دخلت للمنزل بطريق ثابت بدون ان ترى شيء امامها وهي تتسارع تدريجيا ما ان اقتربت من السلالم ، وقبل ان تصعد اول الدرجات كانت تسمع الصوت الساخر من خلفها يقول بنبرة انثوية متصنعة
"يا اهلا وسهلا بكنة العائلة الصغيرة ، كيف حال شهر عسلكما الخمسين ؟"
زفرت انفاسها بصدر ضائق وهي لا تشعر برغبة بالعراك او الجدال مع كتلة الاستفزاز تلك والتي مستعدة لحرقها حية بالنيران المستعرة بجوفها ، لتستخدم بعدها الطريقة البديلة بالانسحاب البارد بدون اي صوت ، ولكن ما ان صعدت عدة درجات حتى عاد صوتها الانثوي يرن بأذنيها باستفزاز اكبر وكأنها تحثها على بدء الحرب
"يبدو بأن شهر عسلكما لم يسير على ما يرام ، هذا واضح من عودة العروس بدون شريكها والذي تركها بمنتصف عطلتهما كما يفعل معها بكل مرة ، ولا ألومه على ذلك فقد ارتبط بحجر ناتئ لا يشعر ولا يهتم وخالي من اي عواطف قد تنفر الرجل منه !"
احمرت ملامحها باشتعال الغضب الدموي الذي دك عظامها حتى الصميم وهي تدفعها لهبوط الدرجات القليلة بلمح البصر ، وما ان وقفت امامها حتى لوحت بأصبعها السبابة امام وجهها وهي تقول لها بكراهية تقطر غيظا
"هذا ليس من شأنكِ يا طفيلية ، فأنا لست مستعدة لسماع معايرة واحكام من فتاة تافهة مثلكِ كل ما يهمها هو سحق كل المخلوقات من حولها فقط لترضي نفسها وتخفي على عيوبها الواضحة للعيان ، وبدلا من اضاعة وقتكِ بالاهتمام بحياتي عليكِ ان تفكري بطريقة تعيدين مكانتك بحياة احمد والذي يبدو هجركِ ورحل بعد ان فاض به الكيل منكِ ومن شناعة روحك وقلبك"
عقدت حاجبيها ببطء جامد وهي تمسك بأصبعها لتكسره للأسفل هامسة بحدة ناقمة
"ألتزمي حدودكِ يا وقحة ، فقد تهاونت معكِ كثيرا وتركتكِ تتمادين فقط لأنكِ من افراد هذه العائلة العريقة ، ولكن يبدو بأن التعامل معكِ بالحسنة لا يستجيب ابدا ، فأنتِ لا تعرفين شيء عن الاحترام والأدب والتفريق بين الكبير والصغير ، وهذا ليس بعيدا عن تربية شبيهة بتربيتك ونشأة شبيهة بنشأتك فهذه هي مكانتك الاصلية !"
نزعت يدها بعيدا عنها بعنف وهي تضرب على كتفها بعشوائية صارخة بغيظ مستعر وكأنها تنبش بحروقها
"لا تتكلمي كثيرا يا مدعاة النبل والعفة فأنتِ لا تستطيعين مجابهتي بقيد انملة ! وقيمتك ومكانتك لا تساوي عندي بمثقال ذرة ، وإذا كنتِ تريدين رؤية قلة الأدب والاحترام على اصولها فأنتِ لم تري مني شيء بعد ، وعليكِ ان تكوني شاكرة جدا بأنكِ تكونين ضرة شقيقتي وألا لما كنت صمت لكِ لهذه اللحظة والساعة !"
استقامت (سلوى) بمكانها وهي تعيد خصلات من شعرها عن كتفها بغرور لتهمس بعدها بابتسامة مائلة بتحفز
"حقا لقد اخفتني بشدة ! صدقا لم اعد اشعر بأطرافي من الخوف ! ولكني احيانا اشفق على حالتك فلا احد يعبرك او يعطيكِ قيمة بهذه التصرفات التي تظهرين بها عدائيتك وعنجهية روحك ، وانتِ تنفرين الجميع منكِ وحتى الرجال منهم والدليل هو هروب زوجك منكِ بكل فرصة تسنح له ، فهذا هو جنس الرجال لا يحبون الفتاة الباردة والغير معطاءة ويفضلون الفتاة الرقيقة والتي تتجاوز بعطاءها لاحتواء قلب الرجل وكيانه"
غامت حدقتيها الزرقاوين بسحابات داكنة طافت على محياها البارد بدون ان تردها بشيء بمحيطات انحصرت مع المد ، لتتابع (سلوى) كلامها وهي تضحك بمرح ساخر وكأنها وجدت الفرصة التي تستطيع بها اللعب على اعصابها وإهانتها من خلالها
"ما بكِ يا عزيزتي ؟ هل جرحتكِ يا صغيرة الشيطان ؟! اين هو لسانك الطويل الشبيه بالمبرد ؟ ولكن هل تعلمين شيئاً ؟ هناك سؤال يحيرني دائما ليل نهار كيف تكونين انتِ وروميساء شقيقات ! يعني هناك اختلافات كبيرة بينكما ليس بالتصرفات فقط بل بالمعاملة والمشاعر والكلام ! ولكن لأكون صادقة معكِ فأنا ارى بأن روميساء محظوظة اكثر منكِ وتنحب اكثر منكِ وتملك صفات اجمل منكِ ، قد تكونين بالشكل اجمل منها ولكن ما فائدة الشكل إذا كان داخلك قبيح ؟!"
حدقت بها بعينين واسعتين اهتزتا بلحظة غادرة ضربتها عند موضع ألمها ، لتمسك بعدها بذراعها بلمح البصر بقبضة قوية وهي تقول بغضب متفجر حد الجحيم خرج من فوهة بركان ثائر
"كفى ، كفى ، توقفي عن الكلام فوق رأسي والثرثرة التافهة ، هل هذا كل ما تجيدينه التكلم والثرثرة بلا معنى ؟ لما لا تستخدمين لسانكِ هذا بما يفيدك بحياتك وتتركين حياتي وشأنها ؟! لقد اكتفيت منكِ ومن تعليقاتك وحشر انفكِ بما لا يعنيكِ ، ومرة اخرى إذا حاولت الوقوف بوجهي والتسلط عليّ بهذه الطريقة فلن اتوانى عن مسحك من الوجود وسأنسى عندها كل ما يربطكِ بهذا المنزل وهذه العائلة"
عضت (سلوى) على طرف ابتسامتها بتسلية وهي تمسك بيدها على ذراعها لتقول لها باستهزاء واضح تزرع من سوداويتها بداخلها
"الآن فهمت لما ترككِ زوجك وهرب منكِ ، يبدو بأنه قد اكتشف اخيرا قباحة زوجته المختبئة خلف حسنها المبهر ، فليس كل من نراه جميل ولامع من الخارج ننخدع من داخله ! فأحيانا هناك سواد مظلم مخبئ بداخل الانسان لا يعلم عنه احد ، وعندما يخرج على حقيقته ينفر الجميع منه وينافس الوحوش بقباحته ، أليس كذلك يا صغيرة الشيطان ؟"
بهتت ملامحها الرخامية بصفحة جليد قاسية وهي تنفض يدها بعيدا قبل ان تدفعها مجددا بنفس اليد صارخة بعدائية لم تعد تستطيع كبحها جرحتها حد النزيف
"اخرسي ، اخرسي ، من تظنين نفسكِ لتعطي تقرير عني ؟ من تظنين نفسكِ ؟ هل ترين نفسكِ تستحقين ان تقارني حالتكِ بي ! هل رأيتِ نفسك بالمرآة يوما لترين من هي القبيحة بيننا وتخبئ ظلام بداخلها ؟ لا احد افضل مني بهذه الحياة وبهذا المنزل ليقارن بي...جميعكم تخبؤون حقارة وقذارة بداخل كل واحد منكم....لا احد افضل من احد ، بل بالحقيقة انتم الوحوش بعينها عندما ترمون صغاركم بذلك المستنقع وتتخلون عن عرقكم واصلكم ، ولهذا القدر لم يمنحكِ انتِ والعائلة اطفال من اجل ألا يذوقوا الويل والعذاب بحياتكم ، وهذا لأنكم جميعكم وحوش بشرية ، جميعكم منافقين شياطين بهيئة بشر....."
قطعت هدر كلامها الهجومي بسبب قوة دفعتها للاستدارة للخلف دورة كاملة رغما عن إرادتها ، وما ان اصبحت بمواجهة مفتعل الجريمة حتى لمحت الكف التي هبطت على جانب وجهها بصفعة حقيقية لم تكن بمقدار حقيقة فاعلها والتي اصابت منطقة حساسة بقلبها المظلم والذي شعر بالألم لأول مرة ، بينما كانت صاحبة الكف تخفض ذراعها ببطء شديد بدون ان ترحمها بنظراتها القاسية التي اصبحت تتشبه بوالدتهما اختلت من كل انواع المشاعر العاطفية ولم يتبقى سوى الجليد الموحش يحاوط علاقتهما الحميمية .
تحجرت الدموع بمقلتيها الزرقاوين بعواصف هبت على كامل تقاسيمها حشرتها بجوفها ، لتكون اول من يخرج من هول الموقف صاحبة الملامح المتيبسة وهي تشير بأصبعها تمرره فوق كتفها ناحية الواقفة بعيدا والتي جمدتها الصدمة هامسة بخفوت حاد بصرامة قاطعة
"اعتذري من زوجة ابن خالك"
حدقت بها بصمت قاتل التف من حولهما بهالة سوداوية اسرتهما بها ، ولم يكسر الصمت الخاوي سوى صوتها مجددا وهي تصرخ بإصرار اقوى هزها حد الصميم
"اعتذري منها يا ماسة"
ابتلعت (ماسة) ريقها برعشة خاطفة لا تمت للخوف بصلة بل شعور بالخيانة هو ما تشرب بفؤادها المحترق برماد كبريائها تلسع العيون وتلهب الاحاسيس ، لتتنفس بعدها بمشاعر خمدت فجأة وهي تستدير للطرف الآخر قبل ان تقابل النظرات المتشفية امامها باستهزاء واضح بدون اي مواربة ، ليخرج بعدها الكلام من بين شفتيها الباسمتين بحقد شنت الهجوم عليها
"انا لست آسفة"
اتسعت حدقتيها السوداوين بسعير الغضب والتي اجادت اشعاله بدون ان تسمح لها برد ضربتها وهي تستدير بعيدا عنها بعنفوان ، لتتجاوز شقيقتها الساكنة وهي تتجاهل وجودها تماما متابعة طريقها اتجاه السلالم التي جاءت منها وهي تجري فوق عتباتها بخبطات قوية ، بينما زوجين من العيون تلاحقها وهما شعلتين من الخضار الحزين وشعلتين من السواد الحارق .
قالت (روميساء) بعدها بهدوء شارد وكأنها تكلم نفسها
"اعتذر بالنيابة عنها"
نظرت لها (سلوى) بجمود وهي ترسم ابتسامة لطيفة على محياها هامسة بتودد مزيف
"لا عليكِ يا ضرتي العزيزة ، فهي تبقى اصغر سنا منا ، وعلى ما يبدو بأنها تعاني من مشاكل عصيبة بهذا السن والذي اكثر ما يتميز به هو طيش الشباب"
اومأت (روميساء) برأسها وهي ما تزال شاردة بالسلالم التي صعدتها شقيقتها بلمح البصر ، لتهمس بعدها مع نفسها بهدوء قاتم
"ربما تكونين على حق ، فهي لم تكبر يوما على طيش الشباب"
______________________________
دخلت للغرفة باندفاع وهي تغلق الباب من خلفها بكل قوة رجت المكان من حولها وهزت كيانها حد الصميم ، لتأخذ بعدها عدة انفاس بصعوبة وهي تشعر بشح بالهواء والذي فرغ من الغرفة ، وما ان استعادة اتزانها حتى جرت قدميها عدة خطوات اتجاه السرير وهي تخلع حقيبتها عن كتفها لتلقي بها على طرف السرير بقوة ، لتلتفت بعدها بنصف وجهها قبل ان تلتقطها صورتها بالمرآة والتي اوقعتها بالمصيدة وهي تسمرها عن الحركة للحظات بدون ان تشعر بنظراتها والتي انحدرت للعلامة الحمراء التي تركت آثار على خدها وتركت بصمات على روحها .
عبست ملامحها بصفحة جليد قاسية حجبت كل الامواج والتخبطات الداخلية بسد الكتمان ، وما هي ألا لحظات قصيرة حتى كانت تنقض على المزهرية فوق المنضدة لتلقي بها بلمح البصر مثل المدفعية اصابت سطح المرآة وهشمت زجاجه لقطع متناثرة تساقطت مثل هطول المطر بيوم عاصف ، لتتنفس بعدها بثورة جائحة مزقت خفقات صدرها وضاعفت من جروح قلبها بفعل قطع الزجاج الصغيرة والتي غرزت بها وتناثرت عليها ، وكأنها بهذه الطريقة تعذب نفسها لتنسيها مرارة الصفعة والتي كانت من الشخص والذي لطالما تلقى الصفعات عنها لتكون هي من تصفعها بالنهاية .
ترنحت بخطواتها وهي تنزلق على جانب الفراش ويديها تتشبثان لا إراديا بملاءة السرير بكل قوة لتخفف من وطأة سقوطها ، وما ان استقرت جالسة على ارض الغرفة حتى حررت انفاسها الاسيرة بهياج عالي غمر جسدها وترك روحها معلقة بالأفق ، لترخي يديها بلحظة وهي تفتش بجيوب سترتها بتشتت حتى اخرجت الهاتف منها ، لتتنقل بعدها بقائمة الارقام وهي تختار منها رقم معين لتجري الاتصال معه بدون ادنى تردد .
وضعت الهاتف على اذنها وهي تسمع صوت الطنين من الطرف الآخر قبل ان يغلق ، لتعيد بعدها الاتصال من جديد وهي تشدد على الهاتف هامسة بشفتين مرتعشتين بتوسل
"رجاءً اجب على الهاتف ، رجاءً ، رجاءً"
استمرت بالهمس بنشيج مرتجف وكأنها ترجو من الهاتف ان يرحمها ، وبعد عدة محاولات يائسة سمعت صوت الخط يفتح بلحظات وصوت هدوء مريب يغيم بالأجواء بينهما ، لتهمس بسرعة بخفوت متوجس بصوت اضطرب بانفعال
"شادي ، شادي هل انت معي ؟ اجبني يا شادي ! اجبني....."
تسمرت بمكانها بصقيع روحها الخاوية ما ان خرج الصوت الرقيق بتصنع واضح
"مرحبا يا جميلة ، اعتذر ولكن شادي الآن غير متوفر ، ولا تحاولي الاتصال بهذا الرقم من جديد لأنكِ تحاولين بلا جدوى"
انفرجت شفتيها بأنفاس مشدوهة وهي تسمع صوت انقطاع الخط بعد تلك الكلمات الموجزة ، لترتمي كفها بالهاتف على جانبها بخمول تسرب بجزيئات جسدها والتي سكنت عن الحركة وخمدت لبرهة ، لتطرف بعينيها الواسعتين بدموع حبيسة اضعفت حصونها وخرت صاغرة وهي ترفع الهاتف من جديد ، ضغطت بعدها بأصابع باردة على لوحة المفاتيح وهي تكتب رسالة مختصرة من عدة كلمات مبعثرة ركبتها على بعضها
(إذا كنت موجود حاول اعادة الاتصال بي ، فأنا احتاج للتكلم معك بشدة ، ارجوك لا تخيب ظني بك ! ارجوك كون رحمتي الوحيدة بالحياة ! لا تقسو عليّ انت ايضا ، لا تفعلها وتدمر نفسك بداخلي ، لا تفعلها !)
شهقت (ماسة) بنشيج خافت شوشت الرؤية امامها بضباب دموعها وهي تلقي بالهاتف جانبا بعد ان انتهت من ارسالها ، لتضم بعدها ساقيها لصدرها وهي تحتضنهما بذراعيها بقوة مهتزة وعينيها تشردان بالفراغ امامها بلا حياة ، وهي تهمس بتضرع من بين شفتيها الجافتين بنحيب ضعيف موجع
"لا تفعلها بي ، لا تفعلها ، لا تفعلها"
اغمضت عينيها بشدة بعد ان فقدت القوة على الاحتمال وهي تدفن وجهها بين ساقيها بحصار منيع تحمي نفسها من المشاعر الخائنة ومن الحب من دق بابها بعد ان غدر بها وانسحب تاركا دمار لن يستطيع اصلاحه احد او اعادته لحاله .
_______________________________
بنهاية الشهر......
جاء اليوم الموعود وهي تقف امام المرآة بكامل حلة العروس من رأسها حتى اخمص قدميها تحت ثوب الزفاف الطويل الذي تكاد تختفي وتذوي بداخله....بينما شعرها ذات الخصلات القصيرة مزين بفصوص اللؤلؤ والورود البيضاء وبمقدمة الجبهة تدلت جوهرة مستديرة من الاحجار الكريمة...وقد استغرقوا وقتا طويلا بتصفيف شعرها بسبب طول خصلاته القصيرة جدا والتي لا يجدي معها الرفع او العقد بأي شكل....والحقيقة بأن كل شيء من تجهيزات وتزيين للعروس كانوا يستصعبوه بها واخذ منهم الكثير من الوقت ليظهر بهذا الشكل المتناسق والمتناسب مع هيئتها....فهي غير المشاكل الصحية التي تعاني منها هناك ايضا المشاكل الشكلية من جسدها الهزيل والذي يحتاج لثوب بتصميم خاص...ومن ملامح وجهها الشاحبة التي تحتاج لعدة تبرج فاخرة لتلبسها ملامح العروس الفاتنة والتي عليها ان تكونها وتخفي علامات مرضها والذي عبث بكل مكنوناتها الشكلية والجوهرية .
رفعت قبضتها الصغيرة لصدرها المفتوح تحت ياقة الثوب وهي تهمس لصورتها بحزن اسر مقلتيها الذائبتين بخضار باهت
"انا عروس ، ولكن ليست عروس كما تحب ، بل عروس كما كان ينبغي ان يحدث"
تنهدت بتهدج صامت وهي تحني تلك الافكار من مخيلتها بعد ان وعدت نفسها بالتغير تماما من هذه اللحظة ، اللحظة التي دفنت بها كل احلامها القديمة وذكرياتها اليتيمة بداخل تربة قلبها والذي مات منذ زمن وتخثر ، لتربت لا إراديا على مقدمة صدرها والذي انتفخ من جروح قديمة عادت للنزيف من جديد وكأنها تضحي بقلبها بسبيل العيش بسلام ، بدون ان تأبه ان كانت ما تفعله هو الصواب لسلامتها النفسية والصحية وهي توجه قلبها لطريق لا عودة منه .
تنفست بارتعاش مضمور وهي تهمس بعزم حجر بوصلات قلبها
"لا مفر بعد الآن ، فقد كتب قدري المحتوم"
اخفضت قبضتها ما ان سمعت انفتاح باب الغرفة بدون مقدمات والأم وابنتها يقتحمان المكان ، لتتكلم والدتها والتي بادرت بفتح الحديث وهي تقول ببهجة ام العروس
"واخيرا جاء اليوم الذي افرح به بابنتي الصغيرة ، كم انتظرت وشقيت وصبرت وبالنهاية حصدت ، الحمد الله الذي اتم بنعمته علينا"
كانت (جويرية) قد وصلت لها وهي تديرها من كتفيها لتأخذ جولة كاملة عليها وكأنها تقيمها ، لتتطوع العروس بالكلام وهي تفرد ذراعيها على جانبيها هامسة بخفوت باهت
"ما رأيكِ يا امي ؟ هل اصبحت العروس التي تتمنيها وتناسب مقامك !"
اتسعت ابتسامة والدتها بدون ان تأخذ كلامها على محمل الجد وهو تمسح على كتفيها لتقول بنفس الابتسامة البشوشة
"تبدين بغاية الجمال يا ابنتي ! واخيرا بان قمرك الصغير واصبحت عروس العائلة ، لا تصدقين مقدار فرحتنا برؤيتكِ امامنا بهذه الطلة المبهرة ، من هذه اللحظة سيرتاح قلبي عليكما ويطمئن بعد ان امنت على مستقبلكما مع الذي يليق بكم وبنا"
زمت (غزل) شفتيها برجفة لاذعة وهي تحيد بنظراتها جانبا هامسة بخفوت ساخر
"اجل هذا ما سيكون عليه شعوركما ، بعد ان حدث ما تريدون وتسعون له واخترتم شريك حياتي الذي يليق بكم وبمكانتكم ، وانا رأيي آخر ما تفكرون به وكأنه ليس لدي حق بالاختيار"
حافظت على ابتسامتها الرزينة وهي تخفض يديها لتشدد على ذراعيها قائلة بجمود حازم
"لقد رأينا نتائج اختياركِ كيف كان ، لذا من الاصح ترك هذا الامر لوالديكِ واللذان لا يفكران سوى بما يأتي لصالحك واختيار الافضل والأنسب لكِ ، لذا إياكِ ان تشككي باختيارات والديكِ فهما من يستطيعان تأمين حياة سعيدة لبناتهم ولمستقبلهم"
نظرت لها بعيون هادئة بدون شعور وهي تكرر على اسماعها نفس الاسطوانة والتي اعادتها طول الشهر الفائت بل بالأصح منذ ولادتها ، ليقطع تواصل العيون بينهما صوت الفرد الثالث وهي تقول ببساطة بالغة
"بالطبع هو كذلك ، وانا ليس لدي شك باختياراتكم والتي لا تخطئ المرمى والهدف"
تنقلت العيون نحوها ما ان وقفت بالقرب منهما وهي تهمس بابتسامة رسمية بمودة
"مبروك الزواج يا اختي الصغيرة ، واخيرا ستفرحين والدينا بزواج الاميرة المدللة بعد ان كانا سيقطعان كل الامل منكِ ، لكن الحمد الله فعلتها واستطعت الزواج ، وانا التي كنت اظن بأنكِ الصغيرة المسكينة ولكن تبين بأنكِ بقدر هذا الزواج عندما اوقعتِ استاذ جامعة كبير بشباك حبك"
امتعضت ملامحها بشحوب خاطف ممزوج بالحياء وهي تخفض نظراتها بدون كلام بعد ان اصابتها بالذهول اللحظي ، لتتدخل بعدها والدتها وهي توجه نظراتها نحوها قائلة بنبرة جادة
"لماذا هذا الكلام الزائد بلا معنى ؟ بالطبع تستطيع الزواج وإيقاع شريكها بحبها فهي ابنة عائلة عريقة بالنهاية وسترث من صفاتها ومفاتنها والتي توقع اعتى الرجال بحبائلها وتجعله خاتم بأصبعها"
ادارت (سلوى) عينيها بملل وكأنها لم تسمع قبل ان تربت بكفها بتلقائية على كتف شقيقتها وهي تهمس لها بسعادة مزيفة
"مبروك يا غزل بالرفاه والبنين ، وقد تنجبين ايضا احفاد لهذه العائلة العريقة والتي لم استطع ان انجب لها اي طفل للآن ، وسيكونون يضعون كل آمالهم عليكِ الآن ، لذا لا تخيبي ظنهم بكِ"
احمر وجهها بجمرة مشتعلة ليس بسبب كلامها بل بسبب الخيالات التي اصبحت تجتاح رأسها والطريقة التي ستثمر عن وجود الاطفال وكأنها تذكرها بمصيرها البائس بعد هذه الحفلة ، بينما احتدت ملامح والدتها وهي تمسك خصرها بيديها قائلة بعبوس صارم
"هل هذا الكلام يقال الآن يا سلوى ؟ نحن بمناسبة مهمة وانتِ بماذا تمزحين الآن ! هل تريدين تعكير مزاجي بهذا اليوم الجميل ؟"
ارتفع حاجبيها السوداوين بحد السيف وهي تلوح بيديها على جانبيها هامسة بابتسامة بريئة بتحايل
"ماذا هناك يا امي ؟ انا لم اقل سوى ما يجول بدواخلكم بهذه اللحظات ، يعني لم اقل شيئا غريبا حتى ترموني بهذه النظرات الهجومية ، او هل يعقل بأني قد اخطئت بقول هذا الكلام عن مشاكل شقيقتي الصحية والتي قد تمنعها من الإنجاب ؟ وهذا عذر لا كلام عليه......"
قاطعتها بهجوم اكبر وهي تنفض ذراعيها بحركة عنيفة خارجة عن السيطرة
"كفى يا سلوى ، كفى كلام عن هذه المواضيع التي اصبحت شغلك الشاغل ، هل هذه امور تتكلمين عنها امام شقيقتك بزفافها ؟ بعد ان ارتحت وفرحت اخيرا بزواجكما وتأمين حياتكما مع من يليق بكما اسمع هذا الكلام المحبط منكِ ، ماذا افعل معكما ايضا لكي تتوقفا عن تدمير نفسيتي هكذا بمشاكلكما وعقدكما ؟ ألا تستطيعان ان تظهرا امام والدتكما بعض المودة والامتنان على الاقل مقابل كل ما تقدمه لكما ؟!"
كانت (غزل) صامتة بدون ان تنبس ببنت شفة وهي شاردة الذهن والروح كما يحدث دائما بعلاقتها المتطرفة بعائلتها ، لتقول بعدها (سلوى) وهي تضرب بيديها على وركيها بنفاذ صبر
"اوووف توقفي يا امي على امساكي بكل كلمة اقولها وكأنه لا احد يخطئ بالحياة غيري ، وايضا عليكِ ان تهدئي فلا نريد ان يصيبك مكروه بهذا اليوم المهم لعروستنا الصغيرة ، فكل شيء يهون ألا اثارت تعاستك بهذا اليوم والذي لا يعوض بالنسبة لوالديها وكأنه زواج الاميرة"
ردت عليها والدتها بصرامة قاطعة وهي تلوح بذراعها جهة باب الغرفة
"اخرجي من هنا يا سلوى فقد اثرت اعصابي بما يكفي ، اذهبي وكوني بقرب زوجكِ افضل من البقاء هنا وقول ما لا يفيد ولا يسر ، فأنا احاول هنا الحفاظ على حياتكما الزوجية بقدر المستطاع ، لذا قدمي لنا معروفا وغادري من هنا"
حركت (سلوى) كتفيها بخفة وهي تجر خطواتها اتجاه باب الغرفة بدون ان تنسى التعليق بآخر كلام بلسانها السليط الذي لا يتوقف عن بث السموم
"يبدو بأن الجميع اصبح لا يطيق وجودي بأي مكان اذهب إليه ، فقد اخذت العروس الصغيرة القمة بحياتكم ، ولم تعد زوجة احمد الفكهاني ذو اهمية امام مكانة زوجة الاستاذ المحترم ، اتمنى فقط ألا تصبح زوجة اولى يرثى لحالها تندب حظها العاثر !"
نظرت والدتها بحدة اتجاه باب الغرفة المفتوح وصوت طرقات حذائيها المزعجين تصل لهما بوضوح ، لتتنفس بعدها باتزان تضبط اعصابها قبل ان تعود بنظرها لابنتها الشاردة وهي تقول لها بابتسامة حاولت رسمها بعملية
"لا تكترثِ لكلام تلك المجنونة فهي تعاني من مشاكل وعقد قد جعلت عقلها يخرج من رأسها ، المهم ان تكوني انتِ سعيدة وتبهجي نفسكِ بهذا الزواج بدون التفكير بشيء آخر غير زواجك ، فقد اصبح الآن هذا الزواج هو بداية حياتكِ الجديدة وزوجك هو نسبك وسمعتك والفلك الذي ستدورين من حوله بدون الخروج عن مداره ، ومنزله هو مكان استقرارك وعائلتك التي ستبنى بيديكِ ومجهودك ، هل تفهمين ما اقول ؟"
كانت (غزل) ما تزال شاردة بمكان اختفاء شقيقتها عند المقطع الاول من كلامها وهي تهمهم مع نفسها ببهوت ساخر
"انا افهم معاناتها جيدا ، ولكنها لا تقارن بمعاناة قتل قلبك والمضي بحياتك"
انتفضت بمكانها ما ان هزتها من ذراعها وهي تقاطع افكارها قائلة بجمود جاد
"هل انا اتكلم مع نفسي ؟ ألم تسمعي ما قلته ! هذا الزواج اهم مرحلة بحياتك وعليكِ انتِ ايضا اعطاء هذا الامر كامل تركيزك واهميتك ! وإذا حاولت افساد هذا اليوم بأي طريقة......"
نزعت (غزل) ذراعها بعيدا عنها وهي تقول بوجوم حانق
"اجل يا امي فهمت ، اعلم جيدا ما يتوجب عليّ فعله بهذا اليوم ، لذا ارتاحي انتِ وطمئني نفسكِ"
اومأت برأسها بقوة وهي تستدير تنوي المغادرة قائلة بإضافة هادئة بصرامة
"جهزي نفسكِ جيدا فقد تبقى دقائق على وصول عائلة العريس ، انا وشقيقتك سنسبقك بالذهاب ، لذا لا تتأخري بالخروج"
اومأت برأسها بدون اي حياة وهي تشاهد والدتها التي خرجت كذلك من الغرفة بخطوات واثقة بعكس خروج شقيقتها الصاخب ، لتتنهد بعدها بهدوء جاف وهي تعود لوضع قبضتها فوق صدرها الخافق هامسة بخفوت تستجمع كامل قواها الذهنية والجسدية بآن واحد
"اهدئ يا قلبي فقد اقتربت النهاية ، ولن يحدث اكثر مما هو مكتوب لنا"
استمرت بشحن طاقتها بالقوة الخفية وهي تستمد العون من نبضات قلبها المريضة والتي تسارعت بنبضات نهاية حب مات على مشارف الحياة .
_____________________________
امسكت جوانب خصلات شعرها الطويلة وهي تعقدهما بلفهما مع بعضهما عدة لفات قبل ان تشبكهما بمشبك فضي عند بداية رأسها...بينما باقي شعرها تركته حر طليق مسترسل على طول ظهرها بانسياب ونعومة بعد التجفيف مباشرة من الاستحمام....انتقلت يدها عند مستوى جبينها وهي تستل خصلات قصيرة من غرتها المشدودة مع شعرها لتنسدل على جبينها حتى حفت حاجبيها السوداوين الدقيقين وكأنهما مرسومين بفرشاة فنان مثل حال ملامحها التي ارتسمت على حجر من الرخام الصلب حتى اتصفت بصفة البرود والصلابة....وهي التي لم تضع من ادوات التبرج سوى خطين من الكحل الاسود على زوايا العينين البحريتين حتى زادت من قتامتهما وامواجهما العاتية التي تغرق مركبة كاملة...وبعض اللون الذهبي اللامع ببريق خاطف للشفتين المستقيمتين بالعرض ببعض الامتلاء المغري...وهكذا اكتملت صورتها المليئة بالتناقض والخلاف بحركاتها الخاصة وطرقها الجريئة وكأنها تخلق موضة جديدة واطلالة حديثة لتكون النقيض عن العالم المحيط بها بكل شيء !
اخفضت ذراعيها على جانبيها وهي تتراجع بخطواتها بحذر لتلقي نظرة شاملة على هيئتها بالمرآة والتي اظهرت كامل ثوبها الاسود الفاحم والذي يصل لكاحليها ويخفي جسدها تحت قماشه الانيق الفخم ، وهو عبارة عن طبقات شيفون سادة عند الصدر حتى الوركين ، وباقي القماش بالأسفل من شيفون لامع وكأن غبار النجوم متناثر على تنورته المنتفشة ببهاء ينافس بهاء القمر بليلة حالكة .
حملت رئتيها بالهواء وهي تشدد على يديها هامسة بهدوء ظاهري بحدة
"ليس امامي خيار آخر ، اما القتال او الخسارة !"
زفرت (ماسة) انفاسها بقوة وهي تتقدم بخطوات واثقة امام المرآة وكأنها تتحدى نفسها ان تتجرأ على هزمها امام مخاوفها من المناسبات الاجتماعية ، وما ان وقفت امام نفسها حتى بدأت بفتح الادراج وهي تبحث عن خاتم الزواج الدرج تلو الآخر ، وعندما لم تجده بأي منها حتى اغلقته بقوة وهي تمسح على جبينها هامسة بسخط
"اين يمكن ان يكون ؟!"
طرأت على بالها فكرة وهي تلوح بأصبعها امام المرآة هامسة بخفوت
"اجل بغرف الجناح"
غادرت بسرعة خارج غرفتها القديمة وهي تتجه مباشرة ناحية الممر المؤدي لجناحها ، وبلحظات كانت تدلف للجناح بسرعة وهي تنوي الوصول لغرفة نومها بخطوات واسعة ، قبل ان تتسمر بمكانها بتجمد تام اوقف اندفاعها وهي تجد ما لم تتوقعه يقبع بمنتصف غرفتها ! اتسعت حدقتيها الزرقاوين بغمامة حصرت الامواج بداخل طياتها وهي تشاهد الغائب الحاضر والغريب القريب يقف امامها بكامل حلته الرجولية بعد مضي شهر على فراقه وثلاثين يوم على هجرانه وثلاثين ليلة على اختفاءه وكأن تلك المدة تقلصت وانقشعت واصبحت مجرد ايام عابرة لم تتجاوز الاسبوع .
كانت قد بدأت تتقدم بخطواتها ببطء لا شعوري وهي تتأمل هيئته بالبذلة الرسمية التي تشع فخامة ورقي ذكرتها بيوم زفافهما ، بينما كان المقابل لها لم ينتبه لوجودها بعد وهو مشغول بتعديل اكمام القميص الابيض بتركيز شديد ، ولم تعلم بأنها قد وصلت لباب الغرفة المفتوح ويديها تتشبثان بالإطار بقوة لا إرادية وكل تركيزها وانتباهها مشغول مع الواقف امام المرآة يستصعب تعديل اكمام القميص وكأنها اكبر مشاكله .
عضت على طرف شفتيها بتركيز مشتد وهي تهمس بخفوت فقدت السيطرة عليه وانسل من فمها
"هل تحتاج للمساعدة ؟"
اخذ الواقف امام المرآة لحظات قليلة مندهشة تحولت للاستنكار بتقلب سريع استطاعت قراءته على جانب وجهه الظاهر لها وكأن قراءته اصبحت تستهويها ، وما هي ألا دقائق حتى اجاب بكلمة واحدة بصرامة بدون ان يتعب نفسه بالنظر لها
"لا"
عقدت حاجبيها بعبوس مستاء وهي تتجاوز باب الغرفة بخطوات قوية بدون ادنى تردد ، وقبل ان يدرك كانت تحشر نفسها امامه لتحول بينه وبين المرآة بتعمد ، وما ان نظر لها وهو يقول باستنكار لا إرادي على وشك الصراخ
"ما لذي تفعلينه ؟......"
حتى توقف الكلام بمنتصف حنجرته التي عصرت بقبضة جليدية على مرأى رؤيتها امامه بحسنها وقوتها ومفاتيح جاذبيتها التي تهوى سحبها له مثل الجاذبية الارضية ، ولم يوقظه من موجتها سوى اليدين اللتين امسكتا بمعصمه لتأخذا مهمة تعديل كم القميص الذي لا يريد ان يتعدل ، وهو يشعر بضغط غير محتمل فاق حدود مقدرته مثل ذبذبات عالية التيار تحوم من حولهما وعليهما بدون مهرب لهما ، حتى ان ذراعه قد تشنجت مئات المرات بالثانية الواحدة واصابعها الرقيقة تلعب بشعيرات كفه بطريقة مهلكة ، بينما ذراعه الاخرى مرتمية على جانبه وهو يشد على باطن يدها بقوة لكي يمنع اي حركة غادرة منها وكل عصب متنافر مع الآخر بعلاقة عكسية تمثل اقتراب البارود من النار .
ما ان انتهت من طوي كم القميص اخيرا حتى سحب كفه بسرعة وهو يعيد التأكد من حالة اكمامه ، ليعود بعدها لتحاشي النظر عنها وهو يشاهد صورته بالمرآة امامه ، ليأتي بعدها دور ربطة العنق السوداء وهو يحاول ربطها بعملية تناسب البذلة بدون ان تفلح معه وهو يصبح محط انظار التي ما تزال متمسكة بمكانها بإصرار وعناد شديدين .
زفر (شادي) انفاسه بيأس وهو يشتم من بين اسنانه بحنق
"تبا لهذا !"
تنحنحت قليلا وهي ترفع يديها لتتطوع بربطها هامسة بخفوت لبق
"اسمح لي"
كان على وشك الرفض ولكن ما ان حدث التلامس بين يديهما على ربطة العنق تحثه على اخلاء المكان لها وهو يستشعر بقربها لا يفصل بينهما شيء سيدمر شتات نفسه ، ليخفض يديه بسرعة بصمت تام وهو يشيح بوجهه جانبا بتصلب كسى جليد قلبه ، بدون ان يمنع طرف حدقتيه من مراقبة حركاتها الرقيقة وهي تربط العقدة بكل إتقان وهدوء وكأنها تفعل شيء بديهي مطلوب منها ، ليلتقط خلسة حدقتيها واللتين وقع بأسرهما بأمواج عالية المدى اخذتهما واعادتهما على نفس اليابسة لتلفحهما حرارة مشاعرهما المندلعة بنيران هوجاء ، وبدون ان يشعر كان يدب يديه بخصرها الغض وهو يضع حد لكل تلك الحروب الداخلية يطفئها بهدنة الاقتراب منها عله يريح تلك الافكار التي عصفت بعقله واتلفت اعصابه .
عبست ملامح (ماسة) على ذلك الشعور الذي زرعه بيديه على خصرها وكأنه ينقل لها كل شحناته ولسعات نيرانه ، لتقطع بعدها الصمت الطويل بفتح حديث بهدوء شديد
"لم اكن اتوقع مجيئك للمنزل وتجهيز نفسك لحضور الحفلة !"
حدق بها للحظة قبل ان يدير عينيه جانبا وهو يتمتم بتصلب مماثل
"يبدو بأنه شعور متبادل ، فأنا كنت اشعر بذلك ايضا"
تسمرت اصابعها البيضاء على ربطة العنق وهي تهمس بشبه ابتسامة خاوية
"لماذا ؟! هل من الغريب عليّ حضور المناسبات الاجتماعية ؟"
حرك (شادي) رأسه ببساطة وهو يهمس باستنكار ساخر
"ليس هذا ما قصدته ، فأنا على ما اذكر بأنكِ لا تحبين حضور الحفلات التي تكثر بها الضوضاء وتكتظ بالناس ، فهذا يسبب لكِ الضيق وعدم الراحة ، ام هل هي فترة قصيرة المدى تأتي وترحل على مزاجها ؟"
شردت بلمساتها على قماش ربطة العنق وهي تهمس بخفوت عفوي
"واخبرتك ايضا بأني استطيع اجبار نفسي على فعلها ، كما سأفعل اليوم"
عاد بالنظر لها بغموض اكتسح محياها وهو يقول بجمود قاتم
"ولماذا تفعلين هذا ؟!"
رفعت حدقتيها المستديرتين بهدوء سكن بأمواجها وهي تهمس بابتسامة صغيرة تلونت ببريق شفتيها الرقيقتين
"من اجل ان استطيع مشاركتك هذه الليلة ، فقد كنت اعرف علم اليقين بحضورك"
قست اصابعه على لحم خصرها وهو يواجه عينيها بعينين فولاذيتين وهو يقول بحرقة قاسية
"هل هذه خدعة لكي تأخذيني على حين غفلة ؟ فقد حفظت كل خدعكِ ولم اعد اميز بين الحقيقة والخداع !"
زمت شفتيها بدون ان تظهر ألمها من قسوة اصابعه الذي لا يقارن بكلامه ، لتهمس بعدها بنفس الهدوء الجاف وكأنها لم تسمع
"هذا لأنك لا تريد ان تصدقني ، ومع ذلك اعلم جيدا بأنك تفهمني لذلك تحاول جرحي بكل السبل"
عض على طرف شفتيه بكبت لوهلة قبل ان يقول بلحظة وهو يخرج انفاسه بمكر
"ما تزالين تلعبين على نفس الاسلوب والخيط ! ولكني لن اسعدكِ بفرحة هزيمتي فأنا كل هذا لا يهمني ، سمعتي لم يعد يهمني !"
ارتفع حاجبيها بخفة وهي تمثل التفكير لتشد بعدها على ربطة عنقه ببطء وكأنها تلف حبل المشنقة حول عنقه هامسة بخفوت متهادي
"هل هذا ما استطعت قوله لي بعد كل هذا الانقطاع عن بعضنا شهر كامل ؟ ألم تجد كلام افضل تسمعني إياه يا زوجي الفظ !"
رفع يديه عن خصرها ليمسك بمرفقيها وهو يتبعها بالقول بجفاء قاسي
"انتِ من فتح باب الحديث اولاً إذا كنتِ قد نسيتِ ، فأنا لا ارغب بالحديث معكِ بأي موضوع ، سمعتي يا زوجتي المهذبة !"
شددت بيديها على ربطة العنق لا شعوريا وهي تستطيل على اطراف اصابع قدميها ، وما ان اصبح وجهها بالقرب منه وانفاسها تتضارب مع انفاسه حتى همست بصوت مشتد ضاري
"بعد كل ما فعلته من اجلك ما تزال تكابر ، ألم تكفك تلك الفترة التي افترقت بها عني ! وانا للآن لم اسألك ماذا فعلت بتلك الفترة واين قضيتها ، ماذا تريد اكثر من هذا لترضى عليّ ؟"
تصلبت يديه على مرفقيها وهو يسحبها للأسفل بقوة لتنزع يديها عن ربطة عنقه التي بالغت بعقدها ، وهو يتمتم بذات اللحظة بقسوة يلقنها الاحرف بالتهجئة
"لم يكن عليكِ فعل هذا ، لم يكن"
تلبدت ملامحها الباردة بدون اي لون او تعبير ما ان نفض مرفقيها بعيدا عنه ، لينقل بعدها نظراته للمرآة من خلفها وهو يرخي من ربطة العنق المشدودة حتى اصبحت اكثر اناقة تناسب حلته .
عادت للكلام من جديد وهي تستند بيديها على حافة طاولة الزينة هامسة بشرود غائم
"ألم تشعر بالاشتياق لي ؟ هل هنت عليك لهذه الدرجة ؟ ام هناك من عوض عن غيابي !"
حانت منه التفاتة نحوها وهو يرتدي الساعة حول معصمه ، ليعود بعدها بنظره للمرآة قائلا بشبح ابتسامة بوجوم
"شعور الاشتياق يمر عليه يومين بعدها نتجاوزه ، ولكن شعور الغدر لا نستطيع نسيانه او تجاوزه مهما دار بنا الزمن"
نظرت له بعينين باردتين تعصفان بالكثير تحت جليد قاسي غير مرئي مرسوم بعناية ، وبعد عدة لحظات كان يغادر خارج الغرفة بدون ان يضيف المزيد من الكلام تاركا خلفه اجواء من الصمت الكاتم لا يضاهي الضجيج بداخلها .
استدارت بمكانها بخفة وهي تفتح الدرج امامها لتخرج بيدها الاخرى خاتم الزواج الألماسي ، وما ان انتهت من ادخاله بأصبعها حتى اغلقت الدرج بقوة وهي تكمل طريقها خارج الغرفة .
بعدها بلحظات معدودة كانت تصل امام درجات مدخل المنزل وهي تمسك طرفي الفستان بيديها ، لتصرخ بسرعة ما ان لمحت الواقف عند باب السيارة ينوي دخولها
"انتظر يا شادي"
تسمر بمكانه وهو يرفع رأسه بانتصاب نحو مصدر الصوت الصاخب الذي خرج من لحظة ، لتعلق عندها نظراته على الساحرة الفاتنة التي تعتلي برجها العاجي واضواء الحديقة مسلطة عليها بشكل زادها خيالية وبهاءً وكأنها منصة عرض والسلم امامها للاستعراض الجريء والقمر بالسماء لإعطاء الإطلالة حقها ، ولم ينتبه بأنه قد شرد بعيدا اكثر من اللازم والساحرة كانت قد قطعت الدرجات بينهما بلمح البصر والثوب يرفرف من حولها وكأنه يخطف النجوم من السماء ، وما ان هبطت امامه بنجومها وضياءها حتى فردت ذراعيها على جانبيها بمسرحية وهي تهمس بطرافة ألجمته للحظة
"لقد كدت ان تنساني !"
ضم شفتيه بكبت على كلامها الاخير وهو يشيح بوجهه جانبا هامسا باستفاقة متأخرة
"سحقا لها !"
دخل بعدها للسيارة بدون ان يلقي نظرة اخرى نحوها وهو يتمسك بالمقود بكلتا يديه بجمود ، بينما تحركت (ماسة) من مكانها وهي تدخل من فورها للسيارة بجوار مقعد السائق بصمت ، ليأخذ بعدها عدة انفاس لوهلة قبل ان يقود بالسيارة بعيدا بأعصاب باردة استطاع استجلابها بشق الانفس بدون ان يمنع شعور ألسنة اللهب التي اشتعلت بمرجل فؤاده وانتهى .
_____________________________
تنهدت بهدوء وهي تضم يديها فوق سطح الطاولة ونظراتها تتجول بالمكان المقام به حفلة الزفاف الخاص بطبقات المجتمع المخملي ، وهي تشعر بنفسها ضيف متطفل بهذه الحفلة التي لا تقرب لها بصلة ما عدا صلتها التي تربطها بشقيقة ضرتها وهي ليست بالصلة القوية ، ولم تكن ترغب حقا بحضورها لولا إصرار ضرتها على مشاركتها هذه الفرحة والظهور امام العائلة والاقارب مقدار المودة والمحبة بينهما وكمية الاخلاص والتفاني لعائلة زوجهما ، بينما لم يبدي زوجها إصرار شبيه بها فقط عرض عليها دعوة حضور الحفلة معهم وتمثيلها دور الزوجة وهي لها الخيار بالموافقة او الرفض ، وبالنهاية عزمت امرها وقررت حضور الحفلة الفخمة بأفضل قاعات البلد والتي لا تختلف كثيرا عن حفلات العائلة التي حضرتها سابقا .
فركت يديها معا وهي تشرد بعيدا ما ان تذكرت حفلة زفاف شقيقتها والتي تتشابه مع نوع هذه الحفلة ، وبدون شعور عادت لغمامتها الحزينة والتي اظلمت عينيها عند تذكر شقيقتها الصغرى التي انقطعت عنها نصف شهر واكثر وهي اطول مدة تقاطع تستمر بينهما ، فقد انشغلت عنها كثيرا بالآونة الاخيرة وكلما تجد فرصة سانحة لتتقرب منها تنتهي ما ان تكتشف اختفاء شقيقتها خارج المنزل او اغلاقها على نفسها بالجناح حتى اصبحت نادرا ما تراها بالجوار ، وما يريح قلبها ويمنع القلق من نهشها هو معرفتها بوجهتها خارج المنزل التي تقضيها عند صديقتها من الصباح للمساء بدون ان تستفسر منها عن سبب عودة صديقتها لمنزل عائلتها .
شقت ابتسامة شاحبة محياها فوق شفتيها الجميلتين بلونهما الزهري الشاحب القريب من لون ثوبها الطويل ، وهي تفكر بحالتهما التي انقلبت رأساً على عقب منذ دخولهما لعائلة خالهما ، وبدل ان تسير وتتحول للأفضل بعد ان وجدوا الرفاهية والثراء بتلك العائلة وكل الاشياء التي افتقدوها وحرموا منها منذ طفولتهما ، حدث العكس تماما وكل منهما تعاني وتحمل جرح وهموم جديدة بقلوبهما التي لم تعرف السعادة يوما ، وعندها فقط تذكرت عبارة والدتها التي كانت تسمعها منها على الدوام بدون ان تفهم مغزاها وسببها بذلك الوقت
(الثراء يستطيع شراء مال العالم ولكنه لا يستطيع شراء السعادة)
افاقت على صوت كعبي حذائيها العاليين من صاحبة الابتسامة المتعالية وهي تلوح لها بكفها من بعيد ، وما ان وصلت عند طاولتها حتى قالت لها بنفس الابتسامة المغرورة
"هل تسمحين لي بالجلوس عند طاولتك يا آنستي الجميلة ؟"
اعتدلت (روميساء) بجلوسها وهي تشير لها بيدها نحو الكرسي قائلة بلباقة
"تفضلي بالجلوس يا سلوى ، فأنتِ هي صاحبة هذه الدعوة ويمكنكِ الجلوس اينما تريدين وتحبين"
جلست على الكرسي المقابل لها برشاقة وهي تضع ساق فوق الاخرى هامسة بابتسامة انيقة
"كيف وجدتي الحفلة ؟ هل تستمتعين بوقتكِ هنا !"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بخفوت مبتسم
"اجل استمتع كثيرا ، وكيف لا استمتع بهذه الاجواء الساحرة وكل هذه الجاذبية والتي صنعت فقط لهذا النوع من الحفلات ! وانا اهنئكم حقا على هذا التنظيم والتنسيق بالحفلة والذي يبدو قد تعبتم كثيرا بتجهيز كل هذا"
اسندت (سلوى) مرفقيها فوق سطح الطاولة وهي تريح ذقنها فوق قبضتها قائلة بتفكير غامض
"ولكني مع ذلك لا ارى ذلك الاستمتاع واضح عليكِ ، فقد لمحتك من بعيد وانتِ تبدين لي شاردة حزينة وكأن كل هموم العالم فوق اكتافك"
احنت حاجبيها السوداوين بوجوم وهي تحدق بقبضتيها المضمومتين بصمت لتقول بعدها بعبوس طفيف
"ليس الامر كما يبدو لكِ ، ولكن تعرفين لست من محبين هذه الاجواء او التي تسعد بحضور هذه الحفلات ، فقد عشت بالماضي بمجتمع منعزل ومنغلق على نفسه ، لذا لا تستهويني هذه الحفلات ولا تجذبني كثيرا كما يحدث مع باقي الناس ، ولكني حقا سعيدة بمشاركة عائلتك هذه الفرحة وانضمامي لكم بهذه الاوقات ، فقد كنت اتمنى كثيرا بالماضي ان اعيش شعور كوني فرد من عائلة تحبني وتساندني واشاركها بفرحها وحزنها"
اومأت (سلوى) برأسها باهتمام وهي تنجرف بمشاعرها لا إراديا وكأنها تعويذة سحرية ألقتها عليها بكلماتها التي تذيب قسوة جليد القلب ، لتنفض بسرعة ذلك الشعور عن كيانها وهي تقول برباطة جأش
"احلامك بسيطة جدا يا روميساء ! ولكن اعتقد بأنكِ تحتاجين لتطويرها من بعد هذه اللحظة ، فأنتِ الآن لم تعودي اليتيمة المشردة بل اصبحت ابنة عائلة عريقة وزوجة احد رجال الاعمال المهمين بالبلد ، لذا عليكِ بتغيير موجة افكاركِ لتواكبي عصرك الجديد وحياتك الجديدة ، ويمكنني مساعدتك بهذا الخصوص وبالوقت الذي تحتاجيني به"
رفعت رأسها بسرعة وهي تقول بابتسامة هادئة يشوبها بعض التوتر
"لا ليس هناك داعي لتدخلك يا سلوى ، فأنا احاول التأقلم بمحيطي الجديد بطريقتي الخاصة ، وشكرا لكِ على هذه الدعوة فقد سعدت كثيرا بقضاء الوقت معكِ"
ارتسمت ابتسامة جانبية على محياها وهي تقول بمجاملة
"على الرحب والسعة"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تقول من فورها بمودة تغير فحوى الحديث لطريق آخر
"كيف حال العروس ؟ هل هي مستعدة لبدء صفحة جديدة من حياتها ! فهذه المرحلة تكون مهمة جدا عند كل عروس جديدة"
رفعت ذقنها عن قبضتها وهي تمد ذراعيها على الطاولة قائلة ببرود متململ
"يا له من يوم رائع بحياة كل فتاة ! لو تعلمين فقط ماذا فعلت بنا حتى استطعنا تأمين زواجها بالنهاية ! وللآن ما تزال تتذمر وتتدلل علينا بطريقة مستفزة مثيرة للأعصاب ، كان الله بعون العريس عليها هذا إذا استطاع الاستمرار معها شهر كامل قبل ان يقرر الانفصال عنها ، لو كانوا جميع الفتيات مثلها لما تزوج احد بالعالم"
ارتفع حاجبيها باندهاش لوهلة قبل ان تهمس باستياء عابس
"هل الامر بكل هذا السوء ؟"
كتفت (سلوى) ذراعيها فوق سطح الطاولة وهي تتقمص دور الراشدة الواعية قائلة بخفوت مغتاظ
"اجل يا عزيزتي واكثر مما تتصوري ، عائلتي تعبت كثيرا معها وكادت تيأس منها وتسحب يديها من موضوع زواجها ، ولكنها بالنهاية استطاعت الرضاء بمصيرها واختارت عريس يليق بنا وبها ، والحمد الله اليوم ستتزوج وترتاح العائلة من همها والذي اثقل على قلوبهم وكدرها لسنوات ، وهذا اليوم عليه ان يتوج مثل يوم تاريخي سيعلن عن فك لعنة الاميرة المدللة"
اومأت برأسها بشرود وهي تهمس بابتسامة عاطفية تلونت بمحبة
"اعرف هذا الشعور حق المعرفة فقد خضت هذه المشاعر بيوم زفاف ماسة ، عندما كنت قد فقدت الأمل من زواجها وانا احمل همها بقلبي بدون ان استطيع رميه او التوقف عن حمله ، وحتى بعد زواجها لم اتوقف عن التفكير بمجريات حياتها التي سارت بها والمشاكل التي تمر عليها ، والآن اشعر بحملها فوق ظهري قد تضاعف اثقال بعد ان رفعت الفواصل بيننا وحرمتني من الاطمئنان عليها وسماع اخبارها ، انا لم اعد اعرف ماذا افعل معها....."
علقت الكلمات بحلقها بعجز بجانب الغصة التي فطرت قلبها وقيدت قدرتها على التماسك امام ما يعتمل بصدرها على مدار ايام ، لتقول بعدها الجالسة بالمقابل وهي تميل برأسها بتفكير خبيث النوايا
"هذا يعني بأنكِ لم تستطيعي التصالح مع شقيقتك بعد ذلك الموقف ! الآن فهمت سبب عدم حضورها للحفلة اليوم ، يبدو بأنها لا تريد التواجد معكِ بنفس المكان وتفكر بكيفية ردّ كرامتها على تلك الصفعة ، لهذا قد تكون لم تصفح عنكِ وما تزال تحمل الضغينة بقلبها بعد كل ما حدث !"
نظرت لها بحدقتيها الواسعتين عبثت الظنون بهما قبل ان تخفضهما بحزن يائس وهي تهمس بخفوت واجم
"هل تعتقدين بأن هذا ما تفكر به ؟"
اومأت (سلوى) برأسها بتأكيد وهي تزيد جرعة الكراهية بصوتها الحاقد
"وألا ماذا سيكون سبب مقاطعتها لكِ كل هذه المدة بدون ان يصدر لها صوت ؟ فكري جيدا بمنظور آخر بدل عاطفة الامومة التي تتلبسك دائما وتجعلينها ملاك بريء ، فهي بالحقيقة عكس ذلك تماما وتستطيع ان تكسر وتهدم حسب الشخص الذي تتلقى منه الجرح والإهانة ، وبما انكِ من اكثر الاشخاص المقربين منها سيكون تضميد جرحك اصعب عليها وبالتالي ردة فعلها ستكون اكثر عنفاً ، لذا عليكِ بالحذر من الآن وصاعدا فقد تكون بدأت بالتخطيط لتدميرك والانتقام لجراحها ، انا اقول هذا لتقديم النصح لكِ وتنبيهك وانتِ حرة بما تريدين فعله بخصوص تلك المتمردة التي لا تملك اي صفة تتشبه بها بالملاك"
حركت (روميساء) رأسها بعيدا وهي تنفض الافكار السوداوية عن عقلها قائلة بهدوء حازم
"انا اعرف من تكون شقيقتي جيدا واكثر من نفسي ولا احتاج لأحد ليعلمني كيف اتصرف معها ، ومهما زادت مساوئها بنظري فلن اتخلى عنها او اغير نظرتي نحوها ، ولكن شكرا لكِ على التفكير بأمرنا فأنا اقدر مساعدتك"
تراجعت بجلوسها برشاقة وهي تحرك كتفيها ببرود هامسة بلا مبالاة
"كما تشائين ، هذا بالنهاية خيارك وتلك هي شقيقتك ، ولكن تذكري بأنه ليس هناك اختيار عندما يتعلق الامر بالمشاعر فهي من تختار نوعها ومن تريد ان تصيب"
حادت (سلوى) بنظراتها وهي تصوبها على باب القاعة لتتبعها بالهمس باهتمام بالغ
"اين هو احمد ؟ ألم تصلا معا بنفس السيارة !"
نظرت لها بعدم استيعاب للحظات قبل ان تجيب بهدوء باهت
"نعم لقد وصلنا معا ، ولكنا قد افترقنا عن بعضنا فور دخولنا للقاعة"
نظرت نحوها بسرعة وهي تقول بجمود عابس
"كيف تتركينه لوحده ؟ ألا تستطيعين الحفاظ عليه لثواني !"
حركت مقلتيها الخضراوين بعيدا وهي تستمر بشرودها بدون ان تعطي انتباه لكلامها ، لتزفر الاخرى انفاسها بضيق وهي تشتت نظراتها بزوايا القاعة تجري بحث واستطلاع سريع عن فريستها ، وما ان التقطته حتى ابتسمت براحة لم تشعر بها منذ وقت طويل عندما امسكت الفرد الاول بخطتها ، لتعيد نظراتها امامها للفرد الثاني بخطتها والتي كانت زوجة زوجها ، لتسافر بعدها بنظرها لباب القاعة وهي تنتظر الفرد الاخير بالخطة والمكون الاساسي بها والذي بدونه ستفشل بكل شيء .
استغرقت منها لحظات قبل ان تتسع ابتسامتها بسعادة غامرة مختلفة عن اي سعادة فقد وصل الضيف المنتظر اخيرا ، لتنقل نظراتها بسرعة الطلق للفرد الثاني وهي تهمس لها بابتسامة لبقة حجزت لهفتها
"غريب امر هذا الضيف ، هذه اول مرة ألمحه بهذا المكان ، رغم معرفتي الشاملة بكل الضيوف الذين تمت دعوتهم للحفلة ، ولكن يبدو بأن هذا الضيف ليس من قائمة الاقارب"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بتفكير وهي توجه نظرها لما تشير إليه ، وما هي ألا لحظات حتى كانت تستوعب هوية الواقف عند باب القاعة وهي توسع بؤبؤ عينيها بوجل خفي اقتحم كامل جسدها بأجراس الخطر .
سمعت بعدها الصوت الذي جذب نظرها وجعل ملامحها تشحب بآن واحد وصاحبة الصوت تلوح بيدها بهتاف
"احمد نحن هنا"
ما ان ألقت نظرها على الشخص المقصود بالهتاف حتى تشنجت بمكانها بانكماش وهي تلاحظ النظرات التي اصبحت مسلطة عليها بشكل خاص اخذت بالتوسع تدريجيا والانتشار على كامل الدائرة التي فرغت ألا منهما ، وعندها فقط عرفت بأنه قد رأى كل شيء واوقعها تحت اصبع الاتهام بدون ان يمهل الامر لحظة تفكير ، وعندما فاق الوضع احتمالها كانت تنهض عن الكرسي بقوة وهي تهمس للتي جذبت نظرها بوجوم مستاء
"اعذريني قليلا احتاج للذهاب للحمام"
غادرت بعدها بدون ان تنتظر ردها ولم تكن تنتظره اساسا فهي ادرى من الجميع بما يحدث وعلى علم بمجريات الاحداث ، لتلمح بعدها الفرد الاول والذي اختفى من مكانه وعلى ما يبدو ذهب من خلفها بعد ان اكتفى من المراقبة الصامتة .
امسكت (سلوى) بكأس العصير وهي ترتشف منه على مهل لتهمس بعدها بهدوء ظاهري بتوعد
"نحن لم نبدأ بعد ، هذا لا شيء مما ينتظركما !"
______________________________
خرجت من حمام السيدات وهي تسير بالرواق الفارغ باتجاه القاعة الرئيسية ، وما ان وصلت لنهاية الرواق حتى وجدت قوة تسحبها للخلف قبل ان تلصقها بالجدار المقابل بقسوة ، لتتسع حدقتيها بتسمر مهتز لوهلة قبل ان تخفف من اتساعهما المفرط مع بقاء الوجل مصاحب لهما ما ان كشفت هوية الواقف امامها ، وهي تتكهن بنواياه الداخلية فقط بالنظر لملامحه الصلبة الغير مقروءة وألوان احداقه الرمادية التي ازدادت قتامة وبرودا ، لتجزم بأنه قد انتقل من مرحلة الاتهام الصامت للاتهام الفعلي وحان الوقت لتدفع ثمن كل شيء بدون حساب او محاكمة .
ضمت قبضتيها خلف ظهرها بوضع المتهم بدون ذنب حقيقي وهي تخفض نصف جفنيها باستعداد لهبوب العاصفة ، ولم تتأخر عليها كثيرا وهو يسند قبضتيه على الجدار قائلا بهدوء جاف اقرب للأمر الواقع
"ما لذي فعلته يا روميساء ؟"
تنهدت (روميساء) بثبات وهي تحاول تمالك اعصابها بدون ان تواجهه بعينيها النصف مغلقتين بإعياء ، ليعود للكلام من جديد بعد ان مال عليها برأسه اكثر وهو يهمس بخفوت حاد
"تكلمي يا روميساء ! ما هذا الذي فعلته ؟ كيف تتجرأين على فعلها ؟!......"
تصلب ظهرها باستقامة وهي تقول بصوت مكتوم باستهجان
"فعلت ماذا ؟ لماذا لا تكمل جملتك وتخبرني عن جريمتي هذه المرة ؟ ام ستتخذ وضع صاحب الاتهام بدون ان اعرف ما هو الاتهام ! أليس من حق المتهم ان يعرف ما هو الذنب الذي اقترفه ؟"
تخشبت قبضتيه على الجدار بصمت قبل ان يقول بنبرة هجومية بدون ان يتنازل عن موقفه
"تعرفين جيدا عن ماذا اتحدث ، وألا لما كنتِ انسحبت من الحفلة هكذا ولجأتِ للاختباء بالحمام"
شددت من عصر قبضتيها خلف ظهرها لبرهة قبل ان ترضخ له بنهاية الامر وهي ترفع حدقتيها الشاحبتين عاليا حتى تقابلت مع حدقتيه القاتلتين ، لتتبعها بعدها بالهمس بنشيج حاد
"انا لا اعرف شيئاً ، لا اعرف عن ماذا تتكلم ، ولا اعرف بماذا اخطئت حتى تتخذ هذا الموقف مني ! فأنا قد اصبحت بنظرك دائما متهمة موقوفة بموقع الجاني منذ شهر حتى إشعار آخر ، لقد بذلت كل ما بوسعي من اجل استعادة مكانتي عندك وحتى رضخت لكل طلباتك واوامرك بتكبيل ذراعي والتحكم بحياتي المستقلة ، ولكن انظر ما لفائدة من كل هذا إذا كنت ستستمر باتهامي بتلك الحادثة ! كيف ستنصفني إذا كنت تحكم عليّ من تلك الحادثة ومن ذلك المكان فقط ؟"
تلبدت ملامحه بوجوم وهو ينقل يديه من الجدار لكتفيها ليرجع رأسها للخلف بعنف قبل ان يقول باقتضاب عابس
"توقفي عن خلط الامور ببعضها وتضييع موضوعنا الحالي ، فأنا قد سألتكِ سؤال واحد واريد جواب عليه ، وليس من الصحة التلاعب بأعصابي اكثر من هذا لكي لا انفجر بكِ وتحدث عندها الكارثة الحقيقية"
احنت حاجبيها بهدوء وهي تهمس ببرود باهت
"هذا ليس سؤال بل اتهام حتمي ، انت حتى لم تكمل السؤال المطروح ، ولم تخبرني ما هي جريمتي الحقيقية والتي تحاول ادانتي عليها......"
قطع كلامها بانفلات اعصاب وهو يهز كتفيها بجماح الغضب الاسود الذي استولى عليه
"ما لذي يفعله ذلك الرجل بالحفلة ؟ هل انتِ من دعوته لها ! هل ذلك التصرف يخرج منكِ ؟ هل تتجرأين على فعلها بعد كل ما عرفته عن العلاقة التي تربط بينكما ؟ هل تصدقين بأنني كنت اتمنى اختفاءه عن العالم وقتله بين يديّ إذا رأيته امامي مرة اخرى ! وها انا اراه يدخل لحفلة تخصنا بكل ثقة وغرور ! ما هذا الذي فعلته ؟"
ردت عليه من فورها بدفاع قوي وهي تضرب على صدره بعيدا عنها
"هل ستصدقني إذا اخبرتك بأنني لم افعل هذا ؟ هل ستصدق بأنني تفاجأت اكثر منك عند رؤيتي له يدخل للحفلة ! انا مثلك لا اعلم شيئاً ، اقسم لك لا اعلم شيئاً"
نفض ذراعيه بعيدا بعنف وهو يحرك رأسه بالنفي قائلا باستنكار حاد
"انتِ ما تزالين تلفقين الاكاذيب عليّ ، كيف تريدين مني ان اصدقك وليس هناك احد آخر يستطيع دعوته لهذه الحفلة العائلية غيرك ؟ كيف تريدين مني ان اصدقك بعد ان رأيت نظراتك التي كانت مسلطة اتجاه باب القاعة تنتظرين قدومه بلهفة واضحة ؟! الآن عرفت السبب الحقيقي الذي دفعك للقدوم للحفلة رغم معرفتي بأنها ليست من اجواءك ، ولكن دافع التحدي والعناد بداخلك قد تمرد على كل شعور فقط لتحصلي على الفرصة بكسر كلامي واثبات استقلاليتك"
اضطربت ملامحها بشحوب خاطف وهي تستند بظهرها على الجدار قائلة بوجوم عابس
"انت تقول هذا الكلام يا احمد ! هل انا التي تلفق الاكاذيب وتجعل عقلها يصدقها بكل سذاجة ؟ ولكن هناك شيء واحد قد كشفته لي إذا كان القريب لن يقدم الاعذار للحبيب فلن انتظر العذر من الغريب"
تحجرت تقاسيمه بصلابة وهو يرفع وجهه نحوها بمواجهة قاسية دامت بينهما لوهلة قبل ان يرافقها بحركة من رأسه جانبا قائلا بجفاء
"ربما يعطيكِ ذلك الحبيب الغريب العذر الذي تريدينه !"
انفرجت شفتيها بأنفاس مشدوهة وهي تشدد بيدها على قماش الثوب قائلة بتحذير حانق
"إياك وقولها مجددا يا احمد ، إياك وجعل هذه الظنون تدور بيننا وتتخبط بعقولنا ! ليس هكذا يا احمد ، ليس هكذا !"
قطب جبينه ببطء وهو يلصق جسدها بالجدار بلحظة بيديه اللتين حفرتا على كتفيها من جديد ، ليقول بعدها بصوت هائج وهو يبصق الكلام بوجهها المحتقن بالدماء
"ما هو الذي ليس هكذا ؟! هل تدركين ما فعلتي ؟ هل تدركين كل ما يعتمل بصدري ؟ عندما ارى ذلك الرجل قربك وبنفس المكان الذي تكونين موجودة به افقد عقلي وكل صوابي ، فكيف وانا اعرف بأن هناك معرفة قديمة تربط بينكما وحتى لو كانت معرفة مرت عليها دهور ؟ عليكِ ان تتفهمي وضعي ومشاعري وغريزتي الرجولية قبل ان تقترفي اي ذنب بحق علاقتنا ! فهمتي يا روميساء !"
ابتلعت ريقها بجمود حجزت موجات الضعف والهوان بداخلها اخذت منها لحظة قبل ان تدفع يديه بعيدا عن كتفيها بقوة ، لتضرب بعدها بيديها على وركيها بعنف وهي تقول بنفس ضيق فاضت ذرعا من الذي تحياه على مدار ايام
"هذا يكفي ، يكفي ، لقد مللت من هذه الاتهامات ! لقد سئمت من فرض تسلطك وتحكمك بحياتي بسبب امر غريزتك التافهة واسباب غير منطقية ! لقد تعبت من تبرئة نفسي امامك على مدار اسابيع من تلك الحادثة ، وانت لا تريد ان تصدق اي شيء مما اقوله بسبب ما رأيته وسمعته عن الماضي الخاص بي ، فيبدو بأنك تسير على نظام غلطة واحدة بحياتك تمسح كل الحسنات من رصيدك ، وانا لم اعد اهتم من تصديقك للأمر من عدمه ، فأنا فتاة الامس ولست فتاة اليوم واعتباري وثقتي بنفسي فوق كل شيء"
تلبست ملامحه صفحة البرود القاتم ألا من عينيه اللتين لم ترحماها بنظراتهما المخدوشة اللتين اصابتهما بالمرمى ، لتزفر بعدها انفاسها القوية من صميم الوجع وهي تدير نصف جسدها قبل ان تهمس بخفوت متحشرج باحتقان
"هذه انا يا احمد ، فتاة تربت على الاستقلالية بحياتها ، ولن تغيرها علاقة الامس او الوقوع بحب اليوم ، لذا إذا لم تتأقلم مع تعثرات الماضي وحصوات ذنوبي فهذه خسارتك"
مرت من امامه بسرعة مثل غيمة وردية طائرة بدون ان تعطيه الفرصة للرد او استجماع افكاره وهي تختفي بلحظات خلف الممر ، ليحرر انفاسه من قضبان اسرها وهو يكور قبضته لا شعوريا قائلا بكلمة واحدة وكأنه ينفث نيرانها
"روميساء !"
تبعها بعدها بلكمة قوية للجدار امامه بقبضته التي تسمرت من الصلابة تنافس قساوة الجدار وبرود روحه التي انطفئت بلحظة بشعور مختلف قريب من العجز .
______________________________
رفع نظره بانتباه على صوت القادمة نحوه بكعبي حذائيها العاليين والذين سبقاها بالمجيئ ، وما ان استقرت نظراته عليها حتى كتفت ذراعيها بغرور وهي تقول بلباقة مصطنعة
"سعيدة جدا بقبولك الدعوة والحضور للحفلة لمشاركتنا بهذه المناسبة العائلية"
حرك عينيه بتجول صامت على صاحبة الدعوة التي فتحت له الطريق لدخول حفلة زفاف طبقات المجتمع العليا ، ولم تكن الواقفة امامه مختلفة عن فتيات هذه الطبقة والتي اكثر ما يجيدونه هو اظهار زينتهن واناقتهن وثرائهن بهذه المناسبات المهمة والتي يتقمص بها الجميع الادوار حسب مراتبهم وارتداء الاقنعة حسب شخصياتهم ، بينما كان الفارق الوحيد بأنها تملك سحر مختلف عن الباقيين يثبت قرابتها القوية بالعروس وهي تمثل عائلتها بنسبها العريق وبحسنها الباهر ، فقد كانت ترتدي فستان طويل بلون الازرق النيلي المنساب على جسدها الممشوق بتصميم السمكة الذي لائمها تماما ، واما شعرها المتشابك صعب التهذيب فقد كان مرفوع بذيل حصان انيق ألا من بعض الخصلات المتمردة التي كانت تتراقص على مستوى كتفيها وتحف اذنيها وحاجبيها ، ولكنها بالمجمل تحمل كل سمات الرقي والاغواء بدون ان يعلم احد بالألاعيب التي تدور من حول هذه الواجهة التي تخدع ملايين البشر ما عداه .
تنهد (يوسف) بهدوء وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بخفوت جاد
"كلينا نعرف جيدا سبب حضوري لهذه الحفلة ، لذا لا تحاولي تقمص دور البريئة فهذا يعاكسك تماما"
رسمت على محياها ابتسامة فاتنة وهي تهمس بغرور واثق بدون ان تتأثر من نبرة صوته الجافة
"اعرف هذا يا سيد يوسف لذلك انا سعيدة بحضورك ، مهما كانت الاهداف بيننا مختلفة ومتشابكة ولكنها بالنهاية تؤدي لنفس المكان"
ادار وجهه بعيدا عنها بضيق وهو يقول بهدوء جامد بدون ان يعطيها ما تريد
"إياكِ وان تشبهي اهدافي بكِ ، فليس هناك اي صلة مشتركة بيننا ، ولن اسمح لهما بأن يتقابلا او يتشابها ولو عن طريق الخطأ ، سمعتي يا سيدة سلوى !"
فكت ترابط ذراعيها وهي تلوح بيديها بحركة مستفزة قائلة باستخفاف متململ
"لا تأخذ الامر بكل هذه الحساسية ! إذا لم تكن تريد ان تسير نحو اهدافك فهذا الامر يعود لك ، فأنا قد دعوتك لهذه الحفلة بكل طيب خاطر وصفاء نية لأساعدك بلقاء معلمتك الجميلة وألا ما كنت حصلت على مثل هذه الفرصة بحياتك"
شقت ابتسامة ساخرة محياه وهو يعيد نظراته لها والتي سمرتها لوهلة ليردف بعدها باستهزاء خافت
"هذا الكلام ينطلي على غيري وليس عليّ ، فأنا اعرف جيدا سببك الحقيقي لدعوتي للحفلة ، واعلم ايضا بأنكِ سبب كل المشاكل التي تعاني منها روميساء عندما ارسلتِ زوجها لعنوان منزلي والذي لا يعلم عنه احد غيرك ، وهذا يعني بأن هدفك ايضا من دعوتي هو خلق المزيد من التشاحن والخلاف بينهما باستغلال وجودي بالمكان ، بدون ان تعلم روميساء بأن الافعى التي تلدغها تعيش معها وبقربها تماما ، يا ترى ماذا سيحدث لو علم الجميع بأنكِ وراء كل هذا ؟!"
بهتت طرف ابتسامتها وهي تعيد بعض الخصلات القصيرة لخلف اذنها بثبات ، لتتقدم بعدها خطوة صغيرة وهي تهمس بابتسامة متعالية ببرود
"ولكنك رغم معرفتك بكل هذه الخطط اتيت بقدميك للحفلة بدون ان تأبه بشيء ، وهذا لا يدل سوى على شيء واحد وهو بأنك تريد ما اريده تماما ، وليس هناك داعي لتعترف بذلك فقد كشفتك منذ بداية الامر ، وصدقني لو لم اكن واثقة من قدومك لما خاطرت بنفسي ودعوتك لهذه الحفلة يا سيد يوسف !"
تصلبت ملامحه وهو يدير نظره بعيدا عنها ما ان اصابته بنقطة ضعفه التي اجبرته على حضور هذه الحفلة وهو يجازف بالكثير من اجلها ، ليقاطع افكاره صوتها من جديد وهي تهمس بمواساة مزيفة
"لا داعي لكل هذا الإحباط ، فنحن الاثنين قد اصبحنا نعرف انفسنا جيدا للدرجة التي تجعلنا نثق ببعضنا بدون ان نوشي لأحد عن اسرارنا....."
قاطعها (يوسف) بصوت خفيض بحدة بدون ان يعلو اكثر من المستوى وهو ينظر بعيدا عنها
"لا تبتعدي بأوهامك كثيرا ! فأنا ما ازال صامت لهذه اللحظة ليس من اجلك بل من اجل ألا اكون السبب بالمزيد من الجراح او المشاكل لها ، لذا حاذري من ان تتمادي معي كثيرا لكي لا افجر القنبلة وتنتهي حياتك معها ، وتذكري بأن الاقتراب من روميساء حد اذيتها سيكلفك مواجهتي وتحمل اثمان غالية ، لذا توخي الحذر"
انكسرت ابتسامتها بجرح عميق وهو يكسو ملامحها بضباب كثيف طال للحظات ، لتقول بعدها بشبح ابتسامة خاوية وكأنها تخرج من جوف بركان خامد
"يبدو بأنك تحبها كثيرا ! ولكن متى احببتها لهذه الدرجة ؟ متى حدث كل هذا ام ان هذه القصة قد بدأت منذ زمن طويل ؟"
تجمدت تقاسيمه بصمت غيم بينهما لوهلة قبل ان يعترف قائلا بجمود بدون اي تعبير
"اجل منذ زمن بعيد عندما لم يكن هناك سند او عائلة تحتمي خلفها ، عندما كانت مثل الورقة اليابسة بمهب الريح وكل احمال الحياة فوق كاهلها الصغير ، لا اعلم بالضبط اين كانت عائلة زوجك عنها بتلك الاوضاع والاوقات الصعبة ، ومع ذلك لم تحتاج احد منهم لأنها ولدت هكذا لا تمد يدها لأحد ولا تقول ما تريد ، انتِ ماذا سيفهمك بهذه الامور ؟ واشك بأن تكوني جربتي شيء من مصاعب هذه الحياة وانتم اقل شيء تقلقون من اجله الدخول بحيرة اختيار الثوب لمناسبة ما ! والحب بالنسبة لكم هو امتلاك الحب وانتزاعه من الغير والاستيلاء على قلوب المحبين لكي لا يحصلوا على الحب اكثر منكم ، أليس كذلك ؟"
ارتفع حاجبيها بانبهار مزيف وهي تنظر لجانب وجهه هامسة بتعجب ساخر
"لا عجب بوقوع جميع الفرسان بحبها ! فقد عرفت جيدا كيف تصطاد قلوبهم بمهارة ، يا لها من سارقة قلوب محترفة ! عليها ان تعلمني القليل من اساليبها ، وألا ماذا ترى انت ؟!"
كان يتمسك بصمته بدون ان يجاري سخريتها وهو يتعمد النظر بعيدا عنها وكأنه لم يعد يطيق النظر لها ، لتضم بعدها قبضتيها خلف ظهرها وهي تميل قليلا برأسها قائلة بنبرة باردة
"ماذا بك ؟ لما تتهرب بنظراتك مني ! هل لهذه الدرجة انا كائن منفر حتى تتعمد إبعاد ناظريك عني ؟ هل تعلم ما هو اكثر شيء يعجبني بكم يا اصحاب الطبقات البسيطة ؟ هي قلوبكم القوية بخوض مصاعب الحياة وكرامتكم التي تأتي فوق كل شيء وفوق كل اعتبار ، يعني حتى لو كنتم على شفة من الموت لا تتسولون ولا تظهرون ذلك لأن نفسكم عزيزة جدا عليكم"
حرك (يوسف) رأسه بعدم اهتمام وهو يقول بجمود جليدي
"هذه هي الفوارق الشاسعة التي تفصلنا عنكم ، بينما نحن لا نبيع كرامتنا وانفسنا من اجل النقود ، انتم مستعدون لبيع انسانيتكم وقلوبكم فقط من اجل ارضاء غروركم ومراتبكم عالية الشأن ، وتسيرون بقانون كل شخص يشترى ويملك بالمال حسب حصاده وقيمته المادية والمعنوية !"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تستقيم ببطء شديد لتشيح بعدها بوجهها جانبا قبل ان تقع على التي ظهرت بين حشود الضيوف وهي تسير بينهم على غير هداية ، لتقول بعدها بلحظات بطرف ابتسامة بقهر مطمور
"ها قد عادت الاميرة الهاربة ، استمتع بهذه الحفلة بقدر ما تستطيع ، طاب يومك"
ارتفع حاجبيه ببطء مستوعب وهو يعود بنظره لصاحبة الكلام ليكتشف عندها اختفاءها مع صوت كعبيها العاليين ، لينقل بعدها نظراته لجهة اخرى وهو يلتقطها اخيرا من كانت السبب الحقيقي لحضوره لهذه الحفلة التي لم تكن جزء من مخططاته ، ولكن دافع قوي ارغمه على الانصياع لرغبته القاتلة برؤيتها من جديد بعد الانقطاع القسري بينهما كل هذه المدة الذي فرضته عليهما .
رفع ذراعه لا شعوريا وهو يلوح لها بإشارة صامتة يرافقها ببسمة هادئة بعطف اعتاد ان يقابلها لطفلة الحارة المتمردة ، وما ان انتبهت له حتى تسمرت بمكانها لوهلة قبل ان ترد عليه بابتسامة مماثلة بمودة محببة وكأنها تقابل واحد من طلابها او واحد من معارفها ، وبلحظة واحدة كانت تختفي الابتسامة وهي تمسح ملامحها بوجوم متلبد قبل ان تستدير لتقتحم طريقها بسرعة بين امواج البشر ، انخفضت بعدها ذراعه ببطء جامد قبل ان ترتمي على جانبها وهو يراقب ظلها المبعثر بين اطياف البشر مثل سرب حمام داهمت تشكيلهم بلونها المختلف عنهم .
___________________________
وقفت السيارة عند مرآب القاعة وهو يطفئ المحرك بصمت ، ليزفر انفاسه بكبت وهو يأخذ عدة لحظات بالشرود والتأمل مع ذاته وكأنه يجهز الكلام الذي يحاول صياغته لها بجملة مفيدة ، بينما كانت الجالسة بجانبه تنظر له بترقب صامت وجسدها ملتف نحوه منتظرة بحماس منقطع النظير ، ليقول بالنهاية بهدوء جاد خلف قشرة قاسية
"اسمعي كلامي جيدا لأني لن اعيده مرتين ! لا اعرف ما هو سببك الحقيقي لحضور هذه الحفلة التي لم تكن يوما من هواياتك ! ولكن إذا تسبب وجودك بالمشاكل او المصائب من اي نوع فلن اتوانى عن عقابك يا ماسة ، وعقابي لن يكون مثل كل مرة بل سيكون عقاب تأديبي سيعيد تربيتك من جديد ، وهذا من اجل ان تتخذي حذرك وتكوني اكثر تهذيبا بوجود زوجك وبوجودك بين هذه الطبقات التي لا يتهاون معها ولا تتشبه بعالمك السابق ، لذا إياكِ يا ماسة ! اقول إياكِ وان يصدر منكِ اي مشاكسة او تمرد لكي لا نندم كلينا على حضورنا لهذه الحفلة فقد امتلئ سجلك ! امتلئ بالفعل ! ولم يتبقى سوى نقطة سوداء واحدة بهذا البحر الذي فاض بذنوبك حتى يفيض الكيل ، لذا مرري هذه الليلة على خير وبعدها نتحاسب"
حركت حدقتيها الزرقاوين بعيدا وهي تهمس بابتسامة صغيرة بسخرية
"هل تريد ان تعيد تربيتي من جديد ما ان اكتشفت سوء بسلوكي ؟ ولكنك على حق فأنا لم اتلقى بحياتي تربية او تأديب صحيح فقد توفي والديّ بعمر مبكر ، وسأكون اكثر من محظوظة لو اصبحت انت المربي الجديد لهذه الفتاة الشابة التي تقارب من عمر الحادي والعشرون"
حاد بنظراته نحوها بجمود وهو يقول من بين اسنانه بحدة شرسة
"هل ترينني امزح هنا يا ماسة ؟ انا اقول بكل جدية ومنطقية ما زلت اتحلى بها ، لذا انتبهي لتصرفاتك وحاذري ، فأنا لن استعمل الكلام معكِ بالمرة القادمة بل الفعل هو الذي سيتخذ القرار"
اعادت (ماسة) نظراتها نحوه وهي تهمس بابتسامة متراقصة بمرح عابث
"هل هذا تهديد علني ؟ لقد بدأت اخاف بالفعل من افعالك !"
حرك رأسه بيأس وهو يخلع حزام الامان قائلا بأمر حاسم
"قولي ما تشائين ، ولكن التهديد الحقيقي سيبدأ بعد هذه الحفلة ، ونتائجه ستكون وخيمة"
خرج من السيارة امام ناظريها بدون انتظار لثانية ، لتتنفس بعدها بأنفاس طويلة وهي تخلع الحزام عنها لتلحق به بالخروج من السيارة .
اغلقت باب السيارة من خلفها وهي تلمح الواقف على بعد امتار منها وهو يوليها ظهره ، اعتلت ابتسامتها ببريق الذهب على شفتيها وهي تتقدم بخطواتها تقطع المسافة بينهما بثقة ، وما ان وقفت بجواره حتى دست ذراعها تحت ذراعه وهي تربطهما معا بطريقة العرسان ، لينظر لها بهدوء جامد وهي تهمس له بخفوت واثق بغرور
"انت قلتها بأنه عليّ ان احسن التصرف بوجود زوجي ، وانا اطبق تعليماتك بالحرف الواحد وامشي على نصائحك ، أليس هذا ما تريده ؟"
حرك وجهه للأمام وهو يقول بحاجب واحد ببرود
"كيف لم استغرب ذلك ؟"
تمسكت بذراعه ما ان شعرت به يشد عليها بحركة غريزية حتى التصقت بجانبه قبل ان يتحرك معها خارج المرآب ، وما ان وصلا امام مدخل القاعة حتى بدأت اقدامهما تصعد درجات السلم بخطوات متناغمة وكأنهما يصعدان منصة زفافهما ، وبلحظات كانا يقتحمان العوالم العليا التي يكمن بها ضجيج حفلات الطبقات المخملية وصخب اجوائهم الذي يطرب الاذنين ويقيد القلوب بسلاسلها ويمسح العقول بسحرها .
بدأت الانظار تنجذب نحوهما تدريجيا مثل تسليط الاضواء عليهما وهو ما دفعها لتتشبث بذراع سترته لا شعوريا واصابعها الرقيقة تقبض على القماش الفاخر بحركة متوترة ، وما ان بدء الجمهور بالتجمع من حولهما من معارف واقارب حتى تراجع جسدها بتقلص ويدها الاخرى تمسك بنفس ذراعه بلمسة عابرة ، فهي قد واجهت مواقف عصيبة بحفلة زفافها وحفلة فندق شهر العسل ، ولكن مثل هذا التجمع الصاخب فقد فاق توقعاتها المحتملة وصلابة نفسها التي بدأت تضعف وتتحول لهشاشة مؤخرا بعد كل ما تعرضت له كسرها بشدة .
انتفضت برجفة خاطفة ما ان شعرت بيده الحرة تغطي كفها القابضة على ذراعه وهو يمسح عليها بلمسات حانية زادت جريان الدم بعروقها النابضة ، لتدير وجهها ناحيته بهدوء وعينيها تتابعان ادق تفاصيله من قراءة جانب وجهه الصلب وهو يرسم عليه دور اللباقة والشموخ امام الحشد الهائل من حولهما ، وهو ما اعطاها بعض القوة وجعل يدها الاخرى تنسحب عن ذراعه لتستقر على جانبها بهدوء ، بدون ان تترك عينيها العابثتين التحديق بجانب وجهه والذي انساها فوضى العالم من حولها واشغلها بفوضى المشاعر بداخلها والتي ارتسمت كلها بهواية النظر لقبطان مركبها وبوصلة ملاحتها .
انتشلها بعدها صوت الصمت المفاجئ بعد ان خرجوا من صخب الجماهير والذين ابتعدوا عنهم بدون ان تشعر ، وما ان وصلا عند طاولة بعيدة حتى فك ترابط ذراعيهما بصمت قبل ان يجلسها على احدى كراسي الطاولة ، ليستقيم بعدها امامها وهو يقول بجدية عملية وكأنه ليس نفسه الذي كان يدعمها وسط تلك الفوضى
"انا سأذهب لأداء واجبي بهذه الحفلة ، انتِ حاولي ألا تتحركي كثيرا والتزمي مكانكِ ، وبعد مرور نصف ساعة سأعود إليكِ لنغادر سوياً ، لا تجعليني ابحث عنكِ طويلا ، حسناً !"
ارجعت ظهرها للخلف باسترخاء وهي ترفع وجهها نحوه هامسة بابتسامة بريئة
"انت لا تشغل بالك كثيرا بي ، وسأكون بخير ، ولكن حاول ألا تتأخر كثيرا عليّ لكي لا اشعر بالضجر بانتظارك !"
ارتبكت ملامحه بارتياب وهو يرفع وجهه عاليا قائلا بتعب مجهد
"يا إلهي ساعدني بهذا اليوم !"
غامت حدقتيها ما ان غادر بعيدا وهو ما يزال يشيعها بنظرات محذرة بنذير خطر حتى انه كاد يصطدم بأحدهم بسبب طريقة سيره الخاطئة ، وما ان اختفى عن نظرها حتى بهتت ابتسامتها وهي تهمس مع نفسها بخفوت قاسي ظهرت نواياها المخفية
"اعتذر يا شادي ، ولكني لا استطيع ان اعدك بشيء !"
_______________________________
كانت تسير على الطريق الممهد الموصل للمنصة برفقة والدها الذي كان مستعد لتسليمها لشريك حياتها الجديد لتمضي بدربها ، وهذه الخطوات تعلن عن وصول نهاية حياتها الحالية وانقطاع املها بالهروب من المصير المحتوم والذي غلبها بنهاية المطاف ، وهي التي لم تمل من عيش الامل الزائف طيلة الشهر الفائت بدون يأس بالتفكير بحلول تنجدها من هذا الزواج لدرجة تمنت بها ألا تستيقظ على هذا اليوم ، وبالواقع بأن نفسها قد تسالمت مع مصيرها ولكن قلبها ضعيف الإرادة ابى الانصياع للطريق التي اختارتها ، وها هي تودع دقات قلبها الاخيرة بكل خطوة تقربها من المكان الذي ستتوج به زوجة للرجل المنتظر ، وبكل نبضة غادرة تكتمها بصميم قلبها وبخلجات روحها تنتشر بباقي جسدها مثل نخر الخشب وتتسلل بالعظام الهشة مثل مرض معدي .
افاقت من ضباب افكارها على خطواتها التي توقفت ما ان اعلن عن وصولهما امام العريس الذي اصبح على بعد خطوات منهما ، لتخفض عينيها الاسيرتين بغمامتهما بعيدا عنهما ما ان تطوع والدها بالكلام بخطاب رسمي
"هذه اميرتي الصغيرة اصبحت الآن امانة بين يديك ، لذا انتبه عليها جيدا واحفظها بين عينيك وبقلبك ، لأنه إذا حدث واصابها مكروه او اذى وهي تحت مسؤوليتك فلن اتساهل معك ابدا ، فأنا استطيع الافراط بكل شيء ألا بابنتي الصغيرة ومهجة قلبي ، لذا لا تدعني اندم يوما على قرار زواجها بك وجعلها امانة بين يديك ، سمعتني يا سيد هشام ؟"
شددت على يدها الحرة وهي تقبض على قماش ثوبها ما ان جاء الرد من الواقف امامهما وهو يقول بهدوء واثق بنبرة خشنة
"لا تقلق يا عمي الغالي ، ابنتك بداخل قلبي منذ اليوم الاول الذي وقعت عيني عليها ، واعدك ان احميها من كل مخاطر الحياة وحتى من نفسي ، وإذا كنت تريدها بطريقة اصح فأنا سأحميها حتى من قلبها والذي سيحفظ فوق كفوف الراحة !"
تنفست (غزل) بتهدج عند آخر كلماته التي قصدتها بشكل خاص وهي ترفع حدقتيها نحوه ببطء حذر ، وما ان تلاقت النظرات بينهما بلمحة خاطفة حتى شعرت بسهام تنفذ بنظراته تخترق هشاشة قلبها وتوديه صريعا بشباك غادرة مطمورة النوايا .
ارغمت نفسها على اخضاع نظراتها بعيدا عنه ما ان قال والدها بهدوء جاد وكأنه يعلن عن نهاية الحوار
"إذاً لم يبقى لدينا كلام نقوله غير بالتوفيق بحياتكما الجديدة ، وبارك الله بكما وادام المحبة بينكما ، وتذكرا جيدا بأنني سأبقى واقف من خلفكما دائما مثل الجبل الشامخ بأي وقت قد تحتاجان به للاستعانة بي"
ارتجفت مفاصلها ما ان امسك والدها بكتفيها وهو يديرها نحوه ليقبل جبينها بمحبة ابوية قبل ان يقول بابتسامة زينت ملامحه بزهو
"مبارك يا اميرتي الصغيرة ، سأترككِ الآن عند هذا المفترق من الطريق لتكمليه مع من اثق بأنه سيحميكِ ويرعاكِ كما يفعل والدكِ معكِ ، لذا ارفعي رأسي دائما وكوني ابنتي القوية التي اعرف بأنها ستصون نفسها وعائلتها وتحارب امام مصاعب الحياة"
برقت الدموع بمقلتيها النديتين بحرارة وهي تحرك رأسها بالنفي لا شعوريا هامسة بخفوت مترجي وكأنها تستنجد بآخر لحظات حياتها
"لا تفعل يا ابي ، ارجوك لا تفعل ! لا تفعل !"
سكنت ملامح والدها وهو يرفع يديه عن كتفيها ليربت على رأسها قائلا بابتسامة هادئة بعطف
"اعتني بنفسكِ جيدا يا صغيرتي ، وكل ما اطلبه من الله ان يمنحك الهداية والسلام لقلبك ، فكل ما فعلته لكِ وما افعله للآن كان دائما يسير نحو مصلحتك"
ضمت شفتيها بارتجاف مكتوم هز قلبها حد الوجع وهي تستمر بالتحديق الصامت المستنجد ، ليسحب بعدها يديه عنها قبل ان يتحرك بعيدا بصمت من امام عينيها المغرورقين بالدموع بعد ان انتشل جذور قلبها واخذها معه ، لتريح بعدها جفنيها المرهقين فوق عينيها تحجب تلك المناظر عنها بقلب انطفئ ومات على يديه منذ سنوات .
انتفضت لا شعوريا ما ان شبت مخالب قاسية على ذراعها توقظها من افكارها لتسحبها بالقرب منها ، وما ان اصبحت تقف بجانبه حتى تدفق الدم بأوردتها بهياج مفاجئ ما ان همس بالقرب من اذنها بصوت خفيض متسلط وكأنه سعير مهدد
"لقد اخطئتِ كثيرا يا زوجتي العزيزة ! خطأ لا يغتفر ابدا ! فقد انتهى وقت التسامح منذ زمن عندما اخذتي كل فرصك منه وحان الوقت للحساب ، الحساب والتصفية انا وانتِ فقط بدون اي دخيل"
فغرت فاها الصغير وهي تنظر له بعينين واسعتين بدموع حبيسة هامسة بلوعة بين موجة ذهولها
"ماذا تعني ؟!"
تجعدت تقاطيع ملامحها ما ان حاوط جانب وجهها بيده وهو يمسح الدموع البارزة على رموشها بطرف إبهامه ، ليقترب بوجهه منها حتى اصبح لا يفصل بينهما سوى سنتمترات بسيطة قائلا بخفوت حاد زاد من خفقات قلبها حتى اصدر طنين بأذنيها
"هذه الدموع غالية جدا عليّ ، ولا احبذ ان تهدريها وتذرفيها هكذا بكل مناسبة وحدث يحصل بحياتنا ، وانا ارى بأنه من الافضل ان تحتفظي بهذه الدموع وتبدأي بتوفيرها ، وهذا لأنكِ ستحتاجين لها كثيرا بالأيام القادمة وقد يفرغ مخزون الدموع الذي لديكِ ولا يتبقى لكِ سلاح آخر تحاربيني به"
ابتلعت ريقها بغصة مسننة وهي تحاول ازاحة وجهها بعيدا عن كفه وجسدها يتلوى بممانعة صامتة تكاد تحترق بمكانها بجمرة مشاعره الحقيقية التي افضى بها ، ليقتحم حوارهما الصامت الصوت الانثوي الناعم وهي تتنحنح هامسة بلباقة
"اعتذر إذا كنت ازعج العروسين الجميلين بتطفلي عليهما ، ولكن على الاقل انتظرا حتى تنفردا بغرفتكما لتفرغا اشواقكما ببعضكما ، واما هذا الوقت فهو مخصص من اجل العائلة ومن اجل الضيوف الحاضرين بالحفلة ، وهذا رأيي الشخصي"
غامت ملامح (هشام) وهو يسحب يديه عن وجهها وذراعها ليصنع مسافة مقبولة بينهما وكأن شيء لم يكن ، ليقف بعدها مقابلة شقيقته وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بابتسامة هادئة عادت لتقمصه
"لا يا اختي بالطبع رأيكِ يهمنا ويحترم ، ولكنني كنت اناقش زوجتي ببعض الامور التي تخص حياتنا الزوجية المقبلة ، فأنا لن افوت هذا الوقت المخصص للعائلة والاقارب والضيوف المحترمين الذين وقفوا بجانبنا بظروفنا العصيبة ولم يتركونا للحظة"
امتعضت ملامحها وهي تضرب على كتفه بقبضتها قائلة بجدية عابسة
"لا تمزح معي فأنا جادة تماما بما اقول ، وعندما اقول لك بأن هذا الوقت للعائلة يعني سيكون للعائلة بدون ان اسمع اي تذمر او شكوى منك ، فأنا لم اصدق ان يأتي هذا اليوم اخيرا الذي اراك به بحلة العريس ! واريد ان اعيش فرحتي الخاصة بدون ان يعكر مزاجي احد ، ولن تستطيع فعلها هذه المرة فأنا في قمة تفاؤلي وسعادتي"
تغضنت ابتسامته بعطف وهي تتخلل تقاسيمه رغم كل الفوضى التي يعيشها بداخله ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة بمرح
"تتكلمين يا اختي وكأنني رجل يقارب الاربعين من العمر يأس من الزواج ! ألا تستطيعين التوقف عن هذه المسرحيات امامي ؟ فقد بدأت تجرح مشاعري بشدة......"
قاطعته (اسمهان) بعبوس حانق وهي تضرب على كتفه بقوة اكبر
"يا لك من غرّ ومتبجح ! الحق عليّ اردت مشاركتك الفرح وتهنئتك بزواجك بالوقوف بجانبك كوني الفرد الوحيد بعائلتك ، ولكن يبدو بأن كل تعبي معك ومشاعري اتجاهك قد ذهبت هباءً !"
اتسعت ابتسامته بالتواء ساحر وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا ببهجة حقيقية
"ها انا امامكِ يا اسمهان لن اذهب لأي مكان ، ويمكنكِ افراغ فرحتك بتحقق طموحك الوحيد بزواج اخيكِ الصغير ، ولكن توقفي عن التكلم بهذه الشاعرية معي وكأنني اسمع خطاب وداع اخير بيننا ولن استطيع رؤيتك مجددا ! اتفقنا ؟"
اومأت برأسها بابتسامة حزينة وهي تمسح على كتفه بيدها الحانية قبل ان تحتضنه بقوة اخوية هامسة بسعادة غامرة
"مبارك يا اخي الحبيب بالرفاه والبنين ، اتمنى ان يكون هذا الزواج مدر سعادة وراحة بال عليك طيلة العمر وحصاد كل الانتظار الذي طال ، ويمسح عنك كل هذه الهموم والاثقال التي حملتها لسنوات"
تصلبت ملامحه وهو يمسح على ظهرها بكفه الشاردة ونظراته تنحرف اتجاه الساكنة بجانبه ، ليقول بعدها بشبح ابتسامة جافة جذبت انتباهها بتسمر
"لا تقلقي عليّ بعد الآن يا اختي ، فقد تزوجت بمن تليق بي ، وبمن اوقعت قلبي اسير حبها"
حادت بحدقتيها العسليتين نحوه برجفة لاسعة وهي تمسح خدها بظاهر كفها بحركة لا شعورية بدون ان تفارق نظراته عينيها والتي ألهبت بينهما مشاعر مضنية لن تخمد بسهولة وسيكون رفيقها الجديد بالحياة .
_______________________________
جلست على الكرسي بأريحية وهي تضع ساق فوق الاخرى امام المرأة الفاتنة المشغولة على الهاتف ، وما ان انتبهت لوجودها حتى اخفضت الهاتف عن اذنها وهي تنهي الاتصال بصمت ، لترفع بعدها حاجبيها باستخفاف وهي تقول بابتسامة ساخرة بتعجب
"ماذا هناك ؟ هل اخطئتِ بمكان طاولتك على الاغلب ! هل تنوين اختلاق المشاكل معي ؟"
تقدمت بجلوسها قليلا بحركة رشيقة وهي تضم قبضتيها فوق ركبتها هامسة بخفوت واثق
"لا لم اخطئ بالطاولة ، ولكن نعم نواياي نحوكِ ليست سليمة ومستعدة لخلق اكثر من مشكلة"
تجمدت تقاسيمها بعبوس وهي ترفع الهاتف من جديد قائلة بنفور راقي
"ليس لدي الوقت للدخول معكِ بأي نوع من الجدال ، لذا إذا كان لديكِ مشكلة مع احدهم حليها بعيدا عني ، والآن غادري طاولتي ولا تعودي مجددا للظهور امامي"
رفعت نظراتها نحوها بجمود كسى ملامحها وهي تقول باقتضاب جاد بدون ان تتأثر بأي كلمة قالتها
"انا اتيت من اجل التحدث وليس من اجل المغادرة بمنتصف الحديث ، وانتِ مضطرة لمشاركتي بهذا الحديث بهدوء وسلم لكي لا نستخدم الطريقة العنيفة وندخل بمسارات اخرى ، لذا افتحي المجال للتكلم باحترام او تحملي النتائج"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تضع الهاتف امامها بقوة قبل ان تقول بضيق واضح
"ماذا تريدين مني ؟ تكلمي لكي اعرف كيف استطيع مساعدتك !"
غامت ملامح (ماسة) وهي ترجع ظهرها للخلف وتكتف ذراعيها فوق صدرها بثبات ، لتقول بعدها مباشرة بالهجوم بدون اي مقدمات لا داعي لها
"ماذا كان يفعل هاتف شادي معكِ بعد يوم حادثة شقيقته ؟ بل ماذا كنتِ تفعلين مع الرجل الذي يصادف بأنه زوجي ؟ ماذا ؟!"
التوت ابتسامتها باستهزاء واضح وهي تتقدم بجلوسها اكثر قائلة بنبرة شامتة
"ألا ترين بأن هذا السؤال متأخر قليلا بعد مرور شهر على الحادثة ؟ وايضا لما تسأليني انا ؟ ألم تستطيعي سؤال زوجك ماذا يفعل مع صديقته القديمة !"
تنفست من بين اسنانها بشراسة استبدت بروحها وهي تهمس بصبر على وشك النفاذ
"ألا تملكين الجواب لتخبريني به ؟ لذلك تحاولين تضييع السؤال بثرثرتك"
زمت زاوية شفتيها بتفكير وهي تحرك كتفيها ببرود قائلة بتلاعب ماكر
"دعيني انا اطرح عليكِ السؤال ، ماذا تفعلين بهذه الحفلة ؟ هل حضرتها فقط من اجل استجوابي وارغامي على الإجابة عن اسئلتك بكل سلاسة ؟ ام حضرتها من اجل البحث عن دليل تثبتي به برائتك امام زوجك ! وبخصوص زوجك اين هو غائب عنكِ ؟ ألم يكن برفقتك عندما دخلتما للحفلة ؟ اين هو الآن يا ترى ؟"
تلبدت ملامحها ببهوت وهي تفك ترابط ذراعيها لتريح مرفقيها فوق سطح الطاولة بصمت قبل ان تهمس بنبرة بطيئة تحمل السعير بين طياتها
"اتركي موضوع زوجي جانبا ، ولا تحشري نفسكِ بأمور لا تعنيكِ ، فأنا قد اتيت لسماع الجواب منكِ شخصياً ، لذا اجيبِ على قدر السؤال ولا تطيلي كثيرا"
تجهمت ملامحها الفاتنة وهي تمسك ذقنها بيدها قائلة بابتسامة مرحة لا تناسب سياق الحديث
"هل تحاولين تهديدي بهذا الكلام ؟ هل لديكِ الجرأة لتهديد ابنة الوزير شخصياً ؟ لقد اخطئتِ بشدة باستخدام هذا الاسلوب الوقح بالتكلم معي ! من تظنين نفسكِ يا فتاة ؟ فقط لأنك متزوجة من ابن عائلة الفكهاني تعطين نفسكِ كل هذه القيمة ! لا تنسي اصلكِ وما كنتِ عليه سابقا"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين ببرود وهي تتقدم بوجهها نحوها على بعد سنتمترات منها لتهمس بعدها بقسوة وبحقد اظهر جانبها الآخر
"ومن اجل هذا السبب عليكِ ان تحذري ، فأنتِ لا تعرفين مطلقا ما كنت عليه سابقا ، ولو فعلت كما يقول اصلي لما جلست على هذه الطاولة وتحدثت معكِ بكل هذه اللباقة والرقي ! فأنتِ من بين مئة شخص من الذين يملكون حظ يحسدون عليه بقدرتهم على الافلات مني لهذه اللحظة !"
تراجعت بوجهها قليلا وهي تنتصب بجلوسها بتوتر بعثته بدواخلها ، لتوجه نظراتها نحوها بجمود وهي تلوح بكفها هامسة بجفاء بارد
"ما لذي تهذين به يا فتاة ؟ هل تظنين نفسكِ الزعيمة علينا ونحن لا نعرف ؟ ما كل هذه الثقة التي تمتلكينها لتتكلمي معي بكل هذه الوقاحة والتبجح ! انا لا يستطيع احدا اجباري على فعل او قول ما لا اريد ، ضعي هذا الكلام حلقة بأذنكِ لكي لا نتعب بهذا الحديث اكثر"
زفرت (ماسة) انفاسها بهدوء جليدي بدون اي تعبير وهي تحدق بقبضتيها المضمومتين فوق شرشف الطاولة الحريري ، قبل ان تهمس بخفوت حاسم وهي تستخدم اسلوب التهديد
"إذا كنتِ لن تعطيني الاجابة التي اريدها ، فهذا يعني بأنكِ تنوين الحرب ، لقد حاولت كثيرا التغاضي عن هذا الامر ولكن بما انه قد خرج من يدي ، فأنا اقول لكِ بأنكِ قد انتهيتِ ، لذا إذا لم تجيبِ على سؤالي فأنا عندها......."
قاطعتها (لينا) بنفاذ صبر وهي تضرب على سطح الطاولة لا إراديا
"ماذا ستفعلين ؟ ماذا ستفعلين إذا لم ارضخ لكِ ! هل تفكرين بالتكلم مع شادي وقلبه ضدي ؟ هل تظنين بأن شادي سيصدق اي من كذباتك بدون ادلة ؟......"
قاطعتها هي كذلك وهي ترد لها الكرة بعد ان حققت هدفها بالمرمى
"لدي دليل قاطع على كل جرائمكِ ، فما لا تعرفينه بأن ميرا مونتريال قد اصبحت بصفي !"
شحبت ملامحها بلحظة خاطفة وهي تقول من فورها بدفاع بدون ان يخفى الاضطراب بصوتها
"عن اي جرائم تتكلمين ؟ هل بدأتِ باختلاق احداث لم تحدث بالواقع من اجل اخافتي ! ولكنني مع ذلك لن اخاف من هذه التهديدات الفارغة ، لن تؤثر بي"
ارتفع حاجبيها بانتباه ساخر وهي تقول بتوضيح اكبر كاشفة عن كل اوراقها
"ميرا مونتريال اخبرتني بكل شيء فعلته بها من اول جريمة ارتكبتها حتى آخرها محاولة قتل طفلها ، وهي تملك ادلة قاطعة عن كل شيء ارتكبته بحقها لتنالي اهدافك المريضة بانفصالي عن شادي والاستيلاء عليه ، وقد وعدتني بأنها من الآن وصاعدا ستكون بصفي وبالوقت الذي اقول لها فجري القنبلة ستفعلها ، فهي تنتظر فقط إشارة مني للتحرك والمباشرة بتنفيذ الخطة ، وانتِ بالطبع لا تريدين وصول مثل هذه الاخبار لشادي لأنه حينها اقل شيء سيفعله بكِ هو قتلكِ حية ، لذا اقولها لكِ للمرة الاخيرة إذا لم تجيبِ على سؤالي فلن يكون لكِ نجاة مني ، سمعتني !"
حدقت بها بعينين خضراوين تقدحان شررا قاتلا وهي تهمس من فورها باستنكار حاد
"ما هذا الهراء السخيف الذي تتفوهين به ؟ كيف استطعتِ التكلم معها او الوصول لها وهي ملازمة المشفى منذ وقت الحادثة ؟ وحتى ان شادي قد وضع لها حراسة مشددة من مكانها كي لا يستطيع اي احد اختراقها ، كيف تقولين الآن بأنكِ قد اتفقتِ معها وشاركتها بالخطة ؟!"
ارتسمت ابتسامة هادئة على محياها وهي تحرك كتفيها ببساطة هامسة بثقة بالغة
"لقد استطعت بطريقة ما فعلها ، وألا من اين لدي كل هذه المعلومات والثقة بكلامي برأيكِ ؟ ألم تفكري ملياً بهذه النقطة يا عقل ابنة الوزير !"
ادارت مقلتيها بعيدا وهي تحاول تمالك اعصابها والتفكير بروية لبرهة من الوقت ، لتعود بسرعة بالنظر لها وهي تقول باستسلام تام
"لقد طلب مني شادي ان ابحث له عن شقة يعيش بها تكون بقرب المشفى ، وانا لم احب ان اخيب ظنه بي لذا وجدت له الشقة التي يتمنى السكن بها ، وليس من الجميل تركه يعيش وحيدا بدون زوجة او عائلة تساعده بحياته اليومية وتقوم بواجباتها معه ، لذا كنت امر عليه كل يوم لأرى ان كان يحتاج لدعم عاطفي او معنوي او حتى مادي ، وبذلك اليوم الذي كنتِ تتصلين به لم يستطع شادي الرد عليكِ بسبب ذهابه بسبات عميق بعد يوم مرهق له ، ولم ارغب بإيقاظه لذا اخذت هذه المهمة عنه واجبت على المتصل المزعج وحللت امره ، هل ارتحتِ الآن ؟"
كانت تنظر لها بعيون مائلة لزرقة داكنة اظلمت بسواد عميق بدون اي تعبير يطوف على ملامحها الاكثر من ساكنة مثل الموج عندما يغرق كل شيء امامه بثواني قبل ان ينسحب بصمت شديد بدون اي ضجيج او فوضى ، ولم يعيدها من تخبطها سوى صوت الجالسة امامها وهي تتابع كلامها القاتل بخبث واضح
"يا إلهي ! هل كانت كلماتي قاسية عليكِ لهذه الدرجة ؟ اعلم جيدا بأن سماع الحقيقة تجرح واحيانا تقتل الشخص وهو على قيد الحياة ، ولكن كما يقال لا مفر من مواجهتها ، وانتِ لست اول وآخر امرأة تتعرض للخيانة بزواجها وتضحي بكل ما تملك ! صحيح ؟"
حدقت بها بصمت قاتل وهي ترسم ابتسامة باردة على محياها قبل ان تعقب على كلامها بهمس متصلب بتصميم
"اجل انتِ على حق ينبغي علينا ان نضحي بكل ما نملك من اجل من نحب ، وانا الآن مستعدة بالتضحية بكِ من اجل انقاذ زواجي ، لذا استعدي للقاء الاسوء فأنتِ تستحقين كل ألم سببته لنا جميعاً بدون اي رأفة او شفقة ، وانا الآن سأفعل بكِ المثل كذلك بدون اي شفقة او رأفة نحوك"
انفرجت شفتيها بأنفاس مرتعشة وهي تشاهد التي نهضت عن الكرسي بقوة امام ناظريها ، لتقول بعدها بسرعة وهي تجز على اسنانها بعصبية مكتومة
"كيف تفعلين هذا بي ؟ لقد اخبرتني من لحظة بأن الامور لن تصل لهذا الطريق إذا اعطيتكِ الجواب الذي تريدينه ، هل كنتِ تكذبين عليّ لأتكلم بكل شيء وتحثيني على الاعتراف ! هل خدعتني ؟ هل هذه حيلة اوقعتني بها ؟"
اسندت (ماسة) يديها على سطح الطاولة وهي تميل للأمام ببطء هامسة بخفوت شرس مجرد من الرحمة
"هل تشعرين بالخوف ؟ هل الآن اصبحت تشعرين بدور المظلوم بعد ان كنتِ تلعبين دور الظالم المستبد ؟ انا لم افعل شيء من هواء بل طبقت طريقتكِ ذاتها بالقضاء على خصومك ! لذا لا تحاولي تمثيل دور البريئة امامي الآن ، فهذه نبذة عن بعض من تصرفاتك اتجاه ميرا والتي تحكمتِ بحياتها وانتِ تبثين الخوف بها على مدار ايام وليالي طويلة ، وحان الوقت الآن لانقلاب الطاولة وتجربة شعور الخوف والظلم والاضطهاد ليوم واحد قد يعوض عن ايام طويلة من الظلم الذي قاسيناه بسببك"
ابتلعت (لينا) ريقها برجفة صامتة بدون ان تحيد بنظراتها عنها ، لتستقيم بعدها بالوقوف وهي ترجع خصلات من شعرها والتي انسدلت على كتفها من ميلانها للخلف ، قبل ان تلوح بأصبعها السبابة اتجاهها بإشارة تحذير وهي تهمس لها بكل كراهية وغل معبأ بقلبها
"هذا تحذيري الاخير لكِ يا شقراء ! إياكِ وان تقتربي من ناحية زوجي او ترمي نفسكِ امام بابه ! فأنا قد تساهلت معكِ كثيرا سابقا وانتظرت ان تستوعبي الامر بنفسكِ وترحلي ، ولكن بما ان الامور قد وصلت إلى هنا فلم يعد هناك مجال للتهاون مع اشكاك ، وبدلا من الحوم بجواره والالتصاق بقدمه مثل الكلاب الضالة ابحثي لكِ عن عريس يستطيع احتواء عواطفك الفائضة وامراضك بعيدا عنا ، فنحن لسنا ملجئ للعازبات المقهورات نستقبل به مثيلاتك اللواتي يفتقرن للكرامة والحياء والادب ، سمعتني ؟"
غادرت بعدها امام حدقتيها المصدومتين وهي تسير بعيدا بخيلاء واضح بخطواتها الواثقة وبكبرياء ما تزال تتحلى به بعد كل ما جرى ، لتنتفض برأسها للأمام وهي تشد بأصابعها على خصلاتها الشقراء القصيرة لترجعها للخلف بعنف مبالغ ، لتتنفس بعدها بثورة عارمة استطاعت اشعال فتيلها وهي تهمس بوعيد غير متسامح
"لن اسمح لكِ بالنجاة مني هذه المرة ، لن اسمح لكِ !"
عضت على طرف شفتيها بتفكير عصبي وهي توزع نظراتها بالأرجاء ، وما ان وصلت بنظراتها لنادل محدد يعمل على احدى الطاولات حتى لوحت له بكفها ليأتي بسرعة على إشارتها .
وقف بعدها بجانب طاولتها وهو يقول بتهذيب
"نعم يا سيدة لينا ! هل تحتاجين لخدمة ؟"
اومأت (لينا) برأسها بقوة وهي تقول بابتسامة راقية بنعومة الافعى
"هل تذكر زجاجة الكحول التي احضرتها معي ؟ اريد منك ان تجلبها لي الآن"
ارتفع حاجبيه بتوجس وهو يقول بخفوت مرتبك
"هل انتِ متأكدة من طلبكِ يا سيدتي ؟ لأنكِ قد قلتِ بأن تلك الزجاجة لن تفتح قبل ان تنتهي الحفلة"
نظرت له بجمود وهي تقول بأمر نافذ لا يقبل النقاش
"اجل متأكدة ، لذا هيا احضرها لي كما طلبت"
اومأ برأسه بانصياع وهو يبتعد من امامها كما طلبت ، وما ان اختفى عن نظرها حتى اسندت ذقنها فوق قبضتها وهي تهمس بصوت جامد بحقد امتلئ بصدرها وتشرب برماد روحها
"انتِ من اردتِ هذا وليس انا ، ولنرى حينها إذا بقي لديكِ ذرة كبرياء او حياء بعد هذه اللحظة !"
_______________________________
كانت جالسة امام الطاولة التي عادت لها من جديد وهي تحرك اصابعها فوق سطح الطاولة بوتيرة سريعة بعدم انتظام ، بدون ان تترك عينيها الغائمتين المحيط من حولها وهي تراقب حركة الجماهير المنتشرة بكل مكان مثل تجمع الحشرات حول كعكة شهية جميلة من الخارج وعفنة من الداخل ، وهذا كل ما كان يدور برأسها بهذه اللحظات التي تجمع بها الراقصين بمنتصف الساحة ليبدأ استعراض الرقص المبتذل واظهار المهارات والذي اكثر ما يحبه ويتقنه اصحاب هذه الطبقات على اصوات الموسيقى الصاخبة والتي تتقلب بكل ثانية بصوت مختلف مثل الموج الثائر .
ادارت مقلتيها بعيدا ما ان وصلها صوت النادل والذي وقف امام طاولتها بأدب
"هل تريدين كأس من عصير العنب يا آنستي ؟ فنحن نقدم ضيافة خاصة لضيوف الحفلة"
حركت رأسها بعيدا بملل وهي تهمس بعدم اهتمام
"لا اريد شرب شيء ، يمكنك الذهاب ، شكرا"
شدد النادل على اطراف الصينية وهو يحاول مجددا قائلا بهدوء جاد
"نحن نقوم بعملنا هنا وقد تولينا مهمة تقديم شراب العروسين لجميع الضيوف بدون استثناء ، وبما انكِ من ضيوف هذه الحفلة فواجبنا هو ارضائكِ والقيام بعملنا على اكمل وجه ، لذا لو سمحتِ ان تساعدينا بتأدية مهامنا ولا تصعبي علينا هذه المهمة"
عادت (ماسة) بنظرها له وهي تضم يديها معا هامسة بشبه ابتسامة ساخرة
"هل جميع النادلين عندكم بكل هذا الاجتهاد والمثابرة بالعمل ؟"
تلبكت ملامحه بصمت وهو يحرك كتفيه بإشارة جهل ، لتشيح بوجهها بعيدا بعد ان لبست ملامح البرود وهي تقول بهدوء مقتضب
"لا بأس ، افعل ما تشاء"
تنفس الصعداء وكأنه قد ازال عن نفسه حمل ثقيل وهو يضع لها كأس عصير محدد من الصينية لتصل فوق الطاولة ، وما ان انتهى حتى قال باحترام وهو يغادر بعيدا
"بالهناء والشفاء"
حركت رأسها بشرود وهي تعود لتأمل حفلة الراقصين الصامتة رغم الضجيج المصاحب من حولها ، ويدها تمسك لا شعوريا بكأس العصير ذات الجزء السفلي الرفيع منها والقاعدة المنبسطة ، لتقربها بعدها من شفتيها وهي ترتشف منها بهدوء برغبة بكتمان هياج الامواج بروحها المصاحب لصدى مدوي بفراغ واسع .
كشرت ملامحها بضيق وهي تبعد الكأس عن شفتيها لتأخذ بعدها عدة انفاس تنقي الهواء برئتيها وهي تهمس بخفوت عابس
"ماذا يضعون بهذه المشروبات ؟"
وضعت الكأس جانبا وهي تعود بالغرق برحلة التأمل الصامتة بالمحيط من حولها....ولكن هذه المرة اختلف الوضع تماما وهي ترى زوجها يظهر بين مجموعة الراقصين بعد ان اقتحم الساحة...وبلحظة كانت العيون الزرقاء تتسع تدريجيا بملء بحارهما وسيولهما الشاسعة التي اغرقت كل سبيل للهدوء والصمت....ما ان لمحت التي تقدمت باتجاهه وهي تتمايل برشاقة بثوبها القصير تدعوه ليشاركها بالرقص بحركات جريئة متحررة...بينما شريكها بالرقص التزم السكون بمكانه بدون ان يبادرها بالتمايل مع إيقاع النغمات التي تبدلت لأجواء ناعمة تناسب الثنائيات وهو يأخذ فقط دور المشاهد الصامت والذي يراقب شريكته بافتتان وبوله واضح .
تصلبت اصابع يديها البيضاء وهي تتلاعب بحلقة خاتم زواجها بتوتر عصيب وكأنها تعاني من مشاكل بفك قيودها ، وهي مستمرة بمتابعة الاحداث امامها والتي ارتشفت منها كل ذرة بروحها ونزفت دماء بقلبها بكل معنى الكلمة ، بدون ان تتوقف عن مشاهدة العرض امامها او ابعاد ناظريها عنهما بعد ان علقت بدوامتها الخاصة التي لا مفر منها ، وكأن كل مخاوفها بالحياة قد تجمعت بحدث زمني معين وبتاريخ سيشهد على دمارها بالكامل ويدفن كل مشاعرها تحت الانقاض .
خلعت الخاتم عن اصبعها بقوة بعد ان تركت علامات حمراء على مفصل اصبعها ، عندما وصل الامر لحد لم تعد تستطيع به تقييد نفسها الهائجة بغريزتها المنتفضة بتمردها وعنفوانها ، وخاصة بأن تلك الوقحة قد تمادت بحركاتها لدرجة وصلت بها ان تمسك بذراع زوجها تحثه على مشاركتها الميلان والرقص معها بدون استسلام او يأس .
وضعت الخاتم على سطح الطاولة وهي تنتقل بيدها لا إراديا لكأس عصيرها الممتلئ ، لترفع طرفه لشفتيها وهي تكمل شربه بسرعة رغم مرارته اللاذعة وغثيان معدتها عله يغرق القليل من حريق مشاعرها ويسحب كل الألم بحنايا قلبها المحتقن بالدماء .
اخفضت الكأس بسرعة وهي تسعل لا إراديا من سرعة تدفق المشروب بقصبة تنفسها وهي تشعر بجريان المشروب مثل النهر بكل اوردتها وانابيب اعضاءها الحيوية ، لتضرب بعدها قاعدة الكأس الفارغة على سطح الطاولة بقوة غير مقصودة ، قبل ان تنهض عن الكرسي بقوة مبالغة جعلتها تترنح بمكانها حتى اسندت قبضتيها على سطح الطاولة ، وما ان استعادة القليل من اتزانها وهي تتنفس بثورة جائحة آلمت صدرها الخافق حتى تحركت من مكانها بلحظة وهي تتجه مباشرة للساحة بمنتصف الحفلة ، وهي تدرك تماما بأنها سترتكب اكبر تهور سيحدث بحياتها الماضية والحالية ، ومع كل تلك المنبهات والتحذيرات التي تحوم من حولها استمرت بطريقها بذهن شارد وقلب مغتصب ونوايا شريرة خرجت عن نطاقها وعن كامل إرادتها .
__________________________________
تحرك بعيدا عن الازدحام وهو يخرج من بين حشد الراقصين بصعوبة بدون الاضطرار لملامسة احد منهم او الاصطدام بهم ، لينفض بعدها سترته بضيق وهو يستمر بالسير بطريقه اتجاه طاولة محددة ، وما ان وصل لها حتى تسمر بمكانه بصدمة وهو يكتشف خلو الطاولة والكرسي الذي اجلس عليه زوجته قبل ساعة من الآن ، ليمسح بعدها وجهه بيده بتماسك عصبي قبل ان تقع نظراته على شيء اكثر صدمة تطلب منه استيعاب اكبر بين موجة تخبطاته ، ليخفض يده بسرعة وهو يميل على الطاولة سنتمترات لتمسك يده تلقائيا الخاتم الألماسي المستقر بجانب الكأس الفارغ ، وما ان استقام بمكانه برهبة حتى تبين بأنه خاتم زواجهما والذي يبدو بأنه قد خلعته وتركته بمكانها قبل ان تختفي صاحبته !
قبض على الخاتم براحة يده وهو يتمتم بوجوم عابس
"ماذا تفعلين يا ماسة ؟"
اخرجه من افكاره الصوت الانثوي الناعم وهي تقترب منه بسرعة
"شادي تعال بسرعة ، هناك امر طارئ عليك رؤيته"
تشنجت ملامحه وهو يخفض قبضته ليدس الخاتم بجيب سترته ، قبل ان يستدير نحوها بهدوء وهو يتلبس ملامح البرود الصخري ليقابلها امامه تماما ، قال بعدها بجمود وهو يدير عينيه بعيدا بتصلب
"ماذا تريدين الآن يا لينا ؟ يكفي الاستعراض المبتذل الذي قدمته امامنا قبل قليل ، وكل هذا لكي احميكِ من عيون الرجال التي اصبحت تلاحقك بدون ان تعطي امر سمعتك ومكانتك اي اعتبار ، إذا كنتِ لا تريدين ان تفكري بنفسكِ فكري بأمر والدك على الاقل وتوقفي عن هذا العبث"
زمت شفتيها بعبث وهي تهمس بخفوت منتشي بغرور
"انا اعتذر حقا عن كل ازعاج سببته لك ، ولكن تعرفني جيدا لا استطيع حضور حفلة بدون ان اثبت وجودي بها واكتسح الساحة بالاستمتاع بأهوائي ، واعدك ألا تتكرر بالمرة القادمة واحاول ضبط نفسي اكثر ، هل انت راضي الآن ؟"
حانت منه التفاتة نحوها ببرود وهو يقول بصوت جاف
"ما هو الشيء الهام الذي كنتِ تريدين قوله لي ؟"
مالت ابتسامتها بمكر تلاعب بعينيها الفاتنتين وهي تهمس بنعومة عذبة
"الحقيقة لا اعرف كيف اصيغ الكلام لك ، ولكن زوجتك قد اكتسحت ساحة الرقص بعد رحيلك ! وقد جذبت الانظار لها بالفعل ، لذا اعتقد......."
قاطعها اندفاع الواقف امامها وهو يتجاوزها بلمح البصر لينطلق باتجاه منتصف الساحة مثل هجوم الفهد الذي اعمى الغضب بصيرته ، بينما الواقفة من خلفه كانت تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة وهي تهمس باستمتاع واضح
"لقد بدأت اللعبة للتو"
سار (شادي) بين الجماهير المحاصرة له وهو يزيح كل من تصله يديه ويصطدم بكتفه بخلاف خروجه السابق وبدون وعي تقريبا....وما ان اقترب اكثر من منتصف الدائرة حتى اتضحت الرؤية امامه واستطاع التقاطها وهي تجمد قدميه عن التقدم وتشعل المرجل بقلبه والذي تحول لجمرة دارت بكل مكان بجسده حتى استقرت بعينيه السوداويتين بنيران غير ابية حرقت كل شيء موجود بجوفهما ألا الغضب الذي اصبح كالسعير البركاني....كانت تجذب الانظار نحوها وهي تحصد اهتمام الجميع وانبهارهم بكتلة الجنون المتحركة او على الاغلب بكتلة الفتنة الراقصة...وهي تؤدي رقص عشوائي لا ينتمي لأي نوع محدد او فصيلة معروفة فقط تحرك ذراعيها بالهواء بتأرجح وقدميها تدوران بثانية وتنفرجان بثانية اخرى لتشكل تارة زاوية قائمة وتارة اخرى زاوية منفرجة....واكثر شيء ساعدها بالرقص هو جسدها المثالي النحيل الذي كان يتمايل برشاقة وسهولة مثل عصا الهوكي القابلة للانحناء والالتواء...بينما يشاركها بالعرض تنورة فستانها الامعة التي تطاير من حول ساقيها بكل حركة بلمعان ملفت للنظر يعطي اجواء ساحرة لرقصها الشعبي الغربي رغم تناقض طبيعة ملابسها بنوع رقصها المتحرر .
سحب عدة انفاس بجموح وهو يغمض عينيه لثانية واحدة واطول فترة زمنية قضاها بحياته احجمت البراكين بدواخله....وما ان فتح عينيه من جديد حتى تقدم اخيرا بخطوات واسعة بسرعة ثابتة بدون ان يأبه بالنظرات التي انتقلت له ايضا بعد ان دخل دائرتها....ليقف بعدها على بعد خطوة واحدة منها وبضعة اشبار جعلتها تصطدم به اثناء دورانها حتى كادت تقع بفقدان اتزان واختلال بأمواج عقلها...تلقفها بذراعيه من خصرها وجسدها متدلي على ذراعه ويديها تتشبثان بقماش سترته بتمسك لا إرادي بغريزة طبيعية .
اخذت (ماسة) ثواني بتأمل شكل الذي كان يعلوها ويحيط بخصرها بدوار ما يزال يلفها بتشوش واضح....ولم يوقظها سوى انشداد الذراع على خصرها المستدير بقسوة اصابعه على لحمها...ليتبعها بدفعها للأعلى وهو يوقفها امامه بقوة بدون ان يترك خصرها من مخالبه....وما ان كانت على وشك التكلم بعد ان استجمعت بعض من افكارها التائهة...حتى كان يقاطعها بقبلة مفاجئة على طرف شفتيها امام الملأ حجرتها بمكانها بتحنط وكأنها تتلقى صفعة غير مرئية بشكل مختلف اوقعها من مكان مرتفع من حافة الهاوية حطمها لأشلاء .
بعد مرور ثواني فقط على القبلة كانت شفتيه تنحرفان لأذنها وهو يهمس بها بفحيح قاتل احرق باقي اجزاء كيانها المحطم
"انتِ الآن بعداد الموتى !"
طرفت بعينيها بدموع حارقة ما ان تهادى لسمعها اصوات التصفيق العالي والهتاف بضجيج اصم اذنيها بألم قاتل ، ولم تشعر بعدها سوى بانسحاب ذراعه عن خصرها ليمسك بيدها الرقيقة بداخل قبضته القاسية ، لتتابع بعدها بعينيها الشبه مفتوحتين الذي اخرج خاتمها من جيب سترته بدون ان تعلم كيف دار هذا الخاتم ليصل بالنهاية ليده ! وبلحظة كان يدس الخاتم بأصبعها الطويل بقوة استقر بنفس المكان الذي خرج منها وترك العلامة عليها ، وما ان رفعت عينيها امامه وهي تتلاقى مع عينيه الباردتين بنيران مستعرة حتى كان يرفع يدها امام شفتيه وهو يقبل مفصل اصبعها فوق ألماسة خاتمها يهديها المرهم فوق جرح اصبعها بعد ان غار بدواخلها وغزاها بأبشع الطرق .
اشاحت بوجهها جانبا وهي تنظر بعيدا بتشتت تتحاشى النظر عن الجميع وتكتم صوت الصخب المنتشر من حولها وكأنهم يشاهدون لقاء العشيقين المفترقين بدد ملل الزفاف التقليدي ، لتبتلع ريقها بانتفاض ظاهري ما ان قبض على كفها بقوة متسلطة آلمتها حد الصميم بدون اي مشاعر ، وما هي ألا لحظات حتى كان يسحبها من نفس اليد لتتحرك معه بهدوء وهما يخرجان من بين حلقة الجماهير والتي بدأت تفسح لهما المجال بدون ان تتركهما النظرات والتي تركت الاثر المختلف عند كل واحد منهم ، وقد خلفت دمار صامت عند كل شخص فهم ما وراء تلك العلاقة العاطفية التي ليس لها صلة بالمشاعر او الحب بل مجزرة كبيرة قتلت الاحياء منها .
_______________________________
تلبدت ملامحه ببرود صخري منحوت من سطح اسمنت صلب بدون ان يقبل اي لين او ارتخاء ، وهو يشاهد الاستعراض العاطفي والذي احتل الصدارة بهذه الحفلة التي من المفترض ان تكون حفلة زفاف ، ولكن ما يراه الآن بأن هذه الحفلة قد اصبحت مسرحية هزلية لجذب حضور اكثر واهتمام الجماهير المتابعة التي نسيت على ما يبدو سبب حضورها ، وهو لا يعلم ما مكانه الآن بهذه الحفلة الصورية والتي تلقى منها صدمات لا تربط السعادة بصلة مرة من الضيوف ومرة من الزوجة الساكنة ذات القلب المكسور والتي لا تعي ما يدور من حولها ! هذا إذا كانت تنتمي لهذا العالم او شعرت بما حدث الآن امام اعينهما بحفلة زفافهما !
حانت منه التفاتة بجانبه بنظرة عابرة سمرته بمكانه برهبة ما ان سقطت عينيه على اللوحة المرسومة امامه بوجه امرأة انهمرت الدموع على تفاصيل ملامحها مثل مشهد قصير صامت يعبر عن الحزن والاسى ، وقد يكون هذا رد فعلها على العرض الذي تمثل امامهم من لحظات بعواطف قد تلاعبت بمشاعرها بمهارة حتى ظهرت بهذا الشكل المفرط الاقرب للمبالغة ، فهل يعقل بأن تكون كل هذه المشاعر المرهفة تخبئها بقلبها ؟ ام قد تكون لها علاقة بقصة حبها القديمة ؟!
تصلب فكه بلمحة خاطفة بقسوة عند الاحتمال الثاني الذي داس فوق المشاعر الاخرى بداخله حتى كبتها تماما بعيدا عن الاعين ، ليبتلع بعدها ريقه بتصلب غزى محياه وهو يرفع يده بلمح البصر ليشب اصابعه بلحم ذراعها العاري وهو يهمس بخفوت عنيف غير مقصود
"هل انتِ بخير ؟"
شهقت بصوت مكتوم بعث الرجفة بروحها ولسعات نيران بقلبها وهي تلتفت بسرعة نحوه بعينين واسعتين عسليتين تعلوهما سحابات من الدموع ، وما ان ادركت وضعها الحالي وهي تحدق بعينيه المتسائلتين اللتين لا تحملان اي رأفة حتى نزعت ذراعها عن يده باندفاع مهتز وهي تهمس باضطراب واضح
"نعم انا بخير ، بخير"
قطب جبينه بجمود وهو يراقبها تحاول مسح الدموع عن خديها بظاهر يدها المرتجفة بوهن واضح ، ليخفض بعدها يديه وهو يدسهما بجيبي بنطاله قائلا بجدية بدون ان يفارقها بنظراته التي تدرس ادق تفاصيلها
"لا تبدين لي بخير ! فأنا اعرف بأن وراء بكاء الانسان سبب ، فلا احد يبكي بدون سبب ، هل تأثرتِ بالمشهد العاطفي الذي رأيناه قبل قليل ؟ فقد كان مشهد لا يفوت لدرجة بأنه اخذ انتباه وعقول الحاضرين حتى نسوا حفلة زفافنا !"
زمت شفتيها بارتجاف مخزي وهي ما تزال تغطي خدها المحتقن بالدماء بكفها ، لتتنفس بعدها بطبيعية هامسة بخفوت متزن بحجة بديهية
"انا انسانة عاطفية ولدي حساسية مفرطة اتجاه هذه المواقف ، ليس بالشيء المهم الذي تشغل بالك به"
تغضنت زاوية ابتسامته بدون اي مرح وهو يقول ببساطة ساخرة
"لم تكن هذه ردة فعل باقي الضيوف اتجاه هذا الموقف ! هل هذا يعني بأنكِ الانسانة الوحيدة العاطفية بالعالم ؟"
عبست ملامحها بوهن وهي تخفض يدها ببطء شديد لتقول بعدها بشبح ابتسامة باهتة
"ربما تكون على حق ، فليس كل الناس تملك قلبا مثل قلبك ، وفقط الناس الذين يسخرون من مصائب الغير هم الذين لم يجربوها بحياتهم"
غامت ملامحه بدون اي تعبير اختفت ببؤرة المجهول وهو يقول بصوت مشتد حاد اخرجته عن ثباته
"لستِ مثال جيد للحكم على باقي البشر ، ولا تملكين القوة للتكلم عن تجاربهم بدون ان تعرفيها ، وليس كل الناس عليها ان تظهر مشاعرها بطريقتك لتظهرهم بشر بقلوب كبيرة"
حادت بحدقتيها نحوه لوهلة قبل ان تهمس بنشيج خافت بضيق
"إلى اين تريد ان تصل ؟ وماذا تعني بكلامك ؟"
نظر لها بهدوء وهو يحرك كتفيه باستخفاف قائلا بابتسامة هادئة
"لم اقصد شيء بكلامي ، فقط احاول مجاراة منطقك بالكلام وتفهم موقفك ، لمعرفة سبب المشكلة والتي دفعت زوجتي للبكاء بحفلة زفافها"
عقدت (غزل) حاجبيها بامتقاع وهي تدير وجهها بعيدا هامسة بخفوت حزين
"اعتذر على ازعاجك بمشاكلي النفسية ، فقد تأثرت قليلا ولم اعد ادرك ما اقول وافعل"
اومأ (هشام) برأسه بهدوء وهو يعقب قائلا بابتسامة شاردة غزت ملامحه بوجوم
"لا بأس فنحن معتادين على مواجهة مثل هذه المشاكل والمسائل المعقدة والتي توصلنا لسوء الفهم بيننا ، ولكنني اعدك ان نتأقلم مع هذا الوضع بحياتنا القادمة لكي لا يحدث سوء فهم آخر"
عضت على طرف شفتيها بعصبية بدون ان تحاول مناقشته بهذه المواضيع المرهقة لها ، ليعود بعدها للكلام بلحظات وهو يقول بتفكير غامض
"بالمناسبة كنت اود سؤالكِ عن شيء ، ما رأيكِ بطبيعة العلاقة التي تربط الثنائي الذين حصدوا كل هذه المشاهدات بعرض واحد ؟ وهل ما حدث سيكون جيد لهما ؟"
احنت حاجبيها بوجوم وهي تهمس بابتسامة حزينة وكأنها تشارك العرض بكل جوارحها بعد ان لعبوا بنقطة مهمة بحياتها
"انهما ثنائي جميل بل اكثر من رائع فما يكمن بينهما حب تستطيع الشعور به وملامسته فقط بالنظر لحركاتهما ولردود افعالهما التلقائية ، فقط مشكلتهما الوحيدة هو انعدام الفهم بينهما وعدم اظهار مشاعرهما لبضعهما بمصداقية اكبر تمحي الشكوك بينهما ، وما حدث لهما من لحظات سيعود عليهما بالألم وسيترك الاثر عند كل واحد منهما ، فهذا الذي يظنه الجميع مشهد عاطفي بين زوجين هو بالحقيقة استعراض وستار لإخفاء ندوب حفروها بينهما واطلقوها على بعضهما"
كان (هشام) يراقبها باهتمام بالغ وهي تجسد الوضع بنظريتها ومفهومها او قد يكون من تركيب علاقتها السابقة التي بنت عليها هذه النظرية ، نفض بعدها رأسه بقوة وهو يركز على نقطة سوداء بعيدة ، قبل ان يهمس ببرود ساخر ينتشل نفسه من كلماتها الملعونة التي تخرج من وتر حزين مقطوع
"وجهة نظر لا بأس بها بالنسبة لفتاة خاضت مثل هذه التجارب اعطتها دروس وعبر قيمة"
ارتبكت ملامحها بشحوب وهي تمسح بقبضتها على خدها هامسة بتوضيح متوتر
"ليس الامر كما تظن ، ولكن لدي فكرة شاملة ومعلومات عن علاقتهما مسبقا ، يعني لم اكن اتكلم من فراغ بل كنت اتكلم عن علم ، وهذا ما استطعت التفكير به حتى توصلت لهذه النظرية ، واساسا زواجهما لم يكن عن حب بل كان زواج تقليدي"
ارتفع حاجب واحد بهدوء وهو يغمغم بعدم اهتمام
"لقد فهمت الآن ، شكرا لكِ على هذا التوضيح المفصل"
قبضت يديها على قماش الثوب وهي تزفر انفاسها بضيق اصبح يضغط عليها ، لتهمس بعدها بخفوت مترجي
"احتاج للذهاب للحمام ، هل تستطيع تغطية غيابي لدقائق ؟"
ردّ عليها (هشام) ببساطة بدون ان يلقي نظرة نحوها
"اذهبي"
ضمت شفتيها بوجوم وهي تمسك بأطراف ثوبها الطويل لتغادر بسرعة مستغلة الفرصة قبل ان يغير رأيه ، بينما كان (هشام) يرمقها بنظرات جانبية بدون اي شعور يسكنه وهو يتمتم مع نفسه بقهر وكأنه يخاطب طيفها الهارب
"إلى متى ستستمرين بلعبة إيلامي يا غزل ؟ إلى متى سأستمر بالتألم منكِ وعليكِ !؟"
___________________________
كان يدفعها للجري على درجات السلم وهو يسحبها من يدها بعنف التي تكاد تنزلق من قبضته بدون ان يعطيها الفرصة للانتظام بخطواتها التي داست على طرف ثوبها اكثر من مرة ، وما ان وصل عند نهاية سلم المدخل حتى توقف بقوة جعلتها تصطدم بظهره بحركة مرتدة وهي ترجع للخلف خطوتين بترنح وما سمحت لها قبضته المقيدة ليدها ، وبعد عدة لحظات صمت سمعت التمثال الواقف امامها وهو يهمس بثورة مكبوتة وكأنه يستصعب اخراج الكلمات
"ماذا فعلتي ؟ لماذا فعلتي ؟ هل انتِ بكامل وعيكِ ؟ هل جننتِ ؟"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين باستيعاب مشوش وهي ما تزال تترنح بمكانها بعدم تماسك ، وما ان فغرت شفتيها المرسومتين بعناية نصف انفتاح حتى سبقها الذي صرخ بصرامة وهو يعصر بقبضته على يدها بقوة
"لماذا يا ماسة ؟ لماذا فعلتي ؟"
صرخت بصوت جامح وهي تنسل يدها بعيدا عن قبضته بقوة
"بسببك انت ، انت السبب بكل شيء !"
تصلبت قبضته كما جسده الذي انتصب فجأة وهو يستدير نحوها بهدوء مهيب ، وما ان اصبح مقابلا لها حتى بدء بتأملها عن كثب اخذت منهما برهة قبل ان يتمتم ببرود جليدي وهو يعود بنظره لوجهها
"يا له من سبب مقنع لإخفاء جرائمك من خلفه والنفاذ من فعلتك ! وماذا لديكِ ايضا لتبرري به سبب ذلك العرض المفتوح والذي لا يليق سوى بفتيات الليل ؟ هيا اسمعيني المزيد من تبريراتك المنطقية لكي اقتنع بواحد منها ! فقد اعتدت على سماع نفس السيناريو منكِ ونفس سلسلة الاكاذيب التي لا تنتهي من لسانك"
تغضنت ملامحها وهي تقبض يديها على جانبيها تحاول الحفاظ على تماسكها بقدر استطاعتها ، لترفع بعدها اصبعها السبابة بوجهه وهي تقول بغضب مكتوم حتى اصدرت احتكاك بأسنانها الحادة
"إياك ان تسخر مني ، إياك ، فأنا الآن لست بحالتي الطبيعية لأتحمل استجوابك لي وإذلالي وكسري بكل فرصة تسنح لك ، وإذا كنت تريد ان تعرف سبب تصرفاتي هذه اسأل نفسك اولاً ! اسألها اولاً !"
نفض ذراعيه على جانبيه بحركة قوية بعثت الخوف بأوصالها وهو يقول بانفعال مستعر
"انتِ توقفي عن السخرية مني ، وتلفيق الاكاذيب والحجج ، توقفي عن التبريرات الفارغة وقول الكلمات المبهمة ، لقد اخبرتكِ لماذا فعلتي كل هذا ! فهل لديك جواب ام لا ؟ لديكِ جواب ام لا ؟!......."
قاطعته بصراخ عنيف وهي تضرب بقبضتيها على وركيها بفقدان سيطرة
"لأنك من دفعتني لمثل هذا التصرف المتهور ، انت من دفعتني لأدخل بهذا التحدي السافر ، ماذا تتوقع مني ان افعل ؟ ماذا تتوقع مني ان افعل وانا ارى زوجي يرقص مع تلك عديمة الحياء والشرف ؟! هل استمر بالنظر والانبهار ام اصفق لكما على هذا العرض المشرف ؟ ماذا افعل وانت تتجاهل وجودي وتقضي وقتك مع غيري ؟ لقد احترقت بالكامل ! حرقتني حية وانت غير مهتم ! ومن اجل ذلك لقد قررت ان اشاركك بذلك الحريق ، لقد قررت ان احرقك معي كما حرقتني ، لتعرف بأني لا اصمت عن حقي مهما حدث ، لا اصمت ابدا"
كان (شادي) يراقبها بملامح متلبدة صخرية وهي تتنفس بتسارع ثائر بدون ان ترحم كليهما ، ليمسك بعدها خصره بيديه وهو يخفض نظره قليلا بهدوء حديدي وكأنه يجمع شتات افكاره والتي مزقتها إرباً إرباً بكل زاوية وجانب ، وما ان وجد صوته اخيرا حتى قال باستنكار عابس وكأنه يسخر من نفسه ومن واقعه
"هل هذا هو سببكِ الحقيقي ؟ وانا كنت اتوقع سماع شيء آخر ! ولكن لما الاستغراب هكذا ؟ أليست هذه هي اساليبك وتقاليدك المعتادة بشن الحروب ؟ كل شيء متاح ومشروع عندكِ بسبيل هزيمة خصمك مهما كانت مكانته بحياتك وقيمته ، مهما كان الضرر الذي ستلحقينه بنفسكِ وبنا وبعائلتك وبالمجتمع ، فلا يهمكِ سوى الحصول على نصرك والاندفاع الغير واعي وكأنكِ تدفعين برأسكِ بالجدار بكل مرة وتضربينه بدون توقف ، وبالحقيقة بأنه ليس رأسكِ بل رأسي انا الذي دفعته للجدار وحطمته ودفنته بعدها بالتراب بخزي ومهانة سيبقى ملازم مثل بصمة عار فوق جبين زوجك !"
ابتلعت (ماسة) ريقها بصعوبة وهي ما تزال تخرج انفاسها بفحيح ساخن صهرت قفصها الصدري ، لترفع بعدها قبضتها لا شعوريا لتمسد على صدرها المتألم وهي تهمس بحرقة مريرة
"هذا لا يقارن بما فعلته بي امامهم ! لقد جعلتني اشعر بالانحطاط والدونية ! وتمنيت بتلك اللحظة لو تنشق الارض وتبتلعني بعيدا عن كل البشر ، افضل لي من الظهور امامهم بعد ان قدمت لهم عرض عاطفي رخيص ليس موجود بالأحلام ، وانت تثبت لهم بأنني حتى ارخص من فتيات الليل......"
ارتعدت بخطواتها للخلف بتعثر ما ان هجم عليها بلحظة واحدة وهو يقتنص ذراعيها بقبضتين صلبتين ليصرخ من فوره بغضب فجرت براكينه
"أليس هذا بسببكِ ؟ ألست سبب كل مصيبة تحدث معنا ؟! انا لم اخرج بعد من صدمة فعلتك الاخيرة بشقيقتي والتي لم تسمحي لها بالتواري تحت تربة الزمن والنسيان ! وعندما افكر بقلب صفحة جديدة تأتين وتهدمين كل شيء فوق رأسي ، وايضا بأقبح فعل من الممكن ان يخرج من زوجة محترمة وهي تقدم عرض راقص امام جمهور كبير من معارف واقارب العائلة بالداخل والخارج ! وانتِ لا تلطخين سمعتك وحسب بل سمعة زوجك ونسبه ومكانته وشعبيته وحياته وكل شيء ، ومع ذلك ما زلتِ لا تدركين شناعة وانحطاط فعلتك ، لا تدركين اي شيء مما جعلتني اعيشه واجربه ، والآن متألمة بسبب ما بدر مني امام الناس ردا على تصرفك ! لقد كان هذا الحل الانسب امامي بين خيارين لا ثالث لهما احداهما نزع تلك الافكار من عقول البشر والنفوس الدنيئة بمشهد ينسيهم انحطاط مشهدك ، والآخر سحبكِ من شعركِ واخراجك من عندهم بصورة مهينة مقرفة لن تتوقعيها ولن تنسيكِ بشاعة ما ستتعرضين له لتبقى عبرة لكِ لمدى حياتك وحتى موتك ، هل فهمتي الآن ؟"
اعتلت ملامحها سحابات مشحونة بسيل من المشاعر السوداوية وهي تغضن طرف ابتسامتها هامسة بتحشرج لا إرادي
"لم اعرفك تحمل كل هذه القسوة بقلبك !"
شدد اكثر على ذراعيها وهو يقربها منه ليهمس فوق صفحة وجهها بغضب ثائر
"لقد بدأت اتعلم بعض من قسوة زوجتي ، فكما يقولون الزمن يعلم ما لا يستطيع الانسان تعلمه"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بأمواج عالية المدى لم تستطع كتمانها خرجت من صميمها ومن وعاء قلبها ، وما ان دفعها بعيدا بقسوة عدة خطوات حتى صرخت بلحظة بانعدام انضباط وهي تلوح بذراعيها بالهواء بعدائية
"انت تستحق هذا الألم ، اجل تستحق ، من اجل كل هذا الوقت الذي قضيته بعيدا عني ، هذا الوقت الذي خاصمتني به ، وانا اهاتفك يوميا عشرات المرات وابعث لك بالرسائل منذ يومك الاول الذي تركتني به ، وعندما اعرف اين كنت ، تبين بأنك مع تلك عديمة الاصل والحياء تقضي طول النهار والليل معها بدون تفكير بزوجتك التي رميتها خلفك ! كيف تتجرأ على تعليقي بك هكذا كل هذه المدة ؟ كيف تتجرأ على فعلها بي رغم معرفتك بكل ما عشناه سويا ؟ بما انك قد اخترت هذه الطريق وهذا الاسلوب بالتحدي ، فأنا سأقلب الطاولة عليك واتحداك بالمثل ولن يكون هناك نزاهة او شرف بهذه اللعبة......"
انقطع صوتها بعيدا فوق صوت الصفعة التي هبطت على جانب وجهها بعنف ادارت وجهها بعيدا وتداخلت بسكون الليل الموحش ، وبعد مرور لحظات فاصلة كانت اطول مدة تحيط بهما خرج صوت الواقف امامها وهو يهمس بنذير مهدد على وشك حرقها
"إياكِ ! ثم إياكِ قولها امامي مجددا ! إياكِ والوصول لذلك الانحطاط"
ارتجفت بمكانها ببرودة صقيعية نخرت عظامها وزادت سخونة خدها من الصفعة الحمراء التي تخللت بجزيئات بشرتها ، وما ان ازاحت وجهها سنتمترات حتى صدح صوت بعيد ببداية السلم يعلن عن وصول فرد آخر كان شاهد على الصفعة
"ماسة !"
بهتت تقاسيمها بانسحاب اللون عنها وهي ترفع وجهها ببطء واقصى درجة يمكنها رفعها ، وما ان تلاقت نظراتها مع نظرات شقيقتها التي تظهر الصدمة والاستنكار بآن واحد حتى همست لها بشبح ابتسامة وهي ترفع لها ذراعها بالهواء بترنح واضح
"وها قد اتت شقيقتي روميساء ايضا ، ماذا اريد اكثر من هذا ؟"
ولم تسمح لهما بالتفكير لثانية فقد كانت تقع امامهما بغياب وعي بعد ان امتزجت دمائها بمحلول المشروب واخذ الألم بالتشعب بها ، لتتلقفها ذراعيه بلمح البصر قبل وصولها للأرض بأعجوبة وهو يسند رأسها الساقط على صدره قائلا بقلق نشب مخالبه بقلبه الذي وقع معها
"ماسة ! ماسة افيقي ! حبا بالله لا تفعلي هذا بي !"
ضرب بيده الحرة على خدها بقوة بدأت تتزايد تدريجيا بدون ان يصدر منها اي حركة او ردّ فعل وكأنها قد ذهبت لعالم الاموات ، ليبعثر بعدها شعره بغضب وهو يتمتم بشتم مكتوم
"سحقا لهذا !"
وضع ذراعه تحت ركبتيها وهو يحملها عاليا بخفة الريشة ورأسها مستند على صدره ، ليتحرك بسرعة بخطوات واسعة وهو يكاد يجري بها بدون ان يرى احد امامه سوى الطريق المؤدي لسيارته .
بينما كانت (روميساء) تشاهد الوضع بصدمة لم تفق منها بعد وهي تمسح على صدرها بقبضتها بلوعة وكأنها تعيش بكابوس مروع ، لتهمس بعدها بإدراك متأخر وهي على وشك نزول درجات السلم
"يا إلهي ! يا إلهي ماسة !"
اوقف نزولها اليد التي امسكت بذراعها بقيد حديدي وهي تعيدها للخلف وتديرها نحو صاحبه ، وما ان ظهرت امامها هوية الفاعل حتى غضنت جبينها بوجوم وهي تهمس بارتباك منفعل
"ماذا هناك يا احمد ؟ لما اوقفتني ؟ ماذا الآن ؟!"
تصلبت ملامحه بخطوط قاسية وهو يشدد على ذراعها قائلا بهدوء جاد
"نحن لم ننهي حديثنا السابق بعد ، وعلينا التكلم بهذا الأمر الآن"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تحاول سحب ذراعها من قبضته بعنف هامسة بخفوت مشتد
"لا نستطيع التكلم الآن ، وهذا ليس الوقت المناسب للكلام ! عليّ اللحاق بشقيقتي ! اتركني"
قربها منه اكثر وهو يقول بإصرار بدون ان يأبه لكلامها
"بل علينا التكلم الآن ، وليس هناك لكِ مهرب مني ، ولن اسمح لكِ بقول اي اعذار او حجج بعد الآن"
تجمدت تقاسيمها ببهوت وهي تمسك قبضته بيدها الحرة لتنزعها عن ذراعها قائلة بجمود مقتضب
"وانا قد اخبرتك بأنني لن احاول تبرئة نفسي امامك من بعد الآن ، فقد قلنا ما لدينا وعبر كل شخص عن رأيه بالآخر ، وهذه المسألة ستنتهي هنا ولن نتناقش بها مرة اخرى ، فقد تعبت من كل هذه الاتهامات ! تعبت !"
استطاعت تحرير ذراعها من قبضته وهي تستدير بقوة لتكمل نزول درجات السلم باندفاع وهي تمسك بطرفي ثوبها بدون ان تلقي نظرة اخرى نحوه ، وهي تترك النظرات من خلفها تلاحقها بصمت حارق بدون ان يبادر بحركة اخرى ، ليقاطع بعدها سكون افكاره الصوت الانثوي مع لمسات اصابعها على ذراعه وهي تقول بدلال ماكر
"ماذا تفعل وحدك يا احمد ؟ كيف تترك ضيوفك هكذا وتغادر ! هيا بنا علينا ان ندخل بسرعة قبل ان يشعروا بغيابك ويفتقدوك ، هيا تحرك"
انتشل نظراته بعيدا عن مكانها وهو يتحرك معها بخطوات ثقيلة اتجاه مدخل القاعة بعد ان اقتلعت روحه بيدها وهربت بها لتلحق بكل ما يخص شأنها ما عداه .
______________________________
دخل للغرفة باندفاع وهو ما يزال يحملها بين ذراعيه الحريصتين عليها قبل ان يضعها فوق السرير ببطء وحذر شديدين ، وما ان استقرت فوق ملاءة السرير حتى نقل نظره جهة باب الغرفة والتي دخل منها الطبيب الخاص بالعائلة الذي اتصل به خلال طريقه للمنزل ، ليقول له بسرعة وهو يحرك ذراعه بينه وبين زوجته الملقاة على السرير
"ما لذي تنتظره ؟ هيا تعال وافحص حالتها ، هل تريد مني العمل بدلا عنك ؟"
تحرك الطبيب بسرعة وهو يصل امامه على بعد خطوات ، ليتنحنح بعدها بحرج وهو يقول بمهنية
"هلا افسحت لي المجال للقيام بعملي ؟ وانت يمكنك الخروج من الغرفة والاطمئنان على حالة زوجتك تحت مسؤوليتي ، وانا سأتكفل بكل شيء هنا"
تجهمت ملامحه بشر مطمور وهو يهجم على ياقة الطبيب قائلا بوجهه بوحشية خرجت عن زمام السيطرة وحرقت اعصابه
"ما لذي تهذي به ؟ ما لذي تهذي به يا دكتور ؟ انا لن اتحرك من هنا قبل ان اطمئن على حالة زوجتي ، وانت ستقوم بكامل عملك هنا وكل شيء يلزم فعله امام عيني ، فهذه الغائبة عن الوعي تكون زوجتي ! زوجة شادي الفكهاني ! لذا إذا لم تتصرف بسرعة بهذا الخصوص فلن تتوقع ما ستكون عليه ردة فعلي يا طبيبنا المحترم"
ابتلع الطبيب ريقه بارتباك وهو يومأ برأسه بطاعة قائلا بهدوء مهذب
"اكيد يا سيد شادي ، نحن موجودين هنا لخدمتكم وتنفيذ طلباتكم ، ولا تقلق على زوجتك فأنا سأعمل كل جهدي لتعود لصحتها وعافيتها بدون ان يصيبها اي مكروه"
اومأ (شادي) برأسه بحركة جامدة غير معبرة وهو يفلت ياقة قميصه بهدوء ، ليبتعد بعدها عن طريقه وهو يلتف حول السرير ، بينما اخرج الطبيب اغراضه من حقيبته وهو يبدأ عمله بفحصها وقياس نبضها وضغطها بالمعاينة الشكلية .
كان (شادي) يدور حول نفسه وهو يتجول بالغرفة ذهاباً وإياباً بخطوات عصبية حرقت كل وتر حساس بجسده حتى العظام وكأنه يُضرب بالسوط بدون رحمة ، وبدون ان تفارق نظراته المشتتة الجسد الممهد على السرير بسكون تام فاقد للحياة والشعور ، وهو لا يعرف عن كل التخبطات والاضطرابات والتي يسببها له حتى بغيابها وهدوئها ما تزال تثير العواصف وكل رواتب ومخلفات جنونها ما تزال تضنيه !
استغفر ربه وهو ينتشل نظراته بعيدا عنها بصبر على وشك النفاذ وبقلب على وشك الانفجار بهبوب نيزك ، وما ان مرت دقائق اخرى حتى توقف بمكانه بقوة وهو يوجه كلامه للطبيب قائلا بجموح يحاول كبح اعصابه
"ماذا حدث معك إيها الطبيب ؟ هل كل هذا الوقت تجري لها الفحوصات ؟ ألم يخرج معك اي نتيجة !"
اضطربت حركات الطبيب وهو يخلع السماعات الطبية عن اذنيه ليدسها بداخل الحقيبة ، قبل ان ينهض عن الكرسي بهدوء وهو يقول بعملية بدون ان يواجهه بنظراته
"انها بخير الآن ، فقط تحتاج لأخذ قسط من الراحة والنوم الطويل وبعدها بصباح اليوم التالي ستعود لوعيها وصحتها"
سكنت ملامحه بدون ان تلين او ترتاح وهو يقترب عدة خطوات قائلا بشك ما يزال يساوره
"اجل وماذا بعد ؟ ما سبب غيابها عن الوعي بهذه الطريقة ! انت تخفي عني شيء إيها الطبيب وهذا الاسلوب لا يعجبني ابدا"
تنهد الطبيب باستسلام وهو يواجهه بنظراته لبرهة قبل ان يصرح يرمي الحقيقة امامه بكل بساطة
"زوجتك كانت ثملة وكل ما حدث معها من تأثير الكحول عليها"
ارتفع حاجبيه ببطء جامد وهو يحاول استيعاب القنبلة التي انفجرت فوق رأسه الذي تعبأ بالكثير من الاحداث السابقة لتكون هذه الضربة القاضية بالنسبة له ، ليرفع بعدها يده وهو يمسك فكه بتوتر واضح قبل ان يهمس باستنكار مضطرب
"هل انت متأكد ؟ هل هذا تأكيد ام مجرد فرضيات ؟ فأنا لن اتحمل اي شكوك......"
قاطعه الطبيب وهو يقول بتفهم لوضع حالته الغير قابلة للتصديق
"لقد تأكدت جيدا من الامر ، فأنا اعرف حالة المريض من النظر لبؤبؤ عينيه ، وزوجتك بعد تشخيص حالتها تبين بأنها تعاني من آثار كحول من العيار الثقيل غيب عقلها عن العمل وعطل كل اجهزتها الحيوية لدقائق ، وهذا يحدث كثيرا مع الممارسين الطبيعيين والمعتادين على شرب هذه المشروبات الروحية يوميا ، ولكن عندما تكون هذه اول تجربة لها تعود بأضرار وخيمة عليها بسبب دخولها لجسدها للمرة الاولى ونتائجها على الفتيات الصغيرات بعمرها"
كان (شادي) يحرك رأسه بالنفي وهو يرفع يده عن فكه لرأسه بتخبط افكار وذهن مشوش بدون ان يتوقف على نقطة معينة يستقر عليها ، وما ان وصل بنظره للتي ما تزال غارقة بسباتها لا تعلم عما يواجهه بسببها حتى قال بصوت خفيض اجش
"كيف يعقل ان يحدث هذا ؟ بل كيف وصل المشروب ليدها ؟! كيف لا اعلم شيئاً عن هذا ؟"
اجاب الطبيب على تساؤله الخافت بصوت جاف بدون ان يطلب الإذن
"على اغلب الظن بأنها قد شربته عن طريق الخطأ ، فهي ليست من النوع المعتاد على شرب مثل هذه المشروبات"
اخفض يده بجمود وهو يحيد بنظراته للطبيب بعيون حارقة قبل ان يقول بصوت قاتم
"بالطبع اعرف ذلك بدون سماع هذه المعلومة ، وألا ماذا ترانا امامك ؟ هل اسمح لزوجتي بشرب هذه المحرمات برأيك ؟!"
حرك الطبيب رأسه جانبا بارتباك وهو يقول بأسف شديد
"اعتذر يا سيد شادي ، لم اقصد بكلامي اي سوء او مضرة ، اطلب منك العفو على زلتي !"
حرك عينيه بملل وهو يتنفس بجمود كاسر ليقول بعدها بهدوء وهو يلوح بذراعه بلا مبالاة
"غير مهم يا سيد خلدون ، يمكنك المغادرة الآن ، وشكرا لك على حضورك السريع بهذا الظرف الطارئ ، جزاك الله خيرا"
اومأ الطبيب برأسه باحترام وهو يجمع اغراضه بداخل حقيبته ، وما ان انتهى حتى قال بهدوء عملي وهو يحمل حقيبته بيده
"إذا حدث اي مضاعفات او ساءت حالتها يمكنك الاتصال بي فورا ، وانا سأكون بخدمتكم ، حمد الله على سلامتها ، طاب مساءكم"
تجاوزه الطبيب بسرعة وهو يخرج من الغرفة بأكملها وكأنه يهرب بما تبقى لديه من كرامة قبل ان يقتنص روحه ، بينما كان (شادي) يشرد بعيدا بفراغ الغرفة الساكنة مثل صاحبتها النائمة وكأن كل ضجيج الساعات قد خمد بلحظات بسيطة كانت كافية لتدمير كل شيء واللعب بأوتار حياته ، لينقل بعدها نظراته نحوها بهدوء وهو يمررها على فستانها الليلي الذي ما يزال يحاوط كامل جسدها يغطيها بسواد عميق يغشي البصر ويزهق الروح ويدمي القلب .
تقدم بخطواته لا شعوريا وهو يقف بجوار سريرها بصمت ، لتنتقل رحلة التأمل لملامح وجهها الباردة التي لا تظهر اي تعابير او مشاعر ارتسمت فوق لوح ابيض ثلجي ، لا يفسدها سوى لون الصفعة الحمراء القانية على خدها التي تظهر حقيقة ما حدث قبل ساعة واكثر ، وكأنها علامة قاتلة تحاول تذكيره بشناعة ما ارتكبته يديه واذنبه بحق علاقتهما الزوجية التي تجمعهما تحت اسم هذا الرباط والذي وصل للتطاول بالأيدي والتقاذف بالكلمات البذيئة !
اسند يديه على حافة السرير وهو ينحني امام وجهها الذي اصبح لا يبعد عنه سوى شبر واحد ، وبلحظة كان ينحرف على جانبها مكان الصفعة ليقبل خدها الساخن برقة عذبة ، وهو يشعر بلهيب صفعته يطفئ القليل من نيرانه التي اجادت اشعالها على مدار ايام وليالي غاب بها ضياء قمرها البهي وشعلة عاطفتها التي لا تخمد .
تنفس امام خدها بهدير ساخن مثل مرجل مشتعل وهو يهمس فوقه بصوت اجش عميق
"انا اعتذر يا ألماستي"
رفع رأسه قليلا على بعد سنتمترات وهو ما يزال يستنشق رحيق بشرتها الرخامية الذي ادمنه منذ سنوات ، قبل ان يريح جبينه فوق جبينها ويلصق انفه فوق انفها وجفنيه منخفضين على احداقه وهو يستمتع بهذه اللحظات المقتطفة من حياتهما ويستغل فرصة انخماد عواصفهما بفترة راحة قصيرة ستنقضي بسرعة ولن تعود مجددا .نهاية الفصل........
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...