان اخترق الصمت الصوت الهادئ ببحة رقيقة
"قف بمكانك يا مجرم"
تنفس باستسلام وهو يرفع وجهه العابس باتجاه المرأة الجالسة على السرير الكبير بجوار سرير الطفلة وقد ظن بأنها نائمة معها ، كان ينظر لها بتحديق ساكن دائما ما تأسره بنظراتها التي تمزج العتاب مع الحزن لتظهر شناعة فعلته والتي كان ينوي ان يقدم عليها من لحظة ، حركت رأسها قليلا قاطعة رحلة الصمت بينهما وهي تهمس بأمر خافت
"اقترب امامي"
حرك رأسه بملل وهو يجر قدميه نحوها بخطوات مترددة كسولة وكأنه خائف من حدوث شيء ما او قد تفكر بالانقضاض عليه بنظراتها الثاقبة التي لا ترحم ، وهي ابعد ما تكون عن ذلك بشكلها الهادئ الرقيق مثل الحرير الناعم شكلا ومضمونا وهي تملك اجمل عينين ناعستين بلون العسل الذائب يحيط بهما شلال من الشعر البني الحريري بانحناءات بسيطة اضاف هالة مبهرة من حولها بصورتها الساحرة التي اكتسحت بها اتعاب الحياة وحمل الاطفال والذي يبدو كان اكثر من مهلك بصحتها ويفوق احتمال جسدها المريض على الدوام !
وقف امام مكان جلوسها بهدوء وهو يوجه لها نظرات عسلية قاتمة لا تقارن بالعسل الذائب بعينيها ، لترفع بعدها كفها بهدوء وهي تهمس بأمر خافت بدون ان تخفى نبرة العتاب بصوتها
"اعطني ما بيدك"
حرك رأسه بالنفي وهو يرجع يديه لخلف ظهره هامسا بتبرم متعنت
"لا احمل شيء بيدي"
ضيقت حدقتيها العسليتين وهي تمد يدها بعزم اكبر هامسة بأمر
"اعطني ما بيدك يا مازن"
زم شفتيه بعبوس حانق وهو يخرج يده ليضع العصا التي احضرها معه براحة كفها المفرودة ، لتقبض عليها بلحظة وهي تنظر لها بتمعن قبل ان تهمس بعبوس صارم
"ماذا كنت تفكر ان تفعل بها ؟"
اشاح بوجهه جانبا بدون ان ينطق بحرف بطريقته المعتادة بإخفاء فعلته ، لتتنهد بعدها بوهن وهي تضع العصا جانبا قبل ان تهمس بغضب مكتوم
"متى ستتوقف عن هذه الحركات الصبيانية يا مازن ؟ كم مرة عليّ ان اعاقبك واحذرك لكي اردعك عن هذه التصرفات ! فأنت لم تعد طفلا صغيرا حتى اعاملك على هذا الاساس !"
رفع رأسه بقوة وهو يقول بتمرد غاضب
"لن اتوقف عن هذا حتى تقولي لي بأنكِ تحبيني اكثر منها وتعودي للاهتمام بي ، فأنتِ امي وحدي ولستِ امها"
تغضن جبينها بغضب وهي تهمس بخفوت حازم
"كفى يا مازن ، هل سنبقى نعيد نفس الكلام مئة مرة حتى تفهم وتستوعب ؟ انا احبكما كليكما لأنكما ابنائي والأم تحب جميع ابنائها ولا تميز بينهما ! لذا لا اكره احدا منكما ولا احب احدا عن الآخر لأنكما صغاري !"
ضرب الارض بقدمه بجنون وهو يصرخ بعناد اكبر
"لا لا اريد هذا ، بل اريد حبكِ ان يكون كله لي ، ولا اريد ان تقاسمني عليه ابدا"
ردت عليه بسرعة بأمر وهي تضع اصبعها امام فمها بحزم
"ولا كلمة يا مازن ، ستوقظ الصغيرة بصراخك وقد اخذت وقتا طويلا حتى نامت ، وإذا ايقظتها بأي طريقة فأقسم بالله لن اغفر لك فعلتك هذه المرة"
اخفض رأسه بحزن صامت طاف على ملامحه المتمردة ، لتزفر بعدها انفاسها بإنهاك وهي تمسح على رأسه المنكس بلطف هامسة بابتسامة رقيقة بحنان عاد ليتدفق بحنايا ملامحها
"لماذا تكره شقيقتك هكذا ؟ لما لا تحبها مثلما والديك يحبانها ؟ فهي شقيقتك الوحيدة بحياتك ولا تملك غيرها !"
رفع عينيه بدموع حبيسة وهو يهمس بخفوت حانق
"ولكنها سرقتكِ مني واخذتكِ بعيدا عني ، وانا لا اريدكِ ان تحبيها وتتركيني من اجلها"
ضحكت بخفوت مجهد وهي تعبث بشعره هامسة بمرح
"ما هذا التفكير الساذج يا مازن ! ألم اخبرك الآن بأني احبكما بقدر بعضكما ولو كان عندي مئة طفل فلن افرق بينكما فكل واحد منكما لديه مكانة خاصة بقلبي لا تختلف عن الباقين ؟ لذا كن على ثقة بأني سأبقى دائما احبك لآخر يوم بحياتي لأنك ابني مثل ابنتي صفاء تماما"
عقد حاجبيه بشك وهو يشير بذراعه باتجاه السرير الصغير قائلا بوجوم
"ولكنكِ تهتمين بها اكثر مني وتقضين معها وقتا اكثر مني وتلاعبينها وتقبلينها اكثر مني ! لما لا تعدلين بيننا وتعامليني كما تعاملينها ؟"
اتسعت ابتسامتها بحنان مملوء بالمشاعر الامومية وهي ترفع نظرها للسرير النائمة عليه الصغيرة ، لتقول من فورها بابتسامة حانية بعطف
"لأنها ببساطة فتاة وبطبيعتها قد خلقت الفتاة وهي تحتاج لحنان واهتمام اكبر من الاولاد وهذا الفارق الكبير بينكما ، فهي كلما كبرت زادت هشاشتها ورقتها وحاجتها للحماية بالعالم القاسي الذي تحيى به بخلاف الاولاد والذين كلما كبروا زادت صلابتهم وقوتهم لكي لا يهابهم او يكسرهم شيء فقط يحتاجون لمسكن الفتاة للاستقرار والراحة وصنع العائلة التي تبث الطمأنينة والسعادة بقلوبهم ، مثل الزرع تماما علينا بسقايتها دائما من اجل ان تثمر وإذا فقدت هذه العناية فقد تذبل وتموت بأرضها وتتحول لأرض قاحلة جرداء لا حياة بها"
نظر لها بدون ان يعير كلامها اهتماما كبيرا بتلك السن الصغيرة وهو يهمس بتذمر عابس
"ولكني مع ذلك لا احبها ، ولن احبها بحياتي"
تنهدت بتعب وهي تسحب يدها عن رأسه لتمسك بها حاجز السرير الذي يحمل ابنتها هامسة بهيام شارد بطفلتها الرضيعة التي لا تتعدى الشهور
"لا تنسى كلام الرسول يا مازن فقد وصانا على اعطاء الاهتمام والرعاية لأهم اثنين هما اليتيم والمرأة واضعف المخلوقات على وجه الارض بسبب حاجتهما بشكل خاص للحب الدافئ والاهتمام الدائم بخلاف باقي المخلوقات ، وتذكر هذا الكلام يا مازن هذه الفتاة ستكون مرآة عن تصرفاتك واخطائك والتي ستظهر عندما تنرد بها وتتلقى هي عواقب افعالك ، فهي واحدة من صلات الرحم والملاك والذي سيغفر عن ذنوبك وإذا تماديت بأخطائك كثيرا فقد يتحول يوما ما ملاك الرحمة لملاك الموت ، لذا انتبه لهذه النقطة يا مازن لكي لا تندم بعدها عندما يفوت الآوان وينتهي وقت الغفران والرحمة"
تجمدت ملامحه وهو يحدق بها باتساع حذر بدون ان يستوعب حرف مما تقوله فقط دافع غريزي تحكم بوصلات عقله ليستمع لها بإنصات شديد ، ولم يكن يعلم بأن هذا الكلام سيأتي الوقت الذي يفهم به معناه الحقيقي وما كانت تحاول ان توصله له بذلك الوقت بعد ان فات الآوان على التفكير وتحقق كلامها بالحرف الواحد !
اتسعت عينيه وهو يدرك بأنه قد انتقل لحقبة زمنية اخرى بسرعة قياسية وهو يحمل نفس المسدس بيده وينظر لنفس الفتاة المقيدة امامه بعواقب افعاله ، لتنطلق الرصاصة لوحدها بدون ان يتحرك ساكن وهي تصيب نفس المكان وبلحظة كان يرى جسدها وهو يرتمي ارضا مثل جثة هامدة ، اخذ لحظات استيعاب قبل ان يرمي المسدس سريعا وهو يجري نحوها ، وما ان هبط بجوارها وهو يحمل جسدها المغرق بدمائها حتى شعر بيدين تكبلان عنقه بلحظة وهي ترفع عينين سوداوين اختلطت بدموع القهر هامسة بخفوت حاقد بشرارة
"لن اسامحك عليها يا مازن ، واعدك ان اردها لك بأقرب المقربين لك ، من اجل ان تتذكر بأن هذا القلب الذي احبك وانت خنته وقتلته برصاصتك سيعود ويقتل قلب آخر امام عينيك ، فلا تنسى الدنيا دوارة وكل شخص سيأخذ حقه ويتحاسب على اعماله"
ابتلع ريقه برهبة وهو يحاول ابعاد يديها عن عنقه والتي امتلأت بدمائها وهي تتسرب لملابسه وبالأرض من حوله ، لترتخي يديها تدريجيا قبل ان ترتمي على جانبيها ورأسها تتهدل للخلف بحالة سكون موحش .
امسك بوجهها بذعر وهو يهزها قليلا هامسا بارتباك استبد به بذعر لم يسبق ان شعر به
"غنوة افيقي ، اتوسل إليكِ لا تفعلي بي هذا ، اتوسل إليكِ عودي"
تنفس عدة مرات بهياج وهو يخفض وجهه قليلا بتعب ، ليخترق بعدها سمعه صوت رقيق يحفظ نبرته المألوفة بهمس خافت
"مازن"
رفع رأسه بسرعة وهو ينظر بعينيه الشاخصتين للوجه الملطخ بالدماء والذي تبدل بلحظة لوجه شقيقته الصغرى ، لتبتسم بعدها بميلان حزين وهي تربت بكفها على قلبها هامسة بخفوت مرير
"لقد تألمت بشدة يا مازن ، قلبي يؤلمني كثيرا وكأنه قد توقف عن النبض ، لماذا فعلت كل هذا يا مازن ؟ هل لهذه الدرجة لا تحبني لتعاقبني بهذه الطريقة القاسية ؟"
ارتجفت اطرافه وهو يمسك بوجهها بارتعاش بدون ان يجد ما ينطق به بحالته المثيرة للشفقة وكأنه يواجه عواقب افعاله بالجميع والتي تمثلت بمعاناة شقيقته وامام عينيه بدون ان يكون بمقدوره فعل شيء ، لترفع بعدها كفها الرقيقة بارتجاف وهي تمسك بجانب وجهه لتتبعها بالهمس بابتسامة حانية مملوءة بالدفء
"تذكر بأني احببتك دائما يا شقيقي الكبير واحببت والديّ كثيرا ، وشكرا لك على هذه الهدية الرائعة والتي ستريحني من العذاب اخيرا وانضم لوالدتي الحبيبة ، اعتني بنفسك جيدا يا مازن"
صرخ فجأة بجنون مندفع وهو يفيق من نومه على ارتعاش اكتسح جسده بلحظة خاطفة ، ليتنفس بعدها بارتخاء متعب وهو يمسح على وجهه باستغفار وتسبيح حتى يبث الطمأنينة بقلبه ويزيل شناعة الكابوس عن ذهنه .
نهض عن السرير وهو يجلس بتعب اهلك عضلات جسده والذي غزاه العرق بالكامل ، ليخفض بعدها رأسه وهو يتخلل خصلاته بأصابعه بصراع مع عقله الباطن وهو يستعيد الصور التي صادفته بالحلم الاشبه بكابوس مريع ، يعلم جيدا بأن هذا الحلم كان يراوده كثيرا بالماضي على فترات متقطعة عندما يقابل شيء يذكره بقصة تلك الفتاة التي وقعت بحبه ليعود الحلم ليزور منامه ويقظ مضجعه ، ولكن هذه المرة اختلف مسار الحلم المعتاد وظهرت شخصية جديدة لم تكن تظهر سابقا وهو استبدال وجه (غنوة) بوجه (صفاء) الملطخ بالدماء لتكون ظاهرة غريبة لم تتكرر معه من قبل وقد تكون ايضا بداية لأحلام كارثية ستبدأ بزيارة منامه من اليوم ! ام قد تكون رسالة اخرى لما سيحدث مستقبلا وعليه الحذر جيدا مثلما حدث بكلام والدته ؟
نفض رأسه بعنف وهو ينهض بعيدا عن السرير ليتجه مباشرة للخزانة وهو يعبث بها بلحظات ، ليلتقط بعض الملابس منها قبل ان يغلقها بقوة وهو يجر خطواته للحمام المرفق .
بعدها بدقائق كان ينزل السلالم بعجلة قبل ان يقف فجأة ما ان قابل الخادمة التي ظهرت بنهاية السلالم ، ليتأفف بعدها بنفاذ صبر وهو يتمتم بضجر
"ماذا هناك ؟"
ابتلعت ريقها بتوجس وهي تقول بعملية جادة
"لقد كنت ذاهبة لأخبرك بأن الفطور قد اصبح جاهزا ، وقد طلب مني السيد الكبير ان اذهب لأخبرك بذلك"
عقد حاجبيه بجمود وهو يكمل سيره بعد ان تجاوزها باتجاه غرفة الطعام ، لتربت الخادمة على صدرها بحالة رهبة قبل ان تسير بسرعة لتلحق بالعمل .
دخل لغرفة الطعام وهو يستمر بطريقه باتجاه الرجل الجالس على رأس المائدة وهو يرفع رأسه بهدوء ، وما ان وقف على بعد مقعدين منه حتى قال بهدوء جاد بدون اي مقدمات
"ابي متى ستقرر ان تعيد صفاء للمنزل ؟ فهي هناك لن تلقى سوى التعذيب والتجريح وانت بهذه الطريقة تلعب بعداد عمرها ! ألا ترى بأن عودتها لمنزلنا هو القرار الصائب ؟"
عقد حاجبيه بجمود وهو يهمس بهدوء شديد
"اصبحنا واصبح الملك لله ، أليس من المفترض ان تقول صباح الخير اولاً قبل كل شيء ؟"
شدد على اسنانه بحالة صراع مبرح ما يزال يغيم على افكاره من الحلم ، ليقول بعدها على مضض بوجوم هائج
"صباح الخير ، هل يمكنك ان تجيبني عن سؤالي الآن ؟"
تنفس بهدوء وهو ينظر للطبق امامه قائلا بجدية بدون اي تعبير
"لا داعي لتتعب نفسك بالتفكير بالأمر كثيرا ، فهي اولاً واخيراً ستعود للمنزل من تلقاء نفسها ما ان تنتهي مدة العقد ، فقط بضعة أيام اخرى وسيعود كل شيء لما كان عليه"
تصلبت ملامحه بشعور غير سار وهو ينفض ذراعيه للأسفل قائلا باستنكار غاضب
"ماذا يعني هذا الكلام يا ابي ؟ وماذا تقصد تنتهي مدة العقد ؟ هل حددت مدة لعقد زواجها مع ذلك المجرم ؟"
رفع رأسه نحوه لوهلة قبل ان يبتسم بتغضن وهو يقول بهدوء جاد عكس ابنه
"اخبرتك لا تفكر بالأمر كثيرا يا مازن ، واتركها على حالها ومع مرور الوقت ستفهم كل شيء ، والآن اجلس وتناول فطورك قبل ان يبرد"
عقد حاجبيه بعدم رضا وهو يشيح بوجهه جانبا هامسا بانفعال مكبوت
"لست جائعا وهناك عمل عليّ الذهاب لأجله ، لذا عذرا منك"
اوقفه بسرعة وهو يقول بجمود باهت بصرامة
"اسمع يا مازن إياك وان اعرف بأنك ارتبكت فعل متهور مثل آخر مرة عندما ذهبت لمنزلهم بدون ان تسألني ، لأني عندها سأغير معاملتي كاملة معك وسأنسى عودتك الاخيرة للمنزل ومسامحتك عن اخطائك ، هل سمعت ما قلت ؟"
تجهمت ملامحه بغضب وهو يحرك رأسه بلا مبالاة ، ليستدير بعدها بصمت للحظات قبل ان يقول بجمود باهت
"لا اعلم ماذا يمكنني ان اقول لك يا ابي ؟ ولكن كل ما استطيع قوله بأنك لم تكن اب عادل بيننا يوما كما كانت امي معنا !"
تغضن جبينه بتصلب وهو يشاهد ابنه الذي غادر بعيدا عن نظره بثواني ، ليتنفس بعدها بهدوء ما ان لمح الخادمة التي دخلت لغرفة الطعام بإمارات عابسة بعد ان قابلت الابن الخارج ، لتتقدم امام المائدة بسرعة وهي تمسك بصينية ابريق الشاي والتي وضعتها امامه بلحظات .
تقدم بجلوسه بهدوء وهو يضم قبضتيه امام وجهه قائلا بجدية نافذة
"بسمة لقد اخبرتني بأنه لديكِ بنات غير متزوجات ، كم ابنة لديكِ غير متزوجة ؟"
نظرت له بحيرة وهي تمسك بأبريق الشاي لتقول بعدها بابتسامة هادئة بحنين
"لدي ابنة واحدة لم تتزوج بعد والوحيدة والتي بقيت لي بعد زواج سبع بنات ، وهي تبلغ من العمر واحد وعشرون سنة الآن"
اومأ برأسه بشرود وهو يتمتم بابتسامة متغضنة بإرهاق
"وهذا هو ما كنت اود سماعه"
______________________________
كانت تجلس على طرف السرير وهي تمسح على شعره الناعم بحنين امتزج بالخوف الغريزي بدون ان تترك نظراتها ملامحه الطفولية الشقية وهي ترتشف منها بنهم وجوع اصبح يشب مخالبه بروحها مؤخرا وكأنها تنتفض بغريزة الامومة التي نبتت بداخلها منذ فقدانها جنينها ، وهي التي لم تفكر يوما بإنجاب الاطفال او اخذ دور الأم بحياتها الحافلة بالمسؤوليات والمخاطر حتى نسيت مذاق تجربة الامومة الحقيقية مع اطفال من جنسها ودمها تعبر عن محبتها لهم بحمايتهم بروحها ورسم الضحكة البريئة على شفاههم ، وكل هذا قد مر على خاطرها واختلج بروحها على مرأى الطفل الذي وقع بأحضانها وكأنه يعيد مشهد موت جنينها بداخلها بصورة اخرى اكثر واقعية واكبر وقعا مثل صخرة جثمت على صدرها واوقفت الحياة بعالمها لثواني ، وكم تتمنى لو يعود الزمن للوراء لتأخذ قوة اكبر وتكون اكثر يقظة بحماية طلاب فصلها من الترهيب والاذى والذي كانوا على وشك التعرض له من قبل تلك المعلمة ومن جميع من يحاول استغلال ضعف حيلتهم وضعف قدرتهم عن الدفاع عن انفسهم ! وهذا الوضع لم يتغير على مدار سنوات عندما كانت تدافع عن اطفال ولقطاء الشوارع من إرهاب الكبار والمتنمرين وكل ما كان بمقدورها وهي فقط مراهقة لم تتم الرابعة عشرة من عمرها !
تنفست بهدوء وهي تشيح بوجهها جانبا ما ان فُتح باب غرفة العيادة بالمدرسة ، لتطل عليها مساعدة المديرة وهي تبتسم لها بمودة لتقول من فورها بخفوت وهي توجه نظرها للطفل المستقر بجانبها
"كيف حال سامي الآن ؟ هل ما يزال غائب عن الوعي ؟"
وقفت بعيدا عن السرير وهي تهمس بابتسامة هادئة برسمية
"قالت الممرضة بأنه بخير مجرد سوء بالتغذية وارهاق بسبب قلة النوم ، وسيتحسن بعد ان يأخذ قسط من الراحة"
تنهدت براحة لوهلة وهي تهمس باطمئنان
"الحمد الله ، ولكن كيف وصل لهذه الحالة ؟"
حركت رأسها للأسفل وهي تتمتم بهدوء ظاهري
"لا اعلم حقا ! لقد كان بخير من لحظات ولم يكن يعاني من شيء قبل ان يغيب عن الوعي فجأة بدون ان اشعر او انتبه !"
اومأت برأسها بتفهم وهي تكتف ذراعيها قائلة بتفكير عملي
"على كل حال لقد اوصلت الخبر للمديرة ، وهي اخبرتني بأنها ستتواصل مع والده وتهتم بباقي الأمور من اجل ان يأتي ويستلم مهمة رعاية ابنه"
زمت شفتيها بارتعاش وهي تهمس بأسى خافت
"ولكن أليس من المفترض ان يعود للمنزل ويرتاح بهذا الوقت افضل من البقاء بالمدرسة ؟ وهناك يستطيع ان يأخذ الراحة المطلوبة بجو مريح واكثر هدوءً !"
حركت رأسها بأسف وهي تقول بجمود جاد
"لا نستطيع فعل شيء قبل ان يأتي والده ويتكفل بأمره فهو مجرد امانة وعلينا تركه لصاحب الأمر بدون اي تدخل من جهتنا ، وكل ما نستطيع فعله بالوقت الحاضر هو الاهتمام به حتى يحضر المسؤول عنه ويستلم امانته"
اومأت برأسها بحركة طفيفة بغمامة كاسرة بدون ان تعلق على كلامها ، لتنتفض بعدها باستدارة للخلف ما ان خرج صوت الطفل الغاضب بتذمر
"لا اريد العودة مع ابي"
تقدمت نحوه بسرعة ما ان حاول النهوض عن السرير وهي تمسك بذراعيه هامسة بخفوت جاد
"اجلس بمكانك يا سامي ولا تتهور ، فهذه التصرفات لا تخرج ابدا من الاطفال المهذبين !"
تمرد عليها وهو يحرك ذراعيه بقوة صارخا بوجه محمر حانق
"لا اريد البقاء هنا ، اريد العودة للمنزل وحدي ، فأنا لن انتظر ابي حتى يأتي ويأخذني"
شددت على ذراعيه وهي تجلسه غصبا هامسة بصرامة قاطعة
"لن تذهب لمكان يا سامي ، وهذا آخر كلام عندي"
رفع عينين دامعتين وهو يهمس بتبرم حزين
"اريد الذهاب للمنزل يا معلمة روميساء ، ارجوكِ اوصليني للمنزل"
اتسعت حدقتيها ببهوت وهي تفلت ذراعيه لوهلة لتستدير بعدها امام السكرتيرة الساكنة بمكانها وهي تقول لها بعزم
"انا التي سأهتم بإيصال سامي للمنزل ، ولن اتركه قبل ان اتأكد من وصوله للمنزل سليم معافاً وبكامل صحته"
ارتفع حاجبيها بارتباك وهي تهمس باضطراب متوجس
"لا اعتقد بأن هذا من الجائز فهذه مهمة والده ! ولا نستطيع فعل شيء من تلقاء انفسنا بدون ان نعود لصاحب الأمر....."
قاطعتها بحزم اكبر وهي تقول بابتسامة رسمية
"لا تقلقي من شيء يا آنسة منار ، فأنا اعدكِ بأن اهتم بهذه الامانة جيدا واحميها بروحي ، وكما اخبرتك لن اتركه حتى اتأكد بنفسي من وصوله للمنزل ومن استقرار حالته هناك"
التفتت بوجهها نحو الطفل الجالس بطاعة وهو يستمع لها بإنصات شديد لتقول له بابتسامة محبة بلطف
"هل انت موافق على ان اصطحبك للمنزل معي ؟"
اومأ برأسه بقوة وهو يقول بحماس كبير
"اجل موافق"
زفرت السكرتيرة انفاسها باستسلام وهي تقول بعملية جادة
"حسنا لا بأس يا معلمة روميساء ، ولكن لا تنسي ان تأخذي إذن من المديرة وتخبريها بما تنوين فعله ، وحمد الله على سلامتك يا سامي"
تنهدت بهدوء ما ان غادرت السكرتيرة خارج الغرفة ، لتشعر باليد الصغيرة التي امسكت بكفها وصاحبها يقول ببراءة طفولية
"هيا بنا يا معلمة روميساء"
اخفضت وجهها نحوه وهي تمسح على شعره بكفها الاخرى هامسة برفق
"هل تشعر بأنك افضل الآن يا صغيري ؟"
رفع وجهه الصغير وهو يحرك رأسه علامة الرضا بابتسامة بريئة بسعادة وهو آخر ما شاهدته قبل ان تغادر لخارج غرفة العيادة .
كانت تقود السيارة باتجاه منزل الطفل الذي جلس بجوارها بسكون بعد ان اخذت موافقة المديرة والتي اصرت عليها كثيرا حتى رضخت لطلبها على مضض ، وهي تحيد بنظراتها نحوه بين الحين والآخر بدون ان تمنع الخوف الذي انغرس بداخلها منذ لحظة سقوطه بأحضانها وهي خائفة من تكرار نفس الموقف مجددا ، لتقول بعدها نفس السؤال والذي طرحته عليه منذ لحظة تحرك السيارة من مكانها بنفس الشك المتوجس
"هل انت بخير يا سامي ؟"
اومأ برأسه بذات الابتسامة البريئة بدون ان يتخلى عنها وهو يهمس بتأكيد
"اجل بخير"
ضيقت حدقتيها الخضراوين وهي تعود بنظرها للأمام هامسة بعبوس جاد
"إذا شعرت بأنك لست بخير اخبرني فورا ولا تكتمها بداخلك ، لأني إذا عرفت بأنك تمثل امامي وتكذب عليّ فلن اسامحك عليها وستتلقى عقاب قاسي لن يقارن بأي عقاب آخر"
نظر لها بتحديق صامت وهو يهمس بابتسامة عريضة بدون ان يتأثر بكلامها
"انا بخير يا معلمتي لا تخافي عليّ ، فأنا من المستحيل ان يحدث لي شيء لأني اقوى من كل امراض العالم ولن يصيبني مكروه"
ابتسمت بحنان غزى ملامحها بلحظة وهي تقود بحذر شديد ، لتقول بعدها بتفكير جاد بدون ان تحيد بنظراتها عن الطريق
"ولكن كيف حدث هذا معك ؟ هل تناولت طعام الفطور بالصباح ؟ وهل نمت جيدا ليلة امس ؟"
حرك رأسه بعيدا عنها وهو يهمس بخفوت مريب
"اجل"
قطبت جبينها بعدم اقتناع وهي تهمس بوجوم حازم
"ماذا قلنا من لحظة يا سامي ؟ يمنع منعا باتا الكذب عليّ وعليك قول الحقيقة ولو على قطع لسانك !"
ضم يديه الصغيرتين امام حجره وهو يقول بهمس متردد
"لقد سهرت البارحة لساعة متأخرة ، ونسيت تناول الفطور بالصباح بسبب استيقاظي متأخرا ولحاقي بحافلة المدرسة قبل ان تغادر"
حركت رأسها بشرود وهي تهمس بتفكير عابس
"لما كل هذا الاستهتار بحياتك ؟ واين والدك عنك بكل هذا ؟ كان عليه ان يكون اكثر انتباها وحذرا على ابنه !"
زم شفتيه بصمت وهو يومأ بحركة غير مرئية بدون ان يصدر اي صوت ، لتقول بعدها بلحظة بتذكر وهي تنظر امامها بتركيز
"ولماذا رفضت انتظار والدك ؟ هل حدثت مشاكل اخرى بينك وبين والدك ؟"
حرك رأسه بالنفي وهو يشدد من ضم كفيه قائلا بخفوت حزين
"لا ولكن والدي غير موجود لكي يستطيع ان يوصلني ، ولم اكن اريد ان اقاطعه برحلة عمله"
حانت منها التفاتة نحوه وهي تهمس بارتياب واجم
"والدك برحلة عمل ؟"
اومأ برأسه مجددا وهو يهمس بجمود خافت
"صحيح لقد ذهب برحلة العمل منذ البارحة وغاب عن المنزل يوم كامل ، لذا لم يكن هناك احد ليوقظني على المدرسة او يخبرني بالوقت الذي عليّ النوم به باكرا"
ارتفع حاجبيها بدهشة لحظية وهي تعود للنظر للطريق بسرعة لتشدد اكثر على عجلة القيادة قبل ان تهمس بوجوم غامض
"أليس هناك احد بالمنزل معك ؟ فلا يجوز ان يبقى طفل بعمرك وحده بدون اي رفيق !"
حرك رأسه بالنفي وهو يهمس بابتسامة هادئة ببراءة
"لا ليس هناك احد معي ، وايضا لقد اعتدت على هذا الأمر فهو كثيرا ما يضطر للغياب عن المنزل يوم كامل بسبب اوضاع العمل ، لذا لا تقلقي من شيء فأنا اكثر من قادر على الاهتمام بنفسي"
زفرت انفاسها بوجوم لبرهة وهي تنظر له بأطراف عينيها لتهمس بعدها باقتضاب
"ومتى سيعود والدك من رحلة العمل ؟"
ردّ عليها من فوره وهو يهمس ببساطة
"ربما اليوم مساءً او بالغد صباحاً هذا الوقت الذي يأخذه برحلات عمله"
نظرت للأمام بهدوء وهي تتمتم باستياء خافت
"يا له من اب مثالي ودقيق بمواعيده !"
وصلت بسيارتها امام بناء المنزل بلحظات قبل ان يخرج الطفل من السيارة بلمح البصر ، لتلحقه بسرعة بالخروج وهي تمسك بإطار باب السيارة قائلة بأمر
"سامي انتظر"
توقف بمكانه وهو يستدير نحوها بحيرة قبل ان تقف بجانبه وهي تمسك بكفه بقوة هامسة بحزم
"لا تتحرك وحدك قبل ان اسمح لك بذلك"
اومأ برأسه بابتسامة عريضة هامسا بمرح
"حاضر"
دخلت للمنزل بصحبته وهي تنظر للمكان بأثاث راقي وديكور فاخر لا ينم على الثراء الفاحش او الانحطاط فقط طبقة متوسطة بين الاثنين ، نظرت للطفل الذي سحبها معه وهو يهمس بسعادة غامرة
"تعالي لتلقي نظرة على غرفتي ، ستعجبك كثيرا"
رفعت كفها بحزم وهي تهمس بهدوء آمر
"لا يا صغيري هذا يكفي ، توجب عليّ الرحيل الآن"
حرك رأسه بالرفض وهو يهمس بدموع مترجية
"ارجوكِ ابقي معي قليلا ، فقط دقيقة واحدة ، لا اريد البقاء لوحدي"
تنهدت بهدوء وهي تهمس بابتسامة هادئة بعطف
"حسنا دقيقة واحدة حتى اطمئن عليك اكثر واتأكد بأنك بخير"
اتسعت ابتسامته بسعادة وهو يهمس بلهفة طفولية
"اجل"
وصلت امام غرفة النوم الصغيرة بسرير شبيه بسيارات السباق يعلوها سلة مرمى وألعاب كثيرة تحيط بالمكان ، وهي ترى الطفل الذي بدأ يدور بالمكان بفرح وهو يرفع ذراعيه الصغيرتين على جانبيه قائلا بحماس
"ما رأيكِ بغرفتي ؟"
ارتفعت زاوية ابتسامتها قليلا وهي تهمس بخفوت هادئ
"جميلة وتناسبك تماما"
ابتسم بابتهاج وهو يلتقط كرة السلة ليلقي بها عاليا قبل ان يسدد هدف بالمرمى ، ليقفز بعدها عاليا وهو يهتف بانتصار
"اجل لقد حققت هدف"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تمسك خصرها بيديها قائلة بحزم صارم بدور امومي
"يكفي لعب يا سامي ، عليك ان تخلد للنوم وترتاح فقد اجهدت نفسك كثيرا اليوم ، وإذا لم تسمع الكلام فأنا مضطرة للرحيل وتركك لوحدك"
حرك رأسه بوجل وهو يقول بعناد
"لا"
اومأت برأسها بقوة وهي تهمس بتصميم
"بلى وإذا لم تتحرك الآن فأنا راحلة بلا عودة"
تحرك بسرعة وهو يخلع الحقيبة عن ظهره قبل ان يصعد فوق السرير ليدس نفسه تحت الغطاء بثواني قائلا بطاعة
"انظري لقد فعلت كما طلبتِ لذا لا ترحلي"
اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي تتقدم عدة خطوات لتجلس بجواره على السرير هامسة برفق
"لن اغادر حتى تخلد للنوم ، لذا هيا نم بسلام يا صغيري"
استدار على جانبه المقابل لها وهو يغمض عينيه قائلا بسعادة شقية
"شكرا لكِ يا معلمتي ، احبكِ كثيرا"
تنهدت بابتسامة ناعمة مملوءة بمشاعر الامومة وهي تريح ظهرها على خشب السرير الصغير وكفها تستقر فوق شعره لتمسح عليه بتهويدة وكأنها اغنية ما قبل النوم ، لتهمس بعدها براحة تخللت بخلجات روحها بحنية فطرية وكأنها تنيم ابنها الصغير بداخلها
"بل شكرا لك انت لأنك علمتني معنى الامومة والتي اصبحت اكثر توقا لها"
____________________________
كانت تسير بالممر وهي تعدل حزام حقيبتها فوق كتفها تنوي الخروج وهي تتجه مباشرة لطريق السلالم ، لتتسمر بعدها بمكانها بتصلب ما ان سمعت الهتاف من خلفها بصوت مريب
"انتظري قليلا يا سلوى"
استدارت للخلف بحيرة وهي تتأكد من هوية الصوت المألوف الذي هتف باسمها من لحظة ، لتتسع عينيها بصدمة اكبر وهي تشاهد التي سارت نحوها بخطوات متهادية قبل ان تقف امامها مباشرة بلحظة هدوء غريب شب الرعب بداخلها بثواني معدودة وكأنها تدق مثل عداد عمرها .
نفضت الرعب من داخلها وهي تنفض خصلات شعرها المتشابكة لخلف كتفها هامسة بتعالي
"هل يمكنكِ ان تسرعي بالكلام فأنا على عجلة من امري ؟"
اومأت برأسها بدون ان تفقد ابتسامتها المتلاعبة والتي تستطيع اللعب بأعصاب خصمها بحرفية شديدة ، لتقول بعدها ببطء خافت وهي تصوب نظرها للحقيبة فوق كتفها
"يبدو بأنكِ على وشك المغادرة ! إلى اين يا ترى ؟"
ارتفع حاجبيها بدهشة من وقاحة سؤالها واعطاء نفسها الحرية بالتدخل بشؤونها ، لتقول من فورها بامتعاض ساخر
"ومن اعطاكِ الحق بطرح مثل هذا السؤال ؟ اهتمي بشؤونكِ بعيدا عني !"
ردت بسرعة بابتسامة مائلة بدون ان تستسلم
"نفس الحق والذي سمح لكِ بالتدخل بشؤوني والتعليق على طبيعة العلاقة الزوجية التي تجمعني مع زوجي ، وعلى كل حال نحن اقارب نعيش بنفس المنزل ونفس الحياة ونتشارك الاسرار والخفايا والمعلن عنه والغير معلن ، وإذا حاولنا التخفي او التستر عن شيء فهو سينكشف بنهاية المطاف ، لذا لما نتعب انفسنا بلعبة التنكر والخفاء هذه ونحن هكذا فقط نؤخر من الامر المحتوم لا غير ؟ صحيح يا سلوى !"
ابتلعت ريقها بهلع وهي تشدد من القبض على حزام حقيبتها بتوتر ، لتدير بعدها عينيها جانبا هامسة بخفوت مشتد
"انا ذاهبة لمنزل عائلتي ، لذا ليس هناك داعي لكل هذا التحقيق معي وكأني متهمة امامك ؟"
ارتفع حاجبيها بخفة وهي تهمس بانبهار مزيف
"جيد ! كان عليكِ قول هذا منذ البداية بدل ان تعرضي نفسكِ لكل هذا"
نظرت لها بسرعة بإمارات عابسة وهي تحرك كفها بلحظة هامسة بجمود تستغل موضوع الحوار
"بمناسبة الاسرار المستترة كنت اريد سؤالكِ عن سبب اختفائكِ وعدم رؤيتك منذ البارحة ! وهذا يعني بأنكِ قد بت ليلتك خارج المنزل بدون ان يظهر لكِ اثر ! ولكن هل هذا التصرف يخرج من ابنة عائلة محترمة متزوجة من تلك العائلة ؟ ام هي جينات اصلها المتواضع الغالبة عليها ؟ وكما يقولون الطبع يغلب التطبع !"
انحنت ابتسامتها لوهلة بدون ان تختفي عن محياها وهي تكتف ذراعيها بهدوء لتقول بلحظة ببرود قاسي
"كلامكِ يظهر انحطاط اسلوب تفكيركِ والذي لا يفكر سوى بالمظاهر واسم العائلة والتي لن تعطيكِ العقل والمنطق والذي ينقصك بحياتك ، ولكني مع ذلك سأرغم نفسي على مجاراة اسلوبكِ واقول لكِ بأني قد ذهبت برحلة استجمام مع زوجي خارج المنزل !"
عقدت حاجبيها بقتامة وهي تكرر كلامها ببهوت مستهزئ
"رحلة استجمام ! هل هذه رحلة شهر عسل اخرى ؟ فأنا لم اعد استطيع تعداد رحلات شهر عسلك وذلك الاستعراض والذي لن يحدد نجاح العلاقة بينكما !"
اومأت برأسها وكأنها تستمتع بالحوار معها هامسة بابتسامة واسعة بغرور
"لقد كانت رحلة مفاجئة بدون موعد مسبق ولكنها اجمل من ألف ميعاد ، وقد جاءت بتوقيت مناسب لترفه عن نفسي الكئيبة من اجواء المنزل واصحابه ، ولكن لم اتوقع بأن تشعري بغيابي وتفتقدي وجودي هكذا ! لقد كان هذا منتهى اللطف منكِ وقمة بالأدب !"
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تهمس من بين اسنانها بغيظ
"لا شكر على واجب ، ولو كنت اعلم باستمتاعك برحلة استجمامك لما شعرت بالوحدة بدونك وفكرت كثيرا بغيابك !"
حركت كفها ببرود وهي تهمس ببساطة مستفزة
"لا بأس فقد عدت للمنزل الآن من اجل ألا تشعري بغيابي بالأيام القادمة والتي ستكون بها شقيقة ضرتك متواجدة بقربك بكل دقيقة وثانية مثل ضرتك الثالثة ، وهذا وعد مني"
ارتفع حاجبيها بشحوب وهي تقول بسرعة بعبوس ساخر تطغى بها على خوفها
"انا ارى بأنه بدل ان تهدري وقتك بالرحلات وصنع المظاهر الاستعراضية امام العائلة لتظهري مدى الترابط بينك وبين زوجك ! عليكِ ان تفكري جديا بصنع عائلة وجلب اطفال لها بما ان روميساء قد فشلت بهذه المهمة فقد يذهب الآن كل الاعتماد عليكِ لتحضري لنا الاطفال الذين سيحملون اسم عائلة الفكهاني ، وباستنتاجي بالعلاقة المثالية التي تجمع عصافير حب العائلة فقد تنجبون لنا مئة طفل على تقدير كل شهر عسل تذهبون له ! ما رأيكِ بهذا الاقتراح المثالي ؟"
سكنت ملامحها بغمامة اسرت الاجواء بينهما لتقطعها بعدها بشبه ابتسامة برزت على طرف شفتيها هامسة ببرود
"أليس من المفترض ان يكون هذا الكلام لكِ انتِ يا كنة العائلة الكبيرة ؟ فأنا الوقت ما يزال امامي طويل ولم يمر على زواجي سوى نصف شهر استطيع الصبر والانتظار ، ولكن ماذا عنكِ انتِ والعمر يضيع منكِ بين تدمير حياة الغير ومحاولة سرقة سعادتهم وبين سلب ما هو ليس لكِ بدون ان تفكري بنفسكِ اكثر وبحياتك والتي ستسلب منكِ يوما على جزاء اعمالك عندما يكون عمركِ قد انتهى واعلن استسلامه ؟!"
اتسعت حدقتيها السوداوين مع الكحلة التي تحتل حواف كليهما لتلوح بذراعها باهتزاز وهي تهمس بانفعال واضح
"كيف تتجرأين على توجيه مثل هذا الكلام الوقح لي ؟ لقد ظننت لوهلة بأنكِ قد بدأتِ تتعقلين قليلا وتوقفت عن جرأتك والتقليل من شأن الاكبر منكِ سنا ! ولكنكِ قد خيبتِ ظني بكِ وعدت بالنهاية لأصل عائلتك والذي لا يدعو للفخر ، أليس كذلك يا ابنة المجرم ؟"
كانت تنظر لها بهدوء وهي تراقبها تتنفس بتهدج غاضب وكأنها على وشك الهجوم عليها بعد ان اصابت نقطة ضعفها والوتر الحساس بحياتها ، لتقول بعدها بخفوت شديد وهي تميل برأسها جانبا ببرود
"عذرا إذا كنت قد خيبت ظنكِ بي ! ولكني اقول ما اراه واعبر بما يناسبني ويعجبني ، ولم اخطئ بأي كلمة قلتها لكِ الآن والتي كانت تعبر عن حقيقة وضعكِ الراهن وما سيحدث معكِ مستقبلا ، وتذكري بأني لا اقول شيء من فراغ إلا وحدث"
امتعضت ملامحها بصمت وهي تعود لشخصيتها السابقة لتستدير بعيدا عنها ببساطة قبل ان تقول بنفور متعالي
"لا يهمني كل ما تقولينه وتنطقين به من ترهات لا تعنيني بشيء ، لذا خذي نصائحك وكلامك لنفسكِ وطبقيه عليكِ قد يفيدك بحياتك العملية قليلا وينظف عقلكِ من هذه الافكار السوداوية والظنون السيئة بالآخرين ، وإياكِ وان تكلميني مرة اخرى فقد اعطيتكِ اكثر من قيمتكِ واكثر مما تستحق فتاة من طبقتكم !"
ما ان كانت على وشك الرحيل حتى اوقفتها فجأة وهي تقول من خلفها بصوت متلاعب
"قد لا تعطين كلامي اي قيمة الآن ولكن بعدها سيأتي الوقت الذي يصبح كلامي ذو قيمة واهمية عندك عندما تفشل كل الطرائق للهروب من مصيرك المحتوم والمنتظر ، وحتى لو حاولتِ الاحتماء خلف طبقتك الرفيعة والنسب العريق لن يمنعها من وصول الدمار والاذى لها ! فقط سيئة واحدة قد تهدم تلال من الحسنات والفضائل فكيف سيكون بخطأ صغير يصيب طبقة اجتماعية عريقة ؟ ستكون عندها نهايتكِ مأساوية جدا"
تصلبت فقرات ظهرها وهي تلتفت بوجهها جانبا هامسة بخفوت متوجس
"ماذا تعنين بكلامك ؟"
حركت كتفيها باستخفاف وهي تهمس بابتسام ساخر
"اعتذر لقد نسيت بأنكِ تتمتعين بذكاء محدود !"
عبست ملامحها بشراسة وهي تنفض شعرها بعنف لتكمل بعدها طريقها باندفاع حتى كادت تصطدم بالذي ظهر امامها ببداية السلم وهي تتجاوزه صارخة بغضب
"ابتعد عن طريقي"
نظر لها الفتى الصغير بذهول وهو يراها تقطع طريقها لنهاية السلم بلحظات حتى كادت تتعثر بعتباتها ، لينظر بعدها باتجاه الواقفة عند الحاجز تسند مرفقيها فوقه وهي تراقب الغاضبة من بعيد بملامح هادئة ، اقترب منها عدة خطوات وهو يهمس بوجوم عابس
"ما بها زوجة شقيقي ؟ لقد كانت تبدو لي غير طبيعية وكأنها تعاني بخلل بعقلها او حركاتها !"
رفعت رأسها فجأة وهي تضحك بهدوء بدون اي مرح لتهمس بلحظة بخفوت مشتد وهي تعود بنظرها للأمام
"لا تقلق يا زين ، فهي دائما تكون هكذا بطبيعتها الحقيقية بدون اي تصنع ، انا فقط اظهرت الشخصية الحقيقية لزوجة شقيقك المختبئة خلف تعاليها الاحمق واسم عائلتها العريقة ، وهي فقط مهلة ايام قبل ان ينكشف كل المستور بحياتها وتذوق بعض من ويلاتها بالآخرين"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يدقق النظر بها قائلا بتمهل شديد وكأنه يدرس مسألة رياضية
"لا اعلم معنى كلامكِ الاخير ! ولكنكِ تبدين لي مختلفة اليوم بشكل ما ! قد تكون هيئتك الخارجية او اسلوب كلامكِ الهادئ ! او شيء من الاثنين ؟"
التفتت نحوه بجمود بعد ان انقلبت ملامحها بلحظة لتقول بعدها بتأفف غاضب
"وانت ايضا ! سحقا لكم !"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يراها تغادر بعيدا عنه بتبرم غاضب وكأنها تشتم شيء ما لم يستطع تحديده ؟ ويراهن بأنها تصوبها نحو افراد العائلة وزوجها والذي سيأخذ النصيب الاكبر منها ! ليهمس بعدها بابتسامة دبلوماسية بجدية وكأنه يتكلم عن مريضة
"مجنونة العائلة بحق ! اعانك الله عليها يا شقيقي"
_______________________________
كانت تدور بدوامة سوداء وعقلها يموج بين طيات الحاضر والماضي وهو يغرس الصور بذهنها بحقبة زمنية بعيدة انجذبت لها بدون ان تدرك ، لترى بعدها نفسها بعمر الرابعة عشر وهي تقف بوضع الدفاع وذراعيها مفرودتين على جانبيها بتأهب ليحتمي من خلفها طفلين من الشارع ، وهي تحاول مجابهة ثلاث من اولاد الطرق المتنمرين والمعروفين بالحارة من اعضاء عصابة المستذئبين والوحوش البرية والتي تثير الشغب والخراب بين ازقة الحارات والتي انتقلوا للعيش بها حديثا ، ليبادر بالكلام الذي يقف بمقدمتهم وهو يلوح بذراعه امامها قائلا بهمجية فذة
"اسمعي يا جميلتي الافضل لكِ ان تسلمي لنا هاذين اللقيطين بكل هدوء وبدون اي مشاكل ، فما تفعلينه الآن بلا فائدة وسيعود عليكِ بالضرر والسوء ، وفتاة رقيقة مثلكِ لن تحتمل قوة ثلاث رجال من الذئاب فقط لتستطيع حماية هؤلاء اللقطاء ومن زبالة المجتمع"
عضت على طرف شفتيها المرتجفتين وهي تخمد ارتعاش جسدها الواضح والذي يحاول منافسة ثلاث من الرجال ذوات البنية القوية ، لتقول بعدها بإرادة قوية تحسد عليها بدون ان تتزحزح من مكانها
"لا تحاولوا كثيرا معي لأني مهما فعلتم لن اسلم لكما هاذين الطفلين واللذان لم يذنبوا معكم بشيء ، ما هي التهمة التي تريدون توجيهها للطفلين وبأي حق تضعون اللوم عليهم بما اقترفه الكبار امثالكم حتى جعلتموهم من قمامة المجتمع ! أليس لديكم رحمة بقلوبكم ؟ ألا تملكون ذرة ضمير تأنبون عليها ؟"
تصلبت ملامحه بدون ان تتخلل بها الرأفة وهو يقول باستهجان غاضب ونظراته تحيد للطفلين المختبئين من خلفها
"هلا توقفتِ عن دور محامية اطفال المجتمع وحقوق الانسان وانتِ بالكاد خرجتي من البيضة ؟ وايضا انتِ لا تعلمين الاخطاء التي اقترفوها هؤلاء اللقطاء وبعد ان تجرأوا على مجابهتنا بوقاحة ! لذا من السليم اعادة تربيتهم من جديد وعقابهم بما يستحقون امثال اللقطاء الذين يحشرون انفسهم بكل مناسبة اجتماعية وبكل مكان محترم وهم كل ما يجيدونه هو التملق على الاثرياء لكي يعطوهم مكان بحياتهم ، وإذا لم نتصرف مع هذه الفئة من الناس فقد ينتشرون اكثر ويفسدون العالم بقذارة منشأهم......"
صرخت فجأة بنحيب وهي تحرك رأسها بنفي محتقن وكأنها تزيل قذارة كلماته عن اذنيها
"توقف عن مثل هذا الكلام ! كيف تسمح لنفسك ان تنطق بكل هذه الكلمات المجردة من الرحمة والانسانية ؟ ألا تستطيع النظر لهؤلاء الذين تتكلم عنهم بكل هذه القسوة والنفور ؟ فقد نسيت بأنهم ليس لهم يد بطبيعة منشأهم وطريقة حياتهم والتي ارغمتهم عليها الظروف ! وبدل هذه الاتهامات القاسية كان عليكم مساعدتهم ودعمهم لجعل حياتهم افضل ولتحسين العالم من فساد نشأتهم !"
رفع يده بلحظة ليقبض على ذراعها بقوة حتى بدأت تأن بألم وهو يقول من بين اسنانه بوحشية فقد زمام السيطرة عليها
"لقد تجاوزت حدودكِ واكثر مما يسمح لكِ ، وإذا كنتِ تريدين تلقي العقاب مع حيواناتك البريئة فلا امانع ابدا بفعلها ، فهل لديكِ المقدرة الكافية على تحمل عواقب تدخلك واخذ العقاب عن حيوانات المجتمع ؟"
صدح الصوت الصارم بقوة جهورية حتى انتفض جسدها برعشة خاطفة
"اتركها حالاً"
افلت ذراعها برجفة وهو يلتفت ناحية الذي شد الانظار نحوه بصوته الجهوري العميق والذي يدل على هوية رجل قوي الكلمة والبنية ، ليتحرك بعدها بخطوات ثابتة وهو يقول بهدوء يحمل عواصف هوجاء
"هل ستبقون واقفين هكذا بدون حراك او كلام ؟"
ابتلع ريقه بتوجس الذي كان يتقدمهم وهو يحرك يده للاثنين الساكنين قائلا بجمود قاتم
"اسمع يا ابن مسعود ، كل الذي حدث مجرد سوء تفاهم ولم نرغب حقا بإيذائها او اصابتها بمكروه ، لقد كنا نحاول ان نفهمها الكلام وتهديدها فقط ، لذا لا داعي لاستخدام العنف بهذه المواقف"
استمر بالسير بخطوات هادئة باتزان وهو يقول بابتسامة متغضنة بغموض
"حقا هل هذا صحيح ؟"
وما ان وصل امامه بلحظة حتى كان يلوي ذراعه خلف ظهره بلمح البصر وهو يهدر امام وجهه بقوة
"لقد حذرتك اكثر من مرة من فعلها ولمسها بسوء وحتى لو كانت حركة عابرة من دافع التهديد ، ولكنك تعيد الكرة بكل مرة بدون ان تتعلم من الدرس الأول ! ماذا تريدني ان افعل بك الآن ؟"
حرك رأسه بالنفي وهو ينظر لضخامة بنيته وجسده والذي يستطيع سحقه بثواني بسبب عمره الذي يفوق الجميع ، ليفلت بعدها ذراعه والتي كاد يخلعها بلحظة وهو يدفعه بعيدا بقسوة ، وما ان استقام اخيرا حتى اشار بكفه لرفاقه للانسحاب وهو يقول بآخر كلام بحقد متوعد
"لن انساها لك يا ابن مسعود"
غادر بعيدا امام نظراتها المشدوهة وهي تنقلها ناحية الساكن بمكانه والذي يقارب منتصف العشرين من العمر ، لتشعر بعدها بيد صغيرة تسحب طرف قميصها وهو يهمس بصوت خافت بامتنان
"شكرا جزيلا لكِ يا روميس"
التفتت بوجهها بهدوء وهي تبتسم بحنان غزى محياها بلحظة هامسة بتودد
"لا بأس يا صغاري المهم ان تنتبهوا على انفسكم وتحاولوا قدر المستطاع الابتعاد عن الخطر وعن حدود تلك العصابة ، حسنا ؟"
حركوا رؤوسهم الصغيرة ببراءة وهم يغادرون بعيدا عنها بلحظات ، لتوجه بعدها نظرها للواقف بسكون وهي تقترب منه عدة خطوات ، لتحني بعدها رأسها باحترام وكل ما تكنه له وهي تهمس بامتنان شديد
"شكرا لك على مساعدتي ، انا وجميع الاطفال ممتنون لك......"
قاطعتها اليد التي حطت على رأسها وهي تتمرد بالعبث بشعرها الناعم قائلا بخشونة حنونة
"غبية يا روميس ، متى ستتعلمين ان تتوقفي عن اقحام نفسكِ بما لا يعنيكِ يا محامية الاطفال ؟"
تراجعت بسرعة وهي ترتب شعرها والذي بعثره كما يفعل دائما هامسة بتبرم عابس
"توقف عن هذا يا يوسف ، فأنا لست طفلة حتى تعاملني هكذا"
استدار بنصف جسده وهو يقول بابتسامة جانبية بهدوء متزن
"هيا تحركي يا كسولة ، فلن استطيع انقاذكِ من والدي ما ان يكتشف تغيبك عن العمل بسبيل اللهو مع الاطفال"
تأففت بحنق بالغ وهي تهمس من بين شفتيها بتذمر طفولي
"لم اكن ألهو معهم بل كنت ادافع عنهم !"
عادت الكف لتربت على رأسها وهو يحاول مجاراة سنها وكأنه يداري بطفلة صغيرة ، لتشعر بثقل الكف على رأسها وهي تتحول لأكثر واقعية وكأنها تستشعر ملمسها على رأسها بتربيت ناعم ، وما هي ألا لحظة حتى بدأت تستعيد واقعية ذهنها واحساسها بمحيطها الخارجي وهي تحاول فتح عينيها بصعوبة شديدة وبإنهاك سيطر على عضلات جسدها بتشنج وكأنها تسند جسدها على صخرة قاسية .
اتسعت حدقتيها الخضراوين باهتزاز طفيف ما ان اتضحت صورة الرجل الواقف فوق رأسها ، ليوقظها من ذهول اللحظة الصوت الخشن الهادئ قائلا بين طيات احلامها البعيدة
"هل انتِ بخير ؟"
انفرجت شفتيها بتأوه خافت غير مسموع وهي تنتفض على ملمس اليد فوق رأسها والتي شعرت بها بردة فعل متأخرة ، ليتراجع بعدها للخلف ما ان نهضت عن طرف السرير امامه حتى كادت تتعثر من اندفاع حركتها ، رفعت كفها بضعف وهي تهمس بلهاث مرتجف
"انا بخير"
وقف الرجل باتزان على بعد خطوات منها وهو يراقبها تحاول ضبط نفسها على اثر الصدمة التي لم تخرج منها بعد ، ليقول بعدها بخفوت شديد بنبرة متزنة
"هل انتِ بخير يا روميس ؟"
تجمدت ملامحها وهي ترفع رأسها ببطء مهيب لتقول بعدها بانفعال مضطرب
"ماذا قلت الآن ؟"
حرك رأسه وهو يكرر كلامه بهدوء جاد
"لقد كنت اقول هل انتِ بخير يا معلمة روميساء ؟"
اومأت برأسها بهزة طفيفة بغمامة ما تزال تأسرها وكأنها بحلم مجنون لم تستيقظ منه بعد ، لتشتت بعدها نظراتها من حولها بارتباك وهي تقع بلحظة على الطفل النائم فوق السرير بسلام والذي يصادف بأنه نفسه من اوصلته لمنزله بالصباح ولازمته حتى يخلد للنوم وتغادر ، ولكن الواقع بأنها هي قد نامت معه وغفت بمكانها بدون ان تشعر او تدرك ذلك حتى وصلت للموقف الذي تراه امامها الآن وتظنه حلم مجنون غرقت به !
ابتلعت ريقها بتخبط وهي تعود بنظرها لنفس الرجل الهادئ بدون ان يبدي اي تعبير على ملامحه ، ولا تعلم لما دخلت صورته بحلمها وتجسد على شكل شخص آخر تعرفه جيدا ؟ ام هي آثار غفوتها السريعة والتي جلبت لها تلك الأوهام ؟
قالت بعدها بلحظات بهدوء وهي تحاول استعادة تنظيم افكارها
"انت والد سامي ؟"
اومأ برأسه بجمود وهو يجيبها بهدوء مختصر
"اجل"
تلبكت ملامحها اكثر ما ان اكتشفت حجم مصيبتها وخيبتها والتي اوصلتها لهذا الموقف المخزي وهي تنام بغرفة ابن رجل غريب ! لتخفض رأسها بسرعة بحياء استبد بها وهي تهمس بخجل شديد واكثر ما وجدته مناسبا بحالتها العصيبة
"انا اعتذر يا سيدي على اقتحام منزلك والنوم بغرفة ابنك ، اتمنى ان تتقبل كامل اعتذاري وتسامحني على هذه الهفوة ، فكل شخص منا معرض للوقوع بالخطأ بالحياة !"
عضت على طرف شفتيها بكبت متفجر وهي لا تجد طريقة للهروب من إحراج الموقف المخزي والذي فاق كل مآسي الماضي ، لتتسمر بلحظة وهي تسمع الصوت الهادئ والذي وصل لها بوتيرة مألوفة
"لا بأس يا آنسة حدث خير ، وبالمناسبة اسمي يوسف"
رفعت رأسها بارتعاش وهي تبادله النظر لوهلة وكأنها تراه لأول مرة وليس لمرتين متواصلتين لحد الآن ! لتفيق بسرعة على وضعها وهي تقبض على يديها قائلة بعملية عادت لتقمصها
"حسنا ماذا كنا نقول ! اقصد سامي قد تعرض للتعب والدوار بالمدرسة لذا اضطررت لمغادرته للمنزل بوقت مبكر ليستطيع اخذ قسط من الراحة بمنزله ، واعتذر إذا كان قد ازعجك هذا الامر بسبب عدم اخذ رأيك به فأنت لديك كل الأولوية لمعرفة ما حدث لأبنك لأنك بالطبع صاحب الأمر"
ابتسم بهدوء متغضن وهو يقول بخفوت ممتن
"شكرا لكم على اهتمامكم بابني ، وشكر خاص لكِ على تعبك معه وإيصاله شخصيا للمنزل وملازمته بدون ان تتركيه"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تقول بلحظة بشخصية الحامية القديمة وهي تتمثل بصورة الواقع
"هل هذا تبريرك فقط على ما حدث لابنك من إهمال واستهتار حتى تدهورت صحته وغاب عن وعيه بالفصل ؟ هل سألت نفسك عن سبب ما حدث له اليوم ؟ وانت فقط تهتم برحلة عملك والتي اخذتك بعيدا عن ابنك ومنزلك لتترك طفل بالثامنة ليلة كاملة بدون ان تفكر من احتمالية اصابته بأذى او سوء او حتى وحدة بدون اي رفيق او احد كبير معه يهتم بأموره ومسؤولياته والتي تفوق عمره بكثير ! لماذا لا تعطي اهتمام اكبر لابنك الوحيد ؟"
ساد صمت ثقيل بالأجواء من حولهما وهي تنظر له بعينين واسعتين بدون ان ترمش ، ليقطع الصمت الطويل الواقف امامها وهو يقول بابتسام طفيف بدون اي انفعال
"شكرا لكِ على التنبيه ، لقد كنت احتاج بشدة لهذه المحاضرة فقد تبين بأن مهمة الاهتمام بالأطفال والموازنة بينها وبين العمل صعبة جدا عليّ ! ولكن سأحاول من الآن وصاعدا عدم الخلط بينهما وتفضيل واحد منهما على الآخر ، شكرا لكِ على اهتمامك بأبني يا حامية الاطفال"
ارتفع حاجبيها ببهوت لوهلة ذكرها بجزء من حلمها الذي ايقظ منامها من لحظة ، لتتمالك بعدها نفسها وهي تلوح بكفها بعشوائية هامسة بخفوت
"حسنا بما ان الفكرة قد وصلت لك ، عذرا الآن توجب عليّ الرحيل ، وليلة سعيدة يوسف...اقصد سيد يوسف ، وداعا"
عدلت الحقيبة بسرعة فوق كتفها وهي تسير باتجاه باب الغرفة لتوقفها همسته الاخيرة بهدوء عميق
"وليلة سعيدة لكِ يا روميس...اقصد معلمة روميساء"
توقفت للحظة فقط لم تأخذ منها طويلا قبل ان تغادر بسرعة بخطوات تسارعت تلقائيا وكل ما تريد الوصول له هو باب المنزل ، ولسان حالها يردد مع نفسها بخفوت وجل
"يا إلهي سامحني على هفوتي !"
بينما الذي تركته خلفها كان يحدق بالهاتف المستقر بجانب رأس الطفل النائم ، قبل ان يوجه نظره لباب الغرفة وهو يقول بشبه ابتسامة شاردة بتصلب
"روميس الغبية ، متى ستتوقفين عن اقحام نفسكِ بما لا يعنيكِ ؟"
__________________________________
قربت شفرات المقص الحاد من خصلات غرتها الطويلة وهي تحاول تحديد المستوى الذي تريد التقصير منه ، وما ان اصبحت الخصلات المتمردة بين قبضة المقص والذي يوشك على الفتك بها مثل فك القرش حتى ارتخت بلحظة والخصلات تنزلق لأطرافها ، لينتهي بها الامر وهي تقص الاطراف الطويلة فقط والتي كانت تتمرد امام عينيها لتطير عاليا حتى اصبحت تحف حاجبيها السوداوين بحد السيفين وكأنها تقص من ريش جناحيها .
تنهدت بتهدج انتفخ معها قفصها الصدري لا إراديا وهي تخفض المقص بعيدا عن نظرها لوهلة ، لترتفع بعدها طرف شفتيها بذبول شاحب تشرب بملامحها رغم كل ما حدث معها منذ عودتها من رحلة الضياع تلك والتي غيرت هدفها من الحياة ، ولكن بعد كل شيء لن تستطيع تغيير ماضي زرعه بداخلها ونبت مع الايام ليتشعب ويتفرع بداخل روح تجرعت الكثير واصبح من الصعب نزعها من جذورها الخالدة منذ سنوات .
قبضت على يديها وهي تنظر لصورتها التي انعكست بالمرآة بوضوح تجردت من صورتها القديمة واظهرت عيوبها التي حاولت لسنوات طمسها بعيدا ، وهي تقابل امامها فتاة ذات وجه حزين ببشرة شاحبة وعينين جاحظتين بلون السماء الباهتة تمكنت منها طعنات الحياة اكثر من مرة حتى جردتها من كل انواع الانسانية والرحمة لتتحول لآلة تسير فقط على اوامر عقلها والمنطق الصحيح بحياتها ، لتصل برحلة تأملها لشعرها المتحرر حول وجهها وهو يتسرب ويتدفق على جانبي وجهها وكتفيها مثل ستائر تخفي الضعف المتمحور بشكلها وحياتها بدون ان يستطيع احد مسه بسوء ، وهي تذكر جيدا اللحظة التي كانت توشك على خسارة كل هذه الحماية بحياتها والقوة الوحيدة التي تبقت لها وحافظت على وجودها بعناد تحسد عليه .
لقد كانت حينها تنظر لتلك اليد التي امتدت نحوها بشفرات المقص الحاد المخيف والذي يستعد لقص جناحيها ، ليتوقف المقص بمنتصف الطريق بسبب اليد التي هجمت على معصمه لتأسر حركته بثواني ، وبلحظة كانت ابتسامته تلتوي بخبث واضح وهو يقول بنبرة جامدة لا تخلو من القسوة
"ماذا بكِ ؟ لماذا اوقفتني ؟"
تنفست بارتعاش لوهلة وهي تسحب يدها بعيدا عن معصمه لتقول بعدها ببهوت جاف
"لقد غيرت رأيي ، لا اريد تقصير شعري"
تجهمت ملامحه بقتامة وهو يبعد المقص من امامها قائلا بسخرية باردة
"لماذا غيرت رأيكِ بآخر لحظة ؟ ألم نتفق على قرار تقصير شعركِ حتى تستطيعي تقمص شخصية الفتيان وتسهل خوض المهمات علينا ! فما فائدة الحفاظ على هذا الشعر الطويل إذا لم يكن ينتج منه اي ربح ؟"
نظرت له بحدقتيها الغائمتين بجمود اكتسح محياها وهي تهمس بلحظة بعناد تربص بروحها المنتهكة
"لقد ادركت للتو بأنني احتاج لهذا الشعر اكثر من اي شيء آخر ، ولا تقلق بشأن مهامك اليومية استطيع فعلها وتقمص شخصيتي المعتادة بدون ان اغير شيء من شكلي ، واعدك بأن انجز مهامي على اكمل وجه وكما تريد وترغب"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يلف شفرة المقص على خصلة شعر طويلة قائلا بانفعال مكبوت
"هل انتِ متأكدة من قرارك ؟ هكذا ستعرضين نفسكِ للخطر وقد تدفعين بحياتك لحافة الهاوية عندما تكشفين هويتك الحقيقية بهذه المهام والتي لا تتطلب التساهل بها ! وانا بالطبع لن اكون اقل رأفة من الباقين معكِ فقط لأنكِ ابنتي الروحية ! وتذكري بأنني بوقت العمل انسى الروابط والعواطف وكل شيء ولا يبقى سوى الرجل الذي سيقبض على حياتك وينهيها إذا حدث وتلاعبت بحياتنا ، سمعتي يا عزيزتي !"
شدت على اسنانها بألم ما ان شعرت بخصلة شعرها تكاد تقتلع من المقص المرتبط بالخصلة ، لتهمس بعدها بأنين خافت بدموع حبيسة برزت بمقلتيها الزرقاوين
"لو لم اكن واثقة بكلامي لما قلته لك ! ولو لم تكن تثق بي لما دفعتني كل هذه الفترة بخوض كل ذلك العدد من المهام الصعبة ! لذا رجاءً اترك شعري وشأنه فهو الشيء الوحيد والذي طلبت الحفاظ عليه"
تشنجت ابتسامته بغموض وهو يسحب المقص بعيدا عن شعرها بعنف جعدت الخصلة وافسدت نعومتها ، ليقول بعدها وهو يتأمل المقص باستهزاء خافت
"لا اعلم ما هي القيمة التي ستجنيها بالاحتفاظ بكل هذا الشعر ؟ فكل المهام التي ستتقمصين شخصيتها هي لفتى قصير الشعر ! ونحن نحاول قدر الإمكان عدم لفت الانتباه وجلب الشبهة لنا ، ولا نريد ان نتعرض للمشاكل بسبب شكل شعرك الطويل والذي سيكون محط انتباه الجميع"
احنت حاجبيها بسحابات قاتمة وهي تهمس بوجوم قاتل
"انا اريد الاحتفاظ به لنفسي ، وهذه رغبة شخصية لا علاقة لها بالآخرين ، واعدك بأن لا تفسد مشاريع عملك ومهماتك الخطيرة"
ارتفع حاجبيه للحظات وهو يتنفس ببرود ليقول بعدها ببهوت ساخر
"يا لكِ من فتاة يائسة ! افعلي ما تشائين ولكن بحدود وجودك بهذا المكان ، وإذا كنتِ تريدين الاحتفاظ بهذا الشعر فلا مانع بذلك ، وهذه ستكون رحمة من والدك الروحي"
غامت ملامحها ما ان امسك بكفها ليضع المقص براحة يدها وهو يتمتم بخبث ماكر
"ولكني لست مسؤولاً عن تبعات قرارك هذا ، ولن استطيع حمايتك من البشر الراغبين بكِ طويلا ، فأنا الوحيد الذي يعرف بموطن ضعفك والذي تحاولين اخفاءه بشتى الطرق وبستار شعرك المزيف ، تذكري هذا الكلام جيدا يا ابنتي العزيزة"
عضت على طرف شفتيها بقهر وهي تفيق على صورتها المحترقة امام المرآة والتي امتزجت بغلالة الدموع والتي قيدت مقلتيها الزرقاوين بذكريات لسعت روحها واذاقتها الويل ، لتحني بعدها رأسها قليلا وهي تتنفس بهياج طفيف وكفها تعصر المقص بيدها بدون ان تأبه بالألم الذي نخر باطن كفها .
ارتخت مفاصلها وهي تسمع صوت انفتاح باب الجناح بالخارج والذي يعلن عن وصول الوحيد والذي يسمح له بالدخول لهذا المكان كما اقتحم حياتها واستقر هناك ، رفعت قبضتها وهي تمسح على وجنتيها الحمراوين وعينيها بقوة حتى محت كل اثر من الدموع عن محياها ، لتأخذ بعدها عدة انفاس طويلة بتأهب وهي تستدير بمقابلة الباب والذي انفتح بذات اللحظة والتي وقعت عينيها عليه وكأنها اصابت بتكهن موعد اقترابه من الغرفة .
غيم الصمت بالمكان ببرودة الاجواء بينهما والتي بدأت تتسلل بالدفء بين حناياه بطريقة سحرية وكأنها نواتج تغيير مسار علاقتهما وثمرة توهج العاطفة بينهما ، وما هي ألا لحظة حتى تحررت ابتسامته بانحناء ساحر وهو يفرد ذراعيه امام صدره ليشير بأصبعي السبابة والوسطى امام موطن قلبه بحركة واضحة معناها (انتِ بقلبي) ، ليتبعه بتقبيل اطراف اصبعيه بحركة اكثر اثارة وهو يمسح على شفتيه بابتسامة ماكرة برزت على محياه وهي تشير لمعنى واحد (قبليني) .
زمت شفتيها بامتعاض وهي تتنفس باحتقان واجم بلهب المشاعر التي اثارها بينهما ، لتتحرك بعدها بخطوات ممتثلة بتردد اصبحت تتسارع تلقائيا وهي تصل له بثواني ، لترفع بعدها نفسها على اطراف قدميها وهي تتشبث بكتفيه لتعطيه قبلة سريعة على شفتيه بتلامس رقيق ، وما ان اختل توازنها قليلا حتى تمسك بخصرها بقوة وهو يقربها منه بدون ان يسمح للفرصة بالهروب منه لتتحول لقبلات متلاحقة سحق الرقة بداخلها وتجاوز حدود العاطفة ، لتحرر نفسها غصبا من جنون قبلاته وهي تريح رأسها على كتفه باسترخاء وذراعيها تطوقان عنقه تلقائيا ، لتهمس بلحظة بخفوت حانق
"هذه آخر مرة اقدم لك قبلة بدون شروط ، وبالمرة القادمة عليك ان تكون اكثر ارضاءً حتى تستحق قبلتي"
ضحك بخفوت اجش هز خفقات صدرها التي كانت تضرب موطن قلبه ، لينحني بعدها بجانب اذنها وهو يهمس بها بانفعال مرح
"كل ما فعلته من اجلكِ ولم احصل بعد على رضائك يا قطتي المتمردة ! انا ارى بأنني قد بالغت بدلالك حتى اصبحتِ تتأمرين على سيدك !"
ابتسمت بغرور وهي تغمض عينيها هامسة بخفوت مشبع وكأنها قطة تناولت وجبة دسمة
"اجل هذا ما لدي يا عزيزي ، فقد تبين بأن زوجتك انانية ومتمردة ولا ترضى بالقليل ، وعليك ان تعاني معها من اجل ان تحصل على قبلاتها وحبها"
تنهد بابتسامة واسعة حتى ظهرت اسنانه الشرسة وهو يزيد من عناقها الكاسر ليهدر بلحظة بأذنها بحرارة ملتهبة
"كم اعشق انانيتك ! واتوق بشدة لتذوق معاناتك والتي لن تقارن بأي معاناة لأنها ستربحني حبك !"
تغضن جبينها بتشنج ما ان امسك بيدها خلف عنقه وهو يشعر بملمس شفرات المقص بقبضتها ، وبلحظة كان ينزع ذراعيها من خلف عنقه بهدوء مهيب وهو يحدق بالمقص بداخل كفها بعيون جامدة لا ترحم .
فتحت عينيها بصمت على صوت انفاسه الثائرة بصوت خافت محتد
"ماذا يفعل المقص بيدكِ يا ماسة ؟"
رفعت رأسها بهدوء وهي تنتصب بعيدا عنه لتوجه نظراتها ليده التي كانت تعتقل كفها والمقص مستكين بداخلها ، لتهمس بعدها بابتسامة باهتة بوجوم
"وماذا سأفعل به برأيك ؟ ربما اغدر بك بقطع رأسك بدون ان تشعر !"
تصلبت ملامحه بدون اي مرح وهو ينتزع المقص من كفها ليلوح به امام وجهها قائلا بصرامة لا تقبل المزاح
"هل ترين الوقت مناسب لمزاحك السخيف ؟ انا اتكلم معكِ بجدية يا ماسة لذا اجيبِ بقدر السؤال ! ماذا يفعل المقص بيدك ؟"
ضيقت عينيها بقسوة وهي تحرك كتفيها ببرود هامسة باستفزاز متعمد
"وانا لن اجيبك بقدر السؤال والذي يظهر بأنك لا تحتاج له بعد ان حددت الاجابة بنفسك وفكر عقلك الاحمق بما ستفعله فتاة مجنونة مثلي بمقص ! وقد حولت السؤال لاتهام مبطن واضح جدا !"
تجمدت ملامحه بقسوة اكبر وهو يمسك بكتفيها بقوة ليعود للكلام مجددا بهدوء جاد يكاد يحرق بشرتها القريبة منه
"تكلمي يا ماسة ولا تلعبي بأعصابي اكثر ! ماذا كان يفعل المقص بيدك ؟ هل عدتِ لارتكاب اي حماقة جديدة اخرى ؟ ما لذي فعلته بغيابي ؟......."
قاطعته بفورة الغضب وهي تنتفض بعيدا عنه قائلة بقنوط ساخر
"لا تقلق لم افعل شيء احمق كما يصور عقلك ! فأنا فتاة متزنة عقليا وجسديا بعد كل شيء ! وهذا المقص كنت احاول تقصير اطراف شعري وليس لشيء آخر ، هل صدقتني الآن ؟"
زفر انفاسه ببعض الراحة والتي تخللت عضلات محياه ليسحبها بعدها بلحظة لداخل احضانه وهو يعصر جسدها بعناق اكثر خشونة ليطفئ ممانعتها وتمردها بين احضانه الساحقة ، لترتخي مفاصلها بلحظة بدفء تسرب لحنايا قلبها على اثر صوت صخب نبضات قلبه والتي اخترقت قفصها الصدري واختارته موطن ، لتستمع بعدها لصوته وهو يهمس بخفوت خشن بقسوة لم تعهدها منه
"متى ستتوقفين عن دفعي للخوف عليكِ بكل مرة ؟ هل يسعدك ان يصيبني الجنون عليكِ ؟"
عضت على طرف شفتيها بعبوس وهي تهمس ببرود متجهم
"عندما تتوقف عن رؤيتي على اني مجنونة ؟"
تسمرت عضلات صدره لبرهة وهو يشدد اكثر من احتضانها ليهبط بعدها بجانب اذنها وهو يهمس بشغف واضح
"انا المجنون بيننا وليس انتِ ، أليس هذا كلامك ؟ وعلى كل حال المجانين يرتبطون ببعضهم ! صحيح ؟"
زمت شفتيها بارتجاف زاد توهج روحها ما ان شعرت بقبلاته على خدها وصدغها واذنها حتى وصلت نزولا لعنقها من تحت ياقة بيجامتها ، لتنتفض بعدها بعنف وهي تنزع نفسها من احضانه بصعوبة حتى افلتها اخيرا ، لتحاول بعدها الوقوف باستقامة وهي تتنفس بتهدج صاخب حتى وصل قرع النبضات لأذنيها الحمراوين من سباق قبلاته .
ابتسم بعدها بميلان خبيث وهو يتقدم بوجهه امامها قائلا بخفوت مشتعل
"انظري ما اجملكِ وانتِ تتوهجين بالحياة العاطفية والتي بدأت بالظهور والتسرب لملامحك ولحركات جسدك ! وخاصة بحركة احمرار اذنيكِ عند تلقي قبلات عليها مثل....."
رفعت كفها وهي تصرخ باحتقان ببحة غضب مثيرة
"كفى يا شادي"
عض على طرف ابتسامته وهو يلاحق ارتجاف شفتيها بكلامها بمتعة لا تضاهيها اي متعة وكأنها قطعة جليد قد اذابها بنار مشاعره التي اصبحت تتوهج بداخلها ، انقلبت ملامحه بلحظة وهو يرفع المقص بيده قائلا بجدية هادرة
"هل سمعتكِ تقولين بأنكِ تقصين شعركِ ؟ من الذي سمح لكِ بقصه او لمسه بدون ان تأخذي اذن المسؤول عنكِ ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تهمس ببرود جليدي
"لقد كنت اقص اطراف غرتي الطويلة ولم ألمس شعري"
اومأ برأسه بهدوء وهو يميل بجذعه امامها بتأمل صامت وهو يلاحظ ظهور استدارة حدقتيها السماويتين بوضوح اكبر بعد ان حفت خصلات الغرة حاجبيها ، ليمسح بعدها على شعرها بأصابعه وهو يقول بابتسامة جانبية بحزم
"هذا جيد لقد استطعتِ ان تنفذي من العقاب هذه المرة ، ولكن إذا اعدتها مرة اخرى وحاولتِ قص خصلة واحدة من شعرك ، فلن امررها لكِ فهذا الشعر قد اصبح ملك لي وغير مسموح لكِ بلعب به تحت طائل المسؤولية"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تلوي شفتيها هامسة بجموح
"يا لغرورك !"
افاقت على يديه التي قربت جسدها منه بلحظة لتلتصق به على بعد سنتمترات صغيرة وهو يهمس بثورة مشتعلة لم تخمد ولو قليلا
"حسنا عن ماذا كنا نتكلم من لحظة ؟"
تأوهت بغضب وهي تدفع صدره بقبضتيها قائلة بحزم جاد
"توقف عن اللعب يا شادي ، فأنت لم تعود للمنزل سوى من دقائق ! وليس من اللائق ان تبدأ الآن بدروسك العاطفية قبل ان تنهي واجباتك الشخصية !"
تأفف بوجوم وهو يفلت خصرها برفق قائلا بضيق
"يا للإزعاج ! كم تعشقين افساد لحظاتنا الحميمية يا عدوة العاطفة !"
ابتسمت بهدوء وهي تتجاوزه لتخرج الملابس المريحة من الخزانة قبل ان تستدير نحوه ببساطة وهي تسلمها له ، ليأخذ منها الملابس بجمود وهو يقول باستياء غاضب
"لا بأس يا عزيزتي استمتعي بوقتك حتى اعود لكِ"
وقفت خلف ظهره وهي تدفعه للأمام قائلة بأمر
"هيا تحرك وتوقف عن الكلام يا استاذ عاطفي"
توقف بمكانه قليلا وهو يستدير نحوها ليلقي لها بالمقص عاليا والذي تلقفته بسرعة ، ليقول بعدها بإشارة اصبعين من يده بتحذير صارم
"إياكِ والتصرف بحماقة فأنتِ امانتي ولا احب ان يفرط بها احد"
اومأت برأسها بابتسامة هادئة وهي تراه يكمل طريقه للحمام المرفق ، وما ان اغلق الباب من خلفه حتى حررت انفاسها بهدوء وهي تسند ظهرها على الخزانة بحالة سكون لحظي ، لتنظر بعدها للمقص بكفها وهي تشدد عليه هامسة بوعد صادق
"لا تقلق امانتك بأيدي امينة"
____________________________
اوقفت السيارة امام مدخل المنزل وهي تتنفس بارتعاش ما يزال ينتابها من جنون اللحظات السابقة ، لترفع بعدها عينيها بتذكر وهي تمسد على جبينها بأصابعها هامسة باضطراب
"هل يعقل بأن تكون مجرد صدفة ؟ سحقا لمثل هذه الصدف !"
اخفضت رأسها وهي تضرب على جبينها بقبضتها بانفعال مكبوت وهي تهمس من بين اسنانها بتفكير متوجس
"ولكن لا احد يناديني بذلك الاسم سوى سكان الحي القديم والذي كان اختصار لاسمي والصعب النطق على الاطفال !"
زفرت انفاسها بنشيج وهي تخرج نفسها من دوامة الافكار والسيارة بأكملها ، وما ان فعلت حتى لفحها هواء الربيع البارد ليزيل عنها غمامة الحزن والذكريات ، وهي تتأمل وقت غروب الشمس الواضح من بعيد والذي تشكل مثل لوحة ساحرة توشك على الرحيل وتركها مع ظلال الليل وقيود الماضي الاسير .
تسمرت بمكانها برعشة وهي تحيد بنظراتها للسيارة السوداء التي توقفت قريب من سيارتها ، لتحرر بعدها انفاسها بارتياح ما ان خرجت صاحبة السيارة الخاصة والتي يقودها السائق وهي تظنه شخص آخر لوهلة .
تصلبت مفاصلها بتجمد وهي تبعد نظراتها بسرعة ما ان التقطت شرارة النظرات الحاقدة التي اصبحت محط اهتمامها ، لتجر بعدها الخطى بثبات تكاد تجري على درجات سلم المدخل وهي تدعو بداخلها ان تهرب من شباك مواجهتها والتي لن تخلو من الشد والجذب ، ولكن كما توقعت خاب املها وهي تقف بمنتصف طريقها بعد ان قطعت درجات السلم وابتعدت عن محور الخطر وهي تسمع الهتاف الناعم بدون اي مودة
"مساء الخير يا روميساء"
تحاملت على نفسها وهي تزفر انفاس طويلة لتستدير للخلف بلحظة وهي تختلق ابتسامة واسعة بشحوب واهن ، وما ان اصبحت مقابلة لها وهي تتصنع نفس الابتسامة المزيفة حتى قالت بهدوء رقيق
"يا لها من صدفة تقابل الضراير ! هل هو القدر الذي جهز لنا هذا اللقاء المنتظر ام سر محبتنا لبعضنا ؟"
ارتفع حاجبيها بهدوء وهي تهمس بابتسامة باهتة بوجوم
"لا اعتقد بأن واحد من الخيارين صحيح ! ولكني سعيدة بصدفة رؤيتك الآن يا سلوى"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تمرر نظرات سريعة على ملابسها العملية والتي تكهنت عن المكان القادمة منه ، لتقول بعدها بحاجب مترفع وهي تعود لمواجهة عينيها الخضراوين واللتين تخلل بهما احمرار الإرهاق
"يبدو بأنكِ قد عدتِ لعملكِ السابق ، ولكن لما العجلة كان عليكِ ان تعطي نفسكِ ايام نقاهة اكثر ؟"
حركت رأسها بهدوء وهي تهمس بجدية عملية
"لا بأس بذلك فقد تحسنت صحتي ولم يعد هناك داعي للتغيب عن العمل اكثر ، وانا لا احب الإهمال بمسؤولياتي التي سبق وتكفلت بها ، فأهم شيء عندي هو الالتزام والانضباط بالعمل وهذه هي اولوياتي بالحياة"
مالت ابتسامتها بمغزى وهي تحرك كفها هامسة بخفوت ساخر
"أليس من المفترض ان تكون مسؤولياتك اتجاه زوجك ومحاولة تعويضه بطفل آخر هي اولوياتك بالحياة ؟ على كل حال لستِ ملامة فقد تعرضتِ لصدمة كبيرة انستكِ ترتيب اولوياتك وكل شيء يتعلق بالأطفال ! وانتِ تحاولين تعويض هذا النقص بداخلك بممارسة عملكِ بوظيفة تعليم طلاب الابتدائية وكأنكِ تستخدمين هذا السلاح دواء لجروحك !"
تغضن جبينها بشحوب وهي تشيح بوجهها جانبا لتقول بلحظة ببرود اكتسح حياتها
"ربما يكون كلامكِ صحيحاً فهذا ما اشعر به تماما !"
عضت على طرف شفتيها بامتقاع وهي تضرب بقبضتها على صدرها هامسة بتأنيب
"اعتذر يا ضرتي العزيزة إذا كنت قد قللت الادب معكِ بكلامي الغير محسوب ، فأنا دائما هكذا الذي بقلبي على لساني ، ولا اعرف حقا متى سأتعلم كبت مشاعري والتي تفيض عن حدها وتتمرد على إرادتي ؟"
اومأت برأسها بشرود وهي تهمس بخفوت غير مبالي وكأنها تكلم نفسها
"لا بأس فأنا لا اعطي اهتمامي لهذه الامور"
عقدت حاجبيها بضيق وهي تكتف ذراعيها بلحظة قائلة بحدة مفاجئة
"بالمناسبة كنت اريد الكلام معكِ بموضوع هام ، وانا سعيدة جدا لأني استطعت رؤيتك للتكلم معكِ !"
نظرت لها بسرعة بعينين واسعتين عبث بهما الخوف وهي تهمس بخفوت حائر
"عن ماذا تريدين التكلم معي ؟"
اتسعت ابتسامتها بتحفز ما ان وصلت لمرادها وهي تقول بعبوس مزيف
"لقد كنت اريد ان اشكي لكِ عن شقيقتك ماسة ، فقد تجاوزت كل حدود الادب معي بدون ان تعطي شان لفارق العمر بيننا"
ارتفع حاجبيها بحيرة اكبر وهي تهمس بوجوم مستاء وكأنها تستعد لتلقي القنبلة المعتادة من كل المتذمرين من تصرفات شقيقتها المتمردة
"وما لذي فعلته شقيقتي معكِ ؟ هل تجرأت على اذيتك جسديا ام معنويا ؟ ام كان مجرد كلام جارح وتلقي إهانة منها !......"
قاطعتها بسرعة بغضب كاسر من استنتاجاتها الجارحة اكثر من كلام شقيقتها
"اكيد لم يحدث شيء من هذا ، انا اقصد بأنها حاولت اتهامي بكلام مبطن وتهديدي علانية بدون اي حدود وكأني قاتلة عائلتها !"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تهمس بعدم استيعاب
"اتهام مثل ماذا ؟!"
ردت عليها ببساطة بدون اي مواربة
"اتهام بقتل طفلك"
اتسعت حدقتيها ببهوت مشوش غيم عليها لوهلة لتقول بعدها بوجل خافت
"قاتل طفلي ؟"
اومأت برأسها بعصبية وهي تلوح بذراعها جانبا بتمثيل متقن قائلة باستنكار غاضب
"اجل هذا ما كنت اتكلم عنه ، لقد كانت شقيقتك تلمح بكلامها بأني المتهم بقتل طفلك بكل وقاحة وتبجح بدون اي دليل يثبت كلامها ! هل تصدقين هذا الكلام والذي لم يجرحني وحسب بل اهانني بشدة ؟ كيف تفكر باتهامي مثل هذا الاتهام المجحف بقتل روح تكون ابن زوجي وفرحة العائلة بعد حرماننا من الاطفال لسنوات ؟"
ارتفع حاجبيها بارتجاف مشدوه وهي تهمس بخفوت مواسي بحذر
"اجل بالطبع اصدقك ، من المستحيل ان تفكري بارتكاب مثل هذه الجريمة ! أليس كذلك ؟"
ضيقت عينيها بجمود وهي تنفض ذراعيها للأسفل لتهمس من بين اسنانها بقنوط
"مؤكد انا كذلك ، وهل لديكِ شك بكلامي ؟"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي تحرك كفها بعشوائية هامسة بخفوت مبتسم
"اجل...اقصد لا بالطبع انا اصدق ما تقولين وليس لدي شك بكلامكِ ، واساسا كان حادث إجهاض الطفل حادثا عرضيا ليس له احد علاقة به ! وألا من الذي سيفكر من افراد عائلتي بفعل مثل هذا التصرف الغير انساني بالطفل الذي كانوا يتمنون قدومه اكثر مني ؟"
تشنجت ابتسامتها وهي تحيد بعينيها بعيدا بحالة تأنيب ضمير ينتابها لأول مرة وكأنها مجرمة بحق الانسانية ، لتنفض بسرعة الشعور الاخير عن ذاتها والذي بدء يقهر عزيمتها وهي تهمس بإيباء مترفع
"جيد لقد ارحتني حقا ، اتمنى ان تفهم ماسة ذلك الكلام وتتوقف عن اتهاماتها المبطنة"
اعتلت ابتسامة حانية محياها وهي تهمس بخفوت حازم
"لا تقلقي بهذا الشأن يا سلوى ، واعتذر حقا على تصرفات ماسة الاخيرة والتي تجاوزت بها الحدود معكِ وتجرأت على اتهامكِ مثل هذا الاتهام الكبير ، واتمنى ان تسامحيها على قلة ادبها معكِ فهي حزينة جدا من اجل طفل شقيقتها وتظن بأن هناك غريم عليها ان تلقي بالقبض عليه وتلقينه درسا لتأخذ حق سعادة شقيقتها المسلوبة ، وهي هكذا دائما متحفزة ومندفعة بدون ان تفكر بالعواقب ونتائج افعالها على الآخرين ، واعتذر منكِ مجددا على سوء التفاهم والذي حدث بينكما"
التوت شفتيها بشبه ابتسامة باردة وهي تمسك بذراعها بحركة مفاجئة لتهمس من فورها بأسى تمثيلي مبالغ به
"لم يجرحني اتهامها المجحف بقدر ما جرحني قلة ثقتها بي وبأني المذنبة الوحيدة بما حدث معكِ ! بالرغم من اني اول شخص فرح بوجود طفل بالعائلة اخيرا بعد عناء طويل ، كيف تفكر بي بتلك الطريقة ؟ بل كيف يخطر ببالها ان افعل مثل ذلك التصرف البعيد عني ! فأنا مهما وصل مدى كرهي لكما وشعوري بالغيرة نحوكِ ولكنها لا تصل لقتل روح لا ذنب لها بقصصنا ! أليس هذا الكلام الصحيح ؟"
اومأت برأسها باهتزاز وهي تحاول ضبط الموقف بعقل راشد لتربت بعدها على كفها الممسكة بذراعها قائلة برفق جاد
"اهدئي يا سلوى فهذا الامر لا يحتاج لكل هذا التبرير والاندفاع ، فأنا قد سبق واخبرتكِ بأني اصدقك ومن المستحيل ان اشك بكِ وبشأن ماسة فأنا سأتكلم معها بنفسي من اجلك ، لذا لا داعي لكل هذا القلق والتشاؤم فكل شيء محلول عندي"
تنهدت براحة وهي تفلت ذراعها قبل ان تربت على كتفها هامسة بابتسامة عريضة بسعادة
"شكرا لكِ يا روميساء وعلى ثقتكِ الكاملة بي ، صدقيني انا لم اعد احمل اي مشاعر سلبية او ضغينة ضدكِ فقد اصبحتِ منذ هذه اللحظة بمرتبة صديقة وضرة غالية عليّ بعد ان ارغمنا القدر على الارتباط بنفس الزوج"
تغضنت زاوية ابتسامتها عند آخر كلماتها وهي تهمس بهدوء بدون اي مشاعر حقيقية
"اصدقك يا سلوى ، والآن عذرا انا مضطرة للذهاب"
ابتعدت عنها عدة خطوات وهي تشاهد التي غادرت من امامها بدون ان تضيف كلام آخر ، وما ان اختفت عن نظرها حتى غامت ملامحها بسحابة قاتمة وهي تهمس بخفوت واجم
"هل كان هذا كافي لكي تعطيني ثقتها ؟ ام كان عليّ زيادة العروض التمثيلية ؟"
زفرت انفاسها بملل وهي تستعيد كلام والدتها عندما اعترفت لها بخوفها من امر انكشافها القريب امام (ماسة) والتي تبدو تعرف كل شيء فعلته بشقيقتها الكبرى ، لتأتي الاجابة من والدتها بتحذير صارم لتنقذ مصير ابنتها من انكشاف المستور والذي تشاركتا به سويا
(إياكِ وان تظهري خوفكِ امامها او اي من شكوككِ نحوها ، عليك المحافظة على هدوئكِ معها بدون ان تتأثري بتصرفاتها واخذ دور الطرف المحايد ، وافضل شيء حاولي استخدامه بالوقت الحاضر هو كسب ثقتهم نحوكِ واخذهم لصفكِ ، وانا اقول ان تبدأي بضرتك والاقرب لكِ والتي ستكون افضل منقذ سيساعدك كثيرا بموقفك وينجدك من الانكشاف ، سمعتي ابذلي كل جهدك لكسب ثقتها وحبها فهي منقذنا الوحيد الآن ! وايضا قد تستطيعين بهذه الطريقة كشف بعض من اسرارها والتي ستكون نقطة الضعف والسبيل للنجاح بهذه الحرب)
قبضت على يديها بقهر وهي تهمس من بين اسنانها بجمود حاقد
"اراهن بأن يكون لديها نقطة ضعف تلك الفتاة المثالية ! ومع ذلك بالوقت الذي ترتكب به اول خطأ بحياتها سأكون اول العارفين بذلك"
_______________________________
كانت تشدد من ضم يديها بحجرها وهي تتأمل صورتها العاكسة على المرآة امامها بحزن عميق اكتسح محياها وكأنها سحب مكتومة تحت سطح من مشاعر هادرة قيدتها بأغلال قلبها الدامي ، تنفست بعدها بإجهاد مضني وهي تقاوم الخضوع لبؤرة اليأس والشفقة من حجزها وجرها بداخلها بهذه اللحظات والتي رافقتها طيلة حياتها ، وهي تعلم جيدا بأنها لن تساعدها بحالتها سوى بجلب المهانة والمذلة لها ولذاتها التي حاربت كثيرا للخروج من كل هذه العقبات التي تركت الآثار بروحها ، ولن تسمح لشيء بسيط مثل هذه العقبة ان تبعثر ثباتها او تفسد قوتها والتي اكتسبتها بمرارة تجربتها الاخيرة .
مسحت طرف مقلتيها بأصابعها بلونهما الضبابي الحزين وكأنها تمسح الألم الساكن بهما وتنفض الاتربة التي غشت نظراتهما حتى خدشت بشرتها بأظافرها القصيرة ، لترمش بعدها برجفة خاطفة ما ان اقتحم هدوء المكان صوت والدتها الرنان وكأنها امسكتها بجرم مشهود
"ماذا تفعلين يا غزل ؟"
ادارت وجهها بالتفاتة صغيرة وهي تهمس بشبه ابتسامة
"وهل يهمك ان تعرفي ؟"
عبست ملامحها وهي تتقدم بعيدا عن الباب لتقف من خلفها امام طاولة الزينة وهي تقيمها بنظرات متعالية بتسلط ، لتمسك بعدها بكتفيها بقوة تخللت عظامها وهي تهمس بخفوت آمر
"توقفي عن العبث بوجهك ستفسدين زينته والتي تكبدت منا وقتاً طويلا حتى ظهرت بهذا الشكل ، لذا إياكِ وان تفسدي شيء من مخططات هذا اليوم"
تصلبت قبضتها وهي تخفضها بهدوء شديد بدون اي شعور حتى ظهر الخدش الصغير الذي سببته اسفل عينها اليمنى ، لتشعر بعدها بيدين والدتها تشتد على كتفيها بألم وهي تنخفض بوجهها بالقرب من جانبها لتقول بلحظة بهدوء شديد اقرب للازدراء
"ما هذا الخدش الذي على وجهكِ يا غزل ؟ انتِ تعمدت فعلها صحيح ! من اجل ان تعرضي والديكِ للإهانة امام العائلة وتنتقمين منا على المجهود والذي نبذله بطريق سعادتكِ ، هل هذا جزاءنا على كل ما فعلناه من اجل مستقبلك وحياتك ؟"
تنفست بارتعاش وهي تهمس بوجوم حانق
"لم اوافق على شيء ، ومع ذلك فعلتم ما برأسكم بدون الرجوع لي"
رفعت رأسها بتنهد غاضب وهي تشدد على اسنانها قائلة بجمود حاد
"ولكنكِ لم تنطقي بحرف ولم تبدي اي اعتراض على كلام والدك عندما فاتح عرض الزواج معكِ !"
قبضت على يديها بقهر وهي تذكرها بما فات لتستخدم صمتها وسيلة برضاها على ما يفعلونه بها ، لتقول من فورها بنشيج خافت وقبضتها تضرب على ركبتها بكبت
"لم اعترض ولم اوافق كذلك ! ولكنكم استغليتم الفرصة بتحويل كلامي وكأني موافقة على كلامكم ، كل ما في الأمر بأني لم اتوقع ان يحدث كل شيء بسرعة وتوافقوا على مجيئهم بدون ان يسألني احد عن رأيي بهذه الزيارة التي تخصني وحدي ! ألا ترون بأن هذا التصرف منتهى الظلم ؟"
استقامت بمكانها وهي تكتف ذراعيها بصرامة قائلة بعتاب قاسي
"ليس هناك ظلم بالعالم ألا ما تفعلينه بنفسكِ ! بعد كل ما حدث معكِ وكل الفرص والتي جاءت لكِ ما تزالين متمسكة بذلك الحب الساذج ! متى ستدركين بأن كل ذلك لم يكن جزء من حياتك ؟ متى ستقدرين قيمتك ورتبتك بهذه العائلة ؟ احيانا اشك بأن تكوني ابنة هذه العائلة العريقة !"
اخفضت رأسها بهدوء وهي تشرد بنظراتها بغمامة بعيدة ذكرتها بكلام والدها عندما فاتحها بموضوع الزواج من استاذها ، وقد كان يتكلم معها بنبرة صارمة تسمعها منه لأول مرة بعرض زواج وهو يحملها مسؤولية وتبعات رفضها والتي زادت الذنب المحمل بقلبها وكأنه لا يريد سوى ان تنصاع لطلبه مثل والدتها وهم يتحدون ضدها على رضوخها
"اسمعي يا غزل هذه المرة المتقدم مختلف عن اي رجل آخر ، فهو يكون استاذكِ بالجامعة والذي اهتم بمهمة تعليمك بالمنزل ، وايضا نفس الرجل الذي انقذكِ سابقا عندما غبت عن الوعي بالجامعة ، لذا ارى بأنه من العدل ان نعطيه فرصة ولو بعض الوقت من التفكير الجاد بموضوع طلب الزواج منه ، ومن وجهة نظري لا ارى اي عيب به او مجال للشك بصدق نواياه بعد معرفتي الطويلة بعائلته ولا شيء يمنعني من تسليم ابنتي لرجل مثله اعلم جيدا بأنه سيكون افضل مثال للزوج الصالح والذي يصون عائلته ، ومع ذلك سأعطيكِ وقتكِ اللازم للتفكير وحزم امركِ ، وكل املي ان يكون جوابك هذه المرة صريح ومن صميم رغبتك الحقيقية بعيدا عن مشتتات الماضي والتي لا تشكل مثقال ذرة بسبيل التقدم لحياة افضل ، فكري جيدا بكلامي يا ابنتي واعلمي بأني اثق بكِ دائما وبقدرتك على التجاوز وكسب السعادة"
تجمدت ملامحها تحت بشرتها الشاحبة المزينة بتبرج خفيف بدون ان يخفي هالة الضعف التي تطوف على حياتها ، وهي تذكر حينها عندما فقدت قدرتها على النطق وارتبط لسانها بداخل غصة علقت عند حنجرتها وهي تشعر بالملامة والعتاب يلقي بحباله من حولها ليمنعها عن فعل شيء او اظهار تعابير الرفض على محياها وكأنها قطعة جليد جمدت مشاعرها وكل شيء بعالمها ، وتمنت بعدها لو رفضت فور سماعها كلامه واراحت نفسها من كل هذا العناء بدل الجمود الذي احتلها بتلك اللحظة !
افاقت على صوت والدتها وهي تصل بجانبها لترفع وجهها من ذقنها هامسة بهدوء مترفع
"لا بأس بذلك سأعدل صورتكِ القبيحة حتى لا تظهري اي من ذلك الضعف واليأس المختبئ من خلفكِ ، وستكونين ابنة عائلة محترمة عريقة يليق بها الجاه والجمال وان يمتلكها زوج من افضل طبقات المجتمع لكي لا يشككوا بأصل عائلتك ، بالرغم من انكِ لن تصلي لمستوى جمال شقيقتك الكبرى مهما حاولنا معكِ !"
عضت على طرف شفتيها بامتعاض وهي تحاول تحرير ذقنها من اصابعها هامسة باستياء
"لا احتاج للتذكير بهذه النقطة يا امي ، وشكرا على ثقتكِ الكبيرة بجمال ابنتك ومراعاة مشاعرها"
تمسكت بذقنها بقوة وهي ترفع وجهها عاليا غصبا لتمسك بيدها الاخرى ريشة التبرج وهي تمسح بها على جفنيها اسفل عينيها حتى اختفى كل اثر للخدش والاحمرار الذي كان يطغى تحتهما ، وما ان استقامت بعيدا حتى تنهدت بابتسامة راضية وهي تهمس بعلياء
"هذا افضل بكثير عن السابق ، وهكذا نستطيع ان نقول عنكِ اميرة العائلة بجدارة وتستحقين منافسة شبيهاتك من جميلات طبقتك والتي ستحصل على امير يليق بها"
زمت شفتيها بتبرم وهي تعود للنظر لصورتها والتي لعبت بتفاصيلها كما لعبوا سابقا بمسار حياتها فقط لتكون كما يريدون ويسعون ، لتهمس بعدها بغيظ وهي تحدق بصورتها بجمود
"حسنا على الاقل استطيع ان انافس ابنة العائلة الفاتنة والتي حصلت على اميرها بالفعل ، واتمنى ألا يكون مصيري مشابه لها واضطر للتعايش مع زوجة اخرى تحت سقف منزل الامير المزعوم !"
عقدت حاجبيها بتجهم بعد ان اشعلت جذوة الحريق بينهما عند الكلام عن حياة ابنتها الحساسة ، لتبتسم بعدها بهدوء ظاهري وهي تربت على كتفها بلمسة مريبة قائلة بجدية نافذة لا تخلو من الحزم
"اهتمي بمظهركِ جيدا وبطريقة تصرفاتك فكل شيء سيصدر منكِ اليوم ستحاسبين عليه ، لذا لا اريد اي اخطاء او حيل مدبرة فهذه المرة سنعتمد عليكِ لرفع رأسنا امام ضيوفنا المهمين ، حسنا !"
حادت بنظراتها نحوها بهدوء وهي تهمس بخفوت هاوي
"ألن ننتهي من هذا ! ألا تستطيعين ان تلغي كل شيء ببساطة وفعل شيء واحد من اجلي ؟"
ارتفع حاجبيها باستنكار وهي تلوح بأصبعها امامها هامسة بأمر قاطع
"لا تحلمي بهذا يا غزل ! هذه الزيارة عليها ان تتم وانتِ ستؤدين دوركِ كعروس وديعة وزوجة مستقبلية ، وإذا اكتشفت منكِ اي ألاعيب لإفساد هذا اليوم فلا انتِ ابنتي ولا اعرفكِ ! مفهوم كلامي يا غزل ؟"
تغضن جبينها وهي تنظر لها بتركيز بارد قبل ان تدير عينيها هامسة ببهوت
"ليس هناك من جديد فقد كنت اعلم بهذا مسبقا وبأني دائما سأبقى الابنة المتوحدة التي لا ترقى ان تنافس ابنتكِ الأولى !"
اخفضت اصبعها وهي تستدير بعيدا عنها بدون رد على كلامها الاخير لتقول بعدها بهدوء جاد
"جهزي نفسكِ جيدا واحرصي على ان تظهري بأبهى صورك ، فقد وصلت عائلة العريس وهم بانتظاركِ الآن بغرفة الضيوف ، لا تتأخري كثيرا بالنزول لكي لا اعود واجركِ من شعرك ، فأنا لا ينقصني إحراجات من طفلة غبية لا تعرف مصلحة نفسها !"
نظرت عند مكان خروج والدتها بهدوء وهي تهمس بشبه ابتسامة ساخرة بقهر
"لم تجيب على كلامي الاخير ولا حتى بإنكاره ! يبدو بأنني سأبقى بالنسبة لها الطفلة المتوحدة المثيرة للشفقة او قد تكون هذه نظرة الجميع لي ؟"
بعدها بدقائق كانت تقف امام غرفة الضيوف والتي تقرر ان تقام بها مراسم طلب يدها للزواج بدون الاخذ برأيها ، وبنفس الوقت صادف ان تكون مكان الاجتماع الدائم لهما بأيام المحاضرات والتي جمعت طالبة واستاذ بدون ان تشعر بسير الاحداث وتحولها لمكان لطلب يدها للزواج لترتفع مرتبته بحياتها لشيء آخر خالف توقعاتها !
هزت رأسها بقوة وهي تخرج الافكار من ذهنها المشوش بكلام والدتها والذي بعثر كيانها لوهلة ، لتشد بعدها ظهرها باستقامة وهي تذكر نفسها بالخطوات التي ستقوم بها وهي الدخول وتعريف نفسها والخروج على الفور ببضعة دقائق قصيرة لن تأخذ منها الكثير وبذات اللحظة تبين رغبتها بعدم قبول هذه العلاقة ، وتتمنى حقا ان تتركها والدتها وشأنها وتتوقف عن دعم هذه العلاقة الفاشلة بكل المقاييس وخاصة بأنها ناشئة عن حقد سيدمر بقايا قلبها المريض !
عضت على طرف شفتيها وهي تعيد خصلات من شعرها القصير الناعم والمصفف حول وجهها بعناية ، لتمسك بعدها بأطراف ثوبها القصير بتشنج وهي تهمس بخفوت مستنجد
"يا إلهي ساعدني بهذه المحنة لا اريد ان اكسر قلب احد بتهوري !"
امسكت بمقبض الباب بتردد وهي تدفعه للأمام بهدوء حذر وكفها الاخرى تتمسك بصينية العصير بقوة ، وما ان دلفت للداخل حتى اتجهت جميع الانظار لها بثواني وهي تصبح محور موضوعهم وعينة دراستهم ، بينما كانت تتنقل بعينيها ببطء على الموجودين من طرف العريس بداية بامرأة جميلة تبدو بعمر شقيقته بسبب التشابه الكبير بينهما ، يجلس بجوارها رجل يكبرهما بالعمر هادئ الملامح بشكل وقور يشبه الجميلة الجالسة بجانبه ، فأما ان يكون شقيقهم كذلك او زوجها بسبب التقارب الواضح بينهما ؟
اتسعت حدقتيها العسليتين باهتزاز ما ان وصلتا للعريس المنتظر وسبب هذا الاجتماع المهم وهي تنظر له باتساع وكأنها تراه لأول مرة ، وهو يبدو كما كل مرة بملابس عملية انيقة وهيئة جذابة تزيد من هالة الوقار والرقي المحيط به يستحق ان يكون ابن عائلة عريقة ومن طبقة اجتماعية مخملية ، وهي تسأل نفسها مجددا للمرة الألف لماذا لم يتزوج للآن ؟
كان ينظر لها بالمقابل بنفس النظرات الحذرة وهو يرتشف من هيئتها الجديدة والتي تغيرت عن شكل طالبته الصغيرة ، ام هو الذي اصبح ينظر لها بطريقة اخرى تغيرت بنظره تماما ؟ ولكنها بالرغم من ذلك ما تزال تبهره بهيئاتها المختلفة سريعة الانقلاب والتبدل لتكون اليوم عبارة عن نجمة متلألئة بسماء سوداء حالكة وخاصة بثوبها الفضي البراق والذي يلمع بانعكاس الألوان من حوله مثل نجمة صاعدة ، ليرتفع بعدها بنظره لوجهها الصغير الساحر والذي تبرج بألوان زاهية اظهر ملامحها بوضوح وبرز لون عينيها العسليتين بغروب الشمس ، وهي تحيط به بشعرها المصفف بنعومة فائقة بدون اي تشعث او فوضى حدد تدوير وجهها ورقة محياها .
قطع حديث النظرات القاتل صوت التنحنح الصارم من صاحبة الملامح المتعالية وهي تقول بحزم راقي
"هيا يا صغيرتي ادخلي وقدمي العصير ، ولا داعي للخجل هؤلاء عائلة زوجك المستقبلي"
اومأت برأسها بإحراج بالغ وهي تتقدم بخطوات ثابتة ببعض التردد الذي تخلل بها رغما عنها ، وما ان بدأت بتقديم صينية العصير للمرأة الجميلة حتى تفاجأت بها تقف امامها وهي تمسك بوجهها بكفيها معا هامسة بفرحة دمعت عيناها
"لا اصدق انتِ هي العروس المنتظرة التي ستنقذ اخي من حفرة العزوبية ! واخيرا ظهرت منقذتي ! لو تعلمين شدة سعادتي بكِ الآن اكبر من فرحتي بنجاح هشام بالثانوية !"
انفرجت شفتيها بانشداه وهي لا تجد ما تنطق به امام حماس هذه المرأة الفاتنة والتي تجيد اللعب بمشاعر من يقابلها بتدفق رهيب ، ليتدخل بعدها الجالس بجوارها وهو يمسك بمرفقها قائلا بابتسامة ممازحة
"اهدئي يا اسمهان ، لقد اخفت الفتاة بأول لقاء بينكما ، هل هكذا الشخص يعرف عن نفسه ؟"
ابتسمت بارتباك وهي تخفض يديها عن وجهها لتمسح على كتفيها هامسة بخفوت لطيف
"اعتذر يا عزيزتي على اندفاعي هكذا بدون سابق إنذار ، انا اسمي اسمهان شقيقة هشام الكبرى ، وهذا زوجي رائد وصديق هشام المقرب ، ويمكنكِ من الآن اعتباري مثل شقيقتك الكبرى بما انكِ الزوجة الجديدة بعائلتنا والتي ستدخل السعادة لها"
اومأت برأسها مجددا وهي تعطيها حقها بالنظرات المريبة قبل ان تهمس بخفوت متفحص
"اهلا بكِ سعدت بالتعرف عليكِ ، ولكن لا يبدو عليكِ بأنكِ بهذا العمر الكبير جدا !"
نظرت لها للحظة قبل ان تضحك بمرح وهي تضرب على كتفها بخفة لتهمس بعدها ببهجة
"تعجبني صراحتك جدا ! الحقيقة انا اكبر هشام بأربع سنوات ومع ذلك الجميع يخطئ بتقدير الفرق بيننا ويظن بأن هشام هو الاكبر بيننا بسبب نموه ونضجه السريع ، وايضا انتِ كذلك تبدين صغيرة جدا بالعمر ! كم هو عمرك يا عزيزتي ؟"
اخفضت وجهها بهدوء وهي تهمس بتهذيب خافت
"انا ابلغ من العمر عشرون سنة"
اتسعت ابتسامتها بحنان وهي تهمس بتفاؤل
"يعني ما تزالين بعمر زهرة الشباب ، يبدو ذلك رائعا عندما افكر كيف ستكون العلاقة بينكما وانتما بهذا العمر الصغير والغزل والحب وانجاب الاطفال امامكما طويل !"
احمرت وجنتيها باحتقان وهي تشدد على الصينية بين يديها تشعر بها تكاد تنزلق منها ، ليعود زوجها للكلام وهو يقول بجدية هادئة
"خذي العصير منها يا اسمهان واجلسي"
عبست ملامحها وهي تسحب كفيها لتمسك بكأس العصير هامسة بمحبة
"شكرا لكِ يا صغيرتي ، وسعدت كثيرا بالتعرف عليكِ"
ابتسمت بامتنان وهي تقدم العصير هذه المرة للرجل الذي تبين بأنه زوجها ، لتنتهي بعدها من تقديم العصير للجميع قبل ان تصل للفرد الأخير والذي لم ينطق بكلمة للآن بسكون مريب اثار رهبتها وحيطتها منه ، وما ان وصلت له بدون ان تلقي اي نظرة عليه حتى قدمت له صينية العصير بهدوء جامد منتظرة انتهاء مهمتها العصيبة ، وعندما لم تبدر منه اي ردة فعل حتى رفعت رأسها بهدوء حائر لتصطدم بنظراته القوية التي حاكت خيوطها من حولها بألم المشاعر الحبيسة التي اجتاحت كيانها وارهقته بذنب لن تتخلص منه لمدى الحياة .
تصلبت قبضتيها بارتعاش ما ان امسك بالصينية معها لتندفع الكلمات من فمها لا إراديا بخوف تجلى على محياها
"اترك يديّ لو سمحت ، فأنت الآن تعرضني لموقف محرج امام عائلتي !"
برزت ابتسامة هادئة على محياه تختلف عن ابتسامته العملية المعتادة وهو يتمتم بهدوء بارد اقرب للتسلط
"لما لا تناديني باسمي هشام ؟ فأنا لم اعد شخصا عابرا بحياتكِ يا غزل ! والافضل ان تتخلصي من الرسمية والكلفة بيننا لكي نستطيع التعايش بحياتنا القادمة"
شردت بنظراتها قليلا قبل ان تهمس بخفوت جاف اكتسح محياها بلحظة
"يبدو بأنك قد نسيت ما حدث بآخر لقاء بيننا عندما كنت اناديك باسمك مجردا ! وانا لا ارغب بتكرار ذلك الموقف مرة اخرى"
تغضنت زاوية ابتسامته وهو يشدد على يديها الصغيرتين ليتبعها بالهمس بأسف شديد
"اعتذر يا صغيرتي إذا كنت قد ضايقتك بعصبيتي وجرحتك بدون ان اشعر ، ولكني اعدكِ بأن لا تتكرر مرة اخرى واعوضك عنها بحب سنين ودلال وترف لن تريه من احد غيري ولن تشعري به سوى معي"
ارتفع حاجبيها بارتباك وهي تنشج بأنفاس مضطربة بعدم تصديق وكأنها تستمع لشخص مخبول بعيد عن شخصية استاذها الصارم والذي اكتشف حقيقة حبها القديم وجرحته بشدة بسبيل التخلص منه ! ألا إذا كان يحاول السخرية منها بطريقة الكلام اللطيف والذي لا يحمل اي ضغينة او حقد نحوها ؟
افاقت من ذهول اللحظة على صوت والدتها وهي تأمرها بصرامة
"غزل لا تبقي واقفة هكذا امام الرجل ، قدمي له العصير وغادري"
اومأت برأسها باهتزاز وهي تحاول سحب الصينية والتي اخذها منها عنوة ، لتنظر له وهو يضعها على الطاولة امامه ببساطة قبل ان يربت على المكان بجانبه وهو يقول بابتسامة جانبية ساحرة
"تعالي واجلسي بجانبي يا زوجتي المستقبلية فأنا ارغب بالتعرف عليكِ اكثر"
كانت على وشك تحريك رأسها بالنفي لولا صوت والدتها المستبشر وهي تقول بفرحة امومية
"اجل يا غزل اجلسي بجانب خطيبك وتحدثي معه ، فهو بالنهاية سوف يصبح زوجكِ وعليكما التعرف على بعضكما والبدء بتأسيس حياتكما المستقبلية"
استدارت بسرعة وهي تنظر لوالديها واللذان كانا ينظران لها بفخر وبسعادة واضحة عليهما بعد ان ربطوها بهذا الزواج المصيري بدون مهرب ، لتعود بنظرها للجالس امامها والذي كان يقول بخفوت مبتسم عبث بأعصابها
"تعالي اجلسي يا غزل ، لا تخجلي مني فأنا اكون استاذك وسأصبح عما قريب كل شيء بحياتك !"
حركت رأسها بهذيان والرفض يقفز لشفتيها لولا الكف التي امسكت بيدها الصغيرة لتسحبها وتجلسها بجانبها حتى تعثرت ليقع نصف جسدها على ركبتيه ، وبلحظة كانت تسمع همسته فوق رأسها المنحني بداخل احضانه بخفوت خبيث
"يبدو بأن هناك احد متلهف اكثر مني لهذه العلاقة !"
ما ان ادركت وضعها المخجل حتى انتصبت بسرعة بحركة تلقائية وهي تستند لظهر الاريكة بهدوء جامد وكل عضو بجسدها يرجف بخوف سكن دواخلها وكأنها اقدمت على فعل شائن .
رمشت بعينيها بارتعاش ما ان شعرت بيده التي ما تزال تمسك بكفها وهو يتحسس ظاهر كفها بأصبعه الإبهام بحركة وتيرة قتلتها حية ، بينما كانت محط انظار العائلتين ولم يعلق احد على ما حدث بينهما سوى شقيقته الحالمة والتي قالت بمرح باسم وكأنها تخفف وطأة شعورها الحالي
"يا لهذا الثنائي اللطيف ! اعتقد بأن علينا الاسراع بعقود الزواج بينهما بأقرب موعد ! فيبدو بأن العرسان على عجلة من امرهما ! أليس كذلك ؟"
تهافتت الضحكات بين العائلتين على طرفتها ألا اثنين منعزلين عن الجميع لم يشاركا بالضحك ، فبينما كان هو ساكن بدون اي ردة فعل وهو يعود لجمود ملامحه السابق كانت هي تنشج بخوف لم تستطع السيطرة عليه وهي تشعر ببوادر الخطر على وشك ابتلاعها وقتل قلبها الذي ما يزال ينبض بالحياة لهذه اللحظة .
______________________________
كانت تقضم خبز التوست المغطس بالمربى وهي شاردة بأمور اخرى اخذت عقلها منذ البارحة بدون ان تبارح تفكيرها المضطرب بين حدث بالماضي تكرر بالحاضر ، وكل افكارها تدور عن احداث تلك الليلة المأساوية والكلمة التي علقت بذهنها بذلك الاسم الناقص المشتق من جذور اسمها ، ولم تسمع ذلك الاسم منذ سنوات تحديدا منذ ايام سكنها بتلك الحارة الفقيرة والتي جمعت شتات طبقات المجتمع الدنيا من الهاربين من السجون والمشردين واللقطاء ، وقد كان نطق اسمها صعب اللفظ على اطفال تلك الحارة والجاهلين بأساسيات اللغة بسبب انعدام الكادر التعليمي بتلك المناطق المقطوعة والتي يكون التعليم بها آخر هموم حياتهم فما ان يقوى عود الطفل قليلا حتى يبدأ بأعمال الشقاء والجهد والحصول على يقوت يومهم بذلك السن الصغير جدا ، وقد حاولت كثيرا اعطاء بعضهم دروس بأساسيات اللغة والقواعد البسيطة ومهارات بالكتابة والقراءة ليزيلوا رداء الجهل عنهم ، ومع ذلك اشتهرت بذلك الاسم بحارتها حتى اصبح اسمها على كل لسان من سكان تلك البلدة بدون ان تصحح اسمها او توبخهم على بتر حرفين من اسمها حتى يصبح سهل اللفظ بالنسبة لهم .
ما تزال تذكر بداية عملها بمحل البقال الكبير والذي توظفت به من خلال زوج والدتها لتدفع إيجار سكنها معه ، وقد كانت الفتاة الوحيدة هناك التي تعمل بين مجموعة من الاولاد المراهقين والذين لم تتجاوز اعمارهم السادسة عشر ، وقد كان ابن صاحب المحل يرافق والده ويساعده بكثير من الاحيان حتى اعتادت على رؤيته كل يوم والاحتماء به عندما تتعرض للعدوان من الاولاد المتنمرين والذين تكثر مشاحناتها معهم بسبب محيطها الذكوري الذي تربت به .
تغضن جبينها وهي تستعيد تصرف ذلك الرجل ومناداتها بذلك الاسم اكثر من مرة ، فهل هو جاهل لا يعرف كيفية نطق اسمها كاملا ؟ ولا تعلم لما شعرت بالتشابه الكبير بينه وبين ابن مسعود والذي سيكون الآن بقرب عمره ؟ وبالتفكير ملياً بالأمر هناك الكثير من الصفات ونقاط التشابه التي تلاقت بينهما ومنها الاسم وشكل الملامح وبعض التصرفات عندما يمسح على رأسها بتلك الطريقة الحانية !
عضت على طرف شفتيها ببؤس وهي لا تصدق إلى اي مدى وصل تفكيرها الساذج حتى تخلط بين ذلك الرجل وبين ابن مسعود وتصل لذلك الاستنتاج الشبه مستحيل ؟ تنهدت بعدها بتعب ذهني وهي تضع الخبز على الطبق امامها برفق ، وبدون ان تشعر كانت تغطس اصابعها بكوب القهوة الساخنة ولم تدرك وضعها ألا عندما اخترق سمعها الصوت بجانبها وهو يقصف بغضب
"انتبهي يا روميساء ستحرقين اصابعك !"
اتسعت حدقتيها بوجل وهي تبعد اصابعها بسرعة بلسعة شعرت بها متأخرة وحرقت اصابعها البيضاء ، لترفع بعدها كفها امام شفتيها وهي تنفخ على اصابعها التي احمرت بشدة وشوهت صفاء بشرتها البيضاء ، وبلحظة كان يمسك بكفها وهو يعانق اناملها بأصابعه الطويلة ليمسح على مفاصل اصابعها بقطعة ثلج صغيرة خففت لسعة الألم بها وكأنه يطفئ الحريق الذي انشب بداخلها بدون ان يعلم عن الحريق الآخر والذي اشتعل بوريد قلبها !
اخفضت نظراتها بحياء وهي تشعر بنفسها قد اصبحت محط انظار كل من يجلس حول المائدة والتي تكاد تخترقها وتزهق روحها ، ليقول بعدها الذي ما يزال يلمس على اصابعها برفق بصوت هادئ النبرة
"ما لذي يشغل تفكيركِ هكذا ؟ لقد اصبحتِ كثيرة التشتت والاستهتار مؤخرا !"
ابتلعت ريقها بانقباض وهي تهمس بوجوم خافت
"لا شيء محدد"
تغضنت تقاسيم ملامحها بألم وهو يمرر الثلج على مفاصل اصابعها النحيلة بقوة بدأت تتخلل بعظامها حد الألم ، لتشعر بعدها بأنفاسه تضرب على اصابعها قبل ان ترفع عينيها الواسعتين امامها وهي تكتشف بأنه ينفخ على اصابعها بأنفاس قوية عبثت بمجرى الدماء تحت بشرتها الشاحبة .
عقدت حاجبيها برجفة خاطفة ما ان وصلها همسه برفق شديد
"هل زال الألم ؟"
اومأت برأسها ببسمة طفيفة وهي تحرك اصابعها من داخل قبضته هامسة بامتنان
"اجل بخير ، شكرا يا احمد"
قبض على اصابع كفها ما ان حاولت ان تستلها من قبضته ليهمس بعدها بخفوت مريب
"كم كانت الساعة عندما عدت للمنزل بالأمس ؟"
ارتفع حاجبيها بتسمر من سؤاله المباشر وهي تحاول ان تحيد بنظراتها بعيدا هامسة بخفوت
"لا اذكر"
شدد على كفها بقوة وهو يقول بجمود قاسي
"اريد جواب اكيد على سؤالي يا روميساء"
زمت شفتيها بتبرم وهي تهمس من بينهما بجفاء
"لقد كانت الساعة السابعة تقريبا"
صمت للحظتين قبل ان تعلو ابتسامة جانبية محياه وهو يهمس بسخرية
"لم يكن هذا كلام سلوى !"
نظرت له بسرعة وهي تهمس بعبوس حانق استولى على روحها لا شعوريا
"هل تقصد بأنك سألت سلوى عني ؟ هل تثق بكلامها لدرجة ألا تفكر بالرجوع لي وسؤالي مباشرة ؟ لذا لم تأتي البارحة لزيارتي بالجناح والتكلم معي وانت تعتمد فقط على كلام سلوى وتكذبني انا !"
تصلبت ملامحه بهدوء بدون اي تعبير وهو يهمس بأمر واقع
"لأنكِ لا تعرفين سوى الكذب معي بدون ان تصارحيني بالحقيقة !"
ضمت شفتيها بعبوس بدون كلام وكأنه اصابها بالصميم وهي بالحقيقة لم تشعر بالألم من فحوى كلامه بل بسبب تصديق كلام زوجته الاخرى وتكذيبها هي بدون سماع الحقيقة منها ، اخترق بعدها الصوت الصارم وهو يقطع الصراع بينهما قائلا باستهجان غاضب
"هلا توقفتما عن هذه الحركات الصبيانية ؟ فهذا المكان لاجتماع العائلة حول المائدة لتناول الفطور وليس نقاش لحل خلافتكما الزوجية ! فهذه التصرفات تلفت انتباه الجميع لكما وتشوش الاجواء بالمكان !"
افلت كفها بهدوء وهي تضمها بسرعة عند حجرها ليعتدل الآخر بجلوسه وهو يكمل الفطور بدون ان يناقش كلام والده ، نظرت بعدها امامها وهي تهمس بلحظة بخفوت مشتد
"لقد كانت الساعة السابعة والنصف عندما عدت للمنزل ، ولم ارتكب اي فاحشة او رذيلة قد يفسد سمعة العائلة من وراء ظهوركم ! اتمنى ان يكون هذا كافي لتصدقني وتتوقف عن تكذيبي فأنا لست كاذبة كما تنعتني دائما !"
نظر لها بأطراف عينيه لوهلة قبل ان يهمس بابتسامة مائلة بجدية
"انا اثق بكِ يا روميساء وألا لما اعطيتكِ كل هذه الحرية بحياتك بالعمل وقيادة سيارة خاصة بكِ ! فقط كل املي ألا تخذلي ثقتي هذه وان تكون بمحلها"
غامت ملامحها وهي تنظر للأسفل ببهوت اكتسح محياها هامسة بشرود حزين
"شكرا على ثقتك"
انتفضت برأسها وهي تنظر للذي وقف عن الكرسي بجوارها بدون مقدمات ، لتقول الجالسة بالجهة الاخرى وهي تخرج عن صمتها هامسة بهدوء ناعم
"لما كل هذه السرعة يا عزيزي ؟ لم تنهي فطورك بعد !"
اجابها الذي استدار بعيدا عن المقعد وهو يقول بهدوء جاد
"لقد انتهيت بالفعل يا سلوى ، وتوجب عليّ الذهاب الآن"
ما ان وصل بمحاذاتها وهي تتابعه بنظراتها حتى ربت على كتفها بحركة عابرة وهو يقول بشبه ابتسامة
"هيا تحركي يا روميساء لأوصلك معي للعمل"
انفرجت شفتيها بذهول وهي تهمس من فورها بتلعثم
"ولكن يا احمد....."
بترت كلماتها وهي تنظر بحدقتيها الواسعتين للذي تحرك بعيدا عنها ، بينما الاخرى كانت تلوح له بيدها عاليا هامسة بمحبة
"حظا موفقا بالعمل يا احمد"
حادت (روميساء) بنظراتها جانبا بامتعاض خفي اصبحت تكنه لتلك المرأة المستفزة والتي تشعر بها مثل السوس الذي يعلق وينخر بالأسنان ، لتنهض بعدها باتزان وهي تعدل حزام الحقيبة على كتفها لتقول لهم بمودة
"عن اذنكم الآن"
غادرت بعدها لخارج قاعة الطعام بدون ان تنتظر اكثر وهي تسمع صوت تلك المستفزة وهي تلوح لها كذلك قائلة بسعادة مزيفة
"وداعا يا روميساء ، اعتني بنفسكِ جيدا ، رحلة عمل موفقة لكما"
اسرعت بخطواتها بدون ان تعيرها اهتمام حتى اختفت عن نظرهم تماما ، لتنخفض بعدها الكف تدريجيا وهي تعود لقناع الجمود الصامت والذي لا يحمل اي من مشاعر المحبة او المودة بداخل نظرات محملة بالكثير .
انتقلت بنظرها بالموجودين حول المائدة والناظرين لها بصدمة تشكلت بصمتهم والذي افقدهم القدرة على النطق للحظات ، لتنفض بعدها خصلات شعرها للخلف قائلة بدلال متعمد وهي تتصنع العفوية
"ضرتي مثل صديقتي إذا لم تكن بصفي فلن استفيد من عدائها فنحن الاثنتين بنفس المصير"
______________________________
دخلت من باب السيارة بصمت وهي تجلس بجوار الذي بدأ بتشغيل محرك السيارة ، ليقول بعدها بهدوء آمر بدون ان ينظر لها
"اربطي حزام الامان يا روميساء"
ربطت الحزام حول جسدها بانصياع بدون كلام وهي ما تزال تحدق به بأطراف حدقتيها بحذر خفي ، وما ان تحرك بالسيارة وهو يخرج من اسوار المنزل حتى قال بابتسامة جانبية بمغزى
"هل ستستمرين بهذه النظرات الحذرة طويلا ؟ فأنا لست طالب مشاغب عندكِ حتى تنظري لي هكذا !"
ادارت عينيها للأمام وهي تهمس بوجوم مستاء
"لو كنت طالب عندي لعرفت كيف اتصرف معك باللازم !"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يتمتم بخفوت متقد
"حقا ! اشعر بالفضول عندما افكر بالأمر ، هل سيكون تصرفك حينها افضل من تصرفاتك الحالية مع زوجك ؟"
زمت شفتيها بعبوس وهي تدير وجهها للنافذة بصمت دام بينهما للحظات قصيرة ، ليقطع الصمت بعدها صاحب الملامح الجامدة وهو يقول بهدوء
"كيف كان يومك الأول بالعمل بعد عودتك إليه ؟ اعتقد بأنكِ سعيدة بعد ان فعلتي ما برأسكِ وعدت لحياتكِ الطبيعية وكأن شيء لم يكن !"
احنت حاجبيها بوجوم وهي تتأمل الطريق بجانبها هامسة ببرود
"اجل سعيدة فقد عدت للانتماء لمكاني الحقيقي بالحياة والذي يتقبلني ويحبني كما انا"
شدد على عجلة القيادة ببطء وهو يقول بابتسامة جانبية بقسوة
"هل تقصدين بأنكِ لا تشعرين بالانتماء بمنزل العائلة ؟ ألا اشكل عندكِ الانتماء والحب والتقبل والذي تحتاجين له !"
نظرت له بسرعة وهي تقع بمصيدة عينيه وكأنها وقعت بالفخ ولم تعد تقوى على التحرر ، لتحاول بعدها الكلام بقوة ظاهرية ليخرج بهمس حزين هاوي
"لو كنت اشعر بالانتماء حقا لما احتجت لمساعدتك والزواج منك لأنقذ حياتي من الدمار ! لو كنت شعرت بالانتماء يوما لما لجئت لك كما لجئت سابقا للعيش بمنزلكم ! انا ما زلت لاجئة يا احمد ادور بين مكان وآخر بدون ان اجد السبيل للثبات والاستقرار من كل هذا الشتات"
تجهمت ملامحه وهو يعود بنظره للأمام قبل ان يتمتم بتشدق بارد
"يا لها من وجهة نظر محبطة ! لم اكن اعلم بأنكِ تكنين كل هذه المشاعر السلبية بداخلك نحونا ؟"
تشنجت ملامحه لوهلة ما ان شعر بملمس يدها على مرفقه وهي تتبعها بالهمس بابتسامة حانية بمحبة
"لقد كان هذا فيما مضى يا احمد ، ولكن بعد زواجي منك كنت تثبت لي يوما بعد يوم بأنك المكان الذي انتميت له حقا وانتشلني مما كنت به ، لذا انا شاكرة للحظة التي طلبت بها الزواج مني وجعلتني اكون لاجئة عندك ، انا ممتنة لك يا احمد دائما"
التوت ابتسامته بتشنج طفيف وهو يدير عينيه للأمام قائلا بتنهد مسترخي
"يا لهذا الجمال بهذا الصباح الباكر ! لقد اعجبني هذا الانقلاب السريع بوجهات النظر ! ولكنك قد تأخرتِ كثيرا بقول هذا الكلام ولن اسامحكِ على هذا التأخير"
عقدت حاجبيها بشحوب وهي تشعر بانحراف مفاجئ بالسيارة ارتد معها رأسها للأمام وهي تستقر عند قارعة الطريق بلحظات ، وما ان استعادة توازنها وهي تعود للجلوس باعتدال حتى قالت بعبوس متوجس
"لماذا توقفت فجأة يا احمد ؟"
ارتفع حاجبيها ببهوت ما ان امسك بكفها على مرفقه ليقبل ظاهرها بلمسة رقيقة ناعمة وكأنها حقنة خدرت مفاصلها ، لتندفع بعدها الكلمات لشفتيها وهي تهمس باضطراب بعثه بدواخلها
"احمد ! هل هناك من خطب ؟"
رفع رأسه قليلا بدون ان يترك يدها وهو يدس يده الاخرى بجيب سترته ليخرج منها علبة مستطيلة الشكل ، ليقلب بعدها يدها للجهة الاخرى وهو يضع العلبة براحة كفها بهدوء ، وما ان انتهى حتى سحب يده بعيدا عنها ببطء وهو يقول بغموض
"افتحي العلبة يا روميساء"
اتسعت حدقتيها بانشداه اكبر وهي ترفع العلبة المخملية امام نظرها لوهلة قبل ان تقول بخفوت واجم
"هل هذه هدية لي ؟ لا اذكر بأن هناك مناسبة تدعي جلب هدية لي !"
زفر انفاسه بضيق وهو يتمتم بجمود صارم
"افتحي العلبة يا روميساء ، وكفى اسئلة غبية لا داعي لها !"
عبست ملامحها بحنق وهي تفتح العلبة المستطيلة لتصطدم عينيها بسلسلة طويلة ذهبية تنتهي بقرص دائري لم يتبين لها على ما يحوي ، لتمسك بعدها بالسلسلة بأصابع حذرة وهي ترفعها امام نظرها برهبة طغت على الاجواء من حولهما ، وخاصة عندما وقعت عينيها على النقش المرسوم بقلب القرص الدائري والذي كان يشكل رسم لامرأة تعانق طفل رضيع مثل صورة واقعية حفرت بذهنها ومرت على خاطرها بذكريات منسية عادت للهيب بروحها الثائرة التي لم تخمد لهذه اللحظة .
رفعت بعدها عينين شاحبتين بلون البريق الذي لمع بغلالة الدموع الآسرة ، وهي تعانق بكفها القرص الدائري هامسة بتشتت حزين
"ما معنى هذا يا احمد ؟"
حرك رأسه بهدوء بعد ان رأف قلبه بها وبمشاعرها التي وصلت له بوضوح وهو يقول بهدوء حاني وعينيه تشيران للقرص بيدها
"هذا العقد كان من المفترض ان يكون هدية ولادتك لطفلنا ، وكان من الجنون العجلة بتجهيز مثل هذه الهدية المبكرة وانتِ ما تزالين بأول شهورك ! ولكني من شدة حماسي وفرحي بخبر وجود طفل سيولد بيننا ويكون ثمرة حبنا دفعني لأصمم الهدية من الآن ، وانظري كيف بقيت الهدية وحدها بعد ان اختفى سبب وجودها وفرحتها معها !"
ارتفع حاجبيها بشحوب غزى ملامحها وهي تهمس بتفكير حائر
"ولكن يا احمد لما الآن ؟ لما اعطيتني الهدية الآن ؟ ألم يكن من الافضل ان تخبئها للوقت الذي ننجب به طفل آخر ! أليس هذا ما صممت من اجله ؟"
ابتسم بتغضن حاني وهو يرفع يده ليمسح على خدها بإبهامه برفق قائلا بخفوت اجش
"لا تهتمي لذلك يا عزيزتي ، فقد قررت ان اقدمها لكِ لتكون تعويض بسيط عن فقدان طفلنا وهدية من اجل ان ننسى ما فات ونفكر فقط بالقادم ، ويمكنكِ اعتبارها كذلك اعتذار نادم على ترككِ لوحدكِ تعانين بتلك اللحظات والتي لم استطع ان اقف بها بجوارك"
حركت رأسها بالنفي وهي تزيد من غلالة الدموع بعينيها هامسة بملامح باكية بنشيج خافت
"انت لم تخطأ بشيء يا احمد حتى تعتذر عليه ! انا الملامة الوحيدة بكل شيء فقد كنت السبب بدمار هذه السعادة ومعها ثمار حبنا ، انا السبب بموت الجنين الذي لم يقدر له عمر ليعيش بيننا ، كيف سأفكر بحمل الأطفال بعد هذه الحادثة ؟......"
ضغط بأصبعه الإبهام على شفتيها وهو يقترب بوجهه اكثر هامسا امامها بخفوت آمر
"هششش اهدئي يا روميساء ، لا اريد سماع هذا الكلام يخرج منكِ مرة اخرى ، كل شيء بالحياة مقدر ونحن ليس علينا سوى الاستمرار بالسير مع القدر ومع المكتوب لنا ، وانا واثق بأن كل شيء يحدث سيكون للأفضل ما دمنا ما نزال نحارب معا"
اومأت برأسها حتى تساقطت بعض الدموع على وجنتيها ببطء شديد ، وما ان عاود مسح دموعها بأصبعه حتى ارتمى رأسها على كتفه بلحظة وهي تتمسك بسترته بقوة ، ليصل له همسها المختنق بانتحاب واضح وهي تفرغ آلامها التي لم تندمل بعد
"اشتاق إليه يا احمد ، اشتاق إلى استنشاق رائحته التي لم اشمها ! اشتاق إلى رؤية وجهه الذي لم اراه ! اشتاق إلى سماع صوته الذي لم اسمعه ! اشتاق إلى احتضان جسده الذي لم احضنه ! هل انا مهووسة به ام هذا طبيعي ؟ هل انا عاطفية جدا ام ان الامومة بداخلي تستفيض ؟"
تنهد بتعب يشعر به يخرج مثل نيران تأججت بصميم روحه المنقبضة بدون سبيل لتحريرها....وهو يكتم ذلك البركان المهدد ورغبة بقتل المسبب الرئيسي بكل هذا تزداد شراسة وتحكما نشبت كمخالب تريد الاقتصاص من الجميع...ولن يهدأ له بال حتى يصل لمراده ويريح ضميره اتجاه مع ما يحدث بزوجته وابنه والذي انسلب منهما حق الاجتماع معا .
حطت كفه على رأسها وهو يمسح عليها برفق ليقبل بعدها مقدمة شعرها وهو يهمس بخفوت جاد
"هيا يا حبيبتي اريدكِ ان تكوني اقوى من هذا ، لو كنت اعلم بأن تقديم الهدية سيفعل بكِ كل هذا لما فكرت بتقديمها لكِ ! انتِ هكذا ستدفعينني لأخذ الهدية منكِ والذهاب بعيدا !"
رفعت رأسها بانتكاس وهي ما تزال تعانق القلادة بين يديها هامسة ببحة بكاء خافتة
"اعتذر على هذا ، وشكرا لك على الهدية ، لقد اعجبتني كثيرا"
ابتسم بالتواء شغوف وهو يمسك بوجهها بكفيه ليرفعه امام نظره وهو يدنو امامها قائلا بخفوت منفعل
"اريد رؤية ابتسامتكِ الآن لأتأكد بأنكِ بخير حقا !"
شقت ابتسامة صغيرة محياها الشاحب من الدموع التي تكاثرت على وجنتيها وبللت خطوط ملامحها الدقيقة ، ليتنفس بعدها براحة وهو يقبل طرف ابتسامتها بلطف حتى طافت على ملامحها وهو يمطرها بالقبلات على تفاصيل ملامحها الباكية ، وما ان توقف حتى ابتعد قليلا وهو يخفض نظره للقلادة بيدها قائلا بابتسامة مائلة بانفعال
"هل تسمحين لي بأن اهتم بتلبيس العقد لكِ ؟"
اخفضت عينيها بحياء وهي تخفض جفنيها قليلا لتخرج منها إيماءة بسيطة تدل على الرضا ، اخفض يديه عن وجهها ليمسك بسلسلة العقد بحرص وهو يلفها حول عنقها برفق ، وبلحظات كان ينتهي من عقد السلسلة خلف عنقها وهو يعيد شعرها الطويل للخلف بترتيب وعناية ، ليمسك بعدها بكتفيها وهو يقيمها بنظرة متفحصة اخيرة قبل ان يبتسم باتساع وهو يقبل جبهتها البيضاء قائلا بخفوت خشن
"تبدين رائعة يا زوجتي الجميلة بدون الحاجة لأي إكسسوارات او تبهرج...يكفي ان تبتسمي فقط للعالم لتظهري لهم كم تملكين من جمال يا فاكهة احمد الحلوة !"
عضت على طرف شفتيها بحياء وهي تنفض يديه عن كتفيها لتعتدل بجلوسها قائلة بصرامة مزيفة
"هيا يا احمد لقد تأخرنا عن العمل بما فيه الكفاية ، هل تفضل ان نقضي طول اليوم نتبادل الغزل امام العالم بالسيارة ؟"
اعاد ظهره لمسند مقعده وهو يعود للإمساك بعجلة القيادة قائلا ببرود ساخر
"حسنا يا معلمة روميساء ، لا نريد التأخر اكثر على طلابك واحبائك المشاغبين"
عضت على طرف ابتسامتها واصابعها تتلاعب بهوس بالقرص الدائري الخاص بالعقد والذي تهدل على صدرها ، وما ان وصل بها بلحظات امام بناء المدرسة الحديثة وهو يقف بالقرب منها حتى امسك بمرفقها وهو يقول بجدية
"انتظري يا روميساء"
تجمدت بمكانها وهي تحدق بهدوء بالذي كان يدس سلسال عقدها داخل قميصها الربيعي حتى لم يعد يظهر اثر للعقد ، ليعدل بعدها ياقة قميصها وهو يقول بابتسامة هادئة
"هكذا افضل بكثير ، وإياكِ وان تظهري العقد امام احد فهو غالي جدا بالنسبة لي كما صاحبته ولن احبذ ان يرى احد شكل زوجتي بالعقد الغالي لكي لا تلفتي انتباههم لكِ"
اومأت برأسها بطاعة وهي تضرب على صدرها مكان موضع العقد بإشارة للوعد الصادق قائلة بقوة
"اعدك"
اومأ برأسه بهدوء وهو يتراجع بجلوسه لينظر لها وهي تخرج من السيارة امام عينيه الحارستين لها بصمت ، لتلوح بعدها بكفها بحركة خفية قائلة بمودة
"شكرا لك على التوصيل ، ورحلة آمنة لك"
استدارت بعدها وهي تكمل سيرها وسمعها يتابع السيارة التي غادرت بعيدا ، لتأخذ بعدها عدة انفاس باستنشاق وهي تحمل رئتيها بالهواء النقي بعد حرب المشاعر الذي خاضته من لحظة ، لتريح قبضتها فوق العقد الواضح من تحت القميص بعد ان استعادة رغبتها بعيش الحياة القادمة ورمي الماضي خلف ظهرها بعزيمة وقوة اكبر بدون ان يهبطها شيء او يعيدها لتلك البؤرة مجددا .
______________________________
كانت تسير بممر المتجر الكبير وهي تقف بلحظة عند قسم المأكولات المجمدة ونظرها يخترق السلع المعروضة من خلف زجاج البراد ، لتريح بعدها كفيها على الزجاج البارد وهي تتمعن بالنظر للسعر المدون على المأكولات المحفوظة ببرودة الثلاجة ، مالت برأسها بخيبة كبيرة لا يشعر بها سوى اصحاب التفكير الحسابي والذي يقدر كل قرش يخرج منه وهي تهمس بإحباط مستاء
"لقد زاد السعر عن آخر مرة ، اعتقد بأني سأكتفي بفروج الدجاج عوضا عن السمك المجمد !"
رفعت رأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة شاردة ببهوت
"سامحيني يا امي ، ربما مرة اخرى !"
تنهدت بتعب وهي تراقب السمك المجمد بحسرة مريرة بعد ان عزمت امرها على شرائها اليوم وحصّلت ثمنها المناسب رغبة بإجابة طلب والدتها ، وها هي الآن تتعرض لضربة قاسية غير محسوبة دمرت احلامها العالية كما يحدث معها دائما وكأن العالم يهوى السير عكس خطاها وضد رغباتها بالحياة ، وكم يتعبها هذا الامر كثيرا ويفقدها الدافع على الاستمرار حتى جعلها تؤمن بالنهاية بأن الحياة ارزاق وكل من على الارض سيأخذ رزقه ونصيبه منها !
تراجعت قليلا وهي على وشك سحب باب البراد قبل ان يوقفها الصوت القادم من بعيد وهو يهتف باسمها
"سيدرا ! كيف حالكِ يا موظفتي الجميلة ؟"
قبضت على يدها الممتدة وهي تخفضها هامسة بتشدق ساخر
"يا محاسن الصدف !"
وقف بالقرب منها وهو يقول بابتسامة مائلة بتسلية
"يا لها من مصادفة جميلة ان اراكِ خارج العمل ! هل تتسوقين عادةً من هذا المكان لديهم خصوم جيدة واسعارهم زهيدة ؟"
اخذت انفاس عميقة وهي تستدير نحوه بحذر شديد لتقول له بابتسامة لطيفة بلباقة
"صباح الخير يا سيد عمير ، كما ترى لقد اتيت للتسوق بما انه يوم عطلة واحاول ان استغل كل دقيقة به لكي اساعد عائلتي واحضر كل المستلزمات الضرورية التي يحتاجونها وتنقص بالمنزل"
اومأ برأسه بتفكير وهو يقول بابتسامة باردة
"تعجبني كثيرا طيبة قلبكِ واخلاصك الكبير لعائلتك المحظوظين بكِ ، فأنتِ حلم كل رجل يفكر ببناء عائلة وشريكة مثالية تسانده بهذه المهمة والتي لن تتوازن بدون وجودها ، فقد قل كثيرا وجود هذا النوع من الفتيات بهذا العالم المعاصر والذي اصبح اكثر ما يجيدونه هو افتعال المشاكل والتذمر من كل عائق حتى تنقطع بهم السبل ويصل الأمر للطلاق"
اومأت برأسها بغمامة شاردة وهي تهمس بوجوم
"لا اعتقد ذلك !"
عقد حاجبيه بضيق وهو ينحني قليلا قائلا بنبرة غامضة
"ولماذا لا تعتقدين ؟"
انتفضت وهي تتراجع تلقائيا قبل ان تحرك كفها بعشوائية قائلة بتفكير مراوغ
"لا لا شيء مهم ، صحيح لم تخبرني عن سبب وجودك هنا بهذا المتجر ! فلم اعرف بأنك تمارس هواية التسوق بأيام العطلة ؟"
ارجع رأسه وهو على وشك الكلام ليخرج الصوت الطفولي بجواره وهو يهتف بتذمر
"هيا يا ابي اريد الذهاب لقسم الألعاب ، هيا بسرعة قبل ان يغلق"
اخفضت رأسها برعشة خاطفة وهي تنظر بعينيها الواسعتين للطفلة التي لم تتجاوز الاربع سنوات بشعر اسود قصير حدد دائرة وجهها الصغير ، لتعود بنظرها للأمام وهي تقول بابتسامة مرتبكة
"هل هذه ابنتك ؟ لم اعلم بأن لديك ابنة !"
اتسعت ابتسامته بالتواء غريب وهو يهمس بمرح
"لماذا كل هذا التعجب ؟ هل من الغريب ان اكون متزوج ولدي اولاد ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس من فورها بجدية عملية
"ليس هذا ما قصدته ، ولكني لم اراك يوما بصحبة ابنتك ولم تخبرنا بأنك انجبت اولاد ! فكل ما اعرفه بأنك انفصلت عن زوجتك منذ مدة طويلة ، صحيح ؟"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية بدون اي تعبير
"كلامكِ صحيح يا فتاتي ، ولكن الذي لا تعرفينه بأني قد انجبت هذه الطفلة قبل انفصالي عن زوجتي ، ولأنها اخذت حضانة الطفلة لا استطيع رؤيتها سوى بالعطلات والمناسبات واصطحابها معي ، وهذا السبب لعدم رؤيتكِ لها بصحبتي للآن ، هذه كانت قوانين حياتنا والتي اتفقنا عليها قبل حصول الطلاق"
عقدت حاجبيها بحزن اكتسح محياها وهي تنسى جرأته على نطقه لكلمة فتاتي والتي ضاعت بين حديثه الذي جلب غصة بقلبها الحزين ، لتخفض بعدها عينيها تلقائيا لنفس الطفلة التي كانت تراقب بهما بعينين نجلاءين خضراوين تشعان بالحياة ، لترتسم الابتسامة الحانية على شفتيها وهي تلوح بيدها هامسة بمودة
"مرحبا يا صغيرتي ، هل اتيت مع والدك للعب ؟"
اتسعت عينان الطفلة بتوجس وهي تلتصق بساق والدها تكاد تعانقها بخوف طفولي تربص بها ، ليربت بعدها الواقف بجانبها على رأسها بهدوء وهو يقول بابتسامة واسعة بحنية
"قولي مرحبا لصديقة العائلة يا نورا ، فهي لن تؤكلك"
كانت تراقب بها بدون ان تعير كلامه اهتماما كبيرا وبأنه نسبها بلقب صديقة العائلة بدلا من موظفة تعمل بشركته ، بينما حركت الطفلة رأسها الصغير بالنفي وهي تشدد من عناق ساق والدها وكفيها تتشبثان بالبنطال بقوة بالغة ، لتقول بعدها بابتسامة هادئة بعطف ونظراتها لا تترك رأس الطفلة المختبئ بعيدا
"لا بأس يا سيد عمير ، لابد بأنها غير معتادة على التآلف على الوجوه الجديدة"
ادار رأسه نحوها وهو يقول بابتسامة هادئة
"انتِ على حق بكلامكِ ، فقد اخذت وقتا طويلا حتى استطاعت التآلف مع والدها ، هل تصدقين هذا ؟"
ارتجفت ابتسامتها بصمت وهي تهمس برقة حانية
"لا تستطيع لومها فهي التي عاشت بين والدين منفصلين بدون ان تدرك معنى وجودهما بحياتها ، وكل ما تستطيع فعله هو التعايش مع الوضع الراهن وحفظ وجوههما وطريقة حياتهما بذاكرتها الصغيرة سريعة النسيان"
نظر لها للحظات وهو يقول بابتسامة جامدة بدون شعور
"كما اشرت واخبرتك انتِ طيبة القلب وحنونة يا سيدرا وتحكمين بعقلك الناضج بدون اي محايدة بين الطرفين ، ولكني سأخبركِ بنقطة مهمة وهي بأن كل شيء ظاهر ليس عليه ان يكون بالموجز هو المضمون ذاته فلا احد يعرف تلك الاسرار المتوارية خلف الواقع سوى اصحابها !"
حدقت به لوهلة بدون تعليق اصابها بالضياع لتقول بعدها بابتسامة جادة
"اجل بالطبع ليس هناك شك بكلامك"
حرك رأسه جانبا باتجاه زجاج البراد الواقفين بالقرب منه وهو يقول بتفكير مبتسم
"هل كنتِ على وشك شراء شيء من هنا ؟"
حادت بنظراتها قليلا وهي تتذكر سبب وجودها بهذا المكان والقسم تحديدا ، لتقول بسرعة بارتباك واضح خرج باضطراب حركاتها
"اجل ، اقصد لا ، اقصد نعم بالطبع ، وألا ما لذي افعله بهذا القسم ؟"
كان ينظر لها بهدوء بدون ان يفقد ابتسامته وهو يقول ببساطة
"إذاً لقد اتيت لشراء السمك المجمد ؟"
اومأت برأسها قبل ان تتدارك نفسها وهي تعود لتحريك رأسها بالنفي قائلة بابتسامة لطيفة تداري بها خجلها
"لا لقد كنت افكر بشراء فروج الدجاج ، واعتقد بأنني قد لمحتها هنا بين السمك المجمد !"
عقد حاجبيه بتفكير ملتوي وهو يلقي نظرة خاطفة على السلع المجمدة والتي زادت سعرها للضعف من بينها السمك ، ليربت بعدها على رأس الطفلة وهو يمسك طرف الخيط ليقول بلحظة بهدوء شديد
"حقا لقد ذكرتني ! كنت افكر بشراء كمية من السمك المجمد رغبة بطلب نورا ، فهذه الطفلة تحب كثيرا المأكولات البحرية ومن بينها السمك المشوي ، وكم يتعبني تنفيذ طلباتها الغريبة التي لا تنتهي !"
تغضن جبينها باستغراب وهي تنظر للطفلة التي لم تصدر اي ردة فعل للآن ، لتقول بعدها بابتسامة صغيرة بغرابة
"حقا غريب ! لم اكن اعلم بأن الاطفال بسنها يحبون هذه المأكولات ! ولكن كل شيء متوقع منهم بهذه السن المتقلبة والغير مستقرة"
اومأ برأسه وهو يعقد حاجبيه بأسى تمثيلي قائلا بعبوس
"ولكن المشكلة تكمن بقوانين الشراء فلن استطيع شراء كمية صغيرة من السمك تكفي لشخصين ، وسأضطر لشراء كمية كبيرة من السمك لا اعلم ماذا افعل بها ! وخاصة كما تعلمين انا اسكن بالمنزل وحدي بدون اي اقارب او عائلة اتشارك معهم الطعام ، واحيانا اكتشف فساد بعض الاطعمة عندي يتبين بأنها لدي منذ مدة طويلة بدون ان استخدمها او اتناولها ، لذا لا اريد ان يحدث هذا معي مجددا ما ان تطول مدة السمك عندي بدون ان انتبه له !"
امسكت ذقنها بتفكير عميق وهي تهمس بوجوم عابس
"يا لها من مشكلة كبيرة حقا ! اعتقد بأنه ليس لديك حل سوى ان تقسم الكمية بينك وبين زوجتك السابقة ! سيكون تصرف نبيل جدا منك ومعروف ستكسب اجر وثواب عليه"
تجمدت ابتسامته بدون ان يظهر اي انفعال او انطباع وهو يقول بخبث مراوغ
"ولما اتعب نفسي بذلك وانا يمكنني ان اشارك السمك معكِ ونتقاسمه بيننا ! أليس هذا منتهى العدل بما اننا كلانا يرغب بشراء السمك لعائلته ؟"
ارتبكت ملامحها وهي تهز رأسها بالنفي لتلوح بكفها هامسة بإحراج
"لا يا سيد عمير ! ما هذا الكلام ؟ كيف تريدني ان اقبل منك مثل هذا المعروف الكبير ؟ وايضا انا لم ارغب بشراء السمك لأن....."
قاطعها بهدوء جاد بدون ان يتأثر بكلامها او يتنازل عن النقاش
"وانا قلت بأنني لن اتقاسم السمك سوى معكِ ، فأنتِ تستحقين مثل هذه الخدمة اكثر من اي شخص آخر ولو اعطيتك كل السمك بحوزتي فلن امانع لأني اعرف بأني لم اخطئ باختيارك ، ولا تحلمي ان اتنازل عن كلامي فهذا القرار لا جدال به"
زمت شفتيها بتوتر وهي تمسك بطرف الحجاب حول وجهها هامسة بآخر مقاومة كبرياء لتحني الفكرة عن رأسه
"هذا ليس جائز يا سيد عمير ، فأنا لا اقبل ابدا مثل هذا النوع من الخدمات بدون مقابل او مال !....."
قاطعها مجددا بهدوء وهو يحرك كتفيه باستخفاف
"لا بأس استطيع ان احسبه خصم من راتبك بالعمل ، او تعويضها بالعمل الاضافي بالشركة لتسديد ثمنها ، ما رأيكِ بهذا الاقتراح ؟"
ضيقت عينيها البندقيتين بتفكير لوهلة وهي تراه الحل الامثل لمشكلتها إذا كان لن يتنازل عن قراره وفرصة ذهبية لشراء بعض السمك لوالدتها وتحقيق عند رغبتها ، لتحرك بعدها رأسها للأسفل بإحراج وهي تهمس بامتنان شديد
"شكرا لك يا سيد عمير ، واعدك ان اردها لك بالعمل بالشركة لأسدد ثمنها لك ، وحتى لو لم استطع سأفعل اي شيء لكي اكون عند حسن ظنك دائما وارد لك هذا المعروف الكبير"
اومأ برأسه بجمود بدون اي تعبير وهو يجيب بهدوء راضي
"وهذا ما انتظره منكِ دائما يا سيدرا"
بعدها بدقائق وقف كليهما امام طاولة الحساب بعد ان انتهوا من شراء مستلزمات المنزل الاساسية التي جاءوا من اجلها ، لتلفت الطفلة انتباههم وهي تهمس بتذمر باكي على وشك التفجر بوجهها المحتقن من البكاء الطويل
"اريد الذهاب لقسم الألعاب ، لقد وعدتني ان تأخذني إليه !"
نظر لها بتصلب وهو يقول بنفاذ صبر
"وانا اخبرتكِ بأن القسم مغلق يعني لا نستطيع الدخول له ، كم مرة عليّ ان اعيد لتفهمي !"
زمت شفتيها الصغيرتين بدموع حبيسة وهي تشهق بدون صوت ، لتقول بعدها الواقفة بالقرب منهما وهي تحني وجهها امامها هامسة بلطف مرح
"لا تبكي يا صغيرتي الحلوة ، عليكِ ان تكوني اكثر تهذيبا من اجل ان يصطحبك والدك مرة اخرى للذهاب لقسم الألعاب ، وإذا لم تفعلي ذلك فلن يصطحبك معه مجددا"
اومأت برأسها بحركة مهتزة وهي تنظر للأسفل بصمت حزين ، بينما كان يشاهدهما الواقف من خلفهما بنظرات ثاقبة بدون ان يتدخل بينهما .
بعد ان خرجوا من المتجر وهما يحملان اكياس التسوق معهما ، لتُخرج بعدها المال من جيب سترتها الصوفية وهي تقدمها للواقف امامها قائلة بابتسام هادئ
"هذه دفعة اولى من ثمن السمك ، ويمكنك خصم الباقي من راتبي بالعمل وسأحاول بذل جهد اكبر لأرد لك معروفك معي"
نظر للمال بيدها للحظات قبل ان يقبض عليها بلحظة حتى تصافحت ايديهما وهو يقول بابتسامة جانبية
"شكرا لكِ ، وسأكون بانتظار طريقتك التي ستردين بها معروفي"
اومأت برأسها بارتجاف وهي تسحب يدها بحذر بعيدا عن اصابعه ، وما ان استدارت نصف دورة حتى لوحت بكفها الحرة للطفلة الساكنة بمكانها وهي تهتف ببهجة
"وداعا يا نورا ، وسعدت بالتعرف عليكِ"
غادرت بعدها باتجاه مسارها وهي تتنهد براحة بعد ان انتهت من مهمة الشراء العصيبة وكسبت السمك الذي كانت تحلم به ، وهي تفكر باحتمالية ردة فعل (اوس) إذا علم بما فعلت والتي من المؤكد لن تكون سارة ، لتشكر ربها كثيرا لأنه قد تركها بحالها اخيرا وتوقف عن اتباعها الطفولي والذي ضاقت ذرعا منه ، بينما الذي تركته من خلفها ما يزال يتابعها بنظرات نافذة بتركيز ، ليقطعه بكاء الطفلة بجواره والتي زادت حدة وهي تشهق بنحيب
"اريد العودة إلى امي ، خذني إلى امي"
تصلبت طرف ابتسامته وهو يتمتم بجفاء بارد
"سأعيدك إلى امكِ لذا كفى بكاءً ، فقد انتهت مهمتك بالفعل"
______________________________
كان يمسك بالطوب الخاص بسور المنزل امامه وهو يريح ثقله على كتفه ويشمر على ذراعيه حتى ظهرت عضلات وعروق ذراعيه البارزتين بوضوح العرق الذي يغزوهما ، وما ان صعد السلم بخطوات ثابتة قوية حتى ازاح الطوب عن كتفه بخفة وهو يستوي بالمكان الفارغ بين حجارة البناء الصلبة ، ليمسح بعدها عرق جبينه بذراعه بتنهد طويل وشمس الصباح الباكرة تضرب محياه المتعب بإشراقة وكأنها تكافئه على مجهوده الجبار .
افاق من رحلة تأمله على الصوت المرتفع بالأسفل يقول بخشونة محببة
"يا ذئب الاوس تعال إلى هنا إذا كنت قد انتهيت من عملك ، فأنا اريد دعوتك لجلسة فطور محترمة ، وإذا تأخرت دقيقة اخرى فقد يقضي الوحوش على الطعام ولن يبقوا لك شيء"
حرك رأسه للخلف وهو يشير بأصبعيه بجانب رأسه علامة الطاعة وهو يبتسم برسمية بدون ان تصل لعينيه فقط انحناء متصلب حفر على زاوية شفتيه ، انسحب بعدها الرجل وهو يلوح بيده قائلا بتحذير
"لا تتأخر سأكون بانتظارك"
تصلبت ملامحه وهو يرتدي قناع البرود الصخري بلحظة ، لينزل بعدها عن السلم بهدوء ما ان وجد بأنه طال بالبقاء وهو يعيق سير العمال الآخرين ، وما ان وصلت قدميه للأرض حتى سار بين هتافات التشجيع وضربات ودية على الكتف مثل طقس اعتادوا على فعله بين الحين والآخر
"احسنت صنعا يا ذئب الاوس ، احسنت يا وحش المهام الصعبة"
سار بعيدا عنهم وهو ينحرف بطريق اخرى خارج مكان العمل ليصل لخلف اسوار البناء الغير مكتملة ، وبلحظة كان يسند ظهره لجدار حجري وهو يخرج من جيب بنطاله سيجارة ليشعلها بقداحة اخرجها بيده الاخرى ، لينفث بعدها انفاسه مع الدخان المتصاعد منها بدون ان يبالي بشيء ولا بالألم الذي بدأ ينخر عظام ذراعه بكل مرة يدخن بها وكأنه تنبيه بمضار الدخان عليه ، فقد اصبحت تشكل بالنسبة له إدمان شرس وراحة مؤقتة من العالم والمشتتات التي تحيط به بدون ان يستطيع الاقلاع عنها .
اخفض يده بالسيجارة وهي ترتخي بتعب منهك تسرب بجزيئات جسده والذي انضغط بالعمل الطويل وهو يجبر نفسه على العمل بأقصى طاقاته وفوق مقدرته الطبيعية علها تزيل الألم الساكن بعظامه وتنسيه شعوره المرير...ولكنه ما ان ينتهي من العمل المهلك او يأخذ راحة من آلامه الجسدية حتى يجابهه الألم المعنوي المعتاد والذي لا يريد ان يبارح حياته وهو يتربص له من كل زاوية مثل وحش كامن ينتظر الكمين والذي يخرج منه .
رفع السيجارة لفمه بارتجاف وهو يشفط منها عدة انفاس قوية لدرجة دفعته للسعال بثورة امتزجت بدموية عينيه الدامعتين...ليلقي بعدها بالسيجارة ارضا وهو يدوس عليها بقوة حتى دفنت تحت الارض وانطفئت ألسنتها تماما .
زفر انفاسه بهدوء وهو يدلك على اعلى ذراعه بوتيرة محددة حتى شعر بالألم بدأ يزول تدريجيا ، لينتصب ظهره بعيدا عن الجدار وهو ينفض قميصه بحركة مهتزة قبل ان يسير بنفس الطريق التي جاء منها بعد ان انتهى الوقت المستقطع والذي يفرغ به كل انواع المشاعر والآلام والتي ترهق كيانه وتكدر عمله .
وصل عند مكان اجتماع العمال بوقت استراحة الطعام والنصف الاول قد عاد للعمل والنصف الثاني ما يزال مرابط عند طاولة الطعام ، ليتقدم بعدها باتجاه الطاولة التي كان يجلس عندها صاحب الابتسامة العريضة وهو يلوح له بيده ليقترب .
وما ان اصبح امامه حتى جلس مباشرة على الحجر البارز حول الطاولة والذي يتخذونه مقعدا ، ليقول بعدها المقابل له وهو يكتف ذراعيه بعتاب
"لما اخذت كل هذا الوقت ؟ لقد انتهينا من تناول الفطور ونحن ننتظر قدومك ! ألن تتوقف عن هذه العادة بتفويت مواعيد الطعام !"
حرك رأسه بهدوء وهو يقول بدون ان يرسم على ملامحه تعبير محدد
"بالهناء والشفاء ، وشكرا لك على اهتمامك بأمري ولكني لا اشعر بالجوع الآن"
حرك رأسه بيأس وهو يقول بخشونة عابسة
"حسنا كما تشاء ، الحق عليّ لأني اهتم لأمرك يا متكبر"
ابتسم ببهوت وهو يتمتم بنفس البرود
"شكرا لك"
تنهد بجمود وهو يمسك بأبريق الشاي على الصينية قائلا بابتسام هادئ
"بما انك لا تريد تناول الفطور فما رأيك بكأس من الشاي الساخن ؟ فقد يريح اعصابك قليلا ويشحن طاقتك للاستمرار بالعمل ! وليس لديك فرصة للرفض !"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية برخاء
"تعلم بأنني لن افعل ، فأنا ليس لدي القوة للدخول معك بنقاش"
سكب الشاي بالكأس الصغيرة الفارغة وهو يقول بثقة وكأنه ربح الرهان
"هذا جيد لقد ظننت بأنني قد خسرت موهبتي بالإقناع !"
وضع كأس الشاي امامه وهو يسكب بالكأس الآخر الخاص به قائلا ببشاشة
"هيا اشرب كأس الشاي واستمتع بمذاق الانتعاش بالصباح الباكر فقد اجهدت نفسك كثيرا بالعمل"
اومأ برأسه وهو يمسك بالكأس الصغيرة التي كانت تخرج منها الدخنة الدافئة مثل غمامة يجلبها نهار اليوم ، ليرتشف بعدها على مهل وهو يمحي كل اثر من التلوث الصحي الخاص بالسجائر بطعم منعش فريد خفف التعب بحنجرته وبخواء معدته الصلبة .
عاد بنظره للأمام ما ان اخترق غمامة الصمت نفس الرجل الذي كان يمسك بكأس الشاي بهدوء
"هل كنت تعمل بمجال البناء من قبل ؟ فقد رأيت بأنك تبرع كثيرا بهذا العمل بالرغم من انه لم يمر الكثير على توظيفك ! ومع ذلك لقد اصبحت من خيرة العمال عندنا ومن انشط العاملين بيننا وكأنك تعمل هنا منذ سنوات !"
حرك رأسه جانبا وهو مستمر بالشرب من كأس الشاي قائلا بعدم اهتمام
"ليس تماما ! ولكن يمكنك ان تقول بأنني احببت كثيرا العمل هنا ووجدت به هدفي بالحياة"
عقد حاجبيه بتفكير لوهلة وهو يدور بنظراته عليه بتركيز قبل ان يقول بابتسامة مرحة
"لا تبدو بهذا العمر الكبير لتتكلم بهذه الطريقة وكأنك تمتلك خبرة واسعة بالحياة ! صحيح ؟"
صمت للحظات قصيرة قبل ان يقول ببساطة
"انا ابلغ من العمر واحد وثلاثون سنة ، وإذا لم يكن هذا العمر كافي لأحصل على خبرة بالحياة فهذا يعني بأن وجودي لم يكن له فائدة !"
ارتفع حاجبيه بصدمة سمرته عن التفكير لوهلة ليقول بسرعة بضحكة خشنة بمرح
"حقا لقد صدمتني بشدة ! لم اكن اعلم بأنك بهذا العمر الكبير ! هل هذا يعني بأنك متزوج ولديك اولاد ؟"
تجمدت ملامحه وهو يخفض كأس الشاي قائلا بهدوء جاف تغيرت معه نبرة صوته
"لا لم يحدث نصيب"
ضيق عينيه بتركيز وهو يقول باستنكار
"ولماذا هذا البؤس يا ابني ؟ من هي الفتاة المجنونة التي سترفض الزواج من رجل كامل الاوصاف مثلك قلبا وقالبا ! وخاصة بأن بهذا الزمن اصبحت الفتاة تبحث عن السترة بدون ان تهتم بالشكليات ، وإذا كنت ترغب بالزواج حقا يمكنني مساعدتك على البحث على الفتاة المثالية التي تليق بك"
اعاد نظراته للأمام وهو يحرك كأس الشاي بأصابعه قائلا بجمود
"لا تفكر بالأمر كثيرا يا حسن ، فأنا واثق بأنه عندما يأتي الوقت المناسب والذي يكتب به ان اعيش مثل البشر الآخرين واكّون عائلة وافراد حينها فقط قد افكر بالزواج وإنجاب الاولاد ، وقبل ذلك لن اخطو اي خطوة للأمام"
اومأ برأسه بابتسامة هادئة وهو يشرب من كأس الشاي قائلا بخفوت متزن
"لا بأس خذ وقتك يا اوس ، فما يزال العمر امامك طويل واستغل ايام حريتك بقدر ما تستطيع قبل ان تحبس بقفص الزواج ! فليس الزواج مسكن الراحة والمسرة كما يظن الجميع ويقول !"
نظر له بهدوء وهو يقول باهتمام ينتابه لأول مرة
"هل تقول بأنك تشعر بالندم بتسرعك بالزواج ؟"
تنهد بتعب للحظات وهو يقول بابتسامة متغضنة بوهن
"لو تعلم المعاناة والحرب الضارية والتي اخوضها كل يوم بمنزلي ما ان اعود من العمل ! احيانا افكر لو يعود بي الزمن للوراء ولم اوافق على هذا الزواج والذي هو من اختيار امي رحمة الله عليها ، كان عليها ان تتركني اتزوج كلب الجيران افضل من هذه الزيجة الفاشلة ، بارك الله فيها على هذه الهدية والتي ستحاسبني عليها طيلة العمر وعلى كل الذنوب والتي اقترفتها معها وكل كلمة لم اسمعها منها ، ولولا الولدين والذين يجمعانا بهما لما استمريت بهذا الزواج يوم آخر ، ولكن اعود وافكر بهاذين الولدين وبأنهما لا ذنب لهما بهذه الحروب والعيش بتشتت اسري بسبب مشاكلنا"
كان ينظر له بجمود بدون اي حياة وهو يتمتم بالتعليق الوحيد الذي خطر على باله
"لقد فعلت الصواب بقرارك هذا"
ضحك فجأة بخفوت خشن وهو يضرب على كتفه بقوة يكاد يخلعه قائلا بمرح صاخب
"احمد ربك كثيرا يا ولد ، فأنت تعيش بنعيم العزوبية والتي اتمنى لو اعود لها يوما ولا اخرج منها ، فقد كانت تلك اجمل ايام حياتي والتي لن تعوض ابدا ، اسمع مني هذا ولا تفوت فرصة العيش بهذه السعادة والتي لن تجدها بالحياة الزوجية مهما حاولت وبحثت ! فأجمل سنين الرجل هو قبل الزواج ولكن بعد الزواج يصبح اقصى امنياته هو انهاء نقاش يدخله مع زوجته حول اي شيء بالحياة !"
حرر ابتسامة جافة وهو يشيح بوجهه جانبا بسكون اكتسح محياه ، لينهض بعدها الرجل المقابل له وهو يقول بابتسامة بشوشة تتقد بشعلة الحماس
"اعتقد بأنه قد حان الوقت لأعود للعمل فقد تأخرت كثيرا عليه ، إذاً اراك لاحقا يا ذئب الاوس ، وحظاً موفقاً بالعمل"
حاد بنظراته باتجاه الذي غادر بعيدا وكل منهم قد عاد لموقعه بالعمل ، ليشرد بعدها بنظراته عاليا على اثر كلامه الاخير والذي ذكره بشيء آخر بطيات الماضي والوهم والذي كان يعيش عليه لينسج خيوطا من سعادة مزيفة زالت مع مرور الوقت ، وهو يسمع صوتها الحالم المشع بالصدق وهي تناقش معه بموضوع مستقبلهما بلهفة لعيش السعادة
(انا لن اطلب منك الكثير ولن اتخلى عن احلامي البسيطة ، كل ما اريده هو بيت صغير يحميني من العالم الخارجي ودافئ بحيث يحتضن عائلتي الصغيرة ، افكر بإنجاب الكثير من الفتيات والفتيان لكي يحمي بعضهم الآخر بأوقات الشدة ويكونون مصدر قوة وسند لبعضهم عند الحاجة ، ولكني اتمنى ان يكون عدد الفتيان اكثر لكي يستطيعوا حماية فتيات العائلة الضعيفات ، ومع ذلك سأكون عادلة بينهم ويأخذ كل منهم حقه بالحنان والدلال والرعاية ، وانت سيكون من واجبك ان تكون الجدار الكبير الذي يحميهم ويجلب لهم السعادة والراحة ويكون لهم نعم الاب والزوج ، هل تستطيع ان تحقق لي كل هذه الاحلام البسيطة وتجلب لي مثل هذه السعادة لأرض الواقع ؟)
انحفرت شفتيه بشبه ابتسامة ساخرة وهو يهمس بخفوت مشتد
"لا احد يقدر نعمة الزواج والعائلة سوى فاقدها !"

نهاية الفصل........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن