الفصل الحادي والأربعون

189 4 1
                                    

كان يسير باندفاع برواق الممر بدون ان يرى شيء امامه وكل اعضاءه الفكرية والعصبية قد توقفت عن العمل ، فقط قدميه تتحركان مثل جهاز كمبيوتر يعمل على التحرك وبذل المجهود بدون شعور او احساس ، وكل ما يدور بفكره بتلك اللحظة هو الخروج من تلك الدارة الكهربائية والتحرر من طاقتها الجاذبة التي لا ترحم وتعطل كل ما هو حي .
ما ان وصل لبداية السلالم حتى اوقفه الصوت الانثوي وهو يهتف بمناداة ومطالبة للأصغاء
"احمد توقف ، اسمعني اولاً"
تسمرت قدمه بالهواء وهي تعود ادراجها قائلا بصوت باهت بقتامة وكأنه لا يطيق الكلام
"ليس الآن يا سلوى ، لا اريد التكلم مع احد ، اتركيني وشأني"
تمسكت (سلوى) بذراعه بتشبث بدون ان تأبه بحدته وهي تستخدم اسرع طريق لقلبه هامسة برجاء مصطنع
"ارجوك استمع لي يا احمد ، لا تغادر وانت غاضب هكذا ! لا يجوز ان ترحل بهذا الشكل ! كيف ستقود السيارة وانت بهذه الحالة العصبية قد تسبب بنفسك حادث او اذى ؟ عليك ان تتمهل وتأخذ انفاسك وتحاول العودة لهدوئك"
نفض ذراعه بعيدا بحركة عنيفة وهو يقول بجمود قاتم
"ولماذا تهتمين لأمري الآن ؟ هل يهم احد منكما ما سيحدث لي ؟ لو احترقت او وقعت او انكسرت لن يهمكما ، لأنني بالحقيقة لست متزوج من امرأتين بل متزوج بلوتين !"
زمت شفتيها بعناد وهي تتشبث بذراعه بقوة اكبر قائلة بخفوت متودد تحاول استقطابه لها
"لا تقول هذا الكلام عن نفسك ، انت زوجي وهناك عشرة عمر بيننا تتجاوز الست سنوات ! كيف تريدني ان افرط بك ؟ لا استطيع فعلها ! لن يطاوعني قلبي على فعلها !"
التفت بوجهه نحوها وهو يلبس ملامح البرود ومع ارتفاع حاجب واحد قائلا بتعجب ساخر
"منذ متى حدث كل هذا ؟ لقد ظننتكِ تتمنين موتي من اجل ان ترثي كل املاكي من عائلة الفكهاني ، أليست هذه مخططاتك منذ البداية والسبب الذي دفعك للتمسك بهذا الزواج بعد زواجي الثاني ؟!"
عبست ملامحها بعلامات الغضب الصامت وهي تنفض يديها بعيدا عنه لتشير بيديها لنفسها وهي تقول بذهول مستنكر اتقنت دورها
"هل هكذا تقول عني يا احمد ؟ انا لست بكل هذا الشر والانانية حتى اتمنى لزوجي الموت او السوء ! ربما تكون جرحتني وخذلتني بزواجك ولكني مع ذلك ما زلت اثق بك واشعر بالأمان والطمأنينة بوجودك لم اشعر به مع احد آخر غيرك ، واعرف جيدا بأنه لديك اسبابك الخاصة التي دفعتك لهذا الزواج فأنت تملك الحالة المادية الجيدة والمؤهلات التي تسمح لك بالزواج اكثر من مرة ، لهذا اتفهمك تماما ، واعذرك"
قطب جبينه باستهجان وهو يشعر بحصار الافكار يضيق على نفسه بقفص صغير ، ليستدير بعدها بكلتيه وهو يقول بتصلب جاد على وشك الإعياء
"ما معنى هذا الحوار الآن ؟ هل ترينني بمزاج جيد للكلام والاستماع بهذه المواضيع والتي طرأت على ذهنك الآن ؟ اسمعي....."
قطع (احمد) كلامه بمنتصفه وهو يأخذ وقته بتأملها ما ان ادرك بأنها قد خرجت من غرفتها بثوبها النبيذي ذاته بدون اي حياء او خجل ، ليرسم الجمود على ملامحه وهو يلوح بذراعه بعيدا قائلا بصرامة منفعلة على وشك الانقضاض عليها
"هل جننتِ يا سلوى ؟ كم مرة اخبرتكِ وحذرتكِ ألا تخرجي بقمصان النوم ! ماذا لو رآكِ احد من افراد المنزل بهذه الملابس ؟ ألا تدركين اهمية ما اقول واطلبه منكِ ؟ سحقا لكِ !"
اضطربت (سلوى) بمكانها وهي تعض على لسانها بتوتر لا إداري بعد ان افسدت الامر ، لتقول بعدها بتفكير بديهي وهي تلوح بيديها
"لا داعي لكل هذا الانفعال والتوتر يا احمد ، فليس هناك احد مستيقظ بهذا الوقت من الليل والذي يكون به كل واحد منهم ماكث بغرفته ، ومن المجنون الذي قد يفكر بالصعود للطابق الخاص بجناح زوجاتك ! وليس هناك احد يعيش بالمنزل معنا سوى شقيقك الصغير ووالدك ! انت فقط تبالغ بردة فعلك لا اكثر !"
تغضنت زوايا عينيه بتعب وهو يدير وجهه قائلا بجفاء عملي
"لا يهمني سماع اعذارك او مسمياتك ، المهم ان تعودي لجناحك حالاً ولا تخرجي منه بهذا الشكل المكشوف ، فلن اكتفي بالمرة القادمة بالتنبيه والتحذير فلم يعد يجدي معكِ الكلام على الاغلب ! هيا تحركي ، وإياكِ ان تتبعيني"
ما ان استدار مجددا حتى عادت للتشبث بذراعه وهي تقول بعناد اكبر بدون ان تعبأ لكلامه
"لا لن ادعك تخرج بهذا الشكل ، انت بالكاد تستطيع السير على قدميك كيف ستقود بالسيارة بمنتصف الليل ؟ انظر لنفسك تبدو علامات الإرهاق والإجهاد واضحة عليك ، وانت لم تعود من العمل سوى من ساعة فقط وتريد المغادرة بهذه السرعة ! ما رأيك بمساج سحري يريح اعصابك وعظامك ؟ واعدك ألا اتكلم معك بشيء ولن افتح معك اي موضوع ، فقط اترك نفسك لي لدقائق ، فقط دقائق لن تأخذ منك الكثير"
رمقها بطرف عينيه بتعب حقيقي وهو يقول بابتسامة عصبية حفرها بوهن
"غادري من هنا يا سلوى ، لا تسببي لنا المتاعب بمنتصف الليل ، فأنا لدي ما يكفيني بالفعل !"
مالت برأسها على كتفه وهي تهمس بابتسامة انثوية تحثه على الرضوخ لها بأسلحتها الفتاكة
"لن اتحرك من هنا ألا عندما تسير معي ، ولن يهمني إذا تمت رؤيتنا بهذا الشكل او امسكوا بنا متلبسين ، فأنت ستأتي معي بكل الاحوال شئت ام ابيت"
زفر (احمد) انفاسه بخواء وهو يبتعد خطوتين عن السلالم لكي لا ينقلبوا عليه ويصبح بمصيبة اخرى ، ليلتفت بعدها نحوها وهو يحرك كتفيه قائلا بعجز سيطر عليه
"حسنا يا سلوى كما ترغبين ، انا استسلم وانتِ فزتِ ، لقد غلبتني بالنهاية"
اومأت (سلوى) برأسها برضا وبابتسامة متسعة بانتشاء واضح غمر كيانها ، لتسحبه بعدها من ذراعه اتجاه الرواق الطويل هامسة بسعادة كبيرة لا تتسع بالكون
"هذا ليس الشوط الوحيد الذي غلبتك به ، فقد غلبتك سابقا بأشواط كثيرة بدون ان تدرك"
اشاح بوجهه بعيدا وكأنه لم يسمعها وهو يكمل السير بخطوات متثاقلة وبقلب لم يكن بكل هذا الظلام ، ولم يدرك اي منهما العينين الحاذقتين اللتين كانتا حاضرتين بوقت الحدث وهي تراقب ابتعاد الزوجين عنها واحدهما من سرق قلبها وحطمه بجدران الغرفة والاخرى التي سرقت حقها امامها بدون ان تهتم بملكيتها به ، وليس بمقدورها فعل شيء بعد الآن فقد حُكم عليها هكذا منذ الامد البعيد وهي رؤية حقوقها تأخذ وتسلب منها بدون ان تطالها مثل طفلة بالغة حُرمت من اللعب بالألعاب الباهظة .
______________________________
وضعت الطاولة الصغيرة ارضا برفق وهي تجلس امامها تماما ، لتضع بعدها المفكرة الصغيرة فوقها وهي تقلب بصفحاتها بهدوء ، وما ان وصلت لصفحة بيضاء فارغة حتى توقفت عندها وهي ترفع القلم بأصابع يدها الاخرى ، لتبدأ بعدها بالكتابة وهي تدون اليوم والتاريخ لتكتب احداث ايامها الاخيرة منذ انتهاء حفلة الزفاف التي كانت الانقلاب الكبير بحياتها ، فقد انقطعت عن كتابة حياتها اليومية منذ تلك الحفلة وهي تشعر بالكلمات والمشاعر تتهافت بداخلها للخروج للسطح وافضاء كل ما بداخلها واصبح مثل المضيق بصدرها ، وهذه واحدة من آثار الوحدة ومضاعفاتها والتي تجعلك تبوح بهمومك ومشاكلك لأوراق صماء قد تريحك من حِمل كبير تعب جسدك وعقلك من مهمة حمل عاتقها لوحدك ، فرغم وجود صديقتها المقربة وشقيقتها الوحيدة من حولها فقد كانت تشعر بمسافات غير مرئية تفصل بينهما تسورها بقوقعة الوحدة التي لم يستطع احد تجاوزها او اختراقها بعتمة حياتها التي غرقت بها منذ وفاة والدتها .
اضطربت ملامحها ما ان دقت اصوات الرياح على زجاج النافذة تعلن عن وصول عاصفة باردة بالرغم من دخولهم بشهور الصيف ، ولكن كما يحدث دائما لابد من دخول بعض الموجات الباردة بحلول شهور الصيف وكأنها تتمرد على شهورها وتذكر العالم بوجودها كاسرة حدودها ، وكم ذكرتها بحالتها عندما يخترق (شادي) نطاقها المنيع ويحاول بكل جهده التسلل بين قيودها خلسة وتذكيرها بكل مرة بقوة الرابط الذي يجمع بينهما بدون ان يهتم بحدودها وقوانينها والتي كسرها منذ سنة من الآن وهو يتحدى الفصول والمنطق والحياة لكي يستقر بداخلها ويزعزع قوتها وصمودها .
زفرت انفاسها بتعب وهي تشعر بالنعاس بدأ يطبق على جفنيها ويتلاعب بإعدادات عقلها ، لتغلق بعدها المفكرة وهي تعلق غطاء القلم على غلافها لكي لا تفقده ، استقامت بعدها بمكانها وهي تخبئ المفكرة بداخل الدرج بجانب السرير ، وما ان جلست فوق الفراش حتى شهقت بوجل كادت توقف انفاسها ما ان انتشرت الظلمة بأنحاء الغرفة بانقطاع الكهرباء .
كان صدرها يعلو ويهبط بنشيج واضح تردد صداه بالغرفة الفارغة بظلام حالك ، وبعد عدة لحظات كانت تحزم امرها وهي تنهض عن السرير لتجر قدميها خارج الغرفة والتي بدأت تضيق عليها بهواجس وخيالات عادت لتطاردها .
ما ان وصلت عند غرفة المعيشة حتى توقفت عن التقدم وهي تلمح المستلقي فوق الاريكة الوثيرة تحت ضياء القمر المتسلل من النافذة ، كانت الاريكة تشمل كامل جسده ما عدا رأسه الخارج عن المسند بعض السنتمترات وقدميه الخارجتين عن المسند الآخر بسبب طول ساقيه وضخامة قدميه الشبيهتين بباخرتين ، تقدمت بخطوات حذرة بلا وعي تقريبا حتى وقفت بالقرب منه وهي ما تزال مشغولة بتأمل النائم بغرفة المعيشة بدل غرفة النوم رغم انه مالك هذه الشقة ، لتتنفس بعدها ببرودة جليدية تشعر بها تخللت بمفاصلها حتى اضطرت لرفع يدها والتدليك على ذراعها الاخرى .
تراجعت بخطواتها وهي تغيب عنه ثواني قبل ان تعود وهي تمسك بين ذراعيها غطاء سميك بعض الشيء ، لتفرد بعدها الغطاء على طوله فوق الجسد المغيب عن العالم وهي تتأكد من تغطية جميع اطرافه حتى مستوى كتفيه ، ركعت بعدها على ركبتيها بجانب رأسه وهي تراقب ذراعه المستريحة فوق عينيه تخفي اغلب ملامحه عنها والتي رسمتها بعقلها عن ظهر قلب ، لترفع بعدها يدها بتردد وهي تحاول الوصول لرأسه برغبة مُلحة قهرت قوتها وتغلب القلب عليها ، لتتخلل اصابعها الصغيرة بخصلات شعره الناعمة والتي تبعثرت على مسند الاريكة .
استمرت اصابعها بالغوص بخصلات شعره قبل ان تتحول لمسح ناعم رقيق وهي تطالع خطوط ملامحه عن كثب ، وما ان مرت لحظات اخرى بدون الشعور بالوقت والمكان وبالخوف حتى انجذبت نظراتها لتغير طفيف بخطوط ملامحه يدل على خروجه من عالم الاحلام ومشاركتها بعالمها ، وخاصة عندما تحركت شفتيه الباسمتين وهو يهمس بخفوت متعاطف وكأنه يستشعر خوفها بدون ملامستها او رؤيتها
"هل تشعرين بالخوف ؟"
كتمت انفاسها بطرف اسنانها على شفتها السفلى حتى خرجت بهدير مسموع بدون ان تفارق نظراتها له ، وما هي ألا لحظات صمت عصيبة حتى ارتجفت بلسعة بكامل اطراف جسدها ما ان قبض على كفها الصغيرة بداخل قبضته القوية بلمح البصر ، لينتشلها بعدها عن خصلات شعره بهدوء بدون ان تقاوم وهو يقربها من شفتيه ليقبل ظاهرها بعمق بعث السخونة بخطوط عروقها النابضة توهجت بمحياها باحتراق صامت .
ابعد يدها عن شفتيه بدون ان يفلتها وهو يهمس بخفوت اجش حنون
"هل تشعرين بالوحدة بالغرفة ؟"
صمتت كذلك بدون ان تجيبه وهي تأخذ دور الفتاة الخجولة والوديعة والتي تتلقى اول قبلة بحياتها ، ليرفع بعدها ذراعه عن عينيه وهو يميل برأسه لجانبها ليطالعها بصمت لأول مرة بظلام الليل الذي يشكل ستارة بينهما ويخفي اندلاع المشاعر بنظراتهما ، ليشدد بعدها على يدها وهو يقطع الصمت قائلا بهدوء عميق وهي تفك شفرة كلامه بعينيه الصريحتين اللتين تغمرانها بأمان غريب
"ماذا حدث يا ماسة ؟"
تغضن جبينها بارتباك غزى ملامحها وهي تستوعب سؤاله المباشر بعد عناء ، لتهمس بعدها ببحة صوتها بتحشرج حزين
"لقد انقطع تيار الكهرباء ، وانا لا احب عادةً البقاء بالظلمة لوحدي"
حدق بها (شادي) للحظات وهو يأخذ وقته بتأملها بالظلام وكأنه يتغلغل بحنايا قلبها ويعبث بمستوى نبضاتها ، وعندما شعرت بانهزام يلامس مكامن قوتها حتى انخفضت عينيها بنصف انغلاق وهي تحميهما من غزو نظراته التي دكت حصونها ، قال بعدها بنفس الهدوء وهو يلامس بأصبعه الإبهام خطوط عروقها بباطن كفها وكأنه يطمئنها
"ولماذا الخوف وانا بجانبكِ ؟ لا تخافي انا موجود هنا ولن اترككِ"
عضت على طرف شفتيها بحياء وهي تحاول سحب كفها بممانعة ضعيفة بأول مبادرة منها ، لتشعر بيدها تصدر صوت اصطكاك عظامها ما ان شدد عليها بصورة مبالغة ، وما ان رفعت عينيها الواسعتين بغيوم حبيسة حتى سبقها بالكلام وهو يهمس برقة عذبة
"هل تحتاجين للمساعدة ؟"
ابتلعت (ماسة) ريقها بارتعاش مفاجئ اوقف عقلها عن العمل لوهلة وسمرها عن الحركة وكأنها تتلقى دعوة تسمعها لأول مرة ، لتزم بعدها شفتيها بوجوم وهي تومئ برأسها بنصف اهتزاز وكأنها تخرج من باطن قلبها المحشور بزاوية مظلمة ، ليتنهد (شادي) بابتسامة هادئة وهو يحاول رفع نفسه بعيدا عن المسند حتى يستطيع ترك مجال صغير لها بجانبه .
تجمدت ملامحها ما ان مد ذراعه لها بدعوة واضحة وهو يقول بابتسامة حارة تستطيع استشعارها بذبذبات جسده
"تعالي بجانبي"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بوميض خافت وهي تنتقل بنظرها بين ذراعه الممدودة نحوها ويدها المقيدة بقبضته على صدره ، لترفع يدها الحرة وهي تمسك بذراعه تطلب الامان بالوقوع بشباكه وتدلي بموافقتها على تملكها وتغلب العاطفة على المنطق ، لتفترس الابتسامة ملامحه وهو يلتف بذراعه حول خصرها النحيل مثل الحبال السميكة ، وبلحظة واحدة كان يرفعها للأعلى بخفة الريشة لتنضم له بمكان بالأريكة الوثيرة التي اتسعت لهما وحشرتهما معا .
رفع (شادي) الغطاء نحوها وهو يغطيها حتى مستوى كتفيها والذين احاطهما بذراعه الكبيرة وبيده الاخرى كان يمسك بكفها التي ما تزال حبيسة قبضته ، لترفع بعدها عينيها الشاخصتين واللتين يستطيع رؤيتهما عن قرب بدون ان يحجبهما ظلام الليل ، بينما شعرها المتهور الذي لا يعرف التهذيب تشكل خصلاته ستارة من حولهما وتداعبان ملامحه واعلى صدره ، وهي تتشبه بالقطة السوداء مضيئة العينين ومنفوشة الشعر تطلب الامان والسكينة من صاحبها وملجئ تنتمي له ، ليزفر بعدها انفاسه بحرارة المرجل وهي تشعر بلسعاته من تحت كفها الصغيرة المستقرة على صدره بوداعة .
قالت (ماسة) بعدها وهي تحدق به بتلك العينين الكبيرتين هامسة بخفوت ضعيف
"هل استطيع النوم ؟"
كسى الهدوء ملامحه والبرود سطح قلبه وهو يفهم جيدا مغزى سؤالها والذي غيرت صيغته وهي تطلب الامان الذي تترجى وجوده عنده بتردد خائف ، ليربت بعدها على رأسها بذراعه المحيطة كتفيها وهو يتخلل بخصلاتها ويفك ترابطها المشحون بطاقة متنافرة ، قبل ان يقبل جبينها الابيض بعمق ساخن وهو يتبعها بالهمس بخفوت اجش حامي بدون ان يظهر مشاعره الداخلية التي حرقت فؤاده
"نامي يا صغيرتي ، نامي وانتِ مرتاحة البال ، فلن يصيبكِ شيء ما دام هناك نفس بصدري"
رفرفت بعينيها الواسعتين بمقاومة اخيرة قبل ان تسلم نفسها لمالكها وهي تسمح للنوم برش الغبار على جفنيها الثقيلين وسحبهما لعالمها المظلم والذي اصبح يعبق بالسكينة والامان داخل منزل طفولتها الدافئ ، بينما كان شريكها بالنوم يعانقها بذراعه بقوة يكاد يدخلها بعظام صدره ويده تعتصر كفها الصغيرة التي استكانت وهدئت ، وكل ما يسعى له هو نقل بعض من نيرانه الموقدة بجسدها علها تدفئها وتقضي على برودتها القاتلة ، وبالمقابل تقضي على خوفه بها من كل من حولها ومن نفسه خاصة ، وهو يعلم حق المعرفة بأنه قد كتب على نفسه العذاب بهذه الليلة التي سيفارقه بها النوم والراحة بسبيل سكينتها وراحتها والتي مهما كلفه ثمنها فهو سيدفعها لها وستكون هذه اجمل هدية بحياته .
______________________________
بعد مرور اسبوع......
كانت السيارة تقف امام بوابة المدرسة الكبيرة وهي تضع حزام الحقيبة فوق كتفها لتقول للسائق امامها بعملية جادة اصبحت تتقمصها مؤخرا
"لا تنسى العودة لتقلني على الساعة الثانية ظهراً ، إذا تأخرت عن الموعد عشر دقائق فقط سأركب سيارة اجرة واعود للبيت"
اومأ السائق برأسه بطاعة وهو يقول بتساؤل حذر
"ولكن ألم تكن مغادرتك بالسابق الساعة الواحدة ظهرا ! هل حدث تغيير بمواعيد دوامك ؟"
زفرت (روميساء) انفاسها بضيق من هذا التدخل الغير مباشر والذي سلطه عليها رئيسه ، لتتمالك بعدها نفسها وهي تقول بجمود حازم
"وما مرتبتك انت بحياتي لتتدخل بشؤوني ؟ هل تراني صغيرة او جاهلة لا اعرف تدبير اموري حتى تجري معي هذا التحقيق المزعج ؟ ام اعطتك هذه الوظيفة قيمة عالية بحياتك انستك نفسك ؟"
ردّ عليها السائق بسرعة وهو يلتفت نحوها بارتباك
"لا ليس هذا المقصد يا سيدتي ، لقد كنت اتسائل فقط وكله كان سؤال واحد......"
قاطعته (روميساء) بقوة وهي ترفع كفها علامة الصمت الصارم
"لا اريد سماع اي تبرير منك ، كل ما اريده منك هو الصمت وعدم التدخل بشؤوني ، لذا هلا قدمت لي هذه الخدمة وتوقفت عن إزعاجي بهذه الاسئلة التي لا داعي لها ؟"
اعاد السائق رأسه للأمام وهو يقول بتهذيب شديد
"امركِ يا سيدة روميساء ، كل شيء سيحدث كما تأمرين وتطلبين ، وسأكون عندكِ على الموعد"
اومأت برأسها بشرود طاف على ملامحها الشاحبة وهي تعود لتلوح بكفها ببرود هامسة برسمية
"لا بأس يا سيد كريم ، انت فقط افعل ما اقوله ولن يحدث مشاكل بيننا ، يعني لكي نتلافى الاخطاء مستقبلا ، والآن وداعا ولا تنسى الحضور على الموعد"
خرجت من السيارة وهي تشق طريقها اتجاه بوابة المدرسة المفتوحة والتي يتزاحم الطلاب على دخولها ببداية الفصل الجديد ، لتسير بعدها بينهم بسرعة قبل ان تنفرد بنفسها ما ان وصلت للممر الطويل والذي افترق به كل طالب بطريق حجرته الفصلية .
توقفت بمكانها بتسمر ما ان هتف صوت طفولي باسمها
"معلمة روميساء"
ارتسمت الابتسامة الصافية على محياها وهي تستدير بسرعة للخلف لتقابل الطفل الذي جرى نحوها بحماس ، وما ان وصل لها حتى انحنت من فورها على ركبتيها لتستطيع تلقيه بأحضانها بمحبة غامرة تاقت لها ، ليبتعد بعدها عنها وهو يقول بسرعة بلهاث وبلهفة طفولية وكأنه يخاف من ضياع الفرصة
"اشتقت لكِ كثيرا يا معلمة روميساء ، وقد كنت اعدد واحسب الايام التي تبقت للدوام بلهفة لأستطيع رؤيتكِ من جديد ، وجاء اليوم اخيرا وانتهى الانتظار !"
ضحكت بخفوت متحشرج منعها من الاكتمال بسبب نخزة قلبها الجديدة التي منعت عنها كل انواع السعادة ، لتربت بعدها على رأسه بحنان وهي تقول بابتسامة هادئة يشوبها الحزن الغير مرئي
"وانا اشتقت لكِ كثيرا يا صغيري ، وسعيدة بعودتكم للمدرسة لأشبع عينيّ كل يوم برؤيتكم امامي"
حرك رأسه بشفتين مزمومتين وهو يقول بتذمر يطالب بالاهتمام
"لا انا الذي اشتقتِ له اكثر ، انا الذي تريدين رؤيته اكثر ، انا مختلف عن جميع الطلاب ، صحيح ؟"
تغضنت زاوية ابتسامتها بحنان حفرت بوجنتيها وهي تهمس بمودة حقيقية
"بالطبع انت كذلك ، فمن لدي بالعالم احبه وافضله عن الباقين ! ومن هو الاكثر مشاغبة ويتعلم من اخطاءه ! ومن هو الذي يسمع لكلام الكبار ولا يخالف اوامرهم ! ليس هناك احد آخر يفعل كل هذه الامور غيرك ، لذا انت هو طالبي المتميز ومكانتك لن تتغير مهما حصل"
اتسعت ابتسامته بابتهاج وهو يخفض رأسه قليلا بخجل طفولي بعد ان تلقى الثناء من معلمته ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة بفرح
"وانا ايضا احبكِ يا معلمتي وافضلك عن الجميع لأنكِ اجمل معلمة على الإطلاق"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تتلقى اجمل تعبير سمعته بحياتها من طفل لم تراه اكثر من بهجة متحركة والتي انبعثت بطريق قدرها ، وقد كان هذا اكبر دافع منعها من الانتقال من المدرسة الحالية وتغيير وظيفتها فقط لكي لا تخسر هذه البهجة التي اصبحت تنير حياتها ، وهي تعلم جيدا بأنها قد اصبحت كذلك بحياته واكثر بدون ان تمنعه من تقوية الصلة بينهما ، لذا بأي حق الآن ستستبعد نفسها من حياته وتقصي نفسها بعيدا عنه ؟!
استقامت بمكانها ما ان لمحت الرجل الذي كان يتقدم نحوهما بين ازدحام الطلاب ، وما ان اصبح على بعد مسافة امتار بينهما حتى قالت بخفوت جاد وهي تمسح على رأس الطفل
"اذهب الآن للفصل يا سامي ، وانا سألحق بك بعد دقائق ، ولكن إياك ان تركض بطريق الممر"
اومأ الطفل برأسه بهدوء وهو يسير بسرعة باتجاه الممر المؤدي للفصول ، لتفيق بعدها على الصوت الذي اقترب منها وهو يقول بابتسامة متزنة
"صباح الخير يا معلمة روميساء ، كيف هي احوالك بأول يوم بالفصل الجديد ؟ يبدو بأنكِ مفعمة بالطاقة والحيوية"
تلبدت ملامحها بصمت وهي تنظر له بجمود قبل ان تشدد بيدها على حزام حقيبتها وهي تقول برسمية
"بخير يا سيد يوسف ، وشكرا لك على المجيئ وقطع عملك لإيصال ابنك للمدرسة ، انا اقدر حقا كل تضحياتك التي تفعلها من اجله"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يشعر باختلاف غريب بالأجواء بينهما ، ليعقب بعدها قائلا بابتسامة مرتابة
"هل كل شيء على ما يرام ؟ انتِ تبدين لي غريبة بعض الشيء ! هل هناك من خطب بكِ ؟"
حركت رأسها جانبا وهي تمثل عدم الاهتمام هامسة ببرود
"غريبة ! كيف يعني غريبة ؟ لم افهم مقصدك"
قطب (يوسف) جبينه بتصلب وهو يقول بهجوم مباشر
"انتِ تتكلمين معي برسمية مبالغة ! وهذا بحد ذاته غريب ، هل فعلت ما يضايقك ؟"
عقدت حاجبيها السوداوين بجمود وهي ترفع ذقنها بإيباء قائلة بجدية هادئة ترسم الحدود بينهما
"اسمعني جيدا يا سيد يوسف ، انت على الاغلب قد فهمتني بشكل خاطئ ، فليس يعني بأن هناك معرفة قديمة تربط بيننا تعطيك الاحقية باستغلالها والتدخل بشؤوني الخاصة وحدود مساحتي الشخصية ! لذا رجاءً هذه آخر مرة تتكلم بها معي خارج حدود علاقة عملي ، فأنا هنا معلمة ابنك بالمدرسة ومربيته ولن اكون اكثر من هذا ، فقد تجاوزت الامر بالفعل ، لقد تجاوزته اكثر مما ينبغي !"
بانت الصدمة على تقاطيع ملامحه وهو يحاول استيعاب كلامها الفظ الغير مراعي للمشاعر ، ليقول بعدها بابتسامة مرتبكة يحاول تفهم وضعها
"ماذا حدث معكِ يا روميساء ؟ هل كل شيء بخير ! هل هناك مشكلة لا تستطيعين البوح بها ؟ فقط اخبريني بما يعكر مزاجكِ وانا بالمقابل استطيع تفهمك......"
قاطعته (روميساء) بهدوء وهي ترفع يدها بطريقتها المعروفة عندما تنهي النقاش مع الطرف الآخر
"عذرا يا سيد يوسف ! ولكنك بمحادثتك تأخرني على اداء عملي ، وانا لدي مهام مكتبية عليّ انجازها قبل التوجه لفصولي الدراسية ، لذا اعذرني الآن"
تحركت قبل سماع اجابته وهي تستدير امام عينيه المترقبتين لتكمل سيرها باتجاه الممر بخطوات هادئة بثبات ، بدون ان تعطيه الفرصة للفهم او حتى للتفسير المنطقي جراء موقفها المتناقض ، بينما كانت (روميساء) تكمل طريقها بخطوات تخاذلت بخيبة وهي تهمس بخفوت مجروح حد النزيف
"لن اسامحكم على هذا ، لن اسامح احد منكم !"
اكملت طريقها بقلب منتهك وعقل تلاعب به الجميع وحياة علمتها اقسى الدروس على الإطلاق حتى لم تعد تقوى على مجاراة سيرها .
_______________________________
كانت تقطع الخضار انصاف من بطاطا وبصل وفجل وبندورة وهي تلقي بهم بالقدر العميق ، لتتوقف بعدها عن التقطيع ما ان خدشت نصل السكين اظفرها ، ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تلعق بلسانها طرف اصبعها لتوقف النزيف الذي سببته لنفسها ، وما ان خفف من ألمها حتى اخفضت اصبعها وهي تنظر لأثر الخدش الطفيف الذي تركه السكين عند جانب اظفرها المعقوف ، لتضم بعدها اصابعها بقبضة واحدة حتى ابيضت مفاصلها وهي تهمس باستياء ساخط من وضعها الحالي
"هذه نهاية الزواج يا ماسة ، المطبخ هو مكان المرأة ، سحقا لقائل تلك العبارات ! وسحقا لجنس الرجال خاصة !"
تنهدت بيأس وهي تخفض قبضتها بصمت لتتأمل المطبخ من حولها بوهن حقيقي بان على محياها ، لتلوح بعدها بالسكين بيدها وهي تتكلم مع الجدران والخضار بمحيطها الجديد الذي تحاكت معه مدة اسبوع كامل
"انظري لتلك الحالة يا ماسة ، لقد تحولتِ من مجرمة خطيرة بيد قيس لطاهية فاشلة بيد زوجها ! ولكن ألم اكن كذلك بحياة قيس طاهية ومجرمة وخادمة ؟ ألم اكن تلك الدمية الخشبية مسلوبة الإرادة والقوة بحياة الجميع ؟"
زفرت (ماسة) انفاسها بقنوط من تلك الافكار الغبية التي بدأت تقتحم عقلها وترهق نفسها ، لتفيق بعدها على الصوت الرجولي الذي تآلفت معه مؤخرا وهو يقول بمراوغة واضحة
"بدل الهذيان مع نفسكِ مثل المجانين عليكِ بالعمل بشكل اسرع لكي نستطيع اللحاق بموعد الغداء ، ألم تتعلمي بعد كل هذه المدة بالعمل بالمطبخ بعض آداب المائدة والدقة بمواعيدها ؟"
عبست ملامحها بضيق وهي ترمقه بطرف حدقتيها بعد ان وصل بالقرب من طاولتها ، لتهمس بعدها بشبه ابتسامة بنبرة ناقمة
"يبدو بأنني بطيئة بالتعلم ، لذا لابد لك بالتفكير بجدية بجلب خادمة تخدمك غيري ، هذا الحل الافضل للجميع"
دس يديه بجيبي بنطاله وهو يميل برأسه ناحيتها قائلا بهدوء جاد
"ولماذا افعلها ولدي هنا افضل طاهية تعمل على خدمتي ؟ هذا لا يصح بحق زوجتي !"
التفتت بوجهها نحوه برياح عصفت على محياها وهي تهمس بخفوت مغتاظ
"قُل كلمة طاهية مجددا وسأرسم خريطة على ملامحك الوسيمة ، يا متكبر !"
ظهرت اطراف اسنانه بضحك صامت وهو يستقيم بمكانه قائلا بتبجح
"لقد قلتِ بنفسكِ عن ملامحي بأنها وسيمة ! وهذا اعتراف بحد ذاته يزرع الغرور بنفسي ويوهبني السعادة الابدية"
تكورت شفتيها بامتعاض وهي تهمس من بينهما بتملق
"انظروا لهذا التعالي ! من يسمعك لا يصدق بأن هناك مئات الفتيات بسجل حياتك كانوا يسمعونك موشحات من كلمات الغزل والغرام ! ولن افاجئ عندما اكتشف بأن هناك من رمت بنفسها عليك وألصقت بك تهمة اغتصابها ، يا لها من قصة مثيرة للاهتمام والجدل"
عقد حاجبيه بهدوء وهو يمسك بيده ظهر الكرسي ليميل على جذعه قرب رأسها قائلا بهدوء عميق عبث بوصلات عقلها
"كلامكِ صحيح ولن انكر حقيقته ، ولكن سماع هذا الغزل منكِ تحديدا يكون مختلف تماما عن سماعه من فتاة اخرى معجبة ، هكذا تكون المقارنة غير منصفة ! وخاصة عندما تقارنين الألماس الحقيقي بمجوهرات مزيفة ، هكذا تكون النتيجة"
انفرجت شفتيها بانشداه وهي تراقبه بافتتان تغلب على المنطق بعقلها وغمرها بمشاعر اغرقت مركبها ، ليقاطع افكارها المجنونة صوته الذي اصبح بقرب اذنها وهو يهمس بخفوت ماكر
"ماذا بكِ ؟ هل تحتاجين لإثبات فعلي على كلامي ؟"
ارتفع حاجبيها باستيعاب متأخر وهي تلتفت بوجهها باحمرار تشرب ببشرتها قبل ان تهمس بنشيج مضطرب
"لا يهمني كل ما تقول ، ويمكنك ان تسخر كما تشاء ، فقط اتركني انهي عملي لكي لا نتأخر على غدائك"
انحرف بنظراته سنتمترات حتى وصل للسكين بيدها والتي كانت تشدد عليها بأصابع خرقاء واضحة على وشك فقدان انضباطها ، لينتصب بعدها بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية بثقة
"هل تحتاجين للمساعدة بالعمل ؟"
رفعت رأسها نحوه بعد ان غاب الخجل عنها وهي تفكر بأنها قد سمعت تلك العبارة من قبل عندما اصبح ملجئها الوحيد والذي احتمت به بلحظة ضعف خائنة ، لتنفض رأسها بسرعة بقسوة وهي تقول بابتسامة مرتابة
"هل انت جاد بعرضك ؟ ام تحاول التشمت بوضعي !"
حرك (شادي) كتفيه باستخفاف وهو يقول بابتسامة ساخرة بمرح
"هل هناك خلل بعقلك يا ماسة ؟ لقد سألت لأنني اكتشفت للتو بأنكِ غير متزنة عقليا ، ألم تكوني تشكين دائما بأنني لا اساعدكِ واعذبكِ بحجة خدمتي ؟ وعندما اعرض عليكِ المساعدة تبدأين بالسخرية والاستهزاء وكأنكِ تريدين الفوز والربح ولا تعلمين الطريق لذلك !"
تبرمت شفتيها بعبوس صامت وهي تهمس بصيغة المذنب البريء
"ولماذا قد امانع مساعدتك ؟ هذا قرارك انت ، وايضا قد يوفر عليّ الجهد والوقت بالعمل على خدمتك وارضائك"
اومأ برأسه بشبه ابتسامة وهو يفهم انقلابات شخصيتها جيدا والتي تظهرها واضحة بشفافية رقيقة ترهق مشاعره بطريقة لم يعهدها منه ، ليجلس بعدها على الكرسي المجاور لها قبل ان يلقي نظرة على محتويات القدر وهو يقول باستهزاء واضح
"يبدو بأنكِ تفتقرين لأصول الادب والتهذيب بالتعامل مع الخضار ، بماذا كنتِ تفكرين وانتِ تقطعين الخضار ؟"
حدقت بالقدر امامها وهي تلمح قطع الخضار الكبيرة والغير متساوية متراكمة فوق بعضها مثل حصوات البحر ، لتعود بعدها بالنظر له بابتسامة طريفة وهي تهمس ببرود ناقم
"لم اكن افكر بسواك"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهو يمد يده لها قائلا بابتسامة جانبية توازي ابتسامتها برودا
"لا بأس بذلك ، فأنا سأعطيكِ اليوم دروس بأصول الطهو الصحيح والتي ستكون عن تقطيع الخضراوات قبل ادخالها بالطبخ"
ادارت (ماسة) عينيها بملل وهي تسلمه السكين بيده بصمت ، ليلمح عندها بعيون صقرية الخدوش الصغيرة التي ارتسمت على اصابعها البيضاء النحيلة ، وقبل ان تسحب يدها كان يقيدها بأصابع يده القوية مع السكين بقبضة واحدة ، وما ان نظرت له بحيرة حتى قال بهدوء خشن وهو يتحسس برفق على مفاصل اصابعها
"هل كل هذه الخدوش من السكين ؟ هل انتِ معتوهة تماما ؟"
سقط فكها بذهول عند الشق الثاني من كلامه والذي سبب لها كل الغضب بحمم بركانية بصدرها ، لتنزع كفها بسرعة عن قبضته وهي تقول بغضب مكتوم
"هذا ليس من شأنك ، انشغل بأمورك ولا تكترث لي ، فأنا سأكون بأفضل حال بعيدا عنك"
زفر انفاسه بتهدج وهو يضع لوح التقطيع امامه ليمسك بعدها بالسكين بيد وقطعة الخضار بيده الاخرى قبل ان يبدأ بتقطيعها بانتظام شديد وتركيز بما يفعله ، بينما كانت (ماسة) قد بدأت تنجذب له وهي تراقب طريقة التقطيع الاحترافية بسرعة قياسية وبإتقان واضح اظهرت الفرق الشاسع بينهما ، لتتجهم بعدها ملامحها وهي تشعر بدونية واحباط غير معروفان يغمران صدرها بطاقة سلبية ، وهي تشعر لأول مرة بمدى سوئها الفعلي بكل شيء تفعله بحياتها !
اشاحت بوجهها بشحوب تحجب الصورة عنها وهي تشعر بصوت التقطيع ينخر اذنها بأمواج عقلها التي ازدحمت بالأفكار وهي تتسابق بذهنها بشراسة ، لتتداخل ذكريات الماضي وتمتزج بمخيلتها وصوت التقطيع يعلق بأذنها برنين صاخب لينقلها لحدث بعيد بمكان آخر ، كانت آنذاك تجلس على ارضية المطبخ ورأسها ترتفع للأعلى بعينين كبيرتين وسمعها المرهف يتتبع صوت تقطيع السكين فوقها وهي تناشد الجالسة بكرسي حول الطاولة تطالب بالاهتمام وتحاول بشتى الطرق جذب نظرها لها ، ولكنها لم تكن تسمع ندائها الصامت الغير منطوق وهي لا يظهر منها سوى شعرها الاسود الطويل المعقود بذيل حصان مهذب ، وكل ما يلفت انتباهها هو صوت التقطيع المنتظم باستخدام اداة حادة لتصدر كل هذا الصخب فقط من اجل تحضير وليمة الغداء قبل وصول والدتهما من العمل ، وكلما حاولت الاقتراب منها او امسكت بجزء من ملابسها تعود لتنهر بها بصوت خفيض بصرامة قاطعة
"لا تجلسي هنا يا ماسة ، ولا تقتربي مني كثيرا ، لكي لا يصيبكِ مكروه ، اجلسي بعيدا حتى ينتهي تجهيز سفرة الطعام ، وكلما كنتِ مطيعة واكثر تهذيبا نستطيع الانتهاء بسرعة اكبر"
لكنها مع كل تلك التحذيرات كانت لا تبارح مكانها وهي تكور نفسها بجوار كرسي شقيقتها واحيانا تختبئ تحت طاولة السفرة لكي لا تطلب منها الابتعاد عنها ، فإذا لم تسمع اصوات التقطيع بأذنيها وترى صورة شقيقتها بعينيها لن تستطيع الشعور بالأمان وسيبقى الخوف رفيقها الدائم والرعب يحاوط اجزائها ، فهي لم تتغير عن تلك الطفلة وما تزال تبحث عن الامان بجوار الجميع والمسكن الدافئ بداخلهم حتى اصبح داخلها ضعيف وقوتها تتداعى مع مرور الوقت والاحداث .
افاقت من دوامة الذكريات السحيقة على صوت اجش عميق بجوار اذنها
"ماسة ! ماسة اين شردتِ بعيدا عني ؟ هل يصح ان تفكري بشيء آخر وانا بجوارك ؟"
ارتجفت (ماسة) لا شعوريا حتى احمرت اذنيها بحساسية مفرطة غزت محياها ، لتخفض بعدها نصف جفنيها للأسفل بضعف وهي تهمس بخفوت حزين
"اعتذر ، لقد شردت قليلا"
غامت ملامحه بوجوم اختفى معها المرح وهو يحاوط جانب وجهها بيده ليقول بعدها بخفوت جاد بقلق
"ماذا هناك يا ماسة ؟ ما سبب كل هذا الذبول والحزن ؟ هل كل شيء على ما يرام ! هل تعانين من مشكلة ؟"
التفتت نحوه بهدوء وهي تحدق به للحظات بأمواج بحارها المتقلبة بين حزن وانكسار ، لتمسك بعدها بيده على خدها بأصابعها الرقيقة لثواني قبل ان تنزعها بعيدا عنها بصمت ، نهضت بعدها عن الكرسي امام ناظريه وهي تهمس بخفوت غير معبر
"انا سأذهب للحمام لدقائق ، وبعدها نكمل عملنا بالمطبخ"
تحركت بعدها خارج المطبخ بهدوء بدون ان تنتظر تعليقه على كلامها ، وما ان اختفت عن نظره حتى ادار رأسه للأمام وهو يحك ذقنه بطرف نصل السكين بدون ان ينتبه بأنها قد جرحته بالفعل ، ليخفض بعدها السكين عن ذقنه بعدم اهتمام وهو يكمل عمله بالتقطيع بآلية يحسد عليها وكأنه لا هم او ضيق ينغص عليه بحياته او يعكر مزاجه المصنوع من قطعة جليد .
_______________________________
كانت تسير بين المكاتب الصغيرة التي تفصل بينها جدران من الزجاج العازل ، وهي تقف امام مكتب محدد اعتادت على الولوج له بكل اعمالها التي ارتبطت به منذ فترة ليست بطويلة ، لينظر لها صاحب الابتسامة المتلاعبة وهو يسترخي على الكرسي المتحرك والذي يتعمد الدوران به بحركات مستفزة ، وما ان استقرت عينيه العسليتين على وجهها العابس حتى قال بابتسامة جانبية بمغزى
"صباح الخير يا عاملة ، هل هناك اوامر عليا من رئيسك تودين ألقاءها عليّ ؟ فأنا اعلم جيدا بأن وجهك لا يجلب لي الخير ! وهذا واضح منذ اللحظة التي رأيتكِ بها لأول مرة بحياتي"
تغضنت ملامحها باحمرار الغضب الممتزج بالخزي وهو لا يفوت اي فرصة للتنقيص من قدرها وتذكيرها بذلك اليوم المشؤوم وكأن عملها السيء بالحياة يطاردها ، لتنفخ بسرعة انفاسها بضيق وهي تلوح برزمة اوراق بيدها قائلة برسمية بصوت مشدود
"لقد احضرت المنشورات الخاصة من المطبعة لتوصلها للنيابة العامة ، ويقول والدك ألا تتأخر عن تسليمها اكثر من الموعد المحدد"
ارتفع حاجبيه باندهاش بالغ وهو يسند ذقنه فوق قبضته قائلا بأسى تمثيلي
"انتِ من متى تعرفيني يا رجاء ؟ هل تعرفيني بأني شخص يتأخر عن مواعيد عمله ؟ هيا اجيبِ لا تخافي لن اقطع عنقك"
ادارت عينيها بعيدا بملل وهي تخفض يدها قائلة بتفكير خافت
"لا اعلم ، فأنا لست متفرغة للتفكير بهذه الامور خارج نطاق العمل"
حرك (مازن) رأسه بيأس وهو يقول بابتسامة مائلة بسخرية
"يبدو بأن هناك من اصبحت تتشبه برئيسها ، هل جعل منكِ والدي نسخة عنه ؟"
نظرت له بعينين غير مازحتين وهي تهمس بغيظ مكبوت
"ليس هناك ما يدعو للسخرية يا سيد مازن !"
اتسعت حدقتيه العسليتين بعبث وهو يلوح بيده بالهواء قائلا ببرود
"حسنا يا متزمتة ، ولكن عليكِ ان تعلمي بأنني لن اترككِ وشأنكِ قبل ان تجيبِ على سؤالي السابق ، هل ترينني حقا شخص لا يلتزم بمواعيد عمله ؟"
زفرت انفاسها برضوخ وهي تقول باستسلام راضية بمصيرها
"انت اسوء من يتقيد بمواعيد عمله"
ارتخت طرف ابتسامته وهو يعتدل بجلوسه باستقامة قبل ان يقول بانبهار مزيف
"رائع ! الحقيقة يعجبني بالإنسان صراحته وعدم الكذب مهما ساءت الظروف ، واقدر صراحتك هذه واهنئك عليها"
زمت شفتيها بصمت وهي تتقدم عدة خطوات امامه قبل ان تضع الاوراق فوق سطح المكتب بترتيب ، لتقول بعدها بابتسامة عملية يشوبها بعض اللطف
"والآن اعذرني ، سأذهب لأتابع عملي"
قاطع انسحابها وهو يقول بهدوء جاد تغيرت نبرة صوته
"انتظري مكانكِ يا رجاء"
تسمرت (رجاء) بمكانها وهي تستدير نحوه بملامح حائرة حتى تلاقت النظرات بينهما بصمت مريب ، ليتقدم بعدها بالكرسي للأمام وهو يريح مرفقيه فوق حافة المكتب قائلا بابتسامة غامضة
"اقتربي مني قليلا"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تحرك رأسها بالنفي بعنف هامسة بتوجس
"ماذا تريد مني يا منحرف ؟ لقد كنت اعلم بأنك زير نساء ولكن لم اكن اتوقع ان تطلب مني مثل هذا الطلب ! لن تنجو من والدك عندما يعلم......"
قاطعها (مازن) بنظرات باردة وهو يقول بعبوس جاد
"هلا اعرتني صمتكِ واخرجتِ ابي من حساباتك ؟ لقد طلبت منكِ ان تقتربي مني لأخبركِ بأمر سيكون بيننا فقط ولم اطلب منكِ ان تقبليني ! ولكن يبدو بأن طاقة الخطر والحيطة عندكِ عالية ، أليس كذلك يا جهاز إنذار ابي ؟"
امتعضت ملامحها بموجة خزي اكتسحت محياها وهي تستصغر نفسها امامه بغريزتها الاندفاعية ، لتكتف بعدها ذراعيها باضطراب وهي تقول بتركيز مشتت
"حسنا ، هيا اخبرني بما تريد قوله ، انا اسمعك"
تنفس باقتضاب وهو يحرك اصبعه بإشارة واضحة للاقتراب قائلا بشبه ابتسامة
"لا اريد ان يصل لمسامع احد ما اريد قوله لكِ ، لذلك علينا ان نتخذ السرية بهذا الامر ، ألا إذا كنت تشعر بالخوف ايها الارنب الجبان !"
قضمت على طرف شفتيها بغيظ وهي تشعر بضيق شديد بكل مرة تسمع بها ذلك اللقب المزعج والذي اصبح ينعتها به بكثير من الاحيان ، لتقترب بعدها خطوتين حذرتين قبل ان تستند بيديها على سطح المكتب وهو تنحني امامه بتردد هامسة بخفوت محتقن
"هيا ، انا اسمعك ، تفضل بالكلام"
اتسعت ابتسامته بالتواء متسلي وهو يقترب من جانب وجهها ليهمس بأذنها بخفوت جاد
"اعتقد بأنه عليكِ تفقد ترتيب ازرار قميصك ، فيبدو بأنكِ كنتِ على عجلة عندما كنتِ ترتدين القميص او ان عقلك لم يكن معكِ بذلك الوقت !"
تغضن جبينها بشحوب وهي تخفض نظرها تلقائيا لقميصها الاحمر وعينيها تتبعان ترتيب الازرار والتي اخذت بالتعرج بطريقها للأعلى بعدم مساواة ، لتعود بالنظر له بذهول صادم بدأ بغزو ملامحها والتلاعب بعقلها الذي فقد انضباطه المعهود ، ليومئ بعدها برأسه يؤكد حقيقة ما تفكر به حتى انتصبت بمكانها بهلع وهي تعدل بسرعة ازرار قميصها بأصابع متعثرة تخدرت بتوتر مفرط .
تجمدت بمكانها وهي ترفع رأسها بملامح مصدومة ما ان اخترقت ضحكته الساخرة غشاء عقلها وحرج موقفها ، لتأخذ بعدها بالتأمل بملامحه الرجولية الخشنة وبعينيه العسليتين العابثتين وبشفتيه الضاحكتين بسخرية والمرسومتين بافتراس فكي قرش يستطيع ان يلفت نظر الجنس الناعم له بدون ان يبذل مجهود يذكر ، وهذا ما يحدث بالفعل من انجذاب اغلب العاملات له بدار النشر وبطرقهن الرخيصة المبتذلة بلفت انتباهه وإيقاعه بشباك حبهن ، ولكن للآن لم تفلح ولا واحدة منهن بمسعاها وبإيصال الرسالة التي يبتغونها بامتهان شديد ، ولن تنسى نظرات بعضهن نحوها باستنقاص وازدراء واضح بسبب تفكيرهن المنحط وظنونهن حولها فقط لأنها مقربة من الرئيس وتتعامل كثيرا مع ابنه ومعشوق الفتيات ، وهذا كان السبب الوحيد بجعلها لا تشكل صداقات مع احد بالدار وهي تنفرد لوحدها بدون ان تتجرأ على الاقتراب من اي واحدة منهن .
تصلبت ملامحها وهي تنهي ترتيب ازرار القميص الكلاسيكي والذي قامت بارتدائه بعشوائية قبل قدومها للعمل ، وها هي تتعرض للإهانة والسخرية بسبب غبائها الذي لا يتوقف عن ابهارها بكل ايامها بالعمل مع ذاك المتحذلق .
ارتبكت ملامحها ما ان انتبهت لتوقف ضحكه وهو يتحول لابتسام صامت بخمود وعينيه لا تفارقان التحديق بها ، لتقول بسرعة وهي تصلب جسدها باستعداد للانسحاب
"حسنا ، سأذهب الآن ، وشكرا لك على رسالتك"
ما ان كانت (رجاء) على وشك الرحيل حتى قاطع سيرها مجددا وهو يهتف بقوة
"قبل ان تذهبي لإكمال عملك ، اريد منكِ ان تحضري لي كوب قهوة من الكافتيريا المقابل الدار ، وتذكري بأنني لا اشربها بسكر وافضلها برغوة بسيطة بلون داكن"
التفتت بنصف وجهها نحوه وهي تهمس باستياء عابس
"افعل هذا بنفسك ، انا لست خادمة عندك"
ارجع ظهره للخلف باسترخاء وهو يقول بابتسامة واثقة بنوايا دنيئة
"إذا لم تحضري لي القهوة فأنا بنفسي سأفصح بسركِ واقول عن احداث اول لقاء جرى بيننا والذي دار عن كيفية التخلص من الجثة بدون انكشاف امركما وتحمل التهمة ، ولولا لطف الله ورحمته عليّ لكنت الآن تحت التراب اتلفظ انفاسي الاخيرة بسبب ارنب جبان صغير....."
قاطعته (رجاء) باندفاع وهي تلوح بيديها بجزع تمكن منها
"لا تفعل ارجوك ، انا سأحضر لك القهوة التي تريدها ، فقط توقف عن تهديدي وابتزازي بهذا الامر بكل دقيقة وثانية ، لقد جعلت حياتي الاسوء على الاطلاق !"
غادرت بسرعة من امام مكتبه وهو يصرخ من خلفها حتى لفت انظار اصحاب المكاتب الاخرى
"لا تنسي اريدها بدون سكر ، فإذا لم تكن كما اريد سأرسلكِ مرة اخرى لجلب غيرها"
تبسمت شفتيه بافتراس مشبع بالتسلية بدون ان يأبه بالنظرات التي تسلطت نحو مكتبه بين استنكار وغيرة ونفور وكل ما يستطيع اشعال المكان حرب بالمشاعر حطمت عداد العمل .
__________________________
كانت مستلقية على الاريكة وهي تعبث بالهاتف بين يديها وتتنقل بصفحة الوظائف الشاغرة علها تجد عمل يناسب خبراتها ومؤهلاتها تستطيع الثبات عليه مؤقتا ، لتقف بعدها على إعلان لوظيفة مذيعة محلية وهي تطلب خبرات شهادة الثانوية فقط ، لتتسع ابتسامتها بانتصار تغلب على صلابة ملامحها وهي على وشك تسجيل الطلب ، قبل ان تشعر بالهاتف يسحب منها بلمح البصر بدون ان تدرك ، وما ان رفعت عينيها عاليا بمعالم ارتسمت بغضب مشدوه حتى قابلت الوجه البارد فوقها والهاتف محجوز بداخل قبضة يده .
تسارعت انفاسها للحظات وهي تنتفض جالسة على طرف الاريكة قائلة بهجوم ضاري
"ما لذي تفعله بالضبط ؟ ولماذا اخذت هاتفي بهذه الطريقة ؟ من سمح لك !"
اخفض يده بالهاتف وهو يقول بابتسامة جادة
"انا من سمح بذلك ، ولن تستطيعي استخدام الهاتف قبل ان تنجزي باقي اعمالك الموكلة لكِ"
كزت على اسنانها بحالة غضب تدفق بعينيها الزرقاوين بأمواج هادرة وهي تهمس من بينهما بصوت ثائر
"من اعطاك السلطة لتتحكم بي بهذا الشكل ! هل تراني غبية لهذه الدرجة حتى اسير كما تهوى نفسك ؟ ام انك تشعر بالملل لدرجة قررت بها السطو على حياتي !"
ارتفع حاجبيه بعدم اهتمام وهو يلوح بالهاتف بيده قائلا بصوت حاسم بحزم
"اصرخي وابكي كما تشائين فلن يسمعك احد سوى هذه الجدران من حولك ، ولكن هذا الهاتف لن يعاد لكِ قبل ان تنجزي ما اخبرتكِ عنه ، ولا تضطريني لإعادة الكلام مرتين لكي لا تصعبي على نفسكِ حياتك"
زفرت (ماسة) انفاسها بضيق وهي تدس خصلاتها خلف اذنها بعنف لتهمس بعدها بنبرة باردة
"لقد غسلت الاطباق ومسحت رخام المطبخ ، ماذا تريد مني ان افعل ايضا ؟ هل اتسلق جدران المنزل مثل العنكبوت وانظف لك كل حجر بها ؟"
اومأ (شادي) برأسه ببساطة وهو يقول بلغة مهنية وكأنه يتكلم مع عاملة لديه
"اجل هذا ما اريده بالضبط ، ولكن بدون تسلق الجدران يكفي ان تمسحي ما تصل له يديك بالمنشفة وبمواد التنظيف حتى تبرق من اللمعان ، فقد تراكم الغبار بالمنزل وبالزوايا حتى لمحت بعض شبكات العنكبوت واصبح من الضروري تعزيل المكان ، لكي لا تصادر لجنة الصحة والوباء منزلنا ، هل عرفتي ما عليكِ فعله ؟"
حدقت به بعينين متسعتين بعواصف وهي تهمس بعبوس بائس
"هل انت جاد بكلامك ؟"
احتدت ملامحه وهو يميل بجذعه نحوها حتى اقترب من مستوى وجهها وهو يقول امامه بابتسامة واثقة بدون اي مجال للشك
"وهل تريدين ان اريكِ وجهي الحقيقي لتصدقي ؟ ولكني انبهك لن يعجبكِ ما سيحدث عندما افعلها !"
انفرجت شفتيها المشدوهتين بحرارة عالية وهي تنتفض واقفة حتى دفعته للاستقامة بسرعة ، لتقول بعدها بتمرد وهي تكتف ذراعيها بجمود
"لا تحلم ان انظف شيء من هذا المنزل ! فهذا المنزل ليس منزلي ، ومدة اقامتي به ستكون مهلة ايام فقط ، لذا إذا كنت تريد ان تبدأ بحملة التنظيف وأياً كان افعلها بنفسك ، وانا لا شأن لي بهذا المنزل وحتى لو كانت تسكن به العناكب والفئران ، والآن هلا اعدت لي هاتفي ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يلتقط كأس ماء من الطاولة الصغيرة ليرفع الهاتف وهو يمسكه بأطراف اصابعه فوق الكأس ، ليقول بعدها امام عينيها الشاخصتين بتهديد واضح النوايا
"إذا كنتِ ستعاندين هكذا ، فعليكِ نسيان امر هاتفكِ تماما ، ويمكنكِ توديعه من هذه اللحظة فأنا لا امزح بمثل هذه الامور !"
صرخت (ماسة) بسرعة وهي تلوح بيديها بذعر وعينيها لا تفارقان الهاتف المسكين
"لا تفعل ارجوك ، لقد اشتريت هذا الهاتف حديثا ولم يخدم معي سوى شهرين ! ولا امتلك سعر هاتف غيره ، كيف سأستطيع التفريط به ؟"
اعتلت ملامحه ابتسامة متسلية وهو يشعر برغبة غامرة بالضحك من تفكيرها الاناني الذي لم يحسب سوى تكلفة شراء هاتف آخر ، ليلوح بعدها بالهاتف فوق الكأس المغمور بالماء وهو يردف قائلا بتشدق
"هل هذا كل ما خطر ببالك ؟ حقا تملكين عقل روبوت ! ولكني مع ذلك لا استطيع التفريط بكِ يا زوجتي الجشعة"
نفضت ذراعيها للأسفل بحركة عنيفة وهي تقول باستياء عابس
"كل هذا بسببك انت لأنك كسرت هاتفي القديم ، والآن تريد رمي هاتفي الجديد بالماء ! هل تحب فعل كل شيء يغيظني ؟"
تلبدت ملامحه بصمت وهو يمسح المرح عنه ليقرب الهاتف من كأس الماء وهو يقول بعدم تراجع
"يبدو بأنكِ قد اخترتِ بأي جانب تريدين ان تكوني ، والآن ودعي هاتفك الجديد والذي لن تستطيعي شراء غيره"
هجمت عليه بسرعة وهي تتشبث بذراعه قائلة بابتسامة بريئة بخوف
"لا ! لا تفعل ! انا موافقة على فعل كل شيء تمليه عليّ ، ولكن اترك هاتفي وشأنه ، فأنا ما ازال احتاج إليه"
التوت ابتسامته بانتشاء وهو يخفض كأس الماء ليعيدها فوق سطح الطاولة ، وما ان عاد بالنظر لها حتى سحبت يديها عن ذراعه ببطء وهي تشيح بوجهها قبل ان تهمس بقهر صامت
"ماذا تريد مني ان افعل ؟"
حرك (شادي) رأسه بعيدا عنها وهو يقول بابتسامة غامضة
"انتظري هنا قليلا"
التفتت نحوه بسرعة وهي تراه يغادر اتجاه المطبخ القريب ، ليغيب عنها للحظات قبل ان يعود وهو يحمل بيديه دلو ماء كبير ومعها مواد التنظيف الاخرى ، وما ان وقف امامها حتى وضع كل ما بيديه ارضا وكأنه يفرغ نفسه من الحمولة لينقلها لها ، قال بعدها وهو يشير بيده لأدوات التنظيف امامها بصرامة رئيس عملها
"هذه كل الادوات التي ستحتاجين لها بتنظيف المنزل وتعاونك بهذه المهمة ، ولن تستطيعي النفاذ من هذه المهمة قبل ان اتأكد بنفسي بأن كل شيء يلمع ويبرق من النظافة ، فأنا سأجري تقييم شامل لعملكِ ما ان تنتهين من تنظيف كل شيء ، لذا ابذلي قصارى جهدكِ بالعمل لكي تحاولي تلافي الاخطاء والابتعاد عن المتاعب ، هل فهمتي ؟"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تهمس ببؤس
"لا اصدق ما اسمعه ، لو كنت خادمة عندك لما فعلت ما تفعله معي !"
حرك رأسه ببساطة وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"لو كنتِ خادمة عندي لما عاملتك بصبر هكذا وبأسلوب لطيف مقابل تصرفاتك قليلة الادب وعديمة التهذيب ! لذا توقفي عن الثرثرة وباشري بالعمل"
عبست ملامحها وهي تقابله بنظرات قاسية قبل ان تهمس بخفوت مشتد مسلوب الإرادة
"ومتى ستعيد لي هاتفي ؟"
وضع يده على جيب بنطاله مكان الهاتف وهو يقول بابتسامة عميقة
"عندما تنتهين من التنظيف واقيم عملكِ عندها سأسلم لكِ هاتفك ، ولكن قبل ذلك لن تحصلي عليه حتى اتأكد من إنجازكِ للعمل على اكمل وجه ، هكذا سيكون الاتفاق"
تأففت (ماسة) بغضب وهي تهمس بكلمة واحدة باستنكار
"غير عادل"
ادار رأسه بعدم اهتمام وهو يستدير بكامل جسده ليقول بعدها بصرامة قاطعة بدون اي رحمة
"ليس لدي شيء اضيفه لكِ ، وبهذه الاثناء سأكون بغرفة النوم اعمل على الحاسب ، سأترككِ لثلاث ساعات تعملين بها على تعزيل المكان ، واعتقد بأنه وقت كافي لتنهي عملكِ به ، لذا حظا موفقا بالعمل"
تغضنت تقاسيمها بجمود وهي تراه يغادر اتجاه الغرفة ببساطة بعد ان انتهى من ألقاء اوامره بدور القائد ، وما ان اختفى عن نظرها خلف باب الغرفة حتى ضربت دلو الماء بقدمها وهي تهمس بانفعال مكبوت
"سحقا لك من متآمر ، وسحقا لحماقتي !"
عضت على طرف شفتيها بعصبية بالغة وهي تدور بنظرها برواق المنزل الفارغ ، لتمسك بعدها خصرها بيديها بتحفز وهي تهمس بعبوس منذر بالخطر
"سأجعلك تندم على هذا ، ستندم اشد الندم !"
_______________________________
بعد مرور ثلاث ساعات وبضعة دقائق كان يخرج من الغرفة وهو يستعد لرؤية الاسوء والنقيض عن كل توقعاته ، ولم يخيب ظنه بها كالعادة وهو يتسمر بمكانه بمنتصف الرواق وعينيه تتنقلان ببرود بالمكان الذي من المفترض ان يبرق بلمعان ليحدث العكس ويختفي اللمعان خلف بركان ثار وعاث بالأرض فسادا ، كان المكان بحالة فوضى عارمة مختلفة عن اي فوضى فقد دهنت الجدران بألوان مائية مريعة والارضية غارقة بماء غزير وهي تخرج فقاقيع مسحوق الغسيل المسكوب عليها ، وبعض النفايات وقشور الطعام المتعفنة ملقاة بزوايا المكان وفوق الارائك وعلى الطاولة المستديرة ، ليصل للنافذة الوحيدة بالمكان والتي لم تسلم منها وهي تسيل على جوانب زجاجها قطرات من الزيت والكاز النافذ للرائحة ، وكأنه قد دخل للتو لمقلب نفايات كبير وكريه الرائحة ولا يطاق السكن به !
زفر (شادي) انفاسه بغضب ثار وتوسع بكامل انحاء جسده ليعود لعقله وهو يستعيد إدراكه ، ليصرخ بلحظة بكلمة واحدة انطلقت من بين ألسنة اللهب
"ماسة !"
خرجت المسبب الرئيسي بكل هذه المصائب من خلف الاريكة وهي تتقدم بخطواتها بثقة تترك بصمات فوق الارضية المبتلة بدون ان تهاب شيء ، وما ان وقفت بالقرب منه حتى هزت رأسها بإشارة للخلف وهي تلوح بيديها باستعراض وكأنها تقدم عرض توضيحي هامسة بتباهي
"ما رأيك بعملية التنظيف التي انجزتها بالمنزل ؟ لقد اصبح المكان يبرق ويلمع كما تريد تماما ، ألا استحق الثناء على عملي ؟"
تنهد (شادي) بجمود وهو يحاول ضبط زمام الامور ليرمقها بعدها بطرف حدقتيه القاسيتين قائلا بجفاء خافت
"دائما عليكِ ان تدهشيني بكل مرة اوكل لكِ فيها مهمة ، ولكن هذه المرة قد تجاوزتِ حد المعقول والمنطق ! ماذا سيحدث لو خالفتي ظنوني لمرة واحدة ؟"
ادارت رأسها للأمام وهي تستمع لكلامه وكأنه ثناء على عملها قبل ان تهمس بابتسامة متلاعبة
"انت الذي طلبت مني العمل على تنظيف المنزل ، وانا قد نظفته لك بطريقتي الخاصة وبوضع لمساتي عليه ، اين اخطأت بتصرفي ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يعود لتأمل الفوضى التي اثارتها بالمكان وكأنه بداخل مشفى للأمراض العقلية ويبحث عن مفتاح الخروج من كل هذا ، ليفرد بعدها ذراعيه بحركة عنيفة وهو يقول بجنون قد افقدته التحكم باتزانه
"كيف فعلتي هذا ؟ انا لا افهم حقا ! من اين وجدتي كل هذه الادوات التي ساعدتكِ على نشر هذه الفوضى بالمكان ؟ هل تريدين ان تفقديني عقلي ؟"
ضمت قبضتيها معا امام عينيه الواجمتين وهي تقول بتبرير منطقي وكأنها تشرح درس علوم
"الامر بسيط ولا يحتاج ان تفقد عقلك ، لقد استخدمت الألوان الموجودة من العصائر المعلبة الجاهزة ورسمت بها على الجدران ، وسكبت مسحوق الغسيل بداخل دلو الماء ونشرته على كامل الارضية ، واخرجت كل محتويات قمامة المطبخ ونثرتها فوق كل اثاث المنزل"
ابتلع ريقه بتصلب وهو يشير بيده للنافذة التي تطلق تلك الروائح قائلا بتردد عصبي
"وماذا فعلتي بالنافذة ؟"
ألقت نظرة عابرة نحو النافذة وهي تلوح بقبضتيها المضمومتين نحوها قائلة ببساطة بالغة
"لقد استخدمت زيت الطبخ بغسل النافذة ودمجته مع الكاز الموجود بخزان تدفئة الحطب ، وقد كان يفي بالغرض"
مسح وجهه بيده بعصبية منهكة وهو يهمس بخفوت منفعل وكأنه لم يعد يقوى على المحاربة
"يا إلهي !"
اخفض يديه بغضب وهو يقول بتصريح قاتل
"هل تعلمين بأنكِ مصيبة على رأسي ؟"
حركت (ماسة) كتفيها بعدم اهتمام وهي تهمس بسعادة مزيفة
"اجل اعلم ذلك ، وفخورة بأني كذلك"
التفت نحوها بمواجهة وهو يدنو بالقرب منها بطريقة اخافتها ليقول بعدها بابتسامة لا تحمل اي رأفة او رحمة
"لن تنفذي بفعلتكِ هذه ، ليكن فقط بعلمك"
قلبت شفتيها بتقوس عابس وهي تهمس بخفوت غير مبالي
"لقد انتهيتُ بالفعل وحان الآن دورك ايها البطل"
استقام بمكانه وهو يوزع نظراته بمغزى حتى لمح ادوات التنظيف مركونة بالزاوية ، ليقطع بعدها طريقه بين بركة السباحة التي تغمر المنزل حتى وصل لوجهته ، ليعود بعدها امامها وهو يحمل ادوات التنظيف ليلقي بها بينهما بقوة .
وما ان كانت على وشك الكلام حتى سبقها وهو يمد الدلو الفارغ لها قائلا بصرامة مخيفة
"اذهبي واملئي دلو الماء"
تجمدت بمكانها بدون ان ترضخ له ليصرخ بعدها بقوة اكبر قرعت بأجراس الخطر
"هيا تحركي"
ابتلعت ريقها بخوف حقيقي تجلى على محياها وهي تمسك الدلو منه بأطراف مرتعشة ، لتتحامل على نفسها وهي تجر خطواتها اتجاه المطبخ بانصياع ، عادت بعدها بثواني بدلو الماء وهي تلقي به ارضا بقوة حتى انسكبت بعض القطرات من زواياه .
ارتسم الجمود على ملامحه وهو يلتقط منشفة قطنية جافة ليلقي بها على وجهها بلحظة قائلا بأمر
"اجمعي كل الماء الموجود على الارضية بهذه المنشفة ، ولا تتركي اي قطرة من خلفك ، سمعتي !"
نزعت المنشفة عن وجهها بغضب وهي على وشك نفث نيرانها بباطن جوفها ، ليسبقها مجددا وهو يقول بصرامة لا تقبل الجدال
"ماسة باشري بالعمل فورا ، وألا اقسم بالله ان اجعلك تمسحين هذه الارضية بلسانكِ الطويل حتى يتشقق بجفاف ولا تعرفين النطق بعدها"
عضت على زاوية شفتيها بخوف غريزي وهي تتراجع بحيطة زرعها بداخلها ، لتنفض بعدها المنشفة بغضب وهي تجثو على ركبتيها بداخل البركة التي غرقت قماش بنطالها من تحت ساقيها ، بدأت بامتصاص الماء بالمنشفة القطنية وعصرها بداخل الدلو باستمرار ويديها مغمورتين بالماء بتذلل وهوان .
كان (شادي) يراقبها من علو اخذت منه لحظات طويلة امتصت الغضب الجحيمي بداخله بدون ان يغيب التجهم عنه ، ليمسك بعدها بعصا الممسحة وهو يشفط بها الماء بعد ان قرر معاونتها بالعمل بملامح متلبدة وبشحنات سلبية ، بينما التي ما تزال غارقة ببركة ذنوبها مستمرة بنقل الماء للدلو بحركات آلية بدون اي شعور او تعبير وكأنها تتلقى جزاء اعمالها .
انتهى تنظيف الارضية المبللة والتي اصبحت تلمع من النظافة ، وانتهى بعدها تنظيف الجدران التي اختفت عنها آثار الألوان المريعة وبقيت بعض الظلال عليها اعطت ألوان فاتحة وكأن الحياة قد دبت بها ، لتصل مهمة تنظيف النافذة وكل واحد منهما يمسح جانب من الزجاج على حدة .
توقفت (ماسة) عن التنظيف وهي تحاول ان تستطيل على اصابع قدميها للوصول للجزء العلوي من الزجاج ، وما ان تعبت من المحاولة الحثيثة حتى همست بصوت مستسلم
"لا استطيع الوصول للأعلى ، لقد تعبت ذراعيّ من الحركة الطويلة"
اقترب (شادي) منها خطوتين وهو يتأمل جانبها من الزجاج ، ليحرك بعدها رأسه بتحدي وهو يقول بابتسامة جادة
"لا بأس ، فكل مشكلة لها حل ، وهذه سنجد الحل لها"
عقدت حاجبيها بتأهب وهي تنسحب بعيدا عنه بدون ان يسمح لها ان تبتعد خطوة وهو يعتقل خصرها بلمح البصر ، وما ان التصقت بصدره حتى شعرت بدوار بعيد المدى بشكل مختلف وهي تطير عاليا فوق كتفيه حتى اصطدمت عينيها بالجزء العلوي من النافذة ، لتدرك وضعها بثواني وهي تسند قبضتيها على إطار النافذة بانعدام توازن وساقيها محاصرتين بذراعيه ، لتصرخ بسرعة بارتياع وهي على وشك فقدان وعيها
"ما هذا الجنون ؟ هيا انزلني لن استطيع العمل هكذا ! انزلني حالاً"
شهقت بفزع ما ان هزها من ساقيها وهو يقول بصيغة الامر التي اصبح يستخدمها معها
"لن تنزلي قبل ان تنهي تنظيف الزجاج ، هيا امسحي الزجاج بسرعة لكي لا امسح بكرامتك الأرض"
تنفست بهياج ثائر وهي تحاول صنع مسافة بينها وبين النافذة هامسة بين غضب والا وعي
"منعدم الضمير !"
اسندت يد على زجاج النافذة تحافظ على ثباتها وباليد الاخرى كانت تمسح بها على الزجاج العلوي بقوة مهدورة ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بنوايا خبيثة وهي تخفض نظرها لرأسه الظاهرة لها ، لتلوح بعدها بالمنشفة المبتلة وهي تسقط قطراتها فوق خصلات شعره حتى وصل عنقه ، انتفض وهو يمسح قطرات الماء القذرة عن عنقه بيده الحرة وقد تيقن من مصدرها ليقول من فوره بتهدج منفعل
"ماسة !"
افلتت منها ضحكة غادرة وهي تستمر بنفض المنشفة بعد ان تخلت عن الاستناد بالنافذة لتعصر المنشفة بكلتا يديها فوق رأسه بمتعة حقيقية ، وما ان فاض به الكيل حتى هزها بعنف من ساقيها وهو يهتف باستهجان
"كفى يا ماسة ! كفى قلة ادب ! انتِ......."
توقف عن الكلام ما ان اعتلى صوت شهقتها فوق صوته وهي تنزلق عن كتفيه وبين ذراعه توشك على السقوط ، ليلتف بذراعيه حول خصرها الغض مثل طوق النجاة قبل وصول قدميها للأرض بأعجوبة ، لتلتفت بوجهها نحوه بقوة حتى ضربت خصلاتها المجنونة محياه مثل صفعة غير حقيقية تأنبه على عدم الحرص على امساكها حتى كادت تضيع من بين يديه ، تنفس بعدها امام وجهها القريب بلفحات ساخنة وهو يهمس بخشونة هادرة
"من المؤسف بأني قد لحقتك ، كان من المفترض ان اترككِ تتحطمين لأشلاء لكي تتعلمي بعض الادب ، مؤسف حقا !"
شددت على اسنانها تكشر عن انيابها وهي تضرب بقبضتيها على كتفيه صارخة بجماح الغضب
"اتركني ، هيا اتركني حالا"
وضعها على الارض لتقف على قدميها بثبات وهو يسحب ذراعيه من حولها ، ليتأملها بعدها بصمت وهي تعيد شعرها الفوضوي للخلف والذي لا يريد الانصياع والتهذيب لأوامر صاحبته ، ليعود بعدها للعمل وهو يشير بيده لجانبها من الزجاج قائلا بمهنية مرنة
"هيا اكملي عملكِ ، وإذا حاولتِ التلاعب معي كما فعلتي الآن فلن اساعدكِ بشيء وسأترك كل اعمال التنظيف عليكِ"
زمت شفتيها وهي تشتم بشيء ما قبل ان تلتقط المنشفة التي وقعت منها بعنف وهي تعود بعملها بمسح الزجاج بقوة اكبر ، ما ان انتهت مهمة تنظيف النافذة حتى انتقلوا لجمع النفايات من فوق الاثاث والزوايا ، وكل واحد منهما يمسك بسلة قمامة ويجمع بها كل الاوساخ .
كانت (ماسة) مشغولة بمراقبته عن كثب وهو يجمع القمامة بالجهة الاخرى المقابلة لها ، لتفكر بسرعة بخدعة تنتقم بها لكرامتها بعد الذي قاله عنها من لحظات ، لتمسك بعدها بقشرة موز قذرة وهي تعض على طرف لسانها بنفور من رائحتها الكريهة ، لترفع بعدها القشرة عاليا وهي تحدد مكان هدفها المنشود قبل ان تهتف بحماس
"شادي انظر ، هناك هدية تنتظرك بالطريق"
ما ان نظر لها بالفعل حتى كانت القشرة تطير عاليا قبل ان تصطدم بوجهه وهي تصيب المرمى ، لتنفجر بعدها ضاحكة بصخب على منظره وهي تلوح بقبضتها بانتصار قائلة بقوة
"اجل هدف ، استمتع بمذاق الموز على وجهك يا خاسر"
امسك بقشرة الموز بتصلب وهو يزيلها عن وجهه ببطء وبملامح مكفهرة قبل ان يلقي بها بسلة القمامة ، ليرمي بعدها بالسلة من يده وهو يقول باستعداد بدون اي تهاون او مغفرة
"سأريك كيف يكون مذاق الخسارة يا قطة !"
شحبت ملامحها برعب وهي تجري بسرعة من مكانها مثل الفرس الهاربة ما ان لمحته يدور حول الاريكة بانقضاض ، وبدون ان تشعر كانت تنزلق قدمها بالأرض المبتلة وهي تسقط بسلاسة ، ليصل لها الذي لحقها وهو يسندها من ظهرها بلحظة وسرعان ما انزلق كذلك معها بعد ان خدعته الارض الزلقة واوقعت كليهما بنفس الفخ .
رفعت (ماسة) رأسها بدوار طفيف وهي تريح كفيها فوق صدره العريض ، وما ان وقعت اسر نظراته وجسدها ممدد فوق جسده حتى قطعها بضحكة صغيرة مهووسة وهو يهمس بكلمة واحدة بعدم تصديق وكأنه قد جُن
"مجنونة !"
انفرجت شفتيها باندهاش وهي تحدق به ببلاهة يضحك بصوت رجولي صاخب لم يعد يستطيع ضبط جماحه ، وهي تشعر بعضلات صدره القوية تعلو وتهبط بسمفونية موسيقية وكل جزء بها يتحرك معها وكأنهما ينقلان الشحنات لبعضهما ويتجاذبان بقوة المغناطيس ، لتنفتح شفتيها بفجوة اكبر قبل ان تنفجر بضحك عالي يعادل قوة ضحكاته بصخب ملئ الاجواء بينهما وبوضعهما المأساوي وكأنهما فاقدين العقل والمنطق ، وكل منهما ينقل خفقات صدره واهتزاز عضلاته للآخر بعلاقة تشاركية اقتحمت بجسديهما وسقطت حواجزهما المنيعة .
تحول بعدها بدقائق الضحك للهاث عنيف وكل منهما عينيه على الآخر بدون ان يفقدا التواصل الخفي بينهما ، ليقطعه بعدها الذي امسك بكتفيها يحاول التحرك قائلا بجدية اخدمت كل مشاعره الداخلية
"هلا ابتعدتِ من فوقي ؟ ام اعجبكِ هذا الوضع وانتِ تطحنين عظامي بكامل وزنك !"
عبست ملامحها بخطوط قاتمة وهي تنهض من فوقه بهدوء صامت ، وما ان وقف كليهما امام بعضهما البعض حتى عاد للكلام الذي اشار بيده لدلو الماء قائلا بصوت مرتخي بعد ان اتعبت مفاصله من جنون لحظاتهما العاطفية
"اسكبي من غسيل التنظيف بالدلو فقد فرغ منها ، هيا بسرعة"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بهدوء وهي تتجه ناحية ادوات التنظيف لتمسك بعدها بأول زجاجة وضعت يدها عليها ، لتعود بعدها امامه وهي تسكب من الزجاجة مباشرة بداخل الدلو بانسياب ، وما ان انتهت حتى غطس المنشفة بحوزته بداخل الدلو بكامل يده ، ليتغضن جبينه بألم لوهلة غزى محياه بلمح البصر قبل ان يخرج يده بلسعة حارقة وهو يتأوه بعذاب .
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بوجل عبث بأمواجها وهي تشاهد الذي شدد على قبضته الحمراء يضمها بيده الاخرى بحالة تألم ، لتهمس من فورها بتوجس قلق بدون ان تمنع الرجفة من احتلال كيانها
"ماذا هناك ؟ لما تألمت هكذا فجأة ؟"
نظر لها بعينين ساكنتين بتجهم وهو يشير لزجاجة التنظيف بيدها قائلا بخفوت شرس
"ما لذي سكبته بالدلو ؟"
رفعت الزجاجة امام عينيها واللتين اتسعتا بلحظة واهتزتا بخوف تكادان تخرجان من محجريهما قبل ان تهمس بانفعال مضطرب
"انه كلور التنظيف عالي التركيز ، وهناك ايضا تحذير بعدم استخدامه بالبشر بسبب اضراره على الجلد"
حرك رأسه بعيدا وهو يتنفس بكبت ضائق ليهمس بعدها بصوت خفيض باتهام مجرد من الرحمة
"انتِ من فعلتِ هذا صحيح ؟ لقد تعمدتِ فعلها !"
نظرت له بسرعة بانشداه وهي تهمس من فورها بدفاع غاضب
"لم افعل ذلك بالطبع ، لست بذلك الجنون ! هل تراني سيئة لهذا الحد ؟"
نظر لها للحظات شرحت كل شيء مطمور بينهما وبدلت الاجواء الحميمية والتي ما كادت تتحلل بينهما حتى عادت لجحرها الضيق ، لتخفض بعدها رأسها بضعف خانت قواها ما ان قال بعبوس متصلب
"وهل هناك من يفوقك بهذا المجال ؟ الامر لا يتعلق بكونكِ سيئة ام لا ، بل الامر يتعلق إذا كنتِ قاتلة ام لا !"
ضمت شفتيها بارتجاف وكأنه يصيب نقاط ضعفها ويتلاعب على الخيطين الاضعف بحياتها ، لتلقي بعدها بزجاجة الكلور ارضا حتى انسكب القليل من فوهتها المفتوحة ، لتشير له بأصبعها المرتجف هامسة بخفوت منفعل بغير ثبات وكأنها تدين نفسها امام صورتها
"لست سيئة ، ولست قاتلة ، وتوقف عن نعتي بهذه الصفات ، توقف عن هذا !"
سحبت اصبعها المرتجف وهي تجري بسرعة من امامه نحو غرفة النوم ، وما ان دخلت لها حتى صفقت الباب خلفها بعنف هزت محتويات المنزل والتي لا تضاهي الزلزال الذي اثارته بأعضائه الداخلية ، ليرفع بعدها قبضته المضمومة وهو يفردها ليلمح الحرق الطفيف عند اللحم الفاصل بين اصبعيه الإبهام والسبابة ، ليعود لضمها من جديد بقوة وهو يشعر بحرق اكبر بكثير انتشر بجسده واستقر بالنخاع .
______________________________
سكبت القهوة بالأكواب الخزفية بحرص فوق الصينية المستديرة بإطارات ذهبية ، لتضع بعدها الابريق جانبا وهي تتناول الصينية بكلتا يديها قبل ان تسير بها خارج المطبخ ، وما ان وصلت امام باب غرفة الضيوف حتى وقفت قليلا باعتدال وهي ترسم ابتسامة لبقة فوق محياها وترافقها بأنفاس قصيرة بتأهب ، بالرغم من ان الامر لا يحتاج كل هذه الحيطة والتحفز بمقابلة عائلة زوجها المتمثلة بعائلة شقيقته الكبرى لأول مرة منذ زواجهما ، فقد انتهى شهر العسل منذ ايام وتحتم عليهم العودة للحياة الواقعية بمنزلهم الابدي ، وقد كانت شقيقته تخطط منذ مدة لزيارته والاطمئنان عليه ولكنه هو من كان يؤخرها ويتقصد تأجيلها حتى جاءت بالنهاية بملء إرادتها بدون دعوة او عزيمة وبقوة تحسد عليها لكي ترغم شقيقها على استقبال عائلتها بدون تجهيز مسبق لاستضافتهم ، ومن الجيد بأنها جاهزة بكل الاوقات لاستقبال معارف عائلتها وافراد عائلتها خاصة والذين لم يتركوها منذ عودتها من شهر العسل ، ولكنها مع ذلك حاولت الاهتمام بمظهرها بشكل مبالغ بمقابلة عائلته وكأنها تهتم بنظرتهم نحوها اكثر من غيرهم وكأن الامر يستحق المجازفة .
تنهدت (غزل) بقوة ترغم نفسها على التركيز بنقطة معينة وتستجلب كل قواها الذهنية والجسدية لهذا الامر ، لتطرق بعدها على الباب بقبضة مشدودة قبل ان تفتحه مباشرة بنفس اليد وهي تستمر بالدخول .
تسمرت بمكانها لوهلة ما ان توجهت الانظار نحوها واصبحت محط اهتمامهم بل بالأحرى مادة دراستهم ، لتتابع بعدها بلحظات خطواتها الصغيرة بحذائها ذو الكعب العالي المسنن وهو يعطيها بعض القوة الغير مرئية ، حتى وصلت بمنتصف دائرة جلستهم وهي تهمس بابتسامة واسعة بترحيب ودود
"اهلا وسهلا بكم ، شرفتم منزلنا بزيارتكم ، اتمنى ان تعجبكم ضيافتنا وتكون على قدر مقامكم"
تطوعت (اسمهان) بالرد وهي تلوح بيدها بابتسامة محببة
"ما كان عليكِ ان تتعبي نفسكِ يا عزيزتي ! انتِ ما تزالين عروس جديدة ، ويتوجب علينا نحن خدمتك وتدليلك ورفعك على كفوف الراحة ، وهذا الوضع يستمر حتى تنجبي لنا طفل او طفلين وتصبحي ام اولاد هشام"
اتسعت ابتسامتها باهتزاز بدون ان تصل لعينيها عند آخر كلامها الذي اثار قشعريرة ببدنها ، ليأتي بعدها التعليق التالي من زوجها الجالس بجمود بدون اي تعبير يعلو ملامحه
"هل تريدين ان تعتاد على الدلال وتصبح مثلك ؟ وإذا كنتِ تنتظرين حتى تنجب لكِ الاطفال فقد تنتظرين وقتا طويلا ! لذا لا تتأملي كثيرا يا شقيقتي وفكري بحياتك وبإنجاب الاطفال لزوجك فقد كبرتِ كثيرا وعليكِ بلحاق عمرك"
ارتجفت الصينية بين يديها وهي تحدق بالمقصودة بكلامه والتي تحفزت ملامحها بشرارات متحدية تختلف عن الغضب بل هي اقرب لنيران قطة مشاكسة تلاعب بذيلها ، وإذا تركتهما على هواهما قد يجعلانها مادة بالحديث لتحترق بينهما ، اقتربت بسرعة منها وهي تبدأ بتقديم القهوة لها هامسة بابتسامة بريئة
"هل تريدين قهوة ؟"
قطعت سيل النظرات الحارقة وهي تنقلهما نحوها لتلين ملامحها بدفء شعاع الشمس وهي تنهض امامها باندفاع فاجئها ، لتحتضنها بعدها بين ذراعيها برقة وهي تربت على ظهرها هامسة بابتسامة متألقة بمشاكسة
"تعالي يا زوجة شقيقي الحبيبة ، تعالي يا مفضلتي وشبيهتي ، لن نسمح لأحد بأن يسخر منا او ان ينقص من قدرنا ، فنحن الملوك بهذه الحياة ونحن من يليق بنا الدلال ، وإذا حدث خلاف ذلك فقط اعطيني إشارة وانا بنفسي سأهتم بتهذيبه لكي يسير على الصراط المستقيم !"
التوت ابتسامته بسخرية وهو يتمتم ببرود وبصوت مسموع لهما
"هذا ما كان ينقصنا"
عبست ملامحها الفاتنة وهي تستمر بالتربيت على ظهرها بحركات مغيظة لتستفز الجالس امامها ، لتبتعد (غزل) عنها وهي تتلون بخجل شديد من حقنة المشاعر الغير معهودة لها غمرتها بأمواج فائضة ، لتهمس بعدها بابتسامة صغيرة بفرط ارتباكها
"اتمنى ان تسعدك ضيافتي البسيطة ، فأنا لم اجهز جيدا لزيارتكم ، لذا اعذريني على تقصيري !"
حركت رأسها بهدوء وهي تمسك بكتفيها هامسة بابتسامة مرحة
"ليس هناك داعي لهذه الاعذار والتلبك يا حلوتي ، فأنا قد جئت بدون موعد مسبق من اجل رؤيتكما والاطمئنان على حالكما وليس من اجل اتعابكما بخدمتنا ، لذا ارتاحي يا عزيزتي فقد اجهدتِ نفسكِ بالفعل بتحضير القهوة لنا والتفكير بنا"
احمرت وجنتيها بحياء وهي تشعر بإنجاز عظيم بتحضيرها القهوة فقط ، لتسمع بعدها تعليق زوجها والذي عاد للكلام بهدوء جاد
"نحن نعتذر إذا كنا مقصرين بحقك يا اسمهان ، ولكن الذنب ذنبكِ انتِ بالنهاية ، لو انكِ اخبرتنا بزيارتك مسبقا لكنا جهزنا افضل استقبال لكِ ويليق بعائلتك لكي لا يشعر احد بالحرج ! أليس كذلك ؟"
نظرت له بعيون نارية وهي تقول بتبرم عابس بدون ان يخفى العتاب بصوتها
"لو كنت انتظرت سماع الإذن منك لزيارتك لاضطررت للانتظار طول حياتي لكي تسمح بذلك ! وقد لا تأتي تلك الفرصة مجددا للاطمئنان عليك ورؤيتك بعد زواجك ، فأنا اعرفك جيدا عندما تفكر بتأجيل امر ما ! وايضا انا شقيقتك الوحيدة وليس هناك إحراج من زيارتي لك"
عضت (غزل) على طرف ابتسامتها الخفية وهي تقول بكل ما كان يجول بصدرها بدون اي حواجز اصابت المرمى بنجاح ، وما ان حانت منها التفاتة حتى اصطدمت بالعينين القاسيتين مسحت الابتسامة عن محياها وهما ترديانها قتيلا ، لتشيح بنظراتها بعيدا عنه ما ان قطع الصمت الفرد الصامت وزوج القطة النارية وهو يقول برفق وكأنه معتاد على نوبات غضب زوجته
"اهدئي يا عزيزتي اسمهان ، شقيقك يحاول إغاظتك لا اكثر ، لا داعي لكل هذا الانفعال والغضب ! فنحن قد جئنا اليوم للقيام بواجبنا اتجاه هشام وعروسته ، ولا نريد ان نفسد هذه الاجواء الودية بين بعضنا بسبب امور فارغة ، لذا اجلسي بمكانكِ واهدئي"
تنهدت بهدوء وهي تجلس بمكانها بدون ان تفارقها النظرات العاتبة وذراعيها مكتفتين بصرامة ، بينما افاقت (غزل) على الصوت الصارم وهو يقول بأمر نافذ
"ضعي الصينية على الطاولة امامنا ، واجلسي بمكانك"
اومأت برأسها بارتجاف وهي تضع الصينية فوق الطاولة لتجلس بجواره على نفس الاريكة ، لترتجف اطرافها لا شعوريا ما ان التصق بها وهو يقضي على المسافة بينهما وساقه بجانب ساقها بقوة تجاذب .
ضمت يديها بحجرها وهي تشرد بهما بصمت خانق يكاد يطبق على صدرها وهي تشعر بنفسها بقرب مرجل مشتعل ، ليعود بعدها (رائد) للكلام وهو يفتح حديث عملي
"إذاً كيف هي احوالك يا نسيب ؟ كيف كانت عطلة شهر العسل معك ؟ اتمنى ان تكون حياتك الزوجية لم تنسيك عائلتك والمقربين منك"
صوب نظراته نحوه وهو يرسم ابتسامة متزنة على محياه ليقول بعدها بعمق جاد
"كيف تقول هذا الكلام يا صهر ؟ وهل ينسى الانسان عائلته ؟ فقط كنت احتاج لفترة من الوقت للتأقلم بحياتي الزوجية الجديدة والخروج من نطاق العزوبية ، فليس من السهل ان يغير الرجل عاداته واساليبه القديمة بعد ان اصبح مرتبط بزوجة ومسؤوليات جديدة ، وانت اكثر من يعرف بهذه الامور"
اومأ برأسه بجدية وهو يقول بابتسامة هادئة بوقار
"اجل اعرف ذلك واتفهم وضعك وما تمر به ، فهذا يحدث كثيرا ببداية كل زواج وعلاقة تكون بحاجة لأساس قوي وبناء لكي تستمر ، وانا واثق بأنك ستتجاوز كل هذا وتكون بقدر المسؤولية الملقاة على عاتقك"
حرك (هشام) رأسه بشرود وهو يرمق الجالسة بجواره بنظرات ذات مغزى قبل ان يجيبه بجمود صخري
"اجل صحيح كلامك لا غبار عليه ، لقد قلت تماما ما كان يدور بذهني ويرهق عقلي ، ولكن شكرا لك على النصيحة يا رائد"
تدخلت (اسمهان) وهي تغير مجرى الحديث لتوجه كلامها للساكنة بمكانها قائلة بقوة
"اخبريني عن احوالكِ يا غزل ! هل سارت العطلة بفندق شهر العسل على ما يرام ؟ هل تعانين من اي مشاكل او مضايقات بحياتكِ الجديدة مع هشام ؟ انتِ فقط اخبريني بما تشعرين به ويضايقك وبشكوى واحدة منكِ سأعاقب مفتعل الجريمة بما يستحق ، فأنا ما ازال شقيقته الكبرى وهو لم يكبر على شد الإذن وتلقي العقوبات مني ! واعدكِ ان اجعله يندم على اليوم الذي فكر به بمضايقتك او افتعال المشاكل معكِ ، وثقي بأنني دائما سأكون بصفكِ انتِ بكل الظروف والمواقف لأنني امرأة مثلكِ تماما وافهم ألمها ومرهمها"
نظرت لها بعينين مشدوهتين بانذهال وهي تبتسم بشفاه جميلة لأول مرة بصدق وكأنها تستمع لشيء اراح اعصابها وبعث الدفء بمفاصلها ، لتلوح بعدها بكفها بخجل وهي تهمس بامتنان شديد
"لا تقلقي يا اسمهان ، كل شيء على ما يرام ، وانا سعيدة ومرتاحة بحياتي مع هشام ، وشكرا لكِ على اهتمامك ودعمك"
ردت عليها (اسمهان) من فورها بابتسامة حنونة وهي ترمق شقيقها بحدة قاتلة
"ومع ذلك يا عزيزتي لا تنسي الالتجاء لي عند الحاجة ، فأنا اعلم جيدا بأن شقيقي ليس كامل الاوصاف ويعاني من بعض العقد بحياته ! واتمنى حقا ألا يخرج تلك العقد فيكِ ويغيرك لنسخة عنه"
اشتدت خطوط ملامحه بتصلب وهو يمسك بيدها الصغيرة بغريزة متملكة ، ليضعها على ساقه وهو يضغط عليها بقبضته قائلا بشبح ابتسامة واثقة
"لن تحتاج للالتجاء لكِ يا شقيقتي الكبرى ، لذا اريحي نفسكِ واطمئني من هذه الناحية ، فنحن زوجين متفاهمين جدا وسعيدين جدا بحياتنا ، ولا نحتاج لأطراف اخرى لندخلها بمشاكلنا الزوجية وبحياتنا الخاصة !"
فغرت (غزل) شفتيها بانبهار مفتون وهي شاردة بمراقبته وهو يقول ذلك الكلام القوي وكأنه نابع من قلبه وبصدق ، لتخفض نظرها ليدها الاسيرة بقبضته وهو يضغط عليها بكل كلمة وكأنه يثبت الكلام ويطبع عليه معنويا وشعوريا ، لتفيق بعدها من شرودها على صوت صراخ اطفال اقتحما غرفة الضيوف وهما يجريان نحوهما بعد ان كانوا قد تركوهما بغرفة الألعاب .
قطعت (اسمهان) صراخهما وهي تقول بصوت عالي بصرامة قاطعة
"كفى صراخ ! لا اريد سماع صوتكما يعلو بالمكان ! والآن اجلسا بكل تهذيب ولا تصدرا صوت واحد"
ادارت (غزل) وجهها للأمام وهي تشاهد انسحاب الصغير وهو يرمي بنفسه بحضن والده ببكاء متدلل ، بينما الطفلة الاخرى التي لا تتجاوز الخمس سنوات كانت من الجرأة حيث تقدمت نحوها بهدوء وهي تحدق بها بعينيها الكبيرتين الحاذقتين ، وما ان وقفت امامها تماما وطولها يصل لركبتيها حتى همست بتساؤل من بين شفتيها المتكورتين بجمود
"هل انتِ هي زوجة خالي هشام ؟"
ابتلعت ريقها بارتياب وهي تشعر بخوف اتجاه طفلة تقابلها لأول مرة ، لتومئ بعدها برأسها وهي تهمس بابتسامة طفيفة
"اجل انا زوجته ، ومن انتِ يا جميلة ؟"
تبرمت شفتيها بعبوس وكأنها تعلن التحدي نحوها لتشير بأصبعها الصغير لنفسها قائلة بقوة فكاهية
"انا امل ابنة شقيقته المفضلة ، وانتِ قد سرقتي خالي مني ، وهو يحبكِ اكثر مني ويفضلك عليّ ولم يعد يزورنا ويحضر لي الهدايا بسببك"
ارتفع حاجبيها باندهاش وهي تستوعب هدف هذه الطفلة والتي شنت الحرب نحوها بسبب زوجها الذي يكون خالها ، لتسمع بعدها صوت ضحك رجولي صاخب بجوارها هزها حد الاعماق وهو يهدر بأذنها بأمواج عالية ، لتنتشر اجواء الضحك تدريجيا من حولها وهي ترى والديها يشاركان بالضحك كذلك على مشاكسة ابنتهما الصغيرة وغيرتها الطفولية ، لتعود بعدها الطفلة للصراخ بتذمر وهي تكاد تبكي من غيظها
"لماذا تضحكون عليّ ؟ أليس كلامي صحيحاً ! أليست هذه المرأة سارقة اخذت خالي مني ؟"
كانت (اسمهان) اول من توقف عن موجة الضحك وهي تقول بلهاث من آثار الضحك
"لا تهتمي لكلامها يا غزل ، فهي تحب هشام كثيرا وتفكر بأنكِ قد سرقته منها بسبب توقفه عن زيارتنا منذ زواجه بكِ ، لذا تشعر بالنقمة والغضب عليكِ !"
اومأت (غزل) برأسها بتفكير وهي تحدق بالطفلة العابسة امامها ، لترسم بعدها ابتسامة صافية على محياها وهي تهمس بخفوت متعاطف
"حسنا يا امل ، لقد فهمت مشكلتكِ الآن ، انتِ فقط اخبريني كيف استطيع تعويضك عن هذه المشكلة والتكفير عن ذنبي !"
عقدت (امل) حاجبيها الصغيرين تعصر عقلها الصغير بتفكير لوهلة قبل ان تقول بابتسامة حاسمة
"اريد منكِ ان تحضري لي هدية بكل مرة تزورينا بها حتى تكفري عن اخطائك وعن اخطائي خالي ، هكذا ستكون الصفقة بيننا"
اتسعت العيون الناظرة لها بصدمة وذهول ما عدا الذي ابتسم بمتعة حقيقية وكذلك التي خرجت من صدمتها بصراخ صارم بحدة
"ما هذا الكلام يا قليلة الادب ؟ هل هكذا تفعلين بي امام زوجة خالك ؟......."
قاطعتها (غزل) بسرعة وهي تجاري طلبها قائلة بابتسامة بريئة تعادل براءة الطفلة
"وانا موافقة على هذه الصفقة ، وربما استطيع ان اربح قلبكِ حينها"
اتسعت ابتسامة الطفلة بإشراق لأول مرة منذ مقابلتها وهي تصفق بيديها قائلة بحماس طفولي
"رائع ! إذاً اتفقنا ، لقد حصلت على شخص جديد يقدم لي الهدايا"
كتفت (اسمهان) ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول باستنكار رافض لما يحدث
"ما كان عليكِ فعل هذا يا غزل ، لقد كبرتي رأسها وزدتِ من تمردها !"
حركت (غزل) رأسها بعلامة الرضا وهي تداعب شعر الطفلة بيدها الحرة هامسة بخفوت محب بصوتها الحزين
"لا بأس يا اسمهان ، فأنا سأتحمل النتائج"
لم تنتبه للنظرات التي تسلطت عليها بجمرتين حارقتين وهي تتصرف بكل تلك العفوية والطفولية امام ناظريه بدون اي عائق وكأنها تعري روحها امامه ، وكم هو متعب مراقبتها هكذا ويدها بقبضته بدون ان يطاله منها اكثر من هذا بحقوقه الناقصة وكأنه سجن نفسه بتلك الزنزانة التي طوقتها بقضبانها !
____________________________
خرجت من الحمام وهي ترتجف بخطواتها على الارض الزلقة التي سكبت عليها قطرات من خصلات شعرها المبتلة ، لتترك قدميها الحافيتين آثار بصمات من خلفها وهي تتجه مباشرة للخزانة ، وما ان فتحت الخزانة على جانبيها حتى بدأت بالبحث بين الملابس بعنف عن مناشف او اي غرض تجفف به شعرها المبتل وجسدها .
تخاذلت قواها وهي تعود لتغلق الخزانة بقوة اكبر ارتجت جوانبها ، لتعود للسير بطريقها المبتل بقدمين رخويتين مثل سحابة سوداء ترافقها بمسار حياتها لتتساقط الامطار فوقها بأحزان كئيبة مزقت غيومها الوردية ، جلست بالنهاية فوق طرف السرير وهي تفرك يديها الباردتين امام شفتيها المرتجفتين بزرقة واضحة علها تمنح نفسها بعض الدفء بتلك الاجواء الصقيعية التي تعايشها ، لتدس بعدها يديها بين ساقيها الملتصقتين ببعضهما وجسدها منكمش على نفسه تكاد تشعر بالبرد يلامس اعضاءها الداخلية بانتفاضات متفاوتة .
رفعت رأسها برجفة مختلفة وكأن الحرارة قد دبت بها وهي تسلط نظراتها على باب الغرفة الذي انفتح بدون سابق إنذار ، لتعض بعدها على طرف شفتيها المتكورتين تمنع ارتجافهما من هز قوتها الخارجية وحبسها بداخل قوقعتها ، لتهمس بعدها بفظاظة اصدرت اصطكاك اسنانها ببعضها
"ألم تتعلم كيف البشر يطرقون الابواب ؟ طول تلك المدة وانت تقتحم غرفتي وكأنها مكان عام بدون اي تفكير بخصوصيات او آداب !"
كان (شادي) يحدق بها بصمت بدون ان يعتلي ملامحه اي تعبير فقط عينيه تحاكيان كل شيء وكأنه يراها للمرة الاولى ، وخاصة وهو يراقب طريقة جلوسها المنكمشة على نفسها والتي تظهر انتفاضات غير مرئية يستطيع لمحها برجفة شفتيها الزرقاوين وكأنها قطة صغيرة انكمشت وتقلصت بعد الاستحمام ، واكتملت الصورة مع ملابسها الصيفية وهي ترتدي قميص وردي بدون اكمام وبنطال ابيض فضفاض ، تحرك بعدها من مكانه وهو يتقدم نحوها بخطوات واسعة بثقة وكأنه يطأ مكان من مملكته الكبيرة .
وما ان اصبح يقف امامها تماما حتى ادارت وجهها جانبا وهي تقلص نفسها عند زاوية ظهر السرير ، وما هي ألا لحظات اخرى حتى شعرت بغمامة ناعمة تهبط فوق رأسها المبتل وتتدلى على جوانبها لتقييها من برودتها القاسية وتمتص سحابتها السوداء ، وما ان رفعت حدقتيها الزرقاوين خلف زجاج عاكس حتى لمحت ابتسامته التي غطت اغلب ملامحه وكأنه يهديها الامان والطمأنينة من مجرد ابتسامة وتعبير عاطفي منه ، لتفيق بعدها على يديه وهو يضع حول كتفيها منشفة ناعمة اخرى لتحيط اعلى جسدها بدفء طبيعي ، ولم يكن منبعها من المناشف التي دفئت جسدها وامتصت بردها بل من لمساته العاطفية وتعبيرات وجهه التي بثت بها كل الدفء الخالص المفقود بحياتها .
تجمدت عضلات وجهها وهي تخفضه سنتمترات ما ان حط بيديه على المنشفة برأسها وهو يجفف شعرها بحركات هادئة رغم خشونة اصابعه على خصلاتها ، وهي تدرك جيدا السخونة التي بدأت تلهبها بنيران موقدة من وجوده امامها وحولها وكل شيء ينبأ بشب حريق بأطراف قدميها الحافيتين صعودا حتى رأسها المبتل .
شهقت (ماسة) بدون صوت ما ان شعرت بوجهه يدنو امامها بلمح البصر ليهمس بعدها بابتسامة جانبية بمغزى
"لقد كنت اعلم بأنكِ ستحتاجين للمناشف بعد الاستحمام ، لذا احضرتها لكِ بنفسي"
ضمت شفتيها عدة مرات بارتجاف قبل ان تهمس بخفوت مستاء
"ولماذا لم تخبرني بذلك ؟ واين كانت المناشف من الأساس ؟"
حرك كتفيه ببساطة وهو يستمر بتجفيف شعرها بكلتا يديه قائلا ببديهية
"لقد ارسلت كل الملابس والمناشف للتنظيف الآلي ، واليوم كان موعد احضارها من المغسلة ، وقد نسيت وضعها بخزانة الملابس"
تنفست بتبرم عابس وهي تضرب على صدره بقبضتها هامسة بخفوت منفعل
"تقول بأنك نسيت ! لقد كدت اموت من البرد !"
تغضنت زاوية ابتسامته بحنان شغوف وهو يقبل جبينها البارد فوق قطرات الماء المتسربة بعمق ، قبل ان يهمس بخفوت اجش نادم
"انا اعتذر يا ماسة ، اعتذر على كل شيء"
عقدت حاجبيها السوداوين بصعوبة وهي تهمس بخفوت حزين ببحة صوتها المرتجفة
"لا تعتذر ، ارجوك ، لا تعتذر !"
ابتعد (شادي) عن جبينها إنشات بسيطة وهو يهبط عند جانب خدها البارد هامسا بصوت خفيض متساءل
"لماذا ؟!"
ضمت يديها بتوتر وركبتيها ملاصقتين لبعضهما مثل طالبة مدانة وهي تهمس بتشتت غارق ببحيرات ألمها وكأنها تستغيث
"انت تؤلمني باعتذارك اكثر من التصرف نفسه ! الاعتذار لا يصلح ما فات ، بل هو عذر يؤلمني عندما يكون بكل هذا الصدق ، يؤلمني عندما اكون انا طرف بهذه المعركة ، عندما اكون الملومة الوحيدة بكل شيء !"
ابتعد عن خدها ببطء وهو يحاول استيعاب كلامها المبعثر بأحرف مبهمة ، ليخفض بعدها يديه عن رأسها ليصلا لمستوى كتفيها وهي ينتقل بقبلته لخدها الآخر قائلا بخفوت مستفسر وكأنه يأخذ حريته بمجرى الحوار باقتناص لحظات عاطفية
"لم افهم يا صغيرتي ! بماذا انتِ ملامة ؟"
ابتلعت (ماسة) ريقها بغصة قاتلة وهي تفك ترابط يديها لتشير بأصبعها الصغير لصدره هامسة بألم مكبوت
"لأنني قد اذيتك ، لقد اذيتك بطريقة غير مقصودة ، وهذا الامر بحد ذاته يجعلني ملامة !"
ابتعد هذه المرة عن وجهها سنتمترات اكثر حتى تقابل مع عينيها المكسورتين بعواصف قد هدئت بهما تماما ونبض الوجع مكانهما ، ليمسك بعدها بيدها ذات الاصبع المرفوع وهو يهمس بابتسامة صغيرة بعطف
"انتِ لم تفعلي شيء ، ماذا فعلتِ انتِ ؟......"
سحبت كفها ببطء وهي تمسك يده الاخرى على كتفها لتقربها بينهما بلحظة وهي تفتح راحته بأصابعها الرقيقة ، لتفردها على كاملها وهي تتلمس بأصابعها مكان الحرق الطفيف من كلور التنظيف ، لتهمس بعدها بصوت مأسور بحزنها وكأنها تتألم بدلا عنه
"هل هي مؤلمة جدا ؟"
غامت ملامحه بهدوء وهو يتأمل الحرق معها والذي جذب اهتمامها قبل ان يعقب قائلا بلا مبالاة
"ليس بهذه الخطورة ، مجرد حرق صغير وسيزول مع الايام ! أليس هذا ما يحدث معكِ اثناء الطبخ امام الموقد ؟"
اومأت (ماسة) برأسها بشرود وهي ترفع عينيها الغارقتين بدموع امطار غزيرة انهمرت على نافذتها لتهمس بعدها بصوت مجروح نادم
"اعتذر على اذيتك ، فأنا لم اقصد ! صدقني لم اقصد ! اقسم لك لم اقصد فعلها"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يحيط جانب وجهها بيده الحانية وإصبعه الإبهام يمسح الدموع الصغيرة المتدلية على رموشها الطويلة ، ليقول بعدها بابتسامة انحفرت باتزان وبصوت جاد
"لا تتكلمي هكذا يا صغيرتي ، فأنا بالتأكيد اصدقك ، لقد قلت ذلك الكلام من فورة غضبي وألمي ! لذا لا تعطي ذلك الكلام اهمية كبيرة وانسي كل ما فات ، حسنا ؟"
كانت ترسم دوائر بأصبعها على مكان الحرق برقة وكأنها تبث بلسمها فوق بشرة كفه ، لتقول بعدها بصوت مشروخ تسربت منه كل مكنوناتها
"ومع ذلك فقد تأذيت بسببي ، انا استحق الملامة والألم ، استحق كل شيء يحدث معي ، فأنا كائن مؤذي وشرير وغير مسالم مع نفسي !"
احتدت ملامحه بغضب مكبوت وهي يقبض على كفه بعد ان جذبها بعيدا عن يديها ، وقبل ان تصدر اي حركة كان يحيط بكتفيها فوق المنشفة بعناق حاني وهو يدفن وجهها بكتفه ويمسح بيديه على ظهرها المقوس بضعف ، وبعد ان خارت قواها بداخل حصونه بدأت تجهش ببكاء مختنق وهي تمسح عبراتها بقماش قميصه وكأنها تكفر عن ذنوبها بهذه الطريقة وبإخراج جانبها الضعيف امام مساوئها بالعالم ، بينما كان الآخر يمسح تارة على ظهرها المتقلص مع كل شهقة بكاء وتارة اخرى على المنشفة برأسها يغرز اصابعه بقطنها الناعم لكي يعصي قيود شعرها .
ادار وجهه لجانب اذنها وهو يهمس بها بشرارة مشاعره الحارقة وهي تتأجج بداخلهما تحت سطوة العاطفة
"اهدئي يا حبيبتي المجروحة ، وتوقفي عن هذا النوع من الهذيان الفارغ ! فأنا زوجتي تستحق الافضل ، وليس هناك افضل من زوجكِ لكي تستحقيه ، وليس هناك اجمل من ألماستي لكي استحقها ، فهذا الرجل مجنون بحبكِ يا خرقاء !"
اشتد بكائها حدة وهي تتشبث بقبضتيها على ظهر قميصه تستمد العون منه وهي تغرق بفيضانات دموعها هدمت سدودها ، فهي هكذا دوما صعبة الانهزام والانكسار وليس من السهل اهدار دموعها ، ولكن عندما تحين اللحظة التي تحزن بها وتفقد قدرتها على دفنها تبكي انهارا وتفيض الكون احزانا ، وكأنها تعوض عن كل لحظات صمودها بلحظة انكسار واحدة تهدم كل الحواجز الحصينة لتخرج كل ما هو قديم وجديد بقي محفور بقلبها وحينها لا احد يستطيع ايقافها او ردعها ، وهذا ما يحدث معها الآن بعد ان اكتشفت فداحة فعلتها وهو يطمئنها بلمسات حانية بدفء وبالهمس بأذنها بصوت جشن عاشق حد النخاع .
بعد مرور لحظات طويلة كان يبعدها عنه اخيرا وهو يمسح بيديه على خديها المغرقين ويبعد الخصلات السوداء الملتصقة من دموعها ، ليشد بعدها على المنشفة من حولها وهو يقول بابتسامة لطيفة
"لا تنزعي المناشف عنكِ حتى تشعري بالدفء ، وغطي نفسكِ جيدا قبل النوم لكي لا تصابي بالمرض ، فلن اتحمل اضرار تهورك واستهتارك"
ضرب بطرف اصبعه على انفها الاحمر حتى كشرت ملامحها بضعف وهو يعيد قائلا بتحذير صارم
"اسمعي الكلام وكوني مطيعة لكي اطمئن عليكِ ولا اشعر بالأذى منكِ"
اومأت (ماسة) برأسها بهزة صغيرة وهي تتلون باحمرار الحياء الممزوج بالهوان بعد كل ما حكت وصرحت به ، ليستقيم بعدها امامها وهو يربت على المنشفة فوق رأسها بحنان قائلا برفق
"سأترككِ الآن ، اعتني بنفسكِ جيدا ، وارفقي بحالي"
ختم بالنهاية على كلامه بقبلة على رأسها والتي لامست المنشفة بدل رأسها وهي تشعر بها ارق من النسيم ، ليتراجع بعدها امام عينيها الشفافيتين وهو يخط طريقه بعيدا عن محيطها ، ليتوقف بعدها بمسافة قصيرة وهو يقول بتذكر متأخر
"صحيح ، لقد نسيت الامر تماما !"
ارتفع حاجبيها بشحوب ما ان عاد عدة خطوات للخلف ليخرج هاتفها من جيب بنطاله ، قبل ان يضعه على السرير بجانبها وهو يقول بغمزة ماكرة
"يمكنكِ استعادة الهاتف الآن ، ولكن إذا اغضبتني مجددا فلا تحلمي بإعادة الهاتف لكِ !"
زمت (ماسة) شفتيها بامتقاع وهي تشيح بوجهها بعيدا بصمت ، لتسمع بعدها صوت انغلاق باب الغرفة والتي خرج منها بلحظات ، التفتت بوجهها ناحية هاتفها الملقى وهي تمسك به بسرعة ، لتفتحه من فورها وهي تنظر لصفحة الوظيفة التي بقيت عالقة عليها منذ الصباح ، وما ان حاولت الضغط على اضافة طلب حتى فوجئت بإغلاق بوابة الطلبات بعد ان وصلت للحد الاقصى من المنتسبين والمرشحين لها .
تأففت بضيق وهي تخفض الهاتف بغضب بعد ان ضاعت الفرصة الذهبية من بين يديها ، لتسمع بعدها صوت وصول رسالة وهي ترفع الهاتف بهدوء وبعدم اهتمام قبل ان تدخل للرسالة المرسلة ، اتسعت مقلتيها بصدمة وهي تتلقى رسالة من إدارة الجامعة بعد ان تم تقريب موعد اختبار التأهيل للحصول على الشهادة ، لتخفض الهاتف بسرعة وهي تتأمل الفراغ امامها بملامح باردة متلبدة قبل ان تهمس بخفوت عازم
"لقد تبقى ثلاث ايام على موعد الاختبار ، ويتوجب عليّ خوضه مهما كلفني الثمن ، فهذه فرصتي الوحيدة ولن اضيعها من بين يديّ"
_______________________________
جلست امام طاولة الزينة وهي تخلع السوار عن معصمها والخاتم عن اصبعها ، لتصل بعدها بيديها لعقدها الذهبي وهي تنزله من حول عنقها بسلاسة ، اعادته بعدها بمكانه بعلبة المجوهرات الفاخرة وهي تتأكد من وضعيته برقي واناقة ، وما ان فتحت الدرج بجانبها حتى توقفت بتسمر وهي تلمح صندوقها القديم ما يزال يلاحقها لكل مكان تذهب إليه بدون ان تستطيع التخلي عنه ، وضعت العلبة بيدها وهي تنتقل للصندوق العتيق بجانبه ، لترفعه بعدها امام ناظريها وهي تفتح الصندوق بحذر شديد وكأنها ستجد كنز ثمين بداخله لا يقدر بأي اثمان او هدايا يحمل حنين غادر لتفاصيله .
اخرجت العقد الرقيق بين اصابعها الصغيرة وهي تتمعن به بشرود مفتون اخذها على حين غرة ، لتنتفض بعدها لا شعوريا ما ان سمعت صوت طرقات على باب الغرفة تعلن عن لحظة اقتحام زوجها الحالي وهي تطالع ذكريات خائنة تسللت لقلبها خلسة ، لتضم العقد بأصابع قبضتها بقوة وهي تلقي الصندوق بداخل الدرج بعشوائية ، وقبل ان تستطيع اخفاء العقد كان يفتح الباب على اتساعه بهدوء قرع بأذنيها بطنين عالي يعادل سرعة نبضات قلبها .
اخفضت قبضتها بعيدا وهي تريحها على جانب مقعدها وتحني عنقها للأسفل بصمت كاسر ، لتسمع بعدها وقع الخطوات المتزنة التي اقتربت منها على بعد مسافة قطعها بثواني ، وما ان وقف خلفها وحط بيديه الصلبتين على كتفيها حتى همس بقرب رأسها الذي استشعر حرارة انفاسه بصوت خفيض
"مساء الخير يا اميرتي ، هل كل شيء على ما يرام ؟"
اومأت (غزل) برأسها للأسفل بصمت قبل ان تجيب بهمس باهت بحشرجة
"اجل بخير ، انا بأفضل حال"
شدد على كتفيها بأصابع قوية وهو يشرد بصورتها الغير واضحة بسبب انسدال بعض الخصلات الطويلة امام جبينها والذي غطى على ملامح وجهها المنكس ، ليقول بعدها بشبه ابتسامة هادئة وهو يستمر بمراقبتها عن كثب
"هل تشعرين بالتعب والإرهاق من الاحداث التي جرت بهذه الليلة الطويلة ؟ فقد كانت احداث مفاجئة وغير متوقعة ، أليس كذلك ؟"
حركت رأسها بالنفي بحركة غير مرئية وهي تهمس بابتسامة يشوبها الاضطراب الوجداني
"لا انا حقا بخير وبكامل نشاطي وصحتي ، وقد كنت اتوقع حدوث مثل هذه الزيارة العائلية ، وكنت قد جهزت لها مسبقا من الاحداث الاخيرة والمناسبات التي جرت منذ عودتنا من شهر العسل"
اومأ (هشام) برأسه بهدوء وكأنه يسبح بعالم آخر لا يتواجد به سوى وجهه فوقها وصوتها المغرد تحت ملامح مستترة غشائية ، ليقول بعدها بلحظات بهدوء جاد
"ولكننا مع ذلك لم نكن نتوقع ان تحدث تلك الزيارة بدون موعد مسبق ، فأنا لا احب عدم الانضباط بالمواعيد والاوقات واُفضل التخطيط قبل حدوث اي امر اكثر من الاعتماد على الحدس والبديهية فهي تقلل من فرص نجاح اي عمل ! لذا لم احب ابدا تلك الحركة التي فعلتها شقيقتي بنا والتي لا تفكر بأي منطق بحياتها ، واعتذر حقا على التلبك والاضطراب والذي سببته لكِ تلك الزيارة الغير مخطط لها"
ارتسمت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تهمس بخفوت متعاطف وكأنها تعيش مكانها
"لا داعي لاعتذارك من تصرف شقيقتك الكبرى ، فهي انسانة متفهمة وعفوية وتعمل فقط على اسعاد الجميع والتفكير بمصالحهم بدون اخذ مشورة احد او نصائح منهم ، وهذه الشخصية نادرة الوجود بوقتنا الحالي ! لذا لا تحمل نفسك هذا العبء وتفكر بمنظورك العملي بل عليك ان تكون سعيدا بأن هناك اناس يفكرون بك ويحبونك من قلبهم بدون اي مصالح او خدمات"
مالت ابتسامته بغموض وهو يدنو منها اكثر قائلا بهدوء مرتاب
"لقد كبرتِ كثيرا يا طالبتي الصغيرة واصبحت تقولين حكم ومواعظ ! ولكن هل هذا عائد من ثقافتك العامية ام من ثقافتك الشخصية ؟ هل هي تجارب بالتعليم ام تجارب بالحياة ؟!"
رفعت رأسها بسرعة بتشوش حتى تلاقت النظرات بينهما لبرهة اخذت كل الشحنات والافكار المتموجة بعقلها ، لتهمس من فورها بابتسامة صغيرة ببراءة
"قد تكون من تجارب الحياة ، فهي تعلمنا اخطاء ودروس لا نستطيع تجاوزها بسهولة ، وتبقى محفورة بذاكرتنا لنأخذ منها العبرة والموعظة"
غامت ملامحه بسحابة داكنة غير معلومة الاصل وهو يعقب قائلا ببساطة لا تمت للمرح بصلة
"إجابة منطقية ، لقد احسنتِ الكلام"
تغضن جبينها بارتباك غزى محياها وهي تخفض رأسها من جديد بعيدا عن صورتها التي ارهقت كيانها ، لترتعش مفاصلها بخوف ما ان همس بجانب اذنها بصوت اخترق طبقات عقلها
"ولكن فضولي يحثني على سؤالكِ بتجربتك تلك التي اعطتكِ الموعظة وجعلتكِ بكل هذا الاتزان والثبات ، وكأن احدهم قد كسر قلبكِ الصغير ورحل وانتزعه من بين اضلعك !"
تسارعت انفاسها بنشيج خافت وهي تضم قبضتها اكثر عند طرف مقعدها حتى احتقنت الدماء بها ، لتخفض بعدها نصف جفنيها وهي تهمس بوهن عابس
"انا اشعر بالنعاس الشديد ، هل نستطيع تأجيل الكلام والخلود للنوم ؟"
زادت سخونة انفاسه على جانب وجهها بدون ان يصغي لكلامها وهو يهمس بانفعال خافت وكأنها ألسنة نيران
"ألم يحن الوقت بعد يا غزل ؟ لقد طال الامر اكثر مما ينبغي"
ابتلعت (غزل) ريقها بلوعة وهي تحاول تنظيم انفاسها المضطربة بالتفكير بنقطة بعيدة ، لتنصب بعدها ظهرها المتقوس بصعوبة وهي تهمس بخفوت محتقن بحياء
"فقط بضعة ايام اخرى ، امنحني بضعة ايام ، واعدك لن اتأخر عليك اكثر"
اخذ عدة انفاس امتصت حرارة بشرتها منبعها الحريق بخلدها ، وما ان ظنت لوهلة بأنه سيبتعد عنها من برودة انفاسه حتى استشعرت القبلة الحارة على صدغها لتنحدر على جانب وجهها حتى توقفت على وجنتها الحمراء الناعمة مثل بتلات الورود ، وبدون ان تدرك كان العقد ينزلق من كفها بسلاسة حتى استقر عند ساق الكرسي ، ولم يستطع صوته الوصول لهما او اختراق هالتهما العاطفية التي خلقها حولهما وهو يمسك برأسها الناعم بيد ويقتنص شفتيها بقبلاته الحارة التي وصلت لها بنهاية المطاف وزعزعت ثبات صمودها المتخاذل .
شهقت من بين قبلاته ترتجي بعض الهواء وهي تنزع نفسها بعيدا عنه وتدفع صدره بقبضتيها الصغيرتين ، ليحررها من سباق خاطف للأنفاس وهو يرفع رأسه بعيدا عنها بلهاث عنيف اختل بتوازن عواطفهما وعبث بخفقاتهما ، بينما تراجعت (غزل) بجلوسها للخلف وهي تتمسك بيديها بظهر الكرسي بتماسك وكأنها قد فقدت نفسها بتلك اللحظات الخاطفة .
افاقت على صوته العابث وهو ما يزال منحني نحوها قائلا بانتشاء بالغ تلاعب بخفقات قلبها مثل طرق المطرقة على حديد حامي
"هل اعجبتكِ التجربة ؟ اردت ان اريكِ نبذة عن خفايا علاقتنا الحميمية التي لم تكتمل للآن ، لتكوني اكثر استعدادا لها واكثر تحفزا وتمهيد من اجلك"
فغرت فاها الصغير بصدمة وهي تحاول تنظيم انفاسها التي بعثرها بهجومه الكاسح الغير رحيم ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بإحراج مفرط وهي تنكس برأسها بضعف خائن تفاقم بداخلها ، لتنتفض بعدها بقوة مختلفة عن كل مرة وهي تنبع من عقلها الذي تنبه للخطر الوشيك ما ان قال الواقف بجوارها بعبوس حائر
"ما هذا الشيء الذي اوقعته ؟"
ادارت وجهها بكل النواحي بحثا عن الشيء المفقود والذي تسلل من قبضتها وهرب ، وما ان لمحته ملقى بجانب ساق الكرسي حتى رأت اليد التي تكفلت بخطفه منها وامام عينيها المشدوهتين بارتياع .
استقام (هشام) بمكانه وهو يحدق بالعقد بإمعان شديد قبل ان يردف بوجوم
"هذا العقد ليس نفسه الذي كنتِ ترتدينه قبل دقائق ، انه......"
قطعت (غزل) منتصف كلامه وهي تقول باندفاع غريزي يدفعه الخوف الذي شب مخالب بصدرها
"هذا العقد لي"
رمقها بنظرات باردة وكأنها قد فتحت على نفسها شكوك واسئلة بدأت تخطر بباله من دفاعها المبالغ به والغير واعي ، لتعتدل بسرعة بجلوسها وهي تبدل حالها هامسة بتعديل عفوي
"اقصد بكلامي بأن هذا العقد يخصني وقد اشتريته عندما كنت امكث بمنزل عائلتي ، هذا ما كنت اقوله لك ، لذا لا تفهمني بشكل خاطئ"
كان (هشام) يحدق بها بصمت قاتل وهو يعود بنظره للعقد الرقيق بيده ليقول بعدها بتفكير بديهي وكأنه يعمل على تشريح العينة امامه
"اتذكر جيدا هذا التصميم البسيط الرقيق ، فقد اشتريت مثله من قبل عندما ذهبنا معا إلى محل المجوهرات وكنتِ مسحورة به ! لم اكن اعتقد بأنكِ تملكينه مثله بالفعل ، أليست مصادفة غريبة !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تشعر بتلميحات مبهمة تدور من حولها مثل حبال قاتلة ، لتلوح بعدها بكفها بلطافة وهي تهمس بمرح زائف
"اجل هذا صحيح انا املك مثله لأنني احب هذا التصميم الفريد من نوعه بالمجوهرات ، فهو ليس غالي وغير مبتذل بل بسيط ورقيق وبغاية النعومة ، وهذه اهم السمات الاساسية التي تجذبني وتسحرني بكل انواع المجوهرات"
اومأ برأسه بحركة غير معبرة وهو يرفع العقد بأصابعه الطويلة قائلا بهدوء جاف
"إذاً هو ليس هدية من شخص مهم ! صحيح ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس بخفوت مرتجف خرج عن إرادتها
"لا ليس هدية ، ليس هدية من احد"
تجمدت ملامحها ما ان وجه نظره لها بطريقة تعبث بالأعصاب وهي تحمل اتهام مبطن ، ليمسك بعدها بالعقد بكلتا يديه وهو يقول بجدية اختفت معها سمات المرح الزائف
"إذا لم تقولي الحقيقة فهذا العقد سينتهي ، لذا قولي الصراحة بدون اي مراوغة ، فهذه الحيل البالية لا تجدي معي !"
شحبت ملامحها بجزع نفرت الدماء منها وهي تهمس من فورها بتخبط واضح
"ماذا تقصد بهذا الهجوم ؟ انا اقول لك الحقيقة ! لماذا تتهمني بالكذب ؟"
قطب جبينه بجمود بنوايا سوداوية وهو يشدد من امتداد العقد بين يديه ، ليهمس بعدها بصوت خفيض غير متسامح
"ألن تقولي الحقيقة ؟ الامر يعود لكِ !"
نهضت (غزل) عن مقعدها وهي تلوح بيديها بوجل هامسة بخوف شديد
"لا ارجوك لا تقطعها ! انها مهمة جدا وثمينة بحياتي ، هذا العقد ، هذا العقد هدية من ابي ، هو من اهداني إياه"
ضيق حدقتيه الجامدتين بدون اي رأفة وهو يرسم ابتسامة باردة على محياه قائلا بخفوت ساخر
"وهل نزل ذوق والدك مالك متاجر المجوهرات لدرجة شراء مثل هذه القلادة الرخيصة ؟ هل هذا منطقي برأيك ؟........"
قاطعته (غزل) هذه المرة بقوة وهي تنفض ذراعيها للأسفل قائلة بضراوة لا تليق بها
"إياك وان تهين صاحب هذه الهدية ! فهي عندي اهم من كل مجوهرات العالم ، فالمهم هي قيمة صاحب الهدية وليس سعر الهدية بحد ذاتها ، ويبدو بأنك تفتقر لهذه الامور لأنك ببساطة بلا مشاعر !"
كست ملامحه طبقة جليدية وليس دفاعها الاعمى عن صاحب الهدية هو ما جرحه بل حقيقة هوية صاحب الهدية والتي تيقن بها بدون سؤال ، وكم هو شعور مهول ان يسمع كل هذا الموشح والعداوة بصوتها من اجل شخص عابر مر بحياتها ولم يفي بعهوده ولم يكن رجلا بحق ، بانت القسوة على ملامحه لأول مرة وهو يشدد من قبضتيه على جانبيّ العقد ليردف قائلا بعدم اهتمام
"يبدو بأنني قد تهاونت معكِ كثيرا ، وحان الوقت لتلقي العقوبة على افعالكِ"
شهقت (غزل) بنحيب وهي تصرخ بكلمة واحدة بانهيار
"لا تفعل !"
ولكن الاوان كان قد فات بعد ان انقطعت السلسلة الخاصة بالعقد وتناثرت خرزاتها الصغيرة والخيوط الذهبية حتى لم يعد له قيمة تذكر ، لم تتحمل ساقيها اكثر وهي تجثو على ركبتيها ببطء شديد وكأنها تستوعب المصيبة التي حدثت امامها واخذت معها مشاعرها الوردية ، ما ان استقرت جالسة ارضا حتى همست بدموع بدأت تنهمر على محياها الشاحب
"يا لقسوتك ! يا لقسوتك ! عديم القلب ، بلا رحمة"
غطت وجهها بيديها وهي تجهش ببكاء منتحب فقدت القدرة على كبته بعد ان فاض بداخلها بمركب غرق كل من فيه ، بينما تراجع الآخر عدة خطوات بملامح مكفهرة وهو يراقب الصورة امامه التي دمرت كل لحظاتهما الحميمية السابقة وحجرت قلبه بعيدا عن المشاعر ، وكأنها تعيد الزمن من جديد وتكتب عنوان قصة انتهت قديما بالخذلان والجرح وانطمست بالخيانة الغير مرئية ! وعندما فاض به الكيل كان يغادر من الغرفة بأكملها بخطوات متسارعة حتى اختفى عن الانظار وبعيدا عن ندوب قلبه ، ليترك مكسورة القلب تبكي على ذكرياتها الحبيسة التي خرجت للسطح لأول مرة وتشوهت بعينيها بأسوء طريقة وبأسوء وسيلة ، فما هو ذنبها ان كانت قد وقعت بالحب واختار قلبها ؟ ما ذنبها ؟!
______________________________
كانت جالسة خلف المكتب وهي تكتب اسئلة الاختبارات على الورقة البيضاء الفارغة لكي تستطيع فيما بعد تصويرها عدة نسخ على آلة الطباعة ، تغضنت زوايا حدقتيها الخضراوين بتركيز مجهد عندما تعطي الامر اكثر من اهتمامها الطبيعي وتضع كل من قوتها الذهنية والجسدية براحة كفها ، ولكن عندما يكون هذا نظام حياتها الاعتيادي الذي برمجت جسدها عليه منذ سنوات مراهقتها الأولى يكون الامر بغاية السهولة والبساطة وهذا ما يسمى بالتأقلم والتكيف مع الوضع ، وثاني سبب لأنها تحب فعل هذا لذا لا تجد الامر يضايقها او يتعبها فهذه الامور تكمن بها سعادتها الحقيقية التي تنسيها محيطها وعالمها بأسره ، وكذلك تنسيها ندوب قلبها الغائرة التي بدأت تحرقها بنيران حية بأحشائها تستطيع القضاء على دواخلها بدون السماح لها بالتسرب للخارج تضاهي لمعان حدقتيها القاسيتين بألم غير مرئي بالعين المجردة .
انتفضت (روميساء) برأسها للأعلى وهي تخرج نفسها من عالمها الذي كانت مأسورة به بكل حواسها ما ان اقتحم طرق الباب عالمها ، لتعيد بعدها تركيزها على الورقة امامها وهي تقول بصوت مهني متحفظ
"تفضل بالدخول"
سمعت صوت انفتاح الباب بهدوء قبل ان تقترب الخطوات منها بصمت باتجاه المكتب ، وبعد مرور عدة لحظات اخرى بدون ان ينتابها الفضول حول هوية الطارق كان يبادر بالكلام قائلا باتزان شديد
"هل استطيع لفت نظركِ قليلا ؟"
توقفت يدها بأصابع تصلبت بإمساك القلم وهي ترفع وجهها بملامح غائمة مسحت التعابير عنها ، وما ان طال الصمت اكثر حتى قطعه من جديد وهو يقول بجدية اكبر
"لو سمحتِ اعطيني القليل من وقتكِ"
عقدت حاجبيها بتعبير مبهم وهي تعتدل بجلوسها باستقامة ، لتقول بعدها بابتسامة جافة شبه فظة
"ليس لدي الوقت للكلام بشيء يا سيد يوسف ، لذا إذا كان لديك مشكلة او استفسار بخصوص اي موضوع يمكنك الانتظار حتى موعد الراحة ، اما الآن فلا استطيع مساعدتك بشيء ، وشكرا على تفهمك"
ارتفع حاجبيه بدهشة سرعان ما بدلها بوجوم كاسح وهو يقول بإصرار جاد
"اريد التكلم معكِ الآن ، ولا استطيع الانتظار دقيقة اخرى ، فما اريد التكلم عنه هام جدا !"
ارتبكت ملامحها رغما عنها وهي تتقدم بجلوسها قليلا لتقول بتأهب جاد
"هل الموضوع يخص ابنك سامي ؟ هل يعاني من مشاكل لا اعلم عنها ؟ فأنا قد رأيته اليوم صباحا وكان يبدو بأفضل حال وبنفس تفوقه المعتاد !"
حرك رأسه بالنفي بقوة وهو يلوح بذراعه نحوها قائلا بدون ادنى تردد
"ليس سامي من يعاني المشاكل ، بل انتِ التي تعانين من مشاكل ولا تريدين البوح بها ! أليس كذلك ؟"
تغضنت تقاسيمها بقسوة وهي تخفض نظرها لتلهي نفسها بالتلاعب بالقلم بيدها قبل ان تقول بجفاء قاسي
"يبدو بأنك لم تفهم ما كنت اخبرك به سابقا ، او لم تصل لك الفكرة بوضوح ! انا لا احبذ ادخال المسائل الشخصية بمسائل العمل ، وانت تخطيت كل الحدود بمثل هذا النوع من الاسئلة الصريحة الغير مراعية للمراتب بيننا ! لذا من فضلك إذا كان هناك مشكلة تتعلق بحياة ابنك يمكنك ان تخبرني بها ، إذا لم يكن كذلك يمكنك ان تغادر من مكتبي بكل احترام ، وهذه الأوامر لا جدال بها"
تعقدت ملامحه بصورة قاتمة وكأنه يتلقى الرفض والتقريع بطريقة غير مباشرة ، ليزفر بعدها انفاسه بقوة وهو يكتف ذراعيه بجمود قائلا بهدوء واثق وهو يقبل تحديها بعصيان اوامرها
"وإذا اخبرتكِ بأنني لست مستعد للأصغاء لكلامكِ وسأفعل ما يمليه عليّ دوري ويوصيني به عقلي ، هل ستملكين حينها الجرأة على طردي من مكتبك قبل سماعي كلامي ؟ هل ستمنحينني الفرصة لأعبر بها عن الشيء الذي اتيت للكلام عنه ؟"
ضاقت حدقتيها الخضراوين بصدمة وببعض الغضب الذي بدأ بالتشرب بملامحها البيضاء المصقولة ، لتنهض بعدها عن الكرسي بقوة وهي تقول بهجوم مضاد بدون اي رهبة
"وإذا اخبرتك بأني ارفض كل طرقك ووسائلك بإرغامي على الاستماع لك ، هل سترحل حينها من مكتبي وتتركني وشأني ؟"
حدق بها (يوسف) بصمت قاتل وهو يقول بدون اي مواربة
"لن ارحل يا روميساء ، لأنكِ ستسمعين كلامي شئتِ ام ابيتِ !"
تجمدت ملامحها ببهوت لوهلة قبل ان تدور حول المكتب بلمح البصر ، وما ان وقفت امامه تماما حتى اشارت بيدها ناحية الباب وهي تقول بصفاقة لأول مرة
"وانا الآن سأطلب منك ان تخرج من مكتبي بكل هدوء وادب لكي لا استدعي الامن لك ونصبح بفضيحة نحن بغنى عنها"
ارتفع حاجبيه باستهانة وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بثقة بالغة من يعرف ادق تفاصيل حياتها
"لن تفعلي هذا يا روميساء ، فهذا ليس انتِ !"
ضمت يدها المرتفعة بالهواء وهي تخفضها على جانبها بقوة ، لتقول بعدها بصوت خفيض لم يفقد حدته
"ما لذي تريده مني بالضبط ؟ ألم يكفيك كل ما حدث معي بسببك ! هل تريد ان تجعل حياتي اكثر صعوبة ؟......"
قاطعها (يوسف) بسرعة وهو يقول باستهجان عابس
"ماذا تعنين بهذا الكلام ؟ ما لذي فعلته لكِ حتى انقلبتِ عليّ هكذا ؟ هل بدر مني ما يضايقك ؟"
تنفست (روميساء) بضيق كتم على صدرها وهي تكتف ذراعيها بلحظة لتقول بعدها بجدية باردة
"عن ماذا تريد التكلم معي يا سيد يوسف ؟ هلا اختصرت وقلت ما لديك بسرعة ؟"
تغضن جبينه بتصلب وهو يقول بهدوء صريح
"اريد ان اعرف ما هي مشكلتكِ ، ما لذي اصابكِ بالآونة الاخيرة ؟ ماذا فعلت لكِ حتى تغيرت معاملتكِ هكذا ؟ لقد اصبحت شخصيتكِ فظة وجافة وكأنها انعكاس عما كنتِ عليه سابقا !"
اتسعت حدقتيها الخضراوين باهتزاز طفيف وهي تخفيه بلمحة برود اكتسحت محياها ، لتشيح بعدها بنظراتها جانبا وهي تقول ببرود ساخر
"أليس هذا افضل بكثير ؟ فأنا اتصرف بردة فعل تلقائية ازاء ما يفعله الآخرين معي ، وهذه تصرفاتهم قد انعكست بداخلي وخرجت بشخصيتي ، لذا قبل ان تحاسبوا افعالي حاسبوا انفسكم اولاً !"
قطب جبينه بتفكير لبرهة وهو يتقدم نحوها اكثر ليقول بعدها بنبرة استياء
"ألا تستطيعين ان تكوني صريحة معي وتبوحي بما يشغل بالك ؟ فأنا اريد ان اعرف بماذا اخطأت حتى تحولت شخصيتكِ هكذا ! وكيف احاسب نفسي وانا لا اعرف ماذا اقترفت بحقك ؟ قولي يا روميساء !"
نفضت قبضتيها للأسفل وهي تقول بجموح بعد ان تلاعب بأعصابها المشوشة
"حسنا إذا كنت تريد ان تعرف اسمع ، انا ألومك على كل شيء حدث معي وتسبب به وجودك بحياتي ، هل تعلم السبب ؟ لأنك قد دخلت طرف ثالث وافسدت التفاهم والصدق بعلاقتي الزوجية ، كيف حدث هذا ؟ لأنك ببساطة قد تعمدت ارتكاب كل هذا ، لقد ارسلت عنوان منزلك لأحمد لكي يحدث سوء التفاهم بيننا ، لقد حضرت حفلة زفاف عائلتنا لكي تعبث الظنون بعقل احمد ويفكر بأنني من دعوتك ، لقد اعطيته قلادتي المفقودة التي احتفظت بها كل هذه المدة لكي تستطيع تسليمها لأحمد شخصيا وتزعزع ثقته بنفسه وبي وتزرع الشوك بيننا ، ألست انت مرتكب كل هذه الجرائم فقط بسبيل تدمير زواجي ؟ لقد اخذ مني الامر وقتا طويلا لأستوعب وافهم ما يحدث من حولي ، فكل الخيوط والحقائق تدور من حولك انت وتوصلني إليك انت ، وانا لست بكل هذا الغباء لكي تستغفلني اكثر من مرة وتفلت بفعلتك وكأن شيء لم يكن ! لن تستطيع خداعي اكثر من هذا فقد كشفت كل ألاعيبك ، والآن للمرة الاخيرة سأقول لك اخرج من مكتبي ومن كامل حياتي ، اخرج من هنا"
تلبدت ملامحه بمزيج بين صدمة واستنكار قبل ان تخرج بالنهاية على شكل ابتسامة ملتوية باستهزاء ، لتتحول بعدها لضحكة صغيرة ترددت صداها بزوايا المكتب سمرتها بمكانها وهو يتبعها بالقول بسخرية واضحة
"حقا يا روميساء ! بعد كل هذا العمر ما تزالين غبية ! واليوم اثبت بأنكِ الاغبى على الاطلاق ، هل هذا كل ما توصلتِ له بدراستك ؟ أليس هناك شيء مفقود بكل هذه القصة ؟"
عقدت حاجبيها بحيرة غزى محياها وهي تقول من فورها بتذمر حانق
"ماذا تقصد بكلامك ؟ هل تحاول السخرية مني والتستر على افعالك ؟ هل ترى الامر مضحك لدرجة ان تقلبها مهزلة !......."
قاطعها (يوسف) وهو يرفع يديه بروية قائلا بهدوء جاد
"اهدئي وفكري جيدا ، ما لذي سيدفعني لفعل كل هذا ؟ وما لذي جعلكِ تشكين بي انا بين كل الناس ؟"
تبرمت شفتيها بعبوس مستصعب وهي تهمس بامتعاض محتقن
"لا اعلم تحديدا ، ولكنك ربما ما يزال يأخذك الامل بأن يحصل بيننا شيء ما ! هذه مجرد توقعات"
لانت ملامحه بهدوء وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"ولهذا السبب تحديدا لن اخاطر بارتكاب مثل هذه التصرفات الغير مسؤولة فقط بسبيل الحصول عليكِ بطرق رخيصة مبتذلة ، فأنا إذا كنت اريد شيئاً منكِ اذهب إليكِ مباشرة بدون اي عوائق او مخاوف ، هكذا تسير مبادئي واحكامي"
اشاحت بوجهها جانبا تحاول تمالك نفسها بعد سماع تلك الكلمات التي ضربت اعماقها بشدة وجلبت المهانة والخزي لها بعد اتهامها الحقير ، لتقول بعدها بشبه ابتسامة حفت طرف شفتيها بشحوب
"إذا لم تكن الفاعل الحقيقي ، فماذا تفسر قصة احتفاظك بالقلادة وتسليمها لأحمد ؟ وماذا كان هدفك من حضور حفلة الزفاف بدون دعوة ؟ ما هو دفاعك ضد كل هذه المؤشرات ؟"
اخذ (يوسف) عدة انفاس طويلة قبل ان يقول بجمود اختفت خطوط ابتسامته بقتامة
"انتِ لا تعرفين شيء مما يدور من حولك يا روميساء ويحدث امام عينيكِ ! ولكني مع ذلك سأجاري تحليلاتك واجيبكِ على اسئلتك ، اولاً هل فكرتي كيف سأستطيع ارسال عنوان المنزل لزوجك وانا لا املك رقمه ؟ ثانياً كيف عرفت موعد وموقع حفلة الزفاف والتي لا يسمح بالدخول لها بدون دعوة ؟ وثالثاً كيف سلمته القلادة وانا غادرت الحفلة فور انتهائي من توديعك ؟ ألم يخطر ببالك بعض الاسئلة او الشكوك حول شخص آخر يعرف اسرارك ويعيش معكِ ؟ شخص يعرف عنوان منزلي ومقرب من زوجك ويحاول دائما التودد لكِ وسبر اغوارك ! هل عرفتي من المقصودة بكلامي ؟!"
اعادت حدقتيها نحوه بشحوب غزى محياها وهي تعقد حاجبيها بعصف ذهني ، لتهمس بعدها بصوت متخاذل بوجوم
"هل تقصد ضرتي ؟ هل تحاول التلميح بأن سلوى هي سبب كل هذه المشاكل ؟"
اومأ برأسه ببساطة بدون اي تعليق وهو يراقب ردة فعلها عن كثب ، بينما زفرت الاخرى انفاسها بنشيج خانق وهي تهمس بتشتت غارق بفوضى الاحاسيس
"لماذا عليّ تصديقك ؟ لماذا لا تكون تفعل هذا فقط لتشتيت عقلي وابعاد الشكوك عنك باتهام غيرك ؟ لماذا......"
قاطعها (يوسف) وهو يقول بتبرير عملي وكأنه توقع عدم تصديقها وهو يقلب كل اوراقه
"لقد عرفت بأن هذا سيكون جوابك ، ولكني سأوجه لكِ بعض الاسئلة البديهية ، كيف عرفت بأن سلوى هي التي اهتمت بأمر سيارتكِ المعطلة باليوم التالي من تعطلها ؟ كيف عرف احمد عنوان منزلي بعد حادثة تعطل سيارتك ؟ لماذا الآن قد اعاد القلادة المفقودة لكِ بعد الزفاف بأيام ؟ وإذا كنتِ ما تزالين مصرة على عدم التصديق بدون رؤية ادلة ، فأنا املك بطاقة دعوة زفاف حصلت عليها مباشرة من سلوى التي جاءت إلى منزلي وسلمتني إياها ، هل هذا كافي لتسقطي الاتهام المجحف بحقي وتصدقي كلامي ؟ هل هذا كافي لتفتحي عقلكِ المغلق وتري كل شيء يدور من حولك ويحدث ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تحني حدقتيها للأسفل بعدم ثبات بعد ان كسرتها الحقائق المتوالية وحجمت قلبها عن اي شعور ، لتشدد بعدها على قبضتيها بقهر وهي تهمس بخفوت مرير
"انت تكذب ! قُل بأن ذلك غير صحيح ! قُل بأنك ما قلت ذلك الكلام ألا من اجل تبرئة نفسك امامي ، قُل بأنها ليست الحقيقة ، قُل بأن الحقيقة مغايرة لكل هذه السخافات !"
حرك (يوسف) كتفيه ببساطة وهو يقول بهدوء حازم بدون اي مواربة
"هذه الحقيقة يا روميساء ، الحقيقة التي عميتِ نفسكِ عنها واستمريتِ بالكذب عليها"
ابتلعت ريقها بارتعاش مر على كامل جسدها بلحظة وهي تضرب بقبضتها على جانب رأسها قائلة بإدراك متأخر
"انا بالفعل غبية ! يا لغبائي ! غبية وبجدارة"
ارتجفت انفاسها بنشيج وهي تتراجع عدة خطوات لترمي جسدها على الاريكة القريبة بهدوء منهار ، لتسترجع بعدها شريط ذكرياتها منذ لحظة مقابلتها تلك المرأة التي اصبحت ضرتها والمشاكل التي تلت بعدها من التشابك الدائم بينها وبين شقيقتها وانعدام الوفاق بينهما حتى وصلت لحظة انفجار شقيقتها بذلك الكلام البذيء وصفعها والانقلاب عليها ، والآن تستطيع رؤية الحقائق واضحة مثل وضوح الشمس والتي اخفتها عن ناظريها بسبيل العيش بحياة سعيدة مسالمة اصمت اذنيها عن كلام (ماسة) واغمضت عينيها عن رؤية الوقائع .
ما ان كان على وشك الاقتراب منها بقلق حتى اوقفته بكفها الحازمة قائلة بهدوء متزن
"لو سمحت يا سيد يوسف غادر من مكتبي حالاً ، لن استطيع التهاون معك بحال تماديت معي اكثر ، لذا ارحل من هنا واتركني لوحدي ، وعليك ان تعلم بأن مخفي الحقيقة ومفتعلها الاثنين جزائهما واحد !"
تجمدت ملامحه ما ان وصله المعنى القاسي من كلامها وهو يزيد من ذنوبه عندها ، ليغادر بعدها بهدوء من خلال الباب المفتوح بدون ان يضيف شيء آخر ، بينما الجالسة بمكانها كانت تمسح يديها ببعضهما بتعرق وهي تشعر بالنيران التي كانت تحرق داخلها بدأت ألسنتها باختراق قشرتها والتمرد على إرادتها التي تدمرت بلحظة .
_______________________________
دخل لغرفة المكتب بخطوات كسولة مستهترة لم تهذبها مرور السنوات والشهور الاخيرة التي غيرت الكثيرين وتركت بصمات على كل واحد منهم ، ولكنه هكذا دائما لا يخضع لأي تغيير طبيعي او وضعي ولا يطرأ عليه اي اختلافات او فروقات مهما ساءت الامور وآلت لها ، كان يقف امام المكتب وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بنوع من التململ
"ماذا هناك يا ابي ؟ لماذا تريد عقد اجتماع بهذا الوقت من الليل ؟ اتمنى ان يكون موضوع هام حقا ويستحق الاجتماع من اجله بعيدا عن النصائح والإرشادات الاعتيادية"
تقدم بجلوسه فوق سطح المكتب وهو يقول بعبوس صارم
"قف باعتدال يا ولد ، انت تتكلم مع والدك وليس مع احد زملائك ! ألم تتعلم الاحترام بعد كل هذه السنوات حتى كاد الشيب ان يلامس خصلات شعرك ؟"
رفع رأسه بتفكير تمثيلي وهو يقول بابتسامة مسرحية باستهزاء
"انت تبالغ بالكلام يا ابي ، فأنا ما ازال بريعان شبابي لم اتخطى سن الثلاثون بعد ، ألا إذا كنت تتكلم عن الشيب الذي غطى معظم رأسك حتى لم يعد لك فرصة للعودة لأيام الشباب !"
قاطعه والده بصوت جهوري بأمر نافذ
"مازن اصمت"
صمت بالفعل وهو يقف باستقامة كما طلب ليقول بعدها بابتسامة هادئة يمثل الجدية
"حسنا يا ابي ها انا موجود امامك ، لذا هلا اخبرتني بموضوع هذا الاجتماع الهام لكي استطيع ابداء رأيي به ؟"
تنفس بإجهاد وهو يقبض على يديه فوق سطح المكتب ليعطي كامل تركيزه على ابنه قائلا بصوت صلب جهوري
"ما اريد التكلم عنه هام بالفعل فهو بعيد عن المسائل العائلية ومسائل العمل ، لأنه يخص حياتك انت بشكل خاص وحان الوقت للتفكير بالأمر بجدية واعطائها كامل الاهمية ، فقد قمت بتأجيل هذا الامر فترة طويلة"
غابت الابتسامة عن ملامحه وهو يقول بصوت مرتاب وكأنه قد كشف طرف الحوار
"اشعر بأن الموضوع الذي ستتكلم عنه لن يعجبني ولن يسرني ، ومع ذلك سأتحامل على نفسي واخيب ظنوني لأسألك بكل براءة بماذا تريدني يا ابي !"
عقد حاجبيه بتأهب وهو يقول بدخول مباشر بدون اي مقدمات
"لقد حان الوقت لبدأ صفحة جديدة من حياتك بالزواج وبناء عائلة لك ، وقد حجزت لك العروس المناسبة وهي تنتظر فقط إشارة واحدة منك !"
ساد الصمت بينهما للحظات خاطفة زادت الشحنات المرتقبة بينهما وهو يقطعها صاحب الابتسامة الساخرة بدون ان تمت للمرح بصلة
"رائع يا ابي ! لقد ابهرتني بالفعل ، تريد ان تزوجني ! لا وايضا حجزت العروس وختمت عليها ! ماذا كنت اتوقع غير هذا منك ؟"
ردّ عليه (جلال) من فوره وهو يقول بتقريع غاضب
"احترم نفسك يا ولد ! وتذكر مع من تتكلم بهذا الاسلوب الوقح والتمرد"
ادار عينيه بعيدا وهو يقول باستنكار عابس وكأنه يحاول تقبل الحقيقة التي سمعها بأسلوبه المتمرد
"لا اصدق ما اسمعه ! انت يا ابي تفعل هذا ! لم يمر سوى شهر ونصف على عودة ابنتك من خطة زواج فاشلة ، وكل ما تفكر به ويشغل بالك هو زواجي انا ، منذ متى وانت تخطط لهذه الفكرة العظيمة ؟ بالتأكيد اخذ منك الامر وقتا طويلا بين البحث عن العروس المطلوبة ومهمة اقناعها وحتى قبل ان يتدمر زواج صفاء ! لماذا تفعل هذا يا ابي ؟ لماذا لا تتوقف عن معاملتنا مثل دمى متحركة بين يديك ؟"
تجمدت ملامح والده بعد ان افرغ ابنه كل غضبه القديم دفعة واحدة ، ليقول بعدها بلحظات بهدوء مبرر وهو يلقي الاتهامات عنه
"لقد وضعتني موقع الاتهام لكي تنجي نفسك من هذا الزواج ! وتستخدم زواج شقيقتك حجة والذي كان متوقع فشله منذ البداية ، وانت تعلم جيدا بأنها قد بدأت حياتها من جديد وهي تتأقلم وتندمج بمحيطها كما بالسابق ، فأنا لطالما كنت افكر بمصلحتكما وما يذهب لتحقيق الافضل لكما ، فلماذا تمانع فكرة ضمان حياتك المستقبلية وتجهيز الزوجة المناسبة لك والتي ستجلب الهناء والسعادة لحياتنا وتحقق حلمي برؤية احفادك ؟ يكفي دمار حياة شقيقتك الزوجية والتي حملت لقب مطلقة بعد شهر من الزواج ، هل تريدني ان ابقى اقف على الاطلال وادمر حياتك كذلك ؟ انت هو املنا الوحيد ببدء صفحة جديدة لنا جميعا وجلب السعادة لي قبل موتي ، سمعتني انت هو الامل الباقي لنا !"
اعاد نظراته لوالده بملامح باردة وهو يقول بشبح ابتسامة قاسية
"تقول بأن صفاء بدأت تتأقلم مع الوضع وتتحسن ! هل هذا دافع قوي من اجل البدء بحياتنا ونسيان الماضي وبناءها فوق الاطلال ؟ كيف تنسى يا ابي بأننا السبب بكل ما جرى وآلت له حياة صفاء ؟ بأننا السبب بحملها لقب مطلقة بعمر صغير وبعد شهر من زواجها ! كيف تفكر بحياتي الشخصية والاخرى حياتها مدمرة ؟ انها ابنتك التي تدمرت وتعاني من مخلفات الماضي والحقود التي جعلتها صفقة وكبش فداء بتلك الحرب ! عليك ان تفكر بها اولاً قبل كل شيء وقبل اي خطوة تريد ان تبنيها بحياتنا ، فهكذا سنكون بمنتهى الانانية والانحطاط عندما نفكر بأنفسنا على حساب من دمرنا حياتها وتلاعبنا بمصيرها بدون اي ضمير"
تغضنت ملامحه ببعض التجاعيد التي بانت على محياه قبل ان يزفر انفاسه بكبت وهو يتبعها بالقول بأسلوب المنطق
"كفى اتهامات وإهانات كبيرة بحقي ، لقد فعلت كل جهدي من اجل شقيقتك التي تتكلم عنها بتبجح ودفاع ، لقد قدمت طلب لالتحاقها بفصول الجامعة وتكفلت بالمصاريف ، لقد وضعت لها حساب خاص بالبنك تتصرف به كما تشاء ، تركت لها الحرية بحياتها واعطيتها مساحة خاصة بها ، ماذا تريدني ان افعل اكثر من هذا ؟ هل تريد مني ان ابحث لها عن عريس يقبل بامرأة مطلقة بعد شهر من زواجها ؟ هل تريدني ان اذهب وانتقم من الرجل الذي دمر حياتها ؟ لقد انتهت مساعداتي لها عند هذا الحد وما تبقى عائد لها ويعتمد على إرادتها بهذا الوضع"
حرك (مازن) رأسه بطريقة ساخرة وهو يقول باستهجان واضح
"لن تفعل هذا ! من المستحيل ان تفعلها ! لأنك لو اردت فعلها حقا لما انتظرت شهرين كاملين ولكنت فعلتها منذ بداية الزواج المدبر ، ولكنك لم تكن تريد فعلها لقد اردت ان يحدث كل هذا لكي تستطيع حماية حياة ابنك وتستطيع بناء عائلة له ، كما ستفعل الآن تماما ، فهدفك لم يتغير ومبادئك كذلك لم تتغير"
تجهمت ملامح والده وهو يقول بجمود كاسر
"اخرس يا مازن ! فقد تماديت كثيرا بالكلام معي ! وانا هذا الاسلوب لم يعد يعجبني ، وإذا كنت قد نسيت فهي ما تزال زوجته للآن ولم يتم الطلاق بينهما ، يعني امرها ما يزال مرتبط به ولا نستطيع ان نقدم اي خطوة نحوها......."
قاطعه (مازن) بهجوم شرس وهو يلوح بذراعه بعنف
"ولماذا لم تطلقها منه للآن ؟ ماذا تنتظر اكثر ؟ انا اعرف ماذا تريد ، ما تزال تتأمل بأن يعيدها له وتستعيد زواجها المدبر ، وهكذا لن تحمل لقب مطلقة كما يشيع بين الناس والذي اصبحوا يتهامسون به بتشمت وسخرية......"
قاطعه كذلك بقوة اكبر وهو يصرخ فوق صوته بصرامة يوازي صرامة ملامحه
"كفى يا مازن ! لا اريد سماع المزيد من الكلام الفارغ عن هذا الموضوع ! وإذا حاولت عصيان اوامري فلن اتهاون معك بالمرة القادمة ، وسيكون مصيرك اسوء من الطرد من المنزل ، فأنت فقط تكون شقيقها ولن تشعر بها اكثر من والدها ، وليس عليّ ان اظهر مشاعري وحزني عليها مثلك لتصدق ما اقول وما امر به ! واساسا هذا لم يكن موضوعنا الذي اجتمعنا من اجله وغيرته لوجهة اخرى على مزاجك ، لذا إذا لم تفعل كما اقول واطلب منك تماما فلن اكون متسامح معك"
عبست ملامحه بتمرد وهو يستدير بنصف جسده قائلا ببرود جليدي
"وانا سأخبرك بجوابي على طلبك وهو الرفض ، وقد كان هكذا سابقا ولم يتغير شيء ، فأنا لن اتزوج اليوم ولا غدا ولا بعد مئة سنة ، والآن قد اصبح هناك دافع اقوى للرفض"
ارتفع حاجبيه بتغضن مصدوم وهو يصرخ من فوره بغضب جامح فقد السيطرة عليه
"لن اسمح لك بفعل كل شيء على هواك ، ولن اسمح لك بالتمرد اكثر واضاعة سنوات من عمرك ومن عمرنا ، لن اسمح لك......"
توقف عن الصراخ ما ان خرج الطرف الآخر من الحوار ومن الغرفة بأكملها وهو يضرب كلامه عرض الحائط ، ليأخذ بعدها عدة انفاس عصيبة وهو يمسد بكفه المجعدة على عنقه بضيق تنفس اصبح يداهمه مؤخرا ، ليفك بعدها ربطة عنقه بعنف وهو يريح ظهره على الكرسي ببعض الاسترخاء الذي اصبح اكبر امنياته فقط الحصول على الراحة والتي حرموه منها افلاذ اكباده .

نهاية الفصل..........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن