الفصل الثاني والثلاثون

215 5 3
                                    

خرجت من السيارة وهي تمسك الكتب بذراعيها لتغلق الباب بوركها بقوة ، لتسير بعدها بخطوات هادئة باتجاه البناء امامها قبل ان تبدأ بقرع جرس باب المنزل المقصود ، وما هي ألا لحظات حتى انفتح الباب بقوة ليستقبلها الطفل الصغير بابتسامة عريضة وهو يقول بسعادة مليئة بالبراءة
"المعلمة روميساء هنا ! يا لسعادتي الكبيرة التي لا تتسع الكون !"
ابتسمت بحنان تدفق بمحياها حتى تغضنت زوايا حدقتيها الخضراوين وهي تهمس بمودة
"لقد جئت إليك من اجل الاطمئنان عليك فقد تغيبت كثيرا عن المدرسة ، وقد فاتك دروس كثيرة مهمة لتباشر بالدراسة من اجل اختبارات نهاية الفصل ، وانا لا اتوقع من تلميذي النجيب سوى درجات متفوقة وامتياز عالي مثل كل فصل ، ألا إذا كنت قد بدأت بالتكاسل واثباط عزيمتك والهبوط عن الدرجات المتفوقة !"
تبرمت شفتيه بعبوس وهو يلوح بقبضته قائلا بهمة عالية
"لا لن يحدث فأنا سأبقى تلميذك المتميز دائما والذي لن ينزل عن المرتبة الأولى ، ولكني بالفترة الاخيرة قد اصبت بالمرض وارتفعت حرارتي واخذني ابي للطبيب ، لذا منعني ابي من القدوم للمدرسة حتى اتماثل للشفاء ، ولم ارغب ابدا بالتغيب عن المدرسة فقد شعرت بالوحدة والحزن بعيدا عنكم"
تشنجت ملامحها حتى اختفت الابتسامة عنه وهي تلحظ لأول مرة وجهه المتشرب بحمرة المرض وهي تملئه بقع حمراء كبيرة ، لتتمسك بعدها بالكتب بين ذراعيها وهي تهمس بابتسامة عطوفة
"لم اكن اعلم بهذا يا صغيري ، سلامتك من كل مكروه ، وعلى كل حال لقد اخذت الإذن من والدك لزيارتك اليوم وتعويضك بالدروس التي تغيبت عنها وعليك مراجعتها للاختبارات ، لذا هل تمانع باستقبالي بمنزلك اليوم ؟"
اتسعت ابتسامته بشقاوة وهو يفسح لها المجال للدخول قائلا بترحيب سار
"تفضلي يا معلمتي ، انتِ مرحب بكِ بأي وقت وساعة ودقيقة وبكل زمان ومكان ، فهذه الزيارة لا نحصل عليها كل يوم"
حركت رأسها بيأس وهي تتجاوزه هامسة بمرح
"يا لشقاوتك يا عفريت ! من اين لك كل هذا الكلام ؟"
وقفت بمنتصف بهو المنزل والذي دخلت له للمرة الثانية وهي تضع الكتب فوق الطاولة المستديرة ، لتستقيم بعدها بمكانها وهي توجه نظرها للطفل الذي اصبح امامها لتقول له بهدوء
"متى يعود والدك من العمل عادةً ؟"
عقد حاجبيه الصغيرين وهو يقول بتهذيب خافت
"احيانا يعود عندما تصبح الساعة الثامنة مساءً ، واحيانا يحتاج لمنتصف الليل حتى يعود واكون عندها قد خلدت للنوم ، ولكنه بالفترة الاخيرة بسبب مرضي اصبح يعود على الساعة السادسة من العمل"
اومأت برأسها بهدوء وهي تقول بتأنيب حازم
"وهل تستقبل اي احد يطرق على باب المنزل ؟ كما فعلت معي قبل قليل !"
حرك رأسه بالنفي وهو يقول بابتسامة بريئة
"لا بالطبع لأن معلمتي مختلفة عن الجميع ، وقد اخبرني ابي من قبل وحذرني بعدم فتح الباب او استقبال اي احد غريب سوى عائلتي والمقربين مني ، وهذا هو ما افعله دائما"
تنفست بابتسامة هادئة وهي تربت بكفها على رأسه قائلة بفخر
"احسنت يا بطل ، هذا هو الرجل الذي يعتمد عليه بحراسة منزله"
ابتسم بحياء زادت من احمرار وجهه وهو يشير بيده بجانب رأسه قائلا بثقة
"اعتمدي عليّ دائما"
نزلت يدها عن رأسه وهي تمسح على جبينه لقياس حرارته التي شعرت بها تلسع بشرتها من سخونتها ، لتنخفض بسرعة على ركبتيها وهي تمسك وجهه بين كفيها هامسة بخفوت قلق
"حرارتك مرتفعة جدا ! ألا تتناول الدواء الذي اوصى عليه الطبيب لحالتك ؟ ما لذي اخبرك به الطبيب بالضبط ؟"
ابتسم بهدوء وهو يمسك بكفها على وجهه هامسا ببحة المرض
"لا تقلقي يا معلمتي فقد قال الطبيب بأن هذه الحرارة ستبقى تلازمني حتى تختفي آثار الحصبة عني ، وسأحتاج لمهلة اسبوعين انعزال بالمنزل حتى اتماثل للشفاء التام"
سحبت يديها بسرعة عن وجهه وهي تنظر بعيدا هامسة بوجل خافت
"يا إلهي ! كيف لم يخبرني بذلك ؟ الحمد لله بأنني قد اصبت بالحصبة من قبل وألا لما كنت قد نجوت من العدوى !"
انتفضت تلقائيا ما ان استشعرت كفه الصغيرة على جبينها وهو يتبعها بالهمس بخوف طفولي
"هل اصبتِ بالمرض ايضا يا معلمتي ؟"
حركت رأسها بارتجاف وهي تنتصب واقفة برعشة خاطفة لتقول بعدها بابتسامة مضطربة
"بالطبع لا ، انا بخير ، الحمد لله على نعمة الصحة"
زفرت انفاسها بوجوم وهي تخلع الحقيبة عن كتفها لتضعها فوق الطاولة بجانب الكتب ، لتنظر بعدها نحوه وهي تكتف ذراعيها قائلة بحزم جاد
"حسنا ، قبل كل شيء هل تناولت دوائك اليوم ؟"
حرك رأسه بالنفي وهو يهمس ببساطة
"لا ليس بعد ، فلن استطيع تناول الدواء ألا بعد تناول الفطور"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بخفوت عابس
"ألم تتناول الفطور مع والدك قبل خروجه للعمل ؟ لما كل هذا التأخير بتناول وجباتك ! هكذا لن تتحسن صحتك إذا لم تتناول الدواء"
اجابها (سامي) بهدوء مبتسم
"لقد غادر والدي للعمل مبكرا عندما كنت نائما ، فقد تأخرت اليوم بالاستيقاظ من النوم"
حركت رأسها بجمود قاتم لوهلة قبل ان تتنفس بيأس وهي تهمس بعزم
"إذاً لن نبدأ معك بالدروس قبل ان تتناول فطورك وبعدها دوائك ، وهذه الاوامر لا جدال بها ، مفهوم !"
اومأ (سامي) برأسه بطاعة بدون اي جدال ، لتقول بعدها بحيرة وهي تنشر نظراتها بالمكان
"والآن اين هو مكان المطبخ ؟"
امسك بيدها بسرعة وهو يسحبها قائلا بحماس
"انا سأرشدك للمطبخ"
سحبها بسرعة البرق قبل ان ينتظر ردها وهو يوصلها لمكان المطبخ ، وما ان اصبحت بداخله حتى طافت بنظراتها بالمكان الابيض النظيف المسمى مطبخ بديكور وتصميم انيق رغم بساطة شكله ، لتفيق من شرودها على صوت الطفل الذي قال بتودد
"المطبخ الآن تحت مسؤوليتك"
تقدمت (روميساء) بعيدا عنه وهي تتنقل بالمطبخ بخطوات حذرة وكأنها دخيل على مكان تجاوزت به مساحتها الخاصة ، لتصل بعدها امام الثلاجة والتي فتحتها من فورها وهي تنظر للمكونات الموجودة بداخلها ، وبلحظة كانت تبتسم بانتصار وهي تحرك رأسها جانبا قائلة بإنجاز
"لقد وجدنا لك الفطور المناسب والذي يغذي عقلك وجسدك"
اغلقت الثلاجة بوركها وهي تحمل المكونات التي تحتاجها لوجبة الفطور ، وبمهلة دقائق كانت تضع الشطائر على الطبق بترتيب وكأنها عادت الطاهية التي تتولى مسؤولية الطهي بالمنزل باستمتاع لم تشعر به منذ وقت طويل ، لتسير بعدها امام المائدة التي يجلس امامها الطفل قبل ان تضع طبق الشطائر عليه وهي تقول له بابتسامة حنونة
"هيا عليك ان تنهي فطورك بخلال دقائق لتستطيع تناول الدواء بسرعة قبل ان يفوت موعده وتغيب شمس الظهيرة"
ابتسم بحماس وهو ينظر للشطائر المصنوعة من خبز التوست قبل ان يقول بابتسامة حائرة
"ماذا يوجد بداخل الشطائر ؟"
كانت (روميساء) تغسل يديها تحت صنبور الماء قائلة بهدوء جاد
"لقد حشوتها بالبيض المسلوق مع النقانق وهي افضل وجبة صحية تتناول بالصباح ، ومن اجل ان تعطيك الطاقة اللازمة والتي تبدأ بها يومك"
امسك (سامي) شطيرة التوست وهو يقضمها بتردد ليقول بعدها ببهجة بالغة
"رائع ! انها لذيذة جدا ! شكرا يا طاهيتي"
ابتسمت بهدوء بشوش وهي تنظف الاغراض التي استخدمتها بالطهي هامسة بمحبة
"توقف عن الكلام وتابع تناول الطعام"
نظر لها (سامي) مطولا وهو يخفض الشطيرة قائلا بإحراج
"انا لا اتناول الطعام بدون ان يكون معه كوب حليب ، وقد اعتدت ان يحضره لي ابي كل يوم مع وجبة الطعام"
التفتت نحوه وهي تهمس بابتسامة مرحة بلطف
"حاضر يا سيدي الصغير ، اهم شيء ان تكون مرتاح بفطورك ، وايضا الاكثار بشرب السوائل جيد بحالة مرضك"
اخذت دقائق وهي تحضر الحليب قبل ان تسكبه بكوب زجاجي والدخان يتصاعد منه بسخونة ، لتقدمه بعدها للطفل المنتظر وهي تضع يديه الصغيرتين من حول الكوب الساخن هامسة بحنان امومي
"اشربه على مهل لكي لا تحرق لسانك"
اومأ برأسه وهي تبعد كفيها عنه قبل ان تعود لعملها على المغسلة وكأنها تلعب دور جديد بحياتها لم تجربه من قبل ، بل جربته مرة عندما كانت بعمر المراهقة وتهتم بطفلة تصغرها بخمس سنوات لا تعرف الاهتمام بنفسها وتعتمد عليها بكل امور حياتها ، وهي تردد بصميم قلبها بلا وعي تقريبا
"كم اشتقت لتلك الأيام !"
______________________________
بعد مرور عدة ساعات كانت تنظر للساعة بمعصمها لتتسع مقلتيها بلحظة وهي تهمس باندهاش
"يا ألهي ! الساعة تجاوزت السادسة ! لقد تأخرت كثيرا"
اغلقت الكتب امامها وهي توظب اغراضها بداخل حقيبتها بعجلة لتقول بعدها اثناء ذلك بنبرة عملية
"لقد كتبت لك كل التلخيص على كتبك وتم تدوين المواضيع المهمة على دفاترك ، لذا ادرس فقط ما تم كتابته بقلمي وركز على المفاهيم التي اخبرتك عنها ، هل هذا مفهوم ام اعيد الشرح مجددا ؟"
اومأ برأسه للأسفل وهو يقول بأدب
"حاضر"
وضعت حزام الحقيبة على كتفها وهي تحمل كتبها بذراعها لتلتفت بعدها نحوه وهي تربت بكفها على رأسه هامسة بمودة
"اعتني بنفسك جيدا يا صغيري ، وإياك وان تهمل بمواعيد ادويتك وبأوقات وجباتك من اجل ان تتحسن صحتك بسرعة ، ولا تخرج من المنزل او تحاول التواصل مع اي احد لكي لا تنقل له العدوى ، انتظر عودتك للمدرسة يا بطلي لذا حارب المرض وانتصر عليه لتستطيع العودة لنا وترفع رأسنا بدرجات عالية"
اومأ برأسه مجددا وهو يهمس بخفوت مبحوح
"اجل"
ابتسمت بهدوء وهي تسحب يدها لتحاول النهوض من مكانها قبل ان توقفها الكف الصغيرة التي تمسكت بذراعها بلمح البصر ، وما ان التفتت نحوه بدهشة حتى قال بصوت عابس حزين
"هل ستعودين لزيارتي مجددا ؟ فأنا لن استطيع الذهاب للمدرسة لأسبوعين كاملين وسأبقى منعزل بالمنزل لوحدي !"
مالت ابتسامتها برقة وهي تربت على كفه الصغيرة هامسة بعطف ودود
"لا تقول هذا يا صغيري ، فوالدك معك وبجوارك ، لذا انت لست وحدك......"
قاطعها (سامي) بعبوس حانق
"ولكنه ليس معي الآن"
احنت حاجبيها بأسى وهي ترفع كفها عن يده لتحط بها على رأسه قبل ان تهمس بابتسامة هادئة
"سأحاول المرور عليك وزيارتك إذا اقتضت الحاجة من اجل استكمال الدروس المهمة والاطمئنان على صحة صغيري ، لذا اريد منك ان تدرس بجد حتى يأتي ذلك الوقت"
ابتسم بسعادة غزت ملامحه المتعبة وهو يرفع اصبع كفه الصغيرة قائلا بلهفة
"عديني بأنكِ ستعودين لزيارتي"
نظرت لكفه الصغيرة للحظات قبل ان تعانق اصبعه الصغير بأصابعها الطويلة قائلة بوعد
"اعدك يا سامي"
وقفت بعدها على قدميها وهي تتمسك بالكتب بين ذراعيها لتلوح بكفها بحركة سريعة هامسة بلطف
"وداعا يا سامي ، وحمد لله على سلامتك"
تحاملت بعدها على نفسها وهي تتجه بسرعة لباب المنزل قبل ان يفوت اوان الهروب ، وما ان وصلت عند مدخل المنزل حتى تسمرت بمكانها لوهلة وهي تنظر للباب الذي انفتح بلحظة ليطل منه رجل المنزل الذي كانت تفكر بالهروب منه ، لتبتلع بعدها ريقها بارتباك طاف على ملامحها وهو يوجه لها نظرات مطولة اخذت لحظات وكأنه يتعرف على الكائن الذي اقتحم منزله للمرة الثانية ، وكم جلب لها الخزي والمهان فقط لكي ترضي وظيفتها المهنية والتي تعرضها لكل هذه المواقف !
قطع (يوسف) الصمت وهو يقول بابتسامة جانبية غزت ملامحه بوقار
"مرحبا معلمة روميساء ، سعيد برؤيتك مجددا ، لقد ظننتكِ قد غادرت منذ مدة"
زمت شفتيها بجمود وهي تهمس بهدوء عملي
"مرحبا سيد يوسف ، سررت برؤيتك كذلك ، لقد اخبرتك بزيارتي اليوم من اجل متابعة الدروس مع سامي ، ولكننا تأخرنا بسبب موعد تناول دواء سامي والذي عليه ان يكون بعد وجبة الافطار ، اعلم بأنه ليس لي علاقة بنظام حياتك ولكن سامي يحتاج للاهتمام بأدويته اكثر من ذلك وعدم الاستهتار بهذا الأمر من اجل صحته ، واعتذر على التدخل بهذا الشكل"
اومأ برأسه باهتمام وهو يقول بهدوء متزن
"اجل افهم موقفك تماما ، ولم اكن افكر بالتأخر عن موعد فطوره وتناوله للدواء ، ولكني كنت على عجلة من امري وعرفت بأنكِ ستفعلين هذا بدلا عني ، وشكرا لكِ على رعايته والاهتمام به بغيابي"
ارتفع حاجبيها ببهوت لوهلة وهي تهمس بخفوت متوجس
"كيف عرفت بأني سأفعل ذلك ؟"
حرك كتفيه بهدوء وهو يقول ببساطة
"ربما لأنكِ والدته الروحية !"
عقدت حاجبيها بتصلب اكتسح محياها وهي تقول بجدية هادئة
"حسنا توجب عليّ الرحيل الآن فقد انتهيت من المهمة التي جئت من اجلها ، طاب مساءك يا سيد يوسف ، وشكرا لك على قبول استضافتي بمنزلك"
ردّ عليها من فوره بابتسامة جادة
"لما لا تبقين عندنا على العشاء ؟ من اجل ان نستطيع ردّ جزء من جميلكِ علينا ، وسيفرح سامي بشدة بوجودك"
حركت كفها بسرعة برفض وهي تهمس بحياء استبد بها
"لا شكرا يا سيد يوسف ، هذا كرم بالغ منك ، ولكني الآن على عجلة من امري وكل ما فعلته بحدود وظيفتي وما يطلبه دور معلمة سامي ، وشكرا لك على عرضك"
انحرفت ابتسامته بهدوء وهو يقول بأسف
"يا لها من خسارة كنا سنسعد باستضافة معلمة سامي لتشاركنا بالعشاء ! ولكن يبدو بأنه ليس لنا نصيب بشرف الاستضافة"
ابتسمت بصعوبة وهي تقول من فورها بجدية
"حسنا بالإذن منك يا سيد يوسف ، عليّ المغادرة الآن"
تحركت خطوتين قبل ان تعود ادراجها وهي تنظر له بهدوء لتهمس بعدها بابتسامة غامضة
"لم تخبرني بالاتصال بأن سامي مصاب بمرض الحصبة ! ماذا لو التقطت العدوى منه واصبت بالحصبة ؟ ألا تعلم سرعة انتشار هذا المرض إذا لم تكن قد اصبت به من قبل وحصنت نفسك منه ؟ كيف لم تعلمني بهذا الامر الحساس !"
طال الصمت بينهما للحظات قبل ان يقطعه الذي قال بهدوء بدون ان يفقد ابتسامته
"اعلم بأنكِ لن تصابي بالعدوى لأنك سبق واصبتِ بالحصبة يا روميساء"
انفرجت شفتيها بارتعاش لتتدارك نفسها بغضون ثواني وهي تهمس بتوتر مضطرب
"ماذا ؟ كيف عرفت بذلك ؟ هل هذا مجرد تخمين ام يقين ؟"
اومأ برأسه بقوة وهو يقول بابتسامة واثقة وكأنه يلعب بأعصابها بمهارة
"بل هو يقين يا روميساء ، واعرف جيدا سبب اصابتك به ومن الذي نقل لكِ العدوى....."
قاطعته باندفاع وهي تلوح بذراعها بموجة عصبية نادرة
"هل تعلم ؟ لم اعد اهتم بذلك ؟ لا اريد ان اعرف شيء ! والآن وداعا يا سيد يوسف ، وحمد لله على سلامة ابنك"
غادرت بسرعة باتجاه الباب المفتوح وهو يتنحى جانبا لتستطيع المرور من امامه ، ليقول بعدها من خلفها بهدوء متزن
"رافقتك السلامة"
ما ان اختفت عن نظره بثواني حتى جذبه صوت الطفل الراكض وهو يصرخ بسعادة
"ابي"
استدار نحوه وهو ينحني على ركبتيه بلحظة ليستطيع ان يتلقاه بأحضانه ، وما ان طوق جسده بذراعيه حتى ربت على رأسه بحنان وهو يهمس بداخل عقله مكملا العبارة التي لم تسمح له بإكمالها
(لقد اصبتِ بسبب مخالطة طفل مصاب بالحصبة نقل لكِ العدوى بعمر الرابعة عشر ، وهو ما جعلك طريحة الفراش اسبوعين كاملين قهر عزيمتك لأول مرة واختفت معها روحك المحاربة)
_______________________________
وقفت امام باب المكتب وهي تأخذ عدة انفاس قوية لتملئ رئتيها بالهواء والذي تشعر به قد فرغ منها ، وكله بسبب تفكيرها بسوء وضعها وخزي حالها وشعور المهانة الذي يكاد يؤكلها ، وما هي ألا لحظة حتى عزمت امرها وهي تمسك بمقبض الباب وبيدها الاخرى كانت تطرق على سطح الباب بأدب ، لتفتح بعدها الباب على اتساعه ما ان سمعت صوته وهو يأذن لها بالدخول .
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تنظر للمكتب الذي طل عليها والجالس من خلفه يحدق بها بتركيز شديد ، لتحيد بنظراتها جانبا باضطراب شل حركتها ما ان قطع الصمت قائلا بهدوء مرتاح
"صباح الخير بالجميلة سيدرا ، كم هو رائع ان نبدأ نهار العمل بهذا الوجه الجميل !"
اومأت برأسها للأسفل وهي تهمس بخفوت
"صباح النور يا سيد عمير"
ابتسم بالتواء طفيف وهو يرجع ظهره لمسند الكرسي ليقول بعدها بتفكير غامض
"إذاً ماذا لديكِ تخبريني به يا سيدرا ؟ هل هي اوراق المراجعة التي طلبت منكِ تحضيرها بالرغم من استحالة انهائها بهذه السرعة ؟ او هل تكون مشاريع العمارة الجديدة ؟"
حركت رأسها بالنفي بدون ان تنظر له وشعور المهانة والخزي يتوسعان بداخلها مثل بؤرة سوداء شاسعة ، ليعود بعدها للكلام وهو يضم قبضتيه امام شفتيه قائلا بخفوت مبتسم
"إذاً ماذا يوجد بجعبتك ؟ هل هي وشاية جديدة عن زميلاتك بالعمل ؟ انتِ فقط اخبريني باسم واحد واعدكِ بأن لا ارحم احد......."
رفعت رأسها بسرعة وهي تهمس بعبوس متوجس
"لا ليس هناك شيء من هذا الكلام يا سيد عمير ، وايضا انا لست واشيه"
اتسعت ابتسامته بتسلية وهو يتقدم بجلوسه ليريح قبضتيه فوق سطح المكتب قائلا بهدوء
"سأحاول تصديق كلامكِ الاخير ، والآن اخبريني بما يزعجك ودفعك لتنطلقي لمكتبي مباشرة لتلجئي لمديرك بالعمل ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تهمس من فورها ببأس
"انا لا ألجئ ، بل اطلب امر وهو جزء من حقوقي بما اني موظفة بهذه الشركة"
اومأ برأسه وهو يجاري منطق كلامها ليقول لها باتزان بدون اي انفعال
"اجل اكيد وليس لدي شك بكلامك ، وانا مستعد لتقديم كل الدعم لكِ بأي امر تودين اخباري به"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تهمس بخفوت ممتعض من فرط شعورها
"انا مضطرة للتغيب عن العمل غدا بسبب موعد والدتي بالمشفى والذي سيحتاج وجودي هناك وملازمتي لها طول اليوم ، واعلم جيدا بأني سبق وتغيبت عن العمل الاسبوع الفائت من اجل نفس السبب ، ولكن ما حدث بأن الموعد قد تغير ليصبح هذا الاسبوع ، لذا هل تستطيع ان تعطين الإذن بذلك ؟"
كان يحدق بها بتمهل من رأسها حتى اخمص قدميها قبل ان يقول بهدوء جاد
"ألا يستطيع شقيقك التكفل بهذه المهمة والتغيب عن المدرسة بدل غيابك انتِ عن العمل ؟"
ارتبكت ملامحها وهي تهمس بحياء استبد بها
"شقيقي الصغير يخوض الآن اختبارات الثانوية العامة ، ولا يستطيع التغيب عنها بسبب اهميتها والتي تحدد مستواه الاكاديمي ، لذا ليس هناك حل سوى ذهابي بنفسي معها ، ولو كان باستطاعتي تأجيل الموعد ليوم آخر لما ترددت بفعلها"
حرك رأسه بدون ان يفقد ابتسامته وهو يقول ببرود مريب
"وماذا لو اخبرتكِ بأن وجودكِ مهم ولا نستطيع الاستغناء عنكِ ولو ليوم واحد ؟ فهي مثل اهمية اختبارات الثانوية العامة لأنها تحدد اجتهادك ومثابرتك بالعمل ، وليس هناك افضل منكِ يعمل بالشركة واستطيع الاعتماد عليه بكل امورها ، هل هذا الكلام سيجعلك تتراجعين عن طلبك ؟"
اتسعت حدقتيها البندقيتين بانشداه لبرهة قبل ان تهمس باستنكار عابس
"ما هذا الكلام يا سيد عمير ؟ انت تعلم جيدا اهمية ما اتكلم عنه ! وليس هناك اي نقطة مقارنة بينهما ! عليك ان تتفهم وضعي......"
قاطعها بضحكة صغيرة وهو يقول بابتسامة ملتوية
"اهدئي يا سيدرا ، لقد نسيتِ بأنني قلت كلمة مثل يعني مجرد سؤال بدون فعل ، فأنا مهما كنت صارما وقاسيا مع موظفين شركتي لن تصل بي ان اتشمت بحالهم او بظروفهم ، وخاصة مع موظفة مميزة من الافضلية عندي"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تهمس بخفوت عابس
"هل افهم من هذا بأنك قد رفضت طلب التغيب غدا ؟"
حك ذقنه بتفكير للحظات قبل ان يقول بابتسامة جانبية بهدوء
"وهل لدي خيار آخر غير الموافقة على طلبك ؟ فكل شيء يتعامل معه ألا رفض طلب للسيدة سيدرا ، وكلما زادت سعادة وراحة موظفتنا زاد عندها الانتاج بالعمل واستطعنا قطف ثمار مجهودها"
ابتسمت بحياء وهي تمسك بطرف حجابها هامسة بامتنان شديد
"شكرا جزيلا لك يا سيد عمير ، لن انسى لك جمائلك معي وسأبقى مدينة لك دائما ، كل الاحترام والتقدير"
اومأ برأسه وهو يريح مرفقيه على سطح المكتب قبل ان يقول بهدوء تبدلت ملامحه بغموض
"صحيح بخصوص موضوع الجمائل فأنا اذكر بأنكِ قد وعدتني بأن تردي لي خدمة شراء السمك لكِ ، ألم يحن الوقت المناسب لأطلب منكِ الطريقة التي ستردين بها تلك الخدمة !"
تجمدت ملامحها بشحوب وهي تشدد من القبض على يديها لتهمس بعدها بابتسامة مرتبكة
"اجل بالطبع سأكون اكثر من سعيدة برد ولو جزء بسيط من جمائلك عليّ ، ولكن ما هو نوع الخدمة التي تريد ان اقدمها لك ؟"
ردّ عليها من فوره بنبرة باردة
"هل انتِ حقا مستعدة لرد الخدمة التي اطلبها منكِ بأي طريقة كانت ؟"
اومأت برأسها بتردد وهي تقول بابتسامة واثقة
"اجل بالتأكيد كون على ثقة بأني سأكون بقدر وعدي ، حتى لو كان عمل صعب بالشركة ! او دوام بأيام العطل !......"
قاطعها فجأة بكلمة واحدة بوضوح
"دعوة"
سكنت بمكانها للحظة وهي تهمس بعدم فهم
"ماذا ؟!"
اتسعت ابتسامته بتسلية وهو يقول بجدية
"لما شحب لونكِ هكذا ؟ لقد كنت اقصد بالدعوة هي عزيمة على شرفي بمنزل موظفتي ! فأنا لم اتذوق طعام منزلي منذ زمن طويل ، وهذا إذا لم يكن لديكِ مانع بالطبع !"
تنفست الصعداء وهي تهمس بابتسامة شاحبة
"اجل بالطبع ، ليس لدي مانع ، ولكن هل انتِ متأكد من طلبك حقا ؟ فلا اعتقد بأننا سنكون على قدر ضيافتك......"
رفع كفه بصرامة وهو يقول بابتسامة مرتاحة
"لا بأس يا سيدرا ، فأنا لن اطلب منكم الكثير ولن اثقل عليكم ، فقط طعام من تحت يديكِ وبمائدة عائلية وبأجواء دافئة يكفيني"
اومأت برأسها بحذر وهي تقول بابتسامة عملية
"حسنا يا سيد عمير إذا كنت مصر على طلبك فلا بأس بذلك ، وانا سأختار لك اليوم المناسب واعلم عائلتي بالأمر ، واتمنى ألا تندم على قرارك هذا فيما بعد"
اومأ برأسه ببساطة وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"لا تقلقي يا سيدرا ، لن اندم على هذا طيلة حياتي ، وسأنتظر منكِ خبر على احر من الجمر ، لذا إياكِ وان تتهربي فقد اصبحتِ ملزمة بالإيفاء بالوعد"
اومأت برأسها مجددا وهي تحرك كفها بارتباك هامسة بهدوء ظاهري
"حسنا عليّ العودة للعمل الآن ، وشكرا لك على تفهم وضعي ، نهارك سعيد"
انسحبت من امامه وهي على وشك الرحيل قبل ان يهمس من خلفها بهدوء مريب
"ونهاركِ سعيد ايضا ، اتمنى لكِ يوم جميل شبيه بكِ"
ابتسمت بهدوء وهي تهمس بخفوت ممتن
"شكرا"
انحرفت ابتسامته بجمود وهو يحدق بالباب والذي اغلق من خلفها ليقول بعدها بترقب متلهف
"سأنتظر دعوتكِ بفارغ الصبر ، فلا تتأخري كثيرا بالقدوم"
________________________________
دخل للجناح بحلول الليل وهو يكمل طريقه باتجاه غرفة النوم بتعب هد حركته بالكامل وكأنه يحمل فوق ظهره طن من الاسمنت وبلوكات الطوب ، وكله بسبب قلة النوم التي يعاني منها منذ الامس وهو الذي لم يضع شيء بفمه منذ فطور المقبلات الذي اكتفى به ، قبل خروجه للعمل والذي انشغل به بعيدا عن مشتتات الحياة التي اصبحت تدور بحياته مؤخرا مثل حلقات قاتلة تضيق به كلما وجد مهرب لمصيبة ما ، من كان يصدق ان يصل به الحال لهذا الوضع المأساوي والذي كان ابعد ما يكون عن حياة (شادي الفكهاني) المثالية والاقرب للامبالية كما يرى الجميع ويفكر !
تنهد بإجهاد حركي قبل ان يكون معنوي وهو يفتح باب الغرفة بهدوء ، ليتسمر بمكانه لبرهة وهو يقابل نصف جسد الواقفة امام النافذة مخفية الملامح بستار شعرها الطويل بسواد الليل الموحش وهي ساكنة بهدوء الليلة المقمرة التي اختفت عنها النجوم ولم يتبقى سوى السواد اسير هذه الليلة ، ليتقدم بعدها عدة خطوات بعيدا عن الباب وهو يقول بابتسامة كسولة
"مساء الخير يا زوجتي العزيزة"
عندما لم تصدر اي حركة وقف من خلفها بصمت وهو يطوق جسدها بذراعيه العضليتين واللتين حشرتا جسدها بداخل احضانه بقوة كاسرة ، وبلحظة كان يهبط بجانب اذنها المكسوة بخصلات شعرها وهو يهمس بها بخفوت اجش
"كيف حالكِ يا ألماستي ؟ هل افتقدتني تلك الليلة والتي اختلت من عاطفتي ؟"
عض على طرف شفتيه ما ان قابله الصمت التام ليشدد اكثر من وثاقها وهو يضم قبضتيه امام خصرها ، ليقول بعدها بأنفاس هادرة بخفوت وهو ملتصق بأذنها
"ما بكِ يا ماسة ؟ هل اكل القط لسانك من الفرحة بعودتي ؟ ام هي اعراض ضربة شمس العاطفة التي لا تؤثر سوى بعديمي الخبرة مثلك ! ام هل هو شيء آخر لا اعرف عنه !"
عندما زادت فجوة الصمت بتوسع موحش ليرخي عندها ذراعيه قليلا وهو يرفعهما لكتفيها برفق ، ليقول بعدها بلحظات بجمود اختفى عنه المرح والذي لم يعد له مكان بينهما
"هلا فسرتِ ما يحدث معكِ ؟ هل حدثت مشاكل لا اعلم عنها بغيابي ؟"
كتفت ذراعيها بحركة متصلبة وهي تتبعها بالهمس بهدوء جاف
"هل يمكننا التحدث قليلا ؟"
تجمدت ملامحه بخطوط حجرية وهو يخفض ذراعيه بعيدا عنها ، ليدس بعدها كفيه بجيبي بنطاله وهو يقول ببرود ساخر
"انا من يجدر به قول هذا الكلام ! فقد نسيتِ بأننا قد اتفقنا ان نجري بيننا حديث مطول ما ان نعود للمنزل ، وبما ان الامس قد انتهى وعدت للمنزل اليوم فقد حان الوقت للبدء بذلك الحديث المطول والذي يكون اهم من الكلام الذي تفكرين بقوله الآن !"
انتصب ظهرها وهي تستدير نحوه بهدوء مهيب قبل ان تصبح مقابلة له وهي تهمس بتعبير بارد
"انا جادة تماما"
اخفض نظره قليلا وهو يتنقل بوجهها البارد التقاسيم والذي لا ينم على شيء عندما تكون بأقصى حالات برودها المجردة من الحياة ، ليتنهد بعدها بملل وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا بخفوت حاد
"ماذا حدث معكِ الآن ؟ هل عدت لشخصية الفتاة العدائية ! هل افهم من هذا بأنكِ تريدين بدء حرب باردة جديدة معي ؟ انتِ حقا عليكِ ان تحصلي على وسام الافضل بإفساد الحياة الجميلة والهانئة !"
امتعضت ملامحها وهي تهمس من بين اسنانها بقنوط
"هل انتهيت لأن هناك ما اريد التكلم عنه يخص حياتنا الحالية ؟"
ارتفع حاجبيه بتعجب ساخر وهو يرفع كفيه عاليا بعلامة الاستسلام قائلا بتشدق
"هل تعلمين ماذا ؟ افعلي ما تشائين لأني اشعر بالتعب الآن وليس لي مزاج لخوض اي حرب كلامية معكِ بهذه اللحظة بالذات ! طاب مساءك يا عزيزتي"
رفعت حاجبيها بصدمة وهي تنظر له يغادر من امامها باتجاه الخزانة ، لتلحق به من فورها وهي تقول باستهجان غاضب
"لا يمكنك تجاهل كلامي بهذه البساطة ، فما اريد التكلم عنه مهم جدا ويتحدث عنك انت بشكل خاص !"
فتح باب الخزانة وهو يقول بلا مبالاة
"ليس لدي وقت لمثل هذه المواضيع الفارغة والتي ستجلب لي وجع الرأس"
شددت من القبض على يديها وهي تهمس بقهر حاقد
"اجل ولديك الوقت بمساعدة الحوامل وليس لديك الوقت لزوجتك ، هل ترى هذا منصف بحقي ؟"
تجمدت يده على باب الخزانة قبل ان يستدير نحوها بلحظة وهو يقول بابتسامة جانبية باستهزاء
"رائع يا ماسة ! هذه طريقة جديدة بعتابي ولومي فقط لتصلي لهدفك واستمع لثرثرتك ، يا لوقاحتك يا زوجتي العزيزة !"
زمت شفتيها بعبوس وهي تمسك بذراعه قبل ان يستدير مجددا لتهمس له بخفوت حذر غير مبالية بغضبه الحالي
"هل عائلة زوج والدتك ما يزالون يبحثون على شقيقتك ميرا بعد هروبها من البلد ؟"
عقد حاجبيه ببطء وهو يقول بهدوء جامد
"اجل صحيح ، ولكنهم لم يستطيعوا إيجادها بسبب تغييرها لاسمها الحقيقي ، ولكن ما سبب هذا السؤال !"
شددت اكثر على ذراعه بدون ان تتخلى عنها وهي تهمس بخفوت مشتد
"وهل هم بكل هذه الخطورة التي قد تهدد سلامة حياتنا الزوجية ؟"
انعقد حاجبيه بشدة اكبر وهو يقول بهدوء جليدي
"بالنسبة لهم فنحن لا شيء امام جبروتهم وجذور عائلتهم التي تعود لأصول غربية ، يعني يمكنك القول بأنهم ما ان يضعون يدهم على شيء يريدونه فأنهم يستطيعون الاستيلاء عليه بكل سهولة ، وبخصوص قصة ميرا فهي قد اصبحت من الامور التي عليهم الاستيلاء عليها ونفيها من الوجود وليس بعيد عنهم ان يدمروها ويقتلوها...كما حدث مع والدتي"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بانتباه وهي تهمس بتوجس عابس
"ماذا حدث مع والدتك ؟"
نظر لها للحظات قبل ان يحرك كتفيه ببرود وهو يقول بعدم اهتمام
"قصة قديمة ، ما فائدة التكلم عنها الآن ؟"
عضت على طرف شفتيها بثبات وهي تهمس بكل ما تستطيع بتصميم
"لو علموا بأنك تساعدها بالاختباء منهم ، فهل هذا سيدخلك برأسهم وبخطة نفيك عن الوجود ؟"
ضيق عينيه السوداوين وهو ينفض ذراعه بعيدا عن يديها قائلا بجفاء
"وكيف لي ان اعلم ! هل ترينني اقرأ الافكار او شيء مشابه ؟ توقفي عن هذه الاسئلة الغريبة فقد بدأت تضايقني بشدة !"
عبست ملامحها وهي تراه يستدير امام الخزانة لتقول بعدها بحدة تمردت عليها
"هل تعلم بعودة زوج شقيقتك المزيف ؟"
ساد الصمت للحظات قصيرة وهو ما احتاجه صاحب الجسد الذي استدار نحوها مجددا وهو يقابلها هذه المرة بنظرات احتدت فجأة ، ليأخذ بعدها عدة انفاس قوية وهو يتبعها بالهمس ببرود جليدي يحسد عليه
"من اين سمعتِ هذا الكلام ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك تمكن منها وهي تهمس بثبات ظاهري
"يمكنك القول بأنه قد وردني اتصال"
غامت ملامحه بتصلب اكتسح محياه وهو يهمس من بين اسنانه باستياء
"هذا يعني بأنها كانت على حق ، ولم تكن تكذب بتلك اللحظة"
عقدت (ماسة) حاجبيها بعدم فهم وهي تنظر له بترقب غريزي ، لينظر لها بإدراك انتشله من افكاره وهو يقول بفحيح حارق
"تقولين وردك اتصال ! من هو المتصل ؟"
زمت شفتيها بارتعاش وهي تحاول تحاشي النظر له بتلك اللحظة التي يكاد يحرقها حية ، وما هي ألا لحظة حتى كان يكبل ذراعيها وهو يقربها منه قائلا بانفعال مكبوت
"لقد سألتكِ يا ماسة ، واريد جواب واضح على سؤالي ! من هو المتصل ؟"
ردت عليه من فورها بنفور
"نفس الشخص الذي تفكر به"
قطب جبينه ببرود وهو يهمس بسخرية
"هل هذا هو جوابك الواضح"
تنفست بملل وهي تنظر له هذه المرة بقوة هامسة بجمود باهت
"انه والد الطفل"
تصلبت ملامحه لوهلة وهو يفلت وثاق ذراعيها ببطء لتتراجع بعيدا عنه لا إراديا ، وما ان اصبحت على بعد خطوات منه حتى وجهت نظرات مرتبكة نحوه وهو يبدو بحالة شرود مريبة طغت على الاجواء بينهما ، لتضم بعدها شفتيها بعبوس وهي تقول بهجوم ضاري
"انا ارى بأن الحل لهذه المشكلة هي اتمام زواجها بذلك الرجل وتسليمها له ، فهو يبقى والد الطفل والرجل الذي اختارته سابقا شريك لحياتها ، وبما انه قد ندم على افعاله الاخيرة ، فلا ضير من لمّ شمل العائلة السعيدة مجددا !"
نظر لها بتركيز اخترقت كيانها قبل ان يهمس بهدوء غير معبر
"ماذا قلتِ للتو ؟"
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تهمس بابتسامة هادئة بدلت شخصيتها العدائية
"حسنا لقد كنت محق بشيء واحد وهو بأنك لست بمزاج جيد لخوض حرب كلامية بيننا ، لذا من الافضل لك ان تذهب وتأخذ قسط من الراحة وننهي الحديث عند هذا الحد"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهو يكرر كلامه بجفاء اكبر
"لقد سألتكِ الآن ، ماذا كنتِ تقولين ؟ لما تتعمدين الهرب من اسئلتي ؟"
تنحنحت بتحشرج وهي تتراجع بخطواتها بحذر هامسة بخفوت متمهل
"لا اعتقد بأنك ستتفهم موقفي !"
عقد حاجبيه بضيق لوهلة قبل ان يلمح الفرس الهاربة التي انطلقت بعيدا عنه بثواني برشاقة الغزالة الشاردة ، وما ان تحركت قدميه بأمر من عقله للحاق بها حتى كانت تغلق باب الحمام المرفق بأحكام بعد ان نفذت خطة الهروب بمهارة او بالأحرى بحماقة تخطت قوانين الجنون والمنطق !
وصل (شادي) امام باب الحمام وهو يطرق عليه بقوة بعد ان اشعلت الطوفان بداخله والذي لا يحمل اي نوع من العاطفة ، وهو يصرخ من خلف الباب بغضب متهدج على وشك كسر الفاصل امامه
"ما معنى هذا التصرف الاهوج يا ماسة ؟ هيا افتحي الباب حالاً قبل ان اندم على الساعة التي اصلحت بها قفل هذا الباب !"
وعندما قابله الصمت التام من الطرف الآخر حتى عاد للصراخ بقوة اكبر وهو يحاول تحريك مقبض الباب بصبر على وشك النفاذ
"ماسة ألا تسمعيني ! هل اصبتِ بالصمم الآن ؟ افتحي الباب واشرحي لي ما كنتِ تتكلمين عنه الآن ! وإذا لم تفتحي الباب بغضون خمس ثواني فأنا اقسم لكِ....."
قاطعه الصوت المغتاظ بخفوت لا يخلو من الاضطراب
"توقف يا شادي ، انت الآن بحالة لن تساعدنا بالأخذ والعطاء معك بهذا الحديث ، واعلم جيدا بأنك لن تتوقف حتى تدمر حياتنا المسالمة وتحولها لحرب خاسرة من جميع الاطراف ، لذا ارجوك توقف واترك كل شيء على حاله كما هو ! ارجوك !"
عمّ الصمت بين الطرفين للحظات قبل ان يقطعها الصوت الجاف بنبرة كراهية واضحة
"هل تظنين بأن الأمر سيحل بالهروب منه وادارة ظهركِ له ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تهمس بخفوت شرس
"قُل هذا الكلام لنفسك ! وانت تعلم جيدا ما اعني !"
سمعت حدة انفاسه الحارقة وهو يقول بجمود قاتم
"لن اسامحكِ عليها يا ماسة ، تذكري هذا واعلمي بأنني لن اترك الامر عند هذا الحد ، فنحن ما يزال بيننا حساب علينا تصفيته معا ولن اتركه بحاله طويلا"
حررت انفاس مجهدة ما ان سمعت صوت خطواته تبتعد تدريجيا وهي تهمس بخفوت مترجي
"فقط اتركه انساه ! لما عليك ان تكون هكذا ؟"
اغمضت عينيها بشدة ما ان وصلها صوت اقفال باب الغرفة بقوة هزت الباب المستند عليه من خلفها ، لترفع بعدها يد مرتجفة وهي تعيد خصلات من شعرها لخلف اذنيها هامسة بابتسامة هاوية
"لما عليّ ان اكون رحيمة عليهم بينما لم يرحمني احد منهم ؟ لما عليّ ان اشفق عليهم بينما لم يشفق عليّ احد منهم ؟ هذا العالم الذي لم ينصفني يوما لن ينصف احد آخر !"
_______________________________
كانت تمسك بطرف الشاش وهي تلف نصفه على مرفقها المصاب بحذر وكل تركيزها يدور حول ما تفعله يديها ، وما ان انتهت من لف الضماد بالكامل حتى مالت بجسدها قليلا وهي تحاول مد يدها باتجاه علبة مطهر الجروح على المنضدة الجانبية ، وما لم تتوقعه ان تسقط علبة المطهر بلحظة وهي تدحرج على الارض حتى وصلت للأقدام التي حطت امامها تماما .
رفعت عينيها الواسعتين بتوجس وهي تصل للنظرات الحادة التي استقبلتها بقوة ارسلتها للتخبط بلحظات ، لتستقيم بسرعة بجلوسها وهي توجه نظراتها على الشاش حول مرفقها لتتابع عملها عليه بلف ما تبقى من الشاش بارتجاف طغى على حركاتها ، لتنتفض بحركة اكثر وتيرة جعلتها تشد على الشاش حتى آلمت مرفقها وهي تسمع صوت الآمر الناهي يقول بقوة
"توقفي"
توقفت بالفعل بخضوع وليس بسبب صوته القاسي الذي يرجف اوصالها بل بسبب الألم الذي تسببت به بمرفقها اوجع فؤادها قبل اصابتها ، لينحني بعدها على جذعه وهو يلتقط علبة المطهر قبل ان ينتصب بلحظة وهو يقترب منها عدة خطوات ، وما ان اصبح يقف امامها على بعد خطوة واحدة حتى اشاحت بوجهها جانبا بهدوء وهي تهمس بممانعة خافتة
"لا احتاج لمساعدة ، استطيع تدبر امري لوحدي"
تلبدت ملامحه بصفحة جليد وهو يهمس ببرود قاسي
"انا ارى بوضوح كيف تدبرت امرك !"
امتعضت ملامحها بصمت وهي تشعر بالسرير وهو يهبط بجوارها بعد ان وضع عليه ثقله ، لتسمع صوته مجددا وهو يمد يده امامها قائلا بنفس النبرة المتصلبة
"اعطني مرفقك يا صفاء"
ارجعت مرفقها للخلف بحذر وهي تهمس بقنوط ساخر
"ماذا ؟ هل تفكر بلعب دور الممرضة عليّ ؟ لأنك حتى لو حاولت ذلك فلن تنجح بهذا الدور ، وما يليق بك هو دور القاتل ومحطم القلوب وليس المعالج"
سكنت ملامحه بدون ان يسحب يده الممدودة وهو يميل بالقرب من اذنها قائلا بنفاذ صبر
"هل انتهيتِ من هذه الدراما الفاشلة ؟ فأنتِ تصعبين المهمة علينا وتؤلمين نفسكِ بهذه المسرحية التي لن تجني شيء منها !"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تلتفت نحوه هامسة بعبوس محتقن بالدماء التي لونت محياها المتوهج بغضب
"ماذا تقصد بكلامك ؟ هل تراني امزح معك ؟ هل ترى آلامي دراما ومجرد مسرحية اخذت دور البطولة بها ؟ حتى لو كانت مسرحية فلن تكون البطلة بكل هذا البؤس الذي اعانيه وستكون حالتها افضل من حالتي بكثير !"
ارتفع حاجبيه بخفة وهو لا يصدق كيف تحول كل شيء يدور من حولها لقصة خيالية بعقلها تنسجها رغم محيطها فقط لتخفف وطأة الواقع والألم عنها ! وهذا الامر لم يتغير منذ لحظة تعارفه عليها حتى هذا اليوم وبعد كل ما مرت به بحياتهما الحافلة .
تنفس بجمود وهو يمسك بذراعها برفق ليرفعه امامه قائلا بصوت خفيض
"من يسمعك يفكر بأنكِ كنتِ تعانين طوال حياتك ؟ وانتِ لم تصابي سوى بخدوش برأسك وذراعك يعني لم تفقدي اي اجزاء من جسدك ! لذا توقفي عن هذا البؤس واحمدي ربكِ كثيرا على دوام الصحة وسلامة الجسد"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي تهمس بخفوت ممتعض لا إرادي
"اعلم جيدا بماذا تفكر ، تتمنى لو انني اصبت بكسر او إعاقة برأسي او قدمي من اجل ان تستطيع ان تتشمت بي وتأخذ حق شقيقتك والتي انسلبت حياتها منها ، وهكذا يمكننا ان نكون متعادلين ولو قليلا لتشفي غليلك من عائلتي ، وستقول بنفسك استحق هذا من اجل ان اعصي اوامرك واهرب من سجنك مجددا....."
تأوهت بألم ما ان شدد من القبض على ذراعها المصاب حتى كاد يكسرها ، وهو يهمس بفحيح خطير امام وجهها الذي بان عليه الألم
"ما هذا الهراء الذي تتفوهين به ؟ هل انتِ بكامل عقلك حتى تقولي مثل هذا الكلام ! كيف تتجرأين ان تقولي هذا عن نفسك وتحكمي عليّ بطريقتك الجاهلة ؟ هل تعلمين شيئاً عن الذي مررت به وحدث معي بالدقائق التي سبقت معرفتي بمكانك ؟ توقفي عن الاستهانة بنفسك وبقيمتك هكذا فأنتِ لست شاة عندي حتى تقللي من نفسك ولم اربطك بأي حبال حتى تقرري الهروب مني ! هل فهمتِ ما اقول يا صفاء ؟"
اومأت برأسها ببطء شديد حتى انحدرت الدموع على وجنتيها رغما عنها وهي تهمس بأنين مهتز
"انت الآن تؤلمني ، تؤلمني كثيرا ، اكاد اموت من الألم !"
انتفض كيانه وهو يلاحظ كفه القابضة على ذراعها المصاب ليتركه بسرعة برعشة سرت على طول ذراعه مثل سلك الكهرباء ، ليبتلع بعدها ريقه بانقباض وهو يرفع يده امام وجهها ليحاول مسح الدموع عن وجنتيها بأصابعه قائلا بخفوت
"اعتذر ، لم اقصد ان اكون بكل هذه القسوة......"
توقفت يده ما ان وضعت يدها امام وجهها وهي تحجب دموعها بأناملها هامسة بخفوت مرتجف
"انا بخير ، بخير"
اخفض يده بعيدا وهو يراقبها بتمعن صامت اثقل بالكثير ، بينما كانت (صفاء) تمسح دموعها بكفها بارتجاف بدون ان تسمح للضعف من ان يأخذ حيز بحياتها .
بعدها بدقائق كان ينتهي من تضميد مرفقها وهو يلف الشاش بعناية فائقة حتى عقده بالنهاية عند نهاية مرفقها ، ليلتقط بعدها عبوة مطهر الجروح وهو يلصق طرف الشاش ببضع قطرات منه حتى انتهى تماما .
رفعت (صفاء) مرفقها بحذر وهي تحركه امام نظرها بابتسامة هادئة بعد ان زال الألم عن السابق واصبح مضمد جيدا ، لتشعر بلمسته التي قشعرت بدنها على ذراعها السليم وهو يرفع كم قميصها برفق حتى كشف عن كامل ذراعها ، ليلوي بعدها ذراعها بحرص وهو ينظر على اثر جرح قديم يخص شرخ السكين والذي لم يبقى منه سوى اثر بسيط ، وهي التي ظنت بأنه قد نسي امر ذلك الجرح تماما ولكنه على ما يبدو لا ينسى بسهولة !
عضت على طرف شفتيها بارتجاف ما ان قال بخفوت مشتد واصابعه تتلمس على اثر السكين
"هل توقفتِ عن وضع المرهم عليه ؟ عليكِ ان تهتمي بجروحك اكثر وألا لن تزول ابدا !"
لعقت طرف شفتيها بلسعة ألم ما ان وضع من المطهر على الجرح القديم والذي يبدو لم يندمل بعد وعاد للانفتاح من جديد ، ام قد تكون تلك جروح اخرى غير ظاهرة هي التي انفتحت بدون ان تنتبه ؟
ابتسمت بصعوبة وهي تهمس بحزن عميق
"كيف سأستطيع الاهتمام بجروحي وانا لم اكد انتهي منها حتى تنفتح جروح اخرى ؟ انظر إلي لقد اصبحت محملة بالكثير من الجروح ! بالرغم من اني لم اخاصم احد بحياتي ولم ألمس احد بسوء !"
قست اصابعه قليلا وهو ينزل كم قميصها على ذراعها برفق شديد ، ليبتعد عنها بهدوء وهو يغلق عبوة المطهر قائلا بجدية
"والآن تبقى لنا الاهتمام بإصابة جبينك"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تلمس على الضماد حول جبينها تلقائيا هامسة بعفوية
"لا بأس لقد اهتممت به سابقا ، لا داعي لفعل شيء....."
قاطعها وهو يمسك بقطعة شاش طويلة قائلا بحزم قاطع
"ومع ذلك اريد ان اراه لكي اتأكد من تضميد الجرح جيدا ، فأنتِ سيئة جدا بالاهتمام بنفسك"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تنفض ذراعيها للأسفل قائلة بتذمر
"قُل هذا عن نفسك والذي يهتم بالجميع ألا بصحته الشخصية ! فأنا اكثر من يعلم عن مدى إهمال وجبات طعامك الرئيسية وتحملك ابقاء نفسك بمعدة فارغة ايام بطولها على ان يتناول طعامه بمفرده ، وهذه العادة التي تتمسك بها ستودي صحتك للتهلكة......."
قطع هدر كلامها بطبع قبلة رقيقة على شفتيها الورديتين هزت خفقات قلبها وعبثت بمجرى الدماء بأوردتها ، وهي التي ظنت بأنها قد توقفت عن الشعور بها منذ زمن ! بدون ان تنتبه ليده التي كانت تنزع الضماد عن جبينها بحرص شديد وهي مسحورة بقبلاته الناعمة على محياها التي كانت مثل الضماد على جروحها الدامية .
افاقت من غمامتها الحالمة ما ان ابتعد عنها وهو يعيد عقد الشاش النظيف حول جبينها بعد ان تخلص من القديم ، ليقف بعدها امامها وهو يجمع مخلفات الشاش والادوية عن السرير والارضية لينظف المكان من كل النفايات .
تنهد بعدها بتعب وهو يلتفت نحوها قائلا بجفاء
"لماذا لم تطلبي المساعدة من امي ؟ بدل ان تفعلي كل شيء لوحدك !"
حركت رأسها للأسفل وهي تهمس بابتسامة هادئة
"لم اكن اريد ان اتعبها معي بأموري الشخصية ، وخاصة بأنها قد اصبحت تهتم بكل امور المنزل وبالاهتمام بوجباتي الرئيسية بدون ان تسمح لي بمساعدتها ، لذا لم ارغب بأن اثقل عليها بهذه الامور الصغيرة ايضا"
انعقد حاجبيه بجمود وهو يستدير بعيدا عنها قائلا بهدوء جاد
"توقفي عن الاعتماد على نفسكِ بكل شيء ، فأنا ما ازال موجود بجوارك ويمكنكِ الالتماس لي بأمورك الشخصية بدون اي خجل ، وسأحاول ان اكون المسعف والدواء لجروحك التي كنت المسبب الأول بها"
ما ان جمع حقيبة الاسعافات الاولية وهو ينوي الخروج حتى قالت بسرعة بصوت اجوف
"لقد تبقى اربع ايام على انتهاء العقد يا جواد ، لا تنسى ذلك"
تصلبت فقرات ظهره لوهلة قبل ان يستدير نحوها وهو يقطع المسافة الفاصلة بينهما بثواني ، ليدنو بالقرب منها بلحظة وهو يهمس برفق خافت
"لن نفعل شيء قبل ان تتماثل اصاباتك للشفاء ، وحتى ذلك الوقت لن نفتح هذا الموضوع مجددا ، طابت ليلتك"
علقت الكلمات بحنجرتها ما ان هبطت شفتيه على وجنتها وهو يقبلها بحرارة اشعلت بشرتها الرقيقة ، ليستقيم بعدها بصمت وهو يعود ادراجه قبل ان يخرج من الغرفة بأكملها ، بينما كانت عينيها العسليتين تتابع اثره بفوضى احدثها بدواخلها وخمدت هناك واصابع كفها تحفر بقسوة على مكان القبلة بوجنتها والتي تركت علامة لن تمحى بغضون ايام .
______________________________
كانت شاردة بالقلادة المستريحة على سطح الطاولة واصابعها تطوف بلمساتها على السلسال الطويل وصولا للقرص المدور الذي يربط الشقين معا بصلات قوية ، وهي تشارك الرحلة بعينيها المأسورتين بدوامة التأمل وهما تطوفان برحلتهما المصيرية بدون ان ينضب البريق الذي يطوق نظراتهما الحالمة ، وكأنها تبث كلماتها بلغة العيون وتصارح مشاعرها بلغة الجسد وتتواصل مع العالم بلغة الحياة .
تنهدت بهدوء وهي تريح جانب وجهها فوق ساعدها بصمت غيم على العالم المحيط من حولها ، لتشدد بعدها على قبضتيها لا شعوريا ما ان تهادى لسمعها المرهف صوت خطوات ثابتة من خارج الغرفة ، وبلحظات كانت الخطوات تخترق حدود الغرفة وهي تصل لمحور حياتها ولملعب قلبها والذي سبق وسجل هدف الفوز به ، لتسكن عندها الاصوات لثواني بحالة انعدام الوجود اختفت معها الحياة وانحصر بها الهواء بالقصبات الهوائية وضخ الدماء بخلجات قلبها الساكن .
اعتلت تقاسيم وجهها ابتسامة راضية ما ان حطت يدين قويتين على كتفيها المنحنيتين وهو يتبعها بالهمس بالقرب من رأسها بهدوء اجش
"ما لذي تفعلينه بغرفتي ؟"
ضمت شفتيها بارتعاش اعادت الحياة الميتة بأعضاء جسدها لحالتها الطبيعية والتي كانت عليها فيما مضى ، وهي تستشعر قوة انفاسه الهادرة مع قوة يديه الضاغطتين على كتفيها وهو يقول بجمود خافت
"هل تحاولين ادعاء النوم امامي ؟ فقد غفلتِ عن حرارة جسدكِ والذي يتقلب تحت يديّ الحافظتين لواحتيهما السخية !"
اغمضت عينيها بشدة تحجب الضحكات عن مقلتيها والمشاعر التي تحررت عن غلالتهما وهي ما تزال تتمسك بصمتها ، لتتمادى يديه بحركتهما الناعمة وهما تنزلان بسلاسة على طول ذراعيها حتى شبكهما مع مرفقيها بقوة لتشكل حصون حول رأسها النائم ، ليقول بعدها بجانب اذنها وبالقرب من صدغها وهو يلفح بأنفاسه عنقها الظاهرة من خلف ضفيرتها الطويلة
"هل تريدين الاستمرار بهذه التمثيلية ؟ ألن تقولي شيء لزوجك المحمل بأتعاب العمل والذي لم يحصل على قسط من الراحة لثانية واحدة ! ليفاجئ بنهاية يومه بهذا المشهد والذي اذهب الباقي من عقله !"
عضت على طرف شفتيها بحياء مفرط غزى ملامحها وهي تعصر جفنيها بقوة اكبر وبمقاومة شرسة ضد مشاعرها التي بدأت تشن حرب عليها ، وما ان مرت لحظات خاطفة حتى شهقت بعنف وهي تشعر بجسدها يطير بعيدا عن الكرسي بفعل الذراعين اللتين اختطفتاها بلحظة غادرة ، ليسير بعدها بخطوات واسعة اوصلتها للسرير قبل ان يفلتها ببساطة لترتمي على ملاءة السرير بقوة طيرت ثوبها القصير حتى اعلى ساقيها ، وما ان تداركت نفسها حتى اخفضت اطراف الثوب بسرعة وهي تهمس بأنفاس متسارعة بغضب
"احمد ! هل هذا الاسلوب الصحيح بالتعامل مع الزوجة ؟"
دس يديه بجيبي بنطاله وهو يميل على جانبها بلحظة قائلا بابتسامة باردة
"هذا ليس من شأنك فأنا اعلم جيدا كيف اعامل زوجتي وبالطريقة التي تعجبني ، واما انتقاداتك ومحاضراتك الروتينية فاتركيها لنفسك علها تفيدك"
عبست ملامحها وهي ترمي ضفيرتها لخلف ظهرها قبل ان تعتدل بجلوسها بتعب هامسة بغيظ
"مهما علمتك عن اللياقة والادب فسوف تبقى عديم ذوق !"
ابتسم بتغضن وهو يستقيم بمكانه ليوجه نظراته بأنحاء الغرفة الباردة وهو يقول بهدوء جاد
"لماذا لم تشغلي التدفئة بما انكِ حضرتي للغرفة ؟ هل انتِ سعيدة بالنوم بغرفة جليدية !"
حركت رأسها جانبا وهي تهمس بوجوم خافت
"الجو ليس بهذه البرودة ! ولم اكن ارغب بالعبث بتدفئة غرف غيري لكي لا احملهم مصاريف ليس لها داعي"
عقد حاجبيه بحدة وهو يقول بجمود ساخر
"ومن اخبركِ ان تفعلي هذا يا غبية ؟ او ان تكوني اقتصادية هكذا ! هل انتِ من تدفعين مصاريف غرف هذا الجناح الخاص بنا ؟ إياكِ وان تعيدي هذا الكلام الفارغ على اسماعي مجددا ، فهمتِ ؟"
اومأت برأسها بحذر وهي تنظر له بأطراف حدقتيها الخضراوين بصمت ، بينما كان يقابلها بنفس النظرات الحربية بأسلحة المشاعر والتي اختلت من الكلام والمفردات بعتاب قاتل .
زفر (احمد) انفاسه بضيق وهو يتحرك بعيدا عنها قبل ان يلتقط جهاز التحكم من على المنضدة وهو يوجهه نحو التدفئة تماما ، ليقول بعدها من بين اسنانه بجفاء بارد
"إذا كنتِ لا تريدين تشغيل التدفئة ، على الاقل دفئي نفسك بملابس اثقل افضل من ملابسك والتي تظهر اكثر مما تخفي ! فلن اتحمل مسؤولية اصابتك بتجمد عظام او زكام حاد"
انفرجت شفتيها بدهشة ممزوجة بالحياء المخجل وهي تشعر بتخبط مضطرب يطرق بكل إنحاء جسدها المكشوف من تحت قماش ثوبها الخفيف ، لتشدد بعدها من القبض على ملاءة السرير وهي تقول بخفوت حانق
"إذا كنت متضايق من وجودي بغرفتك لهذا الحد ، يمكنك ان تصارحني بذلك ، وانا سأكون سعيدة بالعودة لغرفتي الخاصة بعيدا عن فظاظتك يا عديم الذوق واللباقة"
ردّ عليها من فوره بأمر قاطع بدون ان ينظر لها
"فقط حاولي الخروج من غرفتي واعدك ان اقطع ساقيكِ هاتين ، فأنتِ التي دخلتي لحدود غرفتي بإرادتك الحرة وليس هناك مهرب للخروج ، فليس دخول غرفة احمد مثل سهولة خروجها !"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تتراجع عن نيتها بالخروج لتطوي ساقيها تحت فخذيها وكفيها فوق ركبتيها ونظراتها تتابع حركاته بتأهب ، وما ان انتهى من ضبط درجة التدفئة حتى اعاد جهاز التحكم فوق المنضدة ، ليستدير بعدها امامها وهو يمسك نظراتها المختلسة بقيد حديدي كتم الاصوات بينهما لوهلة ، ليبدأ بعدها بقطع المسافة بخطوات قوية تحددت الوجهة نحوها بدون ان يتخلى عن قيد النظرات الحالية التي اتعبت خافقهما .
اخفضت رأسها بسرعة وهي تلهي نفسها بالعبث بأطراف ثوبها القصير بتوتر شديد ، وما ان وقف بجوارها حتى احكم بالقبض على ساعدها الابيض بحركة متصلبة وهو يسحبها لخارج السرير ، لتنجذب مع حركته بسلاسة تلقائية وهي تنزل عن السرير لتقف امامه تماما باستكانة وهو ما يزال يتمسك بساعدها .
اتسعت ابتسامته بالتواء ساحر وهو يجول بنظراته على الفستان الناري القصير بلون الاحمر المائل للون الياقوت...وحمالات من خيطين عند كل كتف لتنتهي الخيوط عند منتصف الصدر والذي يحتله قطعة شيفون ناعم ارتسم على شكل القلب الذي يسكن حنايا صدرها....وهو ينزل بتنورة واسعة من الشيفون الرقيق وبعض العقيق الصغير يزين حواف الثوب وهو يشكل حلقة حول ساقيها البيضاويتين بطول فارع .
عاد بنظره لوجهها بابتسامة هائمة محملة بعطر المشاعر وهي تقابله بنفس الابتسامة الجميلة التي زادت ملامحها الصافية ببياض خالص وبأنوثة طاغية ازهرت النخيل بثمار عينيها الناضجتين ، ليمسك بعدها بمرفقها الآخر وهو يرفع ذراعيها عاليا بتأمل صامت وكأنه يحاول التهام تفاصيلها بنهم واضح واستمتاع متمهل ، وبلحظة كان يفلت احدى ذراعيها ليدير جسدها بالذراع الاخرى وهو يلفها حول نفسها عدة دورات حتى بدأت حواف التنورة بالتحليق برفرفة بسيطة ، لتتفاعل بعدها مع الاجواء التي اختلقها بفرحة تولدت بخلجات قلبها وهي تضحك بطنين السعادة قبل ان تهمس بخفوت
"ماذا تفعل يا احمد ؟ اكاد اصاب بالدوار !"
توقف عن الحركة وهو يعود ليمسك بمرفقها الآخر ليثبتها عن الدوران والذي لم يوقف حواف ثوبها من تحليقه حتى اصبحت اشبه بزهرة جورية حمراء قطفها بيديه ، ليقترب منها خطوة اخرى وهو يقول بابتسامة مائلة بشغف
"احب ان اراكِ وانتِ تتفتحين من اجلي مثل برعم صغير ، واحب عندما تظهري معالم انوثتك امام عينيّ فقط ، هذه الزهرة عليها ان تبقى دائما بأرضي انا وتحت رعاية يديّ فقط"
زمت شفتيها بعبوس وهي تضربه على صدره بساعدها المقيد بيده هامسة بمرح
"لم اعرفك بكل هذا التملك يا احمد ! ولكن كلامك يسعدني كثيرا ويفرح قلبي المحب وهو يزيد من غروري الانثوي"
اتسعت ابتسامته بارتياح وهو يفلت مرفقيها ليرتفع بلمسات ناعمة على طول ذراعيها المكشوفين حتى وصل لكتفيها وهو يمسكهما بقوة ، لينظر لها بقوة نافذة دكت حصونها مجددا وهو يقول بخفوت اجش
"إذاً ما سبب هذه الزيارة المفاجئة لغرفتي ؟ وايضا بملابس مثيرة فاتنة بشكل متعب لعواطفي المحرومة !"
احنت حدقتيها قليلا وهي تتلاعب بأزرار قميصه هامسة بابتسامة شاردة
"لقد تعبت كثيرا حتى خطوت هذه الخطوة الواسعة ، وهذا بعد حالات اليأس التي انتابتني بعد ان انتظرت زيارتك لليالي طويلة ولم تأتي ابدا ، هل كنت تستمتع بتعذيبي بهذا الشوق المضني والذي اشقى قلبي ؟"
تشنجت ملامحه لوهلة قبل ان يفك قيود ابتسامته ليتبعها بعدها بضحكة صغيرة وهو يقول بابتسامة هادئة
"ماذا يا روميساء ؟ هل شعرتِ بجرح بكرامتك لأنكِ من بادر بطلب العودة وانتظرتني بغرفتي بكل شجاعة ؟ لقد فاجأتني حقا بهذه الشجاعة يا معلمة روميساء ! يبدو بأنك انتِ من يحتاج للذوق بالكلام بعد كل شيء !"
عقدت حاجبيها بغضب مكتوم وهي تشيح بوجهها جانبا هامسة ببأس وكأنها قد تلقت لكمة بمنتصف كرامتها
"هل تسخر من قدومي لك يا احمد ؟ كل اللوم يقع عليّ وحدي بما فعلته ! يا ليتني لم انتظرك بالغرفة ولم اقدم على هذه الخطوة المتهورة"
استشعرت حواسها بلمسة قاسية على ذقنها وهو يدير وجهها نحوه ليقابل نظراتها بقوة فولاذية وهو يقول بابتسامة جامدة
"هل عليكِ ان تفسدي كل اللحظات بيننا بكبريائك الخاص ببنات مايرين ؟ ألا تستطيعين التحلي ببعض التسامح والخضوع بعلاقتنا الزوجية والتي كنتِ السبب الرئيسي بالشرخ بها ! انتِ دائما هكذا متسامحة مع الجميع ألا مع زوجك تصنعين من حوله مئة حاجز وحصن ! أليس كذلك ؟"
ارتبكت ملامحها بلحظة وهي تهمس بعبوس مستاء
"هل لهذه الدرجة تراني غير منصفة بحقك ؟ لو كنت كذلك ما لذي دفعني للقدوم للغرفة وانتظارك كل هذا الوقت !......"
قاطعها بكلمات موجزة وهو يزيد من الضغط على ذقنها
"لماذا اتيتِ للغرفة يا روميساء ؟"
ابتلعت ريقها بانقباض اكتسح محياها وهي تهمس بخفوت ممتعض
"اشتقت إليك"
تألقت ابتسامته بسعادة وهو يدنو بالقرب من وجهها هامسا امام شفتيها بانفعال هادر
"كان عليكِ قولها منذ البداية"
اتسعت حدقتيها الخضراوين ببهوت وهي تستقبل قبلته الساحقة التي ارتشفت كل غضبها واضطرابها ولهفتها للعاطفة الزوجية المشبعة بكل المشاعر الفياضة ، لترفع ذراعيها لا شعوريا وهي تطوق عنقه بتشبث لتشاركه بقوة المشاعر الحميمية بينهما والتي تولدت بنتاج جفاف وحزن الايام السابقة على جنين لم يقدر له الحياة ، وبلحظات كانت تستلقي على السرير والذي اخذها بنعومة وهو يشرف عليها بنظرات شغوفة تقطر بالعاطفة المكبوتة والتي تحررت من اسرها الآن ، ليتوقف على بعد بضع إنشات منها وهو يقول بعبوس متصلب
"اتمنى ألا تظهر لنا ماسة من العدم وتفسد علينا لحظاتنا ، فهي تبرع كثيرا بالظهور بمثل هذه المواقف"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس بضحكة شقية
"لا تقلق فقد توقفت ماسة عن النوم بهذا الجناح منذ مدة ، وهي تعلم جيدا عن عودة علاقتنا لما كانت عليه"
تنفس بابتسامة ملتوية وهو يقول بانتشاء راضي
"واخيرا يمكننا الحصول على بعض الخصوصية بعيدا عن المتطفلين !"
وما ان كان على وشك تقبيلها حتى سبقته بسرعة بوضع اصبعها امام شفتيه وهي تهمس بخفوت مبتسم
"لم تجبني يا احمد ! لماذا لم تزرني بغرفتي لمرة واحدة بعد ان قدمت لي القلادة هدية من اجل فك الخصام والصلح ؟ ألم تكن كذلك !"
حرك رأسه قليلا وهو يقبل اصبعها الطويل قائلا بصوت خفيض بلطف
"هل شعرتِ بالوحدة بدوني ؟ اعتذر يا عزيزتي على هذا الحرمان العاطفي الذي عشتِ به بسببي ! واعدك ان اعوضك بالقدر الذي شعرتِ به بالحرمان والاشتياق....."
ضربته على صدره وهي تقاطعه بعصبية مفرطة
"انا لا امزح ، اجب على سؤالي بنزاهة !"
تنفس بجمود وهو يتلاعب بخصلات ضفيرتها الطويلة قائلا بقوة جادة
"هل نسيتِ كلامي لكِ يا روميساء ؟ لقد اخبرتك بأنني سأعطيكِ وقتكِ بالتعافي نفسيا وجسديا ، لذا لم ارغب بالعودة للضغط عليكِ اكثر واجعل القلادة وسيلة لذلك ، فهي كانت هديتك وكنتِ ستسلمينها بكل الاحوال ، هل فهمتِ مقصدي الآن يا روميساء ؟"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تمسك بياقة قميصه بكلتا يديها ، لترفع بعدها نفسها على بعد سنتمترات من الفراش وقبل ان يدرك حركتها القادمة كانت تطبع قبلة على شفتيه بعفوية الجمته للحظة ، وهي تتبعها بالهمس بخفوت ماكر
"احبك يا قليل الادب واللباقة"
كشر عن اسنانه بغضب مشبع بفورة الرغبة وهو يدفعها برأسه لتسقط ضاحكة وهي تستوي مستلقية ، ليسور المكان من حولها بذراعيه وهو يمس انفها بشفتيه وجبينه ملاصق لجبينها هامسا بخفوت مشحون بالمحبة الخالصة
"وانا احبكِ اكثر يا معلمتي الصارمة"
ضحكت مجددا وهو يكتم نبض الضحكات مع انفاسها بقبلات رقيقة تتابعت على ملامحها وهي تتهافت بنداء استنجاد الرغبة مثل تفتح الزهور بيوم ربيعي دافئ ، وهذه كانت عودة فصول ربيع علاقتهما بدون ان يدركا ما ينتظرهما من فصول عاصفة يخبئها لهما القدر القريب !
_______________________________
تجمدت ملامحها بطبقة جليد قاسية اكتسحت محياها ما ان وصلها الهمس الساخر بازدراء
"لقد وصل فأرك"
نقلت نظراتها باتجاه باب المقهى والذي ظهر منه الرجل المقصود صاحب النظرات التائهة الغير مريحة والتي تظهر نوايا النظرات المختبئة خلف شرارات متقدة ، لتلوح بعدها بكفها برقة وهي تشير له عن مكان طاولتهما الحالية ، وما ان انتبه لهما اخيرا حتى اشتعلت ابتسامته بميلان ساخر وهو يتقدم نحو طاولتهما بخطوات واسعة واثقة .
وما ان اصبح مقابل طاولتهما حتى تنقلت نظراته بينهما بمغزى وهو يقول بابتسامة مستريحة بنشوة
"صباح الخير يا جميلات ، هل هذا يوم السعد والهنا لقاء اجمل واغنى فتيات البلد ؟ ام هو دعاء امي قبل وفاتها والذي استجاب اخيرا !"
لوت شفتيها الكرزيتين بازدراء وهي تشيح بوجهها جانبا بدون رد ، بينما ردت الاخرى بابتسامة مصطنعة وهي تفرد يدها بأناقة
"صباح الورد سيد كمال ، شرفت طاولة نقاشنا ومحور الخطة يا وحشنا"
احتضن كفها بين يديه وهو يقول بابتسامة جانبية بسعادة
"هذا الشرف لي يا ابنة الحسن والنسب"
تجمدت ابتسامتها وهي تسحب كفها ببطء قاتل لتقول بعدها بنفس الابتسامة المزيفة وهي تحول كفها امام الكرسي
"تفضل بالجلوس يا سيد كمال ، فأنت ضيف الشرف اليوم"
اومأ برأسه ببطء وهو يختار الكرسي بجانب الفتاة الاخرى ليجلس عليه بأريحية وهو يضع ساق فوق الاخرى ، ليلتفت بعدها برأسه للجالسة بجواره وهو يهمس بابتسامة ساذجة
"مرحبا يا شعلة الفتنة ، تبدين مثل كتلة اغراء متحركة ، وكأنكِ قنبلة موقوتة تنتظر من يحررها ويفك عقدتها"
التفتت (قمر) نحوه بحدة وهي تضغط على اسنانها البيضاء هامسة بنفور مغتاظ
"لا تحاول ان تبدي ظرافتك معي ، وإياك والتماس التقرب مني ، فأنا اكره المختلين مدعين السذاجة امثالك واكره اكثر منتحلين ومتعددين الشخصيات ، سمعت يا حثالة !"
رفع حاجبيه بانبهار وهو يصفر بإعجاب صريح قبل ان يطرق بقبضته على سطح الطاولة قائلا بخفوت هائم بكلمات غزل مدروسة
"أتعلمين بأنكِ من نوعي المفضل الذي يزيد رغبتي بالارتشاف من سحرك الفتاك ؟ وانا سعيد بهذه اللحظة المقدرة التي جمعتني بأجمل فتيات العالم والتي تستحق ان تتوج بمليكة قلبي والذي انتشلته من نظرة واحدة لكِ بعد فراغ موحش طويل ! اين كنتِ غائبة عني كل هذا الوقت ؟"
نظرت له مجددا باشتعال قدح بعينيها السوداوين الفاتنتين وهي تلوح بأصبعها ذو الظفر المطلي بلون الاحمر القاني قائلة بتحذير مهدد يكاد يخرمش ملامحه بمخالبها
"اسمع جيدا يا معتوه إذا كان برأسك عقل فأنصحك بالتفكير مئة مرة قبل ان تخوض معي لعبة الحب والتي لن تحرقك فحسب بل ستقطعك مئة جزء ، فقد اخطئت كثيرا باختيار الفتاة التي تريد ان تلهو معها بلعبتك السخيفة ، فهذه الفتاة تملك خبرة اكبر منك فقد جربت اساليب كثيرة وألاعيب لا تحصى لتوقع بالشبان الساذجين امثالك والذين يظنون بأنهم يملكون العالم ، وصادف ايضا بأنها قد فصلت من الجامعة بسبب قضية اغتصاب مزورة انا التي لفكتها لأوقع بفريستي ، وحصلت على لقب مطلقة بجدارة بعد ان ورطت زوجها بقضايا كثيرة ومشاكل ارغمته على الطلاق منها وتحريرها من قفصها ، وبعد كل هذا تتجرأ وتحاول الإيقاع بي بكل هذه البساطة ! انت لا تعلم مع من وقعت ومن تكون قمر الرياض !"
سكنت ملامحه لوهلة وهو يرفع حاجبيه باندهاش منبهر لا يخلو من المتعة ، ليهمس بعدها بلحظة بسعادة فاقت الحد
"انتِ حقا مروعة !"
ارتجفت ملامحها وهي تهمس من فورها بعدوانية
"ماذا تقصد ؟ هل فقدت آخر ذرة عقل برأسك ؟"
امسك بأصبعها المرفوع بقوة وهو يقترب بوجهه منها قائلا بابتسامة ماكرة بلذة
"لا تستعجلي على نصيبك يا فاتنة ، وانا اؤكد لكِ بأني سأكون افضل خيار لكِ من جميع الخيارات التي تلاعبتِ معها ، فيبدو بأنكِ تهوين اللعب بضحاياك والتلذذ بقتلهم بدم بارد ، وانا مستعد لأكون خيارك التالي بالحياة بما اننا من المتفرغين ومن محبين اعتناق السعادة لأقصى درجة ممكنة ، ما رأيكِ بهذا العرض يا لعوبة ؟"
سحبت اصبعها بعنف وهي تهمس بابتسامة مكشره عن انيابها بكل غل وحقد
"هذا بأحلامك السعيدة يا سيد متشدق ! فأنا اتجاهل كل شيء ألا بخياراتي اصيبها بنجاح ، وانت لست من ضمن خياراتي الواردة او المتوقعة ، لذا إياك وان تلمسني بأصبع واحد لكي لا اكسره وتفقد اصبع من اصابعك ، يا لك من مقرف ساذج ! مقرف !"
انقلبت ملامحه بغموض ليس من ضمن الغزل وهو يقول بجموح
"انتِ حقا مزيج من شخصية مرعبة ومدهشة تستطيع ان ترهب كل العيون الناظرة لها ! ولكنها مع ذلك لن ترهبني بل تسليني كثيرا وتمتعني"
نظرت له بأطراف حدقتيها بازدراء واضح لم يقطعها سوى صوت ضرب على سطح الطاولة من الفرد الجالس بينهما وهي تصرخ بهما بنفاذ صبر حانق
"توقفا انتما الاثنان ، لقد طفح الكيل منكما ، انا لم اجلبكما كل هذه المسافة بالصباح الباكر من اجل ان تتناقشا بظرافتكما وحربكما الغبية التي لا تعنيني بشيء ! فسبب هذا اللقاء واضح جدا ولا يتضمن اي مما كنتما تتكلمان عنه وتتجادلان به ، لذا احذركما إذا لم تلزموا الهدوء الآن وعدتما لثرثرتكما الفارغة فلن امررها لكما على خير ، فأنا بالنهاية صبري معكما له حدود ، سمعتما كلامي جيدا !"
ساد الصمت بينهما لثواني قبل ان ينطق الذي رفع ذراعيه عاليا باستسلام وهو يقول بابتسامة مبتذلة
"انا اعتذر يا سيدة لينا ، فأنا لم ارتكب معكم اي خطأ ولم ألمسها بسوء ، هي التي تصرفت بعدوانية ونزق معي بدون اي احترام او حسن سلوك مع شريكها بهذه الخطة ! فأنا بالنهاية احاول مساعدتكم وان اكون فرد مفيد بخطتكم ، ولا افكر ابدا بأي شيء قد يضر بكم"
انتفضت فجأة التي نهضت عن الكرسي بثورة وهي تنظر للمقابلة لها قائلة بانفعال هادر فقدت زمام السيطرة عليه
"هذا يكفي لقد ضقت ذرعا منه ومن وقاحته الغير محدودة ! وإذا لم تتصرفي بخصوصه وتوقفيه عند حده فأنا متأسفة بأني مضطرة للرحيل من هنا ، واتمنى ان تسامحيني يا آنسة لينا"
لوحت بكفيها بسرعة ببعض الاضطراب وهي تقول بخفوت حازم
"لا تقولي هذا الكلام يا قمر واجلسي مكانك ، فنحن لم نبدأ نقاشنا المهم بعد حتى تغادري هكذا ، وسيد كمال توقف عن مضايقتها والتكلم معها فأنا قد احضرتك من اجل الكلام الجاد وليس من اجل صنع العلاقات مع شركائك ! لذا رجاءً التزم بسير الخطة ولا تنحرف بعيدا عنها"
اومأ برأسه وهو يقول ببساطة بدون ان يتوقف عن النظر لها
"بالطبع لكِ ذلك"
تحركت (قمر) من مكانها وهي تتخذ المقعد بجانب شريكتها الاخرى بعيدا عنه ، لتزفر (لينا) انفاسها بغضب وهي تضم يديها فوق سطح الطاولة هامسة بهدوء انيق
"حسنا لنعد الآن للموضوع المهم والذي حضرنا للتكلم عنه ، اولاً علينا ان نعرف إذا كنت قد نفذت الخطة التي طلبتها منك بحذافيرها ! هل فعلت كما طلبت منك يا كمال ؟"
نقل نظراته لها بعدم اهتمام وهو يرجع ظهره قائلا بكسل
"اجل لقد فعلت كما طلبتِ تماما بدون اي اخطاء ، ولكن هناك مشكلة فلا اعتقد بأن الحيلة قد انطلت على زوجته فهي تبدو من النوع الغير قابل للتلاعب معه ! صحيح ؟"
عبست ملامحها بتصلب وهي تهمس بابتسامة شقت طريقها بسخرية قاتلة
"يا للمفاجأة ! هل اصبحت تتكلم مثل طريقة زوجتك الساذجة ؟ لا اعلم لما جميعكم تخافون منها وتجعلكم بكل هذا الرهاب نحوها ؟ انها مجرد فتاة عادية شرسة ويتلاعب بها بسهولة مثل جميع مثيلاتها ! انت فقط عليك بتنفيذ كلامي حسب الخطة بدون اعطاء اي ملاحظات او ترهات لا داعي لها"
تقدم بجلوسه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية بغموض
"اولاً هي ليست زوجتي ولم تكن كذلك ، وثانياً لقد كنت ابدي رأيي بالأمر وانتِ من حقك تقبله او تجاهله بدون اي انفعال او غضب ، ولكن يبدو بأنكِ انتِ نفسكِ تخافين منها وتحسبين لها مئة حساب بدون ان تملكي الجرأة للاعتراف بذلك !"
ضربت مجددا على سطح الطاولة بقبضتها وهي تهمس من بين اسنانها بحدة بالغة
"كفى لا اريد سماع اي كلمة عن هذا الموضوع المزعج لكي لا نندم كلينا على ما سيحدث مستقبلا ، هل سمعت كلامي جيدا يا فأري العزيز ؟"
غامت ملامحه قليلا لبرهة قبل ان تعود الابتسامة لتتألق على محياه من جديد وهو يقول بخفوت مريب
"حاضر يا حسناء انا تحت امرتك ، ولكن مع كل هذا لا تنسي السبب الرئيسي والذي دفعني للقبول بكل هذه المهزلة ! فأنا ما ازال للآن انتظر مكافئتي الأولى على تعبي والتي انتظرتها طويلا ، وهذا ليس من ضمن عاداتي ابدا !"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تخرج بلحظة من حقيبتها مظروف ابيض ممتلئ ، لتسلمه بعدها للجالس امامها وهي تهمس بخفوت رسمي
"تفضل هديتك يا وحشي ، هذه المكافئة المجزية على تنفيذك اولى خطوات خطتنا ، واتمنى ان تكون على قدر قيمتك"
تناول المظروف من يدها وهو يلقي نظرة خاطفة على محتوياته ، ليعود بعدها للنظر لها وهو يقول بابتسامة مائلة بغرور
"يا لها من هدية رائعة وغنية من ابنة الوزير ! ولكن هذا لا يمنع بأنكِ موعودة بأن تنفذي لي طلباتي والتي اتفقنا عليها سابقا ، واقصد بكلامي شهادة امتياز بسوق التجارة والحصول على وظيفة مرموقة بشركة معروفة وترقيتي برتبة عملي......"
قاطعته من فورها بعبوس حانق
"اعرف هذا جيدا ، لذا ليس هناك داعي لتذكيري بكل دقيقة بواجباتي وكل ما يلزم عليّ الإيفاء به ! ولا تقلق فأنا لا انسى حق احد عندي"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة مرتاحة
"جيد لقد طمأنتني الآن ، لكي لا تكون عودتي لهذه البلاد خسارة ، فأنا لا احب ابدا الخسارة"
ابتسمت بحرفية وهي تتلاعب بأصابع كفيها هامسة بجدية عملية
"المهم الآن ان تركز على مسار خطتنا القادمة فهذه المرة حركتنا ستكون اكثر دقة وحرفية ، بداية ستكثف من مهمة مراقبة زوجته وتتبع حركاتها واماكن تواجدها المعتادة بعد الجامعة ، وبعدها عليك بمحاولة التقرب منها بطريقة غير ملحوظة بدون ان تشعرها بالضيق او الارتياب ، واكثر شيء عليك بالتركيز عليه هو مساعدتها واخذ دور البطل والمنقذ امامها بتخليصها من همومها والتي عليها ان تدور حول استعادة زوجتك وطفلها والتي تكون اكبر همومكما ومشاكلكما ، لا تنسى انت موجود لأنك تريد استعادة عائلتك وابنك ، احفظ هذا الكلام جيدا وضعه حلقة بأذنك لكي لا تنساه ابدا"
اومأ برأسه مجددا وهو يفرد ذراعيه عاليا بتكاسل قبل ان يقول بهدوء ضجر
"حسنا فهمت يا سيدتي ، هل هذا كل شيء لليوم ؟"
تنفست بجمود وهي تتمالك اعصابها لتهمس بعدها بخفوت مشتد
"لا تنسى ما قلته لك قبل قليل انت موجود لاستعادة عائلتك وليس لشيء آخر ، وكل هذا لأنك شعرت بالاشتياق لزوجتك والانتماء لابنك الذي يعود لك ، لذا إياك وان تنسى هذا الكلام او تحاول التلاعب معي لأني عندها لن اتساهل معك ابدا......"
نفض ذراعيه للأسفل بحركة مفاجئة وهو يقول بجفاء بارد
"حسنا ، حسنا ، كم مرة عليّ ان اعيد لكِ هذه الكلمة لتفهمي بأن كلامك قد دخل لرأسي واستقر ! فأنا بالنهاية لست اصم حتى لا افهم ما تحاولين إيصاله لي ! فأنا لا اكره بحياتي سوى الشخصية اللحوحة والتي تفسد وتعكر مزاجي ، والآن سأسألك مجددا هل هذا كل شيء ؟"
تشنجت ملامحها وهي تهمس ببرود جليدي
"اجل هذا كل شيء"
نهض عن الكرسي ببساطة وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا بابتسامة ماكرة
"إذاً وداعا يا سيداتي الفاتنات ، فأنا الآن لدي موعد مهم عليّ اللحاق به ، لذا اراكما بلقاء آخر"
قالت (لينا) بسرعة بهدوء جاد
"لما كل هذه العجلة ؟ نحن لم نطلب لك اي شراب من المقهى !"
مال برأسه جانبا وهو يقول بابتسامة جانبية
"لا بأس ، ربما بالمرة القادمة ! واضيفي على حسابك طلب كوبين من النسكافية من اجلي بالمرة القادمة تعويض عن هذه المرة"
ارتفع حاجبيها بذهول مستنكر وهو يوجه نظراته للصامتة بجوارها ليقول لها بابتسامة خبيثة بتسلية
"وداعا يا لعوبة ، اتمنى ان تكون المرة القادمة فرصة افضل للتعارف من جديد ، فأنا لن اتخلى عن كتلة الفتنة بهذه السهولة"
غادر بعدها باتجاه باب المقهى بعد ان ترك العيون الانثوية تتقد من خلفه بشعلات ملتهبة ، لتلتفت بسرعة باتجاه التي نهضت عن الكرسي وهي تتمتم بحقد مدوي
"ذلك البغيض ! لن اسامحه على تجاوزاته ما حييت !"
امسكت (لينا) بمرفقها بسرعة وهي تقول بتحذير خافت
"إياكِ وان تتهوري بأي حركة غبية فهو القطعة والجزء الاهم بخطتنا وبنسبة نجاحها ، لذا اتركيه خارج مخططاتك وبعيدا عن كل ما تفكرين بفعله بعقلك الشيطاني"
نفضت مرفقها بعيدا عنها وهي تهمس ببرود ممتقع
"اعلم هذا جيدا ، ليس هناك داعي لتذكيري"
تنهدت بتعب وهي تنظر لها بأطراف حدقتيها الخضراوين هامسة بغموض
"انا لا افهم حقا سبب عدائكِ هذا ! لقد ظننتكِ قد تكيفتِ مع كل نوعيات الرجال بالعالم حتى اصبحتِ تتعاملين معهم بسهولة مثل الخواتم بأصابعك !"
امسكت حقيبتها الانيقة وهي تضع سلسالها على كتفها هامسة بخفوت ناقم بشر مطمور
"هذا صحيح ، ولكن عندما يتعلق الامر بهذه النوعيات المقرفة التي تحاول تقمص عدة شخصيات للتقرب من الطرف الآخر ، فهي عندها تثير اشمئزازي ورغبتي بالتقيؤ منها ، فقد صادفت هذه النوعية سابقا ولن اتحمل مقابلتها او التعايش معها مجددا ، فقد ضقت ذرعا منها"
ارتفع حاجبيها بعدم فهم وهي تقول بسرعة بوجوم ما ان همت بالرحيل
"هل سترحلين الآن ؟ ألا تريدين طلب قهوة صباحية نحتسيها معا !"
تحركت بعيدا عن الطاولة وهي تلوح لها بكفها قائلة بنزق
"لم يعد لي مزاج لشرب شيء ، فقد تعكر بوجود ذلك الزلق وانتهى ، استمتعي بصباحك بدوني"
اراحت خدها على قبضتها المنتصبة وهو تشرد بمكان خروجها بلهب نيرانها الخضراء التي احتلت حدقتيها بدون ان تنضب وهي تستعد لدق طبول الحرب والتي لن تتوقف حتى تدمر كل شيء من حولها ، لتهمس بعدها بشرود قاتم بدون اي رحمة
"انتِ معي بهذه الخطة وشريكة بها يا قمر ، لذا إياكِ والتفكير بالرحيل لأني لن اسمح لكِ بذلك وستجنين نتائج الدمار معي !"
_______________________________
جلست على طرف السرير وهي ترفع كفها الصغيرة امام نظرها وعينيها العسليتين تتبع مكان الخاتم الذهبي والذي يحتل بنصر كفها اليمنى مثل علامة تدل على الزواج وتربطها بشريك حياتها الابدي....بدون ان تعلم كيف سارت الاحداث وجرت بكل هذه السلاسة لتصل بارتباطها بهذا الزواج والذي تحتم عليها القبول به بدون ان تنطق بكلمة رفض واحدة تنهي فيها كل هذا العرض !...لقد كان هناك الكثير بجعبتها تنوي رميه بعائلة العريس وبوجه عائلتها وبوجه الشهود وجميع من حضر عقد قرانها ذاك....ولكنها كانت وكأنها مربوطة بلجام سحبوها منه حتى وصلت لطاولة عقد القران والخوف الساكن بأعماق قلبها يقيد ارادتها ومقاومتها على التحرر .
قبضت على يدها وهي تستذكر الاحداث الاخيرة والتي لم يمر عليها سوى دقائق من عودتها منها...وهي تسمع صوت المأذون يكرر على اذنيها طلب الزواج وهو يأخذ موافقتها بدون ان يعلم بأن الموافقة قد صرح بها الجميع ما عداها....وبعد ان اصبحت بموقع المصير الحتمي والقرار بيدها والجميع ينتظر كلمة واحدة منها سمعت صوته يهمس بجوارها بهدوء ساحر
"هيا يا عزيزتي لا تخجلي فقط قولي نعم ، وليس من اجلي او من اجل عائلتينا بل من اجل قلبكِ المسكين"
بذلك الوقت لم تستوعب المقطع الاخير من كلامه والذي تموج بعقلها بمئة شكل ولون والتي كانت توصل جميعا لأفكار مرعبة ارهبتها وآلمت قلبها المريض ! وقبل ان تدرك ما عليها قوله قفزت الكلمة لشفتيها بانصياع متردد وكأنه لحن من صميم قلبها الميت
"موافقة"
بعد تلك الكلمة احكمت على قلبها بقيود فولاذية سورت محيطها بزنزانة الحياة ودفنت معها تربة حبها القديمة والتي سقتها على مدار سنوات بالأمل الميت والذي مات وانقضى بقاع اليأس والتي حجرت بها وانحبست ، ليليها بعدها تلبيس الخواتم والتي اثبتت صدق تلك الكلمة العابرة التي تفوهت بها وهي تعطي الإذن بالتشارك بتلك العلاقة المصيرية التي تحولت من حوار طريف لكلام رسمي فات الآوان للتراجع عنه ، وهي تنظر للشريك المختار لها والذي لم يكن ضمن توقعاتها او احلامها بل بالأحرى كان حلم عائلتها والذي حلق حر طليق بسماء عالمها ، لتغمض بعدها عينيها بلحظات ما ان انطبعت القبلة الحارة على جبينها بعمق دوى بضربات قلبها الصاخب وهو يهمس فوقها بخفوت خشن
"احسنتِ بالاختيار الصائب يا قلب هشام"
رفعت رأسها ببطء وهي تفتح جفنيها كاشفة عن احداق عسلية تحتلها ظلال وردية طفيفة من ادوات التبرج استحضرت غلالة الدموع التي شكلت غشاء رقيق فوق زجاج عينيها ، ليرفع بعدها كفها التي تحتضن بأصابعها الخاتم الذهبي الرقيق وهو يقبل ظاهرها بلطف فائق وكأنها مداعبة ، قبل ان يهمس بلحظة بابتسامة جذابة وهو مستمر بمداعبة اصابعها بحب
"مبروك علينا عقد قراننا ، كُل شوقي ولهفتي للحظة التي ستتوجين بها زوجة هشام امام العالم ، وهذا عليه ان يكون شعورك كذلك يا جرح قلبي ومهجي !"
تنفست بارتعاش لوهلة وهي تمسد بكفها على موضع خافقها برجفة تلقفتها بألم حارق ، لتخفض بعدها قبضتها التي ما تزال متسمرة بالهواء وهي تضمها مع كفها الاخرى بسكون تام ، وما هي ألا لحظات فاصلة حتى غاص قلبها ما ان اخترق رنين الهاتف عالمها الصامت ، لتصلب جسدها باستقامة بدون اي انفعال او تعابير تسكن تقاسيم محياها الباهت حتى صمت صوت الهاتف تماما وكل شيء يعيش بداخلها .
ارتفع حاجبيها بانتباه مشدوه ما ان وصل لسمعها صوت رنين خافت لرسالة سريعة ، لتزفر انفاسها بضيق وهي تتحرك على مضض لتلتقط الهاتف من على المنضدة وهي تعود للجلوس على السرير ، لتفتح بعدها محتوى الرسالة والتي كانت من الرقم والذي حفظته عن ظهر قلب
(صباح الخير يا اميرتي ، كنت اريد فقط ان ألقي عليكِ تحية الصباح الزوجية بعد ان تم عقد القران ، ولكن يبدو بأنكِ لست بمزاج جيد للرد على اتصالي ومكالمتي ، ولا امانع ان اعطيكِ الوقت لتأخذي قسط من الراحة من احداث اليوم والذي اتعب قلب العصفورة ، وإياكِ وان تطيلي بالغياب طويلا فلا تنسي لديكِ فقط مهلة شهر قبل ان يتم كل شيء بزفاف يليق بأميرة قلبي !)
ابتلعت ريقها بانقباض وهي تمسك الهاتف بكلتا كفيها بارتجاف لتضغط بأصابعها على لوحة المفاتيح برهبة ، وما ان انتهت من كتابة الرسالة التي اخذت منها الكثير من التردد حتى ارسلتها للرقم المدون بإرادة قوية
(شكرا لك على تفهمك ، ومبروك علينا عقد القران)
اخفضت الهاتف بخمول بعد ان انجزت مهمتها وبعثت رسالتها العملية ردا على مباركته السابقة بعقد قرانهما من باب الواجب فقط ، لتهتز كفها بصوت رسالة اخرى وهي ترفع الهاتف بحذر لتلقي نظرة سريعة على الرسالة المعلقة وهي تقول
(بارك الله فيكِ يا زوجتي الصغيرة ، اهتمي بقلبك جيدا والذي لن ينبض لأحد سواي ولن يحفر به سوى اسمي)
شددت من القبض على الهاتف وهي تشعر بمعاني مختلفة احتوت خلف ذلك الكلام المبهم ، لتلقي بالهاتف جانبا وهي تتجه من فورها لأدراج طاولة الزينة ، وما ان فتحت الدرج المقابل لها حتى ظهر لها العقد الرقيق المستقر بمكانه المعتاد والذي لم يتغير مع مرور الزمان ومع انقلاب الشخصيات ، لتمتد يدها تلقائيا وهي ترفع العقد بأصابع حذرة حريصة وكأنها تراه لأول مرة وليس لفترة طويلة اشبعت عينيها وانفطر قلبها به .
شددت من القبض على العقد تدريجيا حتى اصبح متكوم بداخل قبضتها ، لتمسك بعدها بصندوق صغير قديم بزاوية الدرج وهي تفتحه بيدها الحرة ، وبلحظة كانت تلقي العقد بداخله بعتمة اختفى معه ضياءه لينغلق عليه نهائيا وكأنها تغلق قلبها وتوصده بظلمة حالكة بعيدا عن نور الحب والذي لفحها بحرارة الشمس الحارقة ذهبت الشمس وبقيت الحروق تلسع بكل لحظة بدون ان تزول .
ما ان اغلقت الدرج برفق حتى اتجهت لنافذة غرفتها لتفتح الستائر بقوة وهي تقحم شعاع الشمس لغرفتها الباردة ، لتريح بعدها كتفها على إطار النافذة بهدوء وهي تكتف ذراعيها شاردة بالنور البعيد بدون نظر للوراء او تفكير للأمام فقط عالقة بالمنتصف بدون عنوان او هدف .
_______________________________
تلبدت ملامحه بخطوط جامدة وهو يضع الهاتف جانبا قبل ان يحدق بالخاتم الفضي حول اصبعه والذي يشكل حلقة وصل بشريكة حياته...لترتسم الابتسامة الجانبية على محياه بانجذاب خاص وهو يشرد بشكل الخاتم والذي صُنع منه زوجين متشابهين بالدقة والحجم ليكون الشيء الوحيد الذي يشترك بهما....وهو ما يزال يستشعر نعومة اصابعها الصغيرة بين يديه عندما ادخل خاتمها بأصبعها بكل سلاسة مثل رقة النسيم على بتلات الازهار المتساقطة...بدون ان ينسى طلتها امامه بالثوب الطويل المتمايل بدرجات اللون الفيروزي مثل شمعة متوهجة بوقت الظهيرة تحتاج لقبة زجاجية تحميها من الاعين الكاسرة التي تكاد تطفئها بنفخة هواء....حتى بدت غنية بالجمال الباهر تليق بمناسبة رسمية ليوم عقد قرانها والذي حسب لها مئة حساب من افسادها لها بأي طريقة قد تخطر على بالها فقط لكي ترضي غرورها الطفولي وباستخدام اسلحة طريفة بحربها الفاشلة وبرأسها الصغير الذي لا يستطيع ان يجابه رأسه .
خرجت منه ضحكة صغيرة غادرة وهو يرفع نظره بعيدا بشرود وعقله يرسم صورة عينيها الجميلتين واللتين تظهران دموع الانكسار ممزوجة بالعجز كان له تأثير العلقم على روحه والحريق بقلبه ، وهو يدرك تماما سبب تلك الدموع الخائنة التي ما استحضرتها ألا بسبب شعورها بالغدر لحبها القديم الذي ما تزال تهيم به لهذه اللحظة ، فبعد كل شيء ما يزال يستطيع استشعار تلك الحالة وتمييزها عن باقي البشر عندما يكون الطرف الآخر لا يبادلك نفس المشاعر والتي سبق وبادلها مع غيرك ، فلن يكون عندها باستطاعتك فعل شيء سوى الانسحاب من ساحة الحرب محمل بالهزيمة والخيبة الكبيرة لآخر العمر ، وهذا هو ما لمحه وشاهده بنظرات تلك الصغيرة المملوءة بالحب والمشاعر بقلبها المكسور لشخص اصبح بعيد المنال عنها .
شدد من قبضته وهو ما يزال يتلاعب بحلقة الخاتم التي اصبحت حلقة نارية لاسعة تضيق من حوله وتقتل اي مشاعر قد تطفو على السطح ، ليفيق بلحظة على صوت الخطوات الهادئة التي كانت تسير نحو طاولته ، ليتنفس بعدها بقوة وهو يتلبس قناع البرود العملي ما ان وقفت الفتاة امامه وهي تضع من فورها الاوراق فوق طاولة المحاضرات .
اخذت عدة انفاس وهي تهمس بابتسامة رسمية
"لقد احضرت لك جميع اوراق العمل بعد ان جمعتها من طلاب القسم كما طلبت مني"
اومأ برأسه بجمود وهو يمسك بورقة من بينهم قائلا بجدية صارمة
"هل استلمتها من جميع الطلاب ؟ فأنا لن ابدأ بها قبل ان اتأكد من اكتمال عدد الاوراق"
اومأت برأسها بتأكيد وهي تقول بابتسامة واثقة
"اجل يا استاذ هشام ، لقد تأكدت من الحصول عليها من جميع الطلاب بدون نسيان احد منهم ، وقد اخذ مني الامر وقت طويل بسبب غياب بعض الطلاب ونسيان البعض الآخر انجازها ، وقد تأكدت بنفسي من اكتمال عددها قبل تسليمهم لك"
ابتسم بهدوء وهو يعيد الورقة مكانها قائلا بامتنان
"احسنتِ صنعا يا منيرة ! وعندما انتهي من تصحيح اجابات الاوراق سأسلمها لكِ لتوزعيها على طلاب القسم"
اومأت برأسها بأدب وهي تهمس بخفوت مبتسم
"بالطبع يا استاذ هشام ، اعتمد عليّ بهذا"
اخفض نظره وهو يعود للعمل على الاوراق امامه بهدوء ، لتتلكأ بعدها بمكانها وهي تهمس بابتسامة صغيرة بإحراج
"هل لي بسؤال يا استاذ هشام ؟ الحقيقة هو شخصي قليلا ومن دافع الفضول لا اكثر !"
عاد للنظر لها بجمود وهو يقول بمهنية
"تفضلي يا منيرة ، اسألي !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تشير بعينيها باتجاه اصابع يده هامسة بخفوت متساءل
"هل هذا خاتم زواج جديد ؟ فأنا لم يسبق لي رؤيته من قبل !"
انحرف بنظراته للخاتم الذي ما يزال رهن إشارة اصابعه وهو يتلاعب به بدون شعور تقريبا ، ليعود بالنظر لها بابتسامة فكت جمود ملامحه وهو يقول بارتياح
"حسنا بما انكِ قد سألتي الآن وانا بمزاج جيد جدا غير قابل للتعكير ، سأتغاضى عن وقاحة سؤالكِ وتأنيبكِ على حشرك بما لا يعنيكِ لأجيبك عن سؤالك ، اجل هذا خاتم زواج فقد عقدت قراني اليوم بالصباح"
تجمدت ملامحها برهبة دامت لوهلة وهي تحاول الهمس باستيعاب متأني
"حقا ! يا لها من مفاجأة !"
رفع حاجب واحد بحدة وهو يهمس بجمود ساخر
"ماذا ؟ أليس هناك مباركة لي على الاقل ؟"
ارتبكت ملامحها اكثر وهي تهمس بابتسامة مغتصبة بدون اي فرح
"اجل صحيح ، مبارك يا استاذ هشام ، واتمنى لك حقا السعادة وراحة البال"
اتسعت ابتسامته بالتواء ساحر وهو يقول بمودة
"بارك الله فيكِ يا منيرة ، واتمنى لكِ بالمثل كذلك وان تجدي سعادتك بالقريب العاجل"
اومأت برأسها بهزة خيبة وهي تهمس من فورها باستفسار حائر
"ولكن من هي سعيدة الحظ التي وقعت بحب استاذنا الرائع هشام ؟"
عقد حاجبيه بغمامة قاتمة اكتسحت محياه وهو يشيح بوجهه جانبا قائلا بجفاء قاسي
"يكفي اسئلة لا طعمة لها ! فقد تجاوزتِ حدودكِ بالتدخل بشؤون غيركِ ، عودي لمكانكِ وانشغلي بشؤونك الدراسية افضل لكِ"
اومأت برأسها بخوف وهي تهمس بتهذيب منصاع
"حاضر يا استاذ هشام ، واعتذر على الإزعاج"
ما ان كانت على وشك الانسحاب حتى ظهر طالب من خارج القاعة الدراسية وهو يقول بلهاث متعجل
"ارجوك ان تتصرف بسرعة يا استاذ هشام ، هناك شجار كبير يحدث بالردهة بين طالبين ولم يستطع اي احد من المتواجدين ايقافهما !"
نهض (هشام) عن الكرسي بقوة وهو يشير له بذراعه قائلا بأمر نافذ
"انت اسبقني وانا سألحق بك على الفور"
غادر الطالب بسرعة ليوجه نظراته للفتاة الساكنة امامه وهو يقول لها بحزم
"اخبري باقي الطلاب بأن المحاضرة التالية ستتأخر قليلا ، حسنا !"
اومأت برأسها بطاعة وهي تنظر له يغادر لخارج القاعة بخطوات متسارعة ، وما ان اختفى عن نظرها حتى همست بابتسامة حزينة بيأس
"يا للخسارة ! لقد فقدت بارقة الامل الاخيرة لي بالزواج وذهب معه الجمال والجاه والحظ !"
كان (هشام) قد وصل للردهة وهو يراقب تجمعات الطلاب الموزعة حول المنتصف والتي تدور عندها النزاع بين الطرفين المتحاربين واللذان اشعلا الاجواء بالمكان ، ليقتحم الحشد المسور من الطلاب وهو يشق طريقه من بينهم وصولا لمركز الدائرة ، وما ان اصبح امام الخصمين المتنافسين كل منهما يضرب الآخر بجنون العظمة وبعض الطلاب يحاولون الفصل بينهما بصعوبة فاقت مقدرتهم ، حتى تدخل بلحظة وهو يفض النزاع بينهما بضرب كل منهما لكمة على كتفه دفعته بعيدا عن الآخر .
غيم الصمت بين الجميع لوهلة والانظار تنتقل نحو الواقف بالمنتصف وهو ينفض ذراعيه للأسفل ، ليصرخ بعدها باستهجان غاضب ونظراته تتنقل بين الاثنين بازدراء
"هل انتما طالبان بالجامعة ام مجرد متسكعين من اولاد الشوارع والذين انعدمت منهم الاخلاق والتربية ؟ هل هذه تصرفات عاقلة او طبيعية تخرج منكما يا مثقفين يا دارسين يا عدة الاجيال القادمة ؟ ماذا سيقول عنكم عائلاتكم بعد هذه المسرحية التي قدمتموها للجامعة بأكملها ؟ هل تعرفون اصلا عقوبة النزاع بالحرم الجامعي والتسبب بشجار طاحن مثل الحيوانات البرية ؟ هل تريدون ان تفصلوا من الجامعة وتخسروا حياتكم المهنية والتعليمية ؟ اجيبوا هل تريدون الفصل من الجامعة بسبب سوء سلوككما هذا والذي يخجل طلاب المدارس التصرف مثله ؟!"
ساد صمت اثقل عن السابق ابتلع ألسنتهم وشجاعتهم والتي كانوا يتميزون بها من لحظة ، ليصل بعدها رؤساء الاقسام الاخرى وهم يخرجون من حشد الطلاب لينظروا للحادثة الواقعة امامهم ، قال اكبرهم بملامح صارمة صاحب الشعر الابيض الذي غزى رأسه
"هل كل شيء بخير يا هشام ؟ هل يحتاج الامر لتدخل من ادارة الجامعة لتستطيع التكفل بهم واستحضار اولياء امورهم ؟"
حرك (هشام) رأسه نحوه وهو يقول بابتسامة متزنة بمهنية
"لا داعي لذلك يا سيد كنعان ، فأنا كفيل بالاهتمام بهم وقمعهم عن تصرفاتهم لكي لا يعيدوا ذلك الموقف المشين امام الجامعة مجددا ، واتمنى ان تتفهموا رغبتي بحل الخصام بنفسي"
ابتسم (كنعان) بتغضن وهو يشير بذراعه امام صدره قائلا باحترام رغم فارق العمر الكبير بينهما
"افعل ما تراه مناسبا يا هشام ، فقد اعطينا قيادة الدفة لك ، واتمنى ان تكون بقدر هذه المسؤولية ، فنحن ثقتنا كبيرة جدا بك"
اومأ برأسه كذلك باحترام وهو يقول بابتسامة متسعة بقوة
"شكرا لكم على ثقتكم"
استدار الرجل الكبير امام الطلاب وهو يلوح بذراعه عاليا صارخا بصوت جهوري نافذ
"هيا تحركوا من هنا حالاً ، لا اريد رؤية اي تجمعات طلابية بالمكان ، وإذا رأيت اي منكم لم يلتزم بالأوامر فعليه ان يحسب نفسه واحد من المهددين بالحرمان من الجامعة ! وهذه القوانين ستطبق على الجميع"
هرع الطلاب بالهروب برعب وهم يختفون بسرعة قياسية حتى فرغت الردهة منهم بثواني ، بينما انسحبوا رؤساء الاقسام وهم يتركون له مهمة عقاب المتنازعين وسبب كل هذه البلبلة .
ادار نظره نحوهما بجمود كاسر وكل منهم ينظر بمسار بعيد عن الآخر ، ليقول بعدها بصرامة قاطعة وهو يستخدم قناع القسوة والذي لا يصل له سوى بالمواقف الحرجة
"هيا اتبعاني لدينا حديث مطول علينا ان نجريه معا ، وبعدها سنناقش بنوع العقاب الذي يستحقه جهلة العلم امثالكما"
سار بعدها امامهما وهما ينظران بأثره بنظرات جامحة بهدوء ، ليتحرك بعدها صاحب الملامح الشرسة وهو يقول للآخر بوعيد بالقتل
"لن اسامحك يا عصام ، سأقتلك حتى لو كان آخر يوم بحياتي !"
بينما كان (عصام) يراقبه بهدوء غامض وهو يهمس بازدراء خافت
"ثور احمق بدون عقل ، لا يختلف عن شقيقته البغيضة !"
____________________________
كان يجلس خلف المكتب المقابل لهما وهو يشرف عليهما بنظرات حادة بقسوة وكأنه يحاول استشفاف الحقيقة منهما من سكونهما القاتل ، ليتراجع بعدها بجلوسه قليلا وهو يخرج انفاس طويلة مجهدة قبل ان يقول بحزم جاد
"إذاً ألن تتكلموا وتفضوا بحقيقة ما حدث الآن ؟ اريد ان اعرف سبب كل هذا العراك بوضح النهار وامام كل الجامعة بأسرها ! ألا تملكون ولو ذرة خجل من كل ما ارتكبتموه امام عيون الطلاب واساتذتكم بعد ان عرضتم انفسكم للذل والاستصغار !"
عندما لم يصدر من الجالسين امامه اي ردة فعل تنبأ بنواياهم بالبوح او التفسير او حتى بالتكفير عن ذنوبهما ، ليقول بعدها بملامح حجرية وهو يكور قبضتيه معا
"هل ستتكلمان عن سبب المشكلة ؟ لأنه إذا لم تفعلا ذلك فأنا مضطر لتحويل قضيتكما للسلطة الاعلى ! وعندها عليكما بتجهيز اوراق الفصل من الجامعة والانتقال منها !"
غيم الصمت بينهما للحظات قبل ان ينطق صاحب الملامح الهادئة وهو يقول بجمود قاتم
"هو الذي بدأ اولاً بالهجوم عليّ وافتعال الشجار معي ، وكل ما فعلته هو الدفاع عن نفسي امام جنون غضبه الذي اعمى بصيرته"
نقل نظراته نحو الجالس الآخر وهو يقول له بجدية نافذة
"هل ما يقوله عصام صحيح ؟"
رفع رأسه بقوة وهو يجيب قائلا بجفاء
"لقد كنت ادافع عن شرف شقيقتي"
قال الجالس بجانبه بنظرات جانبية باستهزاء
"ما هذه السخافة التي تتفوه بها ؟ انها خطيبتي وهذا يعني بأني املك كل الحق بفعل ما اشاء بشقيقتك ! وانت ليس لديك اي سلطة عليّ بما افعله معها ويدور بيننا من خلافات شخصية او نزاعات ، واخبرتك من قبل ان تبقى خارج كل هذه المشاكل والتي لا تربطك بها اي علاقة ، ولكنك مصر على حشر نفسك واقحام رأسك مثل الثور"
انتفض واقفا فجأة بغضب قدح بعينيه من جديد وهو يعود ليمسك بياقة قميصه ليوقفه امامه بلحظة ، قبل ان يتبعها بالصراخ بوحشية يكاد يمزقه إرباً وهو يعبث بكبرياء الرجل
"يا عديم الرجولة والمروءة ، وتتجرأ على الكلام عن شقيقتي بلسانك القذر ! بعد كل ما فعلته معها ووصلت له بسببك وانت تتعامل مع الوضع وكأن شيء لم يحدث ! انت لم ترتبط بفتاة من الشارع التقطها من الملهى ليس هناك كبير خلفها ليعاقبك على افعالك معها وإهاناتك لها الشبيهة بالبهائم ، انت حتى لا تستحق الحصول عليها ولا الانتساب لعائلتنا ولا اعطائك فرصة اخرى تدمر بها كرامة تلك الفتاة المحطمة منك !"
امسك بيديه على ياقة قميصه وهو ينزعهما عنه قائلا ببرود ساخر
"لا تستطيع ان تتكلم على لسانها واتخاذ القرار عنها وكأنه ليس لها وجود ، فهي تملك لسان وعقل بعد كل شيء وتستطيع ان تقرر مصيرها بنفسها ، فقد مللت من تحكماتك بعلاقتنا وتكلمك عن الجميع وكأنك صاحب الأمر بكل شيء ، وكل ما تجيد فعله هو طمس شخصيتها وتحويلها لبلهاء جبانة لا تتقن فعل شيء لوحدها او الاعتماد على نفسها خوفا من بطشك وجبروتك !"
شدد من امساك ياقة قميصه بدون ان يفلتها وهو يطحن على اسنانه بحالة غضب جامح ليقول بانفعال هادر
"هل تحاول ان تفرض سيطرتك على تصرفاتي وابداء رأيك بها ؟ لما لم تسأل نفسك كيف اصبحت حالتها بسببك وماذا فعلت تصرفاتك المريضة بها ؟ انها حتى لم تعد تملك الجرأة على القدوم للجامعة مجددا ! وكل ما اصبح يهمها هو ارضائك وعدم الانفصال عنك لدرجة ان تتوسل لي بعدم التعرض لك او دفعك للتخلي عنها ! لقد اصبحت تهذي وتهلوس بك بجنون تلك عديمة الكرامة ! انا حقا قد ظلمتها ولكن ليس معي بل بارتباطك معها وقبول تلك العلاقة المريضة بينكما والتي استنقصت من كرامتها ونفسها الكثير !"
مالت ابتسامته بسخرية ممزوجة بالمكر وهو يقدم وجهه امامه قائلا بخبث منخفض
"بالطبع ستفعل ذلك وستفكر مئة مرة قبل ان تنفصل عني وتتهور بفعلها ، لأنها اكثر من يعلم بيننا من هو الخاسر بلعبة الانفصال هذه والتي ستؤدي لنتائج وخيمة بحياتها ! وخاصة بأنه لا احد سيكون بقدر شجاعتي ليقبل بالارتباط بفتاة قبيحة لا تملك اي سمة جديرة بالذكر تمدح عليها ! تذكر هذا جيدا"
شخصت عينيه بشرارات الغضب وهو يكاد يصرخ بعلو صوت طبول الحرب
"ايها الحيوان الحقير......."
صدح الصوت الجهوري وهو يضرب على سطح الطاولة بقوة
"يكفي شجار انتما الاثنان ، لقد فتحت لكما باب الحوار ليس من اجل ان تعلو اصواتكما وتتعاركا امامي بوسط مكتبي ، بل من اجل ان تحلا مشكلة الخصام وتوقفا هذه العراكات ، ولكن يبدو بأنكما لا تصلحان للنقاش والسلم ولا شيء يجدي معكما سوى العنف والتأديب الإجباري ، أليس كذلك ؟"
نفض قبضتيه بعيدا عن قميصه وهو يستدير ناحية المكتب ليحني رأسه قليلا باحترام وهو يقول باقتضاب
"اعتذر عن الشجار والإزعاج والذي تسببت به بالحرم الجامعي ، واعدك ألا تتكرر مرة اخرى ، اتمنى ان تقبل مني كامل اعتذاري وطلب الصفح منك ، وانا مستعد لأي نوع عقاب او تقريع قد تسلطه عليّ ، وشكرا لك على تفهمك واعطائنا من وقتك باب للحديث رغم انشغالك"
حرك رأسه باتجاه الساكن الآخر وهو يقول بابتسامة جامدة
"أليس لديك شيء لتقوله ايضا يا سيد عصام ؟ قبل البدء بإجراءات تنفيذ عقابكما التأديبي !"
نظر له بصمت وهو يقول بابتسامة جانبية بهدوء
"ليس هناك شيء لأضيفه على كلامه ، وكل شيء كنت اود قوله امامك فقد قاله بالفعل ، وشكرا لك على تفريغ وقتك من اجلنا وحسن الاستماع"
ضيق عينيه بصمت وهو يمسك بورقة من على الطاولة ليلقي بها امام نظراتهما الجامدة ، ليشير بعدها بطرف اصبعه وهو يقول باقتضاب
"هذه ورقة تعهد بعدم التعرض لبعضكما مرة اخرى بداخل الحرم الجامعي ، وعليكما بالتوقيع على هذه الورقة واثبات الكلام بالحبر ، وإذا تكررت هذه المشاهد مرة اخرى فلن استطيع مساعدتكما او الفض بينكما ، هل كلامي مفهوم ام اعيد الشرح ؟"
تقدم الرجل الاول امام المكتب وهو يلتقط القلم بجانب الورقة ليوقع عليها بهدوء ، وما ان انتهى حتى اعاد القلم مكانه وهو يقول بجمود
"هل استطيع الرحيل الآن ؟"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بعملية
"اجل يمكنك الرحيل ، ولكن تذكر جيدا ما اخبرتك به للتو وانت لديك كامل التصرف"
ابتسم بالتواء بسيط وهو يقول بصوت خشن
"عن إذنك الآن"
غادر للخارج امام نظراتهما ليتحرك الآخر وهو يمسك القلم ليوقع على الورقة بامتثال ، ليمسك بعدها بالورقة وهو يمدها امامه قائلا بهدوء
"لقد اصبحت جاهزة الآن ، هل من اوامر اخرى ؟"
استلم منه الورقة وهو يتأملها قائلا ببرود
"لا لقد انتهيت منكما الآن ، يمكنك العودة لمتابعة محاضراتك"
تشنجت ابتسامته بصمت وهو يقول بهدوء مريب
"يبدو بأنك تعرف شعوري جيدا وتشاركني معاناتي"
رفع نظره نحوه بحيرة حادة مع حاجبين معقودين بضيق ، ليقول بعدها بتوضيح وهو يشير بعينيه ليده اليمنى مكان الخاتم
"انا اقصد بأنك خاطب من وضع الخاتم بيدك اليمنى مثل حالتي تماما ، ولكن اراهن بأن نكون متشابهين بنفس نوع الخطيبة !"
قطب جبينه بجمود وهو يعود بنظره للورقة امامه قائلا بجفاء بارد
"هذا ليس من شأنك ، وتوقف عن إضاعة الوقت عندي واذهب لمحاضرتك"
تراجع عدة خطوات بهدوء وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"هل تعرف عن احوال الطالبة غزل رأفت ؟ فقد سمعت بأنك تهتم بدروسها الخصوصية !"
تجمدت يديه على اطراف الورقة وهو يقول بقتامة غير معبرة
"ألم اخبرك الآن ان ترحل من هنا ! فأنا ليس لدي وقت شاغر لنتسامر معا !"
اومأ برأسه وهو يستدير بعيدا بدون ان ينسى ان يقول التهاني
"مبروك خطبتك يا استاذ ، بالرفاه والبنين"
حدق بالباب والذي اغلقه من خلفه وهو يعود ليتلاعب بحلقة الخاتم حول اصبعه باحتكاك حارق اشعل مفاصله وهو يهمس باسم واحد بصوت خفيض حاد
"عصام شرفات"
______________________________
جالسة حول مائدة العشاء وهي تحرك الطعام بالطبق بشوكتها بدون شهية وهي تحدق امامها بلا حياة ، لتفيق بعدها على صوت الجالسة بجوارها وهي تهمس بخفوت حاني
"ما بكِ يا ماسة ؟ فيما انتِ شاردة ؟"
حركت رأسها بغمامة كاسرة وهي ما تزال تحرك الشوكة بشرود لتهمس بعدها بوجوم
"لا شيء يا اختي ، فقط متعبة قليلا"
رفعت (روميساء) حاجبيها بانتباه وهي تضع كفها على جبينها لتقيس حرارتها قبل ان تهمس بخفوت مرتاب
"حرارتك معتدلة ، ما بكِ يا فتاة ؟"
اشاحت بوجهها بقوة بعيدا عن كفها وهي تهمس بضيق
"انا بخير ، توقفي عن معاملتي وكأني حالة مرضية عليكِ معالجتها"
عبست ملامحها وهي تعود لتناول الطعام امامها هامسة باستياء
"افعلي ما تشائين ، ولكن عندما تشعرين بالانتكاس والتعب لا تستنجدي بي لأني لن اسأل عنكِ"
زفرت انفاسها بضيق مكبوت وهي تتلاعب بالشوكة بعدم اهتمام ، ليشد انتباهها صوت المقعد الذي يبعد عنها مسافة مقعدين بعد ان نهض صاحبه قائلا بهدوء جامد
"عن اذنكم ، بالهناء والشفاء"
غادر بعدها لخارج قاعة الطعام امام نظراتها الحجرية بدون اي تعبير يعلو ملامحها ، ليصلها صوت شقيقتها والتي كانت تنظر لنفس وجهتها هامسة بتفكير
"هل تشاجرتِ مع زوجك ؟ الوضع ليس مطمئن !"
اكتسحت ملامحها بغيوم ضبابية اقتلعت جذور روحها وعصفت بنبضات قلبها بثواني ، وباللحظة التالية كانت تلقي بالشوكة جانبا والتي اصدرت رنين عالي جذب الانظار نحوها وهي تنهض عن المقعد بصمت ، لتدور بعدها خلف مقعدها وهي تتجه مباشرة لخارج قاعة الطعام بدون ان تنطق بحرف واحد امام العيون الناظرة لها بترقب شديد .
كانت (ماسة) تصعد درجات السلم بسرعة اقرب للجري وهي تواصل طريقها حتى وصلت بثواني امام الغرفة ذات الباب الموارب ، وما ان دفعت الباب وهي تخطو للداخل حتى وجدت الذي كان يوليها ظهره وهو مشغول بالعبث بملابسه او على الاغلب بتفريغها من ملابسه .
ابتلعت ريقها بانقباض وهي تقترب منه عدة خطوات حذرة قبل ان تكتف ذراعيها بلحظة وهي تقول بجمود عابس
"ما لذي تفعله يا شادي ؟ هل هناك تفسير منطقي ينم عن تصرفاتك الغريبة ؟ فقد بدأت تجذب الانظار والكلام حولنا ! هل تريد الاستمرار بلعبة الخصام طويلا ؟"
حاد بنظراته نحوها لوهلة قبل ان يعود لانتشال ملابسه من علاقاتها بقوة اكبر بدون ان يعيرها اهتمام ، لتخفض بعدها ذراعيها وهي تحاول لمس ذراعه بأصابعها هامسة بخفوت مشتد
"توقف عن تجاهلي هكذا وكأني مذنبة ، ما لذي فعلته لك لتكون بكل هذه القسوة معي ؟ ارجوك فقط افصح لي بما يزعجك وتوقف عن هذا الاسلوب بمعاقبتي ! فهذا يزعجني اكثر من الكلام"
نفض يدها بعيدا عن ذراعه وهو يلوح بها باتجاه الحمام المرفق قائلا بسخرية قاتمة
"ما لذي تنتظرينه هيا اذهبي واختبئي خلف باب الحمام ؟ فهذا هو ما تبدعين به تفجير القنبلة بوجه خصمك بعدها الهروب من نتائج الانفجار بدون مواجهة الحقيقة ! كيف تريدين مني التكلم معكِ وانتِ تغلقين دائما كل ابواب الجدال بقفل حديدي ؟ لا تحبين الخسارة بالجدال ولكنكِ تحبين فرض جدالك على الطرف الآخر ، وإذا كان هناك شيء يزعجك فقط تديرين ظهركِ له وتهربين ببساطة بدون مواجهة تبعات تهورك بشجاعة تختفي عند اللزوم ، أليس كذلك ؟"
اخفضت يديها على جانبيها بخمول وهي تهمس بخفوت جليدي حفر على تفاصيل ملامحها
"اجل انا هكذا ، هذه جوانب شخصيتي التي لم تكن تعرف عنها ، هل لديك مانع بهذا ؟ هل تستطيع تغيير حقيقة صفاتي التي يتسم بها تفكيري وكياني ؟"
نظر لها بهدوء عابس قبل ان ينفض ذراعيه للأسفل شلت حركتها وهو يتبعها بالقول بجفاء بارد
"الكلام معكِ لا يجدي يا ماسة لأنك صعبة المراس ، كل ما تريدينه هو كسر الخصم امامك بتحديات او حروب لا يشنها سوى عقلك مع نفسه ، عندما تضعين هذا العقل برأسك وتفكرين جيدا بالمسار الصحيح بحياتنا وتتوسعي بعيدا عن التفكير بالذات ، قد استطيع عندها النقاش معكِ"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تنظر له يعود لينبش بين الملابس بعنف لتهمس بعدها بخفوت حانق استبد بها
"وماذا تريدني ان افعل ؟ لم افهم للآن من ماذا انت غاضب مني ! هل كل هذا لأني قلت بضع كلمات عن شقيقتك ؟ كل هذا لأني تدخلت بشؤونها واعطيتك الحل الوحيد والمنطقي لمشكلتها العصيبة ! بعد كل شيء هي التي تسببت بكل هذا لنفسها بدون تدخل اي احد منا ! وبالمناسبة هي تستحق كل ما تتجرعه الآن !"
التفت نحوها بقوة وهو يقول من بين اسنانه بجموح على وشك فقدان السيطرة عليه
"اخرسي يا ماسة ، هل تدركين حتى من هي هذه التي تتكلمين عنها بهذه الطريقة الهجومية ؟ هذه تكون شقيقتي ولو من والدتي فقط ولو كانت اكره المخلوقات على قلبي وثقل على كاهلي ! ولكنها تبقى تجمعني بها برابط الدماء الذي يجري بعروقنا والذي لن يفصلني عنها سوى الموت ، كيف تتكلمين هكذا وكأنني وجدتها عند قارعة الطريق او عند سوق العاهرات ؟ فكري قليلا بعقلك السميك قبل ان تطلقي لسانك الاحمق الشبيه بالمبرد القاتل ! قد ترتاحين عندها بحياتكِ الحالية وتريحين زوجك وتسعدين من حولك يا صاحبة القلب الاسود"
شددت على يديها بانحسار توحش بروحها وقبض على احشاءها وهي تقول بلحظة بابتسامة شرسة هجومية
"انا ادرك تماما عن ماذا اتكلم وعن مَن اتكلم ، فهذه التي تدافع عنها باعت نفسها لرجل غريب برابط وهمي غير ثابت ، وهذا الطفل الذي اثمر بينهما هو بالحقيقة ابن غير شرعي بدون نسب او هوية ، ما هذه الحياة الصعبة التي ستحميها وكيف ستقطع ألسنة البشر عنها ! كيف ستعيش بسلام بعد كل هذا ؟ كيف ستفسر وتشرح الرابط الذي يجمع بينكما ؟ حتى انها لن تستطيع الزواج وبناء عائلة وحياة فوق ركام الماضي ! انا اخبرتك وسأكرر الحل لكل هذه المشاكل هي زواجها رسميا من ذلك الرجل الذي يكون والد الطفل ، وهذا هو الشيء الوحيد الذي سيوقف الدمار الذي سيحول بها وبك وبي وحياتنا بأكملها بسبب عنادك الاحمق وكبريائك الرجولي"
تلبدت ملامحه بغمامة قاتمة غيمت على الاجواء بينهما لثواني معدودة وهو ما احتاجه قبل ان يداهمها بقوة وهو يكبل ذراعيها بقيود حديدية ، ليبصق بعدها الحمم بوجهها بهجوم ضاري ارعب اوصالها
"ماذا تقولين يا ماسة ؟ هل ما تزالين تكررين ذلك الكلام الاحمق على اسماعي ؟ هل فقدتِ عقلك بالكامل لتقترحي عليّ مثل هذه الفكرة الحقيرة وتظنين بأنها الخيار الافضل ! اسحبي هذه الفكرة والكلام من رأسكِ فورا ، اسحبيها قبل ان اقتلع عقلك من رأسكِ هذا !"
حركت رأسها ذهاباً وإياباً وهي تهمس من بين اسنانها ببأس
"لن اسحب شيء من كلامي ، ومهما قلت ونفيت لن تستطيع ان تلغي صحة فكرتي وفوائدها وخدمتها لصالح الجميع ! لذا إذا كنت تفكر ولو قليلا بسلامة وسعادة حياتنا ستفعل ما اخبرك به"
التوت زاوية شفتيه بسخرية وهو يقول باستهجان عابس
"هل تقولين ان ابيع شقيقتي واسلمها لمصيرها البائس من اجل ان تسعدي بحياتك ؟ هل تحاولين انقاذ نفسكِ وحياتك على حساب كرامتها وحياتها ؟ ألا تستطيعين وضع نفسكِ بمكانها وبمحل تفكيرها ! لما لا تجربين بعضا من معاناتها ليستطيع قلبك القاسي الشعور بالشفقة والرحمة نحوها بدلا من عزة النفس والغرور والذي اخذكِ بعيدا ؟"
شحبت ملامحها تحت رخام قاسي وهي ترفع ذقنها هامسة بتعالي منفر
"عليك ان تضع نفسك مكاني اولاً لتكتشف الفرق بين الحالتين ، ومع ذلك سأخبرك بأني لو كنت مكانها لدفنت نفسي تحت الارض ولكنت تمنيت الموت مئة مرة ليأتيني مقبلا ويريحني من حياتي وينظفني من هذه القذارة التي تلطخت بها ، فما فعلته بحياتها واقترفته بحقها كبير جدا ولن ينظف وينتهي سوى بالموت الاخير او العذاب طول العمر ، ولها حرية الاختيار وبيدها الخيار بالطريقة التي تعذب بها نفسها فهي منتهية بكل الاحوال ولن يضر لو اختارت فكرتي للعيش من جديد !"
ارتفع حاجبيه ببطء جامد وهو يتنفس بتهدج احرق بشرتها بثواني ، ليهمس بعدها بتعجب ساخر وكأنه يلكمها بصراحته بعد ان اخرجت الوحش من الجرح الغائر
"لم اعرف بأنكِ بكل هذا السوء يا ماسة ! هل هذا تفكير بشري ام شيطاني غير انساني ؟ هل انتِ حقا تحملين كل هذا السواد والحقد المعبأ بداخلك لكل البشر الذين يعيشون من حولك ؟ ماذا فعلت بكِ الحياة حتى حولتك لهذه الصورة المشوهة ؟ ماذا فعل بكِ العمل بين العصابات والمجرمين ! هل اخذوا قلبك ومزقوه ام سرقوه منكِ وتركوكِ بلا قلب او مشاعر ؟ هيا اجيبِ على اسئلتي يا ماسة ، ماذا فعلوا بكِ ؟"
احنت حدقتيها السماويتين بصمت خاوي وهي تهمس بلحظة بخفوت اجوف
"لا تفكر بي كثيرا بل فكر بحال شقيقتك وانت تدمر حياتها بيديك ، عليك ان تعلم بأنك ستدمرنا قبلها بكل خطوة تتقدمها نحوها ، عندها لن يرحمنا احد وسأخسرك للأبد"
قطب جبينه بتجهم وهو يدفعها بعيدا عنه بقسوة قبل ان يقول ببرود جليدي
"إياكِ وان تتدخلي بعد الآن بما لا يعنيكِ ، فهذه اموري الخاصة لوحدي احلها لوحدي ، وإذا كنتِ تريدين ان نعود كما كنا فعليكِ ان تسحبي كل الكلام القذر الذي نطقتِ به بحق شقيقتي وتخرجي تلك الفكرة الغبية من رأسك ، ولن اطلب منكِ مجددا ان تشعري بالرحمة اتجاه احد فإذا لم تستطيعي ان ترحمي نفسكِ فكيف سترحمين غيرك ؟"
نظرت له بحدقتيها الواسعتين واللتين نبض بهما الألم الخفي بلمحة خاطفة ، بينما امسك (شادي) بكومة الملابس وهو يتجه بها للحقيبة الصغيرة قبل ان يدسها بداخلها بعشوائية ، وما ان امسك بحزامها حتى اوقفته التي امسكت بذراعه بسرعة وهي تهمس بخفوت وجل
"إلى اين تريد الخروج بمنتصف الليل ؟ هل انت ذاهب للمبيت عند تلك المرأة الحامل بالطفل الغير شرعي ؟ ألا تفكر بكلام الناس عنك وانت تبيت عندها كل ليلة وتزورها كل يوم !"
نزع ذراعه والتي تحمل الحقيبة بيده وهو يقول لها بتهديد حازم افلت زمامه
"اخرسي يا ماسة ، وتوقفي عن نطق تلك الكلمة الرخيصة بحق طفل ما يزال جنين برحم والدته ، هل عليّ ان اعيد عليكِ عشرات المرات بأني لا اهتم بكلام الناس من حولي ؟ لقد اصبحت ملزم بالاهتمام بها خاصة بعد ظهور ذلك الحقير بحياتها ! لذا انا مضطر لحمايتها هي والطفل بهذه الفترة الحرجة حتى اجد خلاص من هذه المصيبة واتأكد من نفيه من حياتنا حتى لو اضطررت لقتله"
انفرجت شفتيها بارتعاش مضطرب وهي تنفض ذراعيها بقوة هامسة باستنكار عابس
"وهل هذا برأيك حل ؟ ان تبقى مشتت بالتنقل هنا وهناك ! مثل الضائع لا يجد ميناء ليرسو عليه او بر ليعيش عليه ! هل هذه حياة منطقية ؟"
حرك رأسه بملل وهو يتابع طريقه لخارج الغرفة قائلا بلا مبالاة
"فكري كما يحلو لكِ ، فلم يعد يهمني سماع رأيكِ وجوده من قلته"
اتسعت حدقتيها بشراسة تموجت بمحيط السواحل التي فاضت عن حدها وهي تجري بسرعة باتجاه باب الغرفة ، وما ان وقفت عند إطارها حتى صرخت بكل جنون العالم وهي تتابع خطواته المبتعدة
"لا ترحل يا شادي ، إذا خرجت من هذا الجناح فليس لك عودة له مجددا ، لن اسمح لك بالعودة له ، لن اسمح لك ، سمعتني لن اسمح لك !"
تنفست بتسارع زاد من خفقات صدرها الذي كان يعلو ويهبط بعنف ، لتغمض بعدها عينيها بشدة ما ان سمعت صوت اغلاق باب الجناح بقوة تعلن عن رحيله مجددا ، لتهبط بلحظات على ركبتيها وهي تتمسك بإطار الباب بكلتا يديها بتشبث وشعرها ينسدل حول رأسها المتساقطة بدون ان يترك الهمس شفتيها بخواء حزين
"لا ترحل ، ارجوك لا ترحل ، لا تتركني وحدي ، لا تتركني مجددا ، انت حقا بلا رحمة !"

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن