الفصل الرابع والأربعون

225 4 4
                                    

كانت تسير بالرواق الطويل الفخم بأرقى مشافي المدينة وهي تحمل باقة زهور بيضاء بين ذراعيها باتجاه غرفة معينة ، وما ان وصلت امام باب الغرفة حتى طرقت عليها بقبضتها بانتظام متزن ، ولم يتأخر عليها الرد طويلا وهي تسمع الصوت الانثوي الناعم وهي تأذن لها بالدخول .
فتحت الباب بيد وهي تمسك الباقة بيدها الاخرى ليظهر من خلفها الجالسة فوق السرير الابيض شاردة بنظرها بعيدا وكأنها تعيش ببعد آخر ، لتتنحنح بعدها بثبات وهي تلفت نظرها وتركيزها نحوها قائلة بابتسامة بريئة
"مرحبا ابنة جيهان ، هل ازعجتكِ زيارتي ؟ ام اتيت بوقت غير ملائم !"
حركت رأسها بالنفي وهي ترسم ابتسامة هادئة بوهن ملامحها التي اصبحت تتلبس الضعف وبعض الخطوط التي تغضنت بزوايا شفتيها واسفل عينيها ، لتقول بعدها بصوت مبتهج ببعض السعادة التي سكنت حدقتيها السوداوين
"لا لم تزعجني زيارتك بتاتا ، فقد كنت انتظرها منذ فترة طويلة ، هيا ادخلي واغلقي الباب خلفك قبل ان يمسككِ احد من رجال شادي"
تنهدت بهدوء وهي تغلق الباب خلفها هامسة بابتسامة متملقة
"من الجيد بأنكِ استقبلتني بدون موعد ، فأنا لم اجد الوقت الكافي لأخبركِ به عن قدومي اليوم فقد كانت رغبة مفاجئة ، لذا اعذريني على وقاحتي باقتحام المكان هكذا"
حركت (ميرا) كتفيها ببساطة وهي تهمس بابتسامة حزينة
"لا بأس يا ماسة ، فأنا لا شغل لدي يشغلني ودائما متفرغة وحاضرة ، فقط انتقل من الغرفة للحمام ومن الحمام للغرفة والطعام والشراب يحضرونه لي بالغرفة ، هكذا تسير حياتي الحالية"
تقدمت (ماسة) نحوها عدة خطوات رشيقة وهي تهمس بتفكير ساخر
"يبدو بأنكِ تعانين كثيرا بهذه الحياة ، ولكن انظري للجانب المشرق فلن تضطري للتقدم بحياتك او التراجع يعني مستقرة بمكانك"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تهمس بخفوت مندهش
"ما هو الرائع بهذه الحياة ؟"
حركت رأسها ببرود وهي تهمس بنبرة جليدية
"ستفهمين الامر عندما تعيشين حياتي"
ارتفع حاجبيها اكثر ولم تعطيها الفرصة للكلام فقد كانت تتجه للمنضدة الجانبية وهي تزيل الازهار الذابلة بداخل الوعاء لتلقي بها بالقمامة قائلة بهدوء جاد
"ولكني مع ذلك قمت بالواجب واحضرت لكِ باقة ازهار من اجل ان اخفف من وطأة إحراج زيارتي بدون موعد ، ويبدو بأنكِ لم تتخلصي من الازهار التي جلبتها لكِ بآخر زيارة لي"
اومأت برأسها بهدوء وهي تراقبها تضع الازهار البيضاء الجديدة بداخل الوعاء لتهمس لها بابتسامة ناعمة
"اجل فأنا لا احب التخلص من تلك الازهار الجميلة التي تحضرينها لي بكل زيارة ، فهي تشعرني بالأمان والسلام بوحشية حياتي المنغلقة بالغرفة ، وقد امرت الممرضات خصيصاً بعدم التخلص منها او العبث بها ، لذا بقيت شامخة بمكانها حتى ذبلت بانتظار زيارتك القادمة"
كانت حدقتيها الزرقاوين ثابتتين بما تفعله يديها وهي تنسق الازهار بالوعاء الممتلئ بالماء وكأنه اكبر مشاكلها وهمومها ، لتقول بعدها بشبه ابتسامة هادئة
"يعجبني حقا إخلاصك بالهدايا التي اقدمها لكِ وحفاظك عليها حتى آخر رمق ، فيبدو بأنكِ تملكين نفس صفاتي بالحفاظ على الاغراض المهمة التي تكون غالية عليكِ"
ابتسمت بهدوء بدون ان تعلق على كلامها ما ان استدارت نحوها وهي تتابع هامسة بنفس الابتسامة
"كيف حال الجنين ؟ هل استقر وضعه ام ما يزال تحت المراقبة ؟ وهل ستمضين بقية حياتكِ بالمشفى ؟"
اخفضت نظراتها بهدوء وهي تريح كفها على بطنها البارزة بوضوح من تحت شرشف السرير ، لتقول بعدها بابتسامة خرجت بجمال رغم التعب الظاهر على ملامحها الشاحبة
"كل شيء بخير ، وقد اخبروني منذ اسبوع بأن وضعه قد بات افضل بكثير ونبضات قلبه وحركاته اصبحت اكثر نشاطا وحيوية ، فقد بدأت اشعر بحركاته بالآونة الاخيرة اكثر قوة عن السابق وكأنه يطالب بالخروج حتى حرمني من النوم بسلام ، واما خروجي من المشفى فلن استطيع الخروج قبل الولادة لكي يكون الوضع آمن لي بحال حدوث مضاعفات بحالتي وخاصة بأن ولادتي لن تكون سهلة بل سأحتاج لعملية جراحية بيوم الولادة ، وهذا كان كلام شادي ايضا فهو يتبع كلام الطبيب الخاص بحالتي"
كانت تحدق بعينين باهتتين وهي تشرد عند مكان كفها المستقرة فوق بطنها البارزة ، لتهمس بعدها بابتسامة مشدودة بلطف
"اتمنى ان تكون ولادتك سهلة عليكِ ، وارجو من الله ان تقومي بالسلامة"
تهللت اساريرها وهي ترفع حدقتيها المغمورتين بسعادة هامسة بامتنان
"شكرا لكِ"
قالت (ميرا) بعدها بحيرة بدون ان تمنع نفسها اكثر
"كنت اريد سؤالكِ عن سبب غيابك الطويل ، فقد كنتِ تزوريني كل يومين بالأسبوع على الاقل ، او كانت ثلاث ايام ، المهم بأنك انقطعتِ عني فترة طويلة تقريبا اسبوعين ونصف ! هل هناك ما فعلته قد ضايقك حتى توقفتِ عن زيارتي ؟"
احضرت الكرسي الوحيد بالغرفة وهي تضعه بجانب السرير لتجلس عليه بصمت قبل ان تهمس بخفوت عابس
"بالطبع ليس هذا هو السبب يا بلهاء ! ولماذا اتضايق منكِ بدون سبب ؟ كل ما حدث بأن السيد شقيقك قد حبسني بمنزله طول الاسبوعين الفائتين حتى إشعار آخر ، وقبل يومين قد افرج عني"
اندهشت ملامحها بصدمة وكأنها تستمع لمجنونة تهذي حتى فغرت شفتيها ببلاهة وسقط فكها بصورة فكاهية ، ضيقت بعدها حدقتيها الزرقاوين وهي تسند يديها على ركبتيها قائلة بتوضيح مغتاظ ما ان فسرت صورة ملامحها
"هذا ما حدث معي بالضبط ، ولم اختلق اي شيء من عقلي ، فأنتِ لا تعرفين شقيقك كيف يصبح عندما يفقد عقله ويغضب من شيء ، قد يبدو امامكِ هادئ وبارد الاعصاب ولكنه يخفي اسد كاسر من خلف واجهته ينقض عليكِ بحال حاولتِ التمرد عليه او مخالفة اوامره !"
اغلقت فمها بسرعة وهي تبتلع ريقها بوجل ما ان وصلتها مشاعرها الواضحة ، لتلوح بكفها بطبيعية وهي تهمس بمزاح طريف
"يبدو بأن شقيقي مجنون بكِ"
عقدت حاجبيها بغضب عصف بملامحها وهي تستقيم بمكانها لتكتف ذراعيها فوق صدرها بلحظة هامسة بوجوم
"ليس هناك اي شيء مضحك بالأمر"
تلبكت ملامحها ما ان اخطئت التعبير وهي تهمس من فورها بابتسامة لطيفة بأول ما خطر ببالها
"حمد لله على سلامة الإفراج عنكِ"
نظرت لها بتعبير جامد تكاد تستشعر حرارة شحناتها العالية بالأجواء بينهما ، لتزم شفتيها بعصبية وهي تبحث عن اي شيء يغير مجرى الحديث لتعلق نظراتها على ملابسها السوداء وهي تهمس بتفكير مبتسم
"ما سبب هذه الملابس السوداء ؟ تبدين وكأنكِ بحداد على احدهم ! هل هو احتفال بالتحرر من سجن شادي ؟"
دارت بمقلتيها الزرقاوين بعيدا وهي تهمس بخفوت باهت وكأنه لا يعنيها الامر
"لقد كنت احضر جنازة اليوم ، فقد توفي زوج والدتي قبل يومين"
اتسعت حدقتيها بدهشة وهي تستعيد ما قالته من لحظات وكأنها تحاول الخروج من بلوة لتقود نفسها لبلوة اخرى وتغرق نفسها بغبائها ، لتخفض رأسها بسرعة بحالة حزن تقمصتها سريعا وهي تهمس ببؤس
"لم اكن اعلم بذلك ، اعتذر حقا ، ورحمة الله عليه ، اعذري غبائي فأنا نفسي لم اكن اعلم ما لذي اقوله !"
عادت بالنظر لها ببرود جليدي وهي تهمس بنبرة فاترة
"لا داعي لتمثيل الحزن امامي والتأثر ، فأنا نفسي لا اهتم بما وصل له مصيره ، ولست حزينة سوى على الطريقة الغير عادلة التي مات بها ، وغير هذا ليس بيدي شيء افعله فهذا هو قضاء الله وقدره"
اومأت برأسها بدون اي تعبير وهي تحدق بها عن كثب لبرهة ، لتقول بعدها بابتسامة مكسورة تعايش ألمها
"يبدو بأنه لم يترك لكِ اي ذكرى جميلة تستطيعين الحزن عليه من خلالها والبكاء لفراقه"
ادارت وجهها نحوها وكأنها حفرت بمكان الألم وعرفت ما يوجع قلبها لتهمس بعدها بابتسامة جانبية يشوبها الحزن الآسر
"يمكنكِ القول بأن مرتبته عندي مثل مرتبة والدك بحياتك وطريقة موته حي بقلبك ، ولكن الاختلاف بأن زوج والدتي قد مات على الواقع كذلك ، وكم تمنيت لو يعود للحياة مرة واحدة فقط عندها سوف اتأكد من موته على يدي وللأبد ، وقد استطيع عندها تبريد نار الانتقام بقلبي"
شحبت ملامحها ما ان ادركت بأن كذبتها قد انكشفت امام ذكائها الحاد الذي لا يغفل عن شيء ويجيد اصابة الهدف بنجاح ، لتضم بعدها قبضتيها امام بطنها وهي تهمس لها بابتسامة صادقة
"اعرف بأنكِ لن تفعليها ، فهناك دائما فرق بين الاقوال والافعال ، والقول عندما يقال لا يؤثر كثيرا ولكن الفعل عندما يحدث يؤثر كثيرا ولا تراجع عنه ، ولستِ بكل هذا الضعف حتى تغامري بنفسكِ بهذه الطريقة"
حدقت بها باهتمام وكأنها تحلل تفكيرها بعقلها الآلي وهي تقول بشبح ابتسامة باردة
"من اخبركِ بهذا الكلام ؟ انتِ بالكاد تعرفيني !"
ردت عليها ببساطة بابتسامة رقيقة
"ضميرك اخبرني بذلك"
تجمدت ملامحها لوهلة وكأنها اصابت شيء ميت بداخلها تحرك بأحشائها ، لتهمس بعدها بصوت باهت مجرد من كل انواع الحياة
"وجهة نظر مثيرة للاهتمام"
عقدت حاجبيها ما ان طرأ شيء آخر على تفكيرها ضرب عقلها بلمح البصر لتقول بسرعة بصوت جاد تبدل بنبرتها بخفوت حذر
"صحيح لقد راسلتني من قبل من اجل التكلم عن موضوع ابنة الوزير ، هل تفكرين بفضح اسرارها امام شادي ؟ فقد تأخرنا كثيرا بإخفاء هذا الامر وحان الوقت لكتابة نهايتها وكشف وجهها الحقيقي امام العالم"
رفعت رأسها قليلا وهي تسند اصبعها اسفل ذقنها بتفكير لبرهة ، لتقول بعدها بابتسامة ملتوية بغموض
"اقدر حماسكِ تماما لهذا الامر ، ولهفتك للانتقام منها وهزيمتها ، ولكننا مضطرين للانتظار فترة اطول حتى تستقر الاوضاع اكثر ، يعني بعد ان اطمئن على ولادتك وسلامة الطفل وبعد ان انتهي من مشاكلي الاخرى مع شادي ، ولن استطيع اخذ اي خطوة نحوها حتى انتهي من كل هذه الامور واتفرغ لها جيدا ، لذا اريد منكِ ان تمنحيني وقت اطول وتأخذي الامور بروية حتى نستطيع الخروج من كل هذا بدون اي اضرار او اصابات لكلا الطرفين"
اومأت برأسها بقوة وهي تقول بابتسامة واثقة ظهرت بريقها بعينيها السوداوين واللتين اصبحتا تتشبهان بعينيّ شقيقها عندما يمنحها كامل ثقته
"وانا واثقة بكِ وبالقرارات التي تتخذينها ، وبالوقت الذي تعلنين به عن بداية خطتك سأكون معكِ بكل خطوة وعلى اتم الاستعداد والتأهب"
حركت رأسها بعيدا وهي تنشل نفسها من الغرق بسواد عينيها والتشابه الذي بان بين الشقيقين لأول مرة ، وقد يكون السبب هو الشوق الغادر الذي اصبح يسحبها نحوه عنوة بحبال غير مرئية باتت تقيد قلبها بنيرانه ، لتفيق بعدها على يدها وهي تربت على كفها هامسة بقلق
"ماسة ! ماسة اين شردتِ ؟ هل انتِ بخير ؟"
نظرت لها بسرعة وهي تختلق ابتسامة طفيفة هامسة بخفوت
"اجل انا بخير ، لا داعي للقلق من شيء"
نهضت عن الكرسي بهدوء وهي تمثل رؤيتها للساعة بمعصمها قائلة بعملية جادة
"لقد اخذت الزيارة اكثر من الوقت المحدد لها ، يتوجب عليّ الرحيل الآن قبل ان يلقوا بالقبض عليّ واتهم بجريمة إزعاج المريضة"
ضحكت بصوت مبحوح بتعب وهي تراقبها تستدير بعيدا عنها قبل ان تمسك بذراعها بلمح البصر منعتها من التحرك ، وما ان التفتت نحوها بملامح حائرة حتى قالت من فورها بابتسامة حزينة برجاء وكأنها تطالب بالاهتمام بعد ان قتلتها الوحدة
"اعلم بأنه من الوقاحة طلب هذا منكِ رغم معرفتي بمشاغلك ومشاكلك الكثيرة ، ولكني وحيدة بهذا المكان واشعر كثيرا بالاختناق بمفردي بدون اي رفيق او قريب يسأل عني ، لذا هل تستطيعين العودة لزيارتي كما كنتِ تفعلين بالسابق ؟ هل ستعودين لتكرري الزيارة مجددا ؟ سترين بأن هذا تملق وامر مزعج للغاية ولكني احتاج لزياراتك بالفعل فهي تريحني كثيرا وتخفف من وطأة الاجواء التي اعيشها ، واتمنى حقا ان تتفهمي موقفي والحالة التي امر بها"
اعتلت بسمة طفيفة على محياها وهي ترى نفسها بهذه الفتاة بالرغم من الاختلاف بصراحتها بالكلام والتي لا تملكها ، لتربت بعدها على يدها بحركة عابرة وهي تهمس بخفوت مداري تحاول التعامل بهدوء بقدر المستطاع
"لا بأس يا ميرا ، سأحاول تكرار زيارتك مرة اخرى ولن انقطع عنكِ كما حدث بآخر مرة ، ولن تتوقف الزيارات حتى تنجبي الطفل بصحة وعافية وبدون اي مشاكل ، والآن اعذريني عليّ المغادرة"
سحبت يديها عنها بإحراج تلون بملامحها وكأنها لا تكبرها بأربع سنوات وهي تقارب عمر الخامسة والعشرون ، لتهمس بعدها بامتنان كبير وكأنها وجدتها المنارة الوحيدة بحياتها الكئيبة الظالمة
"شكرا لكِ يا ماسة ، اشكركِ من كل قلبي"
حركت رأسها جانبا وهي تخفي كل تلك الصور عن ذهنها بعواطف حاولت اقصائها بعيدا بزاوية بقلبها المظلم ، وما ان تقدمت خطوتين حتى انفتح الباب فجأة بدون سابق إنذار وظهرت الممرضة من خلفه ، لتركز عينيها نحوها باستغراب لم يدم طويلا ما ان تدخلت الجالسة على السرير قائلة بابتسامة بريئة
"هذه ابنة خالتي التي زارتني قبل اسبوعين ونصف ، وقد جاءت اليوم لتطمئن على حالي بسبب الانقطاع الطويل الذي حدث بيننا بخضم مشاغلها"
اومأت الممرضة برأسها ما ان تعرفت على هويتها فهي الفرد الوحيد الذي يتناوب على زيارة المريضة كل فترة ، نظرت بعدها نحو الجالسة فوق السرير وهي تقول لها بابتسامة مترفعة
"لقد جئت اعلمك فقط بقدوم السيد شادي لرؤيتك وهو في الطريق الآن إليكِ"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بإدراك وهي تبادل النظر مع المصدومة الاخرى التي تشاركها نفس الحالة وقد فهمت مشكلتها ، لتوجه نظرها نحو الممرضة وهي تهمس لها بابتسامة مرتبكة
"لو سمحتِ هلا اخرتي من قدوم شادي ؟ على الاقل حتى تستطيع قريبتي الرحيل بسلام بدون اي مشاكل ، فهو لن يسر ابدا برؤيتها بغرفتي بعد ان شدد الحراسة والاوامر بعدم السماح لأحد بزيارتي"
نقلت الممرضة نظرها بينهما لثواني قبل ان تقول بابتسامة مريبة وكأنها تقتنص الفرص السانحة لها
"حاضر يا سيدة وفاء ، سأحاول بذل كل جهدي"
غادرت بعدها من الغرفة بلمح البصر امام نظراتهما الحائرة بين صدمة واندهاش من انصياع الممرضة لطلبهما بكل بساطة ، لتتحرك بسرعة التي دبت بها الحياة وهي تفتح الخزانة بدون استئذان قائلة بانفعال مرتجف انغرس مخالب بقلبها
"أليس لديكِ عباءة او شيء فضفاض استطيع التنكر به ؟ لن اخرج له هكذا سيكشفني بلا شك وستكون عندها نهايتي الحتمية !"
عبست ملامحها وهي تقول بخفوت مستاء
"لماذا كل هذا الخوف ؟ ألم يرضى عنكِ بعد ان حررك من سجنه ؟ ام فعلتي اشياء اخرى جعلته يغضب منكِ مجددا ؟"
اخرجت عباءة سوداء وهي ترتديها فوق ملابسها بعشوائية قائلة بهدوء
"انها قصة طويلة ، ارويها لكِ بالزيارة القادمة"
رفعت الوشاح الاسود المنسدل على كتفيها وهي تلفه حول وجهها ليشكل نقاب يخفي تفاصيل ملامحها ألا عينيها الحاذقتين الكبيرتين ، لتجري بعدها جهة الباب المفتوح وهي تقول بآخر كلام بعجلة
"سوف اعيد لكِ العباءة بالزيارة القادمة ، وإياكِ وان تخبريه شيء عن هذه الزيارة وألا قتلتكِ وقطعت لحمك لأشلاء واطعمته للكلاب الضالة"
انفرجت شفتيها بارتياع وهي تشاهد التي رحلت بعيدا هامسة من خلفها بلوعة
"ما هذا الذي قالته الآن ؟"
كانت (ماسة) قد وصلت للرواق الطويل وهي تخفف من سرعة خطواتها ما ان لمحته يقف مع الممرضة التي كانت تحاول إلهائه بموضوع يبدو اثار اهتمامه ، لتشدد بعدها بيدها على طرف الوشاح المتدلي على كتفها وهي تهمس بغيظ
"تلك المحتالة ، لقد تعمدت ذلك !"
تبعثرت خطواتها بخوف ما ان وصلت عينيه السوداوين نحوها وكأنها سهام قاتلة تخترق الستار الاسود وصولا لعينيها الشاخصتين بزرقة سماوية ، لتشيح بوجهها غصبا بعيدا عنه وهي تأخذ انفاس قوية تسرع بطريقها نحو هدفها المنشود ، وما ان وصلت عند بداية السلالم حتى حانت منها التفاتة صغيرة لتلتقط عينيه مجددا واللتين على ما يبدو لم تتركاها طول الطريق بإصرار غريب بملاحقتها والتي تكاد توديها قتيلا ، وليس خوف من انكشاف هويتها بل بسبب نظراته الصريحة والتي توجه لامرأة غريبة لا يعرفها وتخصها وحدها ! فكيف يتجرأ على ان يكون بكل هذه الاريحية بتلك النظرات التي تملكها وحدها وليس احد آخر ؟!
نفضت الافكار من رأسها بالوقت الحالي وهي تكمل نزول السلم متجاهلة نظراته التي ستكون معلقة بأثرها وهي تتمتم باشتعال حانق تكاد الغيرة تقتلها حية
"ما بال ذاك العابث ؟ يا له من زير نساء !"
وقفت امام مدخل المشفى بعد ان اصبحت بالمنطقة الآمنة وزال الخطر عنها ، لتنزع الوشاح من حول وجهها ببطء وهي تنزله لكتفيها لينسدل على جانبيها ، رفعت بعدها رأسها لبناء المشفى الفخم والهواء يطير خصلات غرتها المبعثرة من الوشاح وهي تهمس بابتسامة ماكرة باستعداد للقادم
"وداعا يا شادي الفكهاني ، لنا لقاء قريب بلا شك ، وحتى ذلك الحين عليكِ بانتظاري يا صاحب النظرات العابثة"
_______________________________
كانت عينيه الحادتين عالقتين بمكان اختفائها مثل الشبح الاسود بالنهار حتى نسي الواقفة امامه وثرثرتها والوقت والمكان ، ليفيق بعدها على صوتها اعادته لعالمها وهي تقول بصوت اعلى علها تخترق حالة شروده
"سيد شادي ! هل تسمعني ؟ سيد شادي......"
ادار وجهه نحوها وهو يحدق بها بجمود وسرعان ما اعتلى العبوس محياه وهو يقول بجفاء
"نعم ! ماذا كنتِ تريدين ؟"
امتعضت ملامحها بدون ان تظهر ذلك خلف قناع الرقة وهي تلوح بيدها هامسة بنبرة ناعمة من يستدرج فريسته
"يبدو بأنك لم تسمع اي كلمة مما قلت ، فقد كنت تبدو شارد بعالم آخر"
اومأ (شادي) برأسه بعيدا وهو يشرد بنفس المكان قبل ان يغمغم بوجوم
"هذا هو الظاهر"
تصلبت بمكانها وهي تقول تحاول لفت انتباهه عندها
"حسنا بما انك لم تسمع كلامي ، فلا مانع عندي من الإعادة عليك"
نظر لها بعينين ضجرتين وهو يتمتم بهدوء متململ
"اسمعي ايتها الممرضة الفاضلة ، انا حقا لا اهتم بكل ما تريدين قوله ، لقد توقفت للاستماع إليكِ استجابة لرغبتك لكي لا اكون فظا معك ، وقد توقعت ان يكون الامر هام ويخص حالة وفاء ، ولكن بما انه لا يخصها بشيء فأنا لا اهتم بالاستماع اكثر !"
حركت رأسها بالنفي وهي تمسك بذراعه بسرعة قائلة بابتسامة لطيفة بتصنع
"كلا يا سيد شادي ، الموضوع مهم جدا كما اخبرتك ، فقد كنت اتكلم عن منتجع سياحي معروف سوف يساعد وفاء كثيرا بحالتها من اجل ان ترفه عن نفسها وترتاح قليلا من الضغوطات وعلاج جيد للروح وللجنين ، يعني ليس كلام خارج موضوع المريضة......"
قاطعها بجفاء اكبر وهو يسحب ذراعه بعيدا بعد ان اكتفى من العبث
"يكفي كلام بهذا الموضوع يا ممرضة ، فلست انتِ التي تقررين حالة المريضة باستخدامها دعاية للمنتجع والذي لن يفيدها بشيء ، وكلامي فقط مع الطبيب الخاص بها والإجراءات التي يتخذها بخصوصها ، لذا رجاءً لا تتدخلي بمسألة وفاء مجددا واخرجيها من حساباتك ، والآن عليّ الذهاب فقد تأخرت بالوقوف هنا"
تحرك بعدها من امام عينيها المشدوهتين مثل قطة جائعة ضيعت عليها وجبة دسمة ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بغيظ وهي تهمس بتشدق
"ليست دعاية لها بل دعاية لك يا ساذج ، لم ارى بحياتي رجل بطيء الاستيعاب مثله !"
وصل امام باب الغرفة وهو يطرق عليه بهدوء قبل ان يفتح الباب بدون انتظار الإذن ، وما ان ظهرت امامه الجالسة فوق السرير حتى قال بصوت خفيض خشن
"السلام عليكم....."
تجمد بمكانه وهو يلاحظ شحوب ملامحها وانشداد اصابعها على ملاءة السرير وكأنها رأت شبح الموت للتو كما هو رأى شبح بالخارج متجسد بشكل زوجته مغطى بالسواد حتى اصبح يتخيلها بكل النساء ، قال بعدها بجمود وهو يضيق عينيه بتجهم
"ماذا هناك ؟ هل رأيتِ شبح امامك ؟"
ابتلعت ريقها بوجل وهي تدير وجهها بعيدا هامسة بخفوت مشتد
"كلا فقط تفاجأت من زيارتك الغير متوقعة ، فأنا لم ارك منذ مدة طويلة تقوم بزيارتي"
تقدم عدة خطوات وهو يوزع نظراته بأنحاء الغرفة قائلا بعدم اهتمام
"ولماذا كل هذه الدهشة من زيارتي لكِ ؟ فليس هناك احد آخر يزورك غيري ، وعلى كل حال كل زياراتي لكِ ستكون متقطعة يعني توقعي بأي وقت مجيئي"
زمت شفتيها بارتباك غزى محياها وهي تهمس بشبه ابتسامة
"اجل انت على حق ، افعل ما تراه مناسبا لك"
ادار وجهه نحوها وهو يقول بابتسامة هادئة يشوبها بعض اللطف
"كيف حالكِ انتِ ؟ هل كل شيء بخير عندك ؟ هل هناك شيء ينقصك ؟ هل يعاملك الممرضين بشكل جيد ؟"
اومأت (ميرا) برأسها بتأكيد وهي تقول بابتسامة متسعة بسعادة
"كل شيء على افضل ما يرام ، وشكرا لك على اهتمامك حقا ، ولكن كل اموري بخير والحمد لله لا شيء ينقصني"
اومأ برأسه وهو ينحرف بنظراته لبطنها البارزة التي تنمو يوم بعد يوم وكأنها حقيقة تكبر امامه ، ليقول بعدها بعطف تغلب على ملامحه
"وكيف حال ابنك صالح ؟ هل ما يزال يتعبك ؟"
اسرت ملامحها بغمامة حنين وهي تمسح على بطنها بكفيها هامسة بابتسامة صافية
"بخير وصحته جيدة جدا ، وتعبه بالنسبة لي راحة ، فأنا لا اطيق صبرا حتى اراه حقيقة امامي اضمه بين ذراعي"
تشنجت خطوط ابتسامته وهو يقول بهدوء جاد
"عليكِ بالانتباه على صحتك جيدا ، فقد بدأت ايامك بالتقلص ونجاح عملية الولادة يعتمد على إرادتك وقوتك ، لذا حافظي على كامل طاقتك جيدا حتى يحين ذلك اليوم"
اسدلت نصف جفنيها فوق عينيها وهي تشرد بحركات كفيها على بطنها هامسة بكل قوة تملكها
"سأفعل كل شيء مطلوب مني ، ولا تقلق بشأني ، فأنا وابني سنخرج من كل هذا ونتجاوزه سالمين وبأفضل صحة"
حرك عينيه بعيدا وهو يقول بابتسامة جانبية ببهوت
"ادعو من الله ان يحدث ذلك ، فلن نتحمل المزيد من الخسائر"
رفعت عينيها وهي على وشك قول شيء لولا الذي تغيرت ملامحه بشكل مفاجئ وهو يصوب نظره بعيدا عنها باهتمام ، وبلحظة كان يتقدم نحوها ونظره مسلط على المنضدة بجانبها وهي تلتفت كذلك مع مسار طريقه ، وما ان وصل امام الوعاء الممتلئ بالزهور البيضاء التي قامت بتنسيقها من لحظات حتى اتسعت حدقتيها بخوف وهي تسمعه يقول باهتمام واضح
"هل هذه الازهار جديدة ؟"
ردت عليه (ميرا) بسرعة وهي تبتسم باهتزاز
"اجل فقد تخلصت من الازهار القديمة بعد ذبولها وتيبس سيقانها ، وطلبت من الممرضة احضار ازهار ياسمين جديدة لتضعها بوعاء الماء الممتلئ بغرفتي ، هل اعجبتك ؟"
تنفست بإجهاد بعد الموشح الذي استغرق منها نصف طاقتها المهدورة بسبب الخوف الذي دفعها للتفكير بسرعة ، ليقول بعدها بهدوء وهو يتلمس بأصابعه بتلات الازهار بدون ان ينتبه لتلبكها بالكلام
"لا بأس بها وتناسب اجواء غرفة المريض ، ولكني قد لاحظت بأنكِ دائما ما تحضرين نفس نوع الازهار البيضاء ، هل تتقيدين بهذا النوع واللون فقط لأنه يليق بغرفتك ويبعث السلام والاسترخاء بالروح ؟"
ارتفع حاجبيها ببطء تدريجي وهي تكتشف لأول مرة سبب اصرار زائرتها الوحيدة على احضار نفس نوع ولون الازهار بكل مرة تطل عليها بالزيارة ! ولم يكن اختيار عشوائي كما ظنت سابقا فقد كانت تعلم جيدا كيف تختار هديتها وغرضها وتوصله للشخص المقصود بطريقة ناجحة غير مباشرة ، تلك الفتاة تملك صفات وحسنات غير ظاهرة للآخرين ولكن من يعرفها عن كثب وتعايش معها يستطيع اكتشاف جوانبها وفهمها جيدا ، فهي عندما تهتم وتقدم على شيء ترغب به تبذل اقصى ما بوسعها من اجله وباهتمام غير ظاهري تخرجها بصورة اخرى معاكسة عن نفسها وعن طبيعة شخصيتها التي يعرفها الكثيرين عنها واصدروا احكامهم عليها .
عضت على طرف ابتسامتها بإدراك متأخر وهي تتمتم مع نفسها بلطافة
"ذات ضمير حي"
نظرت بسرعة ناحية شقيقها والذي كان ينظر لها هذه المرة بملامح حائرة ، ليكتف بعدها ذراعيه فوق صدره وهو يقول باقتضاب
"ما بكِ اليوم ؟ تتصرفين بغرابة منذ قدومي ! هل هناك ما يزعجك تريدين قوله لي ؟"
فغرت شفتيها بأنفاس مضطربة وهي تحرك رأسها بالنفي بآن واحد ، لتهمس بعدها بابتسامة هادئة تعود للموضوع السابق
"كلا ليس هناك شيء يشغل بالي ، فقط كنت اقول بأنك قد كشفتني بنوع الازهار الذي احبه ، فأنت تملك نظرة خبيرة وقد حللت الموقف بمنتهى المهارة"
عقد حاجبيه بجمود لبرهة بدون ان يلين وهو يخفض ذراعيه قبل ان يقول بهدوء عملي وهو يعود لشخصيته الباردة
"أياً يكن انا ذاهب لرؤية طبيبك والتكلم معه ، لذا سأترككِ الآن لتأخذي قسط من الراحة ، لن اتأخر عليكِ"
هتفت بسرعة من خلفه وهي تراه يستدير بعيدا عنها
"شكرا لك يا شادي"
التفت بنصف وجهه وهو يبتسم لها بالتواء طفيف كانت كافية لها ، قبل ان يغادر خارج الغرفة بهدوء وهو يغلق الباب من خلفه برفق ، لتتنهد بعدها براحة وهي تتكأ بظهرها للخلف ويديها مضمومتين امام بطنها هامسة بابتسامة مشبعة بالتفاؤل
"الله يريح بالك ويسر حالك يا اخي ، وكما انت الملجئ لي اتمنى ان تكون زوجتك الملجئ لك ، وانا وابني صالح سندعو لكما دائما بالخير والسعادة"
___________________________
بعد مرور شهر.....
كانت تكتب على الدفتر امامها وهي تحذف كل خيار انتهت منه بل بالأحرى فشلت به بالقائمة التي ملئت طول الورقة ، والآن يتوجب عليها كتابة قائمة جديدة بالخيارات البديلة التي تسمح لها بالحصول على وظيفة وحتى لو كانت ساعية بريد ، فقد يأست من الانتظار حتى يعاد عقد الاختبار الثاني للحصول على الشهادة وليس لديها خيار سوى العمل بأي مجال علها تفيد نفسها به وتساعد بجلب احتياجاتها ومستلزماتها الحياتية ، فلن تقدر اكثر على الاعتماد على مصروف شقيقتها من راتب العمل وخاصة بعد ان صرفت كل مخزونها الاحتياطي الذي جمعته طول تلك السنوات السابقة ، وإذا لم تجد عمل قريب فلن يبقى لديها خيار سوى استلام اعمال المنزل الروتينية من طبخ وتنظيف وتعزيل علها تعوض عن المال الذي تصرفه من راتب شقيقتها ويكون لوجودها معنى وفائدة .
تأففت بضيق وهي تشدد على القلم بشطب الخيار المدون حتى حفرت بالورقة ، لتقاطع افكارها صوت شقيقتها وهي تحمل الصينية بين يديها وتوزع الصحون على الطاولة المستديرة بالمطبخ
"هيا ضعي الدفتر والقلم جانبا فقد حان موعد تناول الفطور ، ولا احب رؤيتك تعملين او تنشغلين بوقت الطعام ، من يراكِ وانتِ تكتبين بجد هكذا يظن بأنكِ تستعدين لخوض اختبار الثانوية العامة !"
اسندت ذقنها فوق قبضتها وهي تهمس بعبوس بائس والقلم ما يزال يخترش على الورقة
"لو كنت استعد لخوض اختبار الثانوية لكان اسهل لي من البحث عن وظيفة كل ما تطلبه هي الشهادة والواسطة ، وانا لا املك اي منهما يعني نهايتي ان ارسب بالاختبار مئات المرات واصف مع العاطلين والذين يصنفون عالة على المجتمع"
رسمت ابتسامة هادئة على محياها وهي تستمر بترتيب المائدة هامسة باتزان
"هذا الكلام يخرج من نابغة الدفعة والتي حصلت على المراتب الأولى بكل مراحلها الدراسية وعلى مستوى المدارس بلا منازع ! ماذا تركتي للجاهلين والاميين والذين لا يستطيعون اجتياز اختبارات الصفوف الابتدائية لذا يذهبون لكسب صنعة حرفية او العمل بعمر مبكر ؟ عليكِ ان تكوني فخورة بنفسكِ اكثر فأنتِ بحد ذاتك معجزة كونية حققت المستحيلات بين ظروف وبيئة لم يمر احد مثلك بها ولم تدرعك يوما عن اهدافك ! وانا فخورة بكِ جدا يا عزيزتي"
تلبدت ملامحها وهي ترفع رأسها بعيدا عن قبضتها هامسة باستياء مثقل وكأنها فاقدة للأمل والشغف
"حتى هؤلاء الناس يحالفهم الحظ افضل مني ، فإذا لم ينجحوا باختباراتهم المدرسية وفشلوا بها يحصلون على واسطة تكسبهم وظائف لم يحلموا بها بحياتهم ولم يبذلوا مجهود لها ، والخاسرين هنا هم الذين يدرسون ليل نهار ويتعبون على انفسهم وبالنهاية لا احد يعترف بوجودهم وبأعمالهم ودرجاتهم بالمدرسة إذا لم تكن هناك النفوذ والاموال والتي تسمح لهم بفتح كل تلك الآفاق بشراء كل شيء وحتى البشر بمكانتهم وبثرواتهم ، وهذا ما يثبت عدم الإنصاف والعدل بين الفقير والغني والامتيازات التي تنحاز للغني دائما !"
تنهدت بهدوء وهي تستقيم بمكانها بلحظة لتقول بعدها بجدية تنهي ذاك الجدال
"لا تفكري كثيرا بكل هذه الامور ما دمت اعمل هنا وراتبي يوفر لنا كل الاحتياجات والنواقص ، واما بخصوص حصولك على وظيفة لن تتقدمي خطوة قبل ان تجتازي اختبار الشهادة بالدورة القادمة ، هذا هو الحل الوحيد المتبقي لكِ بعد ان حاولتِ كثيرا بالتقدم للوظائف الشاغرة والمتاحة بدون اي جدوى"
اخفضت رأسها وهي تحرك القلم بحدة فوق الورقة هامسة بضيق مكبوت
"يا لي من عديمة جدوى ونفع"
سحبت الدفتر من تحت القلم بهدوء وهو ما دفعها لترفع وجهها العابس نحوها وهي تقول لها بحزم صارم
"اتركي الكتابة والتفكير عنكِ قليلا ، فقد حان الآن وقت الطعام ولن اعيد كلامي مرتين"
تنفست بكبت وهي تلقي القلم بعيدا لتلوح بكفها الفارغة هامسة بتملق
"ها قد تركت القلم ، هل ارتحتِ الآن يا سيدة متزمتة ؟"
حركت رأسها بيأس وهي تمسك القلم الملقى لتضعه فوق الدفتر على زاوية المائدة ، جلست بعدها على الكرسي المقابل لها وهي تسكب من عصير البرتقال بكأسها هامسة بهدوء جاد وكأنها تتكلم عن امر بديهي
"اليوم هو موعد الجلسة بمحكمة العاصمة"
تجمدت ملامحها ببهوت وهي تنظر لها بعينين قاتمتين تعلوهما سحابات غير مرئية ، لتمسك بعدها بالشوكة وهي تغرزها بقطعة جبنة بلدية قائلة ببرود تشاركها نفس الاجواء الثلجية
"بهذه السرعة ! لم اتوقع ان يكون هذا اليوم قريب هكذا ، يبدو بأنني انا التي فقدت الشعور بمرور الوقت"
دارت بأصبعها على اطراف الكأس وهي تقول بابتسامة هادئة لا تظهر مكنوناتها
"بل الامر قد استغرق وقتا طويلا واخذ اكثر مما يستحق ، فقد كنت اظن بأنه بحال انتهائي من كامل الاجراءات برفع دعوى الطلاق لن تأخذ الكثير من الوقت حتى يصدر امر الاستدعاء من المحكمة ولن انتظر شهر كامل حتى تعقد الجلسة الأولى ، ولكن على كل حال فقد حان وقت حصد النتائج وقطف ثمار الصبر ، فقد صبرت وانتظرت وتحملت كثيرا من اجل قدوم هذه اللحظة التي اعلن بها انتصاري على نفسي"
عقدت حاجبيها السوداوين وهي ترفع الجبنة امام فمها هامسة بوجوم غير معبر
"هل هذا يحدث حقا ؟ لازلت لا استطيع التصديق !"
شددت يديها حول الكأس وهي ترفع ذقنها بإيباء قائلة بابتسامة واثقة بإرادة قوية
"بل عليكِ التصديق والتصالح مع واقعنا فهذا ما سيحدث اليوم او بعد غد ، وعندما تصدقيها اسرع يكون افضل لنا ، فقد جهزت كل شيء يضمن نجاح قضيتي وحصولي على طلاقي الفوري بأول جلسة ، وخاصة بأن المحامي الذي وكلته لهذه المهمة هو من افضل المحامين بالبلد خبرة وعمل بهذا المجال والذي لن يتوانى بسبيل ان نكسب بهذه القضية"
اومأت (ماسة) برأسها بعدم اهتمام وهي تدس الجبنة بفمها قبل ان تتمتم بلا مبالاة
"إذاً بالتوفيق بالفوز بهذه القضية"
رفعت الكأس وهي تشرب منها على مهل جرعة صغيرة قبل ان تخفضها قليلا قائلة بحزم
"ولن انسى ايضا بأنكِ ستذهبين معي للمحكمة"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين وهي تخفض الشوكة لطرف شفتيها هامسة ببلاهة
"ماذا ؟ تريدين مني الذهاب معكِ !"
اومأت برأسها بثقة وهي تضع الكأس فوق سطح الطاولة قائلة بأمر حاسم
"اجل سوف تذهبين معي وهذا امر لا مزاح او نقاش به ، سمعتني !"
حركت رأسها بتشتت وهي تلوح بالشوكة بينها وبين الجانب الآخر قائلة باستنكار عابس
"وما فائدة ذهابي هناك ؟ بل ما شغلي بتلك الاماكن ؟ هل تريدين مني ان اعطيكِ التشجيع اللازم على الاستمرار للأمام بالفوز بالقضية ؟ ام تريدين مني ان اصفق لكما وافرح على انفصالكما التاريخي والذي سينتشر بالصحف والجرائد !....."
قاطعتها بضربة على الطاولة كانت كافية لتجمد حركات الجالسة امامها وتخمدها تماما لتقول لها بإشارة من سبابتها قائلة بعزم
"قولي سخافة اخرى امامي ولن اسامحك بعدها ، هل جننتِ يا ماسة ؟ إذا لم تحضري جلسة المحكمة معي فمن سيفعل ؟ انتِ الفرد الوحيد من عائلتي الذي يستطيع ان يقف بجانبي بهذه الظروف والاوقات ! حتى لو كان وجودكِ لا فائدة له ولن يساعد بالقضية ولكن وجودك هناك سوف يدعمني ويريحني كثيرا ! لماذا كل هذا الرفض والتمنع بالحضور ؟ هل لهذه الدرجة لا ترغبين بالوقوف معي وتستكثرين عليّ اظهار بعض الدعم العاطفي ؟"
تشنجت تقاسيمها وهي تشيح بوجهها جانبا هامسة بانفعال مكبوت
"انتِ لا تفهمين مقصدي ، فأنا لا اريد حقا هذا المصير لكِ ، ولا ارغب برؤيته وان اكون شاهدة عليه ! ألا تشعرين بكم الثقل والحِمل الذي تضعينه فوق كاهلي ؟"
لانت ملامحها بحنان تدفق بحنايا قلبها وهي تهمس بابتسامة حزينة بمرارة
"هذا هو واقع الحياة يا عزيزتي ، وهروبكِ منه وإدارة ظهركِ له لن يغير شيء مما هو مكتوب لي واخترته بنفسي فقد وصلت الحد الاخير من الاحتمال ، لذا كل ما تستطيعين تقديمه لي هو دعمي ومعاونتي بهذه الطريق لآخر لحظة وليس الوقوف بوجهي وتركي بالمنتصف بتفكيرك الساذج بأن كل الامور سوف تنحل بابتعادك عنها !"
رمقتها بطرف حدقتيها الزرقاوين بأمواج كسيرة بانت على محياها وبرغبة خفية بإيقاف كل ذلك وعدم السماح لشقيقتها التي ضحت بالكثير من اجلها على مدار سنوات بتدمير نفسها بهذه الطريقة ، لتخفض بعدها نظراتها بضعف وهي تشرد بالشوكة التي كانت تحركها فوق الطبق هامسة ببساطة بآخر بذرة امل
"وايضا لدي اعمال اخرى عليّ القيام بها اليوم ، ولن استطيع التفرغ لشيء آخر......"
قاطعتها (روميساء) بصوت صارم مخيف عندما يصل الامر لاستخدام الطاعة القسرية
"سوف تذهبين معي يا ماسة برغبتك او بدونها ، وهذا سيحدث شئت ام ابيت ، هل كلامي مفهوم ؟"
حدقت بها بعبوس مستهجن تتحداها بسباق النظرات بينهما والذي اعلنت هزيمتها سريعا وكأنها تفرض سيطرتها عليها بطريقة غير مباشرة ، لتزفر انفاسها بإحباط وهي تلقي الشوكة جانبا لترفع يديها بوضع المتهم قائلة باستسلام
"حاضر يا سيدتي القائدة ، انا استسلم وانتِ تفوزين ، هل انتِ راضية بهذه النتيجة ؟"
اومأت برأسها برضا وهي تمسك بشوكتها لتغرزها بحبة زيتون سوداء بطبقها قائلة بانتصار وكأنها ربحت الرهان
"جيد هذا افضل"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تنهض من فورها عن الطاولة لتقول بلحظة بقنوط ساخر
"انا ذاهبة للاستعداد وتجهيز نفسي لحضور طلاق شقيقتي ، يا لها من مناسبة مهمة تستحق الحضور ومع شراء كعكة كبيرة مكتوب عليها طلاق روميساء ! أليست فكرة مبتكرة ؟"
نظرت لها ببرود صامت بعد ان تلاعبت بعواطفها بمهارة وبدون ان تستجيب لمزاحها ، لتأخذ بعدها دفترها والقلم من جهتها وهي تسحب نفسها خارج المطبخ ، لتترك الجالسة على المائدة وحدها وهي تتلاعب بالطعام بعدم شهية هامسة بهدوء عميق تردد صداه بقلبها المفطور
"لقد بدأ العد التنازلي ، ونهاية هذه الحكاية على وشك الانغلاق والرحيل بسلام"
_______________________________
قاعة ضخمة تتسع لألف مواطن بها صفوف من المقاعد الامامية هدفها المشاهدة والمرافعة عن المتهم او الدفاع عنه والتصويت له من اقارب ومعارف اطراف القضية ، وهناك منصتين يحدد كل منهما الألواح الخشبية من الجوانب مقابل بعضهما البعض على مسافة امتار جهزتا للشهود وللأطراف الاساسية بالقضية والهدف منها هي اخراج المتهم من البريء والمطالبة بالحقوق والادلاء بالحقائق ، والمنصة الاعلى بالمنتصف جهزت للقاضي العادل الذي ينصف ويعدل بين كل عدو وحليف وبين كل ظالم ومظلوم وبين كل شرير ومسالم بقانون الدستور وبالشريعة الاسلامية التي تعلو الجميع وتجاهر بالخير وبالحق وتنفي المعصية والباطل .
كانت هذه المشاعر التي تخالجها وهي تلوج لقاعة المحكمة برفقة شقيقتها بلباس الحداد الاسود اللتان تتشحان به بنات الفاروق بكل قوة وشموخ ما تزالان تعتزان به ، لتقف بعدها حذوها ما ان استقامت بمكانها بصلابة وتعلم جيدا بدون النظر بعيدا هوية الذي تقابلت معه وخاصة مع رجفة يديها المقبوضتين على جانبيها بتعرق ، واما هي فقد طار نظرها بعيدا بلمح البصر مثل الصنارة التي تلتقط الطعم اثارتها بغريزتها الداخلية وبقلبها الذي تمرد على حواجزه المنيعة وحلق ، لقد كان جالس بين صفوف المشاهدين يسند يديه على ركبتيه وعينيه عليها دون عن كل الناس وكأن القاعة قد فرغت ألا منهما فقط تحاكت العيون وتقابلت واختلطت بالعتاب والحزن والاشتياق بعد ان فرضت عليهما الغياب قسراً ورحلت .
كانت (روميساء) تتنفس بتخبط بعد ان لعب بوتيرة اعصابها بمنتهى المهارة فقط بالنظر لعينيه الرماديتين واللتين تحملان عواصف تحت سحابة دخان اقتحمت الاجواء بينهما وكأنها ليست نفسها التي دخلت للمحكمة بكل عزيمة وقوة تبخرت بالأرجاء وسرقها منها ، لتبتلع بعدها ريقها بصلابة وهي تشيح بنظراتها قسرا تكاد تستشعر الحزن والاسى والخيبة تصلان لها عبر ذبذبات نظراته وتزهقان نبضات قلبها وكأن هذه الخطوة التي اقدمت عليها برفع الدعوى كانت الفيصل بين علاقتهما .
افاقت بعدها على صوت المحامي وهو يفرد ذراعه جهة المنصة الخاصة بها قائلا باحترام
"تفضلي يا سيدة روميساء اعتلي مكانكِ ، ولا تخشي من شيء فأنتِ من سيربح بهذه القضية"
اومأت برأسها بخواء وهي تكمل مسيرتها بعد ان عبثوا بروحها الجامحة واتعبوا خفقاتها ، بينما كانت (ماسة) تعض على طرف شفتيها بغيظ وهي تخفض نظرها هامسة باستياء حانق
"ما لذي احضره للمحكمة اليوم ؟ يا لحظي العاثر"
ارتفع رأسها بسرعة ما ان قالت الاخرى وهي تعتلي مكانها بالمنصة
"اذهبي واجلسي بصفوف المقاعد ، لا تبقي واقفة هنا ، ولا تتحركي ألا بعد انتهاء الجلسة"
اومأت برأسها بتململ وهي تتحرك اتجاه صفوف المقاعد بخطوات ثابتة بدون ان تلقي نظرة على الجهة الاخرى من الصفوف ، لتستقر بعدها جالسة فوق المقعد المحاذي للجدار وهي تضع حقيبتها فوق ساقيها وتضم ذراعيها عليها بصمت خاوي مثل فراغ المقاعد من حولها وكأنها طفلة معاقبة حجزوها بزاوية بعيدة .
طرق القاضي على سطح الطاولة يلفت الانتباه ويعم الصمت بأرجاء القاعة ، ليباشر بعدها بالحديث امام الميكرفون الخاص به بصوت جهوري مهيب اثار القشعريرة بالنفوس واصمت الاصوات
"اهلا وسهلا بالحضور والسادة الكرام ، اليوم سوف نناقش قضية دعوى الطلاق التي رفعتها الزوجة ضد زوجها وبناء على ذلك كتبت وثيقة تطلب بها عقد هذه الجلسة وارسال نسخة منها للزوج ، والسبب هي الاضرار النفسية والمعنوية التي عادت عليها من هذا الزواج ، وتحت هذه الظروف وبموجب القانون الدولي سنمشي بإجراءات وخطوات هذه الجلسة ، وكما يقول كلام الرسول إمساك بمعروف او تسريح بإحسان ، والآن يمكنكم المباشرة برفع الدعوى"
تصلبت ملامحها بصفحة جليد قست على مشاعرها خلف واجهتها السميكة واصمت سماع اصوات قلبها الحصين بضلوعها ، لتلمح بعدها إشارة المحامي وهو يعطيها إشارة البدء لتضم قبضتيها بقرب الميكروفون الصغير الخاص بها ، لتأخذ لحظات استعداد وتأهب قبل ان تقول بنبرة طبيعية تردد صوتها بأرجاء القاعة وركزت نظرها على محور موضوعها لكي لا تفقد باقي عزيمتها
"انا اسمي روميساء ايمن الفاروق ، واتيت للمحكمة بعد ان قمت برفع دعوى طلاق على زوجي احمد محراب الفكهاني ، واطالب من سيادتكم تحقيق رغبتي بالطلاق من زوجي وحفظ حقوقي كاملة ، وهذا بعد كل الاذى المعنوي والنفسي والذي تعرضت له طول فترة الزواج والذي كان خطأ حياتي وقرار متسرع طائش ، وما يخفى عن هذا الزواج اكثر من ان استطيع التصريح به بجلسة واحدة ، دفعتني بالنهاية لأقدم على هذه الخطوة وانهي كل هذا بحل سيريح كلينا ، فهذا الزواج لم يعد له اي مستقبل بالنسبة لي ، لذا اطلب منكم اعطائي حقوقي وإتمام اجراءات طلاقي واي نفقات اخرى خارج القضية يمكنني دفعها ، وشكر خاص لكم على حسن الاستماع"
تنفست بهدوء بعد ان انهت حوارها الخاص والذي اخذ كل الهواء برئتيها واستنزف قوتها المعنوية ليخرج بكل هذا الاتزان والانضباط ، وبالرغم من انها كثيرا ما كانت تقول مثل هذه الخطابات الطويلة بإذاعة المدرسة وامام كامل الفصل وامام مجلس إدارة المدرسة ، ولكن لم يكن اي منها يخص حياتها بشكل خاص ويقرر مصيرها الذي لا رجعة عنه ليكون خطابها خارج من صميم الوجع والمعاناة وليس بسبيل العمل وحصد المال .
رفعت عينيها الخضراوين بأوراق جفت جذورهما وظهر الجفاف والتيبس واضح عليهما وهي تسمح لنفسها بالنظر لردة فعل المقابل لها والتي لم تتركها نظراته طول خطابها ، ارتجفت ملامحها بشحوب لحظي وهي ترى الخذلان واللوم واضح بأبهى صوره وهو يجسده بعينيه وتعابير وجهه تستطيع لمسه وقراءته وهو يكونها بمعنى واحد وهو (لقد خنتني واسقيتني من مرارتك مجددا) .
ارخت نصف جفنيها على احداقها تخفي كل تلك الصور عنها بدماء قلبها النازف وتزيد من شد قبضتيها حتى كادت تمزق باطنهما وهو يحملها اللوم من جديد ، ولكن أليس هو البادئ ؟ أليس هو من جعل حياتهما جحيما بقهر عزيمتها اكثر من مرة وخذلانها مئات المرات وطعنها بسكين الثقة التي لم تعد لها محل بينهما ؟!
اخترق غلافها الضبابي صوت القاضي وهو يقول بهدوء جاد بصوت ملئ فراغ القاعة
"هل لديكِ ابناء ؟"
رفعت رأسها بسرعة بغريزة اخترقت احشائها برمح طائر انقض عليها مثل فك القرش ، ولم تشعر بعدها ألا بيدها وهي تتحسس برحمها الفارغ بحسرة غمرت ملامحها وكيانها بشعور الموج الذي غطى على جروحها وفتحها من جديد ، ألا يكفي بأنها قد انتهت من تلك القصة بأعجوبة والتي مضت عليها شهر فتحت عليها الكثير من الندوب والحروق حال معرفتها بقصة موت طفلها الحقيقية ؟ والآن ها قد طرح ذاك السؤال الروتيني الخاص بحياتها المدمرة والذي سماعه يؤلمها اكثر من اجابته !
حانت منها التفاتة لا إرادية نحو زوجها من الطرف الآخر والذي تضعه بموضع المتهم بموت طفلها بسبب ضرتها التي كانت زوجته بالسابق ، بينما كان يقابلها بنظرات محت القسوة عنه ورقت من اجلها وكأنه يتغلغل بأعماقها ويفهم عطبها والذي تعايشه معها بنفس القدر ، لتخفض بعدها يدها بعيدا والتي هبطت على جانبها بخواء وهي تقول بخفوت مرير حجرت مشاعرها الداخلية
"لا ليس لدي اي ابناء بالوقت الحالي ، ولكني فيما مضى كنت حامل بطفل ولم ارزق به لأنه مات بعد الشهر الأول بداخلي"
اعادت رأسها امامها وهي تشرد بالفراغ بدون معنى بعد ان اسهبت بالحديث عن حياتها حتى اصبحت مكشوفة للعلن بدون اي ستائر ، تدخل بعدها (احمد) بالحديث لأول مرة وهو يقول بصلابة يحسد عليها
"انا اسمي احمد محراب الفكهاني ، واطالب سيادة المحكمة بإعطاء الزوجين فرصة للتفاهم بين بعضهما على انفراد ، وتأجيل الجلسة لوقت آخر ، والآن اسمحوا لي بأخذ زوجتي معي"
توجهت جميع الانظار ناحية صاحب الكلام وهو يفرض على المحكمات طلباته خارج شروط القضية ومضمونها ، وقبل ان ينطق اي منهم بكلمة اعتراض او احتجاج كان يتحرك من فوره وهو يخرج من المنصة الخاصة به ، ليصل بعدها بجانب منصتها وهو يشير لها بيده لتنزل امامه قائلا بأمر
"هيا انزلي امامي ، اريد التحدث معكِ"
حركت رأسها بضياع بعثر افكارها وهي تهمس بصوت مشدوه ببعض الوجل
"هل جننت ؟ ماذا تفعل ؟ نحن بمحكمة !"
تدخل المحامي بجانبها وهو يقول بنبرة عملية جافة
"سيد فكهاني هذا لا يجوز ، نحن ما نزال بمنتصف الجلسة ، ارجو ان تلتزم بقواعد المحكمة"
ألقى عليه نظرة مخيفة ارتعد لها خطوات للخلف وهو يحاول الحفاظ على مكانته ، ليرفع بعدها نظره للساكنة بمكانها وهو يقول بابتسامة حادة
"حسنا كما تريدين"
اتسعت حدقتيها بجزع وهي تتمسك بألواح الخشب ما ان صعد المنصة امامها بقوة ، وما ان وقف امامها وهي متسمرة عن الحركة تماما بموجة ذهولها حتى احكم بمسك يدها ليرغمها على افلات حافة المنصة وهو يتمتم بابتسامة جانبية بتسلط
"هيا بنا يا روميساء ، لقد انتهت الجلسة ، وحان وقت جلستنا نحن"
حبست انفاسها الملتاعة ما ان سحبها معه خارج المنصة وخارج المحكمة بدون ان يأبه بالنظرات المصدومة التي كانت تلاحقهما ، ليستعيد القاضي انضباطه بعد الجلبة التي احدثوها لم يشهدها بتاريخ المحاكم ليقول امام الميكرفون بصوت عملي حاسم
"حسنا بعد سماع كلا الطرفين ، سنعلن بموجبه تأجيل جلسة الطلاق لموعد آخر ، وحتى هذا الحين انتظروا منا اصدار القرار النهائي بموعد الجلسة القادمة ، طاب يومكم"
غادر بعدها القاضي مكانه بعد ان انجز عمله وانتهى وقت الجلسة بخروج الزوجين ، تحركت من فورها التي افاقت من صدمتها بصعوبة وهي تشق طريقها خارج صفوف المقاعد ، وما ان وصلت عند المحامي الخاص بالقضية حتى وقفت امامه بشموخ وهي تلوح بذراعها اتجاه الباب قائلة بعبوس صارم
"ما معنى هذا أيها المحامي ؟ كيف سمحت بحدوث كل هذا لموكلتك ؟ لما سمحت له بسحبها بهذه الطريقة بدون اي اعتبار لمحكمة او قاضي ؟! هل يظن نفسه بملهى ليرتكب هذه التصرفات ؟"
ارتبكت ملامح المحامي وهي يحاول التوضيح لولا الذي تدخل بحوارهما وهي تسمع صوت خطواته من خلفها مقترنة مع كلماته الباردة
"هوني على نفسكِ يا سيدة الكبرياء ، فهذا العمل ليس لكِ علاقة به ، ولن تستفيد شيئاً بصب جام غضبك على محامي يعمل بوظيفته بكل امانة واخلاص ، هل تظنين نفسكِ تفهمين بهذا العمل اكثر منه ؟"
ارتجفت الغصة بطريقها بحلقها وهي تحاول تمثيل الجمود والصلابة ما ان شعرت بخطواته تصل إليها ، وبغضون ثواني كانت تشعر بذراعه تمتد من حولها وهو يحتضن كتفيها وظهرها لصدره الصلب بطوق محكم ، ليوجه بعدها كلامه للمحامي الساكن امامهما وهو يقول له بنبرة عملية
"يمكنك انت الذهاب الآن فقد انتهت الجلسة ، وانتظر خبر منهم بحضورك القادم ، واما الآن فلا داعي لوجودك اكثر ، وشكرا لك على جهودك"
اومأ المحامي برأسه بامتثال وهو يسحب نفسه ليغادر القاعة بأكملها ، غيم الصمت بينهما بعد ان فرغت القاعة ولم يبقى سواهما محاصران بها ، لترسم بعدها ابتسامة ماكرة على محياها وهي تتلمس بأصابعها الرقيقة على ذراعه هامسة بخفوت متساءل
"إلى متى ستستمر بالصمت ؟ ألا تريد قول شيء !"
تنفس بحرارة توهجت على جانب وجهها وهاجت الدماء تحت وطأها بدون ان يفلتها وهو يلصقها بصدره تكاد تستشعر نبضات قلبه القوية تخترق جدار ظهرها ، ليهمس بعدها بكلمات موجزة عبرت عن المشاعر الخالصة التي تراكمت اليوم تحديدا واخترقت ستار شعرها حول اذنها
"اشتقت إليكِ"
عضت على طرف شفتيها بانفعال وهي تتعثر بلمسات اصابعها الخرقاء على ذراعه العضلية ، لتتنفس بعدها بأنفاس قصيرة وهي تليها بالهمس بخفوت محتقن بالحياء
"وانا ايضا ، اشتقت إليك"
تغيرت ترنيمة انفاسه بسخونة اكبر حتى شعرت بصدره يسحبها وضربات قلبه تخترقها لتتلاحم معها ، وما هي ألا لحظات حتى شعرت بذراعه تفك اسرها ليديرها نحوه بلمح البصر حتى طير خصلاتها والتفت حول عنقها مع استدارتها ، ليزيح بعدها الخصلات العالقة حول عنقها بأطراف اصابعه ارتعشت عظامها تحت بشرتها الباردة التي اجاد اشعالها بعود ثقابه ، وما ان لمحت وجهه وهو يدنو منها تدريجيا على وشك الانقضاض عليها يعطيها الفرصة للاستعداد حتى كانت تمنعه بحركة يدها التي غطت على فمه وهي تقول بابتسامة مهذبة بتصنع
"اعتذر يا زوجي ، ولكن عليك بالانتظار اكثر ، فلم يحن الوقت بعد"
عقد حاجبيه بجمود تستطيع قراءة الاستنكار بملامحه والرفض يلمع بعينيه السوداوين العميقتين وكأنها لوحة مفتوحة ، لتقترب بعدها من كفها التي تمنع اتمام هجومه وهي تقبلها برقة وكأنها تهديه قبلة غير ملموسة سوى بالأرواح التي غمرت بالعاطفة بينهما ، لتهمس بعدها بلحظة بلطافة شقية
"انا اعتذر مجددا"
هدئت خطوط ملامحه بعد كلامها بدون ان يغادر الاستنكار والرفض نظراته ، لتخفض بعدها كفها وهي تتراجع خطوتين تصنع مسافة امان بينهما ، ليقول بعدها الذي استعاد سيطرته على نفسه وهو يدس يديه بجيبي بنطاله
"لم اتوقع مجيئكِ اليوم ! هل اتيتِ خصيصا من اجل ان تدمري ما تبقى من زواج شقيقتك ؟ انتِ ترتكبين خطأ كبير بالتشجيع بالفصل بينهما"
قطب جبينه بارتباك ما ان قابل النظرات القاتمة التي تحمل سعير بين طياتها حرق كل المشاعر الحية بينهما ، وقبل ان يعلق كانت تسبقه بالكلام وهي تشيح بوجهها جانبا قائلة بكبرياء مكسور
"يبدو بأنك بعد كل هذا الوقت ما زلت لا تعرفني جيدا وتجهل الكثير عني ، مؤسف جدا سماع هذا الكلام منك انت تحديدا ! إذا كان هذا كلامك انت فلا عتب على الغريب !"
احتدت ملامحه بلمحة خاطفة وهو يقول بهدوء جامد
"انا لا افهم هكذا ، هلا وضحتِ مقصدك اكثر ؟ ما لذي تريدين الوصول له ؟ ولما تنظرين لي بهذه الطريقة الغاضبة ؟"
نفضت ذراعيها للأسفل بانفعال وهي تقول بجموح غير واعي
"احمق شادي الفكهاني ، لماذا تظهر بحياتي دائما ؟ انا...انا....."
قاطع هجومها صوت رنين هاتفها والذي اعتلى فوق اصواتهما ، لتخرجه بعدها من جيب سترتها وهي تجيب قائلة بعملية
"مرحبا...."
قطع الطرف الآخر كلامها وهو يقول بصوت خفيض بجفاء
"انتِ ماسة الفاروق ؟ اجيبِ بنعم ام لا"
زمت شفتيها بارتجاف وهي لا ترتاح ابدا لهذا السؤال والذي سمعته عدة مرات وآخرها تلاها موت زوج والدتها ، لتهمس بعدها بصوت خافت بوجوم
"نعم"
اجابها الصوت من فوره وهو يقول بآلية مدروسة
"جيد لم يستغرق الامر طويلا ، اريد منكِ الحضور على الفور للعنوان الذي سأرسله لكِ برسالة نصية ، ولن تخبري احد عن العنوان لكي لا يحدث بسببها عواقب وخيمة ، سأكون بانتظاركِ"
اخفضت الهاتف بعد ان فصل الخط بوجهها بدون ان يقول كلمات الوداع حتى وكأنها تعمل عند سيادته وحضورها امر مرهون ، لتفيق بعدها على صوت الواقف امامها والذي ايقظها من غفوتها وهو يقول بقلق
"ماذا هناك ؟ من المتصل ؟!"
استعادت تجهم ملامحها السابق وهي تدس الهاتف بجيب سترتها ويدها الاخرى تلوح بالهواء قائلة بعجلة
"لقد وصلني عمل طارئ ، لذا يتوجب عليّ الرحيل ، ونلتقي بالجلسة القادمة ، وداعا"
جرت بسرعة خارج القاعة بانطلاق وامام عينيه المصدومتين بعدم تصديق ، ليدرك وضعه بآخر لحظة وهو يخرج من خلفها فورا ، ليكتشف عندها بأنه قد اضاع طريقها وهربت من بين يديه من جديد وكما تفعل دائما وكأنها شبح الظهيرة الذي يختفي فور هروبه ، ليحك بعدها جبينه بتفكير مستاء وهو يتمتم بكبت حائر
"ماذا كانت تقصد بنعتي بأحمق الفكهاني ؟ هل فقدت عقلها هذه الفتاة !"
تحرك من فوره وهو يشق طريقه خارج المحكمة وهو يتوعد لها بالكثير ولن يتركها وشأنها حتى تفسر له كلامها الاخير وسبب ذاك الاتصال الغريب .
_______________________________
دخل لغرفة المكتب وهو يسحبها للداخل ويغلق الباب بيده الاخرى خلفهما ، لتستدير بعدها بملامح مشدوهة وهي ما تزال تعاني من آثار صدمة ما حدث قبل لحظات ، وما ان كانت على وشك الصراخ بفورة جموح الغضب التي دبت بأنحاء جسدها حتى قاطعها صوت الفرد الثالث بالغرفة والذي لم تنتبه لوجوده
"مرحبا سيدة روميساء الفاروق ، تفضلي بالجلوس رجاءً"
التفتت بسرعة بنصف وجهها وهي تقابل الجالس خلف المكتب بكل وقار وهيبة والخصلات البيضاء تزين اغلب شعره ولحيته الخفيفة ، لتعود بنظرها للذي اصبح يقف بجانبها وهي تستل يدها عن قبضته بعنف قائلة باستنكار حاد
"ما لذي فعلته هناك ؟ كيف تسحبني من منتصف الجلسة ؟ وما هذا المكان الذي احضرتني إليه ؟ أليس لديكِ تفسير لكل ما يحدث هنا !"
حدق بها بصمت جامد بملامح غير مقروءة وهو يقول بشبه ابتسامة جادة
"اجلسي بمكانكِ يا روميساء ولا تجادلي كثيرا ، وتعلمي ان تحترمي الاكبر منكِ سنا ومن يفوقك مكانة ومرتبة ، لكي لا اضطر لتلقينك بنفسي هذه الدروس القيمة"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بقسوة وهي تشيح بوجهها بعيدا هامسة بخفوت ممتعض
"عندما تتعلم اولاً احترام السيدات وجلسات المحاكم ، يا سيد فظ سيء السلوك"
ارتفعت طرف ابتسامته بمغزى عند آخر كلماتها التي نعتتها به بدور معلمة متزمتة ، وخاصة عندما يعاملها بخشونة ويداعبها بقسوة عواطفه تطلق عليه هذه الصفات والتي تشعل جذوة مشاعره وكأنها صفات يفتخر بها مثل طالب مشاكس يسيء التصرف ويكرر فعلته بهدف جذب انتباهها ، ولكن بهذه الحالة والوضع الراهن لا يستطيع الضحك او تقبل دعابتها فقد قصدتها بمعنى الكلمة وكأن المسامحة لم تعد موجودة عند المعلمة التي ضاقت ذرعا من تصرفات طالبها وخسر استحسانها .
تنفس بقوة يحجم مشاعره الداخلية التي تسربت على السطح بدون إدراك ليتقدم بلحظة بخطوات هادئة قبل ان يجلس على الاريكة المقابلة للمكتب ، ليشير بعدها بذراعه جهة الاريكة الاخرى وهو يقول بصوت عملي اقرب للأمر
"اجلسي على الاريكة يا روميساء ، فهناك ما يجب علينا التحاور بخصوصه ، واعدكِ ان تجدي كل الاجوبة على اسئلتكِ هنا"
زمت زاوية شفتيها بوجوم وهي تتنقل بنظرها بينه وبين الرجل الساكن خلف المكتب وكأنه فقط تمثال ينطق عند الحاجة وعند اللزوم وبطرف المستفيد منه ، لتتنهد بعدها باستسلام وهي تنهي كل شيء بخطواتها التي وصلت عند الاريكة لتجلس عليها بكل ادب بعد ان سحبت لهذه الدائرة طواعية وهي تتلبس رداء الاحترام والانضباط التي كانت عليها بالمحكمة ، لتقول بعدها بلحظات بهدوء طبيعي يخفي عواصف وانقلابات عاطفية خلف واجهته
"حسنا بما انني جلست هنا ونفذت كل طلباتك ، هل ستخبرني بما تريد التحدث معي به والذي يكون اكثر اهمية من جلسة دعوى الطلاق ؟"
تلبدت ملامحه بصمت جليدي وهو يكتف ذراعيه فوق صدره بتصلب ليقول بعدها وهو يدخل بالموضوع بدون اي مقدمات
"لماذا تريدين الطلاق ؟ هل لديكِ اسباب منطقية لرفع مثل هذا الادعاء ؟"
غيمت ملامحها بسحابات رعدية حتى غزت مقلتيها الخضراوين بألوان داكنة توهجت بكل انواع الغضب ما عدا الحزن الذي انحصر بداخلها ، لتضرب بعدها بقبضتها على ركبتها وهي تقول بخفوت مستهجن
"ماذا تقصد بطرح هذا السؤال عليّ ؟ هل تسخر من جهلي بالأمور القانونية وما يستند عليها بدعوى الطلاق ؟ انا ما زلت بكامل قواي العقلية واعرف جيدا ما يفيدني ويضرني ويخدم مصلحتي ، كما اعلم بأن هذا الزواج هو اكثر علاقة مسمومة اضرتني بكل النواحي النفسية والمعنوية وخلاصي منها هو بالطلاق ، وإذا لم تكن تريد ان تطلقني بالحسنة فسوف تطلقني مجبرا"
اخفض وجهه قليلا وكأنه يحاول السيطرة على انفعالاته الداخلية وهو يستصعب تقبل كلامها القاسي عديم الرحمة ، ليرفع بعدها رأسه بشموخ وهو يقول بابتسامة هادئة يجاري سياق حديثها
"وهل تملكين ادلة على كلامكِ ؟ هل لديكِ اثبات على كل كلمة قلتها ؟ هل تستطيعين اثبات الاضرار التي تعرضتِ لها بهذا الزواج ؟ فأنتِ تعلمين بأنه ليس هناك محكمة تقبل كلام بدون ادلة وهذا المتعارف عليه"
عقدت حاجبيها السوداوين بجمود وهي تقول ببرود متعمد
"لن اخبرك بشيء قطعا ، فهذه الامور تخصني وحدي ، وما اريد قوله فقد صرحت به امام المحكمة ولن اضيف شيء عليه ، ولك حرية التصديق ام لا"
اومأ (احمد) برأسه بحركة غير معبرة وهو يقول بتفكير مستاء
"اجل تذكرت ذاك الخطاب الذي ألقيته على مسمع من الجميع ، لقد كان خطاب مؤثر جدا من كل النواحي ، واتذكر الجزء الذي قلتِ به بأن زواجك كان خطأ حياتك وقرار متسرع طائش ، هل تظنين بأنه بهذه الحجة السخيفة سيتم تطليقك بهذه السرعة ؟ هل تتوقعين ان تأخذ بالحسبان وتكون المهرب لكِ من المسلك الذي خضته بإرادتك الحرة بدون إجبار احد ؟ الزواج ليس لعبة ، بل هو علاقة سوية بين اثنين يتشاركان نفس المصير والهدف والكيان والحياة"
ابتلعت ريقها بمذاق الذنب وهي تلتقط اللوم والألم يتمحوران بعينيه الثابتتين عليها كما حدث بالمحكمة ، لتحاول بعدها تجميع كلماتها بصعوبة وهي تهمس بخفوت مشتد بتبرير
"لم اقصد قول ذلك الكلام بالمعنى الحرفي ، انت فقط ركزت على هذه النقطة ونسيت باقي الحوار ، انت......"
غصت الكلمات بحلقها الملتوي وهي تعلق بحرب النظرات التي اوصلت لها المشاعر بخيوط غير مرئية ربطت قلبها المذنب بخفقات خائنة تمردت عليها ، لتكسر قيود النظرات وهي تخفض رأسها هامسة بخفوت نادم تخفف من وطأة عذاب قلبها
"انا اعتذر"
سكنت ملامحه حتى ظهرت خطوط ابتسامته بليونة وهو يقول بهدوء رقيق
"لا بأس ، المهم عرفتي خطأكِ جيدا"
رفعت رأسها بسرعة وهي تعود لتلوين عينيها بعدائية لتقول بعدها بنفاذ صبر
"ما لذي تريد الوصول له بهذه الحركات ؟ واين هو الموضوع المهم الذي تريد التحاور معي عنه ؟ انت لم تجيب على اي من اسئلتي السابقة !"
زفر انفاس طويلة وهو يتقدم بجلوسه مثلها ليقول بعدها بجدية هادئة تبدلت بنبرة صوته
"حسنا لنباشر بالدخول للموضوع من هذا الباب ، هل تعلمين بأنكِ بهذا الادعاء ستقدمين على تنازلات كثيرة ؟ فليس من السهل الانسحاب من هذه العلاقة بدون تضحيات من اجلها ، وإذا كنتِ تريدين اتمام الطلاق بسهولة ويسر عليكِ بالمقابل ارضائي بما يجب ودفع التعويض حتى يتم كل شيء رسميا وبدون اي معاناة"
ضمت يديها فوق ساقيها بتوتر تلاعب بثباتها وهي تهمس ببهوت
"اعلم كل ذلك ، وانا على استعداد لدفع المهر واعادة الذهب وكل الهدايا التي قدمتها لي طول فترة زواجنا ، هل هذا يكفيك ؟"
قبض على يديه بقوة حتى ابيضت مفاصلهما وهو يقول بابتسامة طبيعية ببساطة
"وايضا التخلي عن وظيفتك بالمدرسة فهذه واحدة من الامتيازات التي قدمتها لكِ بفترة زواجنا ، وقد كانت الشرط الاساسي لقبول الزواج مني"
نظرت له بسرعة بأحداق كبيرة غشتها بضباب باهت وكأنه يجردها من حياتها ، لتهمس بعدها بأنفاس ذاهبة بانفعال
"مستحيل !"
تدخل عندها المحامي الجالس خلف المكتب لأول مرة حتى نست وجوده بينهما وهو يقول بنبرة مهنية وكأنه يكتب عليها بالموت
"هذه هي الخيارات التي تملكينها يا سيدتي ليتم هذا الطلاق برضا الطرفين ، إذا كنتِ تريدين الحصول على الطلاق بكل سهولة ويسر وبدون جلسات محاكم عليكِ بإرضاء الطرف الآخر بالعلاقة ، ومثال على ذلك التنازل عن المهر المقبوض والذهب والهدايا والوظيفة التي حصلتي عليها بواسطة منه ، بالإضافة للشرط الذي كتبه السيد احمد الفكهاني وهو حضانة الاطفال حال حدوث حمل بفترة العدة ، وانتِ بنفسكِ ستوقعين على وثيقة اعطاء حضانة الاطفال للأب لكي يسمح له بأخذ الطفل بعد ولادته ، وهذه الشروط ثابتة ولا اخلال بها بسبيل ارضاء الطرفين والطلاق رسميا"
ازدادت انفاسها بتعاقب وكأنها تسمع وثيقة قتلها حية وهي تمسح على بطنها بكفها بحركات متوترة وكأنها تحمل جنين بداخلها بالفعل ، فهي نفسها لم تكن تفكر بهذا الاحتمال البعيد عن ذهنها تماما ! ولم تتوقع ان يفعلها بها ! فهل كان مجرد حدس بحدوث حمل بعد آخر ليلة جمعت بينهما قبل شهر ؟ لهذا جهز للأمر جيدا لكي لا تغافله وتفاجئه بحملها بطفل منه ! ام يستخدمها وسيلة وحجة لكي يضغط عليها اكثر ويرضخها له بكل طواعية ! هذا كله وهي لا تحمل اي طفل ! ماذا سيحدث لها لو تبين بأنها تحمل طفل فيما بعد ؟ لقد قضى عليها بأسرع طريقة واسهل وسيلة وكأنه ليس من يعلم عن قصة موت طفلها الأول ليقتلها بالطفل الثاني والذي لم يعلن عن وجوده بعد !
اشاح (احمد) بوجهه بعد ان اكتفى من قراءة تعابيرها الحزينة والمجروحة حد الصميم وحركات يدها الواضحة التي لمحها بالمحكمة كذلك وهي تقتله بكل مرة بسواد صورته والتي تفنن بتمزيقها بعينيها مئات المرات ، ولكن ماذا يفعل معها غير هذا وهي التي سحبت منه كل الفرص والهدنات للمصالحة والمسامحة بعد ان اغلقت الطريق بينهما ؟! لم يتوقع ان يأتي اليوم التي تخرج منه كل هذه التصرفات المغايرة لشخصيته بسبيل احدهم ! وهو الذي كان يظن كل النساء سواء لا يستحققن التضحية والركض ورائهن بسبب معرفته بنوعيات معينة شملت كل نساء الارض ، وقوله الدائم بأن من تريد تبقى ومن لا تريد ترحل والامر متروك لهن .
افاق من شعوره على الواقع ما ان نهضت المقابلة له بقوة بعد ان استجمعت طاقتها كاملة ، لتقول بعدها بأعلى صوتها باستنكار رافض وهي تلوح بذراعها بانفعال
"انا ارفض كل هذه الشروط التي تريدون منها كسري واضطهاد حقوقي ، لماذا كل هذا الظلم بقراراتكم ؟ لماذا تريدون حرماني من وظيفتي وباب رزقي ؟ لماذا تريدون سلبي من طفل لم يوجد بعد وتحددون مصيره كذلك ؟ أليس بقلوبكم رحمة ؟ هل تجردت الرحمة والرأفة من قلوب البشر ؟"
تسمر بمكانه ما ان توجهت اليد نحوه بإشارة بأنه اصبح محور هجومها وهي تقول بمرارة المغدور
"انت شخص ظالم يا احمد الفكهاني ! عندما تزوجت بك تنازلت عن الكثير بسبب حاجتي للطلبات التي سوف توفرها لي ، لقد قبلت ان اكون زوجة ثانية فوق زوجتك الأولى التي تبين بأنها تكن لي الكثير من الحقد والشر حتى قتلت طفلي ، لقد قبلت ان اكون زوجة سرية بدون حضور احد ورغم عن عائلتك ووالدك الذي لم يتقبلني للآن ، لقد تخليت عن حفل زفاف وبيت مستقل وحقوق تنازلت عنها ، لقد قبلت العيش بغيرتي اتجاه زوجتك التي كانت تسلبك مني بخداعها ومكرها ، لقد قبلت ان تشاركك بي زوجة اخرى بدون ان اتفوه بكلمة او حرف ، وكل هذه التنازلات التي قدمتها لك لا تعادل خيانتك لي ونقض عهود زواجنا بآخر مرحلة ، وعندما وصل الامر عندك لم تستطع التنازل لي واعطائي الطلاق واهم حقوقي التي بقيت لي ، هل هي كثيرة على رجولتك ؟ هل هي كثيرة عليك ؟"
كان يحدق بها بجمود طمرت كل المشاعر بتربة قلبه ما ان كشفت عن جانب آلامها بحياتهما الزوجية لم يكن يعلم عنها ، ليقول بعدها باتزان شديد بدون اي انفعال
"انتِ من قبلتي الزواج مني بإرادتك الحرة رغم معرفتك بزواجي وظروفي ، ولا تستطيعين التذمر والشكوى من الامر الآن فقد فات الأوان عليه !"
اخفضت ذراعها ببط بعد ان تخدرت بالكامل واصابت عينيها بلسعات حارقة شوشت صورته بنظرها ، لتدير وجهها ناحية المحامي الساكن الذي يتكلم فقط بما هو محفوظ بعقله مثل آلة الطباعة
"واردت ان اخبركِ كذلك بأن للزوج كامل الحق برفع دعوى على زوجته تحت مسمى بيت الطاعة ، وهي ان يرغمك على الدخول تحت طاعته بمنزل الزوجية وممارسة الزوجة واجباتها اتجاه زوجها بمنتهى الطاعة ، ويمكنكم مناقشتها بجلسات والقاضي هو الذي يحدد مصير هذه القضية"
انفرجت شفتيها باضطراب قصف قلبها بطنين موجع وغطت سحابة رقيقة عينيها الخضراوين بمرارة وكأنها تشاهد ايام عصر التخلف واضطهاد حقوق المرأة ، لتشدد بعدها من القبض على يديها بآلام مطمورة وهي تتمتم بقهر مكبوت
"لن اسمح بحدوث هذا ، لن اسمح لكم بالتحكم بمصيري اكثر"
استدارت بسرعة وهي توليه ظهرها لتنطلق خطواتها اتجاه الباب والذي لم تعد ترى غيره ، لتوقفها الذراع التي امتدت امامها بلمح البصر وحطت كفها على سطح الباب ، وما ان اخذت انفاسها بلوعة حتى سمعت صوته وهو يقول بهدوء عميق
"روميساء سأترك الخيار بين يديكِ ولكِ كامل الحرية ، اما التنازل بكل ما تملكي بسبيل التحرر مني ، واما ان تقبلي بالأمر الواقع وتعودي للعيش بمكانكِ الصحيح بمنزل زوجك إذا كان برضاكِ او رغما عنكِ ، وانا انتظر قراركِ النهائي"
رمقته بطرف حدقتيها المجروحتين بلوم قاتل وكأنها توصل له رسالة مضمونها (لقد خذلتني مجددا) .
ادار عينيه بصمت وهو يخفض يده عن الباب ليدير المقبض ويفتحه على اتساعه ، وبعد مرور لحظات صمت استلت عينيها بعيدا وهي تتجاوز الباب باندفاع بدون اي انتظار ، لتترك عينيه الساكنتين تلاحقان ظلها الذي تلاشى بأروقة المحكمة وصورة الخيانة تلوح بعينيها بوضوح ، ومقولة واحدة تدور برأسه وتخفف من الآلام التي سببها لكليهما (الغاية تبرر الوسيلة) .
___________________________
نظرت لباب الشركة بجمود وهي تتأكد من خطواتها وما هي مقدمة عليه بجلب نفسها لمكان مجهول من رسالة شخص غير معروف يربطه بها مصالح مشتركة لم تتضح للآن ، لتزفر انفاسها باستغفار وهي تقوي نفسها برفع يدها ودفع الباب الزجاجي للأمام هامسة بخفوت عازم
"لن يحدث لي اسوء مما مررت به"
سارت بعدها بداخل اروقة الشركة الفارغة التي تبدو حديثة عهدها بسبب عدم ملاحظتها من قبل بين الشركات التي قدمت الوظيفة عليهن ، لتصل بلحظات امام الغرفة التي تعرفت على رقمها وكتبت بالرسالة مع العنوان المجهول ، حتى انه لا يوجد اي سكرتيرات يعملن بالمكاتب وكأنه لم يتم توظيفهن بعد او ان هذه الشركة لا تقوم بتوظيف واستقبال سوى اناس محددين .
قطعت افكارها وهي تطرق على باب المكتب بقبضتها المتصلبة حتى سمعت صوت احدهم يأذن لها بالدخول ، لتفتح بعدها الباب وهي تدعو بقرارة نفسها ألا تقع بمكيدة او مصيبة فوق رأسها برغبة غبية باكتشاف هوية المتصل ، وما ان انفتح الباب على اتساعه حتى ظهر لها مكتب فخم جميل يجلس خلفه رجل كبير يناهز الخمسين من العمر نحيل الوجه والمظهر .
تقدمت بعدها عدة خطوات وهي تلوح بيدها قائلة برسمية من اصول اللباقة
"مرحبا ، انا اسمي ماسة الفاروق ، وقد تم استدعائي باتصال للحضور إلى هنا بدون اي معلومات اخرى ، ومع ذلك خاطرت وجازفت بنفسي للحضور لعنوانكم المجهول بدون اي خوف او تراجع ، لذا اتمنى ألا اصاب برأسي او اندم بسبب هذه الفعلة الغير مسؤولة"
راقبت نهوض الرجل الذي برغم كبر سنه يحافظ على رشاقة جسده الطويل وهو يدور حول المكتب ليصل لها بلحظات ، وما ان وقف امامها حتى مد يده لها وهو يقول بابتسامة مرتاحة وكأنه يعرفها منذ زمن
"اهلا وسهلا بالجميلة ماسة ، نورتِ مكتبي بزيارتك التي انتظرتها طويلا بشوق ، وسعيد حقا لأن استخباراتي استطاعوا الوصول لكِ اخيرا والتواصل معكِ"
اخذت وقتها بتأمله حتى استقرت على يده المفرودة بارتياب لتقول بعدها بجدية عابسة
"من انت ؟ ومن اين تعرفني ؟"
اومأ برأسه بدون ان يخفض يده وهو يقول بهدوء شديد بدون اي انفعال
"لن استغرب هذا منكِ ، فهذه اول مرة نتقابل بها ، واعذر نظراتك المرتابة نحوي ، انا اسمي علام صديق قيس حجاج المقرب وشريكه بكل الأعمال الغير قانونية ، وانتِ تكونين ابنته الروحية التي كانت البطاقة السحرية التي فتحت كل الآفاق امامه ونسبت بذاك العالم خلف الكواليس"
ابتلعت ريقها بتشنج وكأنه يسرد واقع حياتها بمنتهى البساطة والهدوء ، لتلبس بعدها ملامح البرود الجليدي وهي تصافح كفه قائلة بنفس نبرته القوية
"وانا اسمي ماسة أيمن الفاروق ، تشرفت بالتعرف عليك"
شدد على يدها وهو يربت على ظاهرها بيده الاخرى قائلا بابتسامة جانبية بسرور
"لقد كان لدي فضول كبير بالتعرف على ابنة قيس المشهورة ، وسعيد جدا بحصولي على الفرصة بالتعرف عليكِ وجها لوجه ، فهذه النوعيات من الفتيات اللواتي يملكن ذكاء وحسن نادرات الوجود بهذا العالم والعصر ، ويمكنكِ اخذي بمرتبة والدك الراحل رحمة الله عليه فأنا بعمره تقريبا ، واعتذر حقا على عدم حضوري العزاء بأول الايام فقد كنت حينها بسفرة خارج البلد"
اخفضت حدقتيها الزرقاوين وهي تسحب كفها من بين يديه قائلة ببرود جاف
"ليست شهرة افتخر بها ، ولكني سررت بالتعرف عليك"
امسك بكتفيها بيديه وهو يتمعن بالنظر بها جيدا وكأنه يعاير البضاعة قبل ان يقول بابتسامة مندهشة بعض الشيء
"انتِ تبدين شابة صغيرة بالعمر ، إذا كنتِ ما تزالين بالعشرين الآن ، فكيف كنتِ ببداية عملك مع قيس قبل حوالي ست سنوات واكثر ؟! اراهن بأنكِ كنتِ اقرب لمراهقة !"
زمت شفتيها بضيق مكتوم وهي تهمس من بينهما باقتضاب
"لقد كنت بالرابعة عشرة من عمري"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يسحب يديه قائلا بابتسامة طفيفة
"هذا اكثر منطقية ، الآن عرفت سبب تسميتك بالمعجزة ، لقد كان محق بكل كلمة قالها عنكِ"
رفعت وجهها بملامح باردة مثل بشرتها التي تتسم بانعدام التعبير وهي تهمس بفتور
"هل تستطيع اخباري عن سبب دعوتي إلى هنا ؟ وما هي مناسبة احضاري ؟ ولا اعتقد بأنك قد جلبتني كل هذه المسافة من اجل تعزية صديقك"
اومأ برأسه وهو يتراجع عدة خطوات ليشير بذراعه جهة الاريكة الوثيرة قائلا بهدوء
"الآن صدقت بأن عقلكِ لا يستهان به ، تفضلي بالجلوس يا ابنة قيس ، فليس من اللائق ترككِ تقفين عند الباب بأول استقبال لكِ"
ادارت مقلتيها بملل وهي تسير بثبات بدون ان تعلق على كلامه قبل ان تجلس على الاريكة بصمت ، تقدم بعدها (علام) امامها وهو يعود لمكانه خلف المكتب ليجلس على الكرسي بكل هيبة ، ليعيد ظهره للخلف باسترخاء وهو يقول بابتسامة محرجة
"اعتذر على هذا الاستقبال الميت ، ولكن ليس هناك اي عمال يحضرون لكِ ما تشربينه ، لذا اعذريني على سوء تصرفي واقبلي مني اعتذاري"
نظرت له باهتمام وهي تقول بابتسامة حائرة
"هل هذه الشركة تعود لك ؟ ولماذا لا يوجد بها اي عمال او موظفين يعملون بها ؟ انها تبدو مثل الشركة المهجورة او الشركة الوهمية"
اتسعت ابتسامته بهدوء حتى بانت الخطوط حولها وهو يقول بعملية جادة
"لقد اصبتِ بتوقعاتكِ يا عقل الروبوت ، هذه الشركة مسجلة باسمي واملك اوراقها القانونية ، ولكنها بالحقيقة مجرد واجهة اخفي بها اعمالي الغير قانونية والتي اديرها بهذا المكان لكي لا يشكك احد بأمري ولا اجلب الشبهة لأعمالي ، وهذا هو الهدف من وجود هذه الشركة الوهمية والتي تعرفتِ عليها اليوم وكشفتِ سرها"
ضمت قبضتيها فوق ساقيها وهي تشعر بنفسها بوسط دائرة سوداء عادت لتنجر لها من جديد ، لتقول بعدها بصوت مشتد وهي تكاد تفقد اتزانها المزعوم
"اجل وما فائدتي هنا ؟ لماذا دعوتني للحضور لمقر اعمالك ؟"
تقدم بجلوسه وهو يقبض على يديه فوق سطح المكتب قائلا بإيجاز
"لقد ترك قيس وصية عندي قبل دخوله للسجن ، ومضمون الوصية بأنكِ انتِ الوريثة الوحيدة له والشرعية والتي تستحق كل الارباح والاموال التي كسبها كل هذه السنين بهذه الطريق ، وبما انني صديقه الوحيد فقد ترك كل شيء يملكه من ثروة واملاك بحوزتي وتحت اسمي لكي احفظ له حقوقه حين يعود مجددا او حين يلقى حتفه ، هذا هو سبب استدعائي لكِ ومحاولة البحث عن اي خيط يوصلني لكِ ، فقد حان الوقت الذي انفذ به مضمون الوصية واسلمكِ كامل حقوقك"
بهتت تقاسيمها بصفحة جليد زادت وتيرة خفقاتها لا إراديا حتى اصبحت تصدر طنين مدوي بأذنيها ، لتفرك قبضتيها بتوتر مفرط فوق ساقيها وهي تهمس بانفعال مستنكر وعينيها تشردان بالفراغ
"ما هذا الكلام ؟ كيف اكون وريثته وانا لا اقرب له بشيء ؟ بالتأكيد انت مخطئ او وقعت بسوء فهم ! فأنا كنت فقط ابنة زوجته التي اهتم بتربيتها بهدف خدمة مصالحه بالمستقبل يعني كنت مجرد غرض بيده ، وهناك ايضا شقيقه الوحيد واولاده الذين يكونون احق بالحصول على ثروته واملاكه ، واما انا فلا علاقة لي بشؤونه....."
قاطعها (علام) بجدية صارمة وهو يدقق بها بعينين ثاقبتين
"انا لم اخطئ بشيء ، ومتأكد من كلامي مئة بالمئة ، وإذا كنتِ لا تصدقين يمكنني ان اريكِ وثيقة الوصية التي دونها بيده ويوجد عليها توقيعه ، يعني هذا ليس مجرد كلام من سراب بل هو واقع ومثبت بالأدلة والبراهين ، وانتِ هي الوريثة الوحيدة والمتحكمة الشرعية لكل ما تركه وراءه من غنائم وارباح ، ولن انسى الكلام الذي اخبرني به ما ان انتهى من تسجيل اوراق الوصية لقد قال بأن ماسة هي الوحيدة التي تستحق كل تلك الارباح فهذه ثمرات جهدها ولن يحرمكِ من هذا الحق !"
غامت حدقتيها الزرقاوين بسحابة ذكريات دخانية اقتحمت ذهنها مثل الصاعقة واعادتها لذلك الحدث الذي ذكرها به كلام ذاك الرجل ، عندما كانت تنظر بعيون مراهقة استغلت مواهبها بأيدي بشري حقير دمر سجل حياتها وهو تشعر باليد التي تربت على رأسها بخشونة بدون اي مودة وهو يقول بابتسامة واثقة مشبعة بكل دناءة الارض
(لا تقلقي يا فتاتي المطيعة ، فأنا اعدك بأن احفظ لكِ كامل حقوقك بدون اي انتهاز او احتقار ، ولن تكوني خاسرة لأني سوف اضمن لكِ ثمن اتعابك وثمار جهودك ، ولن اسمح للحياة بأن تنتهي ألا عندما اوفي بوعودي لكِ واكون والد صالح عند كلامي ، فأنا لا احب الخاسرين والكل عندي عليه ان يكون فائز ، وانتِ بالنهاية ستخرجين من عندي فائزة وستملكين كل شيء ، حتى لو كان متأخرا ولكنكِ ستكونين فائزة ، وهذا وعد شرف من والدك الروحي ، فقط لكي تعلمي مدى حبي واهميتك الكبيرة بحياتي !)
انتفضت من ذكرياتها الاسيرة وهي تنهض عن الاريكة باندفاع حتى توترت اطرافها بارتجاف سيطر على جوانب قلبها ، لتقبض بيديها على اطراف سترتها وهي توجه نظراتها نحوه قائلة بجموح لم تعد تستطيع كبحه
"وانا لا اريد شيء منه ، انا ارفض استلام اي مبلغ مال او املاك مسجلة باسمه ! وليس هناك اي شيء يرغمني على اتباع وصيته الملعونة ! وكما اخبرتك ليس هناك اي رابط لا من قريب ولا من بعيد يصلني بذاك الرجل ، لا شيء"
تنفست بطوفان اهوج وهي تمسد بكفها على صدرها المكدوم الذي اخرج كل الماضي والحاضر بلحظة واحدة ، ليقول بعدها الجالس خلف المكتب بكل هدوء بدون ان يتأثر من كلامها
"ولكنكِ ملزمة على استلام كل ما يخصه وتركه وراءه كما كتب بالوصية ، فأنا لا استطيع الاحتفاظ بكل هذه المبالغ بمصرفي وبحسابي الخاص ، ويتوجب عليّ تسليم الامانة لصاحبها لكي اخلص نفسي من هذا الدين ، واخذ كل من لديه حق عندي حقه ، هل تفهمين ما اقول ؟"
احتدت ملامحها بشحنات متنافرة وهي تلوح بذراعها بعشوائية قائلة بكراهية تقدح شررا
"وما دخلني انا بما ستفعله بالمال ؟ المهم بأن ذاك المال المسموم والملطخ بالقذارة والآثام لن يدخل رصيدي ولن استخدم منه حتى لو كنت اتسول ! ويمكنك توزيعه على شركائك او رميه بالبحر او حتى تمزيقه وحرقه ، فقط لا تدخلوني بهذه الامور ، اتركوني وشأني بحق الجحيم !"
كان يراقبها وهي تحاول تنظيم انفاسها والتي اهدرتها بفورة غضبها بروحها الثائرة ، لتستقيم بعدها بصلابة وهي تشدد على حزام حقيبتها قائلة ببرود يناقض غضبها من لحظات
"إذا كنت قد انتهيت من الكلام عن الموضوع الذي احضرتني من اجله ، فأستميح منك عذرا فقد حان موعد رحيلي ، وشكرا لك على الاستضافة"
ما ان استدارت بقوة وهي على وشك المغادرة حتى اوقفها بلحظة وهو يقول مجددا بصوت جاد وكأنه قطعة جليد لا يتأثر بالمناخ
"انتظري يا ماسة ، بما انكِ ترفضين بشدة كل الطرق لاستلام المال الذي تركه لكِ والدك الروحي ، فلا مانع إذاً ان تقبلي مني هذا العرض حال ما احتجتِ لمساعدة بأي وقت فقط تعالي إلي وسوف اساعدك واساندك مهما كان نوع المشكلة او المأزق الذي تقعين به ، ويمكنكِ اعتبارها هدية مساندة من والدكِ الروحي الجديد"
التفتت نحوه باستغراب لتلمح عندها البطاقة الذهبية التي كان يمدها لها وموضوع حواره ، ليقول بعدها وهو يشير بعينيه للبطاقة بتوضيح
"هذه البطاقة مدون عليها رقم هاتفي وكل عناوين الشركات التي لي يد بها ، لذا إذا احتجتِ لأي مساعدة او واجهتِ اي مشكلة فقط اخبريني بذلك"
اخذت لحظات بالتفكير قبل ان تتقدم خطوتين وهي تستلمها منه بأطراف اصابعها هامسة بخفوت
"شكرا لك"
اعتلت ابتسامته فوق ملامحه بتجاعيد طفيفة وهو يقول بوقار
"حظا موفقا"
رسمت ابتسامة بلا معنى وهي تدس البطاقة بجيب سترتها قبل ان تستدير وهي تكمل طريقها خارج الغرفة وهذه المرة بلا رجعة لذلك العالم الذي اخذ جزء من هويتها وطمس على الباقي تحت ظروف العيش القاسية .
_______________________________
فتحت لها باب المنزل بقوة لتقابل الواقفة امامها ما تزال ترفع قبضتها تنوي استكمال الطرق ، لترسم بعدها ابتسامة بريئة على محياها وهي تلوح بقبضتها نفسها هامسة بترحاب وكأنها تستقبل نفسها
"مساء الخير يا روميساء ، لم اركِ منذ مدة طويلة ، كيف هي الاحوال ؟"
اكتسحت ملامحها جمود كاسر يخبئ بركان مسدود على وشك الثوران وصل حده الاقصى ، وما ان كانت على وشك الكلام حتى سبقتها التي غادرت من امام الباب وهي تبتعد امام ناظريها بصمت ، لتتنفس بعدها الصعداء وهي تدخل بهدوء لتغلق الباب من خلفها بحذر ، الحقيقة بأن هذه الشقة مستأجرة لا هي فخمة ولا فقيرة بل بسيطة متواضعة بمبنى سكني بمنتصف البلد استطاعوا تحويله لمنزل احلامهما المستقل بظرف شهر وبعيد عن الجميع وبثمن إيجار مقبول ، وها هي قد تحققت واحدة من قائمة احلامهما الطفولية بمسكن آمن ومريح يحميهما من ضغوطات البشر واضطهادهم بعالم موحش مخيف اكثر ما يجيده هو استغلال الكائنات الضعيفة وقليلة الحيلة التي لا تملك لقمة العيش .
وصلت بخطواتها رواق المنزل وهي تجلس على الاريكة وتخلع حقيبتها عن كتفها لتلقي بها بجانبها ، لتمدد بعدها ذراعيها عاليا وهي تقول بابتسامة كسولة ناظرة للتي كانت تتحرك امامها ذهاباً وإياباً
"إذاً ماذا حدث معكِ ؟ هل انتهت جلسة الزوجين المتخاصمين على خير ؟ اراهن بأنكما قد توصلتما لحلول بديلة تنهي قضية الطلاق !"
توقفت خطواتها باستقامة وهي تلتفت نحوها بنظرات اتهامية لتشير بعدها بسبابتها نحوها وهي تقول بنبرتها الحازمة
"انا التي عليها سؤالكِ هنا ، اين كنتِ طول اليوم بعد جلسة المحكمة ؟ ولماذا لم تنتظري خروجي وغادرتي وحدكِ ؟ واين اختفى ذاك المحامي الجاهل ؟ ألم اضعه محامي بهذه القضية من اجل ان يظهر حقوقي ويتم مسألة الطلاق !"
اخفضت ذراعيها بسرعة وهي تتقدم بجلوسها تستعد لمواجهة غضب شقيقتها لتقول بعدها بنبرة متزنة تتخذ وضعية المظلوم
"لقد تأخرتِ كثيرا هناك ، ولم اكن اعلم متى ستخرجين ، لذا قررت الرحيل واتمام اشغالي الاخرى بقائمة مهامي لليوم ، وبخصوص المحامي فقد طلبت منه الرحيل عندما رأيت بأن وجوده ليس له اي نفع ، هذا كل ما حدث بعد رحيلك من القاعة برفقة زوجك المطلق"
اتسعت ابتسامتها حتى ظهرت اسنانها البيضاء ما ان نظرت لها الاخرى بعيون كبيرة مصدومة تحاول استيعاب مجريات الاحداث التي تسردها ، لتنفض بعدها ذراعيها للأسفل وهي تضرب وركيها قائلة بانفعال ثائر
"من اعطاكِ الحق لتتصرفي من رأسكِ بدون علمي ؟ وتوقفي عن الابتسام بوجهي كالبلهاء !"
اخفت ابتسامتها بسرعة وهي تكتمها بطرف اسنانها على شفتها السفلى بامتثال ، لتتحرك بعدها بمكانها بعصبية قبل ان تعود بالنظر لها وهي تلوح بذراعها جهة باب المنزل قائلة بجموح
"وايضا ما هي الاعمال المهمة التي ذهبتِ ركضا لإنجازها ؟ ما هي الاعمال الاهم من الوقوف بجانب شقيقتك وانتظارها حتى تنتهي جلسة المحكمة ؟"
نظرت لها بدهشة مفتعلة وهي تكتف ذراعيها هامسة ببأس
"روميساء انا ابلغ الحادي والعشرون من العمر ! ما معنى كل هذه الاسئلة الفضولية والغير مراعية لمشاعري ؟ فأنا ايضا املك حياتي الخاصة والتي لا احب مشاركتها مع احد او تدخل احد بها ، فبعد كل شيء انا لم اعد فتاة صغيرة تحت عهدتك بل اصبحت فتاة ناضجة ومتزوجة وخريجة جامعة محترمة ، وقد حان الوقت لتعطيني مساحتي الخاصة بالحياة"
ارتفع حاجبيها ببهوت ما ان فاجأتها بهجومها الغير متوقع ، لتشيح بوجهها جانبا وهي تهمس ببرود جليدي
"لا بأس بذلك إذا لم يكن به مضرة لكِ ، فأنا اثق بأنكِ قادرة على إدارة حياتك بنفسكِ ، فقط لا تعرضي نفسكِ للمخاطرة فانا لا ينقصني تحمل تبعات مجازفاتك"
اومأت (ماسة) برأسها بابتسامة عريضة بعد ان انتصرت على فضولها واطفئت غضبها الذي كانت ستصبح متنفس له ، لتعود بعدها للانتباه لتحركاتها العصبية وهي تدور بالمكان بدون توقف وتتمتم بقهر يائس
"ماذا افعل ياربي ؟ لقد قضي على حياتي"
زمت شفتيها بعبوس وهي تسند يديها فوق ركبتيها قائلة بهدوء تحاول اختراق غمامة افكارها
"ماذا هناك يا روميساء ؟ ألا تريدين مشاركة شقيقتك الوحيدة بما يشغل تفكيرك ؟ فأنتِ لم تفصحي للآن عما حدث معكِ بعد خروجك من القاعة مع زوجك المطلق ، وليس من العدل ان تتركيني اموت من الفضول وانا اتآكل من الداخل !"
توقفت عن الحركة مجددا وهي تصوب نظراتها نحوها هامسة من بين اسنانها بضيق
"لماذا تصرين على تسميته بالمطلق ؟ أليس لديكِ لقب آخر تطلقينه عليه افضل من هذا المسمى ؟"
حركت كتفيها باستخفاف وهي تهمس بابتسامة باردة مثل القتل الممتع
"أليس هذا ما يسمى به الرجل عندما يطلق زوجته رقم واحد ؟ وعندما يتم الطلاق بينكما يصبح اسمه المطلق رقم اثنين ، ألا إذا كنتِ تملكين اسماء افضل اناديها به تكون اكثر متعة وتسلية !"
تنهدت (روميساء) ببؤس وهي تعود للسير بدوائر حول نفسها قائلة باستياء
"توقفي عن الانتقام من الرجل بسبب افعال زوجته ، فهو ليس له علاقة بكل ما فعلت ولم يعد هناك شيء يربط بينهما من الاساس"
ادارت رأسها بعيدا وهي تدس خصلاتها المتمردة خلف اذنها بانصياع صامت ، لترمق بعدها التي كانت تتحرك بعصبية وهي تنتظر تكملة الكلام منها بدون ان تمارس اي ضغوط عليها ، ولم تتأخر بعدها طويلا وهي تقول بلحظة بضراوة على وشك الفتك بها
"كل شيء قد تحول للأسوء ! لقد خيرني بين خيارين احدهما ان اتخلى عن كل شيء ومن بينها وظيفتي بالمدرسة لكي يلغي هذا الزواج ، وهو يعرف جيدا قيمة واهمية عملي بالمدرسة والذي لا يشكل باب رزقي فقط بل يشكل ايضا عالمي وحياتي الخاصة المتعلقة بذلك المكان ! كيف يطلب مني ان اتخلى عن وظيفتي ببساطة وهو يعلم كل هذا ؟"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تسند ذقنها فوق قبضتها هامسة بحل بديل
"ألا تستطيعين فقط البحث عن مدرسة اخرى تعملين بها ؟ فقد اصبحت سمعتكِ جيدة عن السابق وتملكين خبرة بالعمل بهذا المجال تمكنك من العمل بمدارس اخرى ، أليس كذلك ؟"
تباطأت خطواتها وهي تشرد بنظراتها بعيدا هامسة بحزن عميق
"اجدها صعبة جدا عليّ ان اتخلى عن المدرسة التي احتوتني واحبتني بشخصيتي وبنفسي بدون النظر لخلفيتي ولسمعتي ، هل من الممكن ان اجد مدرسة مثلها تحترمني وتسعدني وتفخر بجهودي وعملي وتعطيني الدعم والعون ؟"
انحنى حاجبيها السوداوين وطرف ابتسامتها وهي تهمس بخفوت ساخر
"لو انكِ حقا مهمة عندهم ويحبونكِ لن يفكروا بالاستغناء عنكِ ما ان يترككِ دعم احمد ! وهذا يعني بأنه لا احد يحبكِ بدون مصالح وكل شيء بالحياة له ثمن عليكِ دفعه ، أليس الامر يسير هكذا ؟"
تلبدت ملامحها بتصلب وهي تهمس بشبح ابتسامة جامدة
"الامر ليس بيدهم بل بيد مناصب العالم العليا ، ولن استغرب لو تم طردي الآن بأمر منه بعد ان يسحب كل دعمه وقواته عني واصفى وحدي من جديد ، فهو كان السبيل والطريق الذي مشيت عليه لدخول تلك المدرسة والعالم"
اخفضت نظرها بهدوء وهي تهمس بابتسامة متملقة من يعرف بالأمر مسبقا
"لقد اخبرتكِ بذلك بالصباح ، ولكن انتِ من لم تصدقي كلامي ، وانظري هذه نتيجة محاولة عكس الواقع"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تتابع كلامها السابق ترفقها بكفها التي بدأت تتلمس بطنها بحسرة لا إرادية
"وقد طلب مني ايضا ان اتخلى عن حضانة الاطفال للأب ، ليستطيع سلبهم مني بعد الولادة"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بصدمة وهي ترفع رأسها عن ذقنها هامسة بأول ما خطر ببالها
"روميساء لم تخبريني بأنكِ حامل !"
حركت رأسها بالنفي وهي تشدد بكفها على بطنها هامسة بعزيمة منهارة
"ليس هناك اي شيء بعد ، ولكن ربما يحدث بوقت آخر ، عندها لن استطيع إيقاف الامر"
تنفست بضيق وهي تعود للسيطرة على الوضع قائلة ببساطة تتابع مجرى حديثها لتكشف الستار عن الباقي
"وما هو الخيار الثاني الذي خيرك به ؟ وانا متأكدة بأنه لن يكون افضل من الخيار الأول"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بقسوة وطافت غمامة دخانية على محياها وهي تخفض كفها بقوة لتقول بعدها بجمود قاتم
"إذا لم اقبل بشروطه سوف يرفع عليّ دعوى بيت الطاعة ، من اجل ان يرغمني على العودة للسكن بمنزله وممارسة واجباتي الزوجية نحوه ، هل يظنني اداة بين يديه يمتلكني ويتحكم بي مثل الغرض ؟ ما هذه السخافة ؟"
انفرجت شفتيها بذهول وسقط فكها للأسفل وهي تهمس بتعجب غير مصدق
"هل ما تزال مثل هذه القضايا تعمل بوقتنا الحالي ؟ لا اعتقد بأن زوجك بكامل قواه العقلية ! او انتِ التي لا تعرفين شيء عن المسائل القانونية !"
نظرت لها بعبوس وهي تقول باستهجان غاضب
"ماذا تقصدين بكلامكِ ؟"
حكت ذقنها بأطراف اصابعها وهي تهمس بابتسامة منطقية
"اقصد بأن هذه القضايا لا تكسب الرجل شيء ، فهي تتعلق بالنفقة على الزوجة والتي سوف تتوقف بحال تمنع الزوجة عن الرضوخ للدعوى ، وبحالتك انتِ فلن يتغير شيء بوضعك الحالي وخاصة بأنكِ مستقلة ماديا ولا تعتمدين على نفقته ، ولكن إذا استطعتِ اثبات الاضرار النفسية والمعنوية التي تعرضتِ لها طول فترة سكنك بالمنزل فعندها انتِ التي ستربحين هذه القضية وستصبح الدعوى باطلة ، وبكل الأحوال فسيكون القانون مع المرأة فقد تجاوزنا بالفعل عصر الجاهلية والتخلف !"
عقدت حاجبيها باستيعاب وهي تدرك مستوى غبائها بهذه الامور التي لم تدقق بها جيدا وكما ينبغي ، فقد كان وقع كلامه مثل الزلزال على قلبها والذي لم يفكر بمنطق او بعقل ، لترمقها بعدها بطرف حدقتيها وهي تهمس بعبوس مغتاظ
"رائع ايتها المحامية ماسة ، لقد اقنعتني بكلامك"
اومأت (ماسة) برأسها بزهو قبل ان تقول بلحظة بتفكير مفاجئ
"هل زوجك المطلق يمتلك منزل مستقل عن العائلة ؟"
تغضن جبينها باستغراب وهي تهمس بدهشة من سؤالها
"اذكر فقط الشقة التي كنا نسكن بها ببداية زواجنا ، وغيرها لا اعرف إذا كان يمتلك المزيد ، ولكن ما فائدة هذا السؤال الآن ؟"
ردت عليها من فورها بابتسامة مائلة بمغزى
"لقد سألت لأنه شرط عند رفع هذه الدعوى ان يكون يملك مسكن مستقل وجاهز من ناحية المستلزمات والاحتياجات لكي يكسب هذه القضية"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بإدراك وهي تشعر بكلامها يضربها من جانب غير متوقع ! فكيف لم تفكر بهذا الخيار المحتمل من بين خياراتها ؟ هل يعقل بأن يفعلها ويفصل نفسه عن منزل العائلة بعد كل ما تعرضت له هناك ؟ وبتذكر ما حدث فهو لم يقل لها منزل العائلة بالمعنى الحرفي بل قال منزل زوجك ، هل هذا يعني بأنه قد فعلها وفصلهما بمسكن بعيد عن العائلة ؟
اقتحم غشاء افكارها صوت ضحك صاخب من الجالسة على طرف الاريكة تضرب بقبضتها على ركبتها من فرط ضحكها الذي يكاد يسقطها من مكانها ، لتستحضر بعدها مشاعرها الثائرة ما ان قالت من بين ضحكها بحماس وكأنها تستمتع بمجرى الاحداث
"يا لكما من جوز اغبياء ! كل منكما يحاول الانتقام من الآخر بدون ان يعرف الطريقة لذلك ! بالبداية حاول تهديدك بالوظيفة وبطفل غير موجود ، وبعدها هددك برفع دعوى بيت الطاعة ، وكل هذا من اجل ان ينتقم منكِ على رفع دعوى الطلاق وسحبه للمحكمة ، انتما الاثنان لا حل لكما ابدا"
زفرت انفاسها بجمود وهي على وشك فقدان اتزانها لتكتف ذراعيها بلحظة وهي تقول بجموح
"هل ترين الامر مضحك ؟"
ابتلعت ضحكاتها وهي ترفع يديها لتشكل بأصابعها شكل مربع ظهرت شقيقتها بالصورة وهي تقول بمرح
"انتما تستحقان جائزة اكثر زوجين اغبياء بالعالم ، وهذه صورة خاصة لكما لتعلق على باب المحكمة وتشتهران بين قضايا الطلاق"
تقوست شفتيها بعبوس غاضب افترس روحها قبل ملامحها وهي ترفع يدها عاليا صارخة بتهديد حانق
"كلمة اخرى يا ماسة وستنزل هذه الكف على وجهك حتى يحمر خدك وتنكسر اسنانك !"
تجمدت ملامحها بتأهب وهي تغطي خدها بكفها هامسة بخفوت حزين تمثل ببراءة
"لا يا روميساء ليس كف آخر ، ما تزال آثار كفك القديم مطبوع على وجهي وقلبي ، وكف آخر قد التصق بالجدار هذه المرة ولن ينقذني احد من ارتجاج المخ الذي قد اصاب به من صفعاتك !"
قبضت على يدها بالهواء وهي تخفضها بعنف حتى ضربت جانبها لتصرخ بعدها بقهر
"سحقا لكِ"
تراجعت للخلف بخوف غريزي ما ان اندفعت بعيدا وهي تتجه مباشرة لطريق غرفتها ، لتميل بعدها برأسها وهي تنظر من خلف الاريكة نحو التي اختفت خلف الباب الذي صفقته بقوة تنفس به عن غضبها ، لترسم بعدها ابتسامة ماكرة وهي تهمس ببرود ساخر
"زوج الاغبياء"
استقامت بجلوسها بسرعة وهي تتذكر امر غاب عن بالها لتخرج البطاقة الذهبية من جيب سترتها ، لترفعها بعدها عاليا بكلتا يديها وهي تتأمل اسماء الشركات التي يملك واسطة بكل واحدة منها ، لتقول بعدها بابتسامة جانبية بانتصار وهي تجد الوسيلة الوحيدة التي ستساعدها بمأزقها
"انت هو طوق نجاتي ، مثلما كنت البطاقة السحرية التي فتحت الآفاق لقيس ، صديقك سيكون بطاقتي السحرية التي ستفتح الآفاق لي"
_______________________________
كانت تمسد على معصمها بأصابع يدها الاخرى مكان العلامات التي تركها السوار الفضي بجلدها الذي يتحسس من كل انواع الفضة ، لتمسك بعدها بالسوار على ملاءة الفراش لتلقي به بعيدا حتى صدم المرآة قبل ان يستقر بين ادوات الزينة ، تنهدت بسخط وهي تنهض عن الفراش لتتجه تلقائيا ناحية ستارة النافذة والمهرب الوحيد لها ، وبلحظة كانت تفتح الستارة بقوة حتى كشفت عن ظلام العالم المغيم بهذا الوقت من الليل والذي تشعر بسواده متعب ومهلك بالنسبة لها .
غامت ملامحها بحزن عميق سور حدقتيها السوداوين وهي تراقب الطريق الفارغ تماما بدون وجود احد ، وبصورة اقرب بدون وجود حارسها الليلي الذي كان يتبعها ويلاحقها مثل ظلها بوقت علاقتهما وبعد انفصالهما حتى اختفى بالنهاية وتلاشى مثل كل لحظات سعادتها التي سرعان ما تنقضي او تسرق منها ، وها هي تعود للشعور بذلك الحنين الخائن لتلك الايام واللحظات قبل انهيار كل شيء بليلة واحدة ، وكل هذا من اجل حماية نفسها وصاحب الاتهام الاكبر زوج احلامها السابق ، لتضحي بسعادتها وبكل مبادئها وكبريائها وبقلبها الذي قدمته فدى الحب .
مسحت عينيها بقوة وهي تغلق الستارة ما ان سمعت طرق خافت على باب غرفتها ، لتستدير بعدها وهي تقول ببحة طغت على صوتها
"تفضل"
فُتح الباب وظهر منه شقيقها الصغير وهو يقول من فوره بمعالم جامدة
"جيد بأنكِ ما تزالين مستيقظة ، فقد جاء عريس السعد لمقابلتك ، لذا جهزي نفسكِ بسرعة واخرجي إليه"
ارتفع حاجبيها باستنكار وهي تقول بعبوس قاسي
"ولكنه لم يخبرني بشيء عن هذه الزيارة ! وكنت قد منعته من قبل بزيارتي بمنتصف الليل ، يا له من قليل ذوق !"
حرك رأسه ببرود وهو يقول بابتسامة ساخرة وكأنه بدأ يتعايش مع الوضع الراهن
"ماذا بيدنا ان نفعل له ؟ فهو لديه كل الحق والصلاحيات برؤيتك وزيارتك بعد انعقاد القران بينكما ، كل ما نتمناه ان يلتزم بالذوق والادب قليلا ويراعي ساكني المنزل وموقع شقتنا بين شقق سكنية كل ما سيفعلونه هو اختلاق القصص والكلام عنا حتى لو كان رباط رسمي يجمع بينكما ، وارجو ان تنتهي هذه الزيارات بأسرع وقت ونغلق افواه الناس عنا"
عبست ملامحها بارتجاف وهي تشعر بمضمون كلامه يشمل امور اخرى وصلتها بوضوح مثل سهام طائشة ، لتقبض على يديها بقوة وهي تقول بابتسامة متكسرة بعتاب
"لماذا اشعر بكلامك احتقار نحوي ؟ هل لهذه الدرجة تريد ان تعجل من خروجي من المنزل لتتخلص مني ؟"
سكنت ملامحه وهو ينظر لها بصمت ليدير بعدها وجهه وهو يقول بوجوم مستاء
"اسألي نفسكِ هذا السؤال ، انتِ من تجلبين كل هذه المشاعر لنفسكِ ولأفراد عائلتك ، بدون تفكير او مراعاة بأحد منا"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها تمنع الضعف من احتلال روحها وهي تلوح بذراعها جانبا قائلة بخفوت ممتعض
"هل تظن الامر بيدي ؟ هل تظنني سعيدة بما يحدث ؟ انا احاول تقبل هذه العلاقة بصعوبة وكأنني اقتل جزء مني واحرقها بالنار ! وبدل ان تساندني بقراري وتطيب على جرحي تقف ضدي وتزيد الثقل والضغط عليّ ، متى ستفهمني ؟ إلى متى ستبقى تحملني اللوم ؟"
تجمد جانب وجهه المقابل لها وهو يقول بجمود قاتم
"لن اتوقف عن تحميلك اللوم والمسؤولية حتى تفهمين ما يخدم مصلحتك وتتوقفي عن جرها للهلاك ، قد تكونين استطعتِ اقناع امي بقصة الزواج المزيف ، ولكنكِ لن تستطيعي اقناعي بذلك لأن الحقيقة مغايرة لكل ما يجري ! متى ستفهمين هذا الكلام ؟"
تنفست بصدر تحشرج بغصته وهي تخفض نظراتها هامسة ببهوت
"ما تزال لا تفهمني ، ولا احد منكم يفهمني"
تجمدت الاجواء بينهما بغيوم ضبابية حصرت كل المشاعر بسمائها قبل ان يتحرك الواقف عند الباب وهو يقول بنبرة عملية
"لا تتأخري بالخروج له"
انتفضت بمكانها وهي تجري نحوه حتى امسكته من ذراعه قبل ان يخرج من الباب ، وما ان التفت نحوها بملامح باردة حتى قالت من فورها بحزن مرير سقط قناع القوة عنها
"رجاءً يا معتز سامحني واعفو عني ، ألم يحن الوقت الذي تسامحني به وتفك هذا الخصام بيننا ؟ لقد مر اكثر من شهر وانت ترفع الستار بيننا وتحدد علاقتنا بجفاء ورسمية ، انا ليس لي سواك بهذه الحياة بعد الله ووالدتي ! ارحمني وتوقف عن تعذيبي !"
استدار نحوها وهو يستل ذراعه بعيدا عنها قبل ان يمسك بمعصمها وهو يشير للعلامات الحمراء الواضحة عليه ، ليقول بعدها بهدوء جاد يوضح الحقيقة امامها
"عندما ترحمين نفسكِ وتفك اسرها قد افكر بمسامحتكِ ، عندما تتوقفين عن التضحية بنفسكِ وبسعادتك قد افكر بفك هذا الخصام ، لن اسامح نفسي لو اصابكِ مكروه او اذى بسبب تفكيرك بالآخرين على حساب حياتك ، عليكِ ان تفهمي هذا وتتوقفي عن تعذيبنا معكِ اكثر !"
شحبت ملامحها بتعبير ميت ما ان افلت معصمها وهو يستدير بعيدا ليكمل خروجه من الغرفة ، لتمسك بعدها بمعصمها وهي تمسد عليه بألم حارق ازداد عن السابق وكل هذا بسبب السوار الذي ألبسها إياه خطيبها المزعوم رغما عنها ، فهي لا تستطيع ارتداء اي مجوهرات من الفضة بسبب حساسية جلدها والذي يتفاعل سريعا مع هذا النوع من المعادن ، ويبدو بأن شقيقها قد عرف بالأمر مسبقا ولمح العلامات التي تركها على جلدها بدون ان يتكلم بشيء !
اخفضت ذراعيها بقوة وهي تتجه امام طاولة الزينة لتقابلها بلحظة صورتها بالمرآة والتي بهتت وذبلت مع مرور الايام طول الشهر الفائت والذي كان اقسى عليها من كل الشهور ، لترفع يديها وهي تمسك خصلات من شعرها على جانبيها لتدسهن خلف اذنيها بقوة حتى كادت تخلعهن من جذورها ، لتخفض بعدها رأسها بانتكاس وهي تهمس بخفوت متضرع
"ياربي الرحمة ، اعطيني القوة ياربي ، أما آن الاوان للانتهاء !"
_______________________________
سارت بطريق الغرفة وهي تلف الوشاح حول رأسها بعشوائية وتدس الخصلات تحت الحجاب بقوة ، وما ان وصلت امام باب غرفة الضيوف حتى اقتحمته بقوة بدون استئذان ، ليظهر لها الجالس فوق الاريكة والذي استقام بسرعة على رؤيتها وهو يرسم ابتسامة عريضة على محياه ويراقبها بتلك النظرات المفترسة التي تشملها مرة واحدة بدون ان تشبعه منها .
فرد ذراعيه لها وهو يقول باستقبال بسعادة غامرة
"مساء الخير يا حبيبتي ، تعالي في احضاني فقد اشتاق لكِ زوجك"
تصلبت ملامحها بنفور وهي تتقدم عدة خطوات هامسة من بين اسنانها بغيظ
"لا تناديني هكذا ، فأنا لم اصبح زوجتك بعد ، وتوقف عن هذه التصرفات"
توقفت امامه بجمود ما ان رد عليها بابتسامة صغيرة ببرود
"لقد قلت هذا عفويا من شدة اشتياقي لكِ"
تنفست بضيق وهي تكتف ذراعيها فوق صدر بيجامتها التي لم تكلف نفسها بتبديلها وهي تقول بتحجر
"ما لذي احضرك بهذا الوقت المتأخر ؟ ألم انبهك سابقا على عدم زيارتي بهذا الوقت الذي يكون به سكان البناية والمنزل نيام ؟ انا لا احب هذه التصرفات والتي لا تجلب الإزعاج والضيق لي ولعائلتي فقط بل تجلب الشبهة لنا ، هل تفهم كلامي ؟"
حرك كتفيه باستهانة وهو يميل برأسه جانبا قائلا بابتسامة واثقة بدون اي شعور بالذنب
"لا احد يستطيع التحكم بمواعيد زياراتي لزوجتي ، وانا لا اعلم متى ينتابني شعور الاشتياق نحوك والرغبة برؤيتكِ ، والاهم بأننا لا نزعج احد بهذه الزيارة وليس من حق احد التضايق منها ما دمت ازور زوجتي العزيزة بالقانون والشرع"
نفضت ذراعيها على جانبيها وهي تقول من بين اسنانها بانفعال حانق خرج عن إرادتها
"وانا ايضا اشعر بالضيق من هذا النوع من الزيارات الليلية ، هل ستحاول فرض زيارتك عليّ رغما عني ؟ ألا تستطيع الالتزام بمواعيد زياراتك والتحلي ببعض الذوق والاحترام لي ولأفراد عائلتي ؟ ام كل شيء لديك عليك ان تفرضه على الجميع !"
تلبدت ملامحه قليلا بدون ان يفقد ابتسامته وهو ينظر لها عن قرب قائلا بلمحة سخرية
"هذا لن يغير شيء من حالتك ووضعك اتجاه علاقتنا ، فأنتِ بكل الاحوال ترفضين اي شيء يجمع بيننا وتحاولين التفريق والفصل بيننا بكل الحجج والوسائل الممكنة ، لذا لن اكترث برأيكِ او باعتراضك وسأفعل ما اراه مناسبا لي وانتِ ستتأقلمين مع الوضع !"
عضت على طرف شفتيها بعصبية وهي تشيح بوجهها جانبا لتقول بعدها بغضب مكبوت
"لا يهمني منظورك ومفهومك لهذه العلاقة ، فقد قلت ما عندي وانتهيت ، وإذا انت لم تلتزم بقواعد علاقتنا وحدودها فلا تتوقع مني القبول او الرقود"
تقدم خطوتين بدون ان تشعر وهو يميل برأسه نحوها قبل ان يقول بهدوء متملك
"وإذا انتِ لم تتوقفي عن هذا العناد والتمنع فلا تتوقعي مني اللين والرفق ، فأنا من اجل تحقيق رغباتي افعل المستحيل واصل لمستويات لن تعجبك"
تشنجت خطوط ملامحها بشحوب وهي تلتفت له قائلة بجموح
"هل تحاول تهديدي ؟......"
قطعت كلامها وهي تتراجع خطوات واسعة للخلف بوجل ما ان اصطدمت بقربه المهول ، ليمسك بمعصمها بلمح البصر قبل ان تبتعد اكثر وهو يرفع يدها امام عينيه قائلا بتفكير قاتم
"لماذا لا ترتدين السوار الذي اهديتكِ إياه ؟ وايضا اين خاتم الخطبة ؟ هل تخلعين كل شيء يخصني وتحصلين عليه مني !"
استلت يدها من قبضته بقوة وهي تضمها بيدها الاخرى هامسة بخفوت ممتعض
"لم استطع ابقاء السوار حول معصمي فهو يسبب لي الحكة والحساسية بجلدي لأنه مصنوع من الفضة ، فأنت لم تسألني عن اي شيء قبل ان تجلب هديتك والتي عليّ قبولها رغما عني"
رفع حاجب واحد بانتباه وهو يقول بابتسامة مائلة باستهزاء
"وماذا عن خاتم الخطبة ؟ هل يسبب لكِ الحساسية كذلك ؟ يبدو بأنكِ تعانين من حساسية مفرطة اتجاه كل شيء يتعلق بي ، ولن استبعد ان تستخدميها حجة لكي تبعدي نفسكِ عني وتحجزيها بحدودك اللعينة !"
نظرت له بصدمة جعلت التجهم يعلو ملامحها بآن واحد وهي تلوح ذراعها اتجاه الباب لتقول بغضب جامح
"لا اسمح لك بالتكلم معي بهذا الاسلوب ، ولست مذنبة امامك حتى تحقق معي هكذا ، والآن إذا كنت قد انتهيت من استعراضك غادر من هنا"
سكنت ملامحه حتى مسحت الابتسامة عنه وهو يتقدم خطوات امامها ببطء شديد ، لتشيح بوجهها بعيدا وهي تنتظر مغادرته بصبر نافذ ولكن ما لم تتوقعه ان يمسك بذراعها المرتفعة وهو يلويها خلف ظهرها بلمح البصر ، وما ان استعادة تركيزها على ما حدث حتى بدأت تتلوى بعنف وهي على وشك اطلاق لسانها السليط لولا الذي سبقها بالكلام وهو يقول بهياج خفيض
"اصمتِ يا سيدرا لكي لا يسمع صراخك احد وتزعجي اهل المنزل ! هل كنتِ تقولين بأنه لا يسمح لي بالتحقيق معك ولا التكلم معك بتهديد ؟ عليكِ ان تعلمي يا حلوة بأنني اصبحت الآن املك كل الحقوق التي تسمح لي بالتصرف بكِ كما اشاء وترغب نفسي ، وكل الوقت الذي تساهلت معكِ به طول الشهر الفائت كان ادب واحترام مني بسبب حداثة علاقتنا ، ولكن الآن لا شيء سيمنعني عنكِ ، لا شيء"
ابتلعت ريقها بتوجس لحظي وهي تتلوى بعنف اكبر لتهمس بعدها بخفوت مشتعل بفقدان سيطرة
"ماذا ستفعل معي ؟ ماذا ؟ هل ستجبرني على تقبل علاقتك قسرا ؟ هل ستضع علاقتنا تحت الامر الواقع ؟ لن تفعل شيء من هذا لأنك مجرد غر متبجح يتباهى بنفسه وبسلطاته ومكانته بدون ان يملك القدرة على ابقاء امرأة واحدة بعصمته !"
لقد اخرجت الوحش الكامن بداخله وهي تفضح جزء من حياته الشخصية ليتوهج بغضب طاف على ملامحه قبل ان يمسك بيده الاخرى رأسها من تحت الوشاح وهو يقول بابتسامة قميئة بنوايا شريرة
"سوف اريكِ الآن ماذا يستطيع ان يفعل هذا الغر ، فقد استخفيتِ كثيرا بقدراتي معكِ ، وحان الوقت لإثبات العلاقة التي تجمع بيننا وتحلل بين الزوجين وليس هناك داعي للانتظار حتى موعد الزفاف"
شهقت بجزع وهي تمسك بيدها الحرة حجابها والذي نزعه عن رأسها بعنف حتى ثار نصف شعرها وانسدل حول وجهها بفوضى ، وما ان صرخت بثورة الغضب حتى كان يدفعها على الاريكة القريبة التي سقطت جالسة عليها ونصف وشاحها ملقى على كتفها ، لترفع رأسها بدوار لوهلة وهي ما تزال تتمسك بوشاحها قبل ان تراه وهو يهجم عليها ويديه تثبتان كتفيها لتلصقها بظهر الاريكة ، لتعود للصراخ بأنفاس ذاهبة وبكبرياء انثى منتهك ما ان انقض على عنقها التي كشفت من تحت الوشاح بدون ان يسمح لها بالحركة او الدفاع بأقل حقوقها .
عندما بدأت تخسر قواها البدنية والنفسية اقتحم صوت انفتاح نصف الباب الموارب حتى ضرب الجدار بجانبه ، ليستقيم بسرعة من فوقها وهو يعدل من سترته ومظهره بعملية وكأن شيء لم يكن ، بينما الملقاة على الاريكة بحالة لا تحسد عليها كانت تنهض كذلك بجمود وهي ترفع الوشاح فوق شعرها بهدوء وانفاسها ما تزال تخرج بصعوبة تناقض نفسها .
ولم يقطع الصمت سوى صوت الدخيل بينهما وهو يقول بجمود جاد بعد المشهد الذي رآه امامه
"ما لذي يحدث هنا ؟"
ردت عليه التي ما تزال تمسك بطرف وشاحها بصوت مشتد لا حياة به
"لقد كان مجرد نقاش بيننا خرج عن المألوف"
نقل نظراته بينهما ببرود حتى استقر بالنهاية عليها وهو يلاحظ ارتجاف يدها التي تمسك بطرف الوشاح ، ليقول بعدها بابتسامة باهتة يجاري سياق الحديث
"وهل يتضمن النقاش الودي كل هذه الزوبعة ؟"
صمتت تماما وهي تعض على طرف شفاهها بحدة تكاد تدميها بفرط انفعالها وما مرت به من انتهاك علني تجاوز احتمالها ، ليقول بعدها (عمير) بمرونة وهو يلوح بيده بتصنع
"لا تقلق يا ابن حماي ، لقد كان مجرد نقاش بين زوجين وتطاول قليلا بالأيدي ، ولكنك ستعتاد على رؤيتنا هكذا كثيرا بالمستقبل"
تجمدت ملامحه وهو يلقي عليه نظرة شرحت الكثير مما هو مطمور بداخله بدون ان يراعي فرق السن بينهما ، ليقول بعدها باقتضاب بارد بدون ان يظهر اي مما يجول بداخله
"يبدو بأنك لم تفهم بعد حدودك يا خطيب شقيقتي ! فهي ستبقى زوجتك بالاسم فقط بدون اي تجاوزات اخرى حتى يحين موعد الزفاف الفعلي والذي يعلن به زواجكما امام العالم وتصبح بمنزلك ، وما دامت ما تزال تعيش بمنزل عائلتها فليس لديك اي حق بالتحكم بحياتها او ان تطالها يدك"
ساد الصمت بالمكان بأجواء باردة اشبه بالجليد ، ليتابع بعدها كلامه السابق وهو يشير بذراعه اتجاه باب الغرفة بأمر
"بما ان الزيارة قد انتهت وشبعت من رؤية خطيبتك ، يمكنك الخروج الآن من غير مطرود"
تجهمت ملامحه بلمحة خاطفة وهو يتلقى امر بالطرد من طفل لا يعادل نصف حجمه ولا نصف عمره ، ليبتسم بعدها بتصنع وهو يجتازهم اتجاه الباب قائلا ببرود
"حسنا سأذهب الآن لكي لا اطيل عليكم بالزيارة وازعج منامكم ، ليلة سعيدة"
ما ان اختفى عن نظرهما حتى ساد صمت اكثر ثقل على كليهما بعد الموقف الذي شهدوه فتح جراحها وعاد عليها بالألم ، لترفع رأسها بسرعة ما ان قال الواقف بالقرب من الباب بصوت خفيض
"هل انتِ بخير ؟"
تنفست بتهدج صامت وهي تهز رأسها بشبه إيماءة بدون كلام ، وبعد عدة ثواني كانت تسمع صوت خطواته وهي تغادر من الغرفة بهدوء شديد له وقع صاخب بقلبها ، لتفلت بعدها الحجاب الذي انسدل على كتفيها بارتخاء قبل ان تتبعها بجسدها الذي ارتمى جالسا على طرف الاريكة ، غطت وجهها بكفيها وهي تنتحب ببكاء صامت وبشهيق مزق خفقات صدرها المنتهك وحرق اعصابها التالفة التي بترت بمنتهى الضعف والانتهاز .
__________________________________
سارت بالرواق الطويل وهي تحمل الملف بين ذراعيها وتتحرك بشكل آلي مبرمج على العمل بلا هدف او روح ، وما ان وصلت للمكتب المطلوب حتى وضعت الملف على حافته وهي تقول بنبرة رسمية لصاحبة المكتب
"لقد جهزت الملف الذي سوف يتم توقيعه من قبل رئيس القسم ، ويمكنه الاطلاع عليه والتأكد من بنوده ومعلوماته كاملة"
ابعدت السكرتيرة عينيها عن الحاسوب وهي تلقي نظرة على الملف قبل ان تقول بعملية كما يفعل جميع الموظفين بالقسم
"جيد احسنتِ عملا"
تنهدت بهدوء وهي على وشك الانسحاب لولا التي قالت مجددا بصوت اختلف مئة درجة
"سيدرا هل هذا خاتم خطبة ؟ هل انتِ مخطوبة الآن ؟ متى حدث هذا ؟"
عادت بالنظر لها بمفاجأة وكأنها ليست من كانت تتكلم معها قبل قليل مثل ماكينة حاسبة قبل ان تبدأ بالتصرف معها بعفوية زائدة ! او هي طبيعة النساء اللواتي يتحولن لكائنات لطيفة محبوبة بدافع الفضول لمعرفة اخبار الغير وحشر نفسهن بمسائلهم الشخصية المتعلقة اغلبها بالخطبة والزواج وقصص الحب ، وكم تكره ذاك الصنف من النساء والتعامل معه والذي تتمنى ان يختفي من وجه الارض .
ضمت قبضتها بالخاتم بأصبعها البنصر وهي تخفضها للأسفل هامسة بابتسامة جامدة
"اجل لقد تمت خطبتي قبل شهر تقريبا ، وانا الآن مخطوبة كما ترين"
اومأت برأسها بانتباه شديد وهي تتابع استجوابها وكأن الامر يجذبها اكثر من العمل
"ومن هو سعيد الحظ الذي تمت خطبتك به ؟ هل يعمل معنا بالشركة ؟ ماذا يعمل ؟"
زمت شفتيها بضيق وهي على وشك فقدان اعصابها التي تحملت بالكثير منذ الامس وضغط آخر وسوف تفجر كل كبتها بهذه الفضولية المزعجة ، لتختار بدل ذلك الهروب السريع وهي تلوح بيدها هامسة بمرح مزيف
"اعتقد بأن هذه المسائل شخصية ولا احب مشاركتها مع احد ، والآن عن إذنكِ عليّ العودة للعمل فقد تأخرت بالفعل"
استدارت قبل ان تنتظر ردة فعلها والتي ظهرت واضحة على ملامحها بين دهشة واستنكار وغيظ وكلها بآن واحد ، لتكمل طريقها بسرعة من حيث جاءت بدون ان تفكر اكثر بنظرتها نحوها والتي ستكون تغيرت عن السابق ، لترفع بعدها قبضتها المضمومة وهي تشرد بخاتم الخطبة والذي قررت ارتدائه لأول مرة بالعمل منذ عقد قرانها ، وقد كان اسوء قرار تتخذه فقد حصلت على التعليق الاول من لحظات والقادم سيكون على الطريق ، فهي بعد ما حدث البارحة وتجنب للمشاكل قررت الاعتياد على الوضع الراهن بارتداء الخاتم بكل مكان والذي سبب لها عقدة نفسية منذ شهر فائت وحتى هذه اللحظة وكأنها تحاول مسحه ونفي حقيقة ما اصبح يثبته بحياتها .
توقفت بمكانها ما ان سمعت هتاف باسمها لتلتفت بسرعة لمصدر النداء وهي تخفي قبضتها خلف ظهرها لا شعوريا ، لترسم بعدها ابتسامتها الرسمية واكثر ما اصبحت تتقنه بفترة عملها وهي تقابل رفيقتها من نفس القسم ، لتقول بعدها وهي تدس خصلاتها تحت وشاحها الفوضوي والذي يظهر اكثر مما يخفي
"لقد جاء اتصال من قسم الاستقبال عن شخص يطلب رؤيتك ، لذا عليكِ ترك كل شيء من يدك والذهاب لمقابلته"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس بخفوت واجم
"من سيكون قد جاء لمكان عملي لمقابلتي ؟"
كانت ردة فعل الفتاة ابتسامة ماكرة وهي تربت على كتفها قائلة بغموض
"من يعلم ! ربما سعيد الحظ ! هيا اذهبي بسرعة واقتنصي فرصتك"
نظرت لها بحدقتيها الواسعتين ما ان غادرت من امامها بضحكة صغيرة سمعتها بوضوح ، لتنظر بسرعة لقبضتها المضمومة وهي تهمس بخفوت متوجس
"هل رأته يا ترى ؟"
تأففت بأنفاس ضيقة وهي تتحامل على نفسها وتجر خطواتها خارج القسم ، وبلحظات كانت تسير برواق الاستقبال وهي تجوب بعينيها قبل ان تتوقف بمكانها ما ان لمحت صاحب الزيارة المفاجئة وآخر ما كانت تتمنى رؤيته اليوم ، لتعبس من فورها بغضب ونفور اختلج بصدرها وتشنج بقلبها بدون ان تخفي خوفها الذي عبث بقوتها بعد تعرضها للانتهاك بالأمس ، ولولا رحمة الله وشقيقها الذي تدخل بآخر لحظة لا تعلم كيف كان سيكون مصيرها بعد تلك الليلة ! فأن يصيبها مثل ذاك الانتهاك القسري وقبل اعلان زواجها ورغم عن إرادتها كانت تمنت الموت اهون لها من ذاك المصير والقدر !
استغفرت ربها كثيرا وهي تملئ رئتيها بالهواء اللازم وتشحن نفسها بالمزيد من القوة ، لتتقدم بعدها بخطواتها نحوه بدون ان تحيد بنظراتها عنه حتى التقطها اخيرا وهو يلوح لها بباقة الازهار التي احضرها معه ، وما ان وقفت مقابلة له حتى سبقته بالكلام وهي تقول بأمر جامد
"لن نستطيع التكلم هنا على العلن ، اتبعني للخارج"
تحركت قبل سماع الاجابة منه وهي تخرج من باب الشركة باندفاع ، لتتوقف بعدها عند المدخل وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها ناظرة لحركة السيارات من بعيد بعيون فارغة ، لتسمع بعدها صوت خطواته وهي تقف بالقرب منها بعث الخوف بفقرات ظهرها التي تجمدت باستقامة ، وما زاد الرجفة بأطرافها هو صوته الذي وصل لها بوضوح وهو يقول بتودد وكأن شيء لم يكن
"انا سعيد جدا بمجيئك لاستقبالي والسماح لي بالحديث معكِ ، لقد ظننت بأنكِ ستتجاهلين وجودي بعد ما حدث......"
قاطعته (سيدرا) بصوت مشتد مثل الوتد بدون ان تستدير له
"ماذا تريد مني يا عمير ؟ وما لذي احضرك لمكان عملي ؟"
تنفس بهدوء وهو يحاول تجميع الجمل من جديد ليقول بعدها بابتسامة عريضة وهو يمد الباقة لها
"لقد اتيت اليوم للاعتذار منكِ وطلب السماح ، وهذه هدية صغيرة تعبر عن مدى اسفي وحزني لما جرى بالأمس ، واتمنى ان نبدأ معا بداية جديدة اخرى بدون اي خلافات او مشاكل"
التفتت نحوه بنصف وجهها وهي تنظر لباقة الازهار بعدم اهتمام قبل ان ترتفع لوجهه وهي تهمس بتعجب ساخر
"هل تطلب مني مسامحتك بإهدائي باقة ازهار ؟ بعد كل ما فعلته وتجرأت عليه تأتي الآن وتطلب السماح حاملا باقة ازهار ! حتى لو احضرت لي كل هدايا العالم لن انسى ثانية واحدة مما جعلتني اعيشه بالأمس"
عبست طرف ابتسامته بدون ان تتغير ملامحه وهو يلوح بالباقة جانبا قائلا ببرود شديد
"هذه هي امكانياتي التي استطيع تقديمها لكِ ، وألا ماذا كنتِ تتوقعين ان افعل ؟ ان اركع لكِ واتوسل إليكِ لتسامحيني على زلتي !"
حدقت به بجمود لبرهة قبل ان تقول بشبه ابتسامة ساخرة
"لا لن تفعل ذلك ، فأنت رجل ذو كبرياء وشموخ عالي لن يسمح لك غرورك وتبجحك من ان تركع امام فتاة عاملة مثلي صادف ان اخطئت معها ، لأنك ببساطة ترى بأنك اعلى مستوى منها وارفع من ان تنزل من اجلها ، وهذا هو المفهوم المتخلف عند اغلب رجال العالم والذين لا يستطيعون الاعتراف بأخطائهم وعيوبهم ولكنهم يجيدون البحث عن عيوب المرأة واصابتها منها !"
تلبدت ملامحه بصمت وهو ينفض الباقة للأسفل قائلا بهدوء جاف
"لقد بالغتِ كثيرا بغضبك اتجاه هذا الامر ، وكل الذي حدث مجرد حادث بسيط لا يدعي كل هذه الجلبة ، واكثر شيء امقته بحياتي هو الدلال والتمنع بأبسط الاشياء وكأنني اكلت شيء بكِ !"
نظرت له بصدمة حتى استدارت على كلتيها وهي تضرب بقبضتها بالهواء قائلة باستنكار منفعل
"تقول دلال وتمنع ! ألا تدرك حجم فعلتك التي ارتكبتها بحقي ؟ لقد كدت تغتصبني رغم إرادتي ! هل تراه امر من السهل التجاوز عنه !"
عقد حاجبيه بتجهم وهو يتقدم خطوة اخرى قائلا بتوضيح بارد
"اغتصاب كلمة كبيرة بحقنا ولا تناسب المحتوى ! انا افضل ان اسميها علاقة شرعية تربط زوجين مع بعضهما ، وبسبب خلاف نشب بينهما اضطر الزوج لتعليم زوجته بعض اصول الادب والتهذيب بطريقته ، هكذا يكون المفهوم اكثر رقي ولطفا"
شددت على اسنانها بارتجاف الغضب وهي تقول من بينهما بضراوة كبريائها المكسور
"لم اصبح زوجتك بعد ، وانت عليك التزام الحدود حتى ذلك الوقت ، وفعلتك الاخيرة لن اتجاوزها ولن اغفرها لك حتى اموت ! والآن ابتعد عن طريقي بسرعة"
ما ان حاولت تجاوزه حتى كبل ذراعها وهو يعيدها امامه من جديد بالقوة ، ليقول بعدها بخشونة هادرة لأول مرة تظهر منه
"لا تستطيعين تجاوزها ولا تريدين ان تغفري لي ! لو كان ذاك المجرم مكاني هل كنتِ ستسامحينه ؟ هل كنتِ ستغفرين له افعاله بعد كل شيء ؟ هل كنتِ ستبقي غاضبة منه كما تفعلين معي ؟"
فغرت فاها الجميل بأنفاس مشدوهة وهو يدخل شخص غاب عنهما شهر كامل وفقط حديثه يجلب الحنين لقلبها المغدور لينزف من جديد ، زفرت انفاسها بقوة وهي تحاول تحرير ذراعها بحركة بطيئة لكي لا تلفت الانتباه من حولها هامسة بشراسة
"هل جننت ؟ ما لذي تهذي به الآن ؟ هيا اتركني حالاً قبل ان نلفت الانتباه ويراني احد من زملائي ، لا اريد ان اشوه صورتي بنظرهم بسبب جنون عظمتك"
شدد اكثر على ذراعها حتى كاد يكسرها وهو يقول بتصلب قاتم
"ماذا ؟ هل تنكرين ؟ ألم يكن كلامي صحيحاً ؟ ألم يكن هذا ما سيحدث لو كان ذاك المجرم امامك ؟ هيا اعترفي يا سيدرا"
هدئت قليلا عن الحركة وهي ترسم ابتسامة قاتلة على محياها لتهمس بعدها تبصق الكلام بوجهه
"ذاك المجرم الذي تتكلم عنه باستمرار اشرف منك ومن كل امثالك ، ولولا ذاك المجرم لما استطعت الحصول عليّ واجباري على هذه العلاقة المريضة بعد ان استخدمته الطريق للوصول لأهدافك ، يعني انت الذي وضعته بيننا وادخلته بهذه العلاقة وبوجه المقارنة بينكما ، لذا تقبل الخسارة باستسلام ولا تقاوم اكثر"
تجمدت ملامحه بصدمة وهي تستغل الموقف لتستل ذراعها بسرعة ، وما ان خطت خطوتين بعيدا حتى انتبهت لباقة الازهار التي سقطت منه ارضا لتدوس عليها بكل قوة وهي تهمس بحقد
"هذا هو ردي على هديتك ، واتمنى ألا تعيدها مجددا وتجلب لي المزيد من هذه الهدايا والتي سيكون مصيرها جميعا الموت"
سارت بعدها بسرعة اتجاه باب الشركة بدون ان ترى نظراته التي تبعتها بغضب مطمور ، ولكنها لا تعادل غضب الفرد الثالث الواقف مقابل الشركة تحت ظل الشجرة وهو يشاهد ما حدث بأعصاب نارية اشتعلت بسيجارته التي سقط رمادها على صدره علها تخفف من لهيب ذاك المرجل ، ولم يشعر بأصابعه التي كسرت السيجارة نصفين قبل انهائها بغضب جحيمي بدأت بوادره بالخروج على العلن .
______________________________
كانت تتبعه بصمت وهي توزع نظراتها الهادئة بأنحاء المكان المتواجدة به بدون ان تظهر اهتمام كبير بما تراه ، ولن تنكر فخامة ورقي الشركة التي دخلوا لها واختارتها ليكون واسطة بها وتحقق طموحها الأول بالعمل بمجال دراستها ، وبسبب قلة العاملين بهذا الوقت المبكر كان المكان فارغ تماما لا يسمع به سوى صوت وقع اقدامهما المزدوجة على الارض الصلبة المصقولة تتردد صداها بكامل الممر ، وهي تشعر برهبة وكل انواع المشاعر تتنافر بداخلها من غرابة كل شيء يحوم حولها وكأنها بحركة خاطئة إذا كان بطريقة سيرها قد تكسر الارض تحتها او هروب يدها لتلمس شيء لا يجب لمسه قد يتسخ او يخدش ، وهذه المشاعر لا تنتابها ألا عندما تكون موضع الانتباه وكل الاخطار تحدق من حولها بخوض مجازفة بحياتها وبحياة الغير الذين يترقبون النتيجة التي ستخرج بها والعواقب التي ستنجب عنها .
استغفرت ربها بوجل وهي تشدد على يديها بانضباط تحصر كل المشاعر بقوقعة صمتها وتوصد عليها بالقفل ، وما ان انتهى الطريق الذي ظنت بأنه لا نهاية له حتى قابلها باب المكتب والذي فتحه الرجل المتقدم عليها بعد طرقتين قويتين ، لتجتاز بعدها إطار الباب وهي ما تزال تتبع طريقه الثابت بدون ان تحاول إطالة النظر لصاحب هذا المكتب والذي يكون رئيس هذا القسم والذي سوف تعمل تحت امرته .
توقفت باستقامة ما ان وقف قائد سيرها امام المكتب مباشرة وهي ما تزال تحتفظ بمكانها خلفه ، ليباشر بعدها بالكلام وهو يقول بصوت جهوري واثق كما هيئته
"نهارك سعيد يا مهندس إياد ، لقد جئت إليك اليوم بطلب وانت تعلم بذلك مسبقا فقد اخبرتك بكل المعلومات برسالة نصية ، قد نكون مبكرين بعض الشيء ولكن العمل عمل ، تعلم ذلك صحيح ؟"
ادارت مقلتيها بعيدا وهي تتأمل ديكور المكتب الفخم والذي لا يقل فخامة عن باقي ارجاء الشركة وكأنها قطعة كريستال غالية تحمل اقسام وفروع بقلبها ، لتنجذب بعدها لصوت صاحب المكتب وهو يجيب بكل رسمية ذو نبرة غرور عالية
"اجل لقد وصلتني الرسالة وقرأت المهم منها ، ولكن اين هي فتاة الوظيفة المقصودة ؟ فأنا عليّ التعرف عليها وجها لوجه لأستطيع ان اقرر ان كانت تستحق هذه الوظيفة ام لا !"
تغضن جبينها بضيق بدون ان ترى شيء من ذاك الرجل المتعالي ، ليأتي التعليق التالي من صاحب الواسطة وهو يقول بصوت اشتد بتحذير
"انتبه على كلامك يا صديقي ، فأنت تتحدث مع شخص ذو نفوذ عالية ويملك سلطات اعلى منك ، وهذه الفتاة من جهتي وتعلم ماذا تعني واسطتي والتي تسمح للشخص المختار بالتوظيف بكل سهولة ويسر ، لذا راجع كلامك جيدا"
اجابه من فوره بعملية وكأن كل اجوبته مدروسة
"هذا ما سيتحدد عندما نرى الفتاة وتتم معايرتها حسب الاصول والشروط ، ولا تقلق عليها فأنا من اجلك سأكون بالغ الحرص والرقة معها وهذا لأنها من واسطتك"
كان على وشك الرد عليه لولا التي تدخلت لأول مرة وهي تعرض نفسها امامه قائلة بابتسامة رسمية تزرع القوة والثقة بهيئتها الخارجية
"لا بأس يا سيد علام ، انا سوف اخوض كل تلك الاختبارات وكل المصاعب لأحصل على الوظيفة بجهدي الشخصي ، ولا امانع لو تعرضت للقليل من المعايرة او الانتقادات بطريقي لذلك ، فهذا يحدث دائما بطبيعة الحالة"
جذبت نظره وهو يأخذ وقته بتأملها عن كثب من قدميها بالحذاء الرياضي الابيض مرور على ملابسها السوداء حتى شعرها المعقود للخلف بشكل ذيل حصان ، بينما كانت هي بالمقابل تمرر نظرات سريعة على صاحب القسم والذي يظهر عمره بمنتصف الثلاثين ذو لحية قصيرة مهذبة واناقة تنضح بملابسه وشكله وهي تدل على مكانته الرفيعة بالمجتمع إذا كان بالحياة الشخصية او بالحياة العملية ، ليرجع ظهره للخلف وهو يعلق بالنظر عند عينيها الزرقاوين الساحرتين بلونهما الفريد قائلا بابتسامة ساخرة ببعض الإعجاب
"لم اكن اعلم بأن لديك مثل تلك المادة المثيرة ! ولكن لا اعتقد بأن سماتها الخارجية ستكون كافية لها لمساعدتها باجتياز كل تلك الاختبارات ، لذا عليها ألا تضع كل الاعتماد على مظهرها الخارجي فقد تخيب ظنك بها"
تجمدت ابتسامتها الرسمية وهي تقول بتصلب بدون ان تترك تواصل العيون الحجرية
"يبدو بأن نظرتك هي التي حكمت على المظاهر مباشرة ، وهذا يدل فقط على نظرتك المتسرعة للأمور والتي تنظر من جانب واحد وهو الذي جذب انتباهك وتركز عليه مفهومك"
غاب المرح عن ملامحه بثانية وهو يتابع كلامها الذي لم يتوقف عند هذا الحد وهي تهمس باحترام لا يمت للمودة بصلة
"اعتذر على وقاحتي يا سيدي المدير واصفح عني ، فأنا ما ازال مبتدئة هنا واحتاج للوقت للتأقلم مع محيطي الجديد ، ولكني اعدك ألا اخيب ظنك بي واعكس كل توقعاتك"
كان (علام) يحرك رأسه باندهاش بدون ان يظهر شيء على ملامحه فقط تغضن بسيط حول شفتيه فقد فاقت تلك الفتاة كل توقعاته عنها وكل الإشاعات التي سمعها بأن الوقاحة والتهذيب ليس بينهما باب وبأن الخداع عندها مثل بث السم بدم بارد ، ولم ينتبه لنظرات ذاك الرجل الذي تبدلت بشكل مختلف تماما غير تفكيره نحوها واعاد الإطالة بالنظر لها عن قرب مثل مادة على وشك تشريحها ودراستها تحت المجهر ، ليقطع بعدها الصمت الذي دار بينهم صاحب الصوت الجهوري وهو يقول بهدوء شديد
"إذاً يا سيد إياد ، هل نبدأ بإجراءات التوظيف الآن ؟ فليس لدينا اليوم بطوله نقضيه بمكتبك"
اومأ برأسه بحركة باردة بدون ان يفارق النظر لها وهو يفتح الملف امامه بصمت ، ليمسك بعدها بالقلم بجانبه وهو يقول بابتسامة مائلة
"اولاً اعطيني اسمكِ واسم دراستك ومجال عملك"
ردت عليه من فورها بصوت فاتر وكأنها تملي استمارتها
"اسمي ماسة ايمن الفاروق ، دراستي الجامعية هندسة اقتصادية ، تخرجت الفصل الماضي وانا الآن اريد وظيفة مكتبية بهذا المجال"
كان يدون المعلومات على الورقة وهو يتمتم بصوت خفيض
"اسم مثير للاهتمام مثل صاحبته"
رفع رأسه بعدها وهو يواجهها من جديد بتحديق متمهل قبل ان يتابع بعملية
"هل تملكين شهادتك الجامعية ؟"
زمت شفتيها بحركة تلقائية عند هذه النقطة لمحها بوضوح وهي تشيح بعينيها الزرقاوين سنتمترات قبل ان تهمس بخفوت مستاء وكأنها تكره نفسها على نطقها
"لقد كان من المفترض ان احصل على شهادتي الجامعية بالشهر الفائت ، ولكن بسبب تفويتي الاختبار التأهيلي بالجامعة لم استطع استلامها ، لذا انا مضطرة للانتظار حتى يعاد عقد الاختبار من جديد بالدورة القادمة"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يحك ذقنه بطرف القلم ليقول بعدها بعبوس تمثيلي
"إذاً هذا ما حدث ، ولكن للأسف لن يتم قبولك بالوظيفة بدون وجود الشهادة الجامعية ، فهي غرض مهم علينا توثيقه بسجلك يثبت مؤهلك"
غامت ملامحها بصمت بدون تعليق ليس بسبب شعورها بالاستسلام بل بسبب الذي سبقها بالكلام قائلا بحزم يظهر سلطاته
"لن اذكرك مجددا بأنني الواسطة التي تدعم هذه الفتاة ! ومهما كانت مدى صعوبة الامر فأنت ملزم بقبولها بهذه الوظيفة بأي طريقة ، وإذا لم تجد حل سريع ومختصر للأمر فلن اتوانى عن افساد القوة التي تحصل عليها هذه الشركة"
رمقه بطرف عينيه ببرود قبل ان يعود بنظره لمحور اهتمامه وهو يقول لها بابتسامة جادة
"احيانا نقدم استثناءات جانبية للذين يفتقرون للشهادة والخبرة بجعلهم يخضعون لاختبار بسيط بالمهارات العلمية تقيس معدل خبرته ومعرفته بهذا المجال ، وإذا اجتاز هذا الاختبار وحصل على درجة النجاح فهذا سوف يؤهله للحصول على الوظيفة ، وإذا لم ينجح وفشل بالاختبار فليس بيده سوى ان يصف مع طابور المعيدين بالدورة القادمة ، هذا اكثر ما استطيع تقديمه لكما"
عبست ملامح الواقف امامه وقد بدأ يفقد اعصابه وهو يقول باستنكار معترض
"وهل من الضروري تقديم مثل هذه الاختيارات ؟ ألا يكفي خبرة سنوات دراستها......"
قاطعته (ماسة) وهي تقول بموافقة مباشرة بدون ادنى تردد
"انا موافقة ، هل تسمح لي بتقديم الاختبار الآن ؟"
حدق بها بصمت ما ان اثارت اهتمامه من جديد وكأنها كائن يتغذى بالقوة التي تستمدها من نظرات البشر ومتسلح بالثقة العالية الغير معروف مصدرها ، ليفتح بعدها الدرج بجانبه بصمت وهو يخرج منه ملف آخر ، ليمسك بعدها بورقة الاختبار امام عينيها وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"انا انبهك قبل كل شيء هذا الاختبار قد يكون صعب عليكِ فهو يقيس مستويات عالية بمجال عملك ، وقد تقدم له اغلب المرشحين من الذين يملكون خبرة واسعة بالمجال ومع ذلك اخفقوا ، لذا لست متأكد بأن طالبة بعمرك قد تستطيع اجتيازه بدون دراسة او قابلية لخوض الاختبار"
اتسعت ابتسامتها بثقة اكبر وهي تمد كفها هامسة بخفوت
"لا تقلق يا سيدي ، فأنا شخص يحب تحدي المستحيل والخوض بالصعاب"
سلمها الورقة بيدها بصمت وهو يتابع حركة عينيها الزرقاوين اللتين انخفضتا للورقة بتركيز وخطوط ملامحها التي كونت تعابير جامدة استقرت على السكون المبدئي ، لتلتقط بعدها القلم الموجود فوق سطح المكتب ببساطة وهي تهمس بعفوية
"سوف استعير هذا القلم منك فقد نسيت قلمي بالمنزل"
ولم تكن تنتظر جواب منه فقد كانت تجلس على الكرسي امام المكتب وهي تضع الورقة على الطاولة الصغيرة وتحرك القلم بين اصابعها النحيلة بحالة شرود ، وبعد مرور خمس دقائق بتأمل ورقة الاختبار حتى بدأت من فورها بالكتابة بسرعة قياسية تجيب على الاسئلة الواحدة تلو الاخرى وكأنها محفوظة برأسها ، ولم يستغرق الامر سوى عشر دقائق قبل ان تسلم له الورقة جاهزة وهي تقول بابتسامة جانبية بانتصار
"لقد انتهيت يا سيدي ، ويمكنك الاطلاع على الاجوبة والتأكد منها جيدا"
قطب جبينه بتصلب وهو يأخذ الورقة منها ببعض العنف ليقلبها امام نظره بجمود ، وما هي ألا لحظات حتى كان يخفض الورقة من امامه وهو يتمتم بعبوس وكأنه يناقض نفسه
"لقد حصلتِ على الدرجة التامة ، مبارك نجاحك"
ابتسم (علام) بسعادة وهو يربت على كتفها قائلا بزهو يفتخر بإنجازاتها
"مبارك النجاح يا نابغة سنكِ ، لقد كبرتِ كثيرا بأعين الجميع فقط بمقابلة واحدة ، يبدو بأنكِ ستحدثين تغيير كبير وشامل بمجال عملك"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بخفوت ممتن
"شكرا لك"
قال بعدها الجالس خلف المكتب بملامح صلبة بدون ان يتنازل عن موقفه بعد ان شعر بالهزيمة
"الامر لا يتوقف فقط على الاختبار الكتابي ، هناك ايضا الاختبار الشفهي والذي يحدث بمقابلة عمل قبل قبولها بالوظيفة......"
قاطعه (علام) بصوت صارم اظهرت الجانب الآخر من شخصيته الهادئة
"ماذا كنا نقول يا إياد ؟ لا تفسد علاقتنا الودية بين بعضنا بسبب شروطك وقواعدك بالعمل ، لقد طلبت منها اختبار وقدمته وحصلت به على الدرجة التامة ، ماذا تريد منها ان تقدم لك اكثر من هذا ؟ ألم تناسب معاييرك بعد ؟"
تلبدت ملامحه ببرود وهو يخرج ورقة اخرى من الملف امامه ، ليمدها لها بجمود وهو يقول بنبرة موجزة
"هذه استمارة توظيفك عليكِ تعبأتها كاملة ، وغدا عليكِ المجيئ مبكرا للمباشرة بالعمل وسيكون عندها مكتبك الخاص بكِ جاهزا"
برقت حدقتيها الزرقاوين بلمعة انتصار التقطها حتى زادت تجهم ملامحه وكأنه اعطاها بطاقة احلامها الذهبية ، لتمسك الورقة بيديها بحذر وهي تبتسم له هامسة بمودة خادعة
"شكرا لك يا سيدي على منحي ثقتك ومكان بقسمك ، اتمنى ألا اخيب ظنك بي واكون دائما عند حسن اختيارك"
اختلق ابتسامة ملتوية وهو لا يصدق اي كلمة مما قالته فهذه الفتاة غير صادقة ابدا فقط بالنظر لها يعرف بأنها تجهز له كمين بلطافة خادعة ، ويراهن بأن حياتها الشخصية حافلة بالكثير من المشاكل والكوارث ، ليغير بعدها وجهة نظراته للواقف بجانبها ما ان قال بصوت خشن مهدد
"سوف اترك هذه الفتاة برعايتك وتحت عهدتك ، لذا حاول الانتباه لها وابقاء عينيك عليها ، فهي بمثابة ابنتي الروحية ولن اسامحك لو حدث ما يسيء لها ، وتعلم جيدا بأن تهديدي لا مزاح به !"
حرك رأسه بعدم اهتمام وهو يهمس بابتسامة اقرب للسخرية
"ابنتك بأيدي امينة ، لذا لا تقلق من شيء يا سيدي ، وإذا صادف حدوث اي مشاكل كبيرة فأنا سأتصل بك بنفسي"
تجعدت زاوية ابتسامته وهو يقول ويلوح بيده مغادرا من المكان
"إذاً إلى لقاء آخر ، واوصل سلامي لمجلس الإدارة بالشركة"
تحركت (ماسة) وهي تضع القلم مكانه فوق سطح الطاولة هامسة بهدوء
"شكرا لك على قلمك ، لقد ساعدني كثيرا"
اوقفها ما ان ابتعدت عن سطح المكتب وهو يقول بتساؤل مرتاب
"كيف استطعتِ حل قائمة من الاسئلة بغضون عشر دقائق بدون ان يكون لديكِ خلفية عنها ؟"
صمتت لبرهة وهو يتأمل سكونها قبل ان تقول بصوت طبيعي بعفوية
"لقد خضت من قبل اختبارات كثيرة من ضمنها تنافسية ودولية لأحصل على مقعد مجاني بالجامعة واكسب المنحة الدراسية ، وهذا الاختبار كان يتبع نفس نمط ونوع الاسئلة التي كنت اخوضها بكل اختباراتي ، ومن كثرة ما مرت عليّ حفظتها بعقلي حتى اصبح من السهل تذكرها ، هذا هو السبب الذي ساعدني بحل الاختبار بسرعة"
ضاقت عيناه وهو ينظر لها بغموض وهي تستدير بعيدا عنه وتلقي بذيل حصانها للخلف قبل ان تغادر بسرعة برفقة والدها الروحي كما يدعي والذي كان ينتظرها ، حتى اختفى كليهما خلف باب المكتب الموارب بلحظات ، اخفض نظره وهو يرفع ورقة الاختبار من جديد وكأنه يتأكد من صحة الاجوبة بدون ان يقتنع بأن فتاة مثلها تملك تكوين عقلها موجودة بالكرة الارضية ، وهذا يعني بأنها قد تحدث تغيير واضح بمسار العمل وقد يكون بحياته ايضا !

نهاية الفصل........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن