الفصل الحادي والثلاثون

340 5 0
                                        

خرج من الغرفة بهدوء ساكن بدون ان يرتسم على ملامحه تعبير محدد او شعور فقط كبت بداخل روحه اصبح مهدد بالانفجار تحت رماد بركان انطفئ بمشاعر حبها لتكون الكبريت الذي يعود لتشعل ذلك الفتيل...وهو السلاح الذي عبث واشعل ذلك الكبريت بإرادته الحرة حتى حرق اصابعه وروحه معها....من كان يعلم بأنه سيصل لمثل هذه الحالة من التخبط بالمشاعر والشعور بالخذلان والانكسار فقط من كلمة واحدة من تلك الفراشة الصغيرة التي احكم اسرها بطريق انتقامه ؟...لقد كان يظن بأن ذلك الشعور الشبيه بالحديد الذي يغرس بالجلد وهو حامي لن يجربه بعد ما حدث لشقيقته الصغرى والتي انسته مذاق الحياة لوقت طويل....ليتكرر الامر مع الضحية التي اختارها بانتقامه والتي اجادت بصمه بذلك الشعور والذي لا يقارن بوقت وفاة شقيقته ! فهل هذه هي سخرية القدر ام مصيره العذاب لآخر العمر ؟
تسمر بمكانه وهو ينظر للواقفة امامه تبعد عنه مسافة قصيرة ، ليقطع الصمت بعدها التي حركت كتفيها باستخفاف وهي تهمس بحزن ساخر
"لقد حذرتك من قبل ولكنك لم تسمع ، وها انت تحصد نتائج افعالك بالملاك الرحيم الذي لم يعد لديه رحمة بقلبه الكبير المحمل بطعناتك"
امتقعت ملامحه بغضب وهو يهمس باستهجان عابس
"هل تستمتعين عادةً بالسخرية من مصائب الآخرين ؟"
ابتسمت بشماتة واضحة وهي تهمس ببرود
"اجل عندما يكون يستحق هذه المصيبة والتي كان المسبب الرئيسي بها"
عقد حاجبيه بتجهم اكبر وهو يشيح بوجهه جانبا بدون كلام امام هذه الصخرة الباردة والتي تجيد اصابة هدفها بنجاح ، لتعبس ملامحه بغضب قدح بروحه ما ان وقعت نظراته على الاشخاص القادمين من آخر الممر ، وما ان حددوا مكان وجودهما بالردهة حتى انطلقوا بسرعة باتجاههما مباشرة ، وبلحظات كانوا اربعتهم يقفون مقابل بعضهم البعض بصمت غيم عليهم بسحابة داكنة سوداء مشحونة بالكثير من المشاعر المتنافرة بين نفور وكره وغضب اصبح يلوح بالأفق ويهدد بحلول عاصفة رعدية مدمرة .
تنفس (جواد) بابتسامة ساخرة وهو يتنقل بنظره بين اسوء اثنين قابلهم بحياته وهو يتبعها بالهمس بكراهية واضحة
"لم يكن هناك داعي لحضوركما فقد اتعبتما انفسكما بلا فائدة ، ولكن عندما نحمل جثمان ابنتكم سنذكركم بالحضور للقيام بالواجب"
اتسعت ثلاث ازواج من العيون الناظرة له بصدمة واستنكار جمدهم لوهلة ، ليكون اول من يخرج من زوبعة الذهول هو الذي اندفع بتهور وجنون صارخا بشراسة وعدوانية
"ايها المجرم اللعين !...."
كان يصل له بلحظات وهو يوجه لكمة خاطفة على وجهه ارجعته للخلف عدة خطوات بترنح ، ولم يقطع الصمت الكاسر بعدها سوى الشهقة الانثوية وهي تصرخ باستنكار مذهول
"هل جننت ؟ اين عقلك ؟....."
استقام (جواد) بمكانه وهو يمسح بأصبعه خط الدم الذي سال من انفه بهدوء شديد اخذت منه لحظات قليلة ، وما ان حاول (مازن) اعادة الهجوم حتى امسكه الذي استعاد قوته وهو يهزه من ياقة قميصه قائلا بحقد اصبح ينفث من انفه مثل لهب التنين
"وتتجرأ على اعادة الهجوم يا قليل التربية والاصل ! انا سأريك الآن ماذا سأفعل بك جراء اخطائك فيبدو بأني تساهلت بموضوعك اكثر من اللازم ؟ وليس يعني بأني تجاهلتك ونسيت امرك يعني بأني سأتغاضى عن كل ما فعلته بعائلتي والذي لا يخرج من شخص يتحلى بالشرف والنخوة يا حثالة المجتمع !"
تلونت عينيه العسليتين بالكره البدائي وهو يماثله بنفس إمساك ياقة قميصه بعد ان حرر الشيطان القديم من جحره ، ليقول بعدها بثأر ضاري وكأنه يبصق كل القهر والعداء والذي تعبأ بصدره لأيام
"هل انا قليل الاصل ام انت يا قليل الاصل والرجولة ؟ فلا احد يستخدم الطرف الضعيف للانتقام من القاتل الحقيقي سوى دنيء النفس ومعدوم الرجولة ، فأنت ثأرك كله كان معي انا وليس مع تلك الفتاة والتي ادخلتها بهذه الحرب بدون اي وجه حق ! ولن اسامحك على كل ما وصلت له بسببك يا حقير ! لن اسامحك على اللحظة التي ادخلتها برأسك ووضعتها بمخططاتك !"
اتسعت حدقتيه بوحشية اخرجت شياطين الماضي من رأسه وهو يكشر عن انيابه الحادة بدموية ، ليشدد اكثر على ياقة قميصه وهو يقرب رأسه من وجهه بلحظة حتى التصق جبينهما هامسا بفحيح حار يعلن عن طبول الحرب القديمة
"سنرى من هو الذي سيأخذ الحق من الآخر وينتقم لنفسه ولعائلته ؟ وسنعلم من الذي سيسامح الآخر على اخطائه ويكفر عن ذنوبه ! لنعلم عندها من هو الاكثر وحشية ولا يمتلك رجولة واصل !"
اشتعلت الحرب بينهما بين ضرب وبطح وهما يحاولان اخضاع الآخر وبطحه ارضا بحرب شرسة حامية الاطراف ، لتتدخل بلحظة التي افاقت من صدمة الوضع الراهن وهي تقترب منهما صارخة فوق صوتهما بصرامة اكبر
"يا للهول ! توقفا عن هذا يا مجانين ! هل انتما ثوران بحلبة مصارعة ؟ هذه ساحة مشفى وليست حلبة مصارعة لحل الخلافات الشخصية ! إذا لم تتوقفا عن طيش الاطفال ستزعجون المرضى الآخرين بالمشفى !"
شهقت بوجل ما ان دفعها (مازن) بذراعه بعشوائية حتى اصطدمت بالمقعد من خلفها ، ليصرخ بعدها بصياح مدوي وهو مشغول بمسك غريمه بحرب الثيران
"ابتعدي يا ماسة ولا تتدخلي بشؤون غيركِ ، إذا كنتِ تريدين البقاء سليمة بدون اي اصابات"
عضت على طرف شفتيها بغضب حاقد استولى على روحها بغليان الدماء الحارة ، لتتمالك بعدها نفسها وهي تتحرك بعيدا عنهما قائلة ببرود محتقر
"حسنا لكما هذا ، وانا سأحضر لكما من يهتم بأمركما !"
غادرت باتجاه الممر بعيدا عن انظارهم بلحظات وبدون ان يعيروها اهتماما كبيرا ، بينما الرجل المسن كان قد جلس على مقاعد الانتظار بالرواق بعد ان استبد به التعب النفسي والجسدي تاركا لهم حرية التصرف لوحدهم .
عادت (ماسة) بعدها بلحظات قصيرة بصحبة رجلين من امن المشفى ، وما ان توقفوا عن الحركة وهما يمسكان بخناق بعضهما البعض مثل متهمين بحق البشرية حتى اشارت بيدها باتجاههما وهي تقول للرجلين بجانبيها بثبات حازم
"هذان هما السبب بكل هذه الفوضى العارمة والشغب ! لذا من فضلكما اخرجوهما من هنا حفاظا على سلامة المرضى والمصابين من جنونهما الذي يكاد يدمر المشفى فوق رؤوسنا"
تحرك الرجلين من فورهما وكأنهما يعملان تحت خدمتها وهما يبعدان الاثنين عن بعضهما بصعوبة ، لينفض (جواد) ذراعيه بعيدا عنه وهو يعدل سترته قائلا بجفاء بارد
"يمكنني الخروج لوحدي بدون مساعدة"
ألقى نظرة اخيرة منفرة على الوالد والابن قبل ان يتحرك بعيدا لخارج المكان ، بينما تجهمت ملامح الثور الآخر الذي كان يتنفس بانفعال متسارع مكبوت لم يشفي غليله بعد ، قبل ان ينفض ذراعيه بعنف وهو يتحرك كذلك بعيدا عنهما بدون ان ينسى ان يتوقف بطريقه عند الساكنة بمكانها وهو يهمس لها بشر مطمور
"لن اسامحكِ على هذه الحركة الغادرة يا ماسة !"
حركت رأسها جانبا بتعالي وهي تمد اقصى ذراعها باتجاه الممر قائلة ببرود جليدي
"افعل ما تشاء ولكن خارج هذا المكان"
عبست ملامحه بتشنج وهو يدير وجهه بعيدا عنها لوهلة ليقول بعدها بشبه ابتسامة وهو يتابع المشي بعيدا
"سعدت برؤيتك مجددا يا قنبلة الديناميت"
حادت بنظراتها نحوه بدون كلام وهي تتابع مسار خروجه بصمت غيم على المكان بأكمله .
ما ان وصل (مازن) لمدخل المشفى حتى شعر بذراعين تمسكان بعنقه من الخلف بقوة وهو يهدر بغضب لم يخمد ولو قليلا
"هل ظننت بأني سأتركك بحالك بعد كل ما خرج منك ؟ عليك ان تعلم بأنك قد جهزت لقبرك بيديك والذي كان ينتظرك طويلا منذ اللحظة التي قتلت بها روح بريئة بدناءة افعالك ! ما لذي كنت تفكر به وانت تقدم على مثل هذه الشناعة والحقارة والتي تجاوزت الحدود ؟ كيف استطعت قتلها حية قبل ان تقتلها جثة بدون روح ! انت موتك قد اصبح رحمة وحق من اجل تلك الحياة التي اخذتها منا !"
امسك بذراعه على عنقه والتي تكاد تزهق انفاسه وهو يقول بعيون عسلية تقدح شررا
"إذا كنت ترى ذلك حقا ! فأنا سأسمح لك بالانتقام مني واخذ تلك الروح مني ! ولكن عليك ان تعلم بأنني لم ألمسها بسوء ولم اقربها بخدش او لمسة عابرة طول الفترة التي جمعتني بها ، وقد حاولت بالنهاية انقاذها من ذلك المصير ولكني لم استطع ادراكها او الوصول لها وكنت السبب بتلك الطلقة التي اودتها قتيلا ، لذا إذا كنت تريد الانتقام لهذا السبب يمكنك فعلها بدون ان تدخل اي ضحايا اخرى بهذه الحرب الشائكة التي عليها ان تدور بيننا فقط !"
شدد على عنقه بقوة اكبر قبل ان يرخي ذراعيه ببطء وهو يدفعه للأمام بعنف ، ليقول بعدها بلحظة بازدراء قاسي
"اعلم ذلك جيدا وألا لما تركتك على قيد الحياة لهذه اللحظة ! والافضل لك ان تصنع مسافة امان بيننا لكي لا يتكرر ما حدث قبل قليل ونخيف ونزعج الناس من حروبنا !"
انتصب بجسده بجمود وهو ينظر له يتجاوزه باندفاع مبالغ ، وما ان اصبح قريبا من سيارته حتى قال من خلفه بتصلب عابس
"توقف عن الانتقام منها فهي كانت طفلة بالعاشرة بوقت الحادثة لا تدرك شيء بالحياة ، ولم نستطع اخبارها عن تلك الحادثة والتي قد تصيبها بصدمة ستدوم معها لسنوات طويلة ، وحتى بهذه السن الكبيرة ما تزال طفلة تخاف من حكايات وقصص الرعب فكيف ستحمل ذنب ليس لها علاقة به ؟!"
ساد الصمت بينهما للحظات قصيرة قبل ان يقطعها صوت اغلاق باب السيارة والتي دخل بها ، لتتحرك بعدها ببطء لخارج المرآب قبل ان تنطلق بالطريق السريع خارج اسوار المستشفى .
______________________________
تغضن جبينها بتوجس وهي تسمع اصوت كثيرة مختلطة وكأنها حرب قد شنت بالخارج ، وهي تجزم بأنها قد سمعت صوت شقيقها (مازن) بين موجة الاصوات العالية التي لا تخبو ، وهذا لا ينبأ سوى بالسوء القريب وانذار الخطر وكل المشاكل والتي ستهطل عليها بمقابلة الاعداء وكأنها تضع الزيت بجانب النار ! ولكن السؤال الذي يحيرها كيف عرف بمكانها ووصل لها ؟
تنفست براحة ما ان اختفت الاصوات تدريجيا ليحل الصمت بالمكان للحظات وكأن المسبب بكل هذه الضوضاء قد اختفى ، لتتجمد بعدها اطرافها بارتعاد وهي تنظر بترقب لباب الغرفة والذي فُتح ببطء ، وما هي ألا لحظة حتى اتسعت مقلتيها العسليتين على اقصاهما وهي تحدق بالواقف امامها والذي ظهر من خلف الباب ، ولم يكن سوى والدها الرجل الذي ساهم بمجيئها للحياة وبطلها الأول بحياتها والذي احبته بكل سنوات عمرها منذ الطفولة وحتى الشباب وهي ترى به الأم والأب والعائلة وكل شيء تمحور به وحده ، ولم تشعر بنفسها وهي تهمس بشفتين مرتجفتين بكلمة واحدة حملت الحنين لمشاعر الابوة
"ابي !"
تقدم والدها بخطوات ثقيلة بوهن واضح وهي تراقبه بتمعن وكأنه قد كبر عشر سنوات للأمام ! ام هي التي لم تراه منذ زمن طويل وهي توشك على تمام الشهر ؟
رفعت وجهها بشحوب ما ان وقف بجانب السرير وهو يبتسم لها بنفس الابتسامة المتعبة التي يتخلل بها تجاعيد الزمن بدون ان تخفي بشاشة محياه ، لتخفض بعدها رأسها لا شعوريا ما ان قال باتزان هادئ
"هل انتِ بخير ؟ هل اصاباتك خطيرة ؟"
هزت رأسها بارتجاف طغى على حركاتها وهي تهمس باختصار
"بخير"
زفر نفس طويل مرتاح وهو يقول بابتسامة هادئة
"الحمد الله على سلامتك ، كيف تشعرين الآن يا ابنتي ؟"
تجمدت ملامحها بشحوب اكبر وهي تعلق عند كلمة ابنتي والتي عبثت بمشاعرها القديمة التي اشتاقت لها بشدة عندما يخصها بذلك الحنان الخالص ، لتشدد من ضم قبضتيها معا وهي تهمس بخفوت بارد بدون اي حياة
"اعتقد بأنك تأخرت كثيرا بطرح هذا السؤال يا ابي !"
غيم صمت كاتم اكثر وقعا وألما على روحها قبل ان يقطعها الذي قال بنفس الابتسامة المتزنة بثبات
"اعتذر يا صغيرتي ، لقد شغلتني الظروف ومسؤوليات الحياة ونسيت السؤال عنكِ طول تلك المدة ، فأنا ذاكرتي اصبحت ضعيفة جدا وانسى كثيرا فعل امور بحياتي اكون اخطط لتنفيذها ، لذا اعذريني يا ابنتي على إهمالك ونسيانك بهذه الطريقة !"
اومأت برأسها بجمود وهي تهمس بهدوء جاف
"اجل لقد كنت اعرف بأن ذلك سيكون جوابك ، واتفهم موقفك تماما"
صمتت للحظات قبل ان تعود للكلام بخفوت حائر
"كيف عرفت مكاني وما حدث معي ؟"
تصلبت ملامح والدها وهو يقول بمرح معاتب
"هل هذا كلام تقولينه لوالدك يا صفاء ؟ ام لم تكوني تتمنين زيارتي لكِ بالمشفى !"
زمت شفتيها بنشيج وهي تهمس بوجوم خافت
"لا ليس هذا ما قصدته بسؤالي ! فقط كنت اتسائل عن سرعة معرفتك بالخبر ومن الذي اوصل لك ما حدث معي ؟"
ردّ عليها بهدوء جاد
"صديقتك ماسة اتصلت بي واخبرتني بكل شيء"
انحنت حدقتيها بحزن وهي تهمس باستياء
"لقد فعلت ما برأسها"
نظر لها للحظات بصمت وهو يعود للكلام قائلا بجدية
"صفاء هل انتِ بخير ؟ يمكنكِ ان تفصحي لي بما يدور برأسك وقلبك ! وانا مستعد لسماعكِ"
عقدت حاجبيها بحالة جمود اكتسح محياها وهي تهمس بخفوت خاوي
"ابي هل انت تحبني ؟"
ارتفع حاجبيه بارتباك وهو يقول من فوره بتأكيد
"بالطبع انا احبكِ يا ابنتي ، فأنتِ ابنتي وليس هناك اب لا يحب اولاده"
تجمدت ملامحها بدون شعور وهي تهمس من جديد بنفس الصوت الخاوي
"هل تحبني اكثر من مازن ؟ ألن تستخدمني كدمية انتقام من اجل حماية مازن ! ام ان امر مازن اهم مني ؟"
صمت لوهلة بملامح هادئة بدون اي تأثر بكلامها قبل ان يهمس بحزم جاد
"انا احبكما كليكما ، لطالما احببتكما بنفس الدرجة ، فكل واحد منكما لديه مكانة خاصة بقلبي لن تتغير مع مرور السنوات"
ضربت فجأة على ركبتيها بانفعال مكبوت وهي تهمس باضطراب باكي
"كذب ! هذا كذب ! لو انك حقا تحبنا بنفس الدرجة لما فضلت انقاذ حياة مازن على التضحية بي لكي اكون الوسيلة التي ستكفر بها عن ذنوبه ، لو انك تحبني ولو قليلا لما ألقيت بابنتك لذلك المصير المؤلم حفاظا على حياة ابنك مازن ، ولكنك مع كل ذلك قد فرقت بيننا بالحب وبالمعاملة وبالتضحية كذلك بدون اي تفكير بحياة ابنتك والتي تدمرت بتلك اللحظة التي تخليت بها عنها"
كان ينظر لها بهدوء شديد قبل ان يدير عينيه بعيدا عنها وهو يقول بشرود قاتم
"اعلم بأنني كنت اناني وقاسي بذلك التصرف ، ولكن خوفي وقلقي من خسارة ابني قد طغت على كل شعور آخر ، وكنت على استعداد للتضحية بأي شيء بسبيل حمايته وابعاده عن الخطر ، فلو نفذ ذلك الرجل انتقامه منا ودخل مازن السجن سيحتاج اقل حد عشر سنوات واكثر حتى ينتهي عمره خلف القضبان ، ولم اكن اعلم بأن تضحيتي ستكون بكِ انتِ !"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تتمسك بالغطاء بقوة هامسة بمرارة تشعر بها مثل السم بروحها
"وماذا عني انا يا ابي ؟ أليس لديك مانع بخسارتي ؟ أليس هناك شعور بالحزن او الخوف لخسارتي ! ام انني كنت مجرد ابنة مطيعة وجدت للخدمة والتضحية بها بدون اي مشاعر حقيقية اتجاهها ؟ هل انا كنت مكروهة لهذه الدرجة حتى تتخلص مني بهذه الطريقة ؟ أليس هناك امل بأن تحبني بقدر حبك لمازن ؟"
اعاد نظراته نحوها وهو يخرج عن صورته الرزينة قائلا بعبوس صارم
"ما كل هذا الهراء الذي تنطقين به يا صفاء ؟ لم اعرفكِ بكل هذا الضعف بنسج كلام وخيالات غير واقعية ! وايضا لا تنسي بأن هذا الرجل كان اختيارك انتِ ولم يحاول احد منا اجباركِ عليه ، وقد ظننت بأنه الرجل الذي سيليق بكِ ويناسبك بسبب تعلقك به ولهفتك بالزواج منه !"
رفعت وجهها المحتقن بهدوء وهي تهمس باستنكار ساخر وكأنها تنفض كل الألم الذي تراكم بحياتها
"هذا الكلام عندما لم اعلم بحقيقة هذا الزواج ، لم اعلم بالأسرار التي تختبئ بكذبة الزواج المدبر ، لم يخبرني احد منكم بقصة الحقد التي اصبحت وسيلة المقايضة بها بدون ان اعرف ، لقد تركتموني مثل الساذجة احلم وانسج عالمي الخيالي على ركام الماضي وحروق الحاضر والتي شوهت ابنتكم وجعلتها اداة بهذه الحرب ، فكما قتلتم انتم ابنتهم برصاصة طائشة هم قتلوني كذلك بحرق روحي وتدمير كياني وانا على قيد الحياة والتي تكون اسوء بألف مرة من الموت الطبيعي !"
تغضنت تقاسيم وجهه بألم بان على محياه وهو يستشعر لأول مرة ألم ابنته والذي فاق الحد المتوقع وهو يرى فتاة اخرى تختلف عن ابنته المشرقة والمفعمة بالحياة ، ليرفع يده بتردد وهو يريحها على رأسها بحنان قائلا بوهن خافت
"لم يكن هناك بيدي شيء افعله يا ابنتي ! فأنا بالنهاية رجل ضعيف الحيلة والقدرة بمواجهة كل هذه المصائب والتي حطت على رأسي لوحدي ، وقد كان الاختيار بينكما معا صعب جدا عليّ ، وحاولت ان اكون عادل بينكما بقدر استطاعتي لكي لا اضطر لخسارتكما معا ، ولكن القدر شاء ان اخسر ابنتي بسبب تفكيري بإنقاذ ابني والذي وجدته القرار الصائب"
حركت رأسها بهزة طفيفة بعيدا عن يده والتي انسحبت ببطء شديد ، ليقول بعدها بأنفاس مجهدة بيأس
"حسنا يا ابنتي ، عليكِ ان تأخذي قسط من الراحة الآن لكي تتماثلي للشفاء ، وحمد الله على سلامتك ، اعتني بنفسكِ جيدا"
غادر بعدها باتجاه باب الغرفة بنفس الخطوات الثقيلة ببطء ، وما ان وصل للباب المفتوح حتى ظهرت امامه بلحظة التي تسمرت بمكانها لوهلة قبل ان تتنحى عن طريقه بأدب ، ليسير بعدها بمحاذاتها وهو يقول بهدوء جاد
"كيف حالكِ يا ماسة ؟ اتمنى ان تكون كل اموركِ بخير !"
اومأت برأسها بهدوء وهي تهمس بامتنان
"بخير ، شكرا لك"
اومأ برأسه بصمت وهو يكمل تجاوزها لخارج الغرفة ، وما ان اختفى عن نظرها حتى اغلقت الباب بسرعة وهي تتجه للصامتة بمكانها تنظر بعيدا بدون اي حياة ، لتقف بجوارها بلحظات وهي تربت على رأسها هامسة بقلق متوجس
"هل انتِ بخير يا صفاء ؟ هل احضر لكِ الدواء او استدعي الممرضة ؟"
عندما لم تجد اي ردّ منها اخفضت كفها عن رأسها وهي تنوي الذهاب لولا الكف التي امسكت بمرفقها بقوة ، وما ان التفتت نحوها حتى سمعتها تهمس بضعف منتحب وهي تتمسك بها بتشبث
"ارجوكِ لا تغادري ، اريدكِ ان تبقي بجواري"
اومأت برأسها بارتباك وهي تفلت مرفقها لتطوق ساقيها وهي تعود لشرودها حزين ، جلست بعدها على طرف السرير وهي تربت على رأسها هامسة بعطف
"ماذا هناك ؟"
شددت من تطويق ساقيها وهي تهمس بحزن عميق خرج بأنين موجع
"لقد اخطأت بالكلام مع ابي وتجاهلت سماع تبريراته التي ارغمته على فعل كل هذا ، اشعر بأنني اصبحت فتاة سيئة ناكرة المعروف والجميل ! فأنا بعد كل شيء ما ازال مدينة لأبي الذي اهتم بي ورعاني منذ كنت طفلة صغيرة ، ولكن ما حدث الآن كان النقيض عن مشاعري وشخصيتي ، لقد تحولت تماما لشخص منفر ومكروه"
تنهدت (ماسة) بتعب وهي تأخذ رأسها بأحضانها لتحرر البكاء المحجوز بداخل شرخ روحها ، وهي تسمع صوتها الباكي الذي لا يقطعه سوى الشهقات الصغيرة وكأنها تتلوى على نار حامية
"لا اعرف ما يجب ان افعل او ما عليّ فعله ؟ اشعر بالضياع والتشتت من كل ما يحدث ! لقد فقدت ذاتي وحياتي وشخصيتي ! ومع ذلك ما يزالون يريدون مني ان اعود كما كنت بعد ان دمروني جميعا ، لما لا يفهمون ما اشعر به ؟ لما لا يشعرون بمعاناتي ؟ لما لا يسمعون انين قلبي المجروح منهم ؟......."
اكملت هذيانها الممزوج بشهقات بكاءها وهي تدفن وجهها بصدرها وكأنه المسكن الذي تحتاج له والمكان الذي تفضي به بهمومها واحزانها من الحياة ، بدون ان يقاطعها احد او يحاسبها على كلامها بحرية لسانها الثرثار والذي تحول من ثرثرة تافهة هدفها المتعة لأحزان لا نهائية هدفها الراحة .
___________________________
بعدها بساعات طويلة كانت تستيقظ من نومها بعد ان غافلها النعاس من ارهاق البكاء وتعب مفاصلها التي تأن بالوجع منذ الامس ، لتنهض بعدها جالسة وهي ترفع نفسها بمرفقها السليم لتسند جسدها لظهر السرير بتعب ما يزال يغيم عليها ، ارجعت رأسها للخلف بحذر وهي تريح يدها على جبينها المضمد بألم صامت .
فتحت عينيها بإنهاك وهي تراقب التي دخلت للغرفة امامها لتتقدم بخطوات هادئة بثبات ، وما ان وقفت بالقرب منها حتى مالت برأسها للأمام وهي تهمس بابتسامة لطيفة
"صباح الخير يا اميرة الاحلام ، كيف حالكِ الآن ؟"
اعتدلت بجلوسها وهي تضم يديها معا هامسة بخفوت رقيق
"بخير ، افضل بكثير"
اومأت برأسها بقوة وهي تهمس بابتسامة واسعة بمغزى
"جيد ، إذاً انتِ مستعدة لاستقبال مفاجأتك والتي احضرتها لكِ ! وانا متأكدة بأنها ستعجبك كثيرا وقد تطيرين من السعادة"
عقدت حاجبيها باستغراب وهي تهمس ببهوت
"اي مفاجأة ؟"
استقامت بالوقوف وهي تلوح بيدها باتجاه باب الغرفة قائلة بارتفاع
"هيا تعالي يا مفاجأة ، ادخلي واظهري نفسكِ"
نقلت عينيها الواسعتين لما تشير له لتظهر بلحظة طفلة صغيرة جرت للداخل بانطلاق وهي تعانق باقة ازهار كبيرة بين ذراعيها وكأنها بشائر البهجة التي جاءت لتطرق بابها وتنشر السعادة بعالمها الموحش ، وبثواني كانت تقف الطفلة بجانب سريرها وهي تلهث من فرط الحماس لترفع الباقة بيديها الصغيرتين من ثقل الحمل عليها والذي يوازيها طولا ، لتهمس بصوتها الصغير المغرد وكأنها عصافير الحب تغني بأنشودة المحبة
"حمد الله على سلامتك يا منقذتي ، وشكرا جزيلا لكِ على مساعدتي ، هذه هدية من اجل بطلتي الرائعة والشجاعة"
رمشت بعينيها بذهول سيطر على ملامحها لوهلة وكأنها تحلم بطفلة اقتحمت عالمها بورود السعادة العطرة والتي تناثرت برائحتها الزكية بكل مكان ، لتحين منها التفاتة ناحية الواقفة على بعد خطوات منهما وهي تهمس لها بخوف خفي وبسعادة تختبئ بين الركام
"هل هذه هي ؟......"
اومأت (ماسة) برأسها بابتسامة صادقة دلت على الاجابة التي تريدها ورغبت بسماعها بشدة ، لتعود بنظرها لنفس الطفلة ذات الابتسامة الكبيرة المشعة براءة وسعادة ، اشارت (صفاء) لنفسها بيدها وهي تهمس برقة عذبة
"هل هذه الباقة لي ؟"
اومأت برأسها الصغير ببراءة تملئها بمشاعر الطفولة الوليدة ، لتنتقل الابتسامة لوجهها الشاحب لا شعوريا وهي تمسك بباقة الازهار بيديها برهبة وحذر ، قبل ان تقربها من احضانها وهي تشتم عبيرها والذي لمس رقاق قلبها بمشاعر صادقة حقيقية لم تشعر بها منذ زمن ، لتبتسم بعدها بسعادة غامرة وهي تهمس بدموع حبيسة ملئت بركتي العسل مثل انهار عذبة
"شكرا لكِ يا صغيرتي ، لقد اسعدتني هديتك كثيرا ! انا سعيدة جدا بل اكاد اطير من السعادة ! شكرا"
اتسعت ابتسامة الطفلة وهي تضم يديها الصغيرتين معا هامسة بحماس كبير
"بل شكرا لكِ انتِ يا بطلتي لأنكِ حميتني وابعدتني عن الخطر ، وهذا التصرف لا يخرج ألا من الابطال الحقيقيون والذين يملكون صفات الشجاعة والقوة ، لذا انتِ قد اصبحت الآن فارس احلامي وبطلي المغوار"
اتسعت ابتسامتها حتى وصلت لعينيها الدامعتين قبل ان تتحول لضحكة صغيرة مزجت بالدموع العذبة على طفولة تاقت للعودة لها ، لتشعر بكفها الصغيرة تمسك بيدها وهي تهمس بصوتها المغرد بقلق طفولي
"لماذا تبكين يا بطلتي ؟ هل تتألمين من اصاباتك ؟ هل هي مؤلمة كثيرا ؟ لا تبكي سيزول الألم فأنتِ اقوى بكثير من ان يهزمك الألم لأنكِ بطلتي التي لا تقهر !"
عضت على طرف شفتيها تمنع شهقات بكاءها من التحرر من اسوار صدرها المنتحب ، لتنقض بعدها على الطفلة وهي تعانقها مع باقة الازهار الضخمة براحة كبيرة عجزت عن الكلام ، وهي تهمس لها بخفوت حزين
"انا لا ابكي من الألم ، بل ابكي من السعادة ، وهذه السعادة انتِ التي احضرها لي"
ابتعدت عن الطفلة بلحظة ما ان خرج صوت آخر من عند باب الغرفة بهدوء حاني
"هيا يا وردة لقد انتهت مهمة تسليم الهدية ، اتركي المريضة ترتاح الآن"
اومأت الطفلة برأسها بطاعة وهي تجري نحو والدتها بسرعة ، بينما كانت الجالسة تتابعها بنظرات دامعة وهي تقف بجانب والدتها والتي قالت بابتسامة ممتنة
"حمد الله على سلامتك يا عزيزتي ، وشكرا لكِ على تدخلك بتلك اللحظة وتعريض نفسكِ للخطر من اجل حماية ابنتي ، انا مدينة لكِ بالكثير شكرا"
ابتسمت بحياء لون خديها بتورد رقيق وهي تلوح بكفها بارتباك هامسة بمودة
"لا ليس هناك داعي لمثل هذا الكلام الممتن ، فقد كان هذا واجبي وتصرف انساني عليه ان يتحلى به غالبية البشر"
اومأت الأم برأسها بامتنان شديد وهي تقول بابتسامة هادئة
"حمد الله على سلامتك مجددا ، اعتني بنفسكِ جيدا"
غادرت الأم لخارج الغرفة وهي تسحب يد ابنتها التي كانت تلوح لها صارخة بسعادة
"وداعا يا بطلتي ، كوني بخير دائما"
لوحت بكفها بحركة لطيفة سرعان ما خابت مع اختفاء الطفلة ووالدتها خلف باب الغرفة حاملة معها السعادة التي اخترقت جدران قلبها الحزين ، لتمسح بعدها دموعها عن وجنتيها المحمرتين ما ان سمعت صوت صديقتها تهمس بجانبها بهدوء
"ما رأيكِ بالمفاجأة ؟ هل اعجبتكِ ؟"
اومأت برأسها بقوة تراقصت معها الخصلات الطويلة من حول وجهها الذي عاد للإشراق من جديد ، وهي تهمس بابتسامة مرحة بتفاؤل
"اجل اعجبتني كثيرا ، واكثر مما تتصورين وكأنني وجدت نفسي الضائعة من جديد !"
زمت شفتيها بتبرم وهي تهمس بسخرية
"انتِ تبالغين بردة فعلك ! لقد كان مجرد لقاء بينك وبين طفلة ترغب بشكرك على انقاذها ، كيف تحول فجأة للقاء للبحث عن النفس الضائعة ؟"
حركت رأسها بهمهمة خافتة بدون تعبير محدد وكأنها تشرد بعالمها الآخر ، لتعبس ملامحها بجمود وهي تهمس بخفوت واجم
"بماذا تفكرين يا صفاء ؟"
اخفضت رأسها وهي تريح وجنتها على قبضتها هامسة بغمامة شاردة
"لقد ذكرتني تلك الطفلة بنفسي كثيرا ، عندما كنت ارى العالم الملون مملوء بالمفاجآت الجميلة والمباهج التي تدخل السرور لقلبي ، وانا ابحث عن بطلي الخيالي بكل الناس من حولي بدون النظر لمساوئ احد منهم ، وكل همومي تدور حول من سيكون فارس احلامي الذي سيغير حياتي ويحولني لملكة احلامه بتلك الحكايات الخيالية ، ولكن الاختلاف بيننا بأن تلك الطفلة قد حولتني انا لفارس احلامها والذي انقذها من الخطر واصبح بطلها ، وهذا يعني بأن فارس الاحلام الحقيقي ليس عليه ان يكون بطل وسيم وطويل ويمتطي جواد ابيض يكفي ان يحمل الانسانية والقوة والبطولة بصفاته ليكون اجمل فارس بعينيّ بطلته !"
ارتفع حاجبيها باهتمام صامت وهي تحرك رأسها جانبا لتهمس بعدها بابتسامة باردة
"يا لمخيلتك الواسعة ! انا اغبطك حقا على هذا الخيال الخصب الذي تحملينه بحياتك ! فبعد كل شيء صفاء الحالمة لن تتغير مهما جارى عليها الزمن ، إذاً ماذا قررتِ ان تفعلي بحياتك القادمة ؟ هل ستستمرين بالقتال بحرب خاسرة ام تعودين لحياتك السابقة محملة بأذيال الخيبة ؟ وإذا لم تجيبي على اي منهما فأنتِ اكبر خاسرة بالعالم !"
عضت على طرف ابتسامتها وهي تلتفت بوجهها نحوها بهدوء دام بينهما للحظات ، لتقول بعدها بابتسامة اكبر بثقة عادت لتغمر كيانها
"ما تزالين تستخدمين معي هذا الاسلوب المراوغ بالأسئلة ، ولكني سأجيبك بأني لن اختار اي منهما ، فقد قررت ان استمر بعقد الزواج لآخر يوم مكتوب ببنود الصفقة والتي عليّ انهاءها كما بدأتها بدون اي هروب او جبن ، وعندما انتهي منها يمكنني العودة لما كنت عليه سابقا ولكن بشخصية جديدة وقلب جديد ، ولا تقلقي عليّ بعد الآن فأنا اقوى من ان اقهر !"
انحنت ابتسامتها بلطف وهي تهمس بخفوت مرتخي ببطء
"واخيرا بدأتِ تفهمين سير اللعبة ! وكل ما لدي لأقوله لكِ هو بالتوفيق بقرارك الجديد والذي اتمنى حقا ان يكون طريق الصواب بحياتك"
اومأت برأسها بصمت غابت عنها الابتسامة وكل شيء من حولها بحبال قوية قيدت قلبها واغلقت المسارب بحياتها الجميلة لتفتح مسرب جديد سيكون الضوء بطريق حياتها .
_______________________________
رتبت ملاءة السرير البيضاء بهدوء وهي تلمس عليها بكفيها بنعومة حتى اختفت الانحناءات بها ، وبلحظة كانت تجلس على طرف السرير وهي تمسك قرص الدواء بيد وكأس الماء بيدها الاخرى ، لتبتلع بعدها الدواء وهي تتبعه بكأس الماء برشفة واحدة ، قبل ان تعيد الكأس لمكانها على المنضدة الجانبية وهي تلتقط هاتفها من نفس المكان .
تنهدت بتعب وهي تريح ظهرها على وسائد السرير الناعمة ، لتمسد بكفها على بطنها من تحت بيجامتها القطنية بشعور بالاستقرار والسكينة وهي تستشعر حجم معدتها المسطحة والتي بدأت تنتفخ وتنفش ببطء تدريجي وهو يعطيها حفنة من امل وسعادة لا يقدرها سواها .
رفعت الهاتف بيدها الاخرى وهي تفتحه بهدوء لتنتقل من فورها لملف الصور المخزنة عندها ومكانها المفضل ، لتملئ صورة الجنين شاشة الهاتف بأكملها وهي تنظر له بحنين اخذها وجذبها بعيدا بدوامة احلام جديدة اصبحت تدور بفلكه وحده .
اتسعت حدقتيها السوداوين بصدمة ما ان ظهرت رسالة على الخاص على طرف اعلى الشاشة ، وما ان طار اصبعها تلقائيا وهي تفتح الرسالة حتى انتفضت جالسة برعبة وهي تحدق بصورة تضم بها وجهين واحد لها والآخر لرجل ، وليس هذا ما صدمها بشدة بل معرفتها بذلك الرجل والذي جمعها به قصة حب ولدت عنها الطفل الذي يعيش بأحشائها !
شهقت بوجل وهي تنتفض بقوة اكبر ناظرة للرقم الذي بدأ بالرنين عليها بعد تلك الرسالة ، لتبتلع بعدها ريقها بتخبط وصوت نبضات قلبها تقرع بأذنيها مثل ضرب الطبول بعد ان زالت هالة السكينة والاستقرار عنها ، وما ان اجابت على الهاتف حتى جاء الصوت المألوف بنبرة هادئة بعثت الحنين لروحها الخاوية
"مساء الخير يا وفاء ، لقد مر وقت طويل"
تنفست بتسارع وهي تهمس بهمس خافت لا يكاد يسمع
"كمال !"
عاد الصوت للخروج وهو يثبت واقعية كابوسها قائلا بهدوء مريب
"كيف حالكِ يا زوجتي ؟"
زفرت انفاسها بنشيج متقطع وهي تهمس بكلمات حاولت جعلها ثابتة بيأس
"كيف عرفت رقم هاتفي ؟"
صمت للحظتين قبل ان يعود للكلام بمراوغة
"ليس هذا الجواب الصحيح يا وفاء ، ما تزالين جاهلة كطفلة حلوة تحتاج للتعليم من جديد !"
عضت على طرف شفتيها تخفي ارتجافها الذي استولى على جسدها ونبضات قلبها التي اخترقت قفصها الصدري ، وهي تهمس بعبوس خافت
"ماذا تعني تلك الرسالة ؟ ولماذا اتصلت بي الآن ؟"
تنفس بهدوء وصلها واضحا وهو يتبعها بالهمس بخفوت مشتد
"اشتقت إليكِ"
انفرجت شفتيها بأنفاس مضطربة لوهلة قبل ان تستعيد نفسها وهي تهمس بوجوم مستاء
"يا لك من كاذب مخادع ! بعد كل ما فعلته بي وجعلتني امر به ! تقول الآن بأنك اشتقت لي ! ماذا تريد مني ؟ ولماذا اتصلت ؟....."
قاطعها بلحظة بصوت يائس حزين
"تمهلي قليلا يا عزيزتي ، هل هكذا ترحبين بزوجك الغائب بعد كل ذلك الوقت الذي فرقنا عن بعضنا ؟ ألم تحملي اي حنين او اشتياق لرؤيتي ! لقد خاب ظني كثيرا بكِ ! وانا الذي ظننتك ما تزالين على العهد !"
زمت شفتيها بامتعاض محتقن وهي تهمس ببرود تقمصها بلحظة
"هل هذا هو حقا تبريرك عن كل ما فعلته بي ! هل كنت تفكر بأنني سأبقى انتظر عودتك لآخر العمر ؟ لقد تركتني بمنتصف الطريق بعد ان رفعتني واخذتني بعيدا لتتركني فجأة وتغادر ببساطة بدون ان تسأل عن الفتاة التي ألقيت بها عند قارعة الطريق بعد ان انتهت تسليتك معها ! كيف تعود الآن وتتكلم معي بطبيعية وكأنك لم تجرم بشيء ؟ كيف تكون بكل هذه الحقارة والدناءة ؟ كيف ؟!"
تنفست بتعب وهي تمسد على مكان نبضات قلبها التي بدأت تؤلم بغصة حارقة ، ليقول بعدها بلحظات ببساطة وكأنه لم يسمع اي كلمة مما قالته
"اهدئي يا زوجتي العزيزة ، فهذا الكلام لن يقدم ولن يؤخر من حياتنا شيء ، المهم الآن ان نفكر بالمستقبل يا زوجتي !....."
قاطعته بخفوت منتحب بغضب تمكن منها
"توقف عن نعتي بزوجتك ! هل نسيت بأن زواجنا ذاك مزيف ؟ هل نسيت الزوجة المؤقتة التي استمتعت بسذاجتها وبوهم الزواج الكاذب قبل ان تهرب بعيدا وانت تأخذ معك ذاتها وحياتها ؟ يا لك من حقير بلا قلب !"
زفرت انفاسها بفورة الغضب الذي ثار وانفجر بروحها وهو يتشبع بالكثير ، ليعود صوته مجددا وهو يقول بهدوء جاد تلاعب بأعصابها
"حسنا كما تريدين فقط اهدئي الآن ، لقد اتصلت بكِ لأطلب منكِ العودة كما كنا بالماضي ، فما يجمع بيننا شيء اكبر بكثير واقوى من إرادتك وإرادتي ! واعدكِ هذه المرة بالتعويض عن كل ما فات والبدء من جديد"
ارتفع حاجبيها بتسمر لحظي قبل ان تهمس بعبوس ساخر
"هل فقدت عقلك يا كمال ؟ كيف يمكنك ان تطلب مني العودة بمثل هذه البساطة ؟ هل تراني بكل هذه السذاجة حتى اوافق على طلب العودة ؟ عليك ان تعلم بأن هذه اليتيمة لم تعد تهتم لأمرك ولم تعد بحاجة لوجودك بحياتها فقد اكتشفت بأنها بخير وبأفضل حال بدونك ، لذا اذهب وابحث عن ضحية اخرى تنطلي عليها خدعة الزواج المزيف وقصائد الحب الوهمية والتي كنت تمطرها عليّ وكما ستفعل مع غيري !"
غيم الصمت بينهما للحظات قصيرة قبل ان يقطعها الصوت البارد الذي انقلب لهدوء غامض
"ولكن كيف سأستطيع فعل هذا يا وفاء ؟ كيف تطلبين مني مثل هذا الطلب المستحيل وتبعديني عنكِ وعن ابني ؟ من اين لكِ بكل هذه القسوة بإبعاد اب عن ابنه !"
تجمدت ملامحها بصدمة وكفها تتمسك بقماش بيجامتها عند موضع الجنين لا شعوريا قبل ان تهمس بذهول شاحب
"كيف عرفت عن امر الطفل ؟ ومن الذي اخبرك عنه ؟ وكيف وصلت لرقم هاتفي ؟ من هو الذي يوصل لك معلوماتي !...."
تنفس بملل للحظات وهو يقول بهدوء واثق
"لقد اخبرتكِ كثيرا ان تهدئي ، فأنا لا اريد منكِ سوى استعادة عائلتي ، ولكن بما انكِ مصرة على عدم العودة فأنا لن اتخلى عن طفلي الوحيد ، لذا استعدي من اجل ان تسلمي لي طفلي ما ان تتم ولادته وتودعينه للأبد"
حركت رأسها باهتزاز وهي تقول باستنكار مندفع
"لا لن اسمح لك بأخذ ابني ، وايضا بأي حق ستأخذه وانت لم تعترف به ولا بوالدته منذ تركتنا نعاني الوحدة والمرار ! كيف تنسب الطفل لك وانت لم تسأل عنه يوما والذي نتج عن خداع ونصب وتسلية ؟ هل انت تتكلم بكامل وعيك ؟ هل تعرف اساسا معنى ابن او زوجة ؟ حتى تتكلم عن سرقة ابن من والدته وهو لم يولد بعد ؟ انت اكيد لا تستحق ان تكون والده لأنك لا تعرف شيء عن الابوة ولا عن تجاربها !"
اخذت عدة انفاس بصعوبة ما ان انهت كلامها الذي خرج من صميم الألم وكفها ما تزال تضغط على بطنها بحماية غريزية ، لتسمع بعدها صوته البارد الذي اصبح اكثر تسلية ومراوغة
"ما بكِ يا وفاء ؟ انا لم افعل شيء بعد ! انا كنت فقط اهدد واعطيكِ تحذير بدون فعل ، ولكن إذا اضطررت فقد اتمادى ويصبح الكلام فعل إذا استمريتِ على هذا العناد ، وايضا فكري بالأمر كيف ستستطيعين رعايته وانتِ لا تملكين حياة مستقرة يتيمة وضائعة ؟ ولا تنسي بأنه سيكون بلا نسب ولا عائلة يعني ستكون حياته صعبة ! لذا انا ارى بأن حياته مع والده ستكون اكثر عدلا وافضل الخيارات"
شددت على الهاتف بيدها وهي تهمس بعزم قاهر
"استطيع تدبر امري لوحدي ، وهذا ليس من شأنك ، فقط ارحل بعيدا وغادر من حياتي"
صمت لفترة وهو يسمع نشيج انفاسها الواضح ليقول بعدها بجمود
"لن استطيع ان ارحل يا عزيزتي لأنكِ تملكين ما يخصني ، ولن ادعك تتصرفين كما يحلو لكِ لأني سأكون لكِ بالمرصاد ، والآن استمتعي بليلتكِ يا زوجتي ، ولا تنسي ان توصلي سلامي لابني الوحيد ، فأنا سأتركه بالوقت الحالي امانة عندكِ لعدة شهور قبل ان استلمه منكِ ما ان يصل للعالم وينيره بوجوده"
اتسعت عينيها بدموع حبيسة وهي تهمس بتحشرج قاتل
"لماذا تفعل هذا معي ؟ ماذا تريد مني ؟ ألم تنتهي لعبتك وحصلت على تسليتك مني ! ماذا تريد الآن ؟"
ردّ عليها من فوره بصوت خافت بمكر
"لا لم ينتهي شيء ، بل هناك الكثير لم احصل عليه منكِ ، ولن اتوقف حتى احصل عليه واربح بهذه اللعبة ، فأنتِ قد اصبحت لعبة منذ وقوعك بين يدي وهذا لن يتغير يا وفاء ، لذا ترقبي ما سيحدث واستعدي !"
شحبت ملامحها بلحظة وهي تنظر للهاتف والذي انفصل عنه الخط ، لتعود بعدها لصورتها معه التي ارسلها لها على رقمها وهي تملئ الشاشة لتثبت حقيقة وجوده ، وما هي ألا لحظة حتى ألقت بالهاتف بعيدا بذعر استبد بها وهي تعانق من فورها بطنها بحالة خوف هستيري جمد اطرافها عن الحركة وهز كيانها حد الوجع ، لتهمس بعدها بهذيان وهي تحرك رأسها بالنفي بقوة حتى تساقطت الدموع التي انهمرت على وجنتيها
"لا لن اسمح له بفعلها ، لن اسلمه ابني مهما حدث ، لن اعطي ابني لأحد ، انه ابني وحدي ، انه الأمل الوحيد المتبقي لي ، لن اخسره كذلك ، لا اريد خسارته ، فهو الوحيد الذي سيحب والدته والتي لم يحبها احد ! ارجوكم اتركوه لي ! ارجوكم !"
انخفضت رأسها حتى وصلت لملاءة السرير وهي تبكي بحرقة تحررت من اسرها وكأنها تتلوى بكأس آلامها التي فاضت عن حدها وانسكبت ، وهي ما تزال تعانق الجنين الموجود برحمها وكأنه طوق نجاتها الوحيد والعالم والذي ستبني حياتها عليه وبعد ان فرغت من الجميع .
______________________________
امسكت بحزام حقيبتها وهي تضعها على كتفها قبل ان تلتفت نحوها وهي تهمس بتردد واجم
"هل انتِ متأكدة بأنكِ ستكونين بخير وحدك ؟ لا اعتقد بأنها فكرة جيدة....."
قاطعتها الجالسة على السرير وهي تلوح بكفها هامسة بمرح
"لا داعي لكل هذا الخوف يا ماسة ! فأنا لست طفلة حتى تخافي عليّ هكذا ، بل امرأة راشدة تجاوزت سن العشرين واكثر ، وتستطيع الاعتماد عليها بأمور حياتها ومسؤولياتها الخاصة"
عقدت حاجبيها بشك وهي تمسك خصرها بيديها هامسة ببرود ساخر
"بل انتِ حقا طفلة بجسد امرأة كبيرة رمت بنفسها امام سيارة مسرعة بدون اي تفكير بمخاطر تهورها والذي كاد يودي بحياتها ! كيف تريدين مني تركها لوحدها بمشفى كبير وانا اكثر من يعلم عن رهابها وخوفها من الوحدة والظلمة ؟ لدرجة كانت تبكي ساعة كاملة عندما ترى مشهد فراق بفيلم عاطفي !"
امتعضت ملامحها باحمرار محتقن وهي تهمس بعبوس حانق
"لقد كان هذا بالماضي بمراحل مراهقتي الحساسة ، ولكني الآن قد تغيرت ولم اعد اتأثر بهذا النوع من الافلام العاطفية ، فأنا قد اصبحت امرأة متزوجة واعية اعرف ما ينفعني وما يضرني ، لذا عودي للمنزل مطمئنة ومرتاحة البال فقد اصبحت صديقتك مسؤولة عن نفسها ولم تعد الطفلة الباكية !"
انحنت ابتسامتها بلطف وهي تهمس بخفوت شارد
"ولكن شخصية الطفلة الباكية ما تزال موجودة بداخلك ولم تتغير قط ، والدليل هو بكائك عندما تكلمتِ مع والدك وبكائك عندما قابلت الطفلة التي كانت تود شكرك ، وبكائك بعد ان اغادر من هنا واتركك ، يعني انتِ ما تزالين الطفلة الباكية بعد كل شيء"
زمت شفتيها بصمت وهي تخفض رأسها قليلا واصابع كفها تنغرز بخصلات شعرها بقهر ، قبل ان تهمس بخفوت متحشرج
"يا ليتني استطيع البكاء كما بالماضي ، لقد اصبح البكاء بالنسبة لي اكثر ألماً وحرقة ومن اصعب المواقف ، لقد اصبحت استخدمه وسيلة للهروب من الواقع ولتفريغ الآلام المحبوسة بداخلي ، ولم اكن اعلم بأن مهمة البكاء ستكون مجهدة هكذا عندما تكون المخرج الوحيد للأحزان التي تؤلم قلبي !"
تنهدت (ماسة) بجمود وهي تهمس بخفوت متصلب
"عليكِ ان تكوني اقوى من هذا بكثير ، ماذا حدث لقرارك بتقمص شخصية جديدة تحارب المستحيل ؟ إذا تخاذلتِ من اول الطريق فلن تستطيعي الاستمرار للنهاية ! واعدكِ ان اقدم لكِ المساندة اللازمة بكل خطوات حياتكِ"
رفعت رأسها وهي تبتسم بجمال قبل ان تهمس بخفوت رقيق
"شكرا لكِ يا ماسة ، سأحاول بكل جهدي ألا اخيب ظنكِ بي واكون بقدر كلامي ، لذا لا تقلقي عليّ من البقاء لوحدي فهذا الذي عليه ان يحدث ، وإذا لم اعتد على الاعتماد على نفسي من الآن ! متى سأفعل ؟ لذا عودي للمنزل يا ماسة فقد تأخرت كثيرا بسببي وانا اشغلك بمشاكلي طول اليوم ، ولا اريد ان تحدث معكِ مشاكل مع عائلة خالك او زوجك بسبب تأخرك بالخارج"
ابتسمت ببرود وهي تهمس ببساطة
"لا تقلقي ليس هناك مشاكل من اي نوع"
عضت على طرف شفتيها وهي تهمس بوجوم
"ومع ذلك عليكِ العودة للمنزل فليس من اللائق التأخر لهذه الساعة ، وايضا ليس هناك قرابة تربط بيننا حتى تضطري للبقاء عندي اكثر ، ولا ارغب بجلب الشبهة لكِ ولعائلتك ولزوجك ، ارجوكِ غادري....."
قاطعتها بلحظة بهدوء حازم
"اصمتِ يا صفاء ، انا بكل الأحوال سأغادر فقد حصلت على تحذير من زوجي بأنه يمنع العودة للمنزل لساعة متأخرة لوحدي ، لذا سأضطر للتكلم معه ليوصلني للمنزل رغما عن إرادتي"
زفرت (صفاء) انفاسها براحة وهي تهمس بابتسامة عريضة
"حقا لقد ارحتني ! واخيرا جاء اليوم الذي ارى به الزوج الذي يربطك ويضع لكِ حدود لتمردك وعنفوانك ! وهو من سيأخذ حقنا منكِ ويحصل لنا على انتقامنا"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهي تهمس باقتضاب
"يا للخيانة ! حسنا سأتركك لوحدك يا مزعجة ، وإياكِ والعودة لي باكية لأني عندها لن ارحمك ، وسنرى من سيأخذ حقكِ مني !"
ما ان استدارت بعيدا عنها تنوي الرحيل حتى تسمرت بمكانها ما ان هتفت من خلفها بخفوت حزين
"الحب مجرد كذبة ابتدعها المغفلون وصدقها العاقلون ليس لشيء سوى للحصول على المتعة وتجربة شيء جديد مختلف تماما عن المعتاد ، يبدو بأنني تلك المغفلة"
ابتلعت ريقها بانقباض اكتسح محياها البارد لوهلة قبل ان تلتفت جانبا وهي تهمس ببهوت
"هل ما تزالين تذكرين ذلك الكلام عن الحب ؟"
غامت ملامحها بهدوء وهي تهمس بابتسامة شاردة بحالمية
"كيف لي ان انسى ؟ معي ذكريات كثيرة مع تلك الأيام الخريفية ببراءة الحب الذي لم نكن نعرف عنه سوى الاشعار والقصائد ! وما ان اصبحنا بالربيع حتى انكشفت الاسرار المختبئة خلف كذبة الحب الحقيقي"
التوت شفتيها بشبه ابتسامة وهي تتمتم بخفوت
"وتبين بأنني انا العاقلة"
تغضن جبينها بحيرة وهي على وشك قول شيء لولا صوت انفتاح باب الغرفة ، وبلحظة كان يقف عند إطار الباب الذي غاب عنهم منذ الصباح واختفى بدون ان يظهر له اثر .
ابتسمت (ماسة) بسخرية وهو تقول ببرود جليدي
"اصبح لدي الآن دافع اكبر للرحيل ، وداعا يا صفاء ، اعتني بنفسكِ جيدا"
غادرت بعدها امام نظرات (جواد) الصقرية بهدوء حتى اختفت عن نظرهما تماما ، ليوجه بعدها نظراته للساكنة بمكانها ما تزال تتابع اثر صديقتها ، وما ان اغلق باب الغرفة حتى افاقت من شرودها وهي تقابله بنظرات هادئة بدون اي تعبير يعلو تقاسيم وجهها الشاحب والذي اخذ يتشرب بعض اللون الوردي ليعود للحياة .
تقدم امامها عدة خطوات وهو يقول بجدية
"كيف حالكِ الآن ؟"
اخفضت نظراتها قليلا وهي تهمس بخفوت جاف
"بخير"
اومأ برأسه وهو يقف بجوار سريرها قبل ان ينحني فجأة بالقرب منها وهو يلمس على الضمادة التي تغطي جبينها برفق ، ليهمس بعدها بلحظة بخفوت حاد
"هل ما تزالين تتألمين ؟"
رفعت حدقتيها الواسعتين بلمعة دموع وهي تبعد رأسها بحركة طفيفة هامسة بثبات
"اجل اتألم من قربك"
ارتفع حاجبيه بارتباك اكتسح محياه وهو يستقيم بعيدا عنها بحركة لا إرادية وكأنها اصابته بضربة خاطفة ، ليدير بعدها وجهه ناحية النافذة وهو يقول بجمود صخري
"اليوم ستنامين بالمشفى وغدا صباحا سنخرج من هنا لنعود للمنزل ، فإذا تأخرنا يوم آخر قد تقلق سيدة المنزل علينا وقد لا تتركنا وشأننا حتى تأتي شخصياً للمشفى"
اومأت برأسها بدون اي تعبير وهي تفرك قبضتيها معا هامسة بعبوس
"لماذا عدت ؟"
حاد بنظراته نحوها بجمود وهو يتمتم بجفاء
"ماذا تقصدين بهذا السؤال يا صفاء ؟ هل ظننت للحظة بأني سأفكر بترككِ بمشفى كبير لوحدك بدون اي رجل معكِ ؟"
حركت رأسها باهتزاز وهي تهمس بخفوت بارد
"لم افكر بل كنت واثقة بأنك لن تعود إلى هنا ، بعد المشاحنات التي حدثت بينك وبين عائلتي ! لذا تفاجأت قليلا بعودتك من اجلي والتزامك بموقفك كزوج حقيقي لآخر لحظة !"
عقد حاجبيه بضيق وهو يقول بابتسامة حادة
"ليس هناك سبب يدفعني لترككِ بالمشفى وانتِ لم ترتكبي اي خطأ ! وحتى لو كان لدي عداء وقصة احقاد طويلة مع عائلتك ، انتِ ستبقين خارج كل هذا وليس لكِ علاقة به ما دمت لم تتدخلي ، وبما انكِ ما زلت زوجتي ومن ممتلكاتي الخاصة فأنا من المستحيل ان افرط بها او ان اتغاضى عن حقوقها !"
نظرت له بعينين واسعتين مشدوهتين وهي تهمس بذهول شاحب
"هل هذا كلامك حقا ؟ لم اتوقع ان يكون هذا رأيك !"
التفت نحوها ببطء وهو يقول بشبه ابتسامة غامضة
"ماذا ؟ هل كان هذا مفاجئ ؟ لم اتوقع ان تكون هذه ردة فعلك ! يبدو بأن هناك الكثير لا تعرفينه عن زوجك !"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تريح ذقنها على ركبتها هامسة ببهوت
"ليس بالشيء المهم ، لا تكترث لكلامي"
احتدت ملامحه بدون اي انفعال او تعبير ظاهر ليقول بعدها بلحظات بهدوء جامد
"وايضا لن استطيع العودة او دخول المنزل بدونك ، فقد اكدت عليّ امي بأن قدمي عليها ان تخطو مع قدمك وغير هذا لن تسمح لي بالدخول ، وهذا كان تحذيرها الاخير لي قبل خروجي من المنزل بحثا عنكِ ، وقد تكون الآن تبحث عن قائمة جديدة باللوم والعتاب والتوبيخ لتجهزه لي باستقبالنا !"
اعتلت ابتسامة حانية محياها بقلبها الذي اصبح يرفرف بحبها الامومي ، لتهمس بلحظة بمحبة غامرة ملئت فؤادها
"يبدو بأنني قد اخفتها كثيرا ، اتمنى ان تسامحني على نكث وعدها ، فهي لا تستحق سوى كل خير ، اعتذر يا امي"
نظر لها للحظات طويلة قبل ان يهمس بهدوء
"منذ متى اصبحت تناديها بأمي ؟"
سكنت ملامحها لوهلة قبل ان تهمس بابتسامة صغيرة بحياء
"منذ الوقت الذي فتحت به قلبها الكبير لي واحتواني مثل طفلة صغيرة ! ومنذ امتدت يدها الحانية لتربت على احزاني وتطيب على جروحي ! انا اراها امي الاخرى التي لم اراها يوما ، لقد احببتها مثل اغلى شيء حصلت عليه بهذا الزواج المؤقت ، لذا شكرا لك يا جواد على منحي مثل هذه السعادة التي تلخصت بأم رائعة مثل امك"
تجمدت ملامحه بخطوط دقيقة غير مرئية عبرت عن الألم الذي جاش بصدره ، قبل ان يلتفت بسرعة بعيدا عنها وهو يقول بحزم جاد
"نامي الآن ، تحتاجين لأخذ قسط من الراحة قبل ان يحل الصباح"
ما ان مشى عدة خطوات حتى هتفت بسرعة بخفوت
"انتظر جواد ، هل تستطيع مساعدتي ؟"
استدار نحوها بعلامات حائرة وهو ينظر لكفها التي كانت تشير باتجاه زاوية معينة هامسة بإحراج
"هل يمكنك ان تجلب لي رداء الصلاة ؟ لقد تركته على الاريكة"
حانت منه التفاتة نحو الجهة المقصودة وهو ينظر لرداء الصلاة الابيض الملقى على ذراع الاريكة ، ليتجه بعدها نحو الاريكة بثواني قبل ان يلتقط رداء الصلاة بحرص ، وبلحظات كان يسلمه لها وهو يقول لها بجدية
"إذا احتجتِ لأي شيء او شعرتِ بشيء انا سأكون بالخارج ! حسنا ؟"
اومأت برأسها بابتسام هادئ وهي تراقب الذي استدار بعيدا وهو يتجه لخارج الغرفة ، لتزفر بعدها انفاسها بتعب مجهد وهي تعانق رداء الصلاة بحضنها وكأنها تستمد منه العون والمساعدة بما هي مقبلة عليه بحياتها .
_______________________________
وقفت عند الطريق المقابل للسيارات وهي تضع الهاتف على اذنها بانتظار نافذ الصبر ، لتخفض بعدها الهاتف عن اذنها وهي تشتم بغضب بدون ان تجد اي رد من الطرف الآخر ، وما ان حاولت مجددا حتى انفتح الخط بلحظة والصوت يخرج بسرعة قائلا بإيجاز
"اين انتِ ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تهمس ببرود
"انا عند تقاطع الطرق بمنتصف المدينة....."
قاطعها بصوت جاد
"جيد ، لا تتحركي من مكانك"
تجمدت ملامحها بصدمة وهي تنظر للهاتف بعد ان اقفل الخط بوجهها بعد جوابه الاخير للمرة الثانية ، لتتنفس بعدها بغضب وهي تدس الهاتف بجيب سترتها قبل ان تكتف ذراعيها بانتظار لفارس الاحلام الذي سيلتقطها من مكانها ، وما هي ألا دقائق قليلة حتى لمحت السيارة السوداء الرياضية وهي تتقدم من مسارها بسرعة قياسية حتى توقفت بمحاذاتها تماما ، لترفع بعدها حاجب واحد بدهشة وهي تحاول استيعاب السرعة التي وصل بها بعد اتصالها الذي لم يمر عليه سوى دقائق وكأنه يقود طيارة وليس سيارة !
دخلت للسيارة بهدوء وهي تغلق الباب من خلفها بصمت ، ليعود بعدها لتشغيل محرك السيارة وهو يقود بالطريق الرئيسية ، وبعد مسافة قصيرة قطعت الصمت وهي تهمس بخفوت مرتاب
"كيف وصلت لي بهذه السرعة ؟ هل كنت تقود بالقرب من هنا ؟"
حرك رأسه بهدوء بدون كلام ونظره على الطريق وكأنه لم يسمعها ، لتعبس ملامحها بلحظة وهي تنظر له بأطراف عينيها هامسة بوجوم عابس
"لماذا لا تجيب ؟ ولماذا اقفلت الخط بوجهي مرتين ؟"
عندما طال الصمت اكثر مما يستوعب عقلها المشوش بالفعل قالت من فورها بضيق
"لماذا تتجاهل اسئلتي ؟ هل تستخدم معي الخصام الصامت ؟ ما لذي فعلته لك حتى تأخذ هذا الموقف الغريب مني ؟"
حرك رأسه مجددا بتلك الحركة الباردة عندما يتعمد تجاهل احدهم او يحاول اخراج كلامهم من رأسه ، وعند هذه النقطة التفتت نحوه بكامل جسدها وهي تهمس بغضب
"شادي......"
قاطعها من فوره وهو يرفع اصبعي السبابة والوسطى عن المقود بحركة الصمت الخاصة به
"اصمتِ يا ماسة ، فأنا لن اجيبكِ على اي من اسئلتك قبل ان تجيبِ انتِ على اسئلتي ، ما لذي كنتِ تفعلينه بمنتصف البلد ؟ واين صديقتك التي كنتِ برفقتها ؟"
عضت على طرف شفتيها بغيظ وهي تدير نفسها باستقامة هامسة باستياء
"هل سنعود للعبة اسألني واسألك ؟ فهذه اللعبة لا تطاق ابدا وتعبث بأعصابي كثيرا !"
ابتسم بالتواء جامد وهو يقول بهدوء غير مبالي
"هذه هي قوانين اللعبة ، ولاحظي بأنني عادل جدا بأساليب اللعب معكِ ، فكما ستقدمين لي الاجوبة التي ابتغيها ستحصلين بالمقابل على كل ما تريدين من اجوبة"
عبست ملامحها بتصلب وهي تشدد من تكتيف ذراعيها قبل ان تهمس بوجوم خافت
"لقد كنت اساعد صديقتي بقضاء مصلحة ، وبعد ان انتهينا غادرت تلك الصديقة بعيدا"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو يهمس بانبهار مزيف
"هل هذا هو العدل بالنسبة لكِ ؟ اعتقد بأني قد سمعت مثل هذه الاجوبة المكررة من قبل !"
زمت شفتيها بضيق وهي تهمس من بينهما بحنق
"لأنه هذا ما حدث بالفعل ، ليس لدي شيء جديد لكي اضيفه لك"
تجمدت ابتسامته وهو يطرق بطرف اصابعه على المقود قبل ان يقول بهدوء
"لا ليست الاجابة التي كنت انتظرها ، فأنا سؤالي واضح جدا اريد ان اعرف ما هو نوع المصلحة التي كنتِ تقضينها وليس ما كنتِ تفعلينه مع صديقتك تلك !"
تسمرت ملامحها تحت سطح من الجليد وهي تتمتم بخفوت مقتضب
"امور تخص الفتيات ، ما علاقتك انت بها !"
اومأ برأسه بإصرار تفهمه جيدا وهو يقول بتصميم
"بل اريد ان اعرف ماذا كنتِ تفعلين بالتفصيل وألا ليس لديكِ الحق بالحصول على الاجابات مني !"
اخفضت ذراعيها وهي تضم يديها بحجرها بصمت لبرهة قبل ان تهمس ببأس
"لقد ذهبت مع صديقتي لمشفى المدينة واضطررت لملازمتها طول اليوم ، لذا كنت موجودة بمنتصف البلد"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يقول بجمود مريب
"وماذا يثبت لي بأنكِ لا تكذبين عليّ ؟"
زمت شفتيها بامتعاض وهي تهمس ببرود جليدي
"هذه مشكلتك وحدك فقد انتهى التبرير عندي"
اتسعت ابتسامته بتغضن وهو يهمس بانفعال مكبوت
"ماهرة بالتلاعب بالخصم !"
حادت بنظراتها نحوه ببرود وهي تهمس بخفوت مغتاظ
"هل جاء الوقت لأحصل على الاجوبة عن اسئلتي ؟"
جمدت ملامحه فجأة قبل ان يقول بغموض
"هل صديقتك هي نفسها ابنة شقيق قيس ؟"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تنظر له بأطراف عينيها النافذتين بجمود لتهمس بعدها بعبوس متوجس
"من اين عرفت عنها ؟"
ردّ عليها ببساطة وهو يحرك كتفيه باستخفاف
"نسيتِ يوم اختطافك !"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تنظر للأمام هامسة بخزي
"صحيح تذكرت"
قال بعدها بلحظات بهدوء جاد
"ألن تجيبِ على سؤالي ؟"
ادارت وجهها للنافذة بجانبها وهي تهمس بملل
"اجل هي نفسها ، فأنا ليس لي صديقة غيرها"
شدد على المقود لا إراديا وهو يقول بجمود قاتم
"وهل رأيتِ شقيقها هناك ؟"
التفتت نحوه بحدة وهي تهمس بعبوس متذمر
"ألا ترى بأنك قد تجاوزت العدد المسموح به بالأسئلة ؟ لقد اصبحت ثلاث اسئلة ! وانا للآن لم اطرح عليك اي سؤال !"
اومأ برأسه ببرود وهو يقول بابتسامة جانبية بثقة
"وانا اعدكِ ان اجيبك على اسئلتك بقدر اجوبتك ، يعني كل منا سيحصل على حصة من الأجوبة ، وهذا هو نظام العدل"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تشدد من ضم يديها قبل ان تهمس بفتور
"اجل لقد رأيته هناك"
تصلبت ملامحه بجمود اكبر استشعرت من تغير الاجواء الغريب بالسيارة ، وما ان كان على وشك الكلام حتى سبقته وهي تقول باندفاع
"هذا يكفي يا شادي ، لقد جاء دوري بطرح الاسئلة الآن ، كيف استطعت الوصول لمكاني بهذه السرعة ؟ هل وجودك بالقرب صدفة ام مدبر ؟"
ساد الصمت بينهما للحظات طويلة ليقطعها بعدها بهدوء متزن
"لا لقد كان مدبر فأنا استخدم خريطة بهاتفي تحدد المواقع وتوصلني لها بسهولة وبأسرع طريقة ، وهذا بفضل تتبع موقع هاتفك والتي اوصلتني لكِ بغضون دقائق"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بذهول وهي تهمس باستنكار حاد
"هل كنت تتبع موقع هاتفي ؟ كيف فعلت هذا ؟......"
قاطعها وهو يحرك رأسه باتجاهها قائلا ببرود قاسي
"عندما تتوقفي عن تقمص شخصية الفتاة الغامضة قد افكر بالتوقف عن هذه الطريقة ، وحتى هذا الحين عليكِ ان تتحملي ان يبقى موقعك مراقب من قبل زوجك"
شددت على اسنانها بحقد مدوي وهي على وشك الصراخ قبل ان يوقفها بكفه التي امتدت لوجهها وهو يقول بنفس الهدوء الثابت
"إياكِ وان تسمعيني صوتك يا ماسة ، فأنا ما ازال لهذه اللحظة استخدم معكِ اساليب متحضرة بالحديث والجدال"
دفعت يده بعيدا عنها وهي تعتدل بجلوسها بصمت كاسر غيم بينهما طويلا ، لتحين منه التفاتة نحوها وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"ألن تكملي طرح الاسئلة ؟ هيا يا ماسة تبقى لديكِ محاولتين إذا لم تستغليهما جيدا ضاعت عليكِ الفرصة"
اخفضت نظراتها بسكون وهي تهمس بخفوت واجم
"هل تثق بي يا شادي ؟"
ابتسم بهدوء وهو يقول بدون اي مواربة
"بالطبع انا كذلك"
ردت من فورها بحدة غير مقصودة
"ولماذا فعلت ما فعلت ؟"
صمت للحظتين قبل ان يهمس بكلمات موجزة
"لأنني لا اثق بالناس الذين يعيشون من حولك ، ألم يكن هذا كلامك يا ماسة !"
تشنجت ملامحها وهي تنظر له بحزن طالت للحظات لتقول بعدها بهمس خافت بشحوب
"هل لو طلبت منك امنية ستحققها لي أياً كانت ؟"
عقد حاجبيه بضيق وهو ينحرف بمسار الطريق لا شعوريا ليقول بعدها بعدم راحة
"سأوافق إذا لم تكن تتضمن الابتعاد عنكِ وامور تفوق مقدرتي الطبيعية"
ادارت رأسها ناحيته وهي تنظر له بقوة قبل ان تتبعها بالهمس بكل تصميم
"اريدك ان تتوقف عن تتبع موقعي"
ارتفع حاجبيه لوهلة وهو يعود بنظره للطريق قائلا بهدوء
"ولماذا عليّ اجابة طلبك ؟"
ردت عليه من فورها بعبوس متبرم
"لأنك وعدتني الآن بأنك ستفعل ! وانا ايضا لا اتحمل ان اكون مراقبة بكل مكان اذهب إليه"
شدد على عجلة القيادة وهو ما يزال يحافظ على نبرة صوته الباردة بدون اي انفعال
"لم اوعدك بشيء ، وقد اخبرتك بذلك عندما تتوقفين عن تقمص هذه الشخصية الغامضة قد افكر بالتوقف عن هذه الطريقة......."
امسكت بيده على محرك السرعة بحركة هزت كيانه وهو يرفع عينيه لوجهها ما ان قالت بهمس خافت حزين
"إذا كنت تحبني ستنفذ لي امنيتي !"
عض على طرف ابتسامته بإثارة وهو يعود بالنظر للأمام بسرعة ما ان شعر بخطر ترك مسار الطريق الذي يكاد يطير به ، ليقول بعدها بأنفاس مسترخية برضا
"رائع ! طريقة جديدة بالحصول على مرادك ! اعجبتني حقا !"
ردت بسرعة بلهفة تغلبت عليها
"هل وافقت ؟"
امسك بيدها بقبضته الكاسرة وهو يرفعها لشفتيه ليقبل ظاهرها ببطء عابث لعب بشعيرات عروقها ، ليهمس بعدها امامها بصوت خافت اجش
"إذا كنت سأحصل على هذه النظرات الجميلة من عينيكِ الحزينتين فأنا موافق"
شددت على يدها بداخل قبضته بدون ان تتنازل وهي تقول بتأكيد
"اقسم بذلك"
تنهد بملل وهو يقول بابتسامة جانبية برفق
"اقسم لكِ بأن اتوقف عن تتبع موقعك ، هل انتِ سعيدة ؟"
اتسعت ابتسامتها بسعادة احتلت محياها الباهت قبل ان تهمس بهدوء متلاعب
"هل تسمح لي بسؤال اخير ؟"
اومأ برأسه وهو يخفض كفها المحجوزة بقبضته ليريحها على ساقه قائلا برخاء
"تفضلي يا حوريتي اسألي"
ابتسمت بهدوء راضي وهي تريح جانب رأسها على مسند الكرسي هامسة بخفوت
"هل تحبني ؟"
مال برأسه جانبا وهو يقول بابتسامة ملتوية اوثقت اكثر من الكلام
"احبكِ يا مجنونة شادي ، هل من مزيد ؟"
ابتسمت بارتجاف متورد وهي تدير وجهها للنافذة بحياء استبد بها ، بينما الجالس بجوارها عاد للقيادة امامه بهدوء وبابتسامة مسترخية واجواء من الرضا والتسالم تحوم من حولهما ، ليقطعها بعدها صوت هاتفه والذي اخترق الصمت من حولهما وهو يضطر ليفلت التمسك بكفها على مضض قبل ان يخرج الهاتف من جيب بنطاله .
سحبت (ماسة) كفها وهي تقبض عليها بجمود عاد لاحتلال حياتها ، لتستمع بعدها للجالس بجانبها وهو يجيب على الهاتف برسمية
"نعم ، ماذا هناك ؟"
مضت دقائق قليلة وهو يستمع للطرف الآخر قبل ان يقول بعملية جادة
"حسنا فهمت ، اقفلي الخط"
غامت ملامحها بسحابة داكنة وهي تنظر للطريق امامها والتي توصل لداخل المنزل بعد ان تجاوز البوابة الخارجية ، وما ان وقف عند مدخل المنزل حتى خرجت من فورها من باب السيارة بصمت قاتل ، لتلتفت بعدها بنصف جسدها ما ان قال بهدوء اختفت نبرة التسلية بصوته
"لدي مشوار مهم عليّ الذهاب له ، لذا لا تنتظري عودتي واخلدي للنوم"
ادارت رأسها للأمام وهي تهمس بعدم اهتمام متعمد
"لم اكن افكر بانتظارك ، افعل ما تشاء"
غادرت بعدها بخطوات تسارعت تلقائيا باتجاه درجات مدخل المنزل ، ولم ترى النظرات الجامدة التي كانت تتابعها وهو يتمتم بغضب
"سحقا لهذا !"
توقفت بمنتصف درجات السلم وهي تلتفت بوجهها بغريزة دفعتها للاستدارة ما ان سمعت صوت السيارة تتحرك بعيدا وهي تخلف فراغ موحش من حولها ، بدون ان تعلم عن الشعور المؤلم الذي انقبض بروحها وبعض المشاعر المتسللة بدأت بالظهور على سطح حياتها ومن ضمنها شعور الغيرة التي لم تعرف معناها وقيمتها إلى اليوم .
_____________________________
كانت تسير بالممر الطويل وخطواتها تأخذها لمكان تحددت وجهتها مسبقا ، لتدخل بعدها للجناح وهي تكمل طريقها الثابت لغرفة معينة ، وما ان وقفت امام الباب المفتوح حتى طارت نظراتها نحو الجالسة على طرف السرير مشغولة بطي قطع الملابس فوق حجرها بترتيب قبل ان تصطفها مع كومة الملابس الاخرى بجانبها ، ولم تعلم بأن جسدها قد تجمد عن الحركة ومشاعرها تنحصر بزاوية مظلمة بروحها عندما تراقب شقيقتها بتلك الطريقة وهي تهتم وترعى كل امور وواجبات الحياة والتي تكون جزء من واجبات الوالدين على اطفالهما ، وهذا لم يتغير على مدار سنوات منذ شبت عن الطوق وبلغت الخامسة من عمرها وهي تشاهد ابنة العاشرة تهتم بكل امور المنزل ومسؤولياته بغياب الوالدين ومن ضمنهم شقيقتها الصغرى وكأنها ولدت لتكون الأم والعائلة وكل شيء لها بوجود والديها وبعد رحيلهما بدون ان يتغير شيء بنمط حياتهما الذي يسير على نفس الخط المستقيم ، فهي ما تزال الطفلة الضعيفة التي تختبئ خلف الابواب لتراقب الكبار وشقيقتها ما تزال الطفلة الناضجة التي تحب الاهتمام بكل مسؤوليات الحياة وبكل الاعباء الملقاة على كاهلها بدون اي تذمر او شكوى .
تحركت لا شعوريا وخطواتها تتابع السير للأمام بدون اي صوت ذكرتها بالطفولة قبل ان تصل لمكان جلوس شقيقتها ، وما هي ألا لحظات قصيرة حتى كانت ترتمي جالسة بجانبها وهي تعانق ذراعها مريحة رأسها على جانب كتفها بشعور بالراحة والامان والذي لا تشعر به سوى بجوارها ، لتنتفض الاخرى من حركتها المفاجئة وهي تترك ما بيدها لتربت بسرعة على رأسها هامسة بتوجس استبد بها
"ماسة ! ماذا بكِ ؟ هل انتِ بخير يا صغيرتي ؟"
حركت رأسها بالإيجاب وهي تهمس بخفوت متأني
"لقد اشتقت إليكِ"
ابتسمت بحنان غزى ملامحها بلحظة وهي تضع الملابس جانبا قبل ان تلتفت بنصف جسدها لتعانقها عندها بهدوء وبكل دفء مشحون بداخل قلبها الامومي نحو صغيرتها الضعيفة ، فلا احد يعلم عن الرابط القوي الذي يجري بينهما مثل مجرى الدم بأوردة قلبيهما والذين يتشاركان به منذ مولدهما ، بينما كانت هي تشتم رائحتها الزكية المعطرة بالحب الدافئ الذي دائما ما يملئ الفراغ والفجوة الكبيرة بروحها الباردة المجردة من كل انواع العواطف ، وكأنها اصبحت تلتحف بحرارة مشاعرها بعز الشتاء وتتنفس بعطر روحها النقية التي تفوح بالربيع .
مسحت على رأسها بكفها بنعومة وهي تهمس برقة حانية
"إذاً اخبريني ماذا جرى معكِ ؟ واين كنتِ مختفية طول اليوم !"
ابتعدت عنها ببطء وهي تهمس ببهوت خافت
"اشعر بأنني سبب كل ألم يحدث معكم ، هل انا لعنة بحياتكم ؟"
ارتفع حاجبيها بصدمة وهي تمسك بكتفيها بقوة هامسة بوجل عابس
"ما لذي تتفوهين به يا ماسة ؟ ما هي المناسبة لقول مثل هذا الكلام ؟"
رفعت رأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة جافة
"لا شيء ، فقط سؤال"
تغضن جبينها بشك وهي تمسك بوجهها بين كفيها لتهمس بعدها بابتسامة جانبية بمحبة
"لا اعرف ما هو السبب لكل هذه الاسئلة ! ولكني سأقول لكِ بأن كل هذه الآلام والاوجاع التي يمر بها الانسان مجرد تجارب ومحن تختبر صبرنا بالحياة وقدرتنا على تجاوزها لنخرج منها اقوى واكثر مناعة ، ولا يوجد هناك سبب محدد او نتيجة بل هناك قدرة ربنا على وضع هذه العقبات بطريقنا ونحن علينا بالمشي على هذه الطريق والتي توصلنا اما للنجاح او الاخفاق ، لذا لا تقولي بأنكِ سبب مصيبة احدهم او سبب لعنة على احدهم او سبب فراق احدهم ، فهذه كلها من تدابير القدر واختباراته والتي ليس علينا سوى القبول بها وخوضها بروح قوية صبورة وقلب محب معطر بالإيمان ، هل فهمتِ الآن يا صغيرتي ؟"
اومأت برأسها بهدوء وهي تمسك بيديها على وجهها هامسة بعبوس متبرم
"هل هذا يعني بأنني لست السبب بكل هذا ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تقبل مقدمة رأسها هامسة بلطف
"بالطبع لستِ السبب ، لذا ارتاحي يا صغيرتي وازيلي عنكِ هذا الهم والذي يعكر مزاجك"
ابتسمت بهدوء شاحب وهي تحرك وجهها بعيدا عن يديها بصمت كاسر ، لتعود (روميساء) لما كانت تفعله وهي طي الملابس النظيفة بعناية بعد ان عادت لهدوئها وروقان مزاجها ، لتقول بعدها بلحظات بهدوء ظاهري بدون اي تعبير
"حسنا ألن تنطقي وتخبريني اين كنتِ طول اليوم بعد مغادرتك من الجامعة ؟ فأنا ليس لي صبر على الانتظار اكثر حتى تصرحي عن المصائب التي بجعبتك !"
اشاحت بوجهها بعيدا وهي تهمس ببرود تقمصها بلحظة
"لقد كنت مع صديقتي صفاء بجولة حول العالم"
توقفت يديها لوهلة قبل ان تتابع عملها بطي الملابس قائلة بابتسامة هادئة
"حقا لقد افرحتني بهذه الاخبار ! فأنتما قد توقفتما عن الخروج مع بعضكما منذ زواجكما واستقرار حياتكما ! وسعيدة بأنكما قد عدتما للخروج معا بجولات سياحية ترفه عن انفسكما من الحياة الروتينية وتعيد بكما روح الماضي ، فقد استمرت صداقتكما سنوات طويلة تجاوزت حدود الرسمية والتعارف بينكما وليس من السهل نسيانها او تجاهلها ببساطة"
ضمت يديها معا وهي تهمس بهدوء لا مبالي
"الحقيقة هي التي اصرت على الخروج معا والدوران حول العالم ولكل مكان ترغب بزيارته ، وانا قد وافقت على طلبها لكي لا اكسر خاطرها وخاصة بأنها كانت حزينة جدا وتحتاج للخروج بشدة"
عقدت حاجبيها بتفكير وهي تقول باهتمام جاد
"ماذا تقصدين ؟ ألم تكن حالتها جيدة ! كيف كانت فأنا لم ارها منذ مدة طويلة ؟ وآخر مرة رأيتها بها لم تكن حالتها مطمئنة او سارة بالنسبة لي"
زمت شفتيها بتشنج لحظي وهي تهمس بعبوس مستاء
"لقد كانت جيدة وشبه طبيعية ، وهذا كان قبل ان تتعرض لحادث سيارة ادخلها للمشفى بلحظة بدون ان ندرك تركيب الاحداث وسرعتها ، فأنا لم اغب عنها سوى لثواني حتى وجدتها ترتمي ارضا امام عينيّ !"
تجمدت يديها وهي تسكن بمكانها لوهلة قبل ان تلتفت نحوها وهي تهمس بذهول شاحب
"ماذا ؟ صفاء تعرضت لحادث ؟ متى وكيف حدث هذا ! ولماذا لم تخبريني ؟....."
قاطعتها بتصلب وهي تنظر لها بقوة
"لم يحدث شيء خطير يا روميساء ، فقد كان حادث عرضي يعني تلامس طفيف بينها وبين السيارة ، وعلى كل حال لقد تحسنت حالتها وستخرج بصباح اليوم التالي ، لذا لا داعي لكل هذا الخوف والهلع فهي بخير وبأحسن حال"
عبست ملامحها بغضب وهي تقول بعتاب حازم
"ولماذا لم تخبريني ما ان حصل الحادث ؟ وهل كنتِ معها طول تلك المدة التي غبتِ بها عن المنزل ؟ كيف لم تخبريني بشيء ؟"
امسكت بكفيها فوق قطع الملابس وهي تقول بهدوء جاد
"لقد حدث كل شيء بسرعة يا روميساء ، ولم يكن لدي الوقت الكافي لاستجمع افكاري واتكلم معكِ ، وقد بقيت معها طول اليوم بالمشفى ولم اتركها حتى تأكدت من تحسن حالتها وسلامتها ، وهذه كانت عودتي من المشفى"
عقدت (روميساء) حاجبيها بدون ان تلين ملامحها وهي تنفض يديها بعيدا عنها بقوة ، لتعود بعدها لطي الملابس بحركة اكثر قوة وبانفعال واضح وهي تقول بغضب مكتوم لائم
"حمقاوات ليس لديكن حس بالمسؤولية ! هل هذا تصرف فتيات بالعشرين من عمرهن متزوجات ام تصرفات اطفال مستهترين بالابتدائية ؟ ألم تتعلموا بالمدرسة عن مخاطر اللعب بالشارع ؟ كيف استطاعت السيارة الوصول لكم والاصطدام بها ! هل انتما لهذه الدرجة من البلاهة والاستهتار حتى لم تستطيعا تفادي سيارة بالطريق ؟ حقا لا افهم بماذا كنتما تفكران ؟"
زفرت (ماسة) انفاسها بغضب وهي تهمس من بين اسنانها بغيظ
"هل انتهيتِ من اخراج كل ما كان يضايقك ؟ لأني سأخبركِ بأن صفاء هي التي رمت بنفسها امام السيارة لتحمي طفلة كادت تدهسها سيارة مسرعة ! ولم نكن نلعب بالشارع كما صور عقلك وجسده خيالك !"
احتدت ملامحها اكثر وهي تصف الملابس مع كومة الملابس الاخرى بحركة عنيفة قبل ان تقول بصرامة اكبر بدون ان توجه لها نظرة
"وماذا سيختلف بهذا الكلام ؟ هل ترين هذا مبرر مقنع لترمي بنفسكِ للتهلكة بدون اي تفكير بالمخاطر التي قد تواجهك هناك ؟ لو انني رأيت صفاء امامي لوبختها بشدة على تصرفها المتهور المنعدم التفكير ، فهي هكذا دائما منذ طفولتها ولم تتغير تندفع لفعل الخير بدون تفكير بأضرار افعالها التي تعود عليها !"
نظرت (ماسة) بعيدا عنها بضجر وهي تهمس بعبوس ساخر
"تعرفين صفاء جيدا وحدود تفكيرها المنحصر بقلبها وعواطفها والتي تسيطر على تصرفاتها بأغلب الاوقات ، فأنتِ تذكرين كم مرة عرضت بها نفسها للخطر لتنقذ قطة ضالة بالشارع المليء بالمخاطر ! فهي مهما كبرت وعقلت سيبقى تفكيرها كما هو ولا تتبع سوى ما يقول لها قلبها المسحور بحب جميع الكائنات الحية !"
نظرت لها بأطراف حدقتيها بحدة وهي تكتف ذراعيها قائلة باستهزاء جاد
"وحالتك لا تختلف عنها كثيرا ! فقد كنتِ ترافقينها بكل مكان تذهبان إليه وبكل تصرف متهور تخطوان إليه لتخوضا مخاطرة جديدة واستهتار لا حدود له ، وكأنكما قد ولدتما مجنونتين بالفطرة ! فلم انسى يوما المخاطر التي كنتما تفتعلانها مع العالم كل يوم ومنها قيادة الدراجة الهوائية بمنتصف الشارع...وتسلق اسوار المنازل بدون اذن اصحابها...واللعب بالكرة بمنتصف الشارع...وسباق الجري بالمناطق التي تكثر بها الاخطار...وماذا ايضا ؟......."
قاطعتها من فورها بقوة وهي تنظر لها بعبوس حانق
"اختي كفى ! هل هذا الوقت المناسب لفتح ملفاتي القديمة ؟ لقد كان هذا بالماضي وكل شيء قد تغير الآن ، يعني لم اعد تلك الطفلة المستهترة بحياتها والتي تتحدى ركوب المخاطر ، فقد ذهبت تلك الطفلة بلا عودة"
ضيقت حدقتيها الخضراوين بجمود وهي تقول بعدم اقتناع
"حقا ما تقولين ! هل تراجعتِ عن تلك التصرفات صدقا ؟ هل تعلمين المشاق التي كنت اخوضها بمحاولة ابعادكما عن كل انواع المخاطر ؟ ومع ذلك ما تزالان تحتاجان للمراقبة والاهتمام بهذا العمر البالغ !"
عضت على طرف شفتيها بامتعاض مكتوم وهي تهمس من بينهما بضيق
"وانتِ ايضا تصرفت باستهتار يا روميساء ، عندما وقعت على درجات السلم حتى اجهضت الطفل....."
صمتت بامتقاع ما ان بدأت تتفوه بالحماقات التي قد تؤذي مشاعر شقيقتها ، بينما تجمدت ملامح الاخرى بدون شعور وهي تحدق بالملابس بحجرها بهدوء صامت مقيت ، لتقول من فورها التي امسكت بمرفقها وهي تهمس بعبوس نادم
"اعذريني يا روميساء ! يبدو بأنني قد تفوهت بالكثير من الكلام الاحمق مجددا ، تعرفين بأن لساني احيانا يفقد السيطرة على نفسه ويتكلم لوحده ، لذا لا تفكري كثيرا بما اقول وانسي تماما"
التفتت نحوها بهدوء وهي تهمس بابتسامة جادة بدون اي تأثير
"لا بأس يا ماسة ، فأنا لست بكل هذه الدرجة من الحساسية حتى اتأثر بكل شخص يتحدث عن تلك الحادثة والتي كانت مقدر حدوثها !"
غامت ملامحها بوجوم حتى مرت سحابة داكنة قيدت مقلتيها الزرقاوين بضباب كثيف آسر ، لتلمح بعدها طرف العقد فوق ياقة قميصها وهي تتبع السلسال والذي اختفى داخل صدر القميص ، لتقول بعدها بخفوت جاد وهي تحدق بطرف العقد المختبئ
"ما هو هذا العقد الذي تخفينه عني يا اختي ؟ هل هو سر ؟"
نظرت لها بحيرة وهي تلمس بأصابعها جزء السلسال لتهمس بلحظة بخفوت مبتسم
"اجل هذا العقد ، هل ترغبين برؤيته ؟"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين وهي تشاهد العقد الذي خرج بالكامل وهو ينتهي بقرص دائري جذب نظرها بقوة ، لترفع كفها تلقائيا وهي تمسك بالقرص براحة يدها لتتمعن بالنظر بالمرسوم عليها هامسة بانبهار خافت
"يا لجمالها ! لم ارى بحياتي شيء بهذه الدقة بالتصنيع ! ولكن من اين حصلت عليها ؟"
ردت عليها بابتسامة متسعة بسعادة
"لقد اهداني إياها احمد اليوم ، أليست جميلة ؟"
عبست زاوية من شفتيها وهي تمسح بأصبعها الإبهام على النحت المرسوم عليها هامسة بوجوم
"لقد كان من الافضل تركها حتى تنجبي طفل آخر للعائلة"
ارتجفت ابتسامتها وهي تهمس بخفوت مستفسر
"كيف عرفتي بأنها هدية تخص الطفل ؟"
رفعت كفها بالقرص وهي تشير للرسم بأصبعها هامسة ببساطة
"واضحة مثل وضوح الشمس ، ولكن على كل حال مبروكة عليكِ ، حافظي عليها جيدا فهي تبدو غالية مادياً ومعنوياً"
اخذت القرص منها وهي تحتضنه بيديها هامسة بمودة
"لا توصي حريص ، فهي محفوظة بقلبي وليس بعنقي"
اومأت برأسها بابتسامة هادئة وهي تعود بالنظر للأمام بشرود ، ليقطع الصمت التي قالت فجأة بتذكر وهي تنظر لها بقوة
"صحيح لقد ذكرتني ! ما لذي اتهمتِ سلوى به حتى جعلتها بكل هذا الغضب والانكماش ؟ هل قلت لها كلام لا يصح ويتجاوز الادب ؟ هيا اعترفي يا ماسة"
نظرت لها بصدمة وهي تصلب ملامحها قبل ان تقول باستنكار حاد اعاد العداء المتمحور حول تلك المرأة
"ماذا تقولين يا روميساء ؟ هل تتهميني بكلام تلك المرأة المجنونة ! ما لذي اخبرتك به بالضبط حتى صدقتها هكذا واتيت لترمي بلائها عليّ ؟"
عقدت حاجبيها بجمود وهي تقول لها بصرامة نافذة لا تقبل الجدال
"اخرسي يا ماسة واستمعي لي ، انا كلامي واضح تماما ولم اقصد به ان اتهمك بشيء ، ولكن اريد ان اعرف ماذا حدث بينكما وبماذا تكلمتِ معها ؟ وإياك والكذب عليّ بحرف واحد !"
ردت عليها وهي تكور قبضتيها قائلة بشراسة ناقمة
"لن اقول كلمة قبل ان تخبريني بماذا تكلمت معكِ وصرحت ! وبماذا اتهمتني تلك المختلة عقليا ؟"
تنفست عدة مرات بغضب مكتوم وهي تقول بتذكر مضني
"كل ما اتذكره بأنها قالت عن اتهاماتك المبطنة نحوها بخصوص الطفل ، وكانت حزينة جدا بسبب شكوكك نحوها واتهامها مثل ذاك الاتهام الخطير والذي ضرب كبريائها وجرح مشاعرها ، وايضا شكيت كثيرا منكِ امامي وبأنكِ آلمتها بكلامكِ ذاك"
عضت على طرف شفتيها بقنوط وهي تشيح بوجهها جانبا هامسة ببرود محتقر
"لم يحدث شيء مهم اخبرك به ، لقد كان مجرد حوار تافه مبتذل لم يستحق كل هذه الجلبة ، ولا تعطي اهتماما كبيرا لعرضها التمثيلي ذاك فهذا هو ما تهوى فعله التمثيل وتقمص الشخصيات الرخيصة بحياتها"
تغضن جبينها بهدوء وهي تمسك بكتفيها برفق لتهمس بعدها بخفوت حذر
"ماسة حاولي عدم التسبب بالمشاكل بينكما والتعرض لها كثيرا ، فأنا لا اريد الدخول بالمنتصف بين طرفين متحاربين ووضعي بوجه القنبلة ، فقد تعبت حقا من مهمة ارضاء جميع الاطراف الذين تشنين حرب وعداء معهم ، فهذه الحياة إذا اردت التعايش بها عليكِ بالمساواة والتكيف مع الجميع ، لذا ارجوكِ ان تحاولي اكثر التأقلم معها من اجل صالح الجميع ولكي لا تتعبي بحياتك بهذا المنزل"
حادت بنظراتها نحوها وهي تهمس بضيق
"هل افهم الآن بأنكِ بصفها ؟"
عبست ملامحها وهي تضرب على كتفها بقوة هامسة ببؤس
"غبية ! وستبقين طوال حياتك غبية ، هل هذا هو المعنى الوحيد الذي استوعبته من كلامي ؟"
تنفست بملل وهي تنهض واقفة عن السرير قبل ان تقول بنفور ساخر
"حسنا يا اختاه ، سنحاول التأقلم مع الثعبان المُقنع بكل الوسائل الممكنة ، فقط من اجل ان تعيش هذه العائلة بسلام وهناء ، ما رأيكِ الآن ؟"
حركت رأسها بيأس وهي تعود لترتيب الملابس فوق بعضها قبل ان تقول ببرود
"اغربي عن وجهي يا ماسة ، فأنا لا ينقصني مزاحك الاخرق ، وقد عطلتني على عملي بالفعل"
اشارت بأصابع كفها بجانب رأسها وهي تهمس بخفوت مطيع
"طلباتك اوامر"
نظرت لها بسرعة وهي تهمس بوجوم
"هل ستنامين بالجناح ؟ ام ستغادرين !"
وصلت امام باب الغرفة وهي تلتفت نحوها لتهمس بهدوء مرح
"لا لا استطيع النوم بجناحك بعد الآن فقد تصالحتِ مع زوجك بالفعل ، ولم يعد من اللائق البقاء بجناحكما ، وانا اعلم جيدا إذا بقيت معكِ ليلة اخرى فقد يطردني احمد من المنزل بأكمله ويعلق مشنقتي على باب الجناح"
ابتسمت بشحوب بدون ان تشاركها بالمزحة وهي تهمس بهدوء حاني
"لا بأس المهم هو ان تفعلي ما يريحك ، تصبحين على خير"
حدقت بها للحظات قصيرة قبل ان تستدير للأمام هامسة ببساطة
"اهتمي بنفسكِ جيدا وبزوجك ، احلاما سعيدة لكِ"
ابتسمت بمودة وهي تراها تغادر بعيدا ، لتنحرف بنظراتها وهي تتجه للقرص المعلق بالسلسلة فوق قميصها بعد ان اخرجته من مخبئه ، لتمتد كفها وهي تحتضن القرص المدور براحتها والذي اصبح اقرب لها من نفسها وكأنه قطعة غالية حفر بجزء من جسدها والتحم به اخذ مكان طفلها والتأم الجرح .
______________________________
طرق على باب الشقة عدة مرات بهدوء ثابت وهو ينتظر بنفاذ صبر ، ليسمع بعدها صوت خافت من خلف الباب يهمس بنشيج متقطع
"من هناك ؟"
تصلبت ملامحه بلحظة وهو يمسك بمقبض الباب قائلا بصوت جهوري عميق
"هذا انا شادي ، افتحي لي الباب"
سمع صوت قفل الباب يفتح بلحظات قصيرة قبل ان يسمح له بدفع الباب ببطء ، وما ان ظهرت صورة الواقفة امامه منكسة الرأس بشكل مريب حتى تسمر بمكانه بلحظة وهو يتجول بنظره عليها بترقب حذر ، ليقول بعدها بحاجب واحد بتركيز حاد بعد ان يأس من الصمت الخانق
"هل انتِ بخير ؟ ماذا هناك يا ميرا ؟"
عندما زاد الصمت بينهما مثل اسوار شائكة تحيط بهما بحصون جليدية ، ليقول بلحظة بانفعال مكبوت على وشك التحرر من قيوده
"ميرا !......"
تحركت بسرعة عدة خطوات قبل ان تنقض عليه بعناق خائر القوى يختلف عن العناق الطبيعي وهي تجمد اطرافه عن الحركة لوهلة ، ليرفع بعدها يديه وهو يمسك بكتفيها برفق قبل ان يبعدها عنه بمسافة سنتمترات ، لينزع يديه عن كتفيها بسرعة وهو يتمتم بجفاء بارد
"ما لذي تفعلينه يا ميرا ؟ هلا وضحتِ معنى تصرفك هذا ؟"
ارتجفت اطرافها المشدودة وهي تتراجع بخطواتها بخوف سيطر على حركاتها ، وما ان صنعت مسافة خطوات بينهما حتى همست بخفوت حزين
"انا اعتذر ، لم اقصد"
حرك رأسه نحوها وهو يقول ببرود جامد
"لا بأس ، ولكن ما لذي حدث معكِ بالضبط ؟ وما سبب ذلك الاتصال العاجل !"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تهمس بخفوت منكسر
"لقد شعرت بالخوف من البقاء لوحدي"
عقد حاجبيه بضيق وهو يهمس بتفكير
"اجل ومن ماذا خائفة ؟"
نظرت له بضياع لوهلة وهي تحاول تنظيم كلامها بصعوبة لتهمس بعدها باضطراب
"لقد اتصل بي قبل دقائق ، وهددني بأن يسرقه مني"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهو ينظر لها بتركيز قائلا بعدم استيعاب
"ماذا تقصدين بكلامك ؟ ومن الذي اتصل بكِ ؟ وماذا يريد ان يسرق ؟ ألا ترين بأن كلامكِ الغامض غير واضح بالنسبة لي !"
زمت شفتيها بارتجاف هز اعماقها وهي تعود للكلام هامسة بخفوت اكثر اضطرابا
"اخبرتك بأنه قد عاد مجددا ، وهو يحاول سرقة ما تبقى من حياتي ! ولا اعلم لما عاد الآن ؟ وماذا يريد مني ؟"
تغضن جبينه بوجوم وهو يلوح بذراعه بعصبية قائلا باستهجان
"ماذا تقولين يا ميرا ؟ من هو ذلك الشخص الذي اصبحتِ تهذين به ! فأنا لن استطيع فهمك بهذه الطريقة !"
ردت عليه بجواب واحد بدفعة واحدة صهرت روحها
"انه كمال"
احتدت ملامحه ببطء شديد اسودت معه تعابير وجهه لينفجر بها بصرخة واحدة
"من هو كمال ؟"
صرخت فجأة بعصبية وهي تحرك رأسها بهذيان حتى تدفقت الدموع بعينيها
"انه الرجل الذي دمر حياتي ، الرجل الذي سرق مني سعادتي واماني واستقراري ، الرجل الذي حولني من امرأة كاملة للعبة ساذجة غبية ، لقد دمرني بالكامل حتى لم يعد لدي مقدرة على استعادة نفسي وكياني ، لم يبقي لي شيء جميل اعيش من اجله ، وبعد كل هذا جاء مجددا ليسرق بذرة الامل بروحي ونزعها مني ! كيف سأعيش بعدها ؟ كيف سأستمر بالعيش بدون بذرة املي الوحيدة ؟!"
اتسعت حدقتيه بصدمة وهو يتابع التي تجمدت بمكانها بعد كل الاعترافات التي امطرته بها والتي لا تعود سوى على شخص واحد دخل لحياتها بلحظات ضعفها ليتركها ركاما مبتورا ، وما هي ألا لحظة فاصلة حتى تحرك بسرعة وهو يتلقف جسدها المرتمي والذي انهار بعد كل الشحنات التي افرغها من كمية الكبت بداخله ، ليسمع بعدها نشيج انفاسها وهي تهمس بدموع لم تنشف ولو قليلا
"ارجوك لا تتركه يسلبه مني ، فأنا ليس لي سواك يحميني من هذا الكابوس"
زفر انفاسه بجمود وهو يحمل جسدها الهزيل بين ذراعيه لينقله لغرفة نومها ، وما ان وصل بجانب فراشها حتى وضع جسدها فوق ملاءته برفق وهو يريح رأسها على وسادته بحرص ، ليستقيم بعدها بلحظة وهو يلتقط كرسي بزاوية الغرفة قبل ان يجلس عليه بجانب السرير .
ضم يديه فوق ساقيه وهو يقول بجدية هادئة بعثت القشعريرة بالأجواء من حولهما
"حسنا ، يعني هذا الرجل الذي اتصل بكِ قبل قليل يكون والد الطفل ! هل صحيح ما فهمته ؟"
اومأت برأسها بحركة مهتزة وهي تنظر بعيدا عنه ، ليتابع كلامه بهدوء اكثر جدية وبنفور لم يستطع السيطرة عليه
"وكيف استطاع الوصول لرقم هاتفك ؟ ألم نغيره لكِ بآخر مرة !"
حركت رأسها بتعب وهي تهمس بوهن
"لا اعلم ! صدقني لا اعلم !"
تنفس بقوة وهو يستغفر ربه بكبت من المصائب الجديدة التي اصبحت تهطل على رأسه ، ليقول بعدها بنفس الهدوء الجاد بدون اي مواربة
"وعن ماذا تكلم معكِ ؟ ولماذا اتصل بكِ بعد غياب دام لأشهر ! هل الآن حتى تذكر بأن لديه طفل منكِ ؟"
زمت شفتيها بنشيج مكبوت وهي تهمس بخفوت مشتت
"لا اعرف حقا ما سبب اتصاله الحقيقي بعد كل هذه المدة من الانقطاع ! ولكنه بالبداية قد بعث لي رسالة على رقمي محتواها صورة قبل ان يجري اتصال معي ، وقد اخبرني بأنه يريد ان يعود لعائلته مع ابني ، وعندما رفضت وعاندت هددني بأنه سينتزع ابني مني بعد ولادته مباشرة ويحرمني منه ، ولم اعرف ماذا افعل بعدها ؟ لقد خفت كثيرا وشعرت بالغثيان والارهاق وكأن روحي تحرقني ! وخفت كثيرا من ان يصل لمكاني الحالي ويدمر حياتي كما فعل سابقا ! لذا طلبت منك المجيئ بسرعة واستنجدت بك لأنك الوحيد الذي يعرف اسراري واثق به يا شادي ، ارجوك لا تتركني بهذه المحنة واحميني انا وابني منه !"
اكتسحت طبقة جليد ملامحه وهو يقول بهدوء كاسر
"هل ما يزال رقمه بهاتفك ؟"
حركت رأسها نحوه وهي تحاول الجلوس بصعوبة لتهمس بعدها بضعف
"اجل ما يزال موجود على هاتفي ، لقد تركته على الاريكة......."
قاطعها وهو يسبقها بالنهوض عن الكرسي
"انتظري ، انا سأحضره بنفسي"
سكنت بمكانها وهي تنظر له يحضر الهاتف من عند الاريكة قبل ان يعود لها بلحظات ، ليقول بعدها وهو يفتح الهاتف امام عينيها
"هل تضعين اقفال او رموز على هاتفك ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تهمس بخفوت
"لا ، لا يوجد"
شددت من ضم يديها وهو يأخذ وقتا طويلا بالتقليب بهاتفها حتى شعرت بأعصابها على وشك الانهيار ، ليتنفس بعدها بجمود وهو يمد لها الهاتف قائلا ببرود جليدي
"لا يوجد هناك اي ارقام غريبة او رسائل مريبة ، وقد تأكدت من ذلك اكثر من مرة"
فغرت شفتيها بذهول مرتعش وهي تختطف منه الهاتف بسرعة هامسة باضطراب منفعل
"غير صحيح ! انا متأكدة من ان رقمه موجود ومسجل على هاتفي....."
بترت كلماتها الاخيرة وهي تبحث بين ارقام المتصلين بدون ان تجد له اثر ، لتنتقل من فورها لصندوق الرسائل بدون ان تجد رسالته كذلك وكأنه شبح الماضي مر على حياتها ورحل بسرعة .
كانت تحاول البحث عنه وهي تقلب بشاشة هاتفها بأصابع متوترة هامسة بخفوت مرتجف
"غير معقول ! اين ذهب ؟ انا متأكدة من كلامي ! فقد سمعت صوته بأذني ، اقسم لك بذلك"
تنهد بهدوء وهو يقول بتفكير جاد
"اعتقد بأنكِ قد تكونين مخطئة ! ولم يكن ذاك سوى حلم سيء راودك بنومك ، فليس من المنطق ان يعود للتكلم معكِ بعد ان ترككِ كل هذه المدة !"
نظرت له بحدة وهي تلوح بالهاتف بيدها قائلة بغضب استبد بها
"هل تقصد بأنني قد جننت وبدأت ارى واتخيل امور غير موجودة ؟ انا اخبرتك بأنني قد سمعت صوته وتكلمت معه ولم اكن نائمة او اتوهم بذلك الوقت ! لقد كنت بكامل وعيي وبيقظتي ، لماذا لا تصدقني ؟"
خرج آخر كلامها بصراخ منتحب وهي تتنفس بتسارع مزق خفقات صدرها المتألم ، ليزفر بعدها انفاسه بغضب مكتوم وهو يتقدم من المنضدة ليسكب لها كأس من الماء ، وبلحظة كان يقف امامها وهو يقدم لها كأس الماء قائلا بصوت منخفض
"اشربي الماء واهدئي قليلا ، فهذا سيؤثر سلبا على حياة الطفل بداخلك ، فليس من الصحي ان تعرضي نفسكِ لكل هذا الضغط النفسي"
تناول منها الهاتف لتأخذ منه الكأس وهي تمسك بها بيدين مرتجفتين بحذر ، لتقربها بعدها من شفتيها وهي تشرب منها بصمت ، وما ان انتهت من شربها حتى اخفضت الكأس من امامها وهي تهمس بمرارة خافتة
"هل ما تزال لا تصدق كلامي ؟ انا اقول الحقيقة....."
قطع كلامها وهو يستل منها الكأس قائلا بحزم جاد ينهي به الحديث
"سنفكر بكل هذا الكلام بالغد ، فقد تأخر الوقت كثيرا الآن ، وحان موعد النوم ، هل تناولتِ جميع ادويتك بمواعيدها ؟"
اومأت برأسها للأسفل بوجوم منكسر بدون كلام آخر ، ليضع بعدها الكأس والهاتف معها على المنضدة الجانبية وهو يقول بإيجاز
"جيد ، إذاً نامي الآن وارتاحي وانسي كل ما حدث معكِ اليوم ، فأنتِ تحتاجين للراحة من اجل صحتك وصحة الطفل"
ما ان تحرك خطوة حتى هجمت على ذراعه وهي تمسكها قائلة برجاء متوجس
"ارجوك لا ترحل يا شادي ، ابقى معي فقط هذه الليلة ، فأنا لن احتمل البقاء لوحدي بدون ان تزورني الشكوك والكوابيس والتي لن تسمح لي بالنوم بهناء ، لذا رجاءً لا تتخلى عني الآن"
قطب جبينه بتصلب وهو يربت بكفه على يديها الممسكين بذراعه قائلا بكل ما يستطيع من ثبات جامد
"حسنا يا ميرا لن اغادر الشقة ، لذا هيا نامي بسريرك وانتِ مطمئنة"
ابتسمت بارتجاف شاحب وهي تنظر ليده التي كانت تمسح على كفيها وكأنه يؤكد الوعد ويبث بها شعور الامن والطمأنينة ، لتهمس بعدها بامتنان متحشرج
"شكرا لك يا اخي"
اومأ برأسه بدون اي حياة وهو يسحب ذراعه بعيدا عنها ، لتستلقي بعدها على السرير وهي تندس تحت الغطاء بصمت ونظراتها لا تترك ظهر الساكن بمكانه ، لتهمس بعدها بآخر كلماتها بخوف ما يزال يتربص بروحها الغائرة
"لا تتركني لوحدي ارجوك"
استدار نحوها وهو يحدق بها وقد غرقت بسبات النوم العميق بدون ان تشعر ، ليضيق بعدها عينيه وهو يلمح لمعان قطرات الدموع التي بقيت عالقة على رموشها ، تنهد بعدها بانفعال مكبوت وهو يرمي بجسده جالسا على الاريكة بتعب ، ليرفع رأسه عاليا وهو يمسد بين عينيه بأصابعه قائلا بقهر شديد
"ماذا سأفعل مع هذه المصيبة الجديدة ؟ يا لها من حياة رائعة تحيياها يا شادي الفكهاني ! وكله بسبب تلك العبارة الحمقاء التي كانوا يطلقونها عليك راحة البال والحياة الهانئة خلقت فقط لشادي الفكهاني !"
_______________________________
دخلت لغرفتها وهي تتنفس الصعداء بعد ان وصلت لأمانها واصبحت داخل حصونها المنيعة ، لتتحرك بعدها بخطوات ثقيلة بتعب هد حيلتها وهي ترتمي بلحظات مستلقية على بطنها وكأنها لم تعرف طعم الراحة يوما ، لترفع كفها بهدوء وهي تنزع رباط شعرها بقوة انتشرت معها الخصلات السوداء الطويلة بجنون حول رأسها وعلى ملاءة السرير .
كانت تدفن وجهها بقطن السرير الناعم وهي تتنفس بأنفاس متهدجة مثل الحمم البركانية ، لتغرق بدوامة الافكار السحيقة والتي سحبت لها رغم إرادتها التي خانتها بلحظة وهي تسمع صراخها المنتحب ويديها تتشبثان بذراعه برجاء باكي
"ارجوك يا عمي قيس توقف ، سيموت إذا استمريت اكثر ! ألا تراه على وشك الموت بين يديك ؟ ارجوك اتركه"
نفض ذراعه بعيدا عنها بقسوة ليمسك بذراعها بلحظة وهو يقول بشراسة قاتلة بإجرام واضح
"هل انتِ بكامل عقلك ؟ هذا المجرم جاسوس يعني خائن وحياته ستهدد حياتنا المهنية جميعا ! لذا إذا لم يعاقب الآن فلن ننجو مما سيحدث مستقبلا"
حركت رأسها بالرفض وهي تهمس بتوسل باكي
"لا ليس هو ! هو لم يرتكب اي خطأ حتى يعاقب هكذا ! انا السبب بكل هذا ، انا التي اخطئت بكشف السر امامه ، لم استطع اداء مهمتي بالشكل الصحيح ، لا تعاقبه هو عاقبني انا فقط اتركه ، اتوسل إليك اتركه"
شدد اكثر على ذراعها حتى كاد يخلعها وهو يهمس بفحيح خطير يبعث الرعشة بروحها
"انتِ عقابك لوحدك ، ولكن هذا الرجل عقابه معي وقتله هو المصير الذي ينتظره ، لذا إياكِ وان تشفقي عليه او ان تتدخلي بسير عملنا ، لأنك إذا فعلتي فقد تنضمين إليه بعقاب لن تنالي مثله بحياتك ، سمعتي يا رقيقة القلب !"
تجمدت اطرافها لوهلة وهي تحدق به بمقلتيها الواسعتين المغرقتين بالدموع الحجرية ، ليهزها بعدها بعنف اكبر وهو يتابع القذف بوجهها بصوت منفر يملئه الكراهية والشر
"إذا حاولتِ الشفقة على احدهم او اخذتك الرأفة والرحمة وطيبة القلب ، فقد يركبك بعدها ويخفض رأسكِ حتى يدفنه بالأرض ليبدأ عندها سيل التنازلات والانكسارات من هنا وتضطرين لتحمل الإذلال والإهانة بطريق طيبة قلبك التي جلبت لكِ الخضوع والمذلة ، لذا عليكِ ان تقوي قلبكِ وتجعليه ضد كل هذه التأثيرات وتغلفيه بطبقة من جليد قاسية لا تنصهر ولا تذوب امام مآسي البشر ، ضعي هذا الكلام برأسكِ جيدا واحفظيه لكي لا تعاني بحياتك ولكي لا نتعب بالتعامل مع بعضنا بسير العمل ، هل كلامي مفهوم ؟"
اومأت برأسها للأسفل بانكسار وهو يلقي بها بلحظة وكأنها دمية حتى جثت على ركبتيها بجوار الرجل الممدد ارضا ، لتزحف بسرعة بعيدا عنه وهي تنظر لوجهه المحمل بالكدمات والتشوهات حتى اختفت معالم ملامحه والدماء تغطيه بالكامل ، لترفع يديها بارتجاف وهي تغطي عينيها وجسدها يتحرك مع انينها هامسة بنحيب مهتز
"انا لست قاتلة ! لست قاتلة ، لست قاتلة ، انا السبب ، انا السبب !"
انتفضت على صوت رنين الهاتف والذي ايقظها من دوامة افكارها وسوداوية الماضي ، لترفع جسدها بإنهاك سيطر عليها وهي تستند بمرفقيها على جانبيها قبل ان ترمي بنفسها على ظهرها ، لتخرج بعدها الهاتف من جيب سترتها قبل ان تتسمر حدقتيها على هوية المتصل والذي لا يظهر اي رقم او اسم ، اجابت بعدها على الاتصال وهي تقول بجمود
"مرحبا ، من معي ؟"
غيم الصمت بينهما للحظات قبل ان يأتي الصوت البارد بغموض
"مساء الخير ، هل انتِ زوجة شادي الفكهاني ؟"
ارتفع حاجبيها بخفة وهي تهمس بعبوس مرتاب
"هل تريد مني اجابتك بهذه البساطة ؟ من تكون انت يا سيد ؟"
تجهمت ملامحها ما ان سمعت صوت ضحكة باردة وهو يتبعها بالهمس بتشدق
"ذكية جدا ، انا اكون يا عزيزتي منقذك"
اعتدلت بجلوسها ببطء وهي تهمس بتوجس عابس
"ماذا تفضلت الآن ؟"
ضحك مجددا وهو يكرر كلامه بكسل واضح
"لقد قلت بأني منقذك"
عضت على طرف شفتيها بغضب وهي تهمس من بين اسنانها بضيق منفعل
"اسمع يا هذا أياً كنت إذا لم تتوقف عن التكلم بسذاجة معي ولعب دور الأبله فأنا مضطرة لأسمعك كلام لن يعجبك ابدا ، وصدقني حتى لو كان رقمك مخفي عندي وتحاول ان تلعب معي لعبة القط والفأر فلن يمنعني عن إيجادك والوصول لك وتلقينك درس لن تنساه بحياتك ، لذا الافضل لك ان تعترف بهويتك الآن قبل ان انفذ ما برأسي ويفوت الآوان على الندم"
غيم الصمت بينهما لوهلة قبل ان يقول باتزان اكثر جدية
"حقا انتِ لا يمزح معكِ كما سمعت تماما ! وهكذا سيكون الأمر اكثر متعة وتشويقا وخاصة مع فتاة شرسة مثلك تختلف عن تلك الجبانة !"
قطبت جبينها بوجوم وهي تتمتم بعبوس حانق
"من هو الذي ارسلك لي ؟ هل هو من طرف عشيقات زوجي ؟"
ردّ عليها بلحظة بإعجاب مندهش
"يا لدهائك المثير للإعجاب ! حقا انتِ داهية ! يجب عليّ ان اصفق لكِ بهذا الذكاء الذي تملكينه....."
قاطعته فورا بضيق ثائر احتل روحها
"إذا لم تقل الآن من تكون فأنا متأسفة بأني سأغلق الخط بوجهك فقد اضعت الكثير من وقتي ! وانا اشعر بالتعب والنعاس بالفعل"
ردّ عليها بسرعة بهدوء جاد
"حسنا إذا كنتِ تريدين الدخول بالموضوع مباشرة ، انا اكون زوج وفاء السابق وقد جئت للعودة لعائلتي"
تجمدت ملامحها ببهوت لوهلة وهي ترتب تسلسل الافكار برأسها قبل ان تهمس بخفوت جاف
"إذاً انت والد الطفل عديم الرجولة والشرف والذي ترك زوجته وهرب هذا إذا سميناها زوجتك من الاصل فما يربط بينكما علاقة وهمية لا محل لها من الصحة ! ولكن الذي لم افهمه ما علاقتي انا بكل هذه القصة ؟"
تنفس بغضب وصل لها بوضوح وهو يقول بنبرة حادة بانفعال
"المشكلة هو زوجك شادي ، فهو يقف بطريقي مثل الجدار امامي ، فأنا لن استطيع الوصول لها وذاك الرجل موجود بحياة عائلتي وهو يستولي على زوجتي وابني ، اخبريني كيف سأستطيع التخلص منه واستعادة حياتي السابقة ؟ من يظن نفسه حتى يسيطر ويقيد حياتي هكذا ! ألا يستطيع ان يضع نفسه مكاني ويفكر كيف سيشعر لو حاول احدهم التدخل بحياته والاستيلاء عليها ؟"
غامت ملامحها بقتامة وهي تهمس ببرود ساخر
"انت الذي جلبت كل ذلك لنفسك عندما دمرت حياة تلك الفتاة بلعبة رخيصة لا يفعلها سوى اشباه الرجال امثالك ، وتتوقع بعد كل هذا ان يسلم لك الفتاة ويتركها تحت امانتك ! الافضل لك ان تبتعد عنه من اجل سلامة الجميع وحياتك فهو يتوعد لك بالكثير ما ان تقع بين يديه ، لذا احذرك مما ستلاقيه منه مستقبلا"
عقدت حاجبيها بحدة ما ان وصلها صوته بخفوت خطير تغيرت معه نبرة صوته
"كنت آمل ان تساعديني بمهمة ابعاده عن طريقي من اجل سلامة حياتكما الزوجية ، لأنه إذا لم يبتعد عن حياتي ولم يسلمني زوجتي وابني فأنا عندها مضطر لإيصال الامر للمراتب العليا واصحاب الشأن بهذا الأمر ، واقصد بكلامي عائلة وفاء الحقيقية والتي ما ان تعلم عن هذا الخبر وعن افعال ابنتهم سيدمرون حياة زوجك ويضعون كل اللوم عليه وسيفعلون كل ما بوسعهم لكي يتستروا ويغطوا على فضيحة ابنتهم ، ولكن المشكلة إذا عاندهم زوجك وحاول تحديهم عندها ستشن حرب بينهم لن يكون هناك خاسر سوى زوجك والمشاكل والتي ستهطل عليكما مثل وابل من المطر بسبب هذا الأمر ، لذا لما لا نختصر الطريق علينا ولا نوصل انفسنا لكل هذه الخسائر المعنوية والنفسية !"
ضمت شفتيها بجمود وهي تخفض جفنيها على عينيها لوهلة بحالة سكون ذهني اكتسح حياتها ، لتقول بعدها بلحظات بهدوء شديد لا ينم على تعبير معين
"وكيف تريدني ان اصدق كلامك هكذا ؟ لما لا تكون تكذب عليّ من اجل ان تحصل على غايتك وتستعيد زوجتك وابنك !"
ردّ عليها ببساطة بدون اي تردد
"وهل ستنتظرين حتى يحدث الأمر لتصدقي كلامي ؟ فأنا متأكد بأنكِ قد جربتي البحث عن قصة عائلتها وعن جذورها المعروفة بالبلاد ، وهم للآن ما يزالون يبحثون عنها بكل بقاع الأرض بعد الفضيحة التي سببتها لهم بهروبها خارج البلاد !"
احتدت ملامحها بلحظة وهي تهمس ببرود جليدي
"كيف تعرف كل هذه المعلومات ؟ هل انت على معرفة بهم ؟"
قال بعدها بلحظات بلا مبالاة
"قولي بأنني قد اجريت تحرياتي الخاصة ، وانا الآن انصحكِ من اجل ان تساعديني وتساعدي نفسك ، ما رأيك ؟"
زفرت انفاسها بهدوء وهي تهمس بأمر حاسم
"اعتذر منك ولكني لن اخطو اي خطوة للأمام قبل ان اتأكد بنفسي من حقيقة الأمر ، وبعد ان اتحرى بنفسي عن القصة كاملة سأفكر حينها بالقرار الذي سأتخذه ، وإياك وان تعيد اتصالك بي مرة اخرى لأني عندها لن امررها لك كما الآن وستجد نفسك عند اول شكوى بالمخفر بخصوص ازعاج النساء المتزوجات ليلاً !"
اقفلت الخط قبل ان تسمع الاجابة من الطرف الآخر وهي تدس الهاتف بجيب سترتها بجمود ، لتتنفس بعدها بإجهاد مضني وهي تتخلل خصلات شعرها بأصابعها بقوة ازدادت تدريجيا ، لتهمس مع نفسها بنشيج منهك وكأنها من صميم روحها
"لا تشفقي على احد ولا ترحمي احد ، فلم يرحمك احد منهم ، ولن يسأل عنكِ احد عندما تتدمر حياتك كما دمروها من قبل"
تحركت بسرعة بعيدا عن السرير وهي تتجه مباشرة امام الخزانة ، وما ان فتحت باب الخزانة حتى التقطت يدها تلقائيا السترة السوداء الفاخرة التي ما تزال تحتفظ بها لهذه اللحظة بدون ان تتخلى عنها او تعيدها لصاحبها .
خلعت سترتها الجلدية لترتدي السترة الرجالية بدلا عنها وهي تحتويها بالكامل مثلما يحتويها دفء شمس الربيع بمشاعرها الوليدة التي تفتحت على يديه ، لتعود بعدها للنوم على السرير وهي تعانق السترة الفاخرة التي اصبحت هي حمايتها بهذه الحياة ورفيقها بأيام غياب صاحبها والتي ستسمح لها بالنوم بسلام بدون اي ارق او كوابيس .
_______________________________
افاق من النوم على نور الشمس المتسلل من النافذة بجانبه ، ليرفع بعدها يده وهو يغطي ضوء الشمس عن عينيه حتى تسلل خلسة من بين اصابعه ، وما ان ادرك وضعه حتى انتصب من فوره وهو يجلس على طرف الاريكة بإجهاد سيطر على عضلات جسده من طريقة النوم الغير مريحة .
اخفض رأسه وهو يمسكه بيديه ليتخلل عندها خصلات شعره الفوضوية بأصابعه بقسوة علها تزيل الصداع الذي اقتحمه ، وبلحظة كان ينهض واقفا وهو يشتت نظراته بالمكان من حوله حتى وقع على النائمة فوق السرير بهدوء بدون ان تصدر صوتا ، ليشد انتباهه بلحظة الوسادة التي كانت تعانقها بين ذراعيها وكأنه طفلها ، وكم ذكرته بطريقة نوم (ماسة) رغم اختلاف الشخصيات ولكنهما قد اخذتا عن بعضهما نفس التصرفات التي تنم عن الوحدة والعزلة والألم المدفون بداخل كليهما ، لا يستطيع احد رؤيته او ملاحظته سوى من يعرفهما ويتقرب منهما .
اشاح بوجهه جانبا وهو يستغفر بصوت مكبوت ما ان تذكر زوجته التي تركها من خلفه بدون ان يشاركها هذه الليلة ، وهو خائف من ان ترتكب حماقة جديدة بغيابه لن يغطي نتائجها ولن يتأذى منها احد سواه ، ويتمنى حقا ان تكون اكثر حكمة واكثر قدرة بالاعتناء بنفسها وتتوقف عن إيلامه بهذه الطريقة وعبث كل هذا الخوف والقلق بروحه بكل دقيقة تغيب عنه ، ولا يعلم كيف سيستطيع موازنة حياته بعد اليوم عندما يكون من جهة زوجته المجنونة المليئة بالندوب والشكوك ومن الجهة الاخرى شقيقته الضائعة التي تحمل طفل بروحها ؟
حرك رأسه بصداع مزمن وهو يتجه بسرعة لخارج لغرفة ، ليصل بلحظات للحمام الخارجي والذي دخل له مباشرة ، ليقف امام صنبور الماء الذي فتحه بقوة وهو يبدأ بقذف الماء على وجهه ويديه وذراعيه ورأسه ، وهو يتوضأ بالكامل حتى يستعيد جزء من نشاطه الضائع ويرتب الافكار المبعثرة بعقله وذهنه .
خرج من الحمام وهو ينشف ذراعيه بالمنشفة بهدوء بعد ان انتعش جسده واستعاد القليل من طاقته الخائرة وهو يتمتم بالاستغفار والتسبيح والتهليل ، ليدخل بعدها لغرفة فارغة وهو يحدد اتجاه القِبلة من موقع الشمس امامه ، ليلقي بالمنشفة بإهمال وهي تحط على الكرسي بزاوية الغرفة قبل ان يستعد لأداء الصلاة .
بعدها بدقائق كان يخرج من الغرفة وهو يحدد طريقه للمطبخ ، ليتجمد بعدها بمكانه وهو يشاهد التي كانت واقفة بالمطبخ توليه ظهرها ونفسها التي رآها تغط بالنوم العميق من دقائق ، وها هي تعمل بالمطبخ بطبيعية وكأن شيء لم يحدث ! هل يعقل بأنها قد استيقظت من اوهامها اخيرا وعادت لأرض الواقع ؟
تنهد بهدوء وهو يتقدم بخطواته قائلا بصوت فاتر
"صباح الخير ، اراكِ قد استيقظتِ !"
التفتت بنصف وجهها وهي تهمس بخفوت مبتسم
"اجل لقد استيقظت قبل قليل ، فأنا لست معتادة على البقاء نائمة وقتا طويلا ، لذا قررت البدء بصنع الفطور لنا لنستطيع تناول الطعام سويا قبل ان تغادر"
وقف بالقرب من المائدة والتي كانت قد جهزت عليها اطباق المقبلات والمخللات ، ليعود بنظره لها وهو يقول بجمود بارد
"لم يكن هناك داعي لتتعبي نفسك ، فقد كنت على وشك الرحيل الآن ، ولا اريد ان اتأخر اكثر"
استدارت نحوه بسرعة وهي تهمس بابتسامة حزينة برجاء
"ارجوك ابقى قليلا ، فقط دقيقتين ويكون الفطور جاهز ، واعدك لن يأخذ من وقتك الكثير"
عقد حاجبيه بوجوم وهو يشيح بوجهه جانبا قبل ان يقول بملل واضح
"حسنا ، لا بأس"
اتسعت ابتسامتها بسعادة حتى ملئت تقاسيم وجهها الشاحب وهي تعود للعمل امامها بسرعة ، ليجلس (شادي) على الكرسي حول المائدة وهو يرجع جسده لظهر الكرسي بارتخاء ، مرت لحظات قصيرة قبل ان يقطعها قائلا بعدم اهتمام حقيقي
"هل نمتِ جيدا ؟"
ردت عليه بخفوت مبتهج
"اجل كثيرا ، شكرا لك على بقائك بجانبي هذه الليلة ، انا ممتنة جدا لوجودك بحياتي"
كان يتناول من المخللات امامه وهو يتمتم بوجوم
"اكيد عليكِ ان تكوني ممتنة فقد انكسرت عظامي بسبب النوم على الاريكة ، فقط من اجل حمايتك من مخاوفك الوهمية"
سكنت بمكانها للحظات قبل ان تتابع العمل وهي تهمس بخفوت اجوف
"هل ما تزال لا تصدق كلامي يا شادي ؟"
كان يقطع قسمة خبز وهو يقول ببرود
"لا اعلم ! لست متأكدا بعد !"
عبست ملامحها بسحابة حزينة غيمت على محياها وهي مشغولة بتقطيع الخضراوات ، ليقطع الصمت صوته الهادئ وهو يقول بغموض
"كيف تعرفتِ عليه ؟"
ارتبكت ملامحها وهي تهمس بحيرة
"ماذا ؟"
اعاد كلامه بصوت جاف لم يخفى النفور بكلامه
"انا اقصد كيف تعرفتِ عليه ؟ اين رأيته اول مرة ؟ ومن يكون !"
زمت شفتيها بارتجاف اقتحم كيانها وهي تحاول الكلام بطبيعية هامسة بخفوت
"لقد كان كمال يسكن بنفس البناية التي كنت اعيش بها ويعمل بمتجر كتب قريب من مكان السكن ، وقد صادفنا رؤية بعضنا اكثر من مرة ، وبمرور الأيام تطورت علاقتنا من الصداقة للحب والتواعد والامنيات ، ولكنه كان يحلم بالوصول لمراتب اعلى وتحسين وضعه المادي والمعنوي ، وكان قد قرر السفر لخارج البلاد والدراسة هناك من اجل ان يعود بشهادة اعلى ويتوظف بمجال افضل ، انه يكبرني بسنتين يتيم الوالدين ويعيش مع عمه والذي انفصل عنه ما ان اصبح بعمر الشباب ، وهذه كل المعلومات التي اتذكرها واملكها عنه فأنا منذ سفره لم اسمع عنه شيء وانقطعت الاتصالات منذ ذلك الوقت"
كان يومأ برأسه بشرود قاتم قبل ان يتمتم بجفاء
"وكيف استطعت الموافقة على الزواج منه عرفي ؟ ألا تعلمين مخاطر الزواج العرفي والذي لم يعد يعترف به بالمحاكم !"
تجمدت اطرافها لوهلة حتى ظهر بحركاتها بتقطيع الخضراوات بالسكين التي بدأت ترجف بيدها ، لتستعيد بعدها انضباط نفسها وهي تتابع عملها هامسة بهدوء ظاهري
"لقد كنت ساذجة وجبانة وكنت راضية بأي شيء ولو بالقليل فقط خيط امان رفيع اتمسك به قبل ان تجرفني الحياة ، ولم اعلم بأن هذا الزواج قد جرفني ودمر حياتي بلحظة ضعف سأندم عليها طيلة حياتي ، ولكن المأساة الحقيقية بقصتي بأن ذلك الزواج كان مجرد ورقة مزيفة بسبيل ان يحصل على ما يريده مني ويهرب تاركا بقايا انثى دمرتها الحياة ، يا ليت الزمن يعود للوراء لما اقترفت كل هذه الاخطاء بحياتي ولما ترددت بالاستنجاد بك ما ان اصبحت بالقرب منك ! ولكن كما قالت امي لا شيء يعود للوراء وسيبقى الندم رفيقك طول الحياة"
تلبدت ملامحه ببرود جليدي وهو يؤكل رغيف من الخبز بدون اي شهية فقط يطحنه بين اسنانه بطعم المرارة اللاذعة ، ليتوقف بعدها عن المضغ وهو يقول باقتضاب مشتد
"وهل تفكرين بالعودة له مجددا ؟ حال لو طلب منكِ العودة واعتذر لكِ عن كل الذي فات !"
تركت السكين من يدها وهي تستدير نحوه بقوة قبل ان تلوح بقبضتيها بعصبية وهي تقول باستنكار حاد
"مستحيل ان اعود له ! بعد كل الحطام الذي حولني له تريدني ان اعود له ؟ حتى لو كان آخر يوم بحياتي لن اعود له ! وليس له حق بطلب العودة مني بعد ان خدعني بالزواج الوهمي ليلقي بي بعدها مثل دمية مستهلكة ! حتى انني لست زوجته ولم اصبح كذلك ! كيف تريدني ان اسمح له بالعودة لحياتي بعد كل هذا ؟"
قطب جبينه بلحظة وهو يقول بانفعال مكبوت
"اهدأي يا ميرا ، لقد كان مجرد سؤال ولم اخبركِ اذهبي وعودي له ! وليس هناك داعي من الصراخ والدفاع بهذه الطريقة"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تخفض نظرها هامسة بخفوت مرتعش
"هل لو طلب منك ان تعيدني له تحت ضغط شديد ؟ ستفعل هذا !"
نظر لها للحظات طويلة اخذت منهما الكثير وبثت اجواء باردة بينهما قبل ان ينطق صاحب الملامح الهادئة بجمود ساخر
"بالطبع لن افعل ذلك ، فأنا ما ازال املك شرف وضمير بعد كل شيء"
رفعت رأسها بارتجاف الرهبة وهي تبتسم باتساع تدريجي لتهمس بعدها بفرح ومودة
"شكرا لك يا شادي ، انا سعيدة جدا"
ادار نظراته بعيدا بعدم اهتمام وهو يتابع اكل رغيف الخبز بيده ، لتحضر بعدها الاطباق المتبقية للمائدة وهي توزعها بترتيب بعد ان انتهت اخيرا ، وبلحظة كان يقف عن المائدة وهو يقول ببرود
"اعتقد بأنه قد حان الوقت لأغادر الآن ، فقد تأخرت كثيرا ، بالهناء والشفاء"
ردت عليه بصدمة وهي تشير بيدها للمائدة
"ولكنك لم تتناول شيئاً من الذي اعددته لك !"
تقدم امامها عدة خطوات قبل ان يربت بيده على كتفها قائلا بهدوء
"لقد تناولت الكثير من الخبز مع المقبلات واغنتني عن باقي وجبتك ، والحمد لله على نعمة الشبع ، شكرا لكِ على الفطور"
التفتت بسرعة وهي تتابع سير خروجه هامسة بعبوس مستاء
"اي وجبة يقصد ؟ انه مجرد خبز وبعض المخللات والزيتون ! كيف يقول عنها وجبة ؟"
تغضن جبينها بارتباك ما ان سمعت صوت جرس باب الشقة ، وهي تفكر من سيأتي الآن بهذا الوقت ؟
خرجت بسرعة من المطبخ مباشرة لتصطدم عندها بالمنظر امامها وهي ترى الفتى الصغير عند باب الشقة يسلم شقيقها بعض الاكياس ، لتفيق بعدها على صوت شقيقها وهو يلوح لها بالأكياس بأمر
"تعالي وخذي الاكياس مني"
تقدمت بسرعة وهي تستلم الاكياس بارتجاف لتقول بعدها بوجوم وهي تنتقل بنظرها بينهما بتشتت
"ولكني لم اطلب اي شيء ! من اين جاءت هذه الاكياس ؟ وياسر ؟"
اجابها الواقف امامها وهو يربت على كتف الفتى الصغير قائلا بجدية
"من الآن وصاعدا سيهتم ياسر بتوصيل كل ما تحتاجينه من مستلزمات وطعام وخضار وملابس يوميا ، وسيكون عند بابك كل يوم ليسألك عن الذي ينقصك وتحتاجينه ليحضره لك على الفور ، يعني هو قد اصبح رفيقك الخاص والخادم الشخصي لكِ ، سمعتي ؟"
ارتفع حاجبيها بذهول وهي تنظر له هامسة بخفوت مرتجف
"هل انت متأكد من هذا القرار ؟ اقصد بأنه سيكون تعب عليه ولا اريد ان اثقل على احد !......"
قاطعها بحزم جاد بدون اي نقاش
"هذا ما سيحدث من اليوم يا ميرا ، ولا يوجد نقاش بهذا الموضوع افضل لي ولكِ ، هل فهمتي ما اقول ؟"
اومأت برأسها بانصياع بدون ان تنبس ببنت شفة ونظراتها للأسفل ، ليربت بعدها على رأسها بحركة عابرة وهو يقول بهدوء
"حسنا ، اعتني بنفسكِ جيدا ، واي شيء يحدث معكِ اتصلي بي"
رفعت رأسها ببطء وهي تحدق بمكانه الفارغ بعد ان غادر مع الفتى الذي جاء من لحظة ، لتريح كفها على بطنها لا شعوريا وهي تمسح عليها هامسة بحنان مطمئن
"لا تقلق يا صغيري ، نحن سنبقى بأمان ما دام اخي معنا ، ولن يفرقنا عن بعضنا سوى الموت"
_______________________________
سارت بسرعة باتجاه باب المنزل وهي تعدل من وضع الوشاح فوق رأسها ، لتقف بعدها امام الباب وهي تفتحه من فورها قائلة بترحاب
"مرحبا......"
قطعت كلامها بشهقة مكتومة وهي تتسمر بمكانها ما ان وقعت عينيها على الذين ظهروا من خلف الباب وهما ابنها وزوجته والتي تعلق قلبها بها منذ الامس ، واكثر ما لفت انتباهها هي الزوجة المصابة التي كان يظهر عليها كمية الاصابات التي تعرضت لها بتلك الحادثة حتى حولتها لحمامة كسيرة تأذت اجنحتها وربطت بالضماد ، بينما كانت (صفاء) تنظر لها بالمقابل بابتسامة رقيقة مزجت بتقاسيم وجهها الناعمة واقصى ما استطاعت فعله بحالتها وكأن الابتسام اصبح مجهود مضني بالنسبة لها .
قطع الغمامة الرقيقة التي طوقت عالمهم بمشاعر دافئة الصوت الخشن وهو يقول بنفاذ صبر
"هلا فسحتِ لنا مجال لنستطيع الدخول يا امي !"
اومأت برأسها بارتباك وهي تفتح لهما الباب على اتساعه لتشير بذراعها للداخل هامسة بسعادة غامرة
"تفضلوا بالدخول يا احبائي ، وحمد الله على عودتكما سالمين"
امسك (جواد) بكفها برفق وهو يسحبها للداخل بصمت كاسر ، وما ان اصبحوا بداخل المنزل حتى وقفت الأم امامهما وهي تفرد ذراعيها هامسة بابتسامة ملئت عيونها السوداء بالدموع الحارة
"اهلا بعودتك يا ابنتي"
لم تحتمل اكثر وهي تفلت كفها من قبضته لتجري نحوها بسرعة قبل ان تلقي بنفسها بأحضانها وذراعيها تطوقان كتفيها ورأسها مدفون بوشاحها الحريري الذي تساقط عن رأسها ، بينما كانت الأم تربت بكفها الحانية على شعرها وهي تتمتم بالدعاء والرحمة بقلبها الحزين بلوعة الامومة والتي انتفضت على قطعة من روحها وضناها ، ولم تشعر كليهما بالدموع التي شكلت سيول على تقاطيع ملامحهما والتي عبرت عن المشاعر المكنونة بخلجات ارواحهما ، وهما تكملان النقص بداخل بعضهما الآخر مثل انصاف القلوب التي تنكسر وتعود لتكمل الجبر مع نصفها الآخر الذي يجبر الجرح .
كان (جواد) يشاهد من بعيد بدون ان يبادر بتعبير مقروء او بلمحة اهتمام اتجاه المشاعر الجياشة التي تفجرت بينهما بخوف من خسارة بعضهما البعض ظهر بلحظات الفراق ، وهو يفكر بألم باطني ظهر مثل الشرخ بروحه بدون ان يسمح له بالتسرب لملامح وجهه على اثر المشاعر التي تولدت بينهما واثارت احباط وسلبية طوقت حياته وهي تقصيه بعيدا عن الجميع .
ابتعدت (هيام) بسرعة عنها وهي تمسك بكتفيها لتتجول بنظرها على انحاء جسدها ، قبل ان تعود بالنظر لها وهي تهمس بعطف حنون
"هل تألمتِ كثيرا يا صغيرتي ؟ اخبريني اين هو الألم ؟ هل تعرضت للكثير من الاذى ؟"
حركت رأسها بالنفي بدموع ما تزال تهطل على محياها وهي تحرك ذراعها المصابة للأعلى هامسة بقوة ظاهرية
"لا تقلقي يا امي ، لقد اصبحت بأفضل حال ، انظري إلي لقد عدت قوية ، والاصابات لم تعد تؤلمني ابدا...."
تشنجت ملامحها ببعض الألم وهي تخفض ذراعها ببطء لتهمس بعدها بوهن مرتجف
"اجل انا بخير ، بخير جدا"
عقدت حاجبيها بوجل وهي تمسح بكفها على جانب وجهها هامسة بوجوم
"ما بكِ يا صغيرتي ؟ لما تشنجت ملامحك هكذا ؟ هل هناك ما يؤلمك ؟"
امسكت بكفها على وجهها وهي تهز رأسها بالنفي هامسة بخفوت رقيق
"لقد اخبرتكِ يا امي ، انا بخير ، ابنتك قد اصبحت بأفضل حال"
ابتسمت بحنان تدفق بتقاسيم وجهها وهي تهمس بخفوت مرتاح
"الحمد لله على عودتك لي سالمة ، لقد اخفتني عليكِ كثيرا ، لم يكن عليكِ فعل هذا وحرق قلب والدتك بهذه الطريقة ! لقد ظننت بأني فقدت ابنتي الاخرى !"
عبست ملامحها بحزن غيم على ملامحها وهي تخفض رأسها بضعف قبل ان تهمس بحزن عميق
"اعتذر يا امي ، لقد نكثت بوعدي ولم استطع العودة مبكرا كما وعدتك ، ارجوك سامحيني"
ابتسمت بسخاء الامومة وهي تربت على كتفها هامسة بمحبة
"لا بأس يا صغيرتي ، المهم هي عودتك للمنزل ورؤيتك امامي سالمة غانمة ، فهذا يعادل عندي عن صيام شهر كامل"
رفعت رأسها بتردد وهي تبتسم باتساع زينت ملامحها الناعمة بإشراق لا تشعر به سوى بوجودها ، ليقطع التواصل الامومي بينهما الصوت الهادئ وهو يقول بنبرة باردة
"سأذهب للعمل الآن ، فقد تأخرت كثيرا عليه ، لذا هل يمكنكِ يا امي الاعتناء بصفاء ؟ فهي لم تتعافى بالكامل واصاباتها ما تزال جديدة"
نقلت نظراتها لابنها وهي تقول بابتسامة واثقة بقوة
"لا تقلق عليها يا بني فأنا سأضع صفاء بعيوني ، فهي الآن قد احتلت مكان خاص بقلبي ولن ادع اي مكروه يصيبها بعد الآن ، ويمكنك الذهاب وانت مرتاح البال فقد اصبحت الآن تحت رعايتي ومسؤوليتي ولم يعد هناك داعي لوجودك معها"
تغضن جبينه بتصلب لوهلة قبل ان يقول ببرود جليدي
"جيد ، إذاً ليس هناك من داعي للكلام اكثر !"
ردت عليه من فورها بهدوء حازم
"اذهب يا جواد ، فأنا سأعتني بها واحميها من الجميع وحتى من ابني الوحيد"
استدار بهدوء بعيدا عنها وهو يهمس بجفاء
"وداعا"
تحرك بعدها باتجاه باب المنزل وهو يسمع كلامها الاخير بهدوء جامد
"رافقتك السلامة"
التفتت (صفاء) بنصف وجهها وهي تشاهد آخر سراب منه وهو يغلق باب المنزل من خلفه بهدوء شعرت بها تهز كل اعضاء جسدها وهي تصدر صدى بروحها ، لتشعر بعدها بكف حانية تمسك بذراعها السليمة برفق وهي تقول لها بحنان
"تعالي يا صفاء لتتناولي فطورك ، لقد اعددت لكِ من كل اصناف الوجبات المفضلة لديكِ والتي تحبينها كثيرا ، فأنا اعلم جيدا بأنكِ تتضورين جوعا وخاصة بأن طعام المشافي لا يؤكل"
حاولت الاعتراض قبل ان تسبقها التي سحبتها معها باتجاه المطبخ بدون ان تنتظر ردها ، وما ان وصلت امام المائدة حتى اجلستها على الكرسي بهدوء وهي تشير بأصبعها هامسة برقة
"انتظريني دقيقة واحدة ، لأحضر باقي اصناف الطعام ، وإياكِ وان تتحركي من مكانك ، مفهوم ؟"
اومأت برأسها بطاعة بدون ان تبدي اي اعتراض اختفى مع اصرارها الامومي والذي غمرها بمشاعر دافئة ، لتتحرك بسرعة بعيدا عنها وهي تخرج الاطباق الخزفية من الخزائن قبل ان تقول بحزم جاد
"كيف كان معكِ جواد بالمستشفى ؟ هل عاملك بلطف ام كان فظ معكِ كعادته ؟ هل رافقك طول الليل بالمشفى ام تخلى عنكِ ؟ اخبريني يا عزيزتي بكل شيء وانا سأهتم بتوبيخه وعقابه إذا كان قد اخطئ معكِ"
ضمت يديها فوق سطح الطاولة وهي تهمس بابتسامة شاردة بهدوء
"لا يا امي لم يفعل اي شيء مما تفكرين به ، وقد رافقني بالمشفى طول الليل حتى تأكد من اوراق خروجي ومعاينة اصاباتي من الطبيب ، وهذا قبل ان نعود معا للمنزل بسيارته ، وقد كان رفيق مسعف جيد معي"
استدارت نحوها بالكامل وهي تلوح بالطبق بيدها قائلة بجدية نافذة
"هل انتِ متأكدة من كلامك يا صفاء ؟ ألا تحاولين التستر على افعاله بكلامك !"
ضحكت بخفوت مرح وهي تهمس بابتسامة بريئة
"صدقيني يا امي هذه الحقيقة ، وإذا لم تصدقي اسأليه بنفسك"
تألقت ابتسامتها بحنان وهي تتابع عملها بسكب الطعام بالأطباق هامسة بمحبة
"اصدقك يا صغيرتي ، فأنا اعلم جيدا بأن ابنتي لا تكذب"
ابتسمت بحياء لون وجنتيها بوردية طبيعية وهي تنظر لها وهي تعطيها ظهرها ، ليشد سمعها صوتها الحنون الذي لا يفسده سوى نبرة الحزن بنغمة صوتها وهي تقول بجدية
"اخبريني يا صغيرتي كيف حدث معكِ الحادث ؟ فلم استطع ان اعرف اي تفاصيل من جواد فهو دائما كتوم ولا يبوح بأي اسرار !"
تجمدت ملامحها بشحوب وهي تخفض نظرها هامسة بابتسامة هاوية
"لم يحدث شيء خطير ، فقد كان كل شيء بسبب تهوري وانعدام مسؤوليتي ، فأنا التي عرضت نفسي للخطر عندما وقفت امام السيارة لأبعد طفلة عن الطريق حتى حدث بيننا تلامس طفيف ادى للسقوط ارضا ، ولا اذكر بعدها اي تفاصيل اخرى"
توقفت عن العمل للحظات وهي تهمس بعتاب غاضب
"إذاً كل هذا التهور من اجل انقاذ طفلة ! وانا التي كنت اموت من الخوف عليكِ بكل دقيقة انتظار تمر عليّ ، ليتبين بأن كل شيء قد حدث بسبب إهمالك وتهورك ! لقد كان عليّ حبسكِ بغرفتك واغلاق الباب عليكِ لكي لا تقدمي على مثل هذه الحماقة ! فقد اكتشفت الآن بأنكِ لست اهل للاعتناء بنفسكِ والانتباه على حياتك !"
نظرت لها بعينين واسعتين بصدمة وهي تهمس بخفوت متبرم
"سامحيني يا امي ، انا......."
قطعت كلامها وهي تستدير نحوها بلحظة حاملة الاطباق بيديها وهي تهمس بممازحة
"كنت امزح معكِ يا ابنتي ، فأنا اعرف بأنكِ تملكين قلبا طيبا رحيما ومحبا ، وهذا كله من تدابير القدر لكِ ، لذا علينا ان نحمد ربنا ونشكره على عودتك لنا ، ولكن مشكلتكِ الصغيرة هي تفكيرك المتهور والذي يوقعك بمثل هذه المصائب !"
ابتسمت بإحراج وهي تعيد خصلات شاردة من شعرها لخلف اذنيها ما ان وصلت امامها وهي توزع باقي الاطباق على المائدة ، وما ان انتهت حتى زفرت انفاسها براحة وهي تعيد الوشاح لفوق رأسها بإحكام ، لتقول بعدها ببهجة وهي تنظر لها بابتسامة امومية
"هيا يا ابنتي ابدئي بتناول الطعام قبل ان يبرد ، وإياكِ وان تتركي شيء من وراءك ، فأنا اريدكِ ان تنهي كل هذا الطعام امامك"
ارتفع حاجبيها بارتباك وهي تتجول بنظرها على كل اصناف الطعام المرصعة على الطاولة ، لتهمس بعدها بابتسامة حزينة
"ما كان عليكِ ان تتعبي نفسكِ بهذا الشكل يا امي ! فأنا لست جائعة لهذه الدرجة حتى انهي كل هذا الطعام ! لقد بذلت مجهود كبير بتجهيز كل هذه الوجبات بالصباح بدون اي مساعدة"
جلست على الكرسي المقابل لها وهي تهمس بابتسامة هادئة بحنية
"لا تهتمي لكل هذا يا ابنتي ، فأنا عندي تعبكم راحة عندما يكون نابع من قلبي المتعلق بفلذة كبدي ، وايضا لقد تعبتِ كثيرا من اخذ دور طاهية المنزل والاهتمام بالوجبات الرئيسية ، لذا سأستعيد عملي السابق واهتم بكل الوجبات والتأكد من تناولكِ لها بانتظام ، وإياكِ والاعتراض على شيء فهذه ستكون اوامر والدتك الجديدة ، ولكي لا اعود للفكرة الأولى بحبسك بالغرفة واغلاق الباب عليكِ ، هل كلامي مفهوم ؟"
اومأت برأسها بقوة دمعت عيناها وهي تمسك بالملعقة امامها هامسة بابتسامة رقيقة
"بالطبع سأفعل كل شيء تأمرني به امي ، فكل شيء يهون ألا عصيانك !"
فكت قيود ابتسامتها الحانية وهي ترى التي بدأت بغرف الارز بالملعقة لتتناول الطعام امامها بشهية انفتحت فجأة وكأنها لم تضع شيء بفمها منذ سنوات ، لتحرر انفاسها المحصورة بروحها على مرأى رؤيتها وهي تستمتع بمراقبتها بمتعة لم تشعر بها منذ وقت طويل وتحديدا منذ مفارقة ابنتها وفقدانها بعمر صغير جدا تاركة الشرخ بحياتها لم يندمل للآن .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن