الفصل السادس والأربعون

190 6 0
                                    

فتحت باب الغرفة وهي ما تزال تطرق عليه بانتظام لتطل برأسها وهي تستطلع المكان حتى استقرت على الجالسة امام المكتب الصغير تحيط بها هالة من الصمت ، لتتنفس بعدها بجمود وهي تمسك خصرها بيدها قائلة بحزم جاد
"على الاقل ردي عليّ عندما اناديكِ من خلف الباب ! عندما لم اسمع صوتكِ ظننتكِ غير موجودة بالغرفة ، ولكنه تبين بأنكِ تجلسين بزاوية بعيدة وتتجاهلين وجودي"
عقدت حاجبيها باستغراب عندما لم تجد اي ردّ منها وكأنها تكلم السراب وهي على نفس حالتها ، لتتقدم بعدها عدة خطوات وهي تتجاوز إطار الباب قبل ان تقول بوجوم مرتاب
"ماذا يعني هذا الصمت يا ماسة ؟ ولماذا تتعمدين تجنبي بهذه الطريقة ؟ هل هناك ما يضايقك ؟"
رفعت رأسها فجأة وكأنها استوعبت وجودها الآن وهي تلتفت بنصف جسدها هامسة بهدوء باسم
"هل كنتِ تتكلمين معي ؟ اعتذر لقد كنت شاردة ولم اسمعكِ ! هل هناك من خطب ؟"
زمت شفتيها بعبوس وهي تدير مقلتيها بعيدا هامسة بعدم اهتمام
"كلا ليس هناك شيء ، فقط كنت اتساءل لماذا لا تردين عليّ عندما طرقت عليكِ الباب ، ولكن يبدو بأن هناك ما كان يشغلك"
التفت ذراعها حول ظهر الكرسي وهي تقول بابتسامة باردة
"ولكن الواضح بأنكِ لم تنتظري سماع الإذن ودخلتي غرفتي مباشرة ! وهذا يعني بأنكِ لا تحتاجين دعوة لدخول غرفتي ، فأنتِ دائما تقتحمينها بكل الظروف والاوقات"
نظرت لها بعيون جامدة لا تحمل اي هزل وهي تكتف ذراعيها قائلة بدور الشخصية الحازمة
"هذا ليس وقت سماع الطرائف ، اريد ان اعرف لماذا تأخرتِ كل هذا الوقت بالخارج ؟ ليس هناك عمل يأخذ كل هذا الوقت منكِ !"
ارتفع حاجب واحد بتفكير وهي تريح ذقنها فوق قبضتها هامسة بخفوت ساخر
"هل بدأت فقرة التحقيق والاستجواب ؟ ألم نكبر عليها يا روميساء ؟ لقد اصبحت على اعتاب الشيخوخة وانتِ ما تزالين على نفس العادة القديمة !"
ردت عليها من فورها بصوت مشتد بدون تراخي وكأنها تفرض سيطرتها بالمكان
"ماسة اجيبِ على قدر السؤال بدون مراوغة وتلاعب"
رفعت ذقنها عن قبضتها وهي تمسك بظهر الكرسي قائلة ببساطة
"لقد ذهبت بعد العمل للمكتبة لشراء مستلزمات كانت تنقصني للأعمال المكتبية ، وبمنتصف اليوم مررت بزيارة عند منزل صفاء وقضيت عندها باقي اليوم بدون ان اشعر بانقضاء الوقت ، هذا هو برنامج يومي بالكامل"
اومأت برأسها بهدوء وكأنها ارتضت بالإجابة بعد ان قلبت كيانها بتأخرها لهذه الساعة ، لتعود بعدها بالنظر لها بتركيز وهي تقول بتفكير مستاء
"ولماذا حبستي نفسكِ بغرفتكِ فور عودتكِ ولم تخرجي منها ؟"
مالت ابتسامتها بمغزى وهي تهمس بخفوت خبيث وبحركة من كتفها
"لم اشأ ان افسد زيارة زوجكِ وامسيتكما الليلية ، هكذا سوف اكون متطفلة مزعجة عليكما"
اشاحت (روميساء) بوجهها بحياء تشرب ببشرتها بمزيج محتقن بالدماء وهي لا تستطيع استجلاب اي كلام بخزي موقفها ، لتتابع بعدها الاولى كلامها وهي تهمس بنفس النبرة الخبيثة الغير متساهلة
"هل زوجكِ غادر ام ما يزال موجود ؟ فقد كنت افكر بالخروج له وألقاء السلام عليه من باب الادب واحترام الواجب ، فهو ما يزال للآن بمثابة زوج شقيقتي الكبرى ، ويبدو لن تتغير مكانته تلك بعائلتنا"
عضت على زاوية شفتيها بضيق وهي تفهم تلميحها عديم الحياء لتهمس بعدها بحنق مكبوت
"لقد غادر منذ وقت طويل"
اومأت (ماسة) برأسها تدعي الاهتمام وهي تقول بابتسامة تمثل الحزن المزيف
"يا له من امر مؤسف ! وانا التي ظننته سيبيت ليلته عندنا ولن يغادر قبل صباح اليوم التالي ، لقد خاب ظني بكما"
نظرت لها بسرعة بملامح صارمة تعلوها حمرة قانية وهي تقول بحزم قاطع
"ما لذي تلمحين إليه يا سيدة وقحة ؟ فأنا لا افهم بهذه الإشارات المبهمة"
حركت كتفيها بعدم مبالاة وهي تتمتم بابتسامة صغيرة
"افكر كما تفكرين"
ضيقت حدقتيها الخضراوين باستهجان وهي تمسك خصرها بيديها قائلة بثقة تقطع حبل الشكوك باليقين
"فقط ليكن بعلمكِ لقد جاء من اجل ان نصفي الحسابات بيننا بخصوص قضية الطلاق ، ولقد كنا نجري جلسة نقاش بيننا بخصوص هذا الامر لكي ننتهي من هذه القضية واحصل على حقوقي منها"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي تريح ذقنها فوق ذراعها المستريح على ظهر الكرسي هامسة بمغزى
"ونقاش الطلاق لا يصح سوى بأحضان بعضكما تكاد نيران الحب تقدح بينكما !"
صرخت (روميساء) بانفعال وهي تضرب وركيها بقبضتيها من فرط خجلها الناري
"ماذا قلتِ يا وقحة ؟ هيا كرري امامي ما قلتِ !"
رفعت رأسها بعيدا وهي تكبح ابتسامتها بأسنانها هامسة ببرود متعمد
"لم اقل شيئاً"
تنفست بتهدج وهي تشعر بنفسها تفقد السيطرة على لجام قلبها المجنون ، لتتقمص بعدها شخصيتها المتزمتة وهي ترمقها بطرف حدقتيها قائلة بعودة للموضوع الاساسي
"كيف كان يومكِ الأول بالعمل ؟"
عادت بالنظر لها بابتسامة كبيرة حفرت بوجنتيها وهي تقول بسعادتها الخاصة بها وحدها
"كان رائعا ومليء بالمفاجآت والهدايا ، فقد تلقيت هديتي الأولى والتي استقبلتني على سطح مكتبي بشكل باقة ازهار بديعة الجمال بمناسبة حصولي على الوظيفة ، عليكِ بالقدوم لزيارة مكتبي بالعمل سوف يعجبكِ كثيرا"
عقدت حاجبيها بغموض وهي تشعر بسعادتها تنتاب من حولها الشكوك وكأنها قابلت رجل العيد قبل مجيئ موعده ، لتقترب بعدها خطوات منها وهي تقف بقرب مكان جلوسها قائلة بتفكير صلب
"هل هذا كل شيء ؟ فأنا اشعر بأن الامر يتخطى سعادتكِ بالوظيفة فقط !"
رفعت حدقتيها الزرقاوين بحيرة وهي تهمس بابتسامة بريئة
"ماذا تقصدين يا روميساء ؟"
رفعت يدها وهي تدور بأصبعها السبابة حول وجهها هامسة ببأس
"هناك شيء بابتسامتكِ ! انتِ تبتسمين كثيرا بغرابة ! وهذا ليس من طبيعتك"
تأففت بنفاذ صبر وهي تلوح بيديها هامسة بعبوس مغتاظ
"هل اصبح الابتسام جريمة نحاسب عليها ؟ هل ستفتحين تحقيق على ابتسامتي ؟ عليكِ ان تكوني سعيدة بأنني ما ازال ابتسم بين هذه الاجواء السوداوية التي نعيشها"
اخفضت يدها ما ان شعرت بنفسها تتمادى وهي تحك جبينها بإنهاك هامسة بإعياء
"ربما تكونين على حق ، لقد اصبحت شخص مريض بالارتياب على ما يبدو"
نظرت لها بصمت وهي تفسح لها المجال لمتابعة كلامها بعد ان استدارت على عقبيها وهي تقول ببرود
"انا سأذهب للنوم بغرفتي فلم اعد قادرة على الصمود ، وقد تركت لكِ الطعام في الثلاجة عندما ترغبين بتناوله يمكنكِ تسخينه بالفرن الآلي ، تصبحين على خير"
ردت عليها بهدوء قبل ان تغادر من الغرفة امام عينيها
"وانتِ بألف خير"
تنهدت بشرود طاف على محياها لوهلة قبل ان تلتفت بجلوسها وهي تقابل الدفتر المفتوح على الورقة التي كانت تدون بها مجريات يومها ، لتمسك بعدها بالكيس البلاستيكي على زاوية المكتب والذي يحوي مشتريات اليوم من دفاتر واقلام وملصقات ، لتخرج منها مفكرة صغيرة ذات غلاف زهري لامع وهي تقلب بين صفحاتها الملونة بألوان مختلفة مثل قوس المطر ، تذكرت شيء آخر غاب عن بالها وهي تضع المفكرة والكيس جانبا لتفتش بعدها بأدراج المكتب بدون ان تجد هدفها المنشود .
اغلقت آخر درج بقوة وهي تستقيم بجلوسها وترجع رأسها لظهر الكرسي بحالة شرود وغرق بالذكريات ، لتغرس بعدها اصابعها الطويلة بين خصلات شعرها الكثيفة وهي تهمس بعبوس مغتاظ
"يبدو بأنني قد تركتها بمنزلي القديم ، وهذا يعني بأنني احتاج لزيارة خاطفة لاستعادة باقي اغراضي العالقة هناك وقطع صلتي بالمكان"
_______________________________
دخل للمنزل وهو يشاهد الظلام السابح به بعيون خاوية لا ترى النور امامها ، ليسير بعدها برواق المنزل بدون ان يعطي انتباهه على شيء حتى شدت سمعه ونظره التي خرجت من غرفة فرعية بعيدة عن غرفهم ، لتتوقف خطواته بمكانه على توقف الاخرى التي نظرت له بعيون شاخصة بصدمة سرعان ما غشتها هالة من الخوف التي غزت محياها الشاحب بلحظة ، لتهمس بعدها بكلمة واحدة تكونت بلوعة الخوف
"جواد !"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يستدير لها بكلتيه ناظرا لوالدته التي بدأت تتصرف على غير عادتها عندما تستقبله بحزن معاتب بسبب فترات غيابه الطويلة عنها ، والآن تقف امامه برعب انخطف اللون عن محياها وهي تحاول تجميع كلماتها وكأنها رأت الشخص الذي سوف يقتنص روحها ، وكم تشبهت بهذه اللحظة بشخص آخر لم يفارق عقله طيفها بطبيعة تصرفاتها كلما رأته امامها فجأة حتى اصبح يتستر عنها بغطاء وهمي يخفيه عنها ويسترق النظرات لها من مسافة اميال .
اعاد عقله ونظره للواقع ولوالدته التي بدأت تقول بابتسامة طبيعية لم تستطع اخفاء الارتباك بها
"جواد انت هنا ! متى وصلت للمنزل ؟ لقد ظننتك ستبيت هذه الليلة خارج المنزل كالعادة"
عبست ملامحه بعدم ارتياح وهو ينتقل بنظره ليدها التي تحمل كيس اسود تحاول اخفاءه خلف ظهرها قائلا بوجوم خافت
"لقد وصلت للتو"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بكلمات غير منتظمة عندما تحاول الكذب وتفشل نفسها
"حقا ! لقد سعدت بمجيئك للمنزل اليوم ، سعدت بشدة"
تغضن جبينه بتركيز اكبر وهو يستطيل بنظراته لباب الغرفة المغلق خلفها ، ليقول بعدها بجمود وهو يستجوبها مباشرة
"ما لذي كنتِ تفعلينه بهذه الغرفة يا امي ؟ هل لديكِ شغل بها ؟"
حركت رأسها بضياع وهي تحاول البحث عن اي مهرب للسؤال ، لتقول من فورها بتعثر وهي تتحاشى النظر له بخوف من انكشاف نفسها
"لقد كنت اقوم بتفحص اثاث الغرفة إذا كانت تحتاج للتنظيف او التعزيل ، يعني لم اكن اريد تركها قبل التأكد من عدم وصول الرطوبة لجدرانها او الغبار لمفارشها ، انت تفهم مقصدي جيدا فأنا اعاني من وسواس النظافة بشكل لا يتركني ارتاح حتى اطمئن بأن كل شيء يلمع من النظافة......"
قاطعها (جواد) وهو يقول بصوت اشتد بقسوة
"امي ابتعدي من امام الباب"
فغرت شفتيها بارتياع وهي تلصق ظهرها بالباب قائلة بخفوت متوجس
"ماذا ؟ ماذا تريد ان تفعل ؟"
تنفس بقوة وهو يحاول التحلي بالصبر قائلا بأمر صارم
"امي ابتعدي من امام الباب بهدوء ، فلن اتحرك من هنا حتى اتأكد من الامر بنفسي ، ولن تستفيدي شيئاً من ممانعتك سوى زيادة إصراري على الدخول"
تنهدت (هيام) بقلة حيلة وهي تبتعد عن الباب ببطء قائلة بخفوت واجم
"يا لك من قليل تربية"
تجاهلها تماما وهو يمسك بالمقبض مباشرة ويدخل للغرفة بدون مقدمات ، ليتجمد بعدها بمكانه حتى سقطت يده على جانبه وهو يشاهد الرجل المسجى على السرير بمكان لا يجب ان يكون به وتحت سقف منزله وبين عائلته وكأنه يرى كارثة اكثر مما يحتمل عقله ، حتى قطع المسافة بينهما بدون ان يشعر وهو يقف فوق رأسه تماما بثواني ، ليأخذ بعدها انفاس قاسية وهو يقول بجموح يحاول بشق الانفس ضبط مشاعره التي تسربت بسوداوية
"ما لذي يفعله هذا الحثالة بمنزلي وبين عائلتي ؟ ومن سمح له بالدخول للمنزل ؟"
دخلت والدته بسرعة من خلفه وهي تقول بتحذير خافت
"إياك ان تزعجه يا جواد ، فهو ما يزال متعب ويحتاج للراحة ، لا تفعل شيء يضره فهو ضعيف......"
اسودت ملامحه بقتامة وهو يقاطع سيل تحذيراتها التي كانت كالسكاكين على قلبه قائلا بصوت مرتفع باستهجان
"ما لذي يفعله ابن متحت بغرف منزلي يا امي ؟"
ابتلعت ريقها بجزع بدون إجابة وهي تراه ينحني امامه ويمسك بكتفه بقسوة قائلا بخشونة هادرة
"هيا استيقظ ، استيقظ يا حثالة ، اخرج من منزلي......"
اوقفته (هيام) وهي تصل له وتمسك بذراعه لتدفعه بعيدا عنه قبل ان تقف بينهما قائلة بهجوم ثائر
"ما لذي تفعله يا جواد ؟ ما لذي تنوي فعله ؟ هل جننت ؟"
نفض ذراعه بعيدا وهو يقول بانفعال غاضب يكاد يغلي بنيرانه
"بل ما لذي تفعلينه انتِ يا امي ؟ انا لن اتحمل ان يبقى هذا الرجل دقيقة واحدة بداخل منزلي ! اما ان يتحرك ويخرج من هنا بكرامته او انا من سوف اطرده بنفسي"
اشارت بقبضتها للخلف نحو النائم بالسرير وهي تقول بحدة متألمة بغريزة الامومة المطعونة
"هذا الرجل امامك مصاب بطلقة رصاص ولا يستطيع تحريك ذراعه ، كيف تريد منه الرحيل وهو بهذا الوضع الخطير ؟ أليس لديك قلب بشري يعطف ويشفق على الجرحى مهما وصلت مساوئهم بحياتك !"
احتدت ملامحه اكثر وهو يلوح بذراعه بالهواء بعد ان ملئه الحقد الاسود قائلا بجماح الغضب
"لن اشفق على حيوان مثله اذاقنا والده الويل والمعاناة لسنوات طويلة ! هل نسيتِ كل تلك المآسي التي مررنا بها بسببه ؟ هل نسيتِ موت ابنتكِ بدون ان يسأل احد عن دمائها وحقها الذي اهدروه امام اعينهم ؟ هل نسيتِ كل هذا واحضرتِ ابن العدو الذي دمرنا وقطع قلوبنا لإشلاء ؟ كيف تفعلين هذا بنا ؟ كيف تقدمين على مثل هذه الخيانة ؟"
نفضت ذراعيها للأسفل بحركة عصبية وهي تقول بنشيج مرهق بدون دموع
"ولكنك نسيت بأنه ليس له اي ذنب بأفعال والده ، لقد كان فقط ضحية مثلنا تماما تجرع ألم مشابه لنا ، ولا يد له بكل شيء يفعله والده ، فهو ما يزال لهذه اللحظة ابني الذي لم انجبه ، ابني الذي ارضعته من حليبي وربيته على يديّ ، كيف تريدني ان اكون بقسوتك واتخلى عنه ؟ كيف تريدني ان انتقم من افعال والده به ؟ إذا كنت تريد الانتقام حقا اذهب لوالده مباشرة وتوقف عن استخدامنا دمى وسبل لإرضاء حقدك والوصول لانتقامك ! توقف عن رؤيته ابن العدو بل عليك ان تبدأ برؤيته كشقيق لك وفرد من عائلتي !"
تلبدت ملامحه بألم خاطف سكن عينيه وهو يضرب ذراعيه على خصره قائلا بمخلفات غضب لم يبرد
"هذا الرجل ليس شقيقي يا امي ، ولن اعتبره كذلك بحياتي حتى يدفع ثمن اخطاء والده بنا ، ولن اسمح لكِ باستقباله بمنزلي وجعله فرد من العائلة ، فهذا منزل العائلة وليس مكان لإيواء الحيوانات الجريحة امثاله ! هل فهمتي ؟......"
قاطعته بصراخ صارم وهي تلوح بسبابتها بوجهه بإشارة تحذير قاسية نفضت الألم عنها
"اخرس يا جواد ، لقد تجاوزت كل حدودك هذه المرة ، انا لا اسمح لك بالتكلم عن ابني بهذه الطريقة والاسلوب ، هو بشر ايضا مثلك تماما ولم يخطئ معك بشيء ! ولا يهمني قبولك للأمر من عدمه فلست انت المتحكم هنا بل انا سيدة القرار والمنزل ، وإذا كنت تصر على طرده فعليك طرد والدته اولاً وكما فعلت مع زوجتك السابقة التي دفعتها لهجرك ، فأنا لدي قلب مؤمن يعطف على القريب قبل الغريب ولا يحملهم ما لا ذنب لهم به ، فكيف إذا كان انسان جريح يطلب العون من الغريب بسبب عدم سؤال القريب عنه ؟! ارحم من في الارض يرحمك من في السماء !"
ابتلع ريقه بتعرق غزى ملامحه الصلبة والتي بان عليها الوهن والضياع لأول مرة ، وبعد مرور برهة من الوقت على نفس وضعهما حتى تحرك الذي قال بخفوت خاوي بعد ان اخرج نفسه من الساحة
"افعلي ما تشائين ، فهذا منزلك انتِ بالنهاية"
اهتزت مقلتيها السوداوين حد الوجع وهي تراه يغادر خارج الغرفة بصمت بعد ان ضربت ابنها من المنطقة التي تؤلمه وقهرته ، لتزفر انفاسها بنشيج متألم وهي تمسد على صدرها مكان الغصة الجديدة التي اخترقها ألم ابنها الآخر والذي ما يزال تائه بطرق الحياة بدون ان يجد راحته وسكينته بها .
_____________________________
تنهدت بهدوء وهي تنتهي من عقد شعرها الطويل الذي بدأ يرهقها بمهمة تمشيطه وعقده برباط مطاطي فوق رأسها ، فقد اصبحت اقل المهام واسهلها تتعبها بدنياً وتؤلم عضلات جسدها التي بدأت ترتخي من اقل مجهود ، وحالتها النفسية ليست بأفضل اوقاتها حتى تساندها بوضعها الراهن وهي قد اصبحت تتأثر من اصغر المواقف واسخفها وتأخذها على خاطرها بتقلبات مزاجية لم تمر عليها يوما وكأن هرمونات ومشاعر طفلها تنتقل لها بالتتابع وتنعكس عليها مثل امواج فوق الصوتية حتى اصبحت كائن لا يحتمل كما اطلقت عليها (ماسة) .
توجهت نحو المنضدة الجانبية وهي تتناول شريحة الدواء من فوقها بين مجموعة متكومة من الادوية المختلفة لتأخذ قرص واحد منها ، فهي لا تعلم حقا ما فائدة كل هذه الادوية التي عليها الالتزام بمواعيدها كما اشارت الطبيبة التي ذهبت لاستشارتها تحت إصرار وضغط كبير من صديقتها التي لم تتركها وشأنها حتى اخذتها إليها ، ومن ذلك الحين وهي تشرب منها بمواعيد محددة روتينية كي لا يذهب الوقت الذي استغرقوه عندها هباءً وكي لا تغضب صديقتها العنيدة التي لا تدخل بجدال معها ألا وتخرج خاسرا منه .
ابتلعت القرص وهي تتبعه بكأس الماء بجرعة واحدة ، وما ان سمعت صوت طرقات على الباب حتى تصرفت بسرعة وهي تلقي بكل شرائح الدواء بدرج المنضدة قبل ان تغلق عليه ، لتستدير بسرعة بمكانها وهي تقول بصوت مرتفع باهتزاز
"تفضل بالدخول"
دخل للغرفة بلحظة والذي تبين بأنه شقيقها وهو يلوح بيده قائلا بعبوس صارم
"لماذا كل هذا التأخير ؟ لقد اصبحت مهملة جدا بمواعيد دوامك ! هل بدأتِ تتخاذلين بآخر فصل لكِ ؟"
ارتسمت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تضم يديها خلف ظهرها هامسة بمرح تحاول اخفاء توترها الواضح
"كلا من المستحيل ان يحدث هذا ، فأنا لست مثلك يا سيد عدو الدراسة والاول بالرسوب ، ولن يستطيع احد الفوز عليك بهذا المضمار والذي ختمت به كل الكؤوس والألقاب"
تجهمت ملامحه وهو يتقدم عدة خطوات بعيدا عن الباب قائلا بنزق
"ألا تلاحظين بأن لسانكِ قد اصبح بطول مترين بآخر فترة ؟ يبدو بأن هناك من يحتاج للتأديب بأسرع ما يمكن لكي يتوقف عن التشمت بمصائب الناس !"
ضحكت بمرح وهي تلوح بيديها بخوف مزيف هامسة ببراءة
"انا امزح فقط يا اخي ، لا تأخذ كل شيء بجدية هكذا ، فأنت اجمل عندما تكون مبتهج وسعيد"
توقف على بعد مسافة منها وهو يقول بابتسامة ملتوية بمكر
"يا لها من حيلة مبتكرة ، لقد تطورت مهاراتكِ كثيرا عن السابق ، اين ذهبت الطفلة التي تخاف من جنية الخزائن والغرف ؟"
تبرمت شفتيها بطفولية وهي تتحرك من مكانها قائلة ببرود متعمد
"اسأل نفسك هذه الاسئلة ، وانا بهذه الاثناء سوف اغادر للحاق بدوامي بالجامعة لكي لا انعت بالطالب الكسول مثلك"
امسكها (مازن) من ذراعها ما ان مرت من جانبه وهو يقول بنبرة جادة تغيرت فجأة
"قبل ان تذهبي للجامعة اريد التكلم معكِ لدقيقة ، لن يأخذ الكثير من وقتكِ"
ادارت وجهها نحوه وهي تقابله بملامح حائرة هامسة بخفوت مستاء
"ألا يمكنك تأجيل هذا الحوار لوقت آخر ؟ فأنا على عجلة من امري....."
قاطعها بصوت اكثر صرامة وهو يدير عينيه نحوها بجمود غير قابل للنقاش او الانتظار
"هذا موضوع هام يا صفاء ويخص حياتك بشكل خاص ولن يحتمل الانتظار"
اضطربت ملامحها عند مقطع يخص حياتها وهو يميت كل محاولاتها للممانعة بعد ان تلاعب بأوتار اعصابها بمهارة ، لتهمس بعدها بلحظات بفضول تغلب عليها
"عن ماذا تريد التحدث ؟"
تجمدت ملامحه لوهلة وهو يشير بذراعه نحو السرير القريب قائلا بجدية يسحبها للحديث
"اجلسي هنا اولاً ، لكي نستطيع التحدث بيننا براحة اكبر"
عقدت حاجبيها باستغراب وهي تمتثل لكلامه وتسير عدة خطوات قبل ان تعلن تمردها وهي تقف عند السرير قائلة بعبوس حانق
"لن اجلس قبل ان تخبرني بماذا تريد التحدث معي ! ولماذا منعتني من الذهاب للجامعة ؟"
احتدت ملامحه وهو يتقدم منها الخطوات التي قطعتها بلحظة قائلا بخفوت خطير
"اسمعي الكلام يا صفاء وبدون اي جدال ، وألا لا تلومي سوى نفسكِ عندما اظهر غضبي عليكِ !"
ارتجفت مقاومتها بلحظة وهي تُسقط نفسها جالسة على طرف السرير بعد ان استسلمت لغضبه ، ليتنفس بعدها بقوة وهو يدس يديه بجيبي بنطاله ويلتفت برأسه على الجانب الآخر قبل ان يقول بجمود قاتل
"ماذا تفكرين ان تفعلي بخصوص زواجكِ الذي ما يزال معلق بابن مصعب ؟"
رفعت مقلتيها الواسعتين بانهيار اختلج بصدرها بأطياف الحزن والاسى السابحتين بحياتها ، لتهمس بعدها بخفوت متلجلج ببؤس
"لماذا هذا السؤال الآن ؟"
تجمد جانب وجهه ببهوت وهو يقول بحزم غير ظاهر
"فقط اجيبِ على السؤال يا صفاء"
ابتلعت غصتها بصعوبة نحرت روحها من جديد وهي تخفض نظرها ليديها المنقبضتين بحجرها ، لتهمس بعدها بكلمات تكونت بحزن عميق ابى الصمود
"لا اعلم حقا ، لم اتخذ اي قرار بخصوص هذا الامر ، فأنا بعد كل شيء لا استطيع......"
نظر لها ما ان صمتت عن الكلام فجأة ليكمل هو عبارتها الاخيرة ويتابع ما كانت ستقوله
"لا تستطيعين نسيانه صحيح ! وبسبب هذا الامر لم تستطيعي للآن اتخاذ اي قرار بخصوص خطواتك القادمة وحياتكِ ما تزال متوقفة عليه ، افهم هذا جيدا لأنني قد عشت شيء مشابه له"
شددت اكثر على قبضتيها بدون ان تملك الجرأة على رفع عينيها اللتين امتلأتا بدموع الحسرة والحزن والحقيقة المريرة التي سردها امامها تمنعها من المبادرة بشيء ، ولكنها لم تتوقع ان يتابع كلامه بلحظة بصوت اختلف كلياً ورماها بمجرة اخرى
"ولكنه ليس كذلك ، فبينما انتِ تتعذبين بالمحاربة والقتال بنسيانه هو يخطط للزواج من غيركِ وبدأ حياته من جديد فوق ركام حياتك ! كيف ستغفرين له هذا الجرم ؟"
رفعت رأسها بسرعة برصاصة طائشة اخترقت وريدها وهي تهمس بشفتين فاغرتين ببلاهة اقرب للموت البطيء
"ماذا...تقول ؟ ماذا تقصد بهذا الكلام ؟ مازن !"
تغضن جبينه بضيق ما ان فضح مشاعره الداخلية امامها وغرس السكين بقلبها بحزن تحرر من جوف معاناتها ، ليشيح بوجهه من جديد بدون ان يطيل بالنظر لها وهو يقول ببساطة قاتلة
"لا تنظري لي هكذا ! فأنا ايضا مصدوم ومتألم مثلكِ ! لقد سمعت هذا الخبر من اصدقاء لي يسكنون بتلك المنطقة ، فقد قالوا لي بأنهم قد شاهدوا فتاة غريبة تدخل بيت زوجكِ هي وعائلتها بجلسة تعارف ما قبل الزواج ، يعني من اجل اختيارها زوجة له تناسب معاييره وتعوض عن زوجته الغائبة والتي طالت مدة هجرتها اكثر من شهرين ، وقد كنت اتوقع حدوث مثل هذا الامر عاجلا ام آجلا عندما يشعر بالضجر من لعبة الانتقام ويبدأ قلبه بالميل لحياة الاستقرار مع الفتاة التي تليق به ، وعندها يستطيع ان ينفذ الجزء الثاني من انتقامه بالزواج مرة اخرى بامرأة حقيقية بدون ان يحررك من رباط الزواج ، وهكذا سيكون قضى عليكِ وانهى على حياتكِ بالصامت ، ابن الحرام لقد لعبها بالشكل الصحيح !"
ازدادت وتيرة انفاسها بنشيج مصدره قلبها المذبوح الذي لم يعد له نبض بعد ان كتم على ضجيجه وكتب الموت عليه وهي تتخيل فقط ان تشاركها به امرأة اخرى وتحصل على لقب زوجته الحقيقية ! لترفع كفها بارتجاف وهي تمسح رموشها التي تكدست عليها الدموع بتعاقب ، لتحاول بعدها النهوض من مكانها بقوة خائرة وهي تهمس بتشتت خائف وكأنها فقدت السيطرة على جموح خيالها وقوة مشاعرها
"يتزوج من اخرى ! هل سوف يتزوج ؟ يتزوج من غيري ! هل سيفعلها حقا ؟ هل سيقتلني بها ؟ هل سينتقم مني بها ؟......."
قطعت كلامها بشهقة خاطفة ما ان ترنحت بوقوفها على قدمين لم تعودا قادرتين على حملها فوق احزانها التي تتسع المحيطات ، لتستند بيديها على المنضدة الجانبية وشقيقها يصل لها بذات اللحظة ليمسك بكتفيها قائلا بصوت خشن بقلق
"صفاء هل انتِ بخير ؟ ما لذي اصابكِ فجأة ؟ تكلمي يا فتاة ! اسمعيني صوتكِ !"
اومأت برأسها بحركة مجهدة وهي تهمس بخفوت متقطع بتحشرج
"اجل بخير ، ما زلت على قيد الحياة ، لا تقلق عليّ فأنا حقا بخير"
ابتلع ريقه بجمود وهو يبعد يديه عنها بعد كلامها الغريب الذي لا يوجد به لمحة اطمئنان ، ليشتم بعدها نفسه بقوة وهو يندم على كل ما تفوه به لسانه امامها حتى كادت تقع مغشيا عليها ، ليقول بعدها وهو يستعيد زمام السيطرة بجدية يبسط الوضع
"لست متأكد تماما من صدق الكلام الذي يقال ، فهي تبقى مجرد إشاعات وقد تكون اكاذيب من عندهم لأثارة الفوضى ، ولكن لا تطمئني كثيرا فليس هناك دخان بدون نار !"
عبست ملامحه وهو لا يزيد الوضع سوى سوءً ، وما ان حاول الكلام من جديد بصورة اخرى حتى سبقته التي افاقت من غيبوبتها وهي تستقيم قائلة بخفوت خاوي
"لا بأس يا مازن ، كل شيء ما يزال على ما يرام ، وهذا الامر كان سيحدث بكل الاحوال ، لذا لا تقلق بشأني فأنا بخير وافضل ما استطيع فعله هو الاعتياد على الوضع والتأقلم معه"
زفر انفاسه بكبت وهو لا يجد فائدة من الكلام اكثر فقد انتهى الحديث هنا والباقي لها ، ليربت بعدها على كتفها بتشجيع معنوي وهو يقول بهدوء جاد
"هدئي من نفسكِ وحاولي النسيان ، فالنسيان هو افضل دواء للإنسان ، وعندما تشعرين بنفسكِ مستعدة للخروج اذهبي للجامعة ، انا سوف اغادر الآن ، رافقتك السلامة"
سحب يده عن كتفها وهو يراقب سكونها المبدئي قبل ان يغادر خارج الغرفة بلحظات ، بينما الواقفة بمكانها بشموخ كانت تعود للجلوس على طرف السرير بإجهاد اكبر يتفاقم مع كل ذكرى وحلم ينسجه عقلها ويغرز الصور بقلبها ، حتى غشت سحابة من الدموع مقلتيها العسليتين بينبوع حار اشعل وريدها الموصل بقلبها واذابه بحممه ، لتمسح بكفها الشاردة على بطنها التي تحمل جنين عمره شهرين وهي تهمس ببكاء صامت تستنجد بطفلها والذي يربطها بفارس احلامها
"لا اريد ان يحدث هذا ، لا اريد ياربي ، لا تجعله حقيقة ! لا تجعله واقع امامي ، ما ذنبي انا ؟ ما ذنب طفلي بكل هذا ؟ ما ذنبنا إذا كنا قد ارتبطنا بالرجل الخطأ !"
احاطت ذراعيها حول بطنها وهي تجهش ببكاء عالي بعد ان فاض قلبها بالكثير وعادت الآلام القديمة لزيارتها بعد شهرين من التعافي والشفاء ، والآن كيف سوف تكتمها وتدوس عليها ؟ كيف سوف تتجاهلها وكأن شيء لم يكن ؟ كيف ستفعلها وهي التي تجاوزت امر تركه لها بصعوبة لتتجاوز الآن امر زواجه من اخرى والذي سيكون الموت ارحم منه ؟!
_______________________________
كانت تسند خدها على قبضتها وهي شاردة بعالم مختلف غير متواجد به اي من المحيطين حولها ويملئون العالم ضوضاءً وكأن الصمت محصور عندها وحدها لا يقطعه سوى الطنين المزعج بأذنيها الحساستين وكأنها تيارات موصلة تتردد من انغام قلبها الحزين ، فهذا كان وضعها منذ سماعها ذاك الخبر القاتل الذي كان اكثر وجعا على قلبها الصغير مما تصورت وتخيلت وكأن قبضة حديدية تعصر به حتى اصبحت تعد انفاسها قصيرة المدى لكي لا تغدر بها .
تشنجت ملامحها بتغير طفيف ما ان اخترق تلك الغمامة صوت رفيقتها الجالسة بجوارها وهي تقول بمرح معتاد
"صفاء اين شردتِ ؟ هل لهذه الدرجة سرقت المحاضرة عقلكِ ؟ هيا تحركي لقد انتهت المحاضرة منذ فترة ولم يبقى غيرنا بالقاعة !"
رفعت وجهها بعيدا عن قبضتها وهي تتأمل القاعة التي فرغت تقريبا من الطلاب وهم يخرجون منها بالتتابع بدون ان تدرك بأن وقت المحاضرة قد انتهى ، لتنظر بعدها لرفيقتها التي عادت للكلام ببهجة وهي ترتدي حقيبتها وتمسك بمذاكراتها
"هيا بنا ايتها الاميرة الشاردة ، فنحن لا نريد إضاعة وقتنا بتأمل الفراغ والنظر للجدران بحياة الطالب التي هي عبارة عن مأساة"
تغضنت زاوية شفتيها بسخرية وهي تقول بداخل نفسها بأنه ليس هناك مأساة بقدر حياتها والتي هي عبارة عن مآسي متعددة ، لتدير عينيها الواسعتين بإجهاد نحو التي خرجت من مقعدها وهي تقول بنشاط عالي
"هيا تحركي بسرعة يا كسولة ، انا سوف اسبقكِ للخارج ، انتظركِ امام باب القاعة"
اومأت برأسها بلا معنى وهي تراقب التي غادرت خارج القاعة ، لتزفر انفاسها بتعب قاتل وكأنها تخرج اشواك من قلبها المكدوم اخذت لحظات بتجميع شتات قوتها ، لتنهض بعدها عن مقعدها وهي تمسك بحزام حقيبتها وتسير بطريقها المحدد سلفا خارج القاعة .
ما ان خرجت حتى امسكت بها التي كانت تنتظرها وهي تتشبث بذراعها وتسحبها معها نحو الممر الطويل قائلة بحماس ولهفة كبيرين
"اليوم لدي طاقة هائلة بمخزوني اريد اهدارها بأشياء احبها وارغب بشدة بفعلها ، فلم تسنح لي الفرصة بآخر فترة بفعل الاشياء الممتعة بسبب المذاكرة التي تراكمت عليّ منعتني من فعل اي شيء وحبستني بالمنزل طول تلك الايام ، هل اخبركِ عن برنامجي الجديد الذي خططت له بعد التخرج من الجامعة ؟ لقد خططت للكثير من الامور ولخصتها كلها بقوائم اود فعلها بالمستقبل ، اسمعي الاشياء الهامة التي ارتكزت عليها بمشاريعي وقررت البدء بها......"
استمرت بثرثرتها الطويلة التي ليس لها اي هدف او معنى بالنسبة للأخرى التي ترافقها بدرب غير مرئي لها ، فهذه الصديقة التي تصغرها بسنة قد حصلت عليها كرفيق مذاكرة ليتطور الامر بظرف شهر وتصبح صديقتها المقربة بل بصورة اوضح صديقتها الملتصقة بها والتي قوت الصداقة من طرف واحد ، فهي لم تحاول يوما المبادرة بالتقرب منها او التطوع بفعلها فقط كانت تساير موجتها القوية من باب التغيير والتكيف ولكي تخرج نفسها من دوامة حزنها التي ابتلعتها طول الشهر الفائت ليكون مهربها اما دراستها او صحبتها .
لكنها مع ذلك تشعر بنفسها خاوية معها تفتقد للكثير من الامور ولا شيء يصلها بتلك الصداقة المبنية بلا هدف والتي لا تحدث اي تطور او تحسن بها ، بالرغم من انها رأت بتلك الفتاة نفسها القديمة بداخلها وروحها التي كانت تحملها بذاتها عندما كان اكثر ما تجيده هو ملاحقة (ماسة) والالتصاق بها ومحاولة جعلها تتجاوب معها منذ ايام الابتدائية حتى باتت افضل صديقة عندها وكما تفعل هذه الفتاة معها الآن ، ولكن هيهات بين الامرين فهي لا تستطيع تقمص شخصية (ماسة) ولا تلك الفتاة تتقمص شخصيتها ، فقد كان اهم مكون بينهما هو التناقض بين المرسل والمستقبل والمتكلم والصامت وكل منهما تملئ فراغ الاخرى وتساندها بفجوتها لتعطي كل منهما الاخرى المكون السحري الذي ينقصها ويسعدها وهذا كان سر تكوين علاقتهما الممتدة لسنوات .
افاقت على نفسها وهي تتوقف بمنتصف طريقها ما ان ادركت ابتعادهم عن بوابة الخروج من الكلية ، لتهمس بعدها بخفوت تائه لصديقتها التي توقفت معها
"إلى اين نحن ذاهبون يا سديل ؟"
ضحكت الاخرى بمرح وهي تشدها من ذراعها لتتابع السير معها قائلة بابتسامة محببة
"لا تخافي فأنا لن اختطفكِ يا غبية ، نحن ذاهبون للمكتبة للمذاكرة بسبب اقتراب الاختبارات ، أليس هذا ما كنا نفعله طول الاسبوع الفائت ؟"
توقفت مجددا وهي تسحب ذراعها من بين يديها قائلة بابتسامة مرتجفة تخفي الألم خلفها
"لا يا سديل ليس الآن ، لن استطيع المذاكرة اليوم ، ربما بيوم آخر اكون به اكثر نشاط وبهمة اعلى ، واما الآن فأنا متعبة للغاية واحتاج للعودة للمنزل بأسرع وقت ، لذا اعذريني"
امسكت خصرها بيديها وهي تقول بعبوس متذمر
"ولكن الاختبارات قد اصبحت على الابواب ، ولن يكون لدينا فرص سانحة كثيرة للدراسة معا ، لذا علينا باستغلال كل الوقت المتبقي لنا للحاق بالمذاكرة التي تراكمت علينا ، فنحن علينا ان نفكر بكل الاحتمالات المتوقعة لو حصلنا على درجات دنيئة بالاختبارات بآخر فصل قبل التخرج !......"
قاطعتها (صفاء) بسرعة وهي تلوح بيدها بعد ان فاض كيلها منها
"ندرس بالمنزل ونعوضها بمرة اخرى ، فأنا لا اطلب ان اكون الاولى على دفعتي يكفيني النجاح فهو يبهجني"
غادرت بعدها اتجاه بوابة الكلية مباشرة علها تتخلص من إلحاحها الذي سيوديها بمقتل ، ولكن ليس كل ما نريده ندركه فقد كانت تلحق بها بلمح البصر وهي تتشبث بذراعها من جديد هامسة ببهجة لا تفارقها
"لا بأس يا صفاء ، فأنا ايضا مثلكِ ولست من محبين الدراسة ، وكل ما اسعى له هو التخرج وتحقيق اكبر احلامي بالتحرر من سجن الدراسة"
اومأت برأسها وهي تختلق ابتسامة مزيفة بدون ان تصارحها بكذبتها فهي تعلم عشقها للدراسة وحلمها بأن تكون الاولى على دفعتها ، وقد كان حلمها بالماضي كذلك ولكنه تلاشى ما ان اصطدمت بمرارة الواقع وهي تخسر امور كثيرة بحياتها عندما فقدت كل ذلك الشغف الذي كان يملئها ، ويا للعجب لم تكن تعلم بأنه بخسارة انسان تحبه قد يسرق منك كل تلك السمات الجميلة بك ويجردك منها ! ولم تعلم بالأمر ألا عندما جربته وخاضت به !
اجتازت البوابة الخارجية للجامعة وهي تنظر امامها بصمت املاً بالوصول لأقصى اهدافها وهو المنزل ، لتجذب انتباهها التي شدت على كتف قميصها وهي تختلس النظر للخلف هامسة بخفوت حذر
"هل سيبقى يتعقبنا طويلا ؟ لقد اصبح الامر مثير للشك !"
عقدت حاجبيها البنيين بارتباك غزى محياها وهي توقف خطواتها تماما ، لتقول بعدها بوجوم وهي تلاحق نظراتها التي ما تزال تحدق خلفها
"عن ماذا تتكلمين ؟"
نظرت لها بسرعة وهي تهمس بعفوية باسمة
"اقصد الرجل الذي يتقصد تعقبك منذ شهر !"
اتسعت مقلتيها العسليتين وهي ترفع حاجبيها بآن واحد زاد شحوب محياها ، لتلتفت بسرعة للخلف وهي تحدق بالمسار الذي كانت تنظر له لتفاجئ بالرجل الواقف قريب من بوابة الجامعة بكامل هيئته التي تذكرها برجال العصابات وهو يدس يديه بجيبي بنطاله ويحدق بها ليس احد سواها ، لتبتلع ريقها بصعوبة بموجة مشاعرها التي غرقت بينبوع قلبها وهو يختلج بداخلها ويختلط بها ، وكل ما تصور امامها هو حديثها الاخير مع شقيقها الذي شطر قلبها ومزقه لقطع صغيرة ما تزال تنبض لرؤياه .
رمشت بعينيها بحرارة حطب الموقد ما ان ادركت نهاية كلامها ، لتهمس بعدها بخفوت متوجس وهي ما تزال تحدق بنفس النقطة
"ماذا تعنين بشهر ؟ متى حدث هذا ؟ هل هو يتعقبني حقا ؟"
اومأت (سديل) برأسها بقوة وهي تقول بابتسامة مشعة بثقة وكأنها إنجاز عظيم
"بلى لقد لمحته اكثر من مرة يترصد لكِ بالجامعة ، ولم اصارحكِ بالأمر خوفا من ان يضايقكِ الحديث او ان تكوني لا تريدين تدخل احد بالأمر ، ولكن بما انه قد تجاوز الشهر فلا اعتقد بأنه مجرد متعقب عادي ، أليس كذلك ؟"
تغضن جبينها بضيق وكأنها تصارع شيء داخلي بدأ يتحرك برحمها الذي يحوي جنينها ، ليسترعي انتباهها صوت (سديل) وهي تهمس بلهفة واضحة
"إذاً من يكون ؟"
ادارت وجهها نحوها تركز كامل ذهنها عليها وهي ترسم الجمود على محياها بلحظة قبل ان تقول بخفوت صلب غير مبالي
"مجرد رجل سابق بحياتي ، وقد اصبح منذ فترة جزء من الماضي ، يعني لا وجود له الآن"
زمت شفتيها بوجوم وهي ترمق الرجل المقصود بطرف عينيها لتهمس بعدها بابتسامة محبطة بدون ادنى تفكير
"يا للخسارة ! يبدو رجل مثالي من كل النواحي ومثير من الجانب العاطفي والوجداني ، وكأنه قد تجسد من احد افلام هوليوود المختصة بالأكشن والاثارة ، كيف طاوعكِ قلبكِ على هجرانه وتركه ؟ فرجل مثله من الصعب التخلي عنه او التفريط به فهو فارس احلام كل الفتيات !"
فغرت فاها الصغير بأنفاس ضاقت فجأة وجثمت بصخور منصهرة على صدرها بكل كلمة وصلتها بخنجر اخترق غشاء قلبها ، لتشدد بعدها بقبضتيها على حزام حقيبتها تستعيد عزيمتها لوهلة وهي تحدد مسار عينيها على الذي جذب اهتمام الجنس الناعم ، لتهمس من فورها بخفوت مذبوح وهي تتكلم بطبيعية تحسد عليها
"لماذا لا تذهبين له وتجربين حظكِ معه ؟ فقد سمعت بأنه يبحث عن فتاة جديدة للدخول بحياته ، وقد تكونين الانسب لهذا المنصب وتروقين له ، ولكن احذري فاكثر ما يشتهر به هو كسر قلوب الفتيات الساذجات"
لم تسمح لها بالرد على كلامها الصادم فقد كانت تغادر من امامها بسرعة بدون ان تلقي نظرة اخرى اتجاه الواقف بمكانه لم يحيد بعينيه عنها ، حتى انه استقام بمكانه تلقائيا بخوف دب بأوصاله ما ان عبرت الشارع بجري بدون الالتفات حولها ولحركة السيارات ، ولم يرتح ألا عندما وصلت للطرف الآخر من الطريق بأمان بعد فعلتها المتهورة وكأنها لم تتعلم من درسها القديم وكل هذا بسبب رؤيتها له دفعها للهروب بعيدا مثل ارنب التقى بصياده ، فما لذي تريد ان توصله له بتلك الحركات الخرقاء ؟!
_______________________________
وقفت امام باب المنزل الكبير وهي تتنفس بضيق من قبل دخولها من ذاك الباب الذي يخبئ عالم خاص بالأثرياء كان ابعد ما يكون عنها بالماضي ، فهذا العالم الوسيع قد نبذها وألقى بها بعيدا من قبل ان يعرفها عندما كانت طفلة اكبر متطلباتها هو منزل وعائلة تشعر معها بالأمان والسكينة وتحتاط بها من الغرباء والمتطفلين ، وكل هذا بسبب احقاد شريرة نمت منذ الازل وتشعبت بقلوبهم وانانية البشر التي تمحورت بإيذاء الغير للعيش ليكون للقسوة قانون حياة يمارسونه على الاضعف ويظهر بأن البقاء للأقوى ، وبنهاية المطاف كانت عائلتها هي الحصاد الذي جرفه السيل بدون مأمن او شجرة يحتمي بها حتى غرق ببحيرة الوحل التي صنعها الآخرون واغرقوهم بها بدون طوق نجاة والذنب بهذا إهمال المزارع لنباتات مزرعته وثمارها .
قبضت على يديها وهي تعيد تركيزها على الواقع لترفع قبضتها وتقرع بها على الجرس ، وبثواني بعد ان تردد الصوت بأرجاء المكان انفتح الباب بعدها واطلت احدى الخادمات وهي تقول مباشرة بصدمة بعد ان تعرفت عليها
"آنسة ماسة !"
قلبت شفتيها بتقوس عابس وهي تهمس بخفوت متشدق
"ماذا ؟ هل من الغريب رؤية فتاة تزور منزل عائلة زوجها بظاهرة لم تحدث من قبل ؟"
حركت رأسها بارتباك غزى محياها وهي تقول باحترام شديد
"لا يا آنستي الصغيرة ، انتِ مرحب بكِ بأي وقت ، فقط تفاجأت من رؤيتكِ هنا بعد غيابكِ الطويل عن المنزل ، وسعيدة جدا بعودتك مجددا لزيارتنا"
حركت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تقول بشبه ابتسامة ساخرة
"لا تقلقي فأنا سأتأكد بنفسي من عدم رؤيتكم لي مجددا بهذا المنزل وللأبد ، والآن عن إذنكِ لدي امور هامة تركتها هنا واتيت لأخذها"
تجاوزتها بسرعة قبل ان تسمح لها بالرد وهي تسير بطريقها الثابت والمحفوظ اتجاه السلالم ، وقبل ان تصعدها لحقتها الخادمة التي قالت من خلفها بعجلة
"يا آنسة ماسة إذا كنتِ تبحثين عن زوجكِ فهو موجود الآن بغرفة السيد محراب الكبير ، ولم يمر الكثير على وصوله للمنزل"
توقفت بمكانها بتجمد وهي تتراجع عن صعود العتبة بعد ان جذبت انتباهها بطلقة سريعة بدون وعي منها ، لتستدير بسرعة نحوها وهي تهمس بهدوء حذر بدون ان تظهر مشاعرها الداخلية
"شادي موجود بالمنزل ! هل هو يأتي عادةً للمنزل ؟ هل عاد للعيش هنا ؟"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي تقول بصوت خفيض لكي لا يسمع احد ثرثرتها وإفصاح اسرار المنزل
"كلا فهو قد توقف عن المجيئ للمنزل منذ حادثة طلاق سلوى ، فقط جاء اليوم بطلب من السيد محراب الكبير الذي دعاه للحديث بمكتبه بحوار خاص ، لذا جاء اليوم تلبية لهذه الدعوة وألا ما كان سيأتي للمنزل لوحده"
ابتلعت ريقها بجمود وهي تسكت كل الافكار التي اصبحت تموج بعقلها الذي لا يغفل عن طارئة ، لتقول بعدها بابتسامة هادئة بنفس مستوى صوتها الخفيض
"وهل تعلمين عن ماذا يريد الحديث معه ؟"
ردت عليها من فورها وهي تهمس بخفوت مهذب
"كلا يا آنستي لا اعلم ، فهو حديث خاص جدا ، وعندما يجلب السيد الكبير احدهم لغرفة مكتبه فهذا يعني بأن حديثهم سيكون اما عن العمل او عن حياتهم الشخصية"
غامت ملامحها بهدوء عاصفة على وشك ان تهب بالأنحاء وهي تعزم امرها ، لتستدير بعدها على جانبها وهي تلوح لها بيدها هامسة بخفوت مشتد
"شكرا لكِ على المعلومات ، والآن انا سأتصرف بنفسي"
غادرت من امامها وهي تحدد وجهتها الجديدة التي تغيرت حسب الظروف الراهنة لطريق مخالفة لمخططات يومها ، وما ان وصلت امام باب المكتب الكبير والذي صادف زيارتها له مرة واحدة عندما طلب إذن الزواج من والده وكانت شاهدة عليه بوقتها وهي تنساق لقدرها بكل طواعية ، لتتجمد بعدها باستقامة امام الباب المفتوح منه شق صغير غير كافي بسبيل الوصول لهدفها .
رفعت كفها بتمرد وهي تدفع الباب بكل بطء وحرص حتى اتسع الشق اكثر وتوضح مجال الرؤية امامها والذي ظهر بالحيز الابن ووالده بمواجهة امام بعضهما ، حتى انها استطاعت التنصت على الكلام الدائر بينهما ليصل لها آخر الحديث من صاحب الصوت الجهوري الفخم
"هل فهمت كلامي جيدا يا شادي ؟"
تعقدت ملامحها الجليدية بضيق من موضوع الحوار الغير واضح الاطراف ، لتقرب اذنها اكثر وهي تتمسك بإطار الباب ما ان وصل لها صوت الطرف الآخر قائلا باستياء
"لا لم افهم بعد ، هلا وضحت لي مقصدك اكثر ؟ فأنا اعاني ببطء بالاستيعاب امام هذا النوع من الاحاديث المعقدة والغير مباشرة !"
تشنجت اصابعها البيضاء الممسكة بإطار الباب ما ان ضرب على سطح المكتب بقوة صاحب الصوت الفولاذي وهو يقول بانفعال مكبوت
"ما هو الذي لا تفهمه ؟ ما هو الذي لا تريد استيعابه ؟ هل تتعمد تمثيل دور الابله امامي لكي لا تنفذ ما اقول ؟ الامر لا يحتاج لذكاء كبير لتستوعب عما اتكلم عنه منذ نصف ساعة وانت تحرك رأسك مثل النعامة ، هل تظن الموضوع الذي اتكلم عنه بهذه السخافة حتى تستهين بكلامي بهذه الطريقة ؟ لماذا لا تعطي اي شيء بحياتك اهمية كبيرة وتصبح رجل حقيقي كفرد من هذه العائلة ؟ هل ما اطلبه كثير عليك ؟"
زفر انفاسه بكبت وهو يقول ببرود قاتم يحاول تجنب اي شجار قد ينتج بينهما
"ابي ادخل بالموضوع مباشرة ، واخبرني عن سبب استدعائي اليوم ؟"
هدئت ملامح والده وهو يتلبس قناع الصلابة بلحظة قبل ان يضم قبضتيه خلف ظهره بشموخ قائلا بهدوء مهيب
"تعلم جيدا بأن شقيقك احمد قد جرب فرصته بالزواج مرتين على التوالي وفشل بالمحاولتين ، وللأسف فقد خيب جميع آمالي به والتي وضعتها على ابن المدير المستقبلي وهو يعاند الجميع ويفعل فقط ما يمليه عليه قلبه ويتخذه بحياته التي اختلت من المنطق والعقل ! حتى فقدت الامل من موضوع زواجه المعلق وسحبت مسؤوليتي منه ، ولن اعترف به ابن لي مجددا حتى يتم مسألة الطلاق بينه وبين ابنة مايرين ويتحرر من لعنة سحرها التي حولته لرجل ضعيف الإرادة لا يعرف مصلحة نفسه ولا يصلح لإدارة شيء بحياته ، ولا اعلم إذا كان الخطأ بطريقة تربيتي له ام بسبب المرأة التي سلبت عقله وجعلته مولوع بها ؟"
قست ملامحها الباردة وهي تخفض نظرها للأسفل تكتم الامواج التي اهدرها بداخلها بمنتهى التجبر والتسلط وكأن احدهم اغتال حقوقها ، ليشدها صوت (شادي) الذي قطع الصمت قائلا بكل بساطة وهدوء
"ولكني اخالفك بالرأي فهو الآن يعيش حياة افضل مما كانت عليه بالسابق ، وسعيد جدا من اجله بعد انتفاضته الاخيرة وخروجه من تلك الدائرة ليحيى حياته بالطريقة التي تجلب له سعادته وراحته بالبحث عنها بالشريك المناسب"
ردّ عليه (محراب) مباشرة بدون اي مواربة وهو ينحني امام المكتب ويريح كفيه على سطحه
"احمد ليس موضوعي الآن ، فهو مشغول معها بقضية الطلاق الغير معروف مصيرها ، المهم الآن هي حياتك انت والتي سنتكلم عنها هنا ، وتفهم جيدا ما اعني !"
انعقد حاجبيها السوداوين وهو يجذب انتباهها والذي تركز معه بلحظة واحدة ما ان قفز من موضوع لآخر بسرعة خاطفة ، ليقول الطرف الآخر بالحوار والذي تلبس ملامح الصلابة قائلا بدهشة مفتعلة
"ماذا بها حياتي ؟ هل هناك خطب بها ؟"
ضاقت حدقتيه الرماديتين وهو يقول بخشونة هادرة بعد ان وصل لأساس الموضوع
"لا تبدأ بالتكلم معي بسخافة ! تعلم جيدا بأن حياتك تملئها المشاكل وليست افضل حالاً من حياة شقيقك ، لذا كنت افكر بقرار جذري يحل كل مشاكلك وهو بالسير على نهج شقيقك والانفصال كذلك عن ابنة مايرين الصغرى ، وهكذا سنتخلص من سلالة بنات مايرين بأكملها ونخرجها من عائلتنا ومن رجالها ونوقف تمردهن وسحرهن على عقولكم وحياتكم ، وقد حضرت لك قائمة كاملة بالفتيات اللواتي يليقن بك وبنسبنا ومستعدات للارتباط بك بأي وقت ، فهذا هو القرار الصائب بالنسبة لحياتك التي تدمرت منذ زواجك من تلك شبيهة والدتها وكلما استمريت بهذه العلاقة تقود بنفسك للتهلكة !"
توهجت حدقتيها الزرقاوين بمحيطات متلاطمة وهو يضرم اعاصير وكوارث بقلبها القاسي الذي لا يعرف الرحمة بلحظات الغضب والحب والانتقام ، ولم يوجعها من كل كلامه الذي اقتنص كبريائها وذلها سوى كلمة الانفصال التي اصبحت تشكل عندها كل الاخطار بحياتها المسالمة التي عرفت الاستقرار والراحة اخيرا .
استكانت (ماسة) بمكانها برجفة اخترقت امواجها بصوت زوجها الذي اصبح الهدوء لعواصفها والركود لأنهارها وهو يقول بسلاح السخرية المعتاد بدون اي تأثر
"وهل تريد اتخاذ القرار عني يا ابي ؟ اعتقد بأن هذا قرار شخصي يخصني وحدي وليس عائلي حتى تأخذه بدلا عني ! علاوة على ذلك انا لا اعاني من اي مشاكل او تعقيدات بحياتي حتى افكر بالانفصال عن زوجتي ، هي مجرد فترة نقاهة مؤقتة بيننا ستزول ويعود كل شيء لسابق عهده"
تجمدت ملامحه حتى بانت الخطوط واضحة بتجاعيد زادت قساوة رمادية عينيه وهو يقول باحتقار بدون ان يتنازل عن موقفه
"ولكن ليس هناك ضمان بتحسن زواجك وانتهاء سيل المشاكل بينكما ! فهذه الفتاة لا ضمان لها ابدا ! لا تاريخ مشرف لها ولا مستقبل واضح لها ، فهي تسعى فقط للانتقام من الجميع وسلب ونهب كل ما ترغبه نفسها بطمع وجشع كبيرين ، هل تظنني لا اعلم نوع جيناتها ؟ هل تظنني لا اعلم اهداف نوعها ؟ هذه الفتاة لا تصلح للحب ولا للعطاء فهي ذات روح قاسية وقلب حجري يكسر اكثر مما يجبر ويداوي ، وانت ستكون الخاسر الوحيد بهذه العلاقة الفاشلة من كل النواحي ، وصدقني نهاية هذه الطريق ستكون الخذلان ولن تجني شيء منها سوى انكسار قلبك بين مخالبها بدون رأفة او رحمة ، فمن مثلها لا يشفق ولا يرحم بل يدوس على الرماد المحترق ويمضي بدون ان يبالي !"
انقبضت اصابعها البيضاء وانحصرت الدماء بين مفاصلهما كما ملامحها التي شحبت مثل الرخام البارد بقساوة توازي تمثال الجليد ، بينما كان داخلها يحترق بمعنى الكلمة مثل انفتاح فوهة البركان وانصهار كل شيء حولها حتى اصبح قلبها عبارة عن قطعة فحم محترق ، ولم يستطع شيء ان يخرجها من عذاب ذاتها ولا صوت (شادي) وهو يقول بابتسامة ساخرة لا تمت للمرح بصلة
"لا تقلق فلن تكون قصتي مشابهة لقصتك ، ولن تكون ماسة مثل جيهان ولن اكون انا مثل والدي"
صرخ فجأة بغضب صدح بإرجاء الغرفة
"اخرس يا وقح....."
قاطعت الدوامة بينهما انفتاح الباب على اتساعه وظهور من كانت تتنصت على حديثهما وقررت الظهور على العلن ، لتخفض بعدها يدها التي فتحت الباب وهي تقول بابتسامة وقحة بعد ان اظهروا شخصيتها الشيطانية التي كانت تحتمي بالظل
"اعتذر على التطفل على نقاشكما ، ولكن توجب عليّ التدخل وابداء رأيي بما ان الموضوع قد وصل لأشياء تخصني وتلمس طرفي وحياتي"
اتسعت الانظار الموجهة نحوها بين ذهول واستنكار وغضب بان على وجوههما ، حتى استقرت بنظرها على الذي خرج من صدمته بصعوبة قائلا بخفوت مندهش
"ماسة !"
انحنت زوايا حدقتيها الزرقاوين بضبابية بدون ان تجلب اي مشاعر اخرى خمدتها بوسط ثورتها وحل مكان الحب الانتقام ، لتنقل نظراتها للسبب الرئيسي بمعاناتها وهو يقول باستنكار حاد
"هل كنتِ تتنصتين علينا يا عديمة الحياء والتهذيب ؟"
اقتربت نحوه بخطوات ثابتة حددت مسارها وهي تدور حول المكتب حتى وقفت امامه مباشرة ، لتومئ بعدها برأسها بثقة وهي تقول بعدائية قدحت بعينيها المظلمتين
"اجل كنت استرق السمع عليكما ، فأي موضوع او حوار تريد خوضه مع زوجي لدي كل الحق بمعرفته ، فهذا قرار وحديث مشترك وعلينا النقاش به معا ، وبما انك قد اعطيت رأيك بعلاقتنا وانتهيت من النقاش عنها فقد حان دوري لأخبرك بأن كلامك مرفوض ولن نأخذه بعين الاعتبار ، فكما اخبرك ابنك الآن سأقول لك ايضا بأن زواجنا سوف يستمر رغم انف كل الحاقدين والرافضين والمغتاظين ، فأبنك لن يكون ملكك ولن تستطيع السيطرة على حياته كما يحلو لك مثل الدمى فهو رجل راشد ويعرف مصلحة نفسه اكثر من الجميع ، فهو بعد كل شيء لا يشبهك ولا يشبه جيناتكم التي ورثتموها عن بعضكم بالتتابع حتى افسدتم جيل كامل منكم"
استقام بهدوء شديد وهو يلتفت نحوها بالكامل وعينيه تتجولان عليها عن كثب وكأنه يرى كارثة صغيرة امامه اظهرت انيابها الحادة بوجهه ، او بالأحرى فقد اصبح يرى نسخة اخرى عن شقيقته المجنونة التي لم تكن تعرف احترام او آداب بحياتها كسرت كل القواعد وكل القوانين بالعائلة حتى اصبحت تتشبه بالقطة الشرسة التي تهجم بكل قوة عند المواجهة والدفاع والغضب لتكون طفرة غريبة من نوعها لم تتكرر قبل ظهور ابنتها التي اخذت نفس صفاتها .
قال (محراب) بعدها عندما وجد صوته وهو يلوح بذراعه نحوها باستهجان غاضب وكأنه لا يصدق ما تراه عيناه
"يا لوقاحتكِ وانعدام تهذيبك ! ما هذا السلوك العدواني بالتكلم مع خالكِ الذي يكون اكبر سنا منكِ ومرتبة ؟ ألم تتلقي اي تربية بحياتكِ تعلمك معنى الادب والاحترام ؟ هل هذا ما علمتكِ إياه والدتك الفاجرة التي ورثتك كل جيناتها المتمردة بالوقاحة وارتكاب الفواحش ؟ ام هذا تعليم والدكِ صاحب الدماء المدنسة والقذرة التي نقلت لكِ بالولادة ! ام قد يكون تعاليم زوج والدتك المجرم الذي عمل بالعصابات ولوث عقلكِ بأفكاره وجعلك نسخة قريبة عنه ؟"
ضيقت امواج حدقتيها الداكنتين بجرح عصف بهما وهي تشدد على اسنانها بحالة اشتعال الغضب الذي بدأ ينخز بأطرافها ويدفعها للجنون الوشيك ، وقد كان (شادي) قد وصل لها وهو يدرك جنون افعالها وما قد ترتكبه بلحظات جنونها القصوى ، ليمسك بعدها بذراعها وهو يستحثها للهروب بها قبل ان تنفجر قائلا بهدوء ثابت
"هيا بنا يا ماسة ، لنغادر من هنا......"
قاطعه موجة الغضب المدمرة وهي تشير بذراعها نحو الواقف امامها وبأصبعها السبابة صارخة بضراوة خرجت عن حدود سيطرتها وحفرت بمكان الألم
"لا اسمح لك بالتكلم عن والديّ بسوء ، لا اسمح لك بإهانة اي منهما ، ألا يكفي كل العذاب الذي جربوه ومروا به بسببكم ؟ بسببكم انتم عائلتي عاشت اسوء لحظات حياتها ! بسببكم عاشت امي بقهر وألم طول الفترة التي عاشت بها داخل جدرانكم ، ما كان ذنبها الكبير حتى تحبسوها بكل همجية مع اطباء نفسيين وتعاملوها على اساس بأنها فاقدة العقل والاهلية ؟ تقولون بأنها هربت منكم وتخلت عنكم للزواج من رجل خارج بيئتكم ! ألستم انتم من دفعتم ابنة هذه العائلة للهرب منكم للتخلص من شروركم وطريقتكم بتعذيبها حية بأسلوب ردعها وتهذيبها البربري الذي لا يمت للمنطق بصلة ؟ لقد استحقيتم كل سوء واذى حدث معكم بتلك الفترة ، انتم تستحقون الموت بنيران قسوتكم...بنيران ظلمكم لوالدتي...بنيران تجبركم عليها ، انتم تستحقون هذا الألم بعد ان قتلتم عائلتي وجعلتموها تذوق كل ذاك الذل والمرار ، والاهم من ذلك بأن والدكم الاكبر كان يستحق الموت اكثر من غيره لأنه السبب الرئيسي بعذابي....."
قاطعها الصوت الصارم بغضب هز الجدران من حولهم يتبعها بيده التي ارتفعت تنوي صفعها بكل قوة
"اخرسي يا عديمة الشرف....."
اغمضت عينيها لا إراديا بغريزة الخوف مما هو قادم وما ان طال الامر ثواني حتى عادت لفتح عينيها بحرص لتقابل الكف القوية التي كانت تمسك برسغ اليد والتي تنوي صفعها ، لتنقل نظرها تلقائيا للواقف بالقرب منها يحميها من صفعة والده وهو يحرك رأسه ببطء علامة الرفض قائلا بتحذير خافت مهدد
"لا يا ابي ، لن اسمح لك بفعلها ، كل شيء ألا لمسها بسوء او ضرر ! فهي تبقى زوجتي وحدودها لا يتخطاها غيري ! وإذا كانت تحتاج للتهذيب او التأديب فأنا من سأفعلها ليس احد آخر غيري فهذه المهمة التي توليتها واخذتها على عاتقي"
تغضنت تقاسيم والده بقسوة وهو يسحب رسغ يده بعنف قبل ان يستدير بجسده بعيدا عنهما ، ليلوح بيده اتجاه الباب وهو يقول بكل ازدراء اصبح يحمله نحوها
"اطلب من زوجتك إذاً ان تغادر من هنا ، فأنا لا اريد رؤية وجه هذه الفاجرة بمنزلي ، اريدها ان تغرب عن وجهي حالاً ، فهي لا تستحق الاحسان او فعل المعروف معها واكبر غلطة هي فكرة إيواء بنات مايرين بمنزلي ناكرات الجميل ، فهذه الافعى مهما فعلت معها من خير فهي ستبقى افعى وستقتلك بسمها بنهاية المطاف !"
رفعت ذقنها بإيباء وكأنها لم تتلقى إهانة كبيرة للتو اعتادت على سماعها طول مسيرة حياتها الماضية حتى حولتها لموسيقى بأذنيها ترقص على لحنها ، لتقول بعدها وهي تنفض شعرها لخلف كتفها هامسة ببرود محتقر
"وانا لست اقتل نفسي للبقاء معك بمكان واحد ، ولا اطيق صبرا حتى اخرج من هذا المنزل للأبد وإلى ما لا عودة ، والآن عن إذنك لدي مهمة استعادة اغراضي وآخر ما تبقى لي بهذا المنزل والذي سيكون خروجي منه بمثابة الجنة"
تحركت بسرعة وهي تدور حول المكتب بسرعة الطلق لتخرج من نفس الباب الذي دخلت منه باقتحام وخرجت منه بنفس القوة بعد هبوب العاصفة وانسحابها معها ، وبعد شرود ثواني كان يلحق اثرها بسرعة وهي يخرج خلفها ، ليبقى كبير العائلة واقف بمكانه وهو ينظر بالفراغ امامه بدون معنى وآلام استطاعت تلك الطفلة المتمردة حفرها بداخله بذكريات تمنى لو بقيت حبيسة زمنها .
________________________
وصل رواق المنزل وهو يلمحها تصعد السلالم بسرعة قصوى وشياطين الارض تلاحقها مثل دوامات سوداوية ، ليزفر انفاسه بجمود وهو يتحرك خلفها ويسلك طريقها صاعدا السلالم بخطوات واسعة مثل لحظة انقضاض الفهد على الفريسة ، ليصل لها بغضون ثواني بلمح البصر وهو يمسك بذراعها ويدير جسدها على الجدار المحاذي للسلم وهو يحجزها بحيز ضيق ، لتتنفس بعدها بصدر اتسع بمخلفات هجومها الاخير الذي ترك ركامه بعينيها الهائجتين وهي تهمس من بين اسنانها بانفعال منقبض
"ما لذي تفعله ؟ هل تريد محاسبتي ايضا ؟"
اسند يديه على جانبي وجهها وهو يلفح بشرتها بأنفاسه الهادئة قائلا بكل روية عكس حالتها
"اهدئي يا ماسة واستعيدي ضبط جماح غضبك ، فلن اتكلم معكِ حتى تهدئي وتبردي نيران كبريائك وقلبك"
تنفست بتعاقب اعلى وتيرة وكأنه يضع فحم على النار بداخل قلبها الذي لا يقبل اي وثيقة سلام ، لتلوح بذرعها بعيدا بدون وعي منها وهي تصرخ بضراوة
"لا لن اهدئ يا شادي ، لن اهدئ هذه المرة ، على الجميع دفع ثمن افعالهم ، على الجميع دفع ثمن الاضرار التي خلفوها بنا ، وأولهم على القائمة هو محراب الفكهاني......"
قاطعها بصوت شفير الخطر وهو يشدد على اسنانه بنطق اسمها
"ماسة ! كفى !"
عضت على طرف شفتيها بعصبية وهي تشيح بوجهها جانبا بصمت منصاع تحت التهديد ، لتهمس بعدها بلحظة بخفوت مشتد وهي تشرد بحزن ضبابي
"يبدو بأن الفكرة قد راقت لك"
ضيق حدقتيه السوداوين بعمق وهو يقول بهدوء جاد
"ماذا تعنين ؟"
زفرت انفاسها تجلي حنجرتها التي تعبت من المحاربة وهي تقول بخفوت مجروح حد الصميم
"اقصد فكرة الانفصال عن زوجتك والبحث لك عن اخرى بقائمة الفتيات اللواتي يليقن بك اكثر مني ، فهو بعد كل شيء محق بنقطة واحدة وهي المشاكل التي ستبقى تلازم حياتنا ولن تتركنا ابدا"
غامت ملامحه بصمت بقناع البرود الصلب وهو يقول بجدية اقرب للأمر
"انظري لي يا ماسة وانتِ تتكلمين"
حدقت به ببعض التردد وهي تزم شفتيها بعبوس حزين تمثل القوة والشموخ امامه ولكن من داخلها مكسور بل محطم ، وهو يشعر بذلك ويلمسه بأعماقها بصورة اقرب عن السابق بعد ان تغلغل بها بآخر فترة سمحت له بكسر حدودها ، ليقول بعدها بابتسامة شقت صلابة ملامحه يشوبها بعض اللطف
"هل اظهرت اي قبول بتلك الفكرة التي سمعتها وانتِ تتنصتين علينا ؟ هل اظهرت موافقة صريحة عليها او تأييد للأمر ؟"
حركت رأسها بالنفي ببطء وهي تضرب قبضتيها على جانبيها قائلة بتذمر غير راضي
"ولكنك لم تردع والدك بعد قوله ذلك الكلام ، لم توقفه عند حده او توقف سيطرته على حياتنا ، لم تقل اي كلمة تدافع بها عن زواجنا وتوقف تجبر والدك علينا ! كيف تريد مني ان اصدقك وانت لم تدافع عن شرفي امام جبروت والدك الذي اهدره على الملأ ؟....."
قاطعها من فوره وهو يضرب بقبضته على الجدار بجانبها قائلا بأمر غاضب
"اخرسي يا ماسة ، وتوقفي عن قلة التهذيب"
اخفضت رأسها للأسفل وهي تعيد قبضتيها خلف ظهرها بوضع المتهم المظلوم ، ليتنفس بعدها بهدوء لوهلة قبل ان يلصق جبينه برأسها وهو يقول امامه بخفوت مبرر بتعاطف
"انا لست ابن عاق يا ماسة ، ولست ابن بار ايضا ، ولكني مع ذلك لا اريد تجاوز حدودي مع مَن هو اكبر سنا مني وان انعت بالخارج عن السيطرة او المتهور فارغ العقل ، لا اريد ان اعطيهم تلك الفرصة بنعتي بتلك الصفات المعيبة وتلقي التقريع والتوبيخ عليها ، فنحن لا نريد ان نكون مثلهم بل علينا ان نكون افضل منهم ، هل فهمتي مقصدي ؟"
لعقت طرف شفتيها بلسعة حارقة وهي تهمس بتأنيب ضمير بعد ان تجاوزت حدودها
"لقد كنت سيئة صحيح ؟ وانت تخجل من تلك الحقيقة !"
عقد حاجبيه يمثل التفكير وهو يضرب جبينه برأسها المنخفض بانكسار يزيد الثقل عليه قائلا بابتسامة هادئة
"حسنا لقد كنتِ سيئة بعض الشيء ، ولكني لن اخجل منكِ فأنا سوف اعمل على تهذيب ذلك السلوك العدواني بكِ لكي تتوقفي عن كونكِ سيئة وتغيري من طباعك الحادة وعيوبك"
ابتلعت ريقها بصمت بدون كلام بعد ان ارتشف غضبها وحزنها بمهارة قلبت شخصيتها التي كانت عليها بغرفة مكتب والده ، ليخفض بعدها كفه عن الجدار وهو يحيط بها جانب وجهها قائلا بخفوت عميق
"هل تألمتِ من كلامه ؟"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها تكبح ألمها وهي تومئ برأسها بتهذيب مثل طالبة معاقبة ، لتهمس بعدها بابتسامة ساخرة حفرت على محياها ببؤس
"الألم شعور لم يعد يليق بحالتي فقد تأقلمت مع الوضع منذ زمن"
شدد من احتضان جانب وجهها وهو يلمس بأصبعه السبابة صدغها وكأنه يهدئ نفسه بنبضاتها ، ليقبل بعدها مقدمة شعرها بعمق وهو يهمس بخفوت اجش يداري حزنها
"اعتذر على تعرضك لهذا الموقف"
عصرت قبضتيها خلف ظهرها وبشرتها تتشرب بحمرة قانية اعتلت لوحتها الرخامية بحياء ، لتهمس بعدها بفرط انفعالها بخفوت خبيث
"هل هذا يعني بأنك لن ترضخ لطلب والدك بالبحث عن زوجة غيري ؟"
تشنجت تقاسيمها ما ان امسك بذقنها الصغير يرفعها حتى مستوى وجهه القريب منها ، لترمش بعينيها بارتجاف منصهر ما ان همس امامها بخشونة هادرة
"سوف اريكِ الآن العقاب الامثل الذي يليق بكِ بعد ان شككتِ بمدى حبنا ، وسيكون هذا إثبات قوي لكي لا تسألي مثل هذه الاسئلة الغبية مجددا"
فتحت شفتيها بأنفاس مرتجفة سرعان ما اطبق عليها بتقبيل ناري اضرمت المشاعر بينهما بإثبات كان اكثر مما توقعت ويستوعبه عقلها....ليمسك بيده الاخرى رأسها ويتخلل شعرها بقسوة وهو يقربها منه...ليتحكم بمدى قبلته ويضيف عليها مزيج جديد من المشاعر التي تحررت على شاطئ الامان والرغبة بالعيش بسلام....بينما شاركته الاخرى طوفان مشاعره وهي تستمتع بنهم بهذا العقاب الذي ارضى نيران قلبها وغريزتها المتملكة والجائعة بالحصول على حياته بكل ما تستطيع من انانية وجشع اصبحت تتغذى بهما معه .
انقطعت القبلة بينهما بانتفاض اخترقها صوت وقوع الصينية وتكسر الاكواب عليها ، ليقف كل منهما بعيد عن الآخر سنتمترات بتجمد وكأنهما قد امسكا بالجرم المشهود ، لتتوجه نظراتهما نحو صاحبة الضوضاء وسبب الفاصل بينهما والتي كانت الخادمة وهي تقف بنهاية السلم تكاد تموت من خجلها هامسة بخفوت متلعثم بحالة تحسد عليها
"انا اعتذر ، اعتذر بشدة ، لم اقصد التطفل ، لم اعرف عنكما !....لم اعرف بوجودكما ! حقا اعتذر"
غطت (ماسة) خديها المشتعلين بكفيها بخجل مفرط وهي تشعر بنيران قلبها تتفاقم وحدها حتى انتشرت على كامل جسدها ، لتتمتم بعدها بكلمة واحدة بسخط وهي تفر هاربة من المكان
"تبا لك"
صعدت باقي الدرجات بلمح البصر تكاد تتعثر بطريقها حتى اختفت عن انظارهما ، ليضحك (شادي) بمذاق السعادة على شكلها الفكاهي والذي تحولت له قطة العائلة الشرسة بلحظات العاطفة التي تجعلها اكبر خرقاء ، لينقل بعدها نظره للخادمة التي جثت على ركبتيها وهي تجمع حطام الاكواب المتناثرة بيديها المرتجفتين تكاد تبكي من موقفها ، ليهبط بعدها الدرجات امامها وهو يمر من عند الخادمة التي لا تجرؤ على رفع رأسها قائلا لها بتشجيع طريف
"احسنتِ عملا ، جزاكِ الله خيرا"
رفعت رأسها بصدمة وهي تشاهد رحيل ابن العائلة والذي اكمل نزول الجزء الثاني من عتبات السلم ، لترفع عينيها عاليا نحو اعلى السلم الذي اختفت منه زوجته الجامحة ، وبلحظة كانت تتنفس بيأس وهي تعلق بنقطة سوداوية هامسة بخفوت باكي تكاد تدفن نفسها تحت التراب
"يا ليتني مت على عيش تلك اللحظة ! والآن كيف سوف اقابل وجه كليهما مرة اخرى ؟ يا لحظك العاثر يا سندس"
______________________________
كانت تثرثر بصوتها الحزين المغلوب عليه المرارة والاسى وكأنها تفيض بكل ما يعتمل بقلبها المكسور بجرح تعدى كل الجروح الاخرى التي لم تلتئم للآن ، لتتنفس بعدها بإجهاد مهلك وهي تهمس بخفوت متحشرج
"هذا كل شيء حدث معي لليوم ، ولا اعلم كيف اتصرف بعد هذه الساعة ، او ماذا افعل بنفسي لو حدث حقا ما اخشاه !"
رفعت مقلتيها النديتين نحو الواقفة امامها تسند ظهرها على المنضدة وتشرد بشيء بعيد غير معلوم منفصل تماما عن العالم من حولها ، لتعبس ملامحها الحزينة بغضب وهي تدفع ذراعها هامسة بخفوت متذمر
"ماسة قولي شيئاً ، لا تبقي صامتة كالتمثال !"
افاقت (ماسة) من شرودها وهي تستقيم باعتدال قبل ان تدير وجهها نحوها وهي تهمس بخفوت مرتبك
"عن ماذا كنا نتكلم ؟"
شدت على اسنانها بضيق وهي تهمس من بينهما بقنوط محتقن بالدماء التي امتزجت بدموعها
"انا اتكلم معكِ منذ ربع ساعة بأحزاني واعمق مخاوفي وانتِ خارج نطاق التغطية ، هل تهتمين حقا بالاستماع لمشاكلي وهمومي ؟"
لوحت بيدها ببرود وهي تهمس بجدية تقمصتها بلحظة
"توقفي عن التذمر ايتها البكاءة ، لقد شردت قليلا وانا استمع لكلامكِ ، فقط اخبريني بمشاكلك باختصار وبدون إطالة بالأحداث"
زمت شفتيها بعبوس وهي تخفض نظرها لكفيها المضمومتين بحجرها ، لتقول بعدها بخفوت جاف
"لقد اخبرني مازن بالصباح بأن جواد يفكر بالزواج ، واليوم بالجامعة رأيت جواد عند البوابة يراقبني ، واكتشفت اليوم فقط بأن جواد يتعقبني منذ شهر ، وبنهاية مشاكلي خسرت صديقة الدراسة ، هذا هو موجز مشاكلي باختصار"
لوت شفتيها بضيق وهي تهمس بسخرية
"هذا اكثر مما توقعت"
نظرت بسرعة ناحية صديقتها والتي عادت تنشج ببكاء صامت بدون دموع بعد ان ذرفتها طول حياتها منذ زواجها بفارس الاحلام الاسطوري ، لتتنهد بعدها بجمود وهي تجلس بجانبها على طرف السرير قبل ان تقول بهدوء تتسلح بالمنطقية بهذه المواقف
"ولكنكِ قلتِ بنفسكِ بأن هذه مجرد إشاعات واخبار كاذبة قد تكون اقاويل وليس لها وجود من الصحة ، ولا تستطيعين تصديق كل شيء يقال ويسمع على لسان البشر فهم الاكثر شهرة بالتأليف واصدار الإشاعة"
مسحت خديها الحمراوين بكفها وهي تهمس بخفوت يائس مفقود العزيمة
"وقد تكون ايضا حقيقة ، فليس هناك دخان من دون نار"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي تكتف ذراعيها هامسة بجمود قاسي
"اراهن بأن قائل هذه العبارة هو نفسه ناقل الخبر لكِ ، فلا خير ابدا من مرسل المشاكل !"
رمقتها بطرف حدقتيها المكسورتين وهي تبتسم لها ببلاهة اوصلت لها الجواب ، لتزفر انفاسها بغضب وهي تدير عينيها بعيدا قائلة بانفعال ثائر
"كنت اعلم بذلك سلفا ، وانا الذي ظننته قد تغير وطور من نفسه ولكن كما يقال ذيل الكلب عمره ما ينعدل ، لو يفعل فقط شيء واحد بحياته ويختفي عن الوجود فهو وجوده وحده سبب كل المشاكل والمصائب بالعالم"
اسندت يديها على ركبتيها وهي تهمس ببحة بكاء بأسى
"كلا هذه المرة لا ذنب له بما حدث ، فهو قد سمع الخبر من سكان تلك المنطقة الذين يتناقلون الاخبار بين بعضهم حتى وصل له"
حركت رأسها جانبا وهي تدس خصلاتها خلف اذنها هامسة باستهزاء
"اجل هيا دافعي عن مازن ، ودافعي عن جواد ، ودافعي عن الجميع ، بينما انتِ المذنبة الوحيدة بكل شيء يحدث بدون ان يكون هناك احد يدافع عنكِ !"
اخفضت رأسها بانكسار حتى انسابت الخصلات الناعمة على جانبيها وهي تضم ذراعيها امام صدرها هامسة بخفوت مرير
"يا ليتني كنت مثلكِ ، تصلين لكل شيء تحبينه مهما كانت المصاعب والمسافات التي تبعدك عنه ، تصلين له وتستولين عليه بكل قوة حتى يصبح بمتناول يدك ، تعبرين عن مشاعركِ وتصرفاتكِ بكل حرية بدون ان تخفي شيء بقلبك ، بينما انا كل ما استطيع فعله هو مشاهدة احلامي وكل ما احب يرحل امامي بدون ان اطارده وانا اودعه بدموعي التي اذرفها عليه"
غامت ملامحها بسحابة حزينة شملتها معها وهي ترمقها بطرف احداقها هامسة بوجوم
"انتِ حقا مفقود الامل منكِ ، تتكلمين وكأنه قد تزوج بالفعل وحفلة الزفاف الاسبوع القادم ! وكل ما حدث هي مشاهدة عائلة فتاة غريبة تزور منزله ! كوني اكثر واقعية يا فتاة !"
اشاحت (صفاء) بوجهها جانبا وهي تقول بغضب طفولي باكي
"انتِ تسخرين مني لأنكِ لم تجربي نوع ألمي ! لا تفهمين ما اعانيه واحاول مداراته بداخلي بعيدا عن الجميع ، تظنون بأنني بخير ولكنني اتألم بكل يوم اكثر من السابق حتى اصبحت انام كل ليلة بخوف ان استيقظ باليوم التالي واكتشف اختفائه من حياتي !"
استغفرت ربها بكبت وهي تربت على كتفها قائلة بخفوت جاد بحزم
"عندما افهم اولاً مشكلتكِ سوف احاول تفهمك ، فأنا لم اعرف للآن ماذا تريدين ؟ انتِ فقط تناقضين نفسكِ طول الوقت ! مرة تقولين بأنكِ مجروحة منه ولا تريدين رؤيته بحياتك ، ومرة تقولين بأنكِ لا تحتملين الفراق وتشتاقين لرؤيته امامك ، اي واحد منهما تريدين يا صفاء ؟ احسمي قراركِ بسرعة واثبتِ عليه ، ولا تنسي بأن هذا القرار سوف يشمل طفلكِ ايضا الذي عليكِ التفكير بمصلحته قبل الجميع"
ادارت وجهها للأمام وهي تشرد بحلقات فارغة هامسة بخفوت تائه مع نفسها
"ماذا اريد ! اريد الحصول على الحب ، اريد ان يبادلني الطرف الآخر الحب ، اريد ان يحبني بقدر حبي له ، اريد ان يحبني لشخصي ونفسي وقلبي ، اريد فقط ان يفتح لي قلبه ويحتوي قلبي ، هذه كل طلباتي بالحياة"
ارتسمت ابتسامة حزينة على محياها وهي تحاكي مشكلتها ذاتها والتي كانت ضمن امنيات طفولتها بالماضي بين حشود كارهة لوجودها بالوسط حتى اصبحت المنبوذة بكل مكان توجد به ، لتستعيد بعدها ضبط ظلال حزنها وهي تمسك بذراعها قائلة بهدوء منطقي تنهي خلافاتها
"وهذا ليس صعب المنال ، فهو ما يزال موجود بمحيطك وتحت سيطرتك ، والدليل هي مهمة تعقبك شهر كامل بدون اي كلل او ملل ، وهذا لا يثبت سوى ارتباطه بكِ والذي لم يستطع للآن الفكاك منه"
نظرت لها بعينين ذابلتين بدموع اليأس وهي تهمس من باطن الوجع
"وكيف سوف اتأكد من ذلك ؟ ماذا لو كانت خطة جديدة لإكمال انتقامه القديم مني ؟ ماذا لو كان فقط يريد التأكد بعدم السماح لي بالتقدم بحياتي وابقائي بالعيش على ظله ؟ ماذا لو......"
قاطعتها (ماسة) بنفاذ صبر وهي تضرب بقبضتها على ركبتها قائلة بقسوة
"توقفي عن تكرار ماذا لو ! اسمعي انا لدي الحل المثالي لكِ والذي سوف يحل كل مشاكلك ، اذهبي مباشرة لصاحب الخبر الاكيد وخذي الحقيقة منه على لسانه ، وعندها سوف ترتاحين وتوقفي كل تلك الافكار والاوهام بعقلكِ وترسين على بر الامان"
حدقت بها بعينين واسعتين بوجل وهي تحرك كفيها برفض قائلة بخوف من الفكرة
"لا مستحيل ! لن اجرؤ على فعلها ! كيف تريدين مني مواجهته بعد آخر لقاء بيننا افسدته بهروبي منه بكل جبن ؟ وعلاوة على ذلك لن اتحمل مواجهة الحقيقة منه مباشرة وعلى لسانه هو سوف اموت قبل سماعها ! هل تنوين على جري لحبل المشنقة بقدمي ؟"
ضربت مجددا على ركبتها وهي تقول بعصبية بعد ان حرقت اعصابها
"توقفي عن العويل مثل الاطفال ، كل ما نريده هو معرفة حقيقة الخبر من كذبه وليس قتل نفسكِ يا معتوهة ، فلن نستطيع قتل الشك سوى باليقين ، وعندما ينطق بحقيقة الامر ويكذب الخبر يمكنكِ عندها النوم بهناء والاسترخاء بأحلامك"
غطت جانب وجهها بكفها وهي تهمس بخفوت متوجس بالاحتمال الثاني
"وماذا لو قال بأنها الحقيقة ولم يكذب الخبر ؟ ماذا افعل بنفسي عندها ؟"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بعيدا وهي تحرك كتفيها ببرود هامسة بقلة حيلة
"عندها ليس لديكِ خيار سوى تقبل الحقيقة بروح قوية وتوديع النوم الهانئ للأبد"
اخفضت كفها بقوة وهي تصرخ بانفعال باكي
"تبا لكِ يا ماسة ، هذا ليس حل ابدا ، ولن يساعدني بشيء سوى بزيادة دوامة اكتئابي وإحباطي"
سدت جانب اذنها بكفها التي تعرضت لنوبة غضبها لتخفضها بعدها وهي تقول بهدوء حازم
"حسنا ليس عليكِ الذهاب إليه شخصيا ، اذهبي لمقابلة والدته تلك المرأة الطيبة ، واسأليها بنفسكِ عن الحقيقة ! ألم تقولي بأنها بمثابة والدتك ولم تعاملك طول فترة سكنك معها سوى بكل خير وحسن نية ؟ اذاً اذهبي وتكلمي معها عسى ان تجدي راحتك بحديثك معها وترتاحي من كل تلك الشكوك والظنون"
نقلت (صفاء) نظرها بعيدا وهي تهمس بخفوت باهت
"سوف افكر بالأمر ملياً فيما بعد"
تنهدت بيأس منها وهي تقول من فورها بموضوع آخر
"وما علاقة خسارة صديقة الدراسة بهذه المشكلة ؟ لقد ظننت بأنكِ على وفاق معها ! فقد قلتِ عنها سابقا بأنها لطيفة وخفيفة الروح وتنحب !"
اسندت خدها فوق قبضتها وهي تهمس بإحباط حزين
"هذا كان قبل ان اقابل جواد خارج الجامعة ، فقد قالت عنه كلام ضايقني بشدة وخاصة عندما ابدت تودد وإعجاب نحوه ، لم اتمالك نفسي بعدها وألقيت عليها كلام جارح وغادرت بعيدا عنهما بدون ان انظر خلفي ، وبالتأكيد ستكون الآن تحمل الضغينة نحوي ولن تسامحني عليها ما حييت ، يا لي من فتاة يائسة على مشارف الموت لقد افسدت كل شيء بتهوري وجعلت الجميع ينفض من حولي بسبب انقلابي عليهم !"
اراحت مرفقيها فوق ركبتيها وهي تنحني بجلوسها مثلها قائلة بابتسامة باردة بدون اي تعبير
"يا لكِ من حالة تدعو لليأس والحزن عليها ، حتى بالحفاظ على صديقة صغيرة لم تفلحي بها ، وكل هذا بسبب حبكِ القديم الذي لم تفلحي بالتخلص منه ، الشيء الوحيد الذي استطيع ان اقول لكِ بأنكِ نجحتِ به هو إكمال دراستك الجامعية رغم كل الظروف والصعاب"
رفعت يديها وهي تغطي وجهها بدوامة حزنها هامسة بأسى مرير
"يبدو بأنني لا اصلح بشيء لا بالصداقة ولا بالحب ، فقد فشلت بالاثنين ، وهذا لم يتغير منذ كنت طفلة وانا فاشلة بكل شيء !"
ربتت على كتفها بهدوء وهي تقول ببساطة تزيد من همها
"انتِ على حق بكلامكِ ، فقد كان عليك ان تكوني ذات عقل راجح بالتصرف معها بما انكِ اكبر سنا منها ، لا ان تتصرفي بطفولية هكذا تظهرك بعقل صغير يتحسس من اي كلمة عابرة بدون مراعاة السن بينكما !"
اخفضت يديها بسرعة وهي تنظر لها بغضب محتقن نفض هالة الحزن عنها ، لتقول بعدها باستنكار وهي تلوح بيدها بتمرد
"انظروا من يتكلم الآن ! ألستِ انتِ الشخص الذي كان يسيء المعاملة مع الكبير والصغير بدون مراعاة فروق السن بينكما ؟ فما ان يحاول احدهم الاساءة إليكِ كنتِ تردينها بعنف بدون استخدام اي عقل راجح او منطق ، لماذا تطلبين مني الآن ان افعل ما لا تستطيعين فعله ؟"
اخفضت يدها بسرعة وهي تراقب انبثاق الغضب على ملامح صديقتها بتأهب ، لتنتظر بعدها الانفجار الوشيك والذي خالف توقعاتها وهي تلتفت بوجهها بعيدا هامسة بهدوء ظاهري بدون الداعي للتصرف فقد كان كلامها كافي
"حقا هل هذا كلامكِ ؟ وكيف الآن ستردين لي كل المساعدات التي قدمتها لكِ طيلة فترة صداقتنا ؟ فمن هو الذي كان ينقذكِ دائما من تنمر طلاب الصفوف الاعلى منا عليكِ ؟ ومن الذي كان يرشدكِ للفصل الذي تترفعين عليه بكل سنة ؟ ومن الذي كان يساعدك بمسائل الرياضيات الصعبة بوقت الاختبارات ؟ ومن الذي كان يتحمل بكائكِ الطويل ويمسح دموعك عندما تتعرضين للضرب من شقيقكِ او من فتيات فصلك ؟ هل سوف تستطيعين دفع ثمن امضاء كل هذا الوقت الطويل معا يا ناكرة الجميل ؟"
شهقت بصدمة بعد ان سردت حياتهما كاملة وهي تحرك رأسها بالنفي هامسة بجزع
"انا اعتذر يا ماسة ، فقط توقفي عن تمثيل هذا الدور المرعب امامي ، فقد اصبحتِ مخيفة بالفعل"
حركت رأسها بحركة باردة وهي تدس خصلاتها خلف اذنها وكأنها لم تفعل شيء بعد ان هزمتها بحرب الكرامة ، لتقول بعدها بلحظات وهي ترسم ابتسامة شاردة على محياها
"ولكن هذا الوضع افضل ، فقد كنت قد بدأت اشعر بالغيرة بالفعل كلما تحدثتِ بسعادة عن صداقتكِ القوية بتلك الفتاة الغريبة"
نظرت لها بعينين مشدوهتين لوهلة قبل ان تهمس بابتسامة صغيرة بمكر
"هل هذا يعني بأنكِ كنتِ تغارين لأنني فضلت صديقة اخرى عليكِ ؟"
رمقتها بطرف حدقتيها الباردتين وهي تهمس بابتسامة خبيثة تجاري مزاجها الذي انقلب فجأة
"كلا فقد كنت اغار منكِ لأنكِ حصلت على صديقة مثالية افضل منكِ بكثير"
انفرجت شفتيها بذهول بعد ان سحقتها بردها وهي تصرخ بغيظ حانق
"يا لكِ من شريرة !"
اشاحت بوجهها بسرعة وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها تمثل الغضب والعتاب بعد ان جرحتها ، لتضرب بعدها بقبضتها على ذراعها وهي تقول بمرح تحاول تلطيف الاجواء
"لقد كنت امزح معكِ فقط ، لا تأخذيها على محمل الجد هكذا"
ولكن لا حياة لمن تنادي فقد زادت عنادها بالعتاب عليها وعدم التحدث معها بكبرياء عالي ، لتتنفس بعدها بضيق وهي تنهض عن السرير قبل ان تقول بابتسامة متسعة بشقاوة
"حسنا كاعتذار مني سوف احضر لكِ كعكة التفاح لتحسن مزاجك وتسعد بطنك ، ما رأيكِ بهذه الترضية ؟"
نظرت لها بسرعة وهي تشرق بسعادة غامرة قبل تمسك بذراعها بتشبث هامسة بخفوت مبتهج
"هل هي كعكة التفاح الخاصة بروميساء ؟"
اومأت برأسها بقوة وهي تراقب ردة فعلها التي حولتها لقطة وديعة لتتابع كلامها بتودد وهي تمسح على بطنها بيدها الحرة
"إذاً اريد قطعة اضافية من اجلي انا وطفلي ، فنحن جائعان جدا ونحتاج للسكر لملء طاقتنا ونفض الحزن عنا"
تبرمت شفتيها وهي تهمس بامتعاض خافت
"انظروا للاستغلالية ! تستخدمين طفلك من اجل الحصول على قطعة كعك اضافية"
سحبت يدها عن ذراعها وهي تمسك خصرها بها هامسة بخفوت واثق
"قولي ما تشائين فلست انتِ من صنع الكعك"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين وهي تتوعد لها بداخلها ان تذيقها الويل فيما بعد تلك الطفلة الاستغلالية ، لتتحرك بعدها اتجاه باب الغرفة وهي تقول قبل ان تغادر بكل استفزاز
"اعان الله الطفل عليكِ"
نظرت بسرعة اتجاه باب الغرفة وهي تصرخ بقهر
"لقد سمعتكِ يا ماسة"
تمددت بعدها على ملاءة السرير باسترخاء مؤقت وهي تمسح على بطنها بهدوء وتستمتع بهذه اللحظات الاستثنائية قبل ان تعود لبؤرة البؤس التي تعيشها ما ان تنفرد بنفسها وتجتاحها تلك الخيالات والافكار .
_______________________________
كانت تريح جانب رأسها على ذراعها وهي تشرد بالفراغ امامها باكتئاب مرير بعد ان عادت لدوامة حزنها عندما تسجن بقوقعة الوحدة وتبدأ الاحداث والمشاعر السلبية تتسابق بعقلها لتحاسب نفسها بكل مرة على اخطائها التي ارتكبتها لليوم ، وهي تسأل نفسها نفس الاسئلة السلبية التي ذلت روحها وتتضمن ما هو ذنبها ؟ واين كان خطئها ؟
تغضن طفيف اعتلى محياها ما ان سمعت صوت انفتاح باب الغرفة بدون النظر للطارق وهو يتابع دخوله بدون ان يأبه بأحد ، ليتبعها بعدها صوت باب الخزانة وهي على ما يبدو ترتب الملابس النظيفة بداخلها ، قطعت الصمت بعدها وهي تقول بهدوء جاد
"هل غادرت صفاء ؟"
ردت عليها بلحظة بخفوت فاتر
"اجل غادرت قبل ربع ساعة"
اكملت ترتيب الملابس بصمت وهي تقول بابتسامة هادئة
"لقد كنت اود دعوتها على العشاء ، ولكن لا بأس ربما بالمرة القادمة"
لوت شفتيها بشبه ابتسامة وهي تهمس بامتعاض خافت شاردة بدائرة الفراغ
"وهل سوف تقدر على تناول العشاء بعد ان اكلت اربع قطع من كعك التفاح ؟"
ضحكت بمرح وهي تغلق باب الخزانة قائلة بابتسامة مملوءة بالعطف
"لا بأس المهم بأنها قد حظيت على إعجابها وسعدت بتناولها ، فقد كانت تطلبها مني كثيرا فيما مضى"
اختفت الابتسامة عن محياها بدون كلام وهي تشرد بحزنها الصامت ، لتشعر بعدها بيد شقيقتها وهي تمسح على رأسها هامسة بخفوت قلق
"ما بكِ اليوم يا ماسة ؟ هل تشعرين بالمرض او بشيء مشابه ؟ فأنتِ منذ عودتك من العمل وتتصرفين مع كل شيء بغرابة ! حتى انكِ اضربتِ عن تناول الطعام ولم تتذوقي من كعك التفاح والتي كنتِ تعشقينها كثيرا بطفولتك ، هل هناك ما حدث معكِ لا اعلم عنه ؟"
قبضت على يديها وهي ترفع رأسها عن ذراعها لتعتدل بجلوسها على الكرسي هامسة ببهوت
"كلا لا اشعر بشيء ، كل شيء على ما يرام"
عقدت حاجبيها بعدم اقتناع وهي تبعد كفها عن رأسها لتمسك بها خصرها قائلة بهدوء حازم
"لقد اخبرتني بالصباح بأنكِ ستمرين على منزل العائلة لاستعادة اغراضك من هناك ، هل حدث معكِ شيء عرقل سير ذهابك ؟"
اعتلت ملامحها سحابة داكنة السواد وهي تهمس بعبوس واجم
"لم يحدث شيء فقد ذهبت للمنزل بالفعل واحضرت اغراضي الناقصة ، ولكن هناك امور حدثت لم تكن بالحسبان ، انا فقط....."
تغضن جبينها بحيرة اكبر عندما انقطع كلامها وما ان كانت على وشك الكلام حتى سبقتها التي رفعت رأسها بسرعة وهي تهمس بخفوت حزين
"هل تسمحين لي بالحصول على بعض الاجوبة ؟"
اندهشت ملامحها من طلبها الغريب والذي لم يسبق ان طلبته من قبل طيلة مسيرة حياتهما ، لترسم بعدها ابتسامة حانية وهي تحضر كرسي آخر لتضعه بجانبها قبل ان تجلس عليه بهدوء مثل جلسة الاصدقاء ، امسكت بعدها بيدها بين كفيها وهي تقول بابتسامة هادئة بجدية
"هيا اسأليني بما تريدين معرفة جوابه ، وانا سوف اجيبكِ على اي شيء تريدين"
اخفضت نظرها بضعف وهي تأخذ عدة انفاس تحصر موجة افكارها بداخلها قبل ان تهمس بخفوت جاد بدون اي مواربة
"لماذا عائلة والدتي رفضت القبول بوالدي عندما تقدم بالزواج من ابنتهم ؟ وما سبب كل هذا الحقد والكراهية نحو نسبه واصله ! ولماذا دائما يتكلمون عن دمائه بأنها مدنسة وقذرة وكأن مكانه تحت التراب ولا يلقى للوصول لمستواهم مهما حاول وسعى لذلك ؟ ما معنى كل هذا يا روميساء ؟"
ارتجفت ملامحها وشحبت وهي تسحب كفيها عن يدها وكأن كهرباء قد مرت بهما ، لتنظر لها بعبوس وهي تهمس بإصرار اكبر بنبش الحقيقة المخفية
"قولي الحقيقة يا روميساء ، اريد ان اعرف كل الخفايا التي تحوم بحياتي وتمنعني من العيش بسلام ! من هو المخطئ بيننا ؟ ومن هو المذنب بكل شيء ؟"
نظرت لها بحدقتيها اللتين بان الحزن الدفين بهما وهي تضم يدها مجددا بقوة اكبر قائلة بكل جدية تحاول بث الامان لها
"سأخبركِ بكل شيء يا ماسة ، فقد وعدتك ان اجيبكِ على كل اسئلتكِ ، ومن حقكِ ان تعرفي كل هذه الاسرار المخفية بحياتك ، وقد انتظرتكِ طويلا لأبوح لكِ بكل شيء ، لذا اسمعي ما سأقوله وافتحي اذنيكِ"
نظرت لها بترقب شديد وهي تتابع كلامها بهدوء حذر بعد ان خفت صوتها بمرارة الماضي
"والدنا الذي تزوج من امي هو بالحقيقة ابن غير شرعي من امرأة ريفية ماتت بعد ولادته ، لتتكفل به عائلة من اقرباءه رعايته والاهتمام به حتى كبر واستقل عنهم ، وبالحقيقة بأن والدي قد ابتعد عن كل تلك القرى بسبب نسبه الشائن والذي اشتهر به بتلك المناطق حتى اصبح يتعرض للمضايقة والتهميش كل يوم من حياته ، لذا انضم لحياة المدينة الصاخبة واكمل تدريسه الجامعي بأرقى جامعات العاصمة حتى يجد نسب وعائلة يبني بها نفسه من جديد"
ابتلعت ريقها بغصة قاتلة وهي تستقبل الحقيقة التي لم تكن تتصورها عن حياة والدها الحقيقي الذي لم تعرفه سوى بالصور ، لتكور بعدها قبضتها المحصورة بين كفيها وهي تهمس بخفوت تستكمل تحقيقها عن جوانب حياتها السوداوية
"وماذا عن نسب والدنا ؟ ماذا يكون ايمن الفاروق ؟ من اين هذا النسب ؟"
تنفست بنشيج لوهلة اصبح يضيق بصدرها وهي تهمس بنفس مستوى خفوت صوتها وكأنهما يسردان حكاية من حكايات الزمان
"هذا يكون نسب جدتنا الأم التي انجبت والدنا وماتت بعدها ، لقد نسب والدنا لنفس نسبها بسبب عدم معرفة الرجل الذي ساهم بهذه العلاقة ، وبقيت القصة على حالها مطوية ولم يكتشف مرتكب هذه الفعلة الشنيعة والذي فر هاربا تاركا امرأة تحمل طفله ، هذا هو حال كل الاطفال الذين لا يخسرون حياتهم وحسب بل يخسرون نسبهم وهويتهم بسبب هذه القصص الشائعة بزماننا وانتشرت بكثرة"
ضيقت حدقتيها المموجتين ببحار هائجة وهي تهمس بحقد تغذى بروحها السوداوية
"هذا هو السبب الرئيسي برفضهم زواج والدتنا برجل لا يملك نسب ! ونفس السبب بكرههم بنات ذلك الرجل ونبذهم من العائلة ، ولهذا اصبحنا نحمل لقب الدماء المدنسة بسبب نسب والدنا المجهول"
تنفست (روميساء) بضيق مكبوت وهي تشيح بوجهها قائلة بجمود قاتم
"اجل هذا واحد من الاسباب الكثيرة التي اعترضوا عليها واعاقت الزواج بينهما ، ولكنها ليست السبب الوحيد ايضا ، فهناك سبب مستوى العائلات والطبقات الاجتماعية التي شكلت حاجز شاسع بينهما"
شقت ابتسامة ساخرة محياها لونت احداقها بزرقة مظلمة وهي تهمس بخفوت مستاء
"الآن عرفت سبب عدم سؤال عائلة والدنا عنا ، لقد تبين بأنه ليس هناك اي عائلة او اصل كي يسأل عنا بهذا العالم ، لقد كان الامر واضح منذ ولادتنا يبدو بأن وجودنا بهذا العالم قد كان اكبر اخطاء الكون فلم يرد احد وجودنا ولا نحن اردنا وجودنا بينهم !"
حدقت بها بسرعة بعينين خضراوين كبيرتين توهج الحزن بباطن غابتهما الحنونة ، لتشدد من احتضان يدها بين كفيها وهي تقول بابتسامة حزينة انكسرت اغصانها
"لا تقولي هذا الكلام يا صغيرتي ، فنحن قد عشنا كل هذه السنوات وحدنا بالاعتماد على انفسنا فقط ، ونستطيع الاستمرار هكذا والمضي قدما كما كنا نفعل منذ سنوات ، وبما اننا قد تجاوزنا امور اسوء من هذه بكثير عندما كنا بلا والدين وبدون حماية من احد فماذا سيمنعنا من فعلها الآن ؟ ماذا سيمنعنا من البحث عن انفسنا ببيئة جديدة والعيش بسعادة ؟"
سحبت يدها من بين كفيها وهي تمسح وجنتيها بهدوء وتعيد خصلاتها خلف اذنيها ، لتهمس بعدها بصوت متحشرج وهي تضم اصابعها البيضاء كم قميصها
"ولماذا لم تخبريني عن قصة والدي من قبل ؟ لما اخفيتِ عني هذه القصة ؟ لماذا لم تصارحيني منذ البداية ؟"
عقدت حاجبيها السوداوين بانحناء حزين وهي تضم ذراعيها امام صدرها هامسة بابتسامة مجهدة
"لقد كنتِ لا تطيقين الحديث عن قصص والدك ، وكلما بدأت معكِ حديث عن الماضي تغلقينه من فورك قبل سماع التكملة ، لقد كنتِ صعبة المراس وصعبة الكلام وانتِ تصنعين من حولك حاجز يبعد الجميع عنكِ ، وقد خفت كذلك إذا اخبرتكِ بالقصة ان ازيد من كرهك لنفسكِ ولوالدك اكثر من السابق والذي لم تطمري نحوه اي محبة بدون ان اعرف السبب ! لذلك صمت ولم اتكلم بالأمر حتى فاتحتني انتِ بالموضوع"
رفعت عينيها البحريتين بدموع تدفقت بهما بدون اي سبب وهي تهمس بوجع بدأ ينبض بداخلها
"ولكني لا اكرهه ، إذا كرهته فسوف اكره نفسي التي ولدت من ضلعه ! وانا لا اريد كره نفسي ، اريد ان احبها ، واريد ان احبه ، لماذا يدفعني الجميع لكرههم ؟ لماذا لا يعطوني الاسباب لأحبهم ؟ لماذا لا يريدون مني ان احبهم ويحبوني ؟"
احاطت كتفيها بذراعها وهي تريح رأسها على كتفها وتمسح بيدها الاخرى على جانب وجهها ، لتهمس بعدها بدموع دافئة تجمعت بمقلتيها الخضراوين بسخاء مشاعرهما
"بالطبع تستطيعين ان تحبي ويحبونك ، والدك يحبكِ ، ووالدتك تحبكِ ، وشقيقتك تحبكِ ، وصفاء تحبكِ ، وشادي يحبكِ ، الجميع يحبكِ ، وإذا بادلتهم الحب فهم بالطبع سيحبونك ، ومن هو الذي لا يرغب بحبك ؟"
طرفت بعينيها بدمعة تسللت بانحدار على صفاء محياها حتى لامست ابتسامتها الناعمة ، لتمسح بعدها الدمعة بظاهر يدها وهي تتمتم بعبوس حزين
"هل هذا يعني بأن نسب والدنا لن يؤثر بحياتنا ؟ ولن نكون ذوات دماء مدنسة ! او بنات الفاروق بدون نسب ، لن نكون بنات مجهولات النسب والحياة ، لن نكون كذلك !"
حركت رأسها بالنفي وهي تشدد من احتضان كتفيها هامسة بثقة كبيرة تمدها بالقوة
"بالطبع نحن لسنا كذلك ، نحن بنات مايرين الفكهاني وايمن الفاروق ، وهذا ما تقوله خريطة عائلتنا وحياتنا ، لذا عليكِ بالفخر بأصلك والاعتزاز بنسبك ، فنحن اكثر من محظوظين بوجودنا بجانب بعضنا البعض ، هل تذكرين عندما اخذتكِ للمتنزه بطفولتك وسألتني عندها عن سبب عدم وجود والدينا بقربنا كما باقي الاطفال ؟"
اعتلت ابتسامة حالمة محياها مثل طلوع قوس المطر بعد انقشاع ضباب الامطار وهي تهمس ببهجة طفولية
"لقد اجبتني بوقتها بأن لا احد من هؤلاء الاطفال يملك شقيقة بقربه ترافقه للمتنزه وتشتري له السكاكر وتلعب معه ، وهذا يعني بأن علاقتنا هي الاكثر استثنائية وتميز بين الجميع"
ضحكت بمرح مجهد لتشاركها الاخرى الضحك بهدير الموج على ذكرى بعيدة جلبت الحنين لهما ، ليتوقف الضحك بلحظة ما ان تأوهت التي ابعدت ذراعها عنها وهي تضغط بيدها على يمين بطنها ، لتلتفت (ماسة) نحوها وهي تهمس بخفوت متوجس
"ماذا هناك يا روميساء ؟ هل هناك ما يؤلمك ؟"
ابعدت يدها بسرعة عن مكان الألم وهي تدس خصلاتها خلف اذنها هامسة بابتسامة طبيعية
"ليس هناك شيء مهم يا عزيزتي ، فقط شعرت ببعض الألم بسبب العمل الطويل المرهق"
عقدت حاجبيها بحزن بدون ان تسمح لها بالكلام وهي تنهض عن الكرسي لتقول بعدها بابتسامة حانية
"سوف اذهب لأحضر طعام العشاء ، فلابد بأنكِ جائعة الآن ، دقائق ويكون العشاء جاهزا ، إياكِ ان تنامي بمعدة فارغة"
غادرت بعدها من امامها وهي تخرج من الغرفة بصمت بدون ان تضيف كلام آخر ، وهي تعلم جيدا بأن شقيقتها ليست بصحة جيدة وكعادتها سوف تهمل نفسها وتجهدها بالعمل على حساب صحتها .
تنهدت بشرود وهي تنقل نظرها امامها ويدها تمسك بالمفكرة الصغيرة فوق سطح المكتب ، وقد كانت من الاغراض التي احضرتها من منزل العائلة ومن اشياءها الثمينة وهي تشبه ذات المفكرة التي اشترتها مؤخرا ، لتبتسم بعدها بذكرى مضحكة بآخر جزء حدث معها بذاك المنزل عندما غادرت وهي تحمل كيس اغراضها ، وما ان مرت ببهو المنزل حتى لمحت الخادمة التي كانت تنوي مناداتها ولكن ما ان رأتها حتى اسرعت بخطواتها وهي تفر هاربة منها بعد الموقف المخزي الذي شاهدته ، لتحرك حينها كتفيها بلا مبالاة وهي تضحك على نفسها مما عرضت تلك الفتاة المسكينة له والتي ارغمها قدرها على التواجد بتلك اللحظة الزمنية والتي لا تتخيل مقدار خجلها منها ومدى سوء حظها .
فتحت المفكرة وهي تقلب بصفحاتها بصمت بذكريات اخذتها إليها وكل ورقة بها سطر تتنافس للظهور بمساحة قلبها
(امي معناها الحنان المفقود والمشاعر السلبية والغضب اسلوب حياتها)
(عمي معناه قيس وهو القسوة والظلم وكل سمات الشخصية الشريرة والابوة المزيفة)
(صديقة معناها صفاء وهي نهر الصدق وشمس الدفء بحلول الشتاء والنور بظلام الليل)
(شقيقة معناها روميساء وهي العائلة والامان والسكينة وكل ادوار الامومة ودواء ومرهم كل الجروح والآلام)
(الخال معناه محراب وهو الجهل والعتمة والنبذ قبل ولادتي)
(الجد معناه المستبد المضطهد الذي قهر عائلتي ودمر امانها وسلامها)
امسكت بالقلم وهي تتوقف عند الصفحة الفارغة التي تحوي كلمة واحدة مجازها (الأب) .
تنفست بعدها بقوة وهي تخط عليها التكملة التي بقيت مبتورة بانتظار اكمال صاحبتها جزئها
(الأب معناه الحزن والاسى وطوق النجاة بعالم اسودت طرقاته وقست قلوبهم ليحيى الحب بنهاية المطاف)
تنهدت بنشوة وهي تكمل معاني شخصيات عائلتها وكل من شارك بإعطاء انطباع بحياتها وتجسد بنظرها منذ طفولتها ، لتكون خريطة عن كل واحد منهم ختمتها بمفكرتها التي جمعت كل الشخصيات بصفحاتها لكي لا تنسى من ظلمها ومن لديه دين عليها .
__________________________    
كانت جالسة بالاجتماع حول الطاولة المستديرة التي تجمع من حولها موظفين القسم الخاص بتحالف المهندسين بأول اجتماع باستقبال الموظفين الجدد...بينما يقف على رأس الاجتماع رئيس القسم وهو يعرفهم بالقوانين الاساسية والمفاهيم والخطابات الرسمية بالترحيب بالموظفين الجدد وتعريفهم بالعمل الشامل...وكل منهم يعرف بأن هذا العمل لن يصلوا له بدون اكتساب الخبرات له قبل كل شيء ليكونوا اعضاء رسميين بهذا التحالف واقل مدة قد يحتاجون لها سنة كاملة حتى يتم الاعتراف بهم ويبدئون بتوكيل المهمات لهم والمشاركة بنشاطات الشركة....يعني هذا الاجتماع مجرد معرفة شاملة بإطار عملهم وكلام فارغ لا طائل منه ولن يغير شيء بسير اعمالهم وكمية خبراتهم المحدودة فكل شيء يدور هنا عن النتيجة ولا اعتراف للمهارة .
تنفست بملل للمرة التي لا تعرف كم من شدة الفراغ والملل الذي تشعر به حالياً وهي تستمع للمتكلم والذي لا يكف عن إعادة نفس الاسطوانات المملة وكأنها تشاهد فيلم قديم الطراز تكررت مشاهده مئة مرة وسرقت الفكرة عن مئة شخص ، لتتلاعب بعدها بالقلم بيدها وهي تضغط بأصبعها الإبهام على زر الفتح والاغلاق بنهايته بتكرار مستفز عله ينسيها صوت المتكلم الذي يعيد كلام محفوظ مثل آلة الطباعة .
كان ينظر للجميع ويعطي الانتباه لهم بدون تمييز ما عدا تلك المستفزة التي تجذبه لها بكل مرة بدون ان تسمح له بالانسحاب عنها بسهولة او تجاهل وجودها الطاغي ، إذا كان بنظراتها الباردة التي توحي بكل شيء بدون كلام او بحركاتها المستفزة التي تقصد بها إحداث جلبة تدل على انعدام الادب والذوق عندها هدفها تشتيت افكاره واللعب بأعصابه ، لينتهي الامر بحركتها الاخيرة وهو بالضغط المستمر على القلم بصورة مزعجة قهرت اعصابه واوصلته الحد الاخير من الاحتمال .
ضرب على سطح الطاولة بقوة جذب كل الانظار والانتباه نحوه ما عدا التي ما تزال تتلاعب بالقلم توقفت عن الضغط عليه ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يقول بصوت انخفض عن السابق بصورة عملية
"يبدو بأن زميلتنا ماسة تود اضافة شيء على كلامي ! تفضلي يا مهندسة ماسة جميعنا نستمع إليكِ"
كست ملامحها صفحة جليدية وهي تضع القلم جانبا وتنهض عن الكرسي بهدوء ، لتستقر بعدها بحدقتيها الجليديتين عليه وهي ترسم ابتسامة واثقة لا تهاب من شيء قائلة بصوت بارد بصلابة
"لم اكن اريد مقاطعة خطابك المهم الذي شرح كل شيء يلزم علينا نحن الموظفين الجدد ، ولكن ألا تعتقد بأنك تبالغ بنمط كلامك المتكرر والذي اصبح محفوظ بالنسبة لنا نحن اصحاب هذه الدراسة ! وعندما تتبع هذا النمط التقليدي بالاجتماعات تبعث على شعور بالملل وانعدام الراحة ويتوقف الجميع عن الاستماع والاهتمام وبالتالي تقتل الشغف والحماس بالعمل ، واكثر ما يحتاجه الموظف الجديد المقبل على مجال هذا العمل هو التشجيع المعنوي والطاقة الإيجابية التي تساعده على المضي قدما وتقديم افضل ما لديه ، وإذا بقيت على هذه الاساليب الثابتة والوسائل التقليدية بنقل المعلومة لنا فلن يطرأ اي تغيير او تجديد بنظام العمل وسنبقى عالقين بنفس النقطة ، وهذا هو رأيي الصريح بخطابك الذي قدمته لنا بهذا الاجتماع التعريفي ، وشكرا لكم على حسن استماعكم واعطائي من وقت خطابك بالكلام"
ساد صمت واسع المدى على جميع الموجودين وكل منهم يبدي إعجابه ودهشته بنظراته بدون كلام ، وكان (إياد) لديه النصيب الاكبر من الدهشة والاستنكار معا والانبهار من صراحتها الزائدة التي تخطت المنطق والذوق ، ليكتف بعدها ذراعيه بتصلب وهو يتابع تأملها عن كثب قائلا بهدوء يجاري سياق حديثها
"وبما انكِ قد قلتِ هذا الكلام فلابد بأن لديكِ افكار جديرة بالذكر تتكلم عن فحوى خطابنا واساليب جديدة تحسن مجال العمل وتصحح اخطائنا ، وسأكون اكثر من سعيد باستقبال اول الحلول منكِ والاقتراحات التي قد تثير اهتمامنا ونستخدمها بعملنا القادم ، وكلنا على احر من الجمر للاستماع إليكِ واخذ كلامكِ بعين الاعتبار ، يا مهندسة ماسة"
تغضنت تقاسيمها بتغير طفيف وهي تحرك كتفيها ببرود قائلة بابتسامة متملقة
"لا اعتقد بأن افكاري بكل هذه الاهمية فهي افكار مبتدئة لا تملك خبرة او تجارب بالعمل ، لذا ستكون مضيعة للوقت لو استخدمت افكاري التي ما تزال بطور النمو ، ولكن عندما اكون مستعدة سوف اطلعك على افكاري واتمنى ان تجد صدى بالمكان ، وسعيدة جدا بإعطائي فرصة بالانضمام بين مجموعتكم وجعلي فرد ناشط بها"
قطب جبينه بجمود بدون تعبير وهي تتهرب من المواجهة بخدعة مبتكرة ، ليقول بعدها باختصار بجفاء بعد ان سقطت الذوقيات بينهما
"إذا كان هذا جوابكِ فتفضلي بالجلوس بكل تهذيب ولا تحاولي فعل اشياء تفوق قدرتك واكبر منكِ ، فهذا عمل جاد وليس لعب اطفال"
ارتفع حاجب واحد باستفزاز وهي تدير عينيها بعيدا قائلة بهدوء ساخر
"انت من طلبت مني اولاً الوقوف وسماع رأيي بكلامك ! ومع ذلك سأتغاضى عن هذا الامر وامتثل لكلامك بسبب مرتبتك الاعلى مني ، وشكرا لك"
جلست بمقعدها بكل تهذيب وهي تنهي الحرب الكلامية بينهما والتي شنت بمنتصف الاجتماع ، لتتوجه الانظار تلقائيا نحو رأس الطاولة وهم ينتظرون بترقب رده على هجومها ، وبدلا من ذلك استقام بوقفته وهو يقول بأمر حاسم
"يمكنكم الانصراف فقد انتهى الاجتماع لليوم"
تحركت الكراسي للخلف وكل منهم ينسحب خارج القاعة بالتتابع وبضجة انتشرت بالمكان ، واما (ماسة) فقد كانت تخرج من بينهم بصمت حتى اوقفها الصوت الانثوي عند مخرج القاعة
"انتظري لو سمحتِ"
التفتت للخلف وهي تلتقي بثلاث فتيات مجتمعات مع بعضهن ينتظرن الفرصة للحديث معها ، لتحدد تركيزها على الوسطى بينهم وهي تقول بخفوت متردد
"اسمكِ ماسة ! صحيح ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تومئ برأسها بالإيجاب هامسة بفتور
"اجل هذا هو الظاهر"
عادت للكلام مجددا وهي تقول بابتسامة منبهرة تشرح وجهة نظرها
"لقد كان ادائك بالاجتماع مذهل بل اقرب للصدمة ! فلا احد منا يتجرأ على مواجهة مدير القسم بكل هذه الشجاعة كما فعلتِ ، فمن عمل معه ويعرفه يقول بأنه صعب الارضاء ولا يسامح بسهولة على الاخطاء والهفوات ، واقلية جدا هم من يدخلون معه بجدال او يحاولون مناقشته بقراراته وقوانينه ، وخاصة بأنه يكون اكثر قسوة مع الموظفين الجدد امثالنا ويمارس عليهم كل انواع الضغط والمجهود من اجل ان يتركوا العمل بإرادتهم ، فهو لا يتعامل بتساهل ولين سوى مع موظفيه القدامى المخلصين والذي مر دهر على عملهم معه وصمدوا كل هذا الوقت ، وما فعلته اليوم يعد إنجاز عظيم بتاريخ العمل ومخاطرة كبيرة بتحديه بكل هذه الشجاعة التي لم يتحلى احد بها من قبل !"
ارتفعت طرف ابتسامتها بجمود وهي تقول ببرود ساخر
"لقد قلت الحقيقة لا اكثر"
ردت عليها نفس الفتاة الأولى بدهشة اكبر
"ولكنكِ قلتِ الحقيقة بوجهه وبوسط الاجتماع بدون ان تهابي احد ! ولم يسبق ان فعلها احد الموظفين من قبلكِ خوفا من خسارة الوظيفة او ضمهم بالقائمة السوداء للأعمال الشاقة"
ارتفع حاجبيها ببرود وهي تنقل نظرها للفتاة الاخرى التي قالت لها بغموض
"هل هناك قرابة تجمع بينكِ وبين المدير ؟"
تجمدت ملامحها عند هذا النوع من الاسئلة الفضولية التي لا تحترم الخصوصيات ، لتقول بعدها باقتضاب وهي تحاول الانضباط بالأدب والتهذيب
"كلا لا يوجد"
لتأتي الفتاة الثالثة وهي تقول بابتسامة متملقة زادت ضيق وضعها
"هل توظفتِ هنا بواسطة ؟ وما لعلاقة التي تربطك بمدير القسم ؟"
ضيقت حدقتيها الزرقاوين بقسوة وهي تقول باختصار جاف
"هذا ليس من شأنك"
امتعضت ملامح الفتاة وهي على وشك رد الكلام لها قبل ان تسبقها الفتاة الاولى ذات الانطباع المنبهر وهي تمد كفها نحوها
"هل يمكننا التعارف ؟ انا اسمي زهراء"
نظرت لكفها الممدودة للحظات قبل ان ترفع عينيها الجامدتين لها قائلة ببهوت تقطع الامل عنها
"لا اعتقد بأنها فكرة جيدة"
عبست ملامحها بإحباط بعد ان رفضت عرضها ، ليقاطع حديثهم صوت (إياد) وهو يقول بصرامة آمرة
"ماذا تفعلون امام القاعة ؟ ألم تنصرفوا بعد ؟ ما لذي تنتظرونه بوقوفكم هنا ؟"
تحركوا الثلاث فتيات بسرعة وهم يغادرون المكان بأكمله ، وما ان كانت (ماسة) على وشك الانصراف حتى اوقفها وهو يقول بصوت جاد
"انتظري مكانكِ يا ماسة فأنا اريد الحديث معكِ"
استدارت نحوه بملامح باردة وهي تقول بابتسامة واثقة بدون اي ذنب
"إذا كنت تقصد الحديث عن الجلبة التي احدثتها بداخل الاجتماع ، فأنا اعتذر عنها ويمكنني تعويضها بأي عقاب تختاره"
تجمدت ابتسامته وهو يقول بداخل نفسه بأنها كائن لا يخشى شيئاً رغم انها اعترفت بخطئها وتطلب العقاب عليه ، ليدس بعدها يديه بجيبي بنطاله وهو يقول بنبرة مهنية
"لا لم اقصد هذا بالرغم من انكِ تماديتِ كثيرا بداخل الاجتماع وتخطيتِ حدود الادب هناك ، واعتقد بأن عقاب واحد لن يكفيكِ جراء ما عرضتني له امام موظفين القسم الآخرين والنظرة التي سوف ينظرون إليها نحونا"
حركت رأسها جانبا وهي تدس خصلة شعر متمردة من ذيل حصانها لخلف اذنها هامسة بلا مبالاة
"وانا مستعدة لأي عقوبة تسلطها عليّ ، فهذه العقوبة تبقى افضل واكثر متعة من سماع خطاب طويل ممل بداخل اجتماع طويل"
حرك رأسه بيأس وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"حقا تملكين صراحة تتعدى الوقاحة ! ولكن ليس بيدي شيء اقوله سوى اتمنى ان يهذبك هذا العمل قليلا ويحسن سلوكك"
نظرت له بابتسامة صغيرة وهي تهمس مباشرة
"عن ماذا كنت تريد الحديث معي يا سيد إياد ؟"
نظر لها بهدوء يتأملها لبرهة قبل ان يقول بابتسامة جادة يقطع خيط الصمت بينهما
"كيف هو العمل والمكان معكِ ؟ فأنتِ لم تحاولي سؤالي او الاستفسار عن اي شيء اليوم ! بل منذ وضعتك بمكتبكِ الجديد وانتِ مختفية عن الانظار بدون اي كلام او حس ، هل استطعتِ التأقلم بالمكان بهذه السرعة ؟"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تهمس بشبه ابتسامة
"هل هذا سيء ؟"
عقد حاجبيه بتصلب وهي تجيبه بسؤال غلبه وشتت افكاره للحظة قبل ان يقول بهدوء جامد
"بالطبع ليس هذا ما قصدته ، انا كنت اسأل إذا كنتِ تحتاجين لإرشاد او توجيه او استعلام بما انكِ ما تزالين جديدة بالمكان ، ولم اقصد شيء آخر"
عادت للنظر له بعينين ساكنتين جامحتين وهي تقول بكل ثقة
"انا بخير يا سيد إياد ، ولا احتاج لأي مساعدة بمعرفة واجباتي وما ينطوي عليه دوري بالمكان ، ولكني اعدك عندما اواجه مشكلة عويصة سوف ألجئ إليك لمساعدتي لكي ارضي رغبتك بتقديم المساعدة"
حرك عينيه بعيدا وهو يسحب نفسه من هذه الحرب الخاسرة بعد ان حملته الخيبة ، لتستدير بعدها بلحظة وهي تنوي الرحيل قبل ان تغير رأيها وهي تدير وجهها للخلف هامسة بتفكير مستاء
"عليك ان تحسن صورتك اكثر امام الموظفين ، فهناك سمعة انتشرت عنك تدور بين الموظفين وتجعلهم يخافون منك ويحسبون لك ألف حساب ، مؤسف ان تكون سبب مخاوف موظفين القسم !"
نظر لها بسرعة بعبوس طفيف وهو يقول بلحظة بجمود قاتل
"وهل تعرفين من هو الذي روج لي هذه السمعة ؟"
لوت شفتيها بابتسامة صغيرة وهي تهمس ببساطة
"انا لست واشيه"
تجهمت ملامحه ببؤس وهو يراها تغادر من امامه وتكمل سيرها بطريقها المستقيم والذي تردد صدى خطواتها بالمكان ، وهو ينظر بأثرها بانبهار صامت مثلما ينظر الغزال لأضواء القطار .
______________________________
وقفت امام مدخل المنزل وهي تراجع حساباتها للمرة الاخيرة وقرارها المصيري بهذه المخاطرة التي ستقدم عليها بقلب يكاد ينفجر من الخوف والرهبة ، لتربت بعدها على مكان ضربات قلبها الصريع الذي يتردد بجدران صدرها ، وهي ما تزال تائهة بين نقطتين الهروب من هذه المخاطرة والعيش بالشك لآخر العمر او قطع الشك بمعرفة الحقيقة من المصدر ونحر قلبها للأبد ، لتعود لخيارها الذي استقرت عليه واقتراح صديقتها المجنونة بالذهاب للمصدر والذي من الممكن ان يكون راحتها الابدية من كل هذه الصراعات والحروب والتيه بمتاهات عقلها .
اخذت بعدها انفاس طويلة تشحن نفسها بالطاقة اللازمة التي تدفعها للخوض بهذه المغامرة وهي تهمس بخفوت يتأرجح به اليأس
"لن اسامحكِ يا ماسة ، لن اسامحكِ إذا حدث العكس"
وصلت امام باب المنزل وهي ترفع يدها بتردد لتحزم امرها بلحظة وتقرع الجرس مرة واحدة فقط لتوقف حرب التردد ، سحبت يدها بلمح البصر ما ان سمعت صوت من الداخل يعلن نهاية انتظار طويل الامد والهروب يلوح لها بخطة بديلة ، وما ان فُتح الباب بسرعة يسكت صوت عقلها الخائن حتى تنفست الصعداء محمل بعبق الحنين وهي تشاهد المرأة التي استقبلتها بابتسامة اشرقت بسعادة وهي تتبعها بكلمة واحدة بحنانها الذي ينشر عالمها بسخاء
"صفاء !"
اتسعت ابتسامتها بإشراق الربيع الذي تدفق ببركتي عينيها العسليتين بصفاء النهر ، لتومئ برأسها بحركة طفيفة وهي تهمس برقة عذبة
"صباح الخير يا امي ، كيف حالكِ ؟"
لانت خطوط ملامحها الشاحبة وهي تمسك بيدها وتسحبها للداخل قائلة بسعادة
"تعالي للداخل يا ابنتي ، لا تبقي واقفة بالخارج"
انصاعت لها وهي تغلق الباب خلفها بلحظة لتمسك بوجهها بكلتا يديها وهي تأخذها بأحضانها الدافئة التي لم تطلب منها دعوة بحب غير مشروط ، لتطوق كتفيها بتلقائية وهي تغمر وجهها بوشاحها الاسود العطر وتخفف من آلام قلبها بعاطفتها الامومية ، وهي تشعر بلمسات كفها الناعمة على ظهرها هامسة بعطف
"سعيدة بزيارتكِ حبيبتي ، الحمد لله الذي جعلني اراكِ امامي مجددا بكامل صحتك وعافيتك"
ابعدتها عنها من ذراعيها وهي تمسح على جانب وجهها هامسة بحنان
"لماذا تبدين حزينة يا صغيرتي ؟ هل هناك ما يزعجك ؟"
امسكت بيدها بسرعة على خدها وهي تخفضها وتقبل ظاهرها باحترام شديد ، لتقول بعدها بابتسامة حزينة بأسى
"لا تقلقي انا بخير ، ما دمتِ انتِ بخير سأكون انا بخير"
تغضنت زاويتي حدقتيها السوداوين بحنان وهي تربت على كفها هامسة بخفوت محبب
"ما سبب هذه الزيارة المفاجئة بدون موعد ؟ اتمنى ألا تكون شر او مكروه لا سمح الله"
حركت رأسها بالنفي وهي تمسح وجنتها بيدها الحرة هامسة بخفوت رقيق
"كلا كل شيء على افضل ما يرام ، ولكني رغبت بزيارتكِ ودفعني الاشتياق للمجيئ إليكِ والبحث عن السلام والراحة بقربك ، واتمنى ألا تزعجك زيارتي المفاجئة بدون اي موعد"
امسكت بيدها وهي تسحبها معها نحو الكراسي برواق المنزل قائلة بمودة
"بالطبع لست منزعجة ، فقد كنت انتظر زيارتكِ هذه منذ وقت طويل جدا ، وهذا هو الوقت المناسب لجلسة الام وابنتها والتحدث عن كل اخبارها وكل مستجدات حياتها"
غامت ملامحها بصمت وهي تتبعها بامتثال بدون اي اعتراض ، لتجلسها بعدها على الكرسي وهي تجلس على الكرسي المقابل لها ، لتضم يديها الصغيرتين بين كفيها وهي تهمس بمحبة وكأنها تزرع الامل بالناظر لها
"اخبريني بكل المستجدات والاخبار التي حدثت معكِ ، ولماذا لم تطلي عليّ بالزيارة منذ وقت طويل ؟ آخر مرة رأيتكِ بها كان قبل شهر عندما مررت عليّ بزيارة خاطفة لم اشبع منكِ بها ، هل هكذا تهجريني وتحرميني من زياراتك ؟"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تخفض نظرها ليديها المضمومتين بداخل كفيها قبل ان تهمس بحزن نادم
"اعتذر يا عمتي عن الانقطاع عنكِ ، ولكني كما تعلمين فقد انشغلت بدراستي مؤخرا بسبب اقتراب الاختبارات بالجامعة ، وايضا بعد المسافة بين هذا المنزل ومنطقتي يأخذ مني الكثير من الوقت بالوصول بينهما ، ولكني سوف احاول تكثيف زياراتي عليكِ بعد ان انهي اختباراتي"
اومأت برأسها وهي تبتسم لها بحنان متدفق بتفاصيل ملامحها وكأنها ترتشف من كل شيء بها بالاستماع إليها ، لتتنفس بعدها بقوة وهي تسحب يديها من داخل الحلقة لتحتضن هي يديها قائلة بجدية تدخل بموضوعها
"اسمعي يا امي ، اريد الحديث معكِ بموضوع مهم ، اقصد هو ليس موضوع بغاية الاهمية ، هو مجرد استفسار اريد معرفته منكِ ، لذا هلا أعطيتني القليل من وقتكِ ؟"
ارتفع حاجبيها ببعض الدهشة وهي تقول بابتسامة هادئة بمحبة
"اجل يا ابنتي قولي ، اخبريني بما يقلقك ويعكر مزاجكِ هكذا ، وانا سوف استمع إليكِ واخفف عنكِ"
ابتلعت (صفاء) ريقها بارتعاش وهي تحصر نظراتها على يديها وافكارها بنقطة واحدة بمهمة كشف الحقيقة ، لتقول بعدها بقوة بعد ان جمعت باقي عزيمتها ودفعتها مرة واحدة
"انا اريد ان اسأل عن امر ، اقصد عن إشاعة سمعتها...القصة بأنني....."
سحبت الكلمات لحنجرتها فورا حتى توقف نفسها لثواني بسبب صوت انفتاح باب المنزل القريب منهما والذي يعلن عن وصول الفرد الغائب بينهما ، وليس هناك غيره يملك صلاحية دخول المنزل بدون استئذان كما قلبها الذي زلزله بدخوله الكارثي الغير مسبوق ! وهي تتمنى ان تنشق الارض وتبتلعها بهذه اللحظة بالذات بعد ان حدث الجزء الذي كانت تخاف منه وسقطت بحفرة الجحيم التي قادت نفسها إليها .
افاقت على انسحاب (هيام) الصامت وهي تأخذ يديها وتنهض واقفة عن الكرسي ، لتعصر جفنيها بقوة وهي ترغم نفسها على النهوض كذلك بمفاصل هشة على وشك التآكل من ارتجافها الشديد ، لتستقر بعدها واقفة بدون ان تتنازل عن النظر له وهي تتمنى ان يكون مجرد خيال ويختفي من المكان ، بالرغم من استحالة حدوث هذا وهي تشعر بوجوده فقط بنبضات قلبها المتقافزة التي تكاد تخترق قفصها الصدري ، ليأتي الاثبات لها على شكل صوته وهو يقول بهدوء عميق يستطيع احياء المشاعر الميتة بها
"صباح الخير ، يبدو بأنني قد قاطعت جلسة الحماة والكنة بدخولي المفاجئ بدون استئذان"
غرزت اسنانها بطرف شفتيها تكبح سحابة دموع طافت بعينيها وتغلغلت بروحها ، لتسمع بعدها صوت الواقفة بقربها وهي تقول بصوت صلب لأول مرة تسمعه منها
"لماذا اتيت ؟ ظننتك لن تعود مجددا"
رفعت نظراتها بحيرة وهي تراقب جانب وجهها الذي بانت القسوة عليه ، قبل ان تسمع الرد من الطرف الآخر وهو يردف بجفاء
"ما يزال هذا منزلي يا امي ، ولدي كل الحق بالدخول والخروج منه بالوقت الذي يحلو لي"
ارتسمت الحيرة على محياها وهي تدير عينيها بفضول لتقع بأكبر كمين نصب لها عن بعد ، وهي تتبادل النظرات معه بدوامة سوداء انجذبت لها وسجنت بين جدرانها وكأنها سمحت للعدو بالنزول على ساحة حربها وعاثت الدمار بأرضها وبوسط قلبها ، لتلمح بعدها سواد حالك بعينيه ازداد ظلمة عن السابق وكأنه ألم جديد انتقل لها بقلبها المفطور الذي يشعر بحزنه وبسعادته وبحبه وبكل شيء يطوف من حوله .
شددت على قبضتيها بجانبيها وهي تعيد تركيزها ونظرها نحو الواقفة بجانبها لتقول لها بابتسامة خجولة بتعثر
"انا قد حان وقت رحيلي الآن ، اعتني بنفسكِ جيدا يا امي ، وسوف احاول الحديث معكِ بوقت آخر ، وداعا بالوقت الحالي"
تحركت بسرعة من امامها قبل سماع ردها وهي تمر من جانب الساكن بمكانه ، ولكن ما لم تتوقعه هو اليد التي امسكت بذراعها بلمح البصر قبل تجاوزه حتى دفعتها للتجمد بمكانها لبرهة تحاول استيعاب ما حدث ، وما ان اخذت عدة انفاس مجهدة تعيد سيطرتها على قوتها حتى قالت بخفوت تستنجد بطوق نجاتها الواقفة بعيدا عنهما
"عمتي اطلبي منه ان يتركني"
افاقت (هيام) من صدمتها وهي تقول بحزم تأمر ابنها الذي يبدو منفصل ببعد آخر
"جواد اترك الفتاة وشأنها ، ألا يكفي كل ما فعلته لها ؟ لا تزيدها علينا رجاءً......."
قاطعها (جواد) بصوت نافذ وهو يتحرك ويسحبها خلفه مثل شيء مملوك له
"هناك حديث خاص اريده مع زوجتي ، لذا لا تتدخلي بالأمر يا امي ، وابقي بعيدة عنه"
فغرت شفتيها بذهول وهي ترى ابنها يبتعد برفقة زوجته التي كانت تصرخ وتتلوى بممانعة تحاول ردعه عن قراره
"لا اريد الحديث معك بشيء ، اتركني حالاً ، امي اطلبي منه ان يتركني ، اتركني يا جواد ، اتركني الآن"
تنهدت (هيام) بتعب بعد ان اختفيا عن نظرها خلف ممر الغرفة وهي تهمس بكبت مهموم
"يارب خفف من احزانهما واربط على قلوبهما بالهداية والسلام"
_______________________________
دخل بها للغرفة وهو يغلق الباب بيده الاخرى بالمفتاح امامها قبل ان يدسه بجيب بنطاله ، وما ان انتهى حتى سحبت يدها من قبضته لتمسك بمقبض الباب بسرعة وهي تحاول تحريكه بعنف حتى كادت تكسره ، لتصرخ بعدها بغضب وهي تمسك الباب بيد وتطرق عليه بقبضتها الاخرى بكل قوة
"افتح الباب ، افتحه ، امي ، امي......"
قطع صراخها وهو يمسك بذراعها ويديرها امامه بعنف حتى اصطدمت بصدره العريض ، لترتعد اوصالها وهي ترجع بسرعة للخلف هامسة باضطراب مشتعل
"ابتعد عني ، لا تقترب مني ، انا...انا لا اريد البقاء معك"
تنفست بتسارع وصدرها يرتفع ويهبط بتزامن وكل عضو بها يتفاعل مع نبضات قلبها وهي تمسح بيدها وجنتيها الحمراوين بانصهار العرق والدموع فوقهما ، لتحاول بعدها جذب ذراعها بضعف بدون ان يرخي قيودها وبدلا من ذلك كان يمسك بذراعها الاخرى وهو يقربها منه قائلا برفق يرضخ شراستها تحت قسوته
"اهدئي يا صفاء فلا فائدة من رفض الامر المحتوم ، فأنا ما ازال زوجكِ لهذه اللحظة واملك كل الصلاحيات بفعل ما اشاء ، ولكني لن استخدم منها سوى حقي بالتكلم معكِ على انفراد وهدوء"
هدئت حركاتها بالتتابع وكأنه عطل عمل انظمة اعضائها ببضعة كلمات منه تحت سطوة قوته التي لا تقارن بهشاشة مناعتها ، ولكنها لم تمنعها من رفع رأسها بقوة اظهرت بريق الدموع بمقلتيها العسليتين وهي تهمس بخفوت مستهجن تتحداه بالمثل
"وهل هذه الصلاحيات تعطيك الحق بالتحكم بحياتي ؟ هل تعطيك الحق بإجباري على ما لا اريد وإيلامي بكل مرة ؟"
تغضنت زوايا عينيه وشفتيه وهو يزيح وجهه سنتمترات قائلا بهدوء جامد وصدره يتضخم فوق صدرها
"لم اقل هذا الكلام يا صفاء ! انتِ من تجلبين الألم لنفسكِ ! فقط لو تستمعي لي وتفهميني فلن يحدث بيننا خلاف ، فقط لو توقفي هذه الحركات الخرقاء وتفكري بعقلكِ بدل التفكير بعاطفتك بكل موقف وحدث"
عضت على طرف شفتيها المكدومتين وهي تحاول ابعاد نفسها بقدر الإمكان وكأنها بقرب فوهة بركان ، لتشيح بوجهها جانبا وهي تهمس بخفوت ممتعض بمرارة
"انت على حق انا من اجلب الألم لنفسي بمجيئي إلى منزلك ، وقد كان اسوء قرار اتخذه بحياتي ، كل ما اردته هو زيارة والدتك والتحدث معها ونسيت بأنك تعيش معها بنفس المنزل ! وسوف اصلح خطأي الآن بالرحيل من هنا ، لذا رجاءً اسمح لي بالرحيل بسلام"
نظر لها بسرعة وهو يشدد على ذراعيها بدون ان يسمح لها بالابتعاد قائلا بتهديد خطير
"لا ليس هذه المرة يا صفاء ، ليس هناك هروب مجددا ، لقد اكتفيت من هروبك وحركاتكِ المراوغة ، اليوم سوف نتحدث وانتِ سوف تستمعي لي ، وألا لن اسمح لكِ بالمرور من هذا الباب قبل الانتهاء من حديثنا"
تنفست بنشيج يكاد يزهق روحها وهي تخفض رأسها هامسة بجرح غائر
"عن ماذا نريد الحديث ؟ ولماذا الآن ؟ لقد مر شهرين كاملين على انفصالنا وخروجي من منزلك ، لقد مر شهر عن آخر حوار حدث بيننا ، لماذا تشعرني بالندم على حبك ؟ لماذا انت بهذه القسوة ؟"
تصلبت اصابعه على ذراعيها بلسعة خاطفة حتى رفع يديه لمستوى كتفيها ليقول بعدها بجمود خاوي
"يبدو بأنني ما ازال اسبب لكِ الألم بقربي وببعدي عنكِ ، ولكن ماذا افعل يا صفاء ؟ ماذا افعل وانتِ تتعمدين تجنبي بكل حماقة وتستخدمين الهرب وسيلة لتدفعيني بعيدا عنكِ ! كما حدث قبل شهر عندما رفضتي مساعدتي وبنيت الحواجز بيننا ! حتى اصبحت مثل المتعقب خلفكِ لا اجرؤ على الاقتراب منكِ خوفا من التهور الذي قد ترتكبينه مثلما حدث البارحة بالجامعة......"
قاطعته (صفاء) باندفاع وهي تنظر له بحجرين نشب بهما الحريق
"هذا هو السبب الذي يؤلمني اكثر ، لماذا تتعقبني بمثل هذا الاصرار ؟ ما هو هدفك من تعقبي ؟ لماذا تجعلني دائما هدف سهل الانخداع ؟ ما لذي تجنيه من جعلي تحت مراقبتك وعبوديتك ؟ هل من اجل اكمال الانتقام ؟ هل من اجل تعذيبي بقربك ؟ هل من اجل اثبات وجودك المستقر بحياتي لكي لا انسى معاناتي معك ؟"
تأوهت ما ان ضغط على عظام كتفيها بقبضتيه وهو يقول باستنكار حاد
"من اخبركِ بكل هذه الترهات ؟ انتِ بالطبع لست كذلك بالنسبة لي ! وهذا ليس الهدف من تعقبك كل هذه المدة ، وانا لا اتعقبك من اجل هذه الاهداف المريضة ! والانتقام ليس له علاقة بكل ما يجري بيننا حالياً"
ردت عليه من فورها بخفوت حزين متجاهلة ألم قبضتيه القاسيتين
"إذاً لماذا تتعقبني ؟ لماذا تفعل هذا معي ؟ ماذا انا بالنسبة لك ؟"
امتقعت ملامحه وهو يخفض قبضتيه عن كتفيها قبل ان يقول بهدوء جاد
"هل كان يؤلمكِ تعقبي لكِ ؟"
تشوشت النظرة بعينيها وهي تكسوها طبقة من الدموع الرقيقة قبل ان تخفض رأسها بانتكاس وهي تهمس ببحة خانقة
"لقد تألمت من تعقبك ، وتألمت من بعدك ، وتألمت من قربك ، ولكن ليس بقدر تألمي بخيبة املي بك ! لقد كانت خيبة امل كبيرة لأحلامي التي نسجتها وحكتها حولك ، لقد خيبت كل آمالي !"
ارتفع حاجبيه ببهوت وهو يراقب انحناء رأسها وانسدال خصلاتها الحريرية على كتفيها واهتزاز بكائها يصل له بوضوح وينخر عزيمته ، ليرفع بعدها بثواني ذراعيه وهو يحيط كتفيها المهتزتين ويلصقها بصدره بعناق صامت تتابع بكائها فوق مضخة قلبه ، ليهمس بعدها فوق رأسها بخفوت اجش بحرارة حمم قلبه
"لأنني احبكِ يا صفاء ، لهذا ما ازال اتعقبك"
سكنت للحظات وصمت صوت بكائها وهي تستعيد جموح مشاعرها السابقة والخيانة تلوح لها ، لتدفعه بعدها بكلتا قبضتيها بقوة مفاجئة وهي تتراجع صارخة بانفعال باكي
"كاذب ! انت كاذب ! لماذا تدعي شيء وانت تفعل عكسه تماما ؟ هل هي تسلية بمشاعري ام متعة بقتلي ؟ ما هو جوابك على هذا السؤال ؟ لماذا تقول بأنك تحبني وانت تفكر بالزواج من غيري ؟ ما معنى كل هذا ؟"
انصدمت ملامحه وهو يلوح بذراعه جانبا قائلا بقسوة حرقت المشاعر بداخله
"ما لذي تهذين به الآن ؟ عن اي زواج تتحدثين عنه ؟ هل اصبتِ عقلكِ بجدار ما وبدأتِ تهلوسين ؟ ما لذي لا تصدقينه بكلامي ؟ وما لذي يدفعني للكذب عليكِ ؟"
نفضت ذراعيها على جانبيها بحركة عصبية وهي تصرخ بضراوة مشاعرها المكسورة
"لا تدعي بأنك لا تعرف ، لقد سمعت بكل شيء ، لقد سمعت بأنك قد قابلت عائلة الفتاة التي تنوي الزواج منها ، الجميع كانوا يتناقلون هذا الخبر بينهم ، لذا ليس هناك مجال للكذب عليّ ، فقد عرفت بكل شيء ، عرفت بما تنوي فعله...عرفت كيف تريد قتلي...وبمن ستقتلني"
تنفست بتعاقب وهي تحاول تلقف انفاسها الذاهبة التي اصبحت تؤلم خفقات صدرها وتضيق على جدران قلبها ، بينما كان (جواد) ينظر لها باتساع حدقتيه السوداوين واللتين تسمرتا عليها بعد ما سمعته اذنيه من خرافات وكلام غير منطقي وكأنها تتكلم خارج وعيها ، وما ان طال الصمت بينهما فترة اطول حتى قطعته صاحبة الصوت المنكسر وهي تمسك بطنها بألم قاهر
"لماذا تستمر بهذه اللعبة ؟ ما لذي سوف تجنيه منها ؟ ماذا فعلت لك حتى تؤلمني هكذا ؟ ماذا فعل لك طفلي حتى تؤلمنا هكذا ؟ ماذا فعلنا لك حتى تكون بكل هذه القسوة علينا ؟"
ارتفع حاجبيه بدهشة انتشرت على كامل ملامحه وهو ينظر لها بصدمة توازي صدمتها وكأنهما تائهين بطريق البحث عن الحقيقة من بعضهما ، ليكون (جواد) اول من يخرج من الصدمة وهو يقول بخفوت مضطرب بدون ان يترك سباق النظرات بينهما
"ماذا يعني هذا ؟ هل انتِ حامل ؟ صفاء هل انتِ....."
قاطعته بوجل ما ان افاقت على نفسها وهي تهجم على مقبض الباب تحركه بقوة
"ليس هناك شيء ، فقط افتح لي الباب ، اريد ان اغادر ، عمتي افتحي لي الباب....."
ضرب بيده على سطح الباب وهو يمسك بيده الاخرى يدها على المقبض قائلا بقسوة محت الاضطراب عنه وتجلت الحقيقة بينهما
"لن تغادري قبل ان تعترفي بالحقيقة ، هل ما سمعته صحيح ؟ هل انتِ حامل يا صفاء ؟"
حركت رأسها بالنفي والدموع تهطل على محياها بضعف بدون ان تواجهه ، لتتجمد بمكانها بلحظة ما ان حطت يده على بطنها بسعير حارق وهو يقول بصرامة اكبر اظهرت اللين بصوته
"هل هناك حمل ؟ هل انتِ حامل بطفلي هنا ؟"
رفعت حدقتيها السابحتين بالدموع وهو يكسر حدودها ودروعها ويعلن سطوته عليها ، لتومئ برأسها بحركة طفيفة وهي تهمس بخفوت مبحوح بحنين
"اجل انا حامل بطفلك انت"
ارتبكت ملامحه برجفة وصلت حتى يده التي ابتعدت بسرعة عن بطنها وكأنه تعرض لصاعقة رعدية هبطت عليه من حيث لا يدري ، ليمسح بعدها جانب وجهه وعنقه بتفكير لبرهة قبل ان يقول ببهوت جاف
"منذ متى ؟ منذ متى وانتِ حامل ؟"
اشاحت بوجهها بقرب الباب وهي تهمس بخفوت متحشرج
"منذ شهرين بعد انفصالنا"
اتسعت حدقتيه بصدمة اكبر وكأنه يتلقى الصدمات الواحدة تلو الاخرى بدون رحمة ، وكلامها يعني بأن آخر حوار حدث بينهما قبل شهر كانت بوقتها حامل ، وهذا يفسر سبب تعبها وغيابها عن الوعي آن ذاك ورفضها الشديد للذهاب للمشفى ، وكل هذا وهو لا يعلم عن شيء ولا يشعر بما يدور من حولها طول فترة مراقبتها تحت عينيه وهي تتسلل منه خلسة !
نظر لها بسرعة بنظرات مختلفة وهو يمسك بذراعها بقوة قائلا بهجوم غاضب قدح بعينيه
"ولماذا لم تخبريني بالأمر ؟ هل انا قدم كرسي هنا ؟ أليس هذا طفلي انا ايضا ؟ كيف تخفين مثل هذا الامر عني ؟ كيف تفعلينها....."
سحبت ذراعها بعنف وهي تستند بجانبها على سطح الباب هامسة بنشيج ضعيف
"لقد خفت منك ، خفت من ان تعذبني بطفلي ، خفت من ان تستخدمه اداة بانتقامك ، خفت على نفسي وعلى طفلي ، فأنا لا اريد عيش الألم مجددا ومع طفل لا ذنب له بشيء ! فقط اريد ان اعيش بسلام معه"
رفع رأسه وهو يزفر انفاسه بتعب حقيقي لا يوصف بأي تعب آخر فقد قهرته هذه الطفلة الخيالية اكثر مما تصور ، ليخفض بعدها رأسه وهو يمسك بذراعها برفق ليسحبها بعيدا عن الباب ويدفنها بأحضانه القاسية وهو يحيط جسدها بين ذراعيه ، ليمسح عندها على شعرها الحريري وهو يقبل قمة رأسها الناعم قبل ان يتمتم بخفوت مكبوت بقوة
"غبية ! حقا غبية ! وما لذي ادراكِ بردة فعلي ؟ لماذا تنسجين كل شيء من عندكِ وتجسدينه واقع ؟ هذا سيكون طفلي انا ، بل سيكون طفلنا نحن ، بأي عقل تقولين بأنكِ تخافين عليه مني ؟ انا لن اسمح لمكروه ان يصيبه لا هو ولا والدته ، فأنتما قد اصبحتما تحت حمايتي وتحت مسؤوليتي ، وهذا ما سيكون عليه الامر من الآن وصاعدا"
رفعت رأسها ببطء بعيدا عن احضانه وهي تهمس بعبوس حزين وقطرات الندى تهطل على محياها
"وماذا عن خبر زواجك ؟ ألم يكن حقيقي ؟ انت لن تتزوج عليّ ! لن يحدث صحيح ؟"
لانت تقاسيم ملامحه وهو يمسح على جانب وجهها وإصبعه الإبهام يضغط على وجنتها الحمراء قائلا بخفوت خشن
"لا اعلم من اين سمعتي هذا الخبر المزيف الذي يتكلم عن زواجي ! ولكنه بالطبع ليس حقيقي ، فأنا زوج امرأة واحدة وليس لدي غيرها"
عبست شفتيها بارتجاف وهي تهمس من بينهما بشك
"حقا ؟!"
اومأ برأسه بثقة وهو يدنو بوجهه ليقبل طرف شفتيها العابستين يتبعها بهمس قوي يوثقه بالأفعال
"اجل هذه الحقيقة"
اغمضت عينيها الدامعتين براحة وتبسمت شفتيها وهي تستقبل قبلاته الحارة على وجنتيها وشفتيها الورديتين اللتين حصلتا على النصيب الاكبر بقسوة عواطفه ، لتنتشل نفسها بسرعة من احضانه ما ان تمادى بقبلاته على طول عنقها وتحت ياقة قميصها ، ليوقف بعدها كل ذلك وهو يرفع رأسه بعيدا عنها ما ان عادت للاستناد على الباب ، وما ان كان على وشك الكلام حتى سبقته التي قالت بوجه محمر باحتقان
"لن ارتاح قبل ان اعرف ما لسبب الذي دفع الناس لقول ذلك الكلام عنك ؟ ومن تلك العائلة التي زارتكم بمنزلكم ؟ ومن تلك الفتاة التي كانت معهم ؟"
ادار عينيه بملل وهو يتخلل اصابعه بشعره قائلا بجمود قاتم
"اعتقد بأنه مجرد سوء فهم ، والناس قد ألفوا عليها وبدأوا بقول امور ليست حقيقية ، فهذه مهمة البشر نشر الإشاعات والتأليف عليها ، وقد يكون بسبب رؤيتهم للأشخاص الذين ادخلوا الجريح لمنزلنا"
ارتفع حاجبيها بغمامة مشدوهة وهي تهمس بعدم فهم
"ماذا تعني ؟"
شدد على اسنانه المطبقة بضيق وهو يخفض يده عن شعره قائلا بعبوس مظلم
"انسي ما قلته الآن ، فهو ليس ذو اهمية كبيرة"
عبست ملامحها الرقيقة وهي تهمس بتفكير بائس
"وماذا عن الفتاة ؟"
نظر لها بغضب وهو يقول بسخط بعد ان فاض به الكيل
"صفاء !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تعود لتحريك مقبض الباب قائلة بتشنج
"هيا افتح لي الباب يا جواد ، فقد تأخرت واريد ان اغادر"
قطب جبينه بحدة وهو يقول بقتامة بان العذاب على محياه
"هل انتِ متأكدة ؟"
اومأت (صفاء) برأسها بدون النظر له وهي تقول بإصرار
"اجل"
تنهد بإجهاد وهو يخرج المفتاح من جيبه ليدسه بعدها بقفل الباب ويفتحه ، وما ان كانت على وشك فتحه حتى امسك بيدها على المقبض وهو يهمس بخفوت واثق
"سوف نجري اتفاق بيننا بعد غد بنهاية الاسبوع وعلى الساعة التاسعة صباحا بالمقهى الذي كنا نرتاده بوقت عملنا بدار النشر ، إياكِ ان تتهربي عن الموعد حسنا !"
ادارت وجهها نحوه وهي تتلقى قبلة خاطفة على خدها جمدتها بمكانها وتوهجت بقلبها النابض ، لتهمس بعدها بخفوت ضائع ذابت بقبلته
"انا...انا سوف اغادر الآن"
شدت المقبض للداخل وهي تفتح نصف الباب وتخرج منه بلحظات ، لتجري بعدها بالممر وهي تمسح وجنتها بظاهر يدها باضطراب ، وما ان وصلت لبهو المنزل حتى اوقفتها التي نادتها وهي تقول باضطراب قلق
"صفاء ماذا حدث ؟ هل انتِ بخير ؟......"
قاطعتها (صفاء) وهي تمسك بيدها وتقبل ظاهرها هامسة بخفوت متعجل
"كل شيء بخير ، وشكرا لكِ على استضافتي عندك ، لقد سعدت جدا بالحديث معكِ"
غادرت بعدها بسرعة وهي تركض اتجاه باب المنزل تلاحقها كلمات الغارقة بصدمتها
"ولكننا لم نستطع الحديث بشيء ! ولم تخبرني حتى عن ماذا كانت تريد الحديث معي ؟"
بينما كانت التي غادرت من باب المنزل تجري بالمدخل وهي تبتسم بسعادة غامرة حلق لها قلبها بأعالي السماء وكل ما تفكر به هي الاحداث الاخيرة التي جرت معها ويتوجب عليها سردها لصديقتها المقربة التي اصابت بتوقعها ككل مرة .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن