كان الصمت رفيقهما الثالث بطريق العودة بالسيارة لا يقطعه سوى بعض الشهقات الخافتة من الجالسة بجانب السائق ، وهي على هذه الحال منذ اصطدامها به عند مدخل بناء المدرسة بل بالأحرى منذ خروجها من عند غرفة مكتب مديرها العابث والذي تبين بأنه لم يوظفها عنده سوى لأغراض دنيئة لم تكن تعلم عنها ، وهي تخرج من مكتبه محملة بأذيال الخيبة وانعدام الكرامة والتي لم يتبقى لديها اي ذرة منها .
بينما كان (احمد) يشدد من القبض على عجلة القيادة بتصلب حتى ابيضت مفاصل اصابعه وهو لم يفهم للآن ما لذي اصابها وما سبب وصولها لهذه الحالة الغريبة ؟ وهو يراها لأول مرة بكل هذا الذبول والانهيار والذي لم يراه عليها من قبل وكل ما استطاع تخمينه هو بأنها قد خسرت وظيفتها بتلك المدرسة المشبوهة ، ولكن مع ذلك هناك امور أخرى حدثت معها اوصلتها لما هي عليه الآن فهو متأكد بأن خسارة الوظيفة ليست بهذه الأهمية بالنسبة لفتاة عاشت كل حياتها بعالم الشقاء والعمل لتحصل على يقوت يومها !
زفر انفاسه بكبت وهو يتذكر ارتجاف جسدها المخيف بين ذراعيه وكأنها تبث به تعب السنين دفعة واحدة وهي تتمسك به بتشبث مثل التعلق بطوق نجانها الوحيد او هكذا تهيؤ له ، تصلبت ملامحه بغضب مما يحدث معها ومعه فقد كان كل ما يريده ويفكر به هو الوصول لها بعد ان اكتشف من الخدم رحيلها من المنزل هي وشقيقتها بدون علم احد ، وهو الذي لم يراها او يلمحها بعد المشادة والتي حدثت بالحفلة لتنتهي بكارثة حقيقية دمرت سعادتها الأولى بحضور اول حفلة لها .
قال (احمد) بتصلب هادئ وهو ينظر للطريق امامه بتركيز
"كيف تشعرين الآن ؟ هل تحسنتِ ؟"
كانت شاردة بعيدا عنه لثواني بغمامتها الخاصة قبل ان ترفع رأسها نحوه بحيرة ، ليعيد بعدها السؤال على اسماعها وهو يشير بكفه لأذنه لتستمع له جيدا
"لقد كنتُ اقول لكِ ، كيف تشعرين الآن ؟"
رفعت كفها وهي تمسح على خديها بارتجاف قبل ان تهمس ببهوت
"بخير ، شكرا لك"
حرك رأسه باتزان وهو يقول بتفكير عابس
"إذاً هل تستطيعين ان تخبريني الآن عن سبب حالتكِ هذه ؟ ام اخمن لوحدي فقد مللت من التفكير بالأمر بدون ان احدد السبب الحقيقي لكل ما حدث معكِ !"
تنفست بهدوء وهي تحاول تجميع كلامها المشتت برأسها لتخرج بجملة مفيدة تنقذها مما هي فيه الآن ، لتقول بعدها بلحظات بهدوء خافت
"الأمر بأني قد خسرتُ وظيفتي بالمدرسة"
عقد (احمد) حاجبيه باستياء وقد كان يتوقع مثل هذا الكلام ولكنه يريد لما بعده فهو يعلم بأن هناك المزيد مما تخفيه عنه خلف انهيارها ، ليستحثها بعدها بالكلام اكثر وهو يقول بتباطء جاف
"وايضا ماذا حدث ؟"
زمت شفتيها بحزن ما ان تذكرت ما حدث بعدها وكأنه يقرأ افكارها ويعلم جيدا ما دار بينها وبين المدير بغرفة مكتبه والذي لا ترغب بتذكر شيئاً عنه ولا التكلم عنه وألا فستفقد ما تبقى لديها من كرامة امام هذا الشخص ، قالت بعدها بصرامة شاحبة وهي تنظر بعيدا عنه
"لم يحدث شيء غير اني طردتُ من العمل فقط"
تجمدت ملامحه بعدم رضا وهو يحرك فكه بغضب ليقول بعدها بابتسامة ساخرة غير معبرة
"وهل كل هذا الانهيار والذي قدمتيه امامي بسخاء من اجل خسارة وظيفة بمكان حقير كذاك ؟ عليكِ اصلا ان تسعدي بتخلصكِ من ذلك المكان المشبوه والذي لا يناسب مقامنا ابدا"
اتسعت عينيها الخضراوين الدامعتين بصدمة وهي تتلقى إهانات واحدة تلو الأخرى لتطعنها بقوة بدون اي رحمة وكأنه ينقصها مزيد من الإهانات غير إهانات ذاك المدير الحقير لتكتمل مع كلماته ، قالت بعدها بانفعال غاضب وهي تقبض على كفيها بقهر
"اجل انت على حق ، اعلم بأنني قد بالغت كثيرا بانهياري من اجل وظيفة لا تسوى شيء امامك ، ولكن عليك ان تعلم بأن هذه الوظيفة لطالما كانت تأمن لنا يقوت يومنا وعيشنا عليها حتى انني كنتُ اخبئ جزء من راتبها والذي احصل عليه بعيدا عن زوج والدتي لكي لا يستولي عليه كاملا ولا يبقي لنا شيئاً منه ، وبعد ان تشوهت سمعتنا لم يعد هناك اي مدرسة تتشرف باستقبالي وتوظيفي بها ، لذا هذه المدرسة كانت الخيار الوحيد المتبقي لي لأعمل بها واجمع المال لنعيش عليه انا وشقيقتي ونبني عليه احلامنا المستحيلة ، ولكن كيف سيفهم امثالكم مثل هذا الكلام والبعيد جدا عن حياتكم المرفهة بدون تجربة شعور النقص والجوع والشقاء بالحياة والخوف المستمر من خسارة الملجئ الوحيد والذي نعيش عليه منذ سنوات !"
كان (احمد) يتنفس بتعاقب حتى انه حاد عن الطريق اكثر من مرة وهو يكاد يصطدم بالسيارات السريعة من حوله ، ليتوقف بعدها على قارعة الطريق بهدوء تام وهو يشعر بانقباض حاد احتل صدره من نبرة صوتها الحادة بمرارة والذي يقص عليه واقع حدث معها حقيقة وبدون ان يتدخل اي احد منهم ليصلوا لهذه الحالة المنحطة والتي لا تناسب مقام عائلتهم العريقة .
قال بعدها بلحظات بوجوم بارد
"ولكنكِ الآن قد عدتِ لعائلتك المرفهة والتي لن تشعري فيها بأي نوع من النقص ، ولا داعي للعودة لحياة الشقاء والتعب مادام كل شيء تريدينه سيكون موجودا بعالمكِ انتِ وشقيقتك"
حركت رأسها بعيدا عنه وهي تهمس بلا مبالاة متعمدة شبيهة بنبرة شقيقتها
"شكر لك على هذا العرض المتأخر ، ولكني لا اريد سوى العيش بسلام انا وشقيقتي فقط بعيدا عن كل من نبذنا بحياتنا ولم يعترف بوجودنا بوقت كنا بأمس الحاجة إليه"
تغضن جبينه بعذاب قبل ان يندفع نحوها بثواني بعد ان فقد السيطرة على اعصابه وهو يكبلها من ذراعيها بقوة ليهزها منهما قائلا بانفعال حانق
"توقفي عن تكراري نفس الكلام ولومي انا بكل شيء وكأنني انا من كنتُ املك الحق برفض وجودكما ام لا ! فقد كنتُ مثل الجميع اطيع اوامر والدي وما يقوله ينفذ بدون اي كلام ، لذا توقفي عن تعذيبي بتحميلي الذنب بمعاناتكِ بما حدث فهذا كثير عليّ"
ارتعشت بارتجاف وهي تنظر له بتوجس وقلق من تغير حاله المفاجئ هكذا ! فهل يعقل بأنها قد بالغت بكلامها وسخطها لهم حتى اخرجته عن هدوئه المعتاد ؟ تنهد بعدها بهدوء وهو يخفف من قبضتيه على ذراعيها تلقائياً ليقول عندها باستياء خافت
"لما رحلتِ عن المنزل بدون ان تخبريني ؟ ألهذه الدرجة لا تطيقين وجودي حتى تفكرين بالهروب مني ومن المنزل بأكمله ؟"
ارتفع حاجبيها بانشداه من تفكيره بالأمر وهي تهمس بابتسامة حزينة
"كلا ليس انت السبب ، فقط قررتُ ان ارحل عن المنزل من اجل ألا اسبب لكم المزيد من المشاكل ، يكفي الأذى والذي سببته لكم بحفلة شراكة العمل الخاصة بوالدك والتي انهارت بسبب ذلك الشخص والذي اشبعته ضربا بسببي ، وانا حقا اعتذر عن كل الذي حدث بتلك الحفلة"
قطب جبينه بتفكير للحظات قبل ان يبتسم بتغضن وهو يقول بهدوء واثق
"لا تقلقي يا روميساء ، فأنتِ لستِ السبب بإنهاء هذه الشراكة والتي كانت ستنهار بكل الأحوال ، فقد كان والدي يسعى لأنهائها بالحفلة والتي اقامها من اجل هذا الأمر لكي يستطيع تلقين شريكه درسا وفضحه امام كل العالم"
شقت ابتسامتها بملامحها الشاحبة وهي تهمس بخفوت مبتهج
"حقا ! لقد ارحتني كثيرا بهذا الكلام"
اومأ برأسه بقوة وهو ينظر لها لبرهة ليفلت بعدها ذراعيها بهدوء قبل ان يمسك بكفيها من على حجرها وهو يضمهما معا بين يديه المتصلبتين ، ليقول بعدها بجدية صارمة وهو ينظر لعينيها الحائرتين باستدارتهما
"روميساء اعلم بأن ما سأطلبه منكِ غريب بعض الشيء ولكن سيكون الحل لكل مشاكلنا وسنستطيع التعادل عندها ، وإذا وافقتِ سأضمن لكِ حياة مريحة لكِ ولشقيقتك ومنزل لوحدكما فقط ووظيفة محترمة بمدرسة عريقة ، وستقدرون على تحسين صورتكما امام الناس والتي تشوهت من قبل بدون ان تعيشي بأي ذل او هوان بعد الآن ، فقط اجيبِ على طلبي ، هل تقبلين بالزواج بي يا روميساء الفاروق لأحقق لكِ كل هذه المطالب ؟"
انفرجت شفتيها بصدمة مشدوهة وهي ترمش بعينيها عدة مرات بعدم تصديق لما سمعته اذنيها الآن وإذا كان جاد حقا بكلامه وسيحقق لها كل هذه الأحلام والتي لطالما كانت بعيدة المنال عنها ؟! لتحاول بعدها سحب كفيها من بين يديه وهي تقول بوجل شاحب
"ما هذا الكلام يا احمد ؟ انسيت بأنك متزوج !....."
قاطعها (احمد) وهو يشدد على كفيها بقوة حتى سمعت صوت طرقعة اصابع كفيها ببعضهما وهو يقول بإصرار وحزم
"لا تفكري بكل هذا الآن ، وفكري بطلبي فقط هل تقبلين بالزواج بي من اجل ان تعيشي الحياة والتي كنتِ تحلمين بها من قبل وبين طبقة اجتماعية مرموقة وبسمعة نظيفة ؟"
سكنت عن الحركة تماما وهي تشعر بكل شريط حياتها يمر امام عينيها بلحظة واحدة بداية بمراهقتها البائسة والتي دخلتها بعمل وشقاء وذل لتحصل على بعض القروش ، قبل ان تصل بالنهاية للعمل معلمة بمدرسة وضيعة ليكون الثمن بها غاليا جداً والذي اهدر كل كرامة متبقية لديها ، وهي الآن قد اصبحت مثل الورقة اليابسة بمهب الريح لا تملك اي شيء تأمن به حياتها مع شقيقتها الصغرى والتي كانت دائما تعدها بوعود كثيرة ومنها هو العيش بعيدا عن الجميع بمنزل لوحدهما فقط لتسقط الوعود واحدة تلو الأخرى بدون ان تحقق اي شيء منها حتى شعرت باليأس من تحقيقها .
اخفضت نظراتها الخضراء الشاحبة لقبضتيه المعانقتين لكفيها الصغيرتين ، لتقول بعدها بخفوت متجمد وكل ما تفكر به هو التعلق بأي يد تمد نحوها لتخلصها مما هي فيه الآن ومن الوضع والذي حوصرت به
"انا موافقة بشرط ان تحقق لي كل مطالبي"
______________________________
تنفست بهدوء امام زجاج النافذة والذي اصبح غير واضح الرؤية به بسبب تجمع ضباب انفاسها عليه حتى لم تعد تستطيع رؤية شيء من خلاله ، رفعت بعدها يدها بهدوء مرتجف قبل ان تخط على زجاجه بأصبعها السبابة وهي تتبع حركته بانسيابية لتضغط بالنهاية بمنتصف لوحتها بقوة والتي اعتادت على رسمها بأوقات وحدتها المقيتة لتظهر امامها على شكل وجه عابس بحزن يعبر عن حالتها الحالية وبكل حالاتها ، بينما كانت (صفاء) معتادة على رسم وجه مبتسم بسعادة لطالما تحلت بها وناسبتها ليكونا دائما النقيض عن بعضهما بكل شيء وحتى بأبسط الأمور .
عادت لرفع اصابعها بعنف بمنتصف اللوحة لتصبح لوحة متقاطعة بكل الاتجاهات لتختفي عندها ملامح الوجه العابس خلف الخطوط المتقاطعة .
اخفضت بعدها يدها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها ببرود لتهمس بعدها بلحظات ما ان شعرت بحركة خافتة عند باب الغرفة
"ماذا حدث معكِ ؟ لما عدتِ مبكرا من العمل ؟"
زفرت (روميساء) انفاسها بتشنج قبل ان تتقدم بعيدا عن الباب قائلة بهدوء مريب
"لا تقلقي ، كل شيء بخير للآن"
عقدت حاجبيها بحيرة حادة وهي تتوقع الأسوء منها لتستدير نحوها بلحظة وهي تهمس بوجوم
"ماذا تقصدين بكلامكِ يا روميساء ؟....."
توقفت عن الكلام وهي تعبس بجمود ما ان رأت ملامح شقيقتها الحزينة وحدقتيها الخضراوين المتسعتين باحمرار ومرارة تفهمها جيدا ، لتعود بعدها للنظر للأمام بلا مبالاة وكأنها معتادة على هذه الأخبار الكئيبة بدون ان تؤثر بها ولو قليلاً وهي تقول بجفاء
"حسنا ، يبدو بأنكِ قد طردتِ من العمل والوحيد والذي كان متبقي لنا ، ولكن لا بأس فهذا كان سيحدث يوماً ما"
تصلبت ملامحها بعدم رضا من سلبيتها قبل ان تندفع نحوها بلحظات لتمسك بكتفيها وهي تديرها باتجاهها بقوة قائلة ببأس
"لا تقولي مثل هذا الكلام يا ماسة ، فأنا سأجد حل آخر لكل مشاكلنا ولمصاريف معيشتنا......"
انتفضت (ماسة) بحدة وهي تتراجع للخلف بعيدا عن يديها قائلة بثورة
"توقفي يا روميساء عن تكرار هذه الاسطوانة ، لقد سمعتُ منكِ هذا الكلام اكثر من مرة حتى بدأتُ اشعر بالضجر منه ! وهذه المرة ستستمعين انتِ لحلي انا وهو بأنني سأبدأ بالعمل بأي مجال آخر مهما كان ويوفر لنا المال ، وانتِ يا روميساء ستتوقفين عن التنقل بالمدارس وستبحثين عن عمل آخر لا يخص مجال دراستك"
ارتفع حاجبيها بأسى وهي تهمس ببرود شاحب
"هذا ليس حلا ابدا يا ماسة ، فنحن لن نجد العمل والذي نريده بهذه السهولة والبساطة بدون اي شهادة او خبرة ، وايضا انا لا استطيع العودة للتنقل بالأعمال المختلفة والتي لن تجلب لنا راتبا محترما كالذي يوفره لنا عمل المعلمة"
ابتسمت بسخرية مريرة وهي تهمس بامتعاض
"ولكن هذا ليس جديد عليكِ يا روميساء ، فقد جربتِ جميع انواع الأعمال المختلفة عندما كنتِ تعملين لصالح قيس"
تجهمت ملامحها بلحظة وهي تقول بصرامة حادة ملوحة بذراعها جانبا
"اصمتِ يا ماسة فقد اصبح كل هذا من الماضي ، وانا من المستحيل ان اعود لتمثيل ذلك الدور الرخيص !"
اشاحت بوجهها بعيدا عنها بجمود صخري وهي تنظر لزجاج النافذة وللرسمة المشوهة فيها مخفية اي جمال قد يظهر بملامحها العابسة وكله من صنع يديها ، لطالما كانت حياتهما عبارة عن تأدية ادوار بحياة (قيس) الوضيعة بدون امتلاك الحق بالرفض او التحكم بمجريات حياتهما ، والآن وبعد ان تحررت كل قيودهما منه من المستحيل ان يعودا لتلك الدوامة السوداء مجددا والتي استنزفت منهما كل كرامة وطاقة يملكانها .
قالت (ماسة) فجأة بخفوت غير معبر
"إذاً ألديكِ حل آخر غيره ؟"
تنفست بتعب وهي تلتفت نحو النافذة بهدوء لتقبض عندها على يديها بقوة قبل ان ترفع قبضتها وهي تسندها على زجاج النافذة الباردة برفق ، لتقول بعدها بتصلب خافت
"اريد منكِ ان تسمعيني للنهاية بدون اي انفعال او غضب ، فكل ما افعله من قرارات بحياتنا من اجل مصلحتنا فقط"
حادت بنظراتها الزرقاء نحوها بهدوء وهي تنتظر بترقب تكملة كلامها ، بينما ابتلعت (روميساء) ريقها بهدوء ومشاعر من السكون تحوم من حولهما وكأنها تسمح لهما بتأمل حياتهما عن قرب بعد سنوات طويلة من العيش على نفس الترنيمة المملة ، قالت بعدها بقوة قاطعة الأجواء بدون اي مواربة
"لقد عرض عليّ احمد الزواج وانا وافقت عليه"
سادت لحظات صمت ثقيلة دامت لدقائق بدون نهاية ، وما ان كانت ستتابع كلامها حتى سبقتها الأخرى وكأنها قد افاقت من صدمتها للتو وهي تهمس بانشداه منفعل
"احمد نفسه ابن محراب والمتزوج من تلك الشمطاء !"
استدارت (روميساء) نحوها بعنف وهي تقول بتحذير صارم
"إياكِ وان تقولي هذا الكلام امامي مرة أخرى يا ماسة ، وانا لم انهي كلامي بعد من اجل ان تبدأي بسخريتكِ المعتادة !"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بعصبية بالغة وهي تنظر لها بحدقتيها الزرقاوين الواسعتين هامسة بحنق
"اكملي ، ماذا لديكِ ايضا ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وقد كانت تتوقع هذا الاحتدام والاستنكار منها ، لتتابع بعدها كلامها قائلة بجدية هادئة
"لقد وعدني بأنه سينفذ لنا كل طلباتنا ، واقصد بأننا سنحصل على حياة مريحة ومرفهة وغير هذا عمل بمدرسة محترمة ومنزل لنا لوحدنا فقط ، يعني كل ما كنا نتمناه بطفولتنا سيتحقق اخيرا...."
قاطعتها (ماسة) ببرود قاتل
"وما هو الثمن ؟ فكل شيء له ثمن يا روميساء ، أنسيتِ هذه القاعدة والتي تعايشنا عليها منذ سنوات !"
تجمدت ملامحها بعبوس وهي تبعد نظرها عنها قائلة بهدوء جامد
"ليس هناك ثمن هذه المرة يا ماسة ، وهذا ليس مهمٌ الآن فأهم شيء عندنا هو ان نضمن حياتنا تحت سقف منزل واحد يحمينا من العالم"
تقدمت نحوها فجأة وهي تمسك بذراعيها بقوة قائلة باستنكار حاد
"هراء ! تعلمين جيدا بأن هناك ثمن يا روميساء من اجل هذا الطلب ، وانا وانتِ نعلم جيدا ما يكون ، من اجل ان تحصلي على حياة مرفهة لنا ستقبلين بأن تكوني زوجة ثانية لأحمد وتكوني مجرد جارية وخادمة عنده لن تصل لمستوى زوجته الأولى ذات السمعة العريقة مثل ما كنا بحياة قيس تماما ! هل تريدين ان تصلي لهذا المستوى المنحط ؟"
عقدت حاجبيها بألم منقبض ما ان تذكرت ما حدث معها بمكتب المدير العابث والثمن والذي كانت على وشك ان تدفعه من عملها عنده ، لتندفع بعدها بغضب مفاجئ وهي تنفض ذراعيها بعيدا عنها قائلة بانفعال حانق
"كفى يا ماسة ، ألن تتوقفي عن هذا الكلام المحبط وانتِ تتوقعين دائما الاسوء بحياتنا ؟ لقد عرضتُ عليكِ افضل عرض من الممكن ان نحصل عليه ليوصلنا للحياة المرفهة ، وبدل ان تدعميني تقولين مثل هذا الكلام القذر عن ابن خالك احمد ! ولكن لما الصدمة فأنتِ لن تتغيري ابدا وستبقين دائما الفتاة ذات النظرة الكئيبة والتي لا تتمنى الخير لأحد ؟ وتقف دائما امام سعادة الآخرين !"
ارتفع حاجبيها بصدمة عند آخر كلماتها والتي تسمعها لأول مرة من شقيقتها الكبرى وكأنها بدأت بالهذيان ، لتقول بعدها وهي تشير لنفسها بيدها باقتضاب
"انا دائما اقف امام سعادة الآخرين !"
ردت عليها من فورها بحزن ومرارة وهي تنفض ذراعيها للأسفل بإحباط وقد فقدت السيطرة على نفسها تماما من الضغط والذي تتعرض له منذ الصباح
"اجل انتِ كذلك ، لو انكِ تفكرين حقا بسعادتي لما وقفتي امامي هكذا وبدأتي بالسخرية من قراري بالزواج من احمد ! وانا كل ما يهمني بهذه الحياة هو ان اؤمن السعادة لكلينا ولكِ ، ولكن هل فكرتِ يوما بسعادتي انا وبماذا ارغب بهذه الحياة ؟ كنتُ ولازلت احاول حمايتكِ وافعل ما يريحكِ فقط ويسعدكِ بدون ان افكر بنفسي ! عندما قررتِ مغادرة منزل محراب وافقتك وعندما طلبتِ مني اعادة الثوب والمجوهرات فعلتُ ما قلته ، والآن وبعد كل شيء تريدين إفساد سعادتنا الوحيدة بالوصول لكل ما نتمناه يوماً ! إلى متى ستستمرين بعرقلة سعادتنا ؟"
كانت تتنفس باضطراب واضح بين كلماتها بعد ان عبرت عن كل ما تكنه نحوها وتكبته بداخلها منذ سنوات ، بينما تجمدت (ماسة) بمكانها بلا تعبير وبعض الألم بدأ ينضح بأمواج عينيها الزرقاوين البحريتين من كل هذه الاتهامات والتي لم تكن تعلم عنها ، وكأنه لا يكفيها كلام الناس من حولها والذي تسمعه بكل مكان ليزيد عليه كلام شقيقتها الكبرى ورأيها بها لتكتشف بأنها لم تكن سوى مجرد حِمل عليها اتعب كاهلها منه وضاقت ذرعاً منه ! فهي كيف ستستطيع فهمها وتشعر بها وهي دائماً غير موجودة بعالمها والذي ازهق روحها وارتشف الذرة الأخيرة من حياتها لتبدو الحياة امامها مجرد سباق عليها اللحاق به والفوز بالنهاية ؟
اعادت (ماسة) وجهها باتجاه النافذة ببرود اكتسى ملامحها وهي تهمس بابتسامة شاردة بجمود
"هنيئاً لكِ بهذا الزواج يا شقيقتي الكبرى ! فأنا من الآن وصاعدا لن اتدخل بأي شيء يتعلق بسعادتك ولن اكون حِملا عليكِ بعد الآن ، فأنتِ تستحقين الأفضل بحياتكِ ، لذا اعتبري من كانت تعرقل عليكِ سعادتك لم يعد لها وجود"
رفعت قبضتها بارتجاف لجبينها وهي تمسد عليه بإنهاك استبد بها ، لتحاول بعدها الكلام للمرة الأخيرة بهمس ضعيف
"ماسة اسمعي...."
قاطعتها (ماسة) بانقباض وهي تستدير بعيدا عنها بلا مبالاة
"حسنا فهمت ، لن اقف بطريقكِ بعد الآن ويمكنكِ فعل ما تشائين ، ولا تفكري بي فأنا سأكون بخير وحدي ، فكري بنفسكِ فقط وتابعي حياتكِ بعيدا عني فأنا لن اعيش بعد الآن على صدقات احد !"
اخفضت قبضتها لصدرها ببطء انهك قواها الجسدية والذهنية قبل ان تستدير بهدوء بعيدا عنها وكل واحدة منهما معطية ظهرها للأخرى ، سارت بعدها بالطريق والتي جاءت منها لتخرج من الغرفة بنفس الهدوء والذي دخلت به ، لتخلف من بعدها صمت قاتم ووحدة تكاد تقتلها حية وصدى صوت قديم عاد ليتردد بأذنيها بمكان مظلم بدون ان ينفذ النور إليه
(لا تتركوني وحدي ، ارجوكم لن اخطئ بالتصرف معكم مرة أخرى ولكن لا تتركوني !)
_____________________________
كانت تجلس بمنتصف السرير بنفس جلستها المتكورة وهي تحتضن ساقيها بذراعيها لتحمي نفسها من وحدة الظلام والتي تحيط بها بكل مكان بدون اي مهرب ، وجسدها يهتز بصمت للأمام وللخلف بحركة رتيبة ، لتجتاحها بعدها الذكريات البعيدة والتي تتضمن مشاعر دافئة وحنين كانت قد دفنته بداخل روحها الموحشة ليبقى ملقى بزاوية بعيدة مهملة بدون ان تحاول اعادته للسطح او البحث عنه لكي لا تشعر بأي مشاعر لم يعد لها وجود بحياتها او ضعف سيكبل حركتها .
عادت بالزمن بالوقت والذي كانت به مجرد طفلة بعمر السابعة تحلم بأماني كبيرة واحلام طفولية تتمنى لو تتحقق يوماً وعلى يدي جنيتها الخاصة وكل شيء جميل بحياتها ، بوقتها كانت تنظر من نافذة غرفتها مع (روميساء) والتي كانت شاردة معها بمنظر قطرات المطر المتساقطة على الزجاج كما اعتادتا ان تفعلا بكل ليالي الشتاء الغائمة ، ليقطع الصمت صوت (ماسة) وهي تقول بتردد طفولي
"روميساء ، هل تحققين لي اي امنية اطلبها منكِ ؟"
التفتت نحوها الجالسة بجانبها بعينيها الخضراوين الحنونتين وهي تبتسم قائلة بثقة طفولية
"اطلبي ما تشائين وانا سأحققه لكِ ، اعتبريني مثل جنية الامنيات والتي تحقق الاماني لكل الاطفال"
اتسعت ابتسامتها بفرحة طفولية وهي تضم كفيها الصغيرين معا قائلة بلهفة بالغة لمع بحدقتيها الزرقاوين بتوهج
"هذا رائع ، لأني اريد ان اطلب منها الكثير من الأشياء"
رفعت (ماسة) كفها الصغيرة وهي تعدد بأصابعها الصغيرة قائلة بحماس
"اولاً اريد ان يكون لي بيت كبير جدا مثل القصر ونعيش به انا وانتِ فقط ، وثانياً اريد ان يكون به مسبح وحديقة لألهو بها كما اشاء مثل حديقة السيد منصور ، وثالثاً اريد ان امتلك دمى كثيرة وحلوى مثل التي تحصل عليها صفاء ، ورابعاً اريد ان يكون لدي فساتين جميلة وملونة مثل التي اراها على التلفاز ، وايضا ، وايضا....."
قاطعتها الجالسة بجانبها وهي تضحك بمرح طفولي
"كفى يا ماسة ، ما هذه الامنيات الكثيرة ؟ لن تستطيع جنية الامنيات تحقيق كل هذا فهي تحقق فقط ثلاث امنيات لكل طفل !"
كتفت (ماسة) ذراعيها فوق صدرها بعدم رضا وهي تهمس بحنق طفولي
"هذا ليس عدلا ابدا ، انا اريد الكثير والكثير لتحقيقه ، وايضا انا اعلم بأنكِ لستِ مثل جنية الامنيات وستحققين لي كل امنياتي مهما كان عددها وحجمها ! أليس كذلك ؟"
ابتسمت بالمقابل بهدوء وهي تستمع لنبرة التحدي والشقاوة والتي بدأت تظهر بصوتها الطفولي ، لتحرك بعدها رأسها بالإيجاب وهي تقول بابتسامة هادئة تحمل الحزن والحنان معا
"اجل مؤكد سأحقق لكِ كل امنياتكِ ، فأهم شيء عندنا هي سعادة صغيرتنا المشاغبة لكي لا تسبب لنا بمزيد من المشاكل"
رفعت اصبعها الصغير بسرعة وهي تقول بلهفة طفولية
"عديني اولاً بأنكِ ستحققين لي كل ما احلم وارغب به"
نظرت بحدقتيها الكبيرتين لأصبعها الصغير للحظات قبل ان ترفع يدها وهي تعانق اصبعها الصغير بأصبعها الطويل بقوة كعلامة لتوثيق الوعد بينهما لن تمحى بمرور السنين وهي تهمس بنفس طفوليتها
"اعدك"
بدأت (ماسة) بالضحك بسعادة بالغة وهي تندفع نحو شقيقتها لتطوق خصرها بذراعيها بقوة وهي تدفن وجهها الصغير بصدرها بهدوء ، لتقول بعدها بكل ما تملكه من محبة اتجاه الكائن والذي لازمها بكل حياتها منذ ولادتها
"احبكِ كثيرا يا روميساء ، اكثر شيء احببته بحياتي ! وحتى اكثر من صفاء ولكن لا تخبريها !"
ردت عليها (روميساء) بعطف وهي تربت على رأسها بهدوء يناسب هدوء ملامحها الطفولية
"وانا ايضا ، احبكِ اكثر"
شددت من معانقة ساقيها بقوة ما ان خرجت من دوامة ذكرياتها اليتيمة والمحبوسة بجزء من قضبان روحها والتي اغلقت عليها قيودها منذ سنوات ، لتعود الذكريات البعيدة لجرفها بعيدا لنفس المشاعر الدافئة والمكان وهذه المرة بوضع مختلف عندما كانت تلعب بجنينة المنزل الصغيرة والتي كانت رغم صغر مساحتها ولكنها مع ذلك تفي بالغرض للعب بها وقضاء الوقت الممتع بها خارج المنزل ، بوقتها كانت تلعب الغميضة كعادتها مع صديقتها المقربة (صفاء) وقد اخذت دور المختبئ والأخرى تبحث عنها ، لتختبئ عندها وراء شجرة صغيرة متساقطة الأوراق بسبب عدم الاعتناء بها وهي تتكور خلفها لكي لا يظهر شيء منها ، بينما كانت (صفاء) تبحث عنها وهي تصرخ بتذمر طفولي
"اين انتِ يا ماسة ؟ لقد مللت حقا من البحث عنكِ ، هيا اظهري !"
كانت (ماسة) تكتم ضحكتها الطفولية بصعوبة بكفها الصغيرة ، لتشهق بعدها بجزع ما ان رأت الواقفة فوقها وهي تقول بغضب مشتعل توهج بحدقتيها الخضراوين الصارمتين
"انا ابحثُ عنكِ بكل مكان ، وانتِ تلعبين هنا !"
تدخلت (صفاء) وهي تقف بجانبها الآخر قائلة بفرح طفولي شع بحدقتيها العسليتين بانتصار
"لقد وجدتكِ يا ماسة ، وهذا يعني بأني قد فزت عليكِ"
انتفضت (ماسة) واقفة امامها وهي تقول باستياء حانق
"غير صحيح لقد غششتي ، لأن روميساء قد وجدتني قبلك !"
ردت عليها بلا مبالاة وهي تجري بعيدا عنها بسعادة وثوبها يتطاير من حول ساقيها بحرية
"غير مهم ، فقد فزتُ عليكِ بالنهاية"
عبست ملامحها بغضب وهي تضرب على الأرض بقدميها الصغيرتين بسخط ، لتجري بعدها خلفها بعيدا وعلى صوت (روميساء) الحاد وهي تصرخ من خلفها
"ماسة ، توقفي عن اللعب ، واذهبي لإنجاز وظائفكِ المدرسية لأني لن اساعدكِ بها بعد الآن يا مهملة !"
رفعت رأسها عاليا وهي تخرج نفسها غصبا من دوامة ذكرياتها ما ان شعرت بضعف من عاطفتها يأخذها بعيدا عن عالمها شيئاً فشيئاً حتى زادت الصدوع والتشققات بقضبان روحها المغلقة ، لتفتح بعدها عينيها البحريتين على اتساعهما بألم وهي تحاول اخذ عدة انفاس لاهثة وكأنها كانت الآن بسباق طويل دام لسنوات حتى وصلت لخط النهاية والملون بالأبيض وهو نهاية كل شيء وكل الحكايات بالعالم حيث لا يبقى شيء مهم يستحق وجودنا من اجله وعيشنا عليه المتبقي من عمرنا .
____________________________
كانت جالسة فوق مقاعد الانتظار بالطرقات وهي تتنفس بنشيج متعب وقبضتيها مستندتين على ركبتيها ورأسها مرتخي للأسفل ليسقط شعرها شديد السواد على جانبي وجهها بتخاذل وهو يغطي ملامحها عن العالم ، بينما كانت تشعر بداخلها بشيء يموت رويدا رويدا بدون ان تمنع هذا الشعور من الزحف لباقي اطراف جسدها بانتفاض ليحل مكانه سكون فارغ موحش ، فهي ولأول مرة بحياتها تتعامل بهذه الطريقة القاسية مع شقيقتها الصغرى والطفلة والتي تحملت مسؤوليتها بالمهد منذ كانت هي بعمر الخامسة ! فقد كانت والدتها من نوع الامهات الغير مبالي والذي لا يحب الالتزام بالمسؤوليات ولا يفهم كيفية الاعتناء بالأطفال وتلبية طلباتهم الكثيرة فما ان انتهت فترة امومتها حتى عادت لعملها ولحياتها المستقلة بعيدا عنهما ، وبدون ان يقف بطريقها احد ولا حتى والدها والذي لم يكن بقوة شخصيتها وعنفوانها ، ذلك الرجل عديم الشخصية كما كانت تطلق عليه والدتها وهي تعاير ضعف جبروته امامها ولم تكن تعلم بأنه كان افضل زوج قد يمر عليها بحياتها القصيرة وهي تكتشف قيمته بعد رحيله .
لطالما كانت تغضب عليها وتعاتبها إذا اخطئت بالتصرف معها او مع اي احد بطريقة امومية منطقية ، ولكنها لم تصل بحياتها لدرجة بأن تهينها وتجرحها بالكلام بسببي سخريتها والمعتادة عليها وهي تبغض تحملها لمسؤوليتها ! فمهما كان وحدث فهي ستبقى دائما مسؤوليتها وحمايتها من العالم فهو واجبها ، ولكن الذي حدث قبل قليل عكس ذلك تماما وهي تشعر بدنو علاقتهما للأسوء وقد بدأت تفقد السيطرة على زمام الأمور فيبدو بأنها لم تعد أهل لهذا الحِمل بعد كل هذه السنوات .
انتفضت بجلوسها بتوجس وهي ترفع رأسها بسرعة نحو صوت بوق السيارة وعينيها الخضراوين متسعتين باستدارتهما ، لتتنهد بعدها براحة ما ان عرفت هوية السيارة ومن صاحبها وقد كانت تشعر بنظراته الرمادية الهادئة تنظر لها بتركيز حاد من زجاج النافذة المعتمة الأمامية .
نهضت بسرعة عن المقاعد وهي تعيد خصلات شعرها الطويلة لخلف اذنيها بهدوء ، بينما كان هو يتتبعها بتمهل بدون ان تنتبه لذلك قبل ان تسير نحوه وابتسامة حزينة تحتل ملامحها الشاحبة بهدوء دائما ما تحوم حول ملامحها بدون ان تخفي الصرامة والتي تحتل حدقتيها بين الحين والآخر وكأنها تجيد التحكم بكل انفعالات وجهها بطريقة مدروسة ملفتة للانتباه والإعجاب !
ما ان وصلت عند باب السيارة عند المقعد بجانبه حتى انحنى بجسده ليمد ذراعه وهو يفتح الباب بيده قائلا بابتسامة متزنة
"هيا ادخلي فورا ، ولا اريد ان اسمع اي اعتراض منكِ"
ابتسمت (روميساء) بارتجاف متوجس وهي تنظر لجسده الطويل والذي كان يرجعه للخلف باتزان هادئ وهو يبتسم لها بجمال سحرها للحظات ، لتدخل بعدها للسيارة وهي تجلس بجانبه مغلقة الباب من خلفها برفق ، وما ان تحرك بالسيارة بعيدا حتى قالت بتفكير عابس
"لقد ظننتُ بأنك قد غادرت من الحيّ بأكمله ما ان اوصلتني لمدخله ، لم اكن اعلم بأنك ما تزال بالجوار !"
حرك (احمد) رأسه بالإيجاب وهو يقول بابتسام جاد
"كلا لم ارحل فقد كنتُ انتظركِ عند مدخل الحيّ لنكمل كلامنا ، وايضا لقد مللت من مراقبتكِ وانتِ تتنقلين من مكان لآخر جاذبة الأنظار من حولكِ من طريقة سيركِ المتخاذلة"
ارتفع حاجبيها بانشداه وهي تلتفت نحوه بوجهها هامسة بوجوم
"هل قضيت طول اليوم وانت تلاحقني ؟"
ردّ عليها وهو يحيد بنظراته نحوها بسخرية
"عذرا يا اميرة ! ولكن أليس مسموح لي بملاحقتكِ وكأنه ليس لدي شيء آخر افعله غيره ؟"
انحنت عينيها للأسفل بإحراج وهي تهمس بحزن
"اعتذر حقا ، يبدو بأنني قد سببت لك بإزعاج كبير بدون ان اقصد"
زفر انفاسه بروية وهو يقول بقوة متجاهلا نظراتها الحزينة والتي يشوبها الإنهاك والواضح بخطوط ملامحها الدقيقة
"انسي هذا الآن ، واخبريني ماذا حدث مع شقيقتك ماسة ؟ ألم تتقبل فكرة زواج شقيقتها الكبرى من ابن خالها !"
زمت شفتيها بقوة وهي تعود بنظرها للأمام وغصة مؤلمة بدأت تنخز قلبها بقوة بعد ان ظنت بأنها قد انتهت منها ولم تعد تشعر بها وبعد ان خرجت من غرفة شقيقتها ومن المنزل بأكمله بقلب محمل بالهموم والحزن ، وهي لا تعلم للآن ماذا عليها ان تفعل وكيف تستعيد ثقة شقيقتها الصغرى والتي لطالما كانت تأخذ كل حيز من حياتها وكل تفكيرها لهذه اللحظة ؟
قالت بعدها بسرعة وهي تنظر له برقة متجاهلة كلامه الأخير
"لم تخبرني للآن يا احمد ، ما لذي تريد منّا ان نتكلم عنه ؟ فقد تكلمنا عن كل شيء بالفعل !"
نظر الجالس بجانبها لنظراتها الهادئة والتي تحمل الرقة مع التوجس من شيء لا يعلم ما هو ! ولكنه لم يهتم لهذا فقد كان يعطي كل انتباهه لاسمه والذي اصبح يخرج منها مجردا وقد اسعده هذا كثيرا بعد ان اصبحت مقربة منه اكثر من مجرد ابنة عمته فقط !
قال بعدها بجدية وهو يوقف السيارة بجانب الطريق بهدوء
"اسمعي ما سأقوله فهو مهم جدا ، لقد قررتُ بأن اليوم هو الوقت المناسب لنعقد قراننا معا بالمحكمة من اجل ان لا يمانع احد بعدها على علاقتنا او تحدث عقبة بعدها تفسد كل شيء ، فانا لدي رحلة عمل من اجل صفقة مهمة بمنطقة بعيدة وستأخذ مني كل وقتي ولن استطيع عندها التفرغ لكِ ، واريد ايضا ان يكتمل كل شيء على اكمل وجه قبل ان اغيب عنكِ ، من اجلي ألا يحاول احد التقليل من قيمتكِ او ايذائكِ بغيابي وانتِ لستِ زوجتي ! واما باقي الأمور المتعلقة بطلباتكِ فستتحقق ما ان اعود من رحلتي ، فهل انتِ موافقة ؟"
تنفست بهدوء وهي تبتلع ريقها برهبة من طلبه المفاجئ والذي لم تكن تتوقعه ابدا وبهذا الوقت بالذات ! وهي حتى الآن لم تثبت على قرار محدد بالرغم من انها وافقت من قبل على عرضه للزواج ، ضمت كفيها معا بحجرها ما ان مر بذهنها كلام شقيقتها عن الثمن والذي ستدفعه من هذا الزواج وهي تعلم جيدا ما معنى دفع الثمن والذي تعايشت معه منذ زمن .
قالت بعدها بلحظات بخفوت مرتبك بتشوش
"بخصوص العلاقة الزوجية بعد الزواج ، انا اقصد...."
قاطعها (احمد) بجدية وهو ينظر لها قائلا بابتسامة حانية
"لا بأس ، افهمكِ جيدا ، ولكن عليكِ ان تعلمي بأنه لن يحدث اي شيء بيننا بدون موافقتكِ يا روميساء فهذا بالنهاية قراركِ انتِ ، وهذا ليس الهدف الاساسي من زواجي منكِ"
رفعت نظراتها نحوه بشحوب وهي تشعر بالانقباض والذي كانت تشعر به بصدرها قد اختفى من مفعول كلماته الهادئة وابتسامته الحانية ، وكم ذكرتها بابتسامة والدها والتي لم تكن تراها كثيرا سوى من حين لآخر وهو يقابلها بها قبل ان تقضي عليها والدتها كالعادة ، ولكن ما تزال تشعر بالقلق ينهش احشائها بدون رحمة وبدون ان تتأكد للآن من صحة ما تفعله ! ومع ذلك فهي لم يعد امامها خيار غيره إذا كانت تريد ان تصل هي وشقيقتها لبر الأمان والذي يكون هو وسيلته بدون ان تكونا ضيوف عند عائلة خالهما او عند اي احد كان .
اومأت برأسها باهتزاز وهي تهمس بابتسامة شاحبة برقة
"افعل ما تراه مناسبا ، فأنا اثق بك يا احمد"
اتسعت ابتسامته بقوة وهو يرفع يده ليربت بها على رأسها ولكن ما لم تتوقعه هو ان يميل بوجهه امام رأسها ليقبل مقدمة جبينها بعمق بعث حرارة بأوصالها ، ليتراجع بعدها بهدوء وهو يخفض كفه ليمسك عندها بجانب وجهها قائلا بجدية
"هيا إذاً لنخرج ونفعلها ، واهم شيء هو وجود بطاقة هويتك معكِ ، وتأكدي بأنكِ من الآن قد اصبحتِ انتِ وشقيقتك تحت حمايتي ومسؤوليتي وبدون ان يمسكما اي احد بمكروه يا بنات عمتي"
ابتسمت بسعادة هادئة وهي تتمنى حقا ان يحقق كلامه والذي تاقت إليه بحياتها كثيرا ، ولم تنتبه بأنهما قد وصلا بالفعل لمبنى المحكمة والذي سيتم به عقد قرانهما رسميا وبدون تدخل اي احد .
_______________________________
دخلت للغرفة السابحة بالظلام لا يظهر منها اي شيء بالرغم من ان الشمس لم تغب بعد وهي ما تزال بوقت الظهيرة ، لتتجه من فورها للنافذة الوحيدة بالغرفة قبل ان تفتح ستائرها بقوة والتي كانت تخفي الشمس عنها ليتسلل عندها بعض من ضوء الشمس للداخل وتحديدا للجالسة بالسرير بسكون وهو يغطي جانب جسدها ، تركت الستائر لتجلس على طرف السرير وبجانب المتكورة بصمت ، لتقول بعدها برقة وهي ترفع يدها لتربت على كتفها بخفة
"ماسة ، هيا افيقي وتكلمي معي !"
ولكن لا حياة لمن تنادي لتزيد من ضرب كتفها وهي تقول باستياء
"ماسة انا لا امزح معكِ ، هيا افيقي من اجلي يا متجمدة القلب !"
مرت لحظات صمت قبل ان يخرج صوتها خافتا بحدة
"صفاء ، ارحلي من هنا"
زمت شفتيها بحنق وهي تخفض كفها قائلة بخفوت معاتب
"الحق عليّ اتيتُ للاطمئنان عليكِ ما ان اخبرتني روميساء بأن ابقى بجواركِ بهذه الفترة من اجل ان اعتني بكِ بغيابها !"
سكنت انفاس الجالسة بجانبها للحظات قبل ان تقول ببرود طغى عليه الألم
"هل حقا روميساء مَن طلبت منكِ هذا ؟"
حركت (صفاء) رأسها بتأكيد وكأنها تراها وهي تهمس بهدوء مبتهج
"اجل هي من طلبت مني هذا ، واكدت عليّ ألا اترككِ وحدكِ ابدا مهما حدث"
ارتجفت ساقيها بألم احتل بكل اطرافها من البرد القارص والذي يحوم بزوايا الغرفة الموحشة وقد بدأت تشعر بوجوده الآن ، لتسمع بعدها صوت (صفاء) وهي تكمل كلامها باستغراب
"ولكن لم تخبروني للآن عن سبب عودتكما لبيت عمي قيس ! هل حدثت مشاكل بمنزل خالك ؟ وايضا لما كانت روميساء قلقة عليكِ لهذه الدرجة ولم تأتي للاطمئنان عليكِ بنفسها ؟"
رفعت رأسها بهدوء بعيدا عن ساقيها وهي تقول بخفوت حذر بريبة
"صفاء ، هل انا ذات نظرة كئيبة ؟"
ارتفع حاجبيها البنيين بعدم استيعاب وهي تهمس بوجوم
"لما تقولين مثل هذا الكلام الغريب يا ماسة ؟....."
قاطعتها وهي تلتفت نحوها بوجهها بقوة قائلة بتشديد
"هل انا ذات نظرة كئيبة ؟"
عقدت حاجبيها بتفكير للحظات قبل ان تهمس ببراءة
"حسنا بعض الشيء ، ليس بكل الأمور"
ارتفع حاجب واحد بشك بعدم تصديق لتقول الجالسة بجوارها بسرعة وهي تحاول التعديل على كلامها
"هيا لا تغضبي هكذا ، فأنتِ تعلمين بأنني اقول الحقيقة ولا اكذب ابدا"
اعادت رأسها للأمام وهي تقول بشبه ابتسامة ذابلة بجحود
"وهل انا لا اتمنى الخير لأحد ؟"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تحاول الكلام بهدوء للتعبير عن حالتها ليخرج عندها صوتها بهمس واهي حزين
"غير صحيح ، انتِ لستِ كذلك ، ربما قاسية وجامدة ببعض المواقف وتكرهين كل من حولك ! ولكنها لم تصل لدرجة ان لا تتمني الخير لأحد لم يلمسك بسوء"
تنهدت بهدوء بدون كلام ونظراتها شاخصة بالبعيد بصمت مريب دام للحظات ، لتقول بعدها بحذر التي كانت تتلمس على ذراعها برفق
"اخبريني بما يضايقك يا ماسة ؟ فأنتِ لا تتصرفين على طبيعتك المعتادة !"
اخفضت كفها بعيدا عنها ما ان قابلها الصمت من الجالسة بجانبها ، لتقول بعدها وهي تخرج من صمتها قائلة بجمود قاتم
"روميساء تريد الزواج من ابن خالها والذي يكون متزوج بالفعل من اخرى ، من اجل ان تأمن لنا حياة سعيدة"
تجمدت ملامحها بصدمة لما تسمعه من كلام هادئ غير معبر بالنسبة للجالسة بجانبها وكأنها تقص عليها نكتة ممتعة او حكاية عابرة ، لتقول بعدها بابتسامة حاولت جعلها مبتهجة بتفاؤل
"حقا هذا خبر رائع ! واكيد كل هذا سيكون عائد لمصلحتكِ انتِ وشقيقتك ، فأنا اعلم جيدا بأن روميساء ستفعل اي شيء من اجل سعادتكِ وراحتكِ اولاً"
عقدت حاجبيها بحدة وهي تلتفت نحوها قائلة بانفعال مستنكر
"هل سمعتِ ما قلته الآن ؟ انه يكون ابن خالنا والذي لم يعترف بوجودنا هو وعائلته ونبذونا منذ سنوات ! وغير هذا متزوج من امرأة من عائلة مرموقة ، أتعلمين ما لذي ستواجهه فتاة بمثل سمعتها امام تلك الساحرة والتي تتمنى لنا السوء ؟!"
عبست ملامحها بتوجس من تفكيرها الخطير والذي لم يخطر على بالها وهو لا ينبأ سوى بالشر ، لتقول بعدها برقة خافتة وهي تدير عينيها العسليتين بحزن بعيدا عنها
"قد يكون كلامكِ صحيحاً ! ولكني متأكدة بأن روميساء دائما تفكر بقرارتها قبل ان تتخذها ، لذا عليكِ الوثوق بها والاطمئنان من هذه الناحية"
اعادت وجهها للأمام وهي تسند ذقنها فوق ركبتها قائلة بتصلب خافت يطغى عليها الغموض
"لن تفهمي ما اقوله يا صفاء ! ماذا يعني القبول والموافقة ورهن حياتكِ لشخص ليتحكم هو بكل مجريات حياتكِ ؟ وانتِ فقط عليكِ دفع الثمن"
اعادت عينيها العسليتين بحزن لصديقتها قبل ان تحرك رأسها بقوة وهي تنهض عن السرير وتهتف بسعادة كبيرة عادت لتحتل ملامحها الناعمة بثواني
"هذا ليس وقت الكلام الآن ، فنحن علينا الذهاب بسرعة لمنزلي لأننا اليوم سنقضي طول الليل بمنزلي وبغرفتي انا ، وستكونين عندها برفقتي لأستطيع الاطمئنان عليكِ اكثر"
رفعت (ماسة) وجهها نحوها بجمود وهي تتأكد مما سمعته للتو ، لتقول بعدها بجفاء وهي تدير عينيها بعيدا عنها ببرود
"مستحيل يا صفاء ! لن آتي معكِ"
ردت عليها بلا مبالاة وهي تتجه للنافذة بالغرفة بهدوء لتغلق ستائرها
"انا لم اكن اخيركِ بل هذا امر مني ! وايضا تستطيعين رؤية والدي والاطمئنان على صحته بما انكِ تسألين عنه كثيرا بالآونة الأخيرة ، فهو سيسعد كثيرا بوجودكِ بالمنزل"
قالت (ماسة) فجأة بخفوت جاد
"لقد كان مجرد سؤال روتيني ، وايضا انا لا استطيع التواجد بمكان موجود به مازن"
عادت للتقدم نحوها وهي تقول بثقة بالغة
"لا تقلقي ، فقد تأكدتُ بأن مازن لن يأتي للمنزل اليوم بسبب زيارته لصديقه بمنطقة بعيدة سيبيت عنده هناك ، وهذا ما اخبرني به والدي عندما اتصل به"
عقدت حاجبيها بتفكير شارد ما ان تذكرت رؤيتها له بشقة (قيس) بالصباح الباكر منذ مجيئهما ، ولكن ما يحيرها هو رحيله عند صديقه مباشرة بعد ان خرج من الشقة ؟ فهل يفعل هذا ليفسح لها مجال اكبر لتستطيع التفكير بكلامه بروية بعيدا عنه ؟
افاقت بعدها من شرودها ما ان شعرت باليد والتي كانت تمسك بذراعها قائلة بعناد رقيق
"هيا يا ماسة ، علينا ان نسرع لنصل لمنزلي مبكرا ، لأن هناك مسافة طويلة ستأخذ منا بين المنزلين"
اخفضت نظرها بجمود ليدها الممسكة بذراعها بعناد تعلم جيدا نتائجه وإلى اين سيحول بالنهاية ! لتقول بعدها بشحوب بارد وهي تنظر بعيدا عنها بتجمد
"إذاً لن تتركيني وشأني قبل ان تفعلي ما برأسكِ !"
اومأت (صفاء) برأسها برقة وهي تبتسم بنعومة بشفتيها الورديتين هامسة بثقة
"اكيد ، فأنتِ تعلمين جيدا إلى اي مدى يصل به عنادي !"
_______________________________
كانت تحرك الطعام بطبقها بهدوء بالملعقة قبل ان ترفعه لمستوى وجهها لتدسه بداخل شفتيها وهي تمضغه مرغمة من دافع اللباقة لا اكثر امام صديقتها ووالدها واللذان استقبلاها بمنزلهما بلطف ومودة يختلف تماما عن استقبال عائلة خالها لها ، والذي لم تشعر به بكل هذه المودة والدفء والذي يحوم بمنزل (جلال) فالسر ليس بقرابة الدم بل بالعاطفة والمشاعر الحقيقية بدون اي تزييف او تحريف والتي يحملونها للآخرين ، فهي لن تنسى زياراتها المتكررة لمنزل صديقتها بطفولتهما حتى اصبح منزلها الثاني والذي تلتجئ إليه بوحدتها لتقضي به الوقت الممتع مع صديقة عمرها بعيدا عن تجرد المشاعر والذي تواجهه بمنزلها .
شعرت بيد تربت على كتفها بهدوء وصاحبتها تقول بسعادة غامرة
"هل اعجبكِ الطعام وطريقة ترتيبه ؟ انا من اعددته بنفسي"
اخفضت نظرها لطبقها المقسم بشكل رباعي وكل قسم موضوع به نوع من الطعام والمقبلات بترتيب احترافي ، فقد وضعت بقسم الارز الابيض وبالقسم بجانبه خضروات مقطعة مع المخللات وبقسم آخر وضعت به قطعة لحمة كبيرة وبالقسم الأخير كان يحتوي على قطع من الخبز الأبيض ، وقد كان هذا التقسيم متواجد بكل اطباق المائدة بإتقان ، كما لم تنسى ابريق الشاي المزخرف مع الاكواب المحفورة بالزخف ومزهرية زجاجية تحتل مركز المائدة بالمنتصف مع بعض الزهور البيضاء بداخلها ، وهذا ليس غريب على الفتاة والتي لطالما احبت لعب دور مدبرة المنزل الجميلة والتي تحاول فعل كل شيء بإتقان وترتيب يناسب شخصيتها تماما المحبة لهذا العمل لتحول هذا المنزل لعالمها الخاص والذي تلهو به كما تشاء ليطغى عليه اسلوبها الخاص فقط .
اعادت نظراتها لصديقتها وهي تقول بابتسامة هادئة بنبرتها الباردة
"جيد ، لقد اعجبني كثيرا ، وهذا ليس جديد عليكِ"
مالت ابتسامتها برقة ما ان فهمت فحوى كلامها والذي لا يفهمه غيرها ، ليخرج بعدها صوت آخر بصرامة هادئة يطغى عليها حنان غلفه المرض
"لقد نورتِ المنزل يا ابنتي ، كان عليكِ فعلها منذ زمن فقد اشتقنا كثيرا لزياراتكِ ، وخاصة صفاء والتي لا تتوقف عن الكلام عنكِ طول الوقت !"
رفعت رأسها ببطء نحوه وهي تبتسم بإحراج امامه جعل وجنتيها الباردتين ولأول مرة تتوردان بلون زهري بارد لا يخرج سوى امامه وهو لا يزال للآن يعاملها كابنته كما كان يفعل بالماضي ، فهذا الرجل هو الوحيد والذي عرفها على ان الابوة والحنان لا تقتصر على المقربين منّا فقط ومن يربطهم بنا الدم ، بل يستطيع كل من يحمل ذرة رجولة وحنان بقلبه ان يمثل هذا الدور والذي لا يليق سوى بالآباء الحقيقيين .
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تقول بخفوت شاحب
"شكرا لك يا عمي جلال ، هذا لطف منك"
حرك رأسه باتزان وهو يعود بنظره لطبقه قائلا بقوة
"لا تخجلي يا ابنتي ، واعتبري نفسكِ بمنزلكِ فقد كان دائما كذلك وسيبقى"
عادت بنظرها لطبقها بصمت وهي ترفع الملعقة بالخضار لتمضغها بشفتيها ببطء وهدوء ، تدخلت (صفاء) بعدها بلحظات وهي تقول بابتسامة متسعة بلهفة
"عذرا يا أبي ، ولكني اريد الذهاب انا وماسة لغرفتي الآن لنكمل سهرتنا هناك"
قال الجالس عند رأس المائدة وهو يبتسم لها ابتسامة صارمة بأبوية
"حسنا ولكن عليكِ اولاً إنهاء كل الطعام من على المائدة ، فقد اعددتِ كمية كبيرة منه من اجل ضيافة صديقتك"
ادارت عينيها العسليتين باتجاه المائدة وهي تهمس بابتسامة محرجة
"اعتذر ، يبدو بأنني قد بالغت كثيرا بتحضير الطعام"
ابتسم (جلال) بانشراح قبل ان يضحك بهدوء مرح لتشاركه بعدها بلحظات ابنته وهي تضحك بسعادة ، بينما كانت (ماسة) تنظر للطبق امامها بدون اي تعبير وملامحها ساكنة تماما وكأن الزمن قد توقف عندها فقط وهي تتمنى لو تستطيع اختراق هالتهما الدافئة والتي لا تحمل اي هموم بالحياة ، ولكنها ستبقى دائما ابعد ما يكون عنها بروحها المشوهة والتي انهكتها ايدي المجرمين والوحوش والذين تعايشت معهم وتأقلمت منذ قدم الأزل .
بعد مرور نصف ساعة كاملة والتي قضوها من خلالها بين ترتيب المائدة وبين غسل الاطباق والتي شاركت بها (ماسة) رغم ممانعة الأخرى لينهوا كل شيء بوقت قصير ، جلست بعدها (ماسة) على طرف السرير ذات الملاءة الوردية والمطرزة بالورود الصغيرة والتي لم تتغير حتى بعد مرور السنوات عليها وقد شاركتها بالنوم عليها كثيرا بأيام مبيتها بمنزلهم بالماضي .
تقدمت (صفاء) نحوها وهي تسير بتمهل حذر ممسكة باللحاف السميك بذراعيها وهي تسنده لصدرها ، وما ان وصلت بجانب السرير حتى القت به ارضا لتجثو عندها على ركبتيها امامه وهي تمسد عليه فوق الأرض الرخامية هامسة بتذمر
"ما لداعي للنوم على الأرض بينما تستطيعين مشاركتي بالنوم على السرير ؟"
نهضت عن السرير لتهبط على الأرض بالطرف المقابل لها وهي تمد يديها لتمسد على الفراش برفق لتخفي الانثناءات فيه قبل ان تقول بابتسامة باردة بهدوء
"هذا لأن السرير الخاص بكِ لم يعد يتسع لكلينا ، فنحن لم نعد اطفالا !"
ارجعت ظهرها للخلف وهي تعيد خصلات شعرها البنية لخلف اذنيها جالسة على ركبتيها وهي تهمس بشرود حالم
"أتذكرين تلك الايام يا ماسة ! عندما كنا نستلقي فوق السرير بجانب بعضنا البعض ونبقى ساهرات لليوم الثاني ونحن نتكلم عن كل مغامرات يومنا والتي لا تنتهي"
تصلبت ملامحها وهي تبعد كفيها عن الفراش قائلة بهدوء ساخر
"اجل ولكنكِ كنتِ دائما تستسلمين للنوم وتتركيني وحدي ساهرة مع السقف والذي يكون افضل منكِ بالسهر !"
امتعضت ملامحها وهي تنتفض واقفة قائلة بقنوط عابس
"هذا لأنني لا استطيع تحمل السهر مثلكِ ، وقد اخبرتكِ بهذا من قبل فأنا لستُ مثلكِ استطيع البقاء مستيقظة طول الليل مثل بومة الليل"
رفعت الجالسة امامها ذراعها عاليا نحو السرير من خلفها وبلمح البصر كانت تلقي عليها الوسادة والتي اصابت وجهها بنجاح ، لتمسك بها الأخرى بغضب وهي تعود لقذفها نحوها لتتلقفها الجالسة بسهولة وهي تضعها بلحظة فوق الفراش والذي ستنام عليه بهدوء بالغ .
وقفت (ماسة) عن الأرض وهي ترفع نظراتها بحيرة للتي غادرت باتجاه الخزانة المركونة بزاوية الغرفة ، لتعود بعدها بلحظات وهي تمسك بيديها دفتر كبير ملون تعرف جيدا على ماذا يحتوي من قبل ان تراه .
جلست (صفاء) على طرف السرير وهي تلوح بالدفتر قائلة بخفوت مبتهج
"انظري على ماذا سنسهر هذه الليلة ؟"
تأففت (ماسة) بضيق وهي تعود للجلوس على طرف السرير بجانبها ، لترفع بعدها ساقيها لصدرها وهي تعانقهما بذراعيها بهدوء قائلة ببرود ساخر
"حقا انتِ طفلة يا صفاء ، من بهذا العمر ما يزال يحتفظ بهذا النوع من القصص المصورة ؟"
ردت عليها الجالسة بجانبها بتملق وهي تضع الدفتر بحجرها لتقلب صفحاته قبل ان تصل لصفحة معينة
"اجل طفلة ، ولا اريد ان اكبر لكي لا اصبح كئيبة مثلكِ !"
اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا عنها باتجاه النافذة المفتوحة والتي كانت تُدخل نسمات هواء خريفية ببرودة خفيفة ، لتسند عندها جانب رأسها على حاجز السرير وهي تستمع لصوت تمتمة خافتة من الجالسة بجانبها برقة النسيم الداخل من النافذة
"استمعي لهذه القصة فهي تبدو ممتعة ، كان يا ما كان بقديم الزمان طفلة جميلة تسمى فرح ودائما ما كانت تتحلى بالفرح لتكون اسم على مسمى ، بالرغم من انها كانت تعاني من اليتم وتعيش مع زوجة عمها المتجبرة ، لتضحك لها الحياة وتعطيها جنيات صغيرة لترافقها بحياتها وتراقبها اينما ذهبت لتحميها من كل المخلوقات الشريرة وتبقيها دائما بأمان وبفرح....."
كانت (ماسة) تشرد بعالمها البعيد والخالي من كل شيء وحتى من صوت (صفاء) الحزين والمتفاعل مع القصة وكأنها جزء منها ، ليرافقهما هواء الليل البارد طول السهرة مع صوت (صفاء) الرقيق والسلس وكأنها انشودة جميلة بآخر اليوم قبل ان ينزل الليل ستاره اخيرا على كل المخلوقات بالكوكب .
______________________________
وقفت خلفه تماما بإحراج وهي تتمسك بحزام حقيبتها بكفيها بقوة وتشنج طغى على مفاصلها ، وحتى الآن لا تصدق مجريات الأحداث وكيف وصلت لهذا المكان وكل شيء يحدث بسرعة فائقة بعد ان تراكمت كلها بيوم واحد لتكون بمثابة مئة يوم وكأنها بحلم لم تفق منه بعد ! وكم تتنمى لو تستطيع تحويل الوقائع لمجرد احلام او كوابيس لم تحدث بأرض الواقع لتبقى فقط بالذاكرة مدة قصيرة قبل ان تمحى للأبد ، لتعود بعدها لواقعها ولأهم شيء حدث معها باليوم وهو بأنها قد اصبحت زوجة لابن خالها (احمد الفكهاني) وارتبط اسمها به للمتبقي من عمرها وهذا يعني بأنها قد اصبحت الآن مقيدة بأحدهم !
شهقت بوجل ما ان لمس (احمد) ذراعها بيده وهو يقول بهدوء حائر
"ماذا بكِ يا روميساء ؟ لقد كنت اكلمكِ منذ ربع ساعة وانتِ لا تصغين لي ابدا ! هل انتِ بخير !"
تصلبت بمكانها للحظات وهي تبعد ذراعها عن كفه بتشنج قائلة بتركيز
"اجل بخير ، لا تقلق عليّ فقط كنتُ افكر بمجريات الاحداث والتي حصلت معي اليوم"
اخفض يده وهو يقول بتصلب غامض
"هل بدأتِ تشعرين بالندم على قراركِ بالزواج مني يا روميساء ؟"
عضت على طرف شفتيها بنشيج وهي تحاول التركيز على سؤاله والذي لاحقها طول طريق مغادرتهما من المحكمة منذ دقائق ، لتقول بعدها بابتسامة متزنة بعملية
"لا يا احمد ليس هكذا هو الأمر ، فأنا التي وافقتُ على كل هذا ، لذا عليّ ان اتحمل مسؤولية وتبعات قراراتي"
تجمدت ملامحه ببرود وهو يشعر بشيء قاسي يقبض على انفاسه بقوة وكلامها لم ينفي الحقيقة وبأنها عليها ان تتحمل نتائج قراراتها مهما كان مدى ضررها وكأنه امر مسلم منه بالنسبة لها وكل هذا بسبب حاجتها إليه لا اكثر ! ولا يعلم لما لم يعجبه هذا الأمر وشعر بمرارة كالعلقم بحلقه ؟
قال بعدها بلحظات وهو يعود لابتسامته الهادئة باتزان
"هيا بنا إذاً ، لندخل للمنزل ام تريدين البقاء على شرودكِ هنا والمبيت بالخارج !"
رفعت رأسها نحوه بسرعة وهي تومأ برأسها بالإيجاب بصمت ، ليعود (احمد) للاستدارة امامه وهو يفتح الباب بهدوء قبل ان يبتعد عن طريقها وهو يفسح لها المجال لتدخل قبله ، تحركت بعدها بخطواتها بتمهل لداخل الشقة وهي توزع نظراتها برهبة بالمكان الوسيع والذي يحتوي على افخم وارقى اثاث وديكور هادئ يناسب المكان والذي يدمج بين اللونين البني الفاتح والابيض بتناسق رهيب ، لتتوقف بعدها بنظراتها على النوافذ الزجاجية والتي تملئ جدران الشقة بأكملها وكأنها واجهة تظهر العالم الخارجي بوضوح مثل الشاشات العملاقة والموجودة بالسينما .
سمعت بعدها صوت من خلفها ملتصق بها تماما وهو يقول بقوة
"هل اعجبكِ منزلكِ الجديد ؟"
عقدت حاجبيها بارتياب وهي تلتفت نحوه بوجهها وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها وهو يقول بثقة ارهبتها
"اجل لا تفاجئي ، فهذه الشقة قد اصبحت ملككِ وقد سجلتها باسمكِ افضل من السكن بذلك الحيّ المشبوه والذي لا يناسب مقام زوجة احمد الفكهاني ، لذا اعتبري هذا واحد من طلباتكِ ويمكنكِ السكن به مع شقيقتك بأمان بدون ان يمسكما احد بسوء"
شعرت بارتعاش سرى بكل أنحاء جسدها من كلمة زوجة احمد الفكهاني وهي تشعر بها لها نغمة غريبة بأذنيها بانتشاء وكأنها قد اصبحت من الزوجات الثريات ذات المقام العالي والذين لا يمسهم احد بسوء ابدا ، لتنفض بعدها كل هذا عن رأسها وهي تركز فقط على هدفها الاساسي من هذا الزواج والذي لم يدفعها إليه سوى المصلحة والحصول على ما تتمناه منذ زمن .
قالت بعدها بلحظات وهي ترفع عينيها الخضراوين بصرامة فشلت في تمثيلها
"ولكن لم تخبرني للآن ، كيف ستخبر زوجتك عن زواجك من اخرى فهي اكيد سيجن جنونها ؟ وماذا عن عائلتك ووالدك ؟ كان عليك اخبارهم بالبداية قبل ان نعقد قراننا...."
قاطعها (احمد) بروية وهو يرفع كفيه علامة الهدوء
"اهدأي يا روميساء فهذا لن يشكل لنا اي عائق بعد ان اصبحتِ زوجتي رسميا ، وايضا هذا الأمر اتركيه على زوجكِ فأنا اعلم جيدا كيف اتصرف بهذه الناحية وانهي كل شيء بدون ان يصيبكِ سوء انتِ وشقيقتك"
تنهدت بهدوء وهي تحاول الابتسامة بصعوبة لتذوي عندها الابتسامة بمكانها بدون ان تصل لخديها وهي ما تزال تشعر بالألم بقلبها من اجل شقيقتها والتي لا تعلم كيف حالها الآن بعد ان طلبت من (صفاء) ملازمتها الليلة ! قالت بعدها بابتسامة هادئة وهي تعود بالنظر له بتلك الاحداق الخضراء المستديرة بشحوب
"هل تسمح لي بسؤال أخير ؟"
شرد (احمد) قليلا بعينيها واللتين لم يرى باستدارتهما بشحوب غريب وكأن اللون قد انخطف منهما او ان الصبغة الخضراء قد انتهت منهما بشكل يدعو للتفكير والحيرة ؟ ليقول بعدها بابتسامة جادة بقوة
"اجل اسألي ما تشائين ، لا امانع"
اخفضت نظرها بعيدا عنه وهي توزعها بأنحاء الشقة قائلة بتفكير شارد بديكور الشقة والذي اخذ عقلها
"كيف استطعت الحجز بالشقة وتجهيزها بهذه السرعة ؟"
ردّ عليها (احمد) وهو ينظر لما تراه بهدوء
"لأن هذه الشقة محجوزة لي من الاساس ، واستخدمها باستضافة عملاء اجانب بالبلد او إذا كان لدي رحلة سفر باليوم التالي"
عادت بنظرها له بتفكير وهي تضيق عينيها الكبيرتين بهدوء مريب ، ليقول بعدها وهو يبتسم لها باتساع متزن
"كلا لا احد يعلم عن هذه الشقة ، لا زوجتي ولا اي احد من عائلتي"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس بإحراج متلعثم
"كيف عرفت بما يدور برأسي ؟"
ردّ عليها ببساطة وهو يدس كفه بجيب بنطاله
"لأنني استطيع قراءة ملامحكِ الواضحة والتي يسهل قراءتها"
عبست ملامحها بعدم تصديق وهي لا تصدق بأنها مفضوحة امامه هكذا لدرجة بأنه يستطيع قراءة ما يدور برأسها بسهولة من قبل ان تنطق بالسؤال ؟ لتعيد بعدها نظراتها نحوه ما ان مد كفه بالمفتاح الذهبي والذي يكون الخاص بالشقة فقد رأته وهو يفتحه امامها باستخدامه .
قال (احمد) بعدها بلحظات وهو يشير بعينيه للمفتاح بجدية
"خذي هذا مفتاح منزلكِ والذي سيبقى معكِ دائما اينما ذهبتِ ، لكي تستخدميه بفتح قفل الباب وبدونه لن يفتح"
رفعت يدها بسرعة لتلتقط المفتاح وهي تنظر بانشداه مرتجف لما بين يديها وهي لا تصدق مدى جماله ولمعانه وكأنها تنظر لقطعة ذهب فنية ! بينما ابتسم الواقف امامها بحنان وهو ينظر لانفعالات ملامحها ودهشتها بترقب مثير وكأنها قد اصبحت هواية بالنسبة له ومتعة خاصة به .
استدار بعدها بعيدا عنها وهو يتنهد بهدوء وراحة لأنها اصبحت الآن تحت حمايته ومسؤوليته الخاصة بدون تدخل احد ، ليسير بعدها باتجاه الباب وهو يقول بجدية صارمة
"لا تنسي إذا احتجتِ لأي شيء او شعرتِ بالنقص اخبريني فورا ، والآن وداعا يا زوجتي العزيزة وهنيئاً لكِ بشقتك الجديدة"
نظرت بسرعة نحو مسار خروجه من الشقة لتقول بلحظة بخفوت متوجس
"ولكن يا احمد ، ألا تريد النوم بشقتك ؟ فهذه شقتك بالنهاية !"
امسك (احمد) بطرف الباب بقبضته وهو يقول بهدوء بدون ان ينظر لها
"كلا لا استطيع مشاركتكِ الشقة بالوقت الحالي فهي قد اصبحت ملككِ الآن ، وانا سأعود للنوم بالمنزل ، فلا استطيع المضي بأي خطوة قبل ان يتم كل شيء كما نريد ونسعى إليه وهذا سيحدث بعد عودتي من رحلتي ، لذا ليلة سعيدة"
تغضن جبينها بعدم استيعاب بآخر كلماته الغامضة والتي شعرت معها بفراغ موحش ، لتنظر بعدها لباب الشقة والذي اقفله من خلفه بقوة لتجتاح عندها وحدة وبرودة بأنحاء الشقة مثل روحها المظلمة بعد ان فقدت النور بهذه الحياة والذي كان يعطيها الدفء منذ لحظات ، ولا تعلم تحديدا ما سبب تلك المشاعر والاوهام الغريبة والتي بدأت تهيم بروحها بدون رحمة ؟
_______________________________
كانت تتنقل بحسابها البريدي بملل على شاشة هاتفها وهي تحتضن ساقيها بذراع وتمسك بالهاتف بيدها الأخرى ، بينما كان يصلها صوت تنفس النائمة بالسرير بجانبها بسلام وقد راحت بسبات عميق ما ان وضعت رأسها على الوسادة ، لتتركها تكمل ليلتها بمفردها كالعادة كما اعتادت منذ طفولتها وكأن الجميع يصر على تركها لوحدها ما ان يشعروا بالملل واليأس منها لتبقى الوحدة والوحشة مرافقة لها طيلة العمر .
كانت تتبع بحركة حدقتيها القاتمتين بضوء شاشة الهاتف والتي كانت تعكس زرقتها بوضوح وهي تنظر لكل جديد نزل على صفحتها والتي غابت عنها لمدة طويلة بسبب عدم اهتمامها لكل هذا العالم الالكتروني والذي يستطيع الوصول لكل قارات العالم بدون بذل اي مجهود ، ولولا دراستها الجامعية والتي تحتاج لكل انواع التكنولوجيا والمواقع الحديثة لكي يكون وسيلة لتنجز عليه وظائفها واختباراتها والتي لم تعد على الورق والقلم كما كان بالماضي ، لما كانت صنعت هذا العالم الوهمي لتكون جزء تافه منه من مجتمع بالي انعدمت منه المبادئ والاخلاق الاجتماعية من عالم افسدته التكنولوجيا .
عقدت حاجبيها بتركيز حاد وهي تضيق عينيها ناظرة لصورة رجل متوسط بالعمر بنهاية الثلاثين تقريبا تعرفه جيدا ، فهذه الملامح من المستحيل ان تخطئ بها فقط الفرق بأن شعره قد نبت بكثافة ليصل لعنقه ولحيته كذلك والتي غطت ملامح وجهه وغيرته تماما ، لتخفض بعدها نظراتها للكلام المكتوب بأسفله والذي اكد ظنها
(تم القبض على رجل العصابات الاخطر اصلان عديلي بتهريب الاموال لاستثمارات لشركات مزيفة ، وقد تم الامساك بأموال طائلة بحوزته كان على وشك الهروب بها لخارج البلد)
شددت من القبض على الهاتف بكفها وهي ترفع رأسها عاليا بإنهاك مجهد ، لتفكر بعدها بسرعة بشيء واحد وهو بأن جميع افراد زمرة (قيس) قد بدأوا بالهروب بما جمعوه من اموال معهم لخارج البلد بعد ان تم القبض على رئيسهم وهو (قيس) ، ولكن إلى اين سيهربون ويد العدالة تمسك بهم واحدا تلو الآخر لتقتص منهم بما يستحقون وعلى جميع الاموال الغير قانونية والتي حصلوا عليها ؟
ما تزال تذكر تلك الكف الخشنة والتي كانت تضرب على مؤخرة رأسها بقوة تستطيع قلع رأسها عن جسدها وهو يتبعه بصوته الخشن قائلا بأمر قاسي
"افعلي كل ما اقوله لكِ بالحرف الواحد ، واي خطأ ستدفعين ثمنه غاليا ، وإياكِ والتلاعب معي فهكذا ستكونين تتلاعبين بعداد عمركِ !"
وبعد ان تنفذ اوامره بالحرف الواحد وتحصل له على مراده من كلمات المرور ومعلومات تخص استثمارات الشركات وكل صفقاتهم الخطيرة ، ليربت بعدها على رأسها بذات القسوة قائلا بابتسامة قبيحة منتشيه
"احسنتِ يا ابنة قيس ، لقد اعجبتني كثيرا فأنتِ لستِ فتاة عادية ابدا كما يظهر عليكِ ! ويوما ما ستصبحين ملكي بعد ان اسرقكِ من مالككِ قيس"
ضربت على جبينها بقبضتها بقوة وهي تفيق من افكارها السوداء المقيتة ، ولا تعلم متى ستخرج من ذلك العالم والذي حولها لصورة أخرى عن انعكاس لفتاة مشوهة الروح بسوداوية قلوب المجرمين ؟ فهي كانت كلما غاصت بذلك العالم الاجرامي اكثر انمحت جزء من هويتها الحقيقية حتى لم يتبقى منها شيء سوى جسد بروح مشوهة يعيش فقط ليتنفس هواء الآخرين !
اخفضت نظراتها لهاتفها لتقع عينيها على صورة أخرى لشاب ملئ الشاشة بأكملها وهو يبتسم باتساع مرح بارد وكأنه لا يبالي بالعالم بأسره وبما يدور به ، لتنقل نظراتها للفتاة الشقراء بجانبه والمبتسمة بتوهج برق بعينيها الخضراوين الجميلتين وهي نفسها من رأتها بذلك المقهى برفقته ، فهي من المستحيل ان تنسى وجه لمحته بحياتها وحتى لو مرّ عليه عدة سنوات فسيبقى محفور بذاكرتها لآخر يوم بحياتها بدون ان تستطيع محوه ، وعقلها يعمل على اساس المبدأ المعاكس فمن تصر على نسيانه سيبقى عالقا برأسها ولن تستطيع نسيانه حتى لو حاولت ذلك .
رفعت (ماسة) اصبعها وهي تدخل لحسابه الخاص تلقائياً بدون ان تمنع نفسها ، لترفع حاجبيها بانتباه شديد وهي تتنقل بصفحته الشخصية والتي لا تحوي على شيء مهم يلفت النظر سوى معلومة واحدة حصلت على انتباهها عن مكان عمله والذي يكون بشركة الصناعة والتصميم والمختصة بالديكورات والبيوت والتي لم تسمع عنها من قبل ، ولكنها متأكدة بأنها ليس لها علاقة بشركة حوت الفكهاني والمعروفة بكل إنحاء البلد ، فهل هذا يدل بأنه لا يعمل بشركة عائلته والتي يديرها والده ؟
تراجعت بيدها ما ان وصلتها رسالة على الخاص وهي تعقد حاجبيها بتوجس من صاحب الرسالة ، لتفتح بعدها الرسالة بحذر وتظهر الكلمات امامها والتي دفعتها للعبوس باستنكار
(ماذا تظنين نفسكِ فاعلة ؟ بالتنقل بحسابي الشخصي بمنتصف الليل !)
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تفكر بالطريقة والتي عرف بها بدخولها لحسابه بسهولة ؟ ولكن لا شيء غريب على التكنولوجيا والتي وصلت لمستوى لم يصل له احد من قبل ولم يعد هناك اي حياء او خصوصيات بين البشر عندما اجتاح التطور عالمهم !
ردت عليه برسالة أخرى وهي تبتسم بجمود وتصلب بملامحها الحجرية
(هذا افضل من التنقل بحفل رخيص ومبتذل بآخر الليل على شخص بمقامك يا ابن الفكهاني)
بعثت الرسالة بثقة وهي تعلم جيدا من محتوى الصورة والتي ظهرت امامها الآن مع صديقته الشقراء بدون ان تخفي اجواء الحفلة من حولهم والتي اكدت لها مكان تواجدهما بهذه الساعة ، عادت للنظر للهاتف ما ان وصلتها رسالة أخرى بعد لحظات
(لم اكن اعلم بأنكِ تعملين جاسوسة يا ماسة الفاروق !)
عبست ملامحها بحدة وعينيها الزرقاوين تلمعان بشراسة عكسها ضوء شاشة الهاتف ، لتضغط بعدها على ازرار الهاتف وهي تبعث له رسالة مختصرة بحقد
(احمق عائلة الفكهاني)
لتفصل بعدها هاتفها نهائياً وهي تزفر انفاسها بحدة منفعلة بجموح ، لتلقي بعدها بالهاتف جانبا وهي تدفن وجهها بين ساقيها بتشنج مهتز بطريقة نومها المعتادة والتي لا تستطيع النوم سوى بها ، عندما ترغم نفسها على ادخال السواد لعالمها والسكون بكل مكان قبل ان يسحبها الظلام لسباته الطويل بدون ان تهتم بتخدر مفاصلها والألم والذي يضرب ساقيها بطريقة تكورها والتي تراها مسكن لآلامها وكوابيسها !
___________________________
ابتسم بهدوء عابث وهو ينظر لشاشة الهاتف ولرسالتها الأخيرة قبل ان تختفي عن شبكة الانترنت ، وهو يفكر بأنها تبدو من محبين السهر او قد تكون لا تحب النوم بوقت مبكر فهو بكل لقاءاته معها دائما ما تكون بمنتصف الليل لتظهر له مثل الشبح وكأنها هي والظلام واحد ! ولكن ماذا كانت تفعل بحسابه يا ترى ؟ هل كانت تحاول مراقبته والتجسس عليه فكل شيء متوقع من تلك الفتاة الغامضة ؟
اخفض الهاتف وهو يدسه بجيب بنطاله ناظرا للحفل الممل امامه والذي لا يتغير نظامه ابدا نفس الناس بكل مرة ونفس الروتين ، ليشعر بعدها بيد تمسك بذراعه وهي تلوح بالهاتف امامه بيدها الأخرى قائلة بدلال
"انظر ما اجمل صورتنا معا ! لقد حظيت على إعجاب الكثيرين ومنهم من ظنوا بأننا مرتبطين"
ارتفع حاجب واحد بخفة وهو يقول بوجوم
"هل نشرتها على كل صفحات التواصل ؟ ألم احذركِ من فعلها يا لينا !"
اخفضت الهاتف من امامه لتعود للنظر للصورة بشرود حالم قائلة بلطافة
"ولكن كيف تريدني ان اترك هذا الجمال بعيدا عن العين ؟ وايضا على الناس ان ترى مدى جمال صداقتنا وقوتها والتي ليس لها مثيل بالعالم !"
ردّ عليها ببرود من كان يعيد ذراعيه لفوق رأسه وهو ينظر بعيدا عنها
"ومع ذلك كان عليكِ ألا تفعليها ، فهذا سيجلب لنا الشبهة وكلام الناس والتي لا يهمها سوى افتعال الفضائح والشائعات عن الاشخاص المهمين ذو المراتب العالية امثالنا !"
زمت شفتيها وهي تدس خصلات شعرها القصيرة بكفها الحرة لخلف اذنها بهدوء قائلة بحزن وبراءة
"لم اكن اقصد جلب المشاكل لك ، واعدك بأنني لن اعيدها"
حاد بنظراته السوداء نحوها وهو يقول بابتسامة جانبية
"لا بأس فقد فعلتِ ما برأسكِ وانتهى الأمر ، وجعلتِ صورتنا تدور لكل دول العالم"
ضحكت عندها بخفوت وهي تدس الهاتف بجيب ثوبها قبل ان تتمسك بذراعه بيديها لتحول نظرها للأمام ما ان تغير نوع الموسيقى لأخرى هادئة بنعومة آسرة ، لتحاول بعدها سحبه معها لساحة الرقص وهي تهمس بحماس مغري
"ما رأيك ان نذهب للرقص قليلا ؟ فأنا احب كثيرا هذه الاغنية ، ارجوك لا ترفض طلبي"
ولكن (شادي) توقف بقوة وهو ينفض ذراعه بعيدا عنها قائلا ببرود جليدي
"ما لذي اصابكِ يا لينا ؟ أنتِ تعلمين جيدا بأني لا احب الرقص بهذه الحفلات ولا احبذها ! وإذا كنتِ تريدين الرقص فابحثي عن احد آخر يشارككِ بها"
عبست ملامحها بحزن طفولي وهي تبرم شفتيها برقة لتحاول استعطافه ليوافق على طلبها وهي نفس الطريقة والتي تستخدمها عادة مع والدها ومع جميع من تعرفهم ، ولكن للغرابة فهو الوحيد والذي لا يتأثر بها ولا تهزه ولو قليلا ليرأف قلبه بها وبمنظرها المغري للعين ومذيب للصخر وكأن قلبه مغلف من جليد من المستحيل ان يذيبه شيء او يحطمه أياً كان !
تدخل بعدها صوت شاب غريب وهو يندفع امامها قائلا بحماس
"انا استطيع الرقص معكِ يا آنستي الجميلة ، واتركي هذا البارد وشأنه فقد خسر الكثير بخسارتك !"
ادار الواقف امامه عينيه بعيدا عنهما ببرود غير مبالي ، بينما امتقعت ملامح (لينا) بعبوس من تدخل هذا السمج وهي لا تعلم كيف ظهر وكيف تتخلص منه الآن ؟ لتفكر بعدها بخبث وهي تنقل نظراتها للواقف بالقرب منهما ببرود بدون ان يعيرهما اي اهتمام .
قالت بعدها بلحظات وهي تنظر للشاب برقة وغرور
"انا موافقة على مشاركتك بالرقص إذا كنت مصرا ، فأنا لا احب رفض طلب احد"
حرك الشاب رأسه بحماس وهو يمسك بكفها بدون اي تردد وابتسامة بلهاء تحتل ملامحه ، ليسحبها بعدها بسرعة لساحة الرقص بين الناس وهو يصطدم بهم بقوة متخذا مكانا بين الراقصين لكليهما .
بينما اعاد الساكن بمكانه نظراته للأمام وهو ينظر للأبله ورفيقته وهما يرقصان بسرعة بعكس نوع الموسيقى الهادئة والتي يتطلب بها الرقة والبطء بالرقص ، وهو يبدو متشبث برفيقته بقوة وكأنه قد حصل على الجائزة الكبرى بعد عناء طويل .
تنهد بملل وهو يلمح نظرات (لينا) الخضراء الممتعضة والناظرة له برجاء خافت ليخلصها من مصيبتها والمتجسدة امامها ، ليسير بعدها نحوهما بخطوات جامدة وهو يركز نظراته على الأبله والشارد بعالم آخر ، وما ان وصل لهما حتى امسك بكتف الشاب ليوقف حركته بقوة وهو يقول من خلفه ببأس
"لو سمحت لقد رقصت بما فيه الكفاية مع شريكتي ، وانا اريد استعادت مكاني معها ، فقد غيرتُ رأي الآن بخصوص خسارتها"
ابتسمت الواقفة امامه براحة وعينيها الجميلتين تتوهجان بإغراء وانتصار ملفت ، بينما التفت الشاب برأسه للخلف وهو يقول بعبوس متجهم ملوحا بذراعه امامه ببساطة
"لقد فات الأوان على هذا الكلام يا سيد ، فمن يصل اولاً يحصل على ما يريده ومن يصل متأخراً يخسر"
ابتسم (شادي) بدون اي مرح وهو يقول بسخافة
"حقا لم اكن اعلم بهذا القانون ، ولكني سأريك شيئاً سيغير رأيك فورا وثقتك والتي تتبجح بها امامي !"
ارتفع حاجبيّ الشاب بعدم استيعاب ليجد لكمة توجه لوجهه بقوة جعلته يترنح قليلا للخلف عدة خطوات ، ليشعر بعدها بقدم صغيرة تضرب على ساقه بسن كعب الحذاء بقوة جعلته ينحني على الأرض وهو يجثو على ركبتيه وصوت ناعم خبيث يقول من فوقه بأسف مزيف
"اعتذر حقا لم اكن اقصد اصابتك ، يبدو بأنني لا اجيد الرقص كما ينبغي"
انحنى (شادي) امامه بجذعه وهو يقول امام وجهه بابتسامة هادئة بخطر وشيك
"الافضل لك ان تغادر من هذا المكان ، ومرة أخرى لا تحاول العبث مع من هم اكبر منك حجما !"
ابتلع الشاب ريقه وعينيه جاحظتين بخوف دام للحظات ، ليقف بعدها بسرعة على قدميه قبل ان ينطلق مغادرا وهو يبتعد من امام حشود الناس والذين توقفوا عن الرقص بانتباه ، ليعودوا بعدها بلحظات كل منهم بالرقص مع شريكه متجاهلين ما حدث منذ قليل .
امسكت (لينا) بكتفيه بيديها وهي ترتفع امامه على اطراف حذائيها العاليين قائلة بابتسامة صغيرة بأغراء
"هل نرقص ؟"
زفر انفاسه بتصلب وهو ينظر لها بحدة قبل ان يقول بابتسامة باردة باستسلام
"فقط رقصة واحدة لا اكثر"
اتسعت ابتسامتها بإشراق وهي تتعلق بعنقه بكفيها هامسة امام وجهه بخفوت انثوي بنشوة
"وهذا اكثر من كافي"
وقبل ان يبدأ كل منهما بالرقص ارتفع رنين هاتفه بجيب بنطاله مخترقا ضوضاء الحفلة ، ليخرجه بعدها بملل قبل ان يعقد حاجبيه بحيرة وهو ينظر لاسم شقيقه الكبير والمنير بالشاشة .
نزع بعدها كفيها عن عنقه بسرعة وهو يسير بعيدا عنها قائلا بجدية
"عذرا ، عليّ ان اجيب على هذه المكالمة"
ولم ينتبه بعدها لنظراتها الخضراء المشتعلة بحنق وهي تعض على طرف شفتيها باستياء وكل شيء يفسد دائما بآخر لحظة ما ان تصل لما تريده وتسعى إليه بدون ان تفهم السبب لذلك ! بينما وصل (شادي) لمدخل قاعة الحفلات وهو يضع الهاتف على اذنه قائلا بمرح مبتسم لا يظهر سوى امام شقيقه
"كيف حالك يا شقيقي احمد ؟ لم ارك منذ كنت تخطط لتلك الحفلة والتي لم احضرها للأسف بسبب ظروف قاهرة ! ولكني اتمنى حقا ان تكون رائعة كما كنت تخطط لها"
ارتفع حاجبيه بلحظات بدهشة وهو يستمع للطرف الآخر بتركيز حاد ، ليقول بعدها وقد اختفى كل المرح عن ملامحه ليحل مكانه الوجوم والاستنكار عليه في آن واحد
"ما هذا الذي تنطق به يا احمد ؟!"نهاية الفصل........
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...