كانت تتلاعب بالطعام بطبقها بالملعقة بشرود وهي جالسة حول طاولة الطعام مع العائلة وتستمع لهدر من النصائح والتي كانت تلقيها والدتها على اسماع ابنها الثالث ورجل العائلة الوحيد والذي يبلغ من العمر عشر سنوات ، وكل آمالهم بالحياة معلقة به ليستطيع حمل كل اثقال واعباء العائلة بالمستقبل ونقل عمل العائلة للقمة ، ولكنها ترى عكس ذلك تماما فماذا سيخرج من طفل الألعاب الإلكترونية وهو يدمن عليها اكثر من حياته وكل شيء يتمناه يصبح بين يديه قبل طلبه ! حتى اضطروا بالنهاية لشراء نظارة طبية صغيرة خاصة به على طفل بالعاشرة من عمره !
صرخ شقيقها (يامن) وهو يقول بتذمر شديد
"هذا يكفي يا امي ، اريد الذهاب للعب فقد انتهيتُ من تناول الطعام بالفعل"
كانت والدته على وشك الاعتراض بغضب قبل ان يسبقها والده والجالس على رأس المائدة وهو يقول بوقار
"اتركيه يفعل ما يشاء يا جويرية ، فهو لم يعد طفلا صغيرا لتتحكمي بتصرفاته"
تحرك الطفل بسرعة وهو ينهض عن مقعده لينطلق بعيدا عنهم قائلا بمرح بالغ
"شكرا يا ابي"
تجهمت ملامحها وهي تلتفت نحو زوجها قائلة بعدم رضا
"هذا الوضع غير مقبول ابدا ، إلى متى سيبقى متعلق هكذا بتلك الألعاب السخيفة والتي اخذت عقله بالكامل بدون ان يهتم بدراسته او بأمور أخرى غير اللعب ؟!"
ردّ عليها زوجها ببساطة بالغة وهو يحرك رأسه باتزان
"لا بأس فهو ما يزال صغيرا ويريد ان يعيش حياته وسنه ، وعندما يكبر قليلا سيكون عندها لكل حادثٍ حديث"
اعادت (جويرية) نظراتها للطبق امامها ببرود بدون ان تعلق على كلامه ، ليتابع بعدها كلامه وهو يقول بتفكير
"هل عادت سلوى لبيت زوجها ؟"
امسكت (جويرية) بطبق ابنها الصغير لتسكب الأرز المتبقي منه بطبق منفرد يحتوي بواقي الطعام من العائلة وهي تقول بهدوء
"اجل لقد غادرت بمنتصف النهار مع السيارة الخاصة والتي اتت من عائلة زوجها لتوصلها للمنزل"
قال بعدها بلحظات وهو يعقد حاجبيه بحيرة جادة
"ولكن زيارتها هذه المرة قد طالت كثيرا عن السابق ، كان من المفروض ان تعود لعائلة زوجها منذ ايام ، فهذا التصرف غير لائق ابدا امام عائلة زوجها وامام المجتمع !"
وضعت (جويرية) الطبق مكانه بصمت بدون ان تخبره بالذي حدث قبل مغادرة (سلوى) مع السائق وهي تصر على عدم العودة لبيت زوجها قبل ان يأتي بنفسه لها ويعتذر منها عما حدث ، ولكنها مع ذلك ارغمتها على الذهاب مع السائق والتفاهم مع زوجها بمنزله بدل الهروب هكذا كالجبناء والسماح للعالم بتشويه سمعتها بالقيل والقال !
قالت (جويرية) بعدها بلحظات بابتسامة هادئة وهي تضم قبضتيها معا بتحفز
"بالمرة القادمة سأتأكد من ان لا تطول زيارتها اكثر من اللازم ، ولا تقلق من كلام الناس فلن يتجرأ احد على قول كلمة تسيء لبنات العائلة ولسمعتهن"
اومأ برأسه بالإيجاب بدون اي كلمة ، بينما كانت (غزل) تستمع لكلامهم بعدم مبالاة وهي مشغولة بتناول طعامها بوجوم ، ليقول بعدها والدها بجدية يحول الحوار نحوها وهو يضع الملعقة جانبا
"اسمعي يا غزل ، لقد تقدم صديق لي بالعمل بطلب يدكِ مني لابنه البكر ، وهو الآن ينتظر ردي على طلبه ، فما رأيكِ....."
ردت عليه (غزل) فجأة بانقباض مشتد
"اعتذر ولكني غير موافقة"
تجمدت ملامح والدها بدون ان يتأثر برفضها وهو ينظر لها بتركيز ، لتتدخل بعدها والدتها وهي تقول بخفوت حاد
"إلى متى ستبقين ترفضين كل عروض الزواج والتي تصل لكِ ؟ ام تفكرين بقضاء طيلة حياتكِ وحيدة بدون زواج وبدون تكوين عائلة مثل شقيقتك الكبرى !"
حادت بنظراتها نحو والدتها وهي تهمس باقتضاب
"وهل تظنين بأن سلوى سعيدة بزواجها ؟"
عبست ملامحها بحدة لوهلة وهي تنظر لها بتصلب لتقول بعدها بابتسامة قاسية
"ولكن زواجها يبقى افضل من عرض الزواج الرخيص والذي لا يستحق الذكر ، وانتِ توقفين حياتكِ بأكملها فقط من اجل شخص واحد ليس من مقامنا ولا من مستوانا حتى ! وان كنتِ انتِ تسمحين لنفسكِ بالنزول لهذا المستوى المنحط فنحن لا نسمح ابدا ولا نقبل ! فلا تنسي بأن هناك دائما فروقات بين من يعيش على الأرض ومن يعيش على السماء"
زمت شفتيها بارتجاف وهي تنظر لوالدتها بدون اي تعبير وحدقتيها تلسعانها بنار تأبى التوقف بداخلها حتى تحرقها بالكامل وتختفي من هذا العالم القاسي والذي لم يعطها اي لمحة من السعادة منذ ولادتها مشوهة الروح والقلب ، قصف بعدها صوت والدها وهو يقول بأمر صارم
"يكفي كلام يا جويرية ، لا اريد سماع اي شيء عن هذا الموضوع ، فقد مات بأرضه وانتهى منذ زمن"
امتعضت ملامحها وهي تعود لسكب الطعام بالأطباق بنفس الطبق المنفرد بصمت ورتابة وهي تقرع بالملعقة على الصحون بقوة ، لتقف (غزل) عن مقعدها بهدوء وهي تتنفس بنشيج حزين قبل ان تهمس بخفوت مشتد
"سامحني يا ابي ، ولكني لا افكر ابدا بالزواج بهذه الفترة ، واعتذر إذا كنتُ اسبب لكما اي نوع من الإحراج امام الناس وسماع الكلام المسيء منهم ، والآن عذرا !"
غادرت بخطوات خافتة بعيدا عن طاولة الطعام بدون ان تنتظر اي تعليق منهما ، ونظرات والديها تلاحقانها بتركيز حتى اختفت عن نظرهما تماما ، ليقطع بعدها الصمت صوت (جويرية) وهي تقول بيأس
"حالة هذه الفتاة لا تعجبني ابدا !"
ردّ عليها زوجها وهو ما يزال شارد بمكان اختفاء ابنته بهدوء
"اعطيها وقتها يا جويرية ولا تحاولي الضغط عليها ، وانا متأكد بأنها ستتحسن لوحدها فبعد كل سقوط ستعود للوقوف اقوى من قبل ، وهكذا هي ابنتي"
____________________________
كانت تجلس على طرف السرير وهي تعض على طرف شفتيها بغيظ مشتعل مما يحدث من حولها وبعد ان ارغمت على العودة لمنزل زوجها صاغرة ، وهي التي عاهدت نفسها بأنها لن تعود إليه قبل ان يطلب منها السماح على ما فعله معها ، ولكن بالنهاية لم يحدث شيء مما كانت تفكر بفعله وعادت بدون ان تحصد اي نتائج من فعلتها وغيابها الطويل عن المنزل لم يجلب لها اي فائدة ، وحتى انه لم يحاول اي احد السؤال عنها بطول الفترة والتي لازمت بها منزل عائلتها وكأن وجودها لا يشكل اي فارق بالنسبة لهم ، وهذا هو المتوقع عندما تكون تلك الساحرات قد حصلوا على نصيبها من كل الاهتمام والحب بالعائلة .
زفرت انفاسها بابتسامة ناعمة ما ان سمعت صوت دخول احدهم للبهو الخاص بجناحهما ، وما هي ألا لحظات حتى انفتح باب الغرفة ليطل منه زوجها بكل ضخامته ووسامته الرزينة وهو يتنقل بنظره بالغرفة بهدوء قبل ان تقع نظراته عليها لتتجمد بريبة وكأنه يتأكد مما يراه امامه ، ليغلق بعدها باب الغرفة من خلفه بحذر وهو يحرك عينيه بعيدا عنها ببرود .
تقدم (احمد) بخطواته باتجاه طاولة الزينة ليقف امامها وهو يخلع الساعة عن معصمه بصمت ، بينما نظرات (سلوى) تتابعه بتجهم وهي لا تصدق بأنه قد تجاهلها ببساطة بدون حتى ان يلقي عليها السلام كعادته عندما يعود من العمل ولو كان بأشد لحظاته سوءً !
تبرمت شفتيها بغضب وهي تهمس بجفاء
"لقد عدتُ للمنزل إذا كنت لم تلحظ ذلك"
طال الصمت بينهما قبل ان يقطعه (احمد) وهو يقول بجمود ساخر ناظرا لها من المرآة
"مرحبا بعودتكِ ، كأنكِ اطلتِ بالغيبة علينا هذه المرة ام ان المكوث عند عائلتكِ قد اعجبكِ كثيرا !"
عبست ملامحها وهي تستمع لنبرته المعاتبة بصوته وهذه طريقته الخاصة بمعاقبة اي احد اساء إليه ، لتهمس بعدها بتصلب خافت
"لقد كنتُ انتظر قدومك لتأتي وتأخذني معك من عند عائلتي ، ولكنك لم تفعل"
كان (احمد) يفك ربطة عنقه برفق قبل ان يلقي بها فوق طاولة الزينة قائلا بجمود حاد
"ولما أليس سائقكِ الخاص هو الذي ذهب بكِ لمنزل عائلتك واحضركِ منه ؟ إذاً ما فائدة مجيئي لمنزلكِ واضاعة الوقت بما ان السائق موجود !"
ردت عليه بغضب مكتوم
"ولكن عائلتي كانت ترغب بزيارتك لها لأنك لم تعد تأتي لمنزل عائلتي ألا نادراً ، وانا قد اشتقتُ كثيرا لزياراتك واصطحابك لي بسيارتك"
اخفض (احمد) ذراعيه بقوة وهو يقول بعصبية بالغة
"ما هذه الترهات الجديدة والتي تتفوهين بها ؟ ام انكِ اصبحتِ تستمتعين كثيرا بإغضابي ! فليس هناك اي امرأة عاقلة تسعى لإغضاب زوجها بهذا الكلام التافه ، وانتِ اعلم الناس بظروف العمل والتي تمنعني من زيارة اي أحد !"
ردت عليه (سلوى) بابتسامة ساخرة بانفعال
"وكيف ستبقى اي زوجة عاقلة وهي ترى زوجها يهينها ويفضل امرأة اخرى عليها وقد تصادف بأنها ابنة مجرم حقير ؟"
صرخ (احمد) فجأة بيأس وهو يرفع يده لجبينه ليمسده بغضب
"اخرسي يا سلوى ، حقا الكلام معكِ لا يجدي نفعاً ابدا !"
تنفست (سلوى) بارتجاف وهي تفكر بتوجس بالغباء والذي نطقت به للتو بعد ان عادت للمنزل مرة أخرى وها هي تعيد نفس الخطأ السابق مجددا ، ولو علمت والدتها بفعلتها لوبختها بشدة على حماقتها وعنفتها بقوة ! فيبدو بأنها لم تتعلم شيئاً من خطئها السابق وكيف ستمسك نفسها ولسانها وهو ما يزال يعاملها بكل هذا الجفاء والذي يكاد يقضي عليها !
نهضت (سلوى) عن السرير ببطء متشنج قبل ان تجري بسرعة نحوه لتعانق خصره من الخلف بذراعيها وهي تقول برجاء متوسل
"سامحني يا احمد ، فأنا لم اقصد ان اغضبك من كلامي المتهور والمجنون ، ولكن مشاعر الغيرة هي التي تتحكم بي ، لذا اقول كلام لا انتويه ولا اعلم كيف يخرج مني"
ابعد (احمد) ذراعيها عن خصره بهدوء وهو يستدير نحوها بتجهم ليقول عندها بغموض وهو يفلت ذراعيها برفق
"انا لستُ غاضبا منكِ ولم اطلب سماحكِ ، ولكن كل الذي اريده واتمناه منكِ هو ان تتصرفي كأي امرأة عاقلة محترمة بدون ان تقلل من مستوى احد من افراد العائلة ، وهذا الكلام ينطبق على بنات عمتي مايرين ، لذا إياكِ وان اعرف بأنكِ قد عدتِ لمضايقتهما بكلامكِ او حاولتِ التقليل من شأنهما بأية طريقة"
زمت شفتيها بعبوس وهي تهمس باستنكار
"ولكن..."
قاطعها (احمد) وهو يشدد على كلامه بصرامة خافتة
"هل كلامي مفهوم ؟"
امتعضت ملامحها وهي تومأ برأسها بالإيجاب على مضض ، ليتنفس بعدها براحة وهو يبعد نظراته بعيدا عنها بهدوء ، شعر بعدها بلحظات بكفين مستريحتين على صدره وهي تتلاعب بأصابعها بأزرار قميصه والمفتوحة عند مقدمة صدره قائلة بدلال مصطنع
"ألم تشتق لي يا حبيبي ؟ فأنا قد اشتقتُ إليك كثيرا !"
تشنجت ملامح وجهه وهو يمسك بكفيها ليخفضهما بعيدا عن قميصه قائلا ببرود
"عليّ الذهاب لأخذ حمام والنوم باكرا فأنا لدي غدا يوم حافل بالعمل ، لذا عذرا منكِ"
ترك كفيها ليسير بعيدا عنها باتجاه الخزانة والتي تحتل الجدار بأكمله وهو يخرج منها قطع ملابس مريحة للنوم قبل ان يكمل سيره نحو الحمام الملحق بدون ان يهتم بنظراتها الذاهلة ، ليغلق بعدها باب الحمام الملحق بوجهها قبل ان تعبس ملامحها وهي تتلقى رفضه العلني لها لأول مرة وكأنها لم تعد مرغوبة بالنسبة له ، وهذا يعني بأنه قد يكون الآن يبحث عن غيرها لتستطيع التعويض عنها وسد حاجته فما كانت تملكه وتجذبه نحوها قد خسرته بالفعل ولم يتبقى لها شيء الآن لتتفاخر به وتعلق زوجها به كما كانت تفعل بالماضي !
__________________________
كانت تتنقل بالمكتبة بهدوء وهي تنظر لصف من الكتب المرصوصة بجانب بعضها البعض ، واصبعها يتلمس الكتب امامها بشرود حائر فقد استعارة من هذه الكتب من قبل ولم يتبقى منها لم تجرب قراءته والتهامه بنهم كما تفعل عادةً مع بقية الكتب بحوزتها وجميعها من النوع الخيالي الحالم والبعيد كل البعد عن الواقع ، لتنقل بعدها نظراتها لصف آخر من الكتب قبل ان تقع على مجموعة جديدة من الكتب تراها لأول مرة ويبدو بأنها رزمة جديدة اضافوها لرفوف المكتبة مؤخرا بما انها لم تزر المكتبة منذ اسابيع طويلة .
توقف اصبعها الصغير على كتاب من بين المجموعة ذات غلاف محمر ملفت للنظر ، لتخرجه عندها بحذر من بين الكتب الأخرى قبل ان ترفعه لأمام نظرها وهي تقرأ العنوان الواضح بخط عريض وبنفس اللون المحمر
"جحيم الحب"
رفعت نظراتها العسلية بهلع لصف الكتب والذي بدأ يتساقط الواحد تلو الأخرى تباعا ومنها كان يتساقط داخل الرف بدون ان يقع ، لتخفض بعدها نظراتها لمجموعة الكتب والتي سقطت امام قدميها بعد ان سقط آخر كتاب من الرف بهدوء ، سكنت بمكانها للحظات قبل ان تشهق بجزع وهي تتلفت من حولها لتتأكد بأنه لم يشهد احد على الفاجعة والتي حدثت معها الآن ، لتجثو بعدها على ركبتيها وهي تلتقط الكتب بكفيها بتوتر شديد ومنها كانت تمسح على غلافه بكم قميصها برفق خوفا من ان يكون قد تلوث بالأوساخ والأتربة .
تجمدت بمكانها وهي تلمح ظل احدهم بجانبها قبل ان ينحني على ركبتيه وهو يلتقط الكتب الساقطة معها بصمت ، لتهمس بعدها بابتسامة مرتجفة بتوجس
"لا داعي ، استطيع فعلها لوحدي بدون مساعدة"
استقام بوقوفه بعيدا عنها وهو يقول بصرامة هادئة
"لا بأس ببعض المساعدة فأنتِ لن تستطيعي حل مشكلتكِ والتي تسببتِ بها لوحدك ، لذا انتِ الآن تحتاجين لي وبشدة !"
عبست ملامحها بارتجاف وهي تشعر بإهانة غير مباشرة تصلها بصوته بدون ان تستطيع تحديدها وهي تنظر لظهره وهو يرتب الكتب من على الرف بحذر ! لترفع بعدها حاجبيها البنيين بصدمة وهي تهمس بانشداه
"الاستاذ جواد !"
التفت نحوها ببرود وهو ينظر لها من علو قبل ان ينحني بجذعه ليصل لمستواها وهو ينظر لوجهها بتركيز ارهبها ولا يفصله عن وجهها سوى شعرة واحدة وقد بدأت تشعر بأنفاسه تضرب ملامحها بسخونة اشعلتها ، وما ان فتحت شفتيها بارتجاف تنوي الكلام حتى سبقها (جواد) وهو يسحب الكتب من بين ذراعيها برفق وقد كانت يديه تحتك بكفيها بوضوح ، لتخفض بعدها ذراعيها بسرعة بعيدا عنه وهي ترجعهما لخلف ظهرها بحركة دفاعية غير مقصودة ، بينما ابتسم (جواد) ببرود وهو يراقب تشنجها الواضح ليستقيم بوقوفه بعيدا عنها قبل ان يلتفت للرف ليرتب الكتب المتبقية معه بمكانها كما كانت .
ابتلعت (صفاء) ريقها برهبة وهي ترفع كفها لترجع خصلات شعرها البنية لخلف اذنيها بارتباك ، لتتلفت بعدها من حولها بتشوش وهي تبحث عن الكتاب والذي كان بحوزتها منذ قليل .
وقفت بعدها بلحظات على قدميها باهتزاز وهي تنظر بكل الاتجاهات بدون ان تجد له اي اثر ، لتنتفض عندها بصدمة ما ان اخترق صوت (جواد) غمامتها وهو يتمتم بغموض
"جحيم الحب ، اسم مميز جدا ! ولكن هل هو موجود بالواقع ام لا ؟"
رفعت نظراتها بارتباك نحو الذي استدار نحوها وهو يمسك بالكتاب والذي كان بحوزتها ، ليرفعه بعدها باتجاهها وهو يقول بابتسامة متصلبة
"هذا الكتاب لكِ"
رفعت (صفاء) يديها بسرعة لتلتقط الكتاب منه بلمح البصر وهي تهمس بامتنان
"شكرا جزيلا لك"
وبعد كلماتها استدارت من فورها بعيدا عنه وهي تسير بخطوات سريعة متعثرة نحو طاولة المحاسب بعيدا عن الغمامة الخانقة والتي تحوم من حولها ما ان تراه امامها بكل ما يحمل من غموض وهدوء وكأنه يعمل مع المخابرات ليتجسس على حياتها .
خرجت بعدها من المكتبة وهي تتنفس براحة بعد الضغط والذي تعرضت له بالداخل ، لتنظر بعدها للكيس البلاستيكي بيدها والذي يحوي الكتاب الجديد ذو الغلاف المحمر ، وما ان سارت بعيدا عن المكتبة عدة خطوات حتى شعرت بقوة تمر بمحاذاتها بسرعة الريح لينتشل منها حقيبتها قبل ان تقع ارضا بقوة ، لترفع بعدها نظراتها بوجل للغبار والذي خلفه من وراءه وقد تبين بأنها دراجة بخارية وشخص يركب من فوقها وهي من مرت بجانبها منذ لحظة ، اخفضت نظراتها بسرعة وهي تتلمس ذراعها بارتجاف بعد ان سرقت منها حقيبتها بفعل صاحب الدراجة .
انتفضت (صفاء) واقفة على قدميها وهي تصرخ ببكاء منتحب
"لقد سرق مني حقيبتي ! ذلك اللص ، امسكووووه !"
شعرت بعدها بيد تمسك بذراعها برفق وصوت (جواد) يقول بحيرة جادة
"ماذا هناك ؟ لما تبكين ؟"
التفتت (صفاء) بسرعة نحوه لتمسك بذراعه بيد وهي تشير له بيدها الأخرى بعيدا قائلة بتوسل باكي
"صاحب الدراجة ذاك سرق مني حقيبتي ، ارجوك اعدها لي...."
صمتت (صفاء) وهي ترتجف ببكاء مرتعش حتى غصت بأنفاسها السريعة ، بينما ابعد (جواد) كفها عن ذراعه ليتجاوزها بعدها وهو يجري بعيدا عنها بسرعة ليختفي عن نظرها بلمح البصر وهي لا تصدق مدى سرعته بالجري وهيئته الرياضية وكأنه لاعب رياضي مشهور معتاد على الجري السريع لأمتار طويلة ؟
اخفضت (صفاء) نظرها للأسفل بإحباط وهي تستند بعامود الإنارة بيدها بتشبث لكي لا تقع على وجهها وتصبح بمصيبة أخرى ونظراتها العسلية الحزينة تتنقل بين الأرض امامها وبين مكان اختفاءه كل حين ، لتبتسم بعدها بسخرية وهي تعلق آمالها بذلك الشخص الغريب والذي يصر دائما على السخرية منها بكل مرة تتقابل فيها معه ! وهي لا تعلم للآن ماذا فعلت له ليعاملها بهذه الطريقة الغريبة ؟
اتسعت حدقتيها العسليتين بكامل استدارتهما وهي تنظر للقادم من بعيد بنفس المكان والذي غادر منه ، لتتسع ابتسامتها تلقائياً وهي تنظر لحقيبتها والتي كان يمسك بحزامها بقبضته بجانب جسده الرياضي والقادر على الركض لأميال طويلة وهذا ما اثبته لها الآن ، وهو يبدو امامها بهذه اللحظة بالذات مثل ابطال الحكايات والتي تقرأها من الكتب عندما تستغيث البطلة بمنقذها ليلبي ندائها بحكاياتها الخيالية .
وقف (جواد) امامها بهدوء وهو ينظر بتجهم لبريق السعادة والذي يراه لأول مرة وهو يحتل حدقتيها العسليتين بانبهار غريب ، ليرفع بعدها قبضته الممسكة بالحقيبة نحوها وهو يقول بهدوء بالغ
"هذه حقيبتكِ المسروقة ، صحيح ؟"
اومأت (صفاء) برأسها بالإيجاب بسرعة وهي ترفع يديها لتلتقط الحقيبة منه قبل ان تفتح سحابها بارتجاف وهي تتأكد من وجود كل محتوياتها بداخلها كما وضعتها ، لتسمع بعدها صوت (جواد) وهو يقول ببرود ناظرا لها بانتباه
"هل كل اغراضكِ بداخلها ؟ هل ينقصها شيء ؟"
رفعت (صفاء) نظراتها نحوه بهدوء وهي تحرك رأسها بالنفي قائلة برقة ممتنة
"لا كل شيء موجود بداخلها ، وهذا كله بفضلك انت ، شكرا جزيلا لك استاذ جواد ، لا اعلم كيف ارد لك جميلك بالذي فعلته من اجلي !"
حفرت ابتسامة قاسية على شفتيه وهو يتمتم بغموض
"لا بأس اتركيها للأيام ، فنحن لا نعلم ما نوع الظروف والتي تنتظرنا بالأيام القادمة !"
لم تنتبه لكلامه بل لم تعره اهتماما وهي تضع حزام حقيبتها فوق كتفها بهدوء وابتسامة متسعة ما تزال تحتل ملامحها ببريق السعادة الجديد ، لتقول بعدها بحيرة وهي تنظر له برقة
"لم تخبرني استاذ جواد ، كيف استطعت الإمساك بصاحب الدراجة بهذه السهولة ؟ وقد كان يبدو سريعا جدا بسرعة الريح وليس من السهل اللحاق به !"
كان (جواد) ينظر لها بهدوء للحظات قبل ان يتمتم بابتسامة باردة
"لا استطيع اخباركِ فهذا سر يخصني وحدي ، ولن يكون سرا إذا اخبرتكِ به يا صفاء"
اهتزت ابتسامتها وهي تعبس بوجوم بدون ان تفهم ماذا يقصد بكلامه وكأنها قد طلبت منه ان يفشي لها معلومات تخص اسرار الدولة وليس عن حادث بسيط يخص ملاحقة لص ؟ عادت بنظراتها نحوه بتوجس ما ان قال بخفوت مبتسم
"لقد عادت الحقيبة لكِ ، إذاً لما ما تزال الدموع تحتل اطراف عينيكِ ؟"
رفعت كفها بسرعة وهي تمسح خديها وعينيها بقوة امام نظراته الشاردة ، لينحني بعدها امامها وهو يلتقط الكيس البلاستيكي والذي يحوي كتابها من على الأرض قبل ان يعود ليستقيم امام نظراتها الذاهلة ليمد ذراعه الأخرى وهو يمسك بكفها قبل ان يضع الكيس براحة كفها بصمت ، قال بعدها بهدوء وهو يغلق راحة كفها بقبضته ذات الأصابع الطويلة بقوة
"انتبهي على نفسكِ يا صغيرتي"
كانت (صفاء) تتنفس بارتجاف متشنج من ملمس يده على راحة كفها لتبعد عندها يدها بعيدا عن قبضته وهي تشيح بنظرها جانبا بارتباك واضح ، ليتراجع بعدها بخطواته بعيدا عنها وهو ما يزال يبتسم لها بغموض قبل ان يستدير وهو يسير بنفس الطريق والتي جاء منها قبل قليل مثل بطل الحكايات ، لتعود بعدها لرفع نظراتها نحوه ببطء وابتسامة صغيرة اعتلت جانب شفتيها الورديتين بحالمية وقد تحولت حكاياتها الخيالية لحقيقة متجسدة امامها .
_____________________________
كان يسير بممرات الشركة وهو يمسك بالملف بيده ناظرا له بتركيز ، ليصطدم بعدها بفتاة التوصيل والتي كانت تحمل صينية تحوي على اكواب القهوة وقد انسكب قطرات منها على سترته السوداء ، ابعد نظره عن الملف وهو ينظر لسترته بهدوء واجم وللقطرات المنتشرة على سترته بوضوح ، بينما قالت الفتاة امامه بتلعثم مرتجف
"انا اعتذر سيد احمد ، لقد كنتُ...."
قاطعها (احمد) وهو يقول بابتسامة هادئة بدون ان يتأثر بما حدث
"لا بأس اهدئي ، ليست بالمشكلة الكبيرة فأنا املك الكثير بمنزلي من امثال هذه السترة ، لذا لا داعي لكل هذا الجزع"
تنفست الفتاة بهدوء وهي تحرك رأسها قائلة بأسف شديد
"انا اعتذر حقا ، لم انتبه !"
كان (احمد) يتلمس البقع الصغيرة المنتشرة على سترته بيده وهو يقول ببرود جليدي
"اخبرتكِ لا بأس ، فقط لو كان معكِ منديل من اجل...."
قاطعته الفتاة بسرعة وهي تخرج المنديل من جيبها لتمده نحوه قائلة بارتباك
"ها هو المنديل سيدي ، تفضل"
رفع (احمد) رأسه نحوها باتزان ليلتقط المنديل منها وهو يهمس بهدوء
"شكرا ، هذا سيفي بالغرض"
ابتسمت الفتاة باهتزاز وهو تتمسك بالصينية بين يديها لتقول عندها بخفوت محرج
"والآن عذرا سيدي"
اومأ (احمد) برأسه بهدوء بإشارة منه بأنها تستطيع الذهاب الآن ، لتسير بعدها بعيدا عنه وهي تتجاوزه قبل ان تغادر بالطريق المعاكس له ، بينما انشغل بمسح سترته من البقع والتي اصبحت باهتة غير مرئية باستخدام المنديل ، ليكمل بعدها سيره باتجاه غرفة المكتب وهو يدس المنديل بداخل جيب بنطاله ، طرق بهدوء على باب غرفة المكتب قبل ان يدخل وهو ينظر للرجل الكبير والذي طل عليه وهو يجلس خلف مكتبه بكل قوة ونفوذ استطاع به ان يتحدى بوجوده جميع المدراء بعالم الاعمال ومنهم من سحقهم بسهولة واخفاهم عن العالم بأكمله لكي لا يتجرأ احد على الاستخفاف به مجددا .
تقدم (احمد) بخطواته باتجاه مكتب والده وهو يبتسم له باتزان هادئ معتاد عليه امام والده ، وما ان وقف امام المكتب حتى وضع الملف والذي ما يزال بيده امام والده تماما وهو يقول بابتسامة متصلبة بوقار
"لقد وافقوا على الشراكة ، وهذا الملف الخاص بشراكتنا معهم وبه جميع التفاصيل الخاصة بهم وايضا موجود به مطالبهم"
نقل (محراب) نظراته من ابنه للملف امامه بتركيز قبل ان يعود بنظره لابنه وهو يقول بتفكير متصلب
"كيف وصلت بقع القهوة لسترتك ؟ هل اصطدمت بأحدهم قبل مجيئك إلى هنا ؟"
اخفض نظره لسترته وقد كان يتوقع حدة نظر والده ويقظته الدائمة من كل ما يجري من حوله ، ليقول بعدها بعبوس وهو يعدل من وضع سترته بشكل لا تظهر به البقع
"اجل لقد اصطدمتُ بالفتاة والتي كانت توصل اكواب القهوة للمكاتب ، ولكن الخطأ ليس خطأها هي بل خطأي انا لأني كنتُ اسير شارد الذهن حتى اصطدمت بها"
تجهمت ملامحه وهو يقول ببأس شديد
"واكيد سامحتها على خطأها ولم تحاسبها على فعلتها ، وتركتها تمر مرور الكرام !"
ابتسم (احمد) بهدوء بدون اي كلام وهو ينظر له بصمت ، ليتابع بعدها كلامه بحدة وهو يزفر انفاسه بيأس
"لا اصدق ما اراه امامي لن تتغير ابدا يا احمد وستبقى دائما ذلك الشاب النبيل والضعيف والذي يداس عليه بقوة ! عليك ان تفهم امرا مهما وهو بأننا نحن الكبار لا ننزل لمستوى احد اقل منّا بل نجعل الآخرين هم الذين يرتفعون لمستوانا ليستطيعوا التكلم معنا او طلب السماح والغفران منّا"
كان (احمد) يحرك رأسه بطاعة بدون ان يحاول مناقشته بكلامه والذي اعتاد على سماعه منه دائما بدون ان يجلب اي فائدة او يغير من حاله كما يريد والده ، فأكثر شيء اكتسبه بعمله مع والده هو الصمت بكل شيء يحدث ويدور من حوله بدون ان يعلق او يبدي رأيه بشيء يفعله والده ، وهو واثق بأن كل شيء يفعله بحياته من قرارات واوامر يصدرها والده سترجع على الجميع بالفائدة بالنهاية وسيدر على مصلحته دائما فعلى هذا تعلم وتربى .
قطع الصمت الطويل بينهما والذي لفهما بهالة من الجمود وهو صوت طرق على باب المكتب باتزان ، ليطل منه بعدها رأس السكرتيرة وهي تقول بعملية جادة
"سيدي هناك ضيف يريد رؤيتك وهو يقول بأنه من عائلة نصران"
ردّ عليها (محراب) من فوره بصرامة قاطعة
"اتركيه يدخل"
استدار (احمد) بحيرة وهو ينظر لمكان اختفاء السكرتيرة ليحل مكانها بعدها بلحظات رجل كبير يقارب عمر والده وهو يتبعه شاب صغير يحمل بين يديه مجموعة من الملفات وهو يرتدي فوق عينيه نظارة طبية ، ليدخل بعدها الرجل الكبير وهو يتقدم نحو المكتب قائلا بسعادة بالغة
"مرحبا يا سيد محراب الكبير ، ام اقول حوت عائلة الفكهاني !"
وقف (محراب) عن مقعده ليرحب بالضيف والذي ما ان وصل امام مكتبه حتى صافحه بيده بقوة ، ليقول عندها بنفس ابتسامته القوية والتي لا تخلو من تجاعيد العمر
"لقد تشرفنا حقا بقدومك يا سيد نصران ، هيا تفضل اجلس فقد اتيت بالوقت المناسب تماما لنتكلم به بحرية عن العمل"
التفت الرجل نحو (احمد) والذي ما يزال جامد بمكانه ليقول عندها بابتسامة بشوشة
"مرحبا بك يا ابن محراب ، كيف هي احوالك يا بني ؟"
حرك (احمد) رأسه بهدوء وهو يتمتم بوجوم خافت
"بخير ، شكرا لك على السؤال ، ولكن ألن تعرفنا بصديقك ؟"
ضرب الرجل جبينه براحة كفه بتذكر ليشير بعدها للشاب بذراعه وهو يقول بهدوء جاد
"هذا الشاب الصغير يكون مدير اعمالي ، وقد بدأ بالعمل معي منذ فترة وجيزة ولكنه يملك خبرة تعادل خبرة عشرة سنوات عمل"
حرك (محراب) رأسه بهدوء وهو يقول بابتسامة متصلبة
"مرحبا بك وبمدير اعمالك ، وشركتي ترحب بكم بأي وقت"
جلس بهدوء على المقعد خلف المكتب وهو يستمع لكلام المقابل له وهو يقول باتزان
"هذا كرم بالغ منك"
اكتفى (احمد) بنقل نظراته بين الشاب والذي ما يزال واقف عند باب المكتب بريبة وبين الرجل الكبير والذي جلس امام مكتب والده بابتسامة لم تفارقه منذ دخوله ، ليبدأ بعدها (محراب) بالكلام وهو يقول بجدية حازمة ممسكا بالملف امامه
"لقد وصلني الملف والذي يخص الشراكة والتي وافقت عليها ، ولكني لم اطلع عليه بعد ، وارى بأنك قد اسرعت بالمجيئ من اجل التكلم عن الشراكة ولم يمر على وصول الملف سوى دقائق"
تنهد الرجل بهدوء وهو يقول بغموض مريب
"الحقيقة لقد اتيتُ إليك لاستفسر منك عن شيء آخر بعيدا عن شراكة العمل ، وكنتُ اريد سماع الجواب منك تحديدا"
عقد (محراب) حاجبيه بحدة بدون ان ينطق بأي كلمة ، ليتابع بعدها الرجل كلامه قائلا بتركيز حاد
"لا اريد التطفل على ما لا يعنيني ، ولكني قد سمعتُ بأنهم قد ألقوا بالقبض على المجرم زوج مايرين الفكهاني ، وانت الآن تستقبل بنات شقيقتك بمنزلك بعد دخول والدهم المجرم للسجن !"
تصلبت ملامح (احمد) بشراسة وهو يقبض على كفيه بقوة حتى ابيضت مفاصل اصابعهما ، ليقول بعدها (محراب) بصوت حازم بخفوت خطير
"اعتقد بأن هذه امور شخصية تخصني وحدي ، وليس هناك اي احد له علاقة بحياة عائلتنا وما يحدث بها والبعيدة تماما عن امور العمل"
ابتسم (احمد) بقليل من الراحة بدون ان يختفي الغضب والذي يشعر به باتجاه هذا الرجل المتطفل والذي اقل ما يستحقه هو الطرد من هذه الشركة بأكملها ، بينما كان الرجل يضم قبضتيه معا فوق ساقيه وهو يقول بابتسامة غامضة
"اعلم هذا جيدا ، ولكن لا تنسى بأن اهم شيء بالشراكة بيننا هي الثقة المتبادلة بين الطرفين ، ولكي نستطيع الاستمرار بهذه الشراكة علينا ان نتأكد بأنه ليس هناك اي شيء سيفسد علينا هذه الشراكة بالمستقبل ، واقصد بكلامي هي سمعة الشركتين النظيفة بهذا العمل"
كان (احمد) يتنفس بحدة وهو يحاول ضبط اعصابه امام هذا الرجل والذي يقارب بعمر والده وهو يحاول تهديدهم من بين كلامه بطريقة غير مباشرة وببساطة بالغة ، مرت بعدها لحظات فاصلة بين اربعتهم قبل ان يقصف صوت (محراب) بصرامة مشددة وهو يتقدم بجلوسه قليلا
"إذا كان هذا هو الأمر ، فلا املك سوى ان اخبرك بأن هذه الشراكة قد انتهت قبل ان تبدأ ، وهذه الثقة والتي تتكلم عنها لا تحصل بهذه الطريقة يا عزام نصران ، ولعلمك فقط سأخبرك بأن ذلك الملقى بالسجن لا يربطني به اي علاقة وتلك الموجودات بمنزلي لا يقرب لهم شيئاً وليس بوالدهم الحقيقي ! بل هو يكون مجرد شخص اهتم ببنات مايرين الفكهاني بعد وفاتها"
اخفض (عزام) نظره للأسفل بهدوء قبل ان يرفع نظره ببطء قائلا بابتسامة هادئة
"لا تقل مثل هذا الكلام يا محراب ، واعذر فضولي والذي دفعني لأتكلم بكل هذا فقد لعب الشيطان بعقلي وجعلني اغُضب شريكي بالعمل ! لذا انسى كل ما فات ولنفكر فقط بشراكة العمل والتي تربطنا الآن"
اشاح (احمد) بوجهه بعيدا عنه بعدم رضا وهو يتمنى لو يطرده والده ويصر على انهاء هذه الشراكة والتي بدأت بالشك والتهديد وستنتهي بالفشل ، قال بعدها (محراب) وهو يحرك رأسه بهدوء متزن
"لا عليك لقد سامحتك ، ومن اجل ان نبدأ بداية جديدة معاً وموفقة لشراكتنا انا اريد ان ادعوك لحفلة صغيرة بمنزلي وكل الموظفين بالشركتين مدعوين لها ، ويمكنك اعتبارها معاهدة سلام بيننا"
التفت (احمد) برأسه بعنف باتجاه والده وهو لا يصدق بأنه قد فعل مثل هذا التصرف بدعوة ذلك الرجل والذي يشكك بشراكتهم لمنزله ! بينما ابتسم (عزام) باهتزاز من المفاجأة وهو يقول ببعض الارتباك
"حقا هذا شرف لي ان تدعوني لحفلة بمنزلك ! ولكن عليك ان تسمح لي بأنه انا الذي عليّ ان اخطو مثل هذه الخطوة وادعوك لمنزلي فأنا الذي بدأتُ اولاً واغضبتك مني"
ردّ عليه (محراب) بهدوء قاطع وهو يضم قبضتيه معا بقوة
"بل انا الذي دعوتك اولاً ، لذا غير مسموح لك بالاعتراض ابدا ، ولا نعلم قد تكون الحفلة التالية نجاح المشروع بمنزلك انت"
اتسعت ابتسامته بزهو وهو يضرب بقبضته على صدره قائلا بثقة
"وانا جاهز لأي حفلة قادمة ، ولدي ثقة كبيرة بنجاح هذه الشراكة بيننا يا محراب الفكهاني"
وقف (محراب) عن مقعده بهدوء ليتبعه الآخر وهو يقف امامه تماما ، ليرفع بعدها الواقف خلف المكتب كفه عاليا وهو يقول بابتسامة جادة بقوة
"اذاً لقاءنا القادم بمنزلي ، ولا تنسى المجيئ فهذا الحفل سيكون على شرفك ونحن سنرسل لك الدعوة ما ان نحدد الموعد المناسب للحفلة"
ردّ عليه (عزام) بتأكيد وهو يرفع كفه ليصافحه بنفس القوة
"اكيد سآتي فهذا شرف لي ، فأنا متشوق جدا لحضور حفلكم هذا"
اومأ برأسه بالإيجاب وهو يترك كفه ليغادر بعدها (عزام) باتجاه باب المكتب وهو يلوح بكفه عاليا قائلا باحترام
"وداعا يا حوت عائلة الفكهاني ، واتمنى لكم يوما سعيدا"
خرج بعدها من باب المكتب يتبعه مدير اعماله بصمت ، لتختفي بعدها ابتسامة (محراب) بغموض وهو يستمع لكلام ابنه والذي كان يقول بتجهم واضح
"لما فعلت هذا يا ابي ؟ واخبرته معلومات عن عائلة عمتي مايرين كما كان يريد !"
ردّ عليه بهدوء وهو يستند بكفيه على سطح المكتب بتحفز
"لأن هذا ما كان عليه ان يحدث ، فقد حان الوقت المناسب لنسكت افواه الناس ونضع حدا لكلامهم المسيء عن سمعة عائلة مايرين والتي لطخوها بالوحل بما فيه الكفاية ، بالرغم من انها تستحق ما يحدث لها فهي التي جلبت العار لنفسها منذ البداية !"
نظر (احمد) بتفكير نحو والده قبل ان يتمتم باستنكار خافت
"وماذا عن الحفلة والتي تفكر بعملها على شرفه ؟ ما لداعي لكل هذه الرسميات يا ابي وانت الذي لم تحب يوما كل هذه المظاهر الخادعة ؟"
عاد (محراب) للابتسام بتغضن طفيف وهو يبعد كفيه عن سطح المكتب قائلا ببرود يخفي من خلفه الكثير
"لا تستعجل الأمور يا بني ، وكل شيء سيتضح امامك بالحفلة القادمة ، فكل شيء بوقته جميل"
ادار (احمد) عينيه وهو يعيد نظراته لمكان اختفاء المدعو (عزام) وكل شيء يتمناه ان لا يحدث مزيد من المشاكل والاساءة بالكلام عن عائلة عمته وبشراكة العمل المريبة والتي لم يرضا عنها للآن !
_____________________________
دخلت للمنزل بهدوء وهي تعدل من وضع حزام حقيبتها فوق كتفها مرجعة خصلات شعرها الطويلة العالقة للخلف برفق ، لتتوقف بعدها فجأة ما ان ظهرت امامها زوجة ابن خالها والتي تقصرها بالقليل من الطول ذات عيون سوداء مكحلة ، وهي تبدو كذلك بمثل عمرها تقريبا وقد كانت ترتدي قميص نوم احمر طويل مظهرا مفاتنها بوقاحة بدون ان تهتم لذلك !
حركت عينيها الشاحبتين بعيدا عنها ما ان بدأت المقابلة لها بالكلام قائلة بإيباء وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة
"مرحبا بابنة عمة زوجي ام اقول ابنة المجرم قيس !"
تأوهت (سلوى) فجأة وهي تتابع كلامها باعتذار شديد
"اعتذر حقا لم اقصد ان اهينكِ بكلامي او ان اقلل من شأنكِ فأنتِ بالنهاية ابنة هذه العائلة ، ولكن لا بأس سنبدأ من جديد ، انا اسمي سلوى واكون زوجة ابن خالكِ احمد"
تنهدت (روميساء) بإنهاك وهي تفكر بأنه لا ضير من مجاراتها بالمثل والتصرف معها بلباقة بما انها لم تخطئ بحقها بعد ، فهي بالنهاية فرد من هذه العائلة وعليها التعايش معها حتى لا تطرد هي وشقيقتها من هذا المنزل بأكمله ، اعادت بعدها نظراتها نحوها وهي تقول بابتسامة هادئة باتزان
"مرحبا بكِ تشرفتُ بالتعرف عليكِ ، وانا اسمي روميساء الفاروق ابنة مايرين الفكهاني ، وقد اخبرتكم من قبل بكل تفاصيل حياتي وبكل شيء يخصني"
حركت (سلوى) رأسها بهدوء وهي تمثل الانتباه لتهمس بعدها وهي تضيق عينيها بتركيز
"هذا يعني بأن الشخص والذي ألقوا بالقبض عليه ليس بوالدكم الحقيقي !"
عقدت حاجبيها بوجوم وهي تهمس بخفوت متصلب
"لا ليس بوالدنا ، فقد توفي والدنا منذ سنوات طويلة"
عبست ملامحها بحزن مزيف وهي تتمايل امامها قائلة بحيرة مريبة
"ولكن إذا كان هذا صحيحاً ، كيف استطعتم العيش انتِ وشقيقتك مع شخص غريب لا يقرب لكم بشيء طول تلك السنوات الماضية ؟"
قبضت على كفيها بجانبي جسدها بشرود وهي تشعر بها تحاول التحقيق معها بالنبش بذلك الماضي المشوه والذي جعل الكثيرين يتسائلوا نفس سؤالها بعد وفاة والدتها عن القرابة الغريبة والتي تجمعهم بذلك المدعو (قيس) ليتولى هو رعايتهما واخذ حضانتهما بذلك السن الصغير ؟ قطع بعدها شرودها صوت (سلوى) وهي تقول بتأني خبيث
"يا لغبائي يبدو بأنني قد ضايقتكِ كثيرا بسؤالي وتطفلي المبالغ به ! فهذا السؤال لا يجوز طرحه ابدا فهو يتعلق بالشرف والسمعة ، أليس كذلك ؟"
اتسعت حدقتيها الخضراوين وهي تنظر لها بوجل لتقول من فورها بخفوت مدافع
"غير صحيح ، فهو قد تزوج من والدتي منذ سنوات طويلة وقد حصل على حضانتنا منذ كنا اطفال وقبل وفاة والدتي ، لذا هو يعتبر مثل والدنا الروحي والمسؤول عنّا منذ ذلك الوقت ، هذا كل شيء"
زمت شفتيها بعدم اقتناع وهي تنظر لها بتركيز حاد ممسكة بخصرها بيديها بقوة ، لتحاول بعدها (روميساء) تجاوزها وهي تفكر بالهروب منها ومن اسئلتها والتي بدأت تضايقها وتنهش روحها الضعيفة امام طوفان الماضي والذي انتشلها بعيدا عن الحاضر ، عادت المقابلة لها للوقوف امامها بقوة وإصرار بدون ان تدعها تفلت منها وهي تقول بابتسامة مزيفة
"لما كل هذا الاستعجال لم ننهي كلامنا بعد ؟ ام انكِ لا تحبذين الكلام معي !"
تراجعت (روميساء) بخطواتها للخلف وهي تهمس باقتضاب مشتد
"ليس هكذا هو الأمر ، ولكني متعبة جدا من العمل واريد الذهاب لارتاح بغرفتي"
تقدمت (سلوى) امامها وهي تتمايل حولها قائلة بتفكير خبيث وهو تسير من حولها كالأفعى
"ولكن ما حاجتكِ من العمل ؟ بينما يوجد بمنزل خالكِ كل ما تحتاجينه على من في مثل مكانة هذه العائلة ! ام انكِ تحبين التذلل امام الناس وتمثيل دور المضحية والجادة بمهنتها والتي لا تقبل المال من الغير ! بالرغم من انها تحاول البحث عن اي منفذ لتدخل لقلوب العائلة وتحتل مكانا ثابتا بها لترسخ به للأبد"
ارتفع حاجبيها السوداوين بصدمة وهي تنظر لها بذهول غير مصدق مما سمعته اذنيها من كلام رديء غير صحيح ابدا وليس له علاقة بهدفها بمهنة التعليم الشريفة والتي قطعت بها مسيرة طويلة بحياتها ! ليخترق بعدها صوت آخر بعيد وهو يقول بجمود بارد يغلفه القسوة
"هذا لأنكِ جاهلة ولا تعرفين ماذا تعني الوظائف وما هي قيمتها بالنسبة لناس عاشت كل حياتها بمجال العمل والاعتماد على النفس بدون مساعدة اي احد لم يعترف بوجودها من الأساس ! فنحن لدينا عزة نفس وكرامة ليس مثل باقي البشر المنحطين ، ولكن كيف ستفهمين هذا وانتِ عشتِ كل حياتكِ مدللة رخيصة تحصلين على كل شيء تريدينه بدون ان تتعبي نفسكِ حتى بالطلب ؟ لتصبحي بالنهاية فاشلة بحياتكِ تبحثين عن اي فريسة لتلقي عليها بعيوبكِ المرضية والتي تعانين منها !"
مرت لحظات مشحونة بالمشاعر المتناقضة والتي خلفها كلامها قبل ان تنتقل الأنظار لصاحبة الصوت البارد والتي كانت تقف على بعد خطوات منهما ، بينما رفعت (روميساء) قبضتها لصدرها بتعب وهي تتوقع الاسوء من شقيقتها المجنونة والتي تبدو قد اظهرت انيابها الحادة والتي تخيف اعتى الرجال لتجلب نهاية وجودهما بهذا المنزل وهي تهين زوجة ابن العائلة علانية ! لتعود بعدها بنظراتها للواقفة بجانبها بتجمد وكأنها تحاول استيعاب كلامها والذي ضرب تفكيرها بالصميم ، ليحدث عندها ما توقعته تماما وقد بدأت (سلوى) بالكلام قائلة بغضب مشتعل يكاد يحرق كل من يقترب منها
"من تقصدين بكلامكِ يا ابنة المجرم ؟ ومن هي المدللة الرخيصة !"
سارت (ماسة) عدة خطوات وهي تقطع المسافة الفاصلة بينهما ونظراتها معلقة بشقيقتها الكبرى والتي كانت تحرك رأسها بالرفض بصرامة مما تفعله وتنوي على فعله ، وما ان وقفت امامها حتى نقلت نظراتها للمشتعلة بقربهما وهي تقول بابتسامة ساخرة باستهزاء
"ومن يوجد هنا مدللة رخيصة غيركِ بنصف عقل ؟ ام انكِ تقصدين بكلامكِ باقي افراد عائلة زوجك المحترمين والذين لا يعرفون شيء بحياتهم سوى قطع القرابات وإخراج المقربين منهم من حياتهم بدون التفكير بمصيرهم !....."
قاطعتها (روميساء) هامسة بخفوت متشنج
"ماسة !"
اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا عنهم ببرود جليدي ، بينما افاقت (سلوى) من صدمتها وهي تهمس بتلعثم بعد ان فقدت السيطرة على نفسها وطارت كل الكلمات من رأسها من إهاناتها المباشرة لها والموجهة نحوها
"ايتها الوقحة وتتكلمين عن عائلة خالكِ بكل هذه الجرأة وعن زوجة ابن خالك والتي تكون اكبر منكِ سنا ! ومتناسية ايضا بأنهم قد استقبلوكِ بالمنزل بكل طيبة قلب يا ناكرة الجميل...."
قصف صوت صارم قاطعا استرسالها بالكلام وهو يقول بحدة
"ما لذي يحدث هنا ؟"
استدارت (سلوى) وهي تنظر بجزع لزوجها وهو يتقدم امامها ناظرا لهم بحيرة واجمة ، لتقول بعدها بسرعة بارتباك متعثر
"اسمعني يا احمد تلك الوقحة ابنة عمتك قد اهانتني وقللت من شأن العائلة بأكملها ! متناسية فارق السن بيننا....."
عاد (احمد) لمقاطعتها وهو يقول بنفاذ صبر
"كفى يا سلوى ، لا اريد سماع اي كلمة منكِ ، فقد خذلتني الآن حقا بتصرفكِ واخلفتِ بالوعد والذي قطعته بيننا !"
عبست ملامحها بغضب لتتدخل بعدها (روميساء) وهي تخفض رأسها قائلة بحزن شديد
"اعتذر حقا على ما حدث يا سيد احمد فقد اخطئت ماسة كثيرا بحق زوجتك ، واتمنى حقا ان تتقبل اعتذاري بالنيابة عنها"
كانت (ماسة) تنظر بعيدا عنهم وكأن الكلام لا يخصها ، بينما ارتبك (احمد) امام حزنها وحرجها مما حدث وهو يقول ببساطة وابتسامة صغيرة تحتل محياه
"لا بأس يا روميساء ، لا تهتمي لما حدث ولا داعي للاعتذار من الأساس ، فأنا اعرف جيدا بأن زوجتي هي التي بدأت اولاً"
فغرت (سلوى) شفتيها بغضب وهي تشتعل بكل معنى الكلمة من تحت قماش قميص نومها الخفيف بدون ان تنطق بأي كلمة ، بينما اومأت (روميساء) برأسها بامتنان قبل ان تمسك بذراع شقيقتها وهي تسحبها معها باتجاه البهو الواسع ، ونظرات (احمد) ما تزال شاردة بهم قبل ان ينقل نظراته لزوجته وهو يقول بصرامة حادة
"هذه المرة لم يحدث شيء ، ولكن إذا تكررت مرة أخرى فلن تتوقعي عندها ردة فعلي فقد استنفذتِ عندي كل فرصك !"
التفتت (سلوى) برأسها نحوه وهي تريد التكلم بامتعاض قبل ان يسبقها (احمد) وهو ينظر لها بنظرات قاتلة بحدة
"وايضا بدلي ملابسكِ هذه وإياكِ وان تخرجي بها مرة أخرى امام احد فأنتِ لستِ وحدكِ بالمنزل ، فهمتي ؟"
زفرت انفاسها بحدة بدون ان تعير كلامه اي اهتمام لتغادر بعدها بعيدا عنه وبطريق مغاير عن الأخريات ، لتترك (احمد) من خلفها وهو شارد بنظراته بعيدا ويفكر بأنه قد اخطئ كثيرا عندما فكر بالزواج يوما ، وكان عليه البقاء كما هو عازب مثل شقيقه الأصغر والذي يعيش حياته بحرية وبدون اي قيود تخنقه !
____________________________
كان يسجل الاسماء على القائمة امامه بتركيز وهو يحرك القلم بين اصابعه بحركة رتيبة ، ليقول بعدها بتفكير وهو يعدد الاسماء بالقائمة بترتيب
"هل هناك احد منهم لم نسجل اسمه ؟ هل هناك شخص ببالك تفكر بدعوته ؟"
حاد (احمد) بنظراته بضيق نحو شقيقه والجالس بجانبه والذي كان مشغول باللعب بهاتفه وهو يضغط على شاشته بتركيز بدون ان يشعر مما يدور من حوله ، ليرفع بعدها ذراعه بهدوء وهو ينتشل الهاتف من بين يديه بقوة ليبعده عن مرمى نظره ، لينتفض عندها بمكانه وهو يعتدل بجلوسه قائلا بتذمر شديد
"لما فعلت هذا يا احمد ؟ اتعلم بأنني كنتُ اخوض جولة مهمة بلعبة وانت الآن قد خسرتني كل جولاتي والتي تعبتُ كثيرا حتى وصلت لها !"
تجهمت ملامحه وهو يشير له بالهاتف قائلا بنفاذ صبر
"وانا قد تعبتُ كثيرا وانا اتكلم مع نفسي وكأنني اتكلم مع جدار اصم بدون ان تساعدني ولو قليلا ، وكل ما يهمك هو اللعب واللهو بينما كل تجهيزات الحفلة بالمنزل فوق رأسي انا !"
حرك (شادي) عينيه بعيدا عنه ببرود وهو يقول بلا مبالاة
"لم يجبرك احد على تحمل مسؤولية الحفل لوحدك ! وايضا انا لم اوافق على المساعدة بترتيبات ذاك الحفل السخيف والذي لن يرجع عليّ بأي فائدة ، واخبرتك ان تذهب وتطلب مساعدة اي احد آخر غيري بمهامك فأنا لا اهتم"
اخفض (احمد) ذراعه مع الهاتف وهو يتمتم بعبوس مستاء
"ومن الذي سيقبل بمساعدتي ؟ والجميع قد كلف هذه المهمة لي ولا يجوز لأي احد مساعدتي بها ، وكأنني لستُ بشر اتعب واشعر !"
مالت ابتسامته بهدوء وهو يقول بطرافة
"لقد اعجبني كثيرا هذا الموشح ، عليك ان تُسمعه لوالدي فقد يرحمك قليلا بالمهام والتي يوكلها لك"
ردّ عليه (احمد) بتصلب بدون اي مرح
"انا لا امزح معك يا شادي ، وبدلا من السخرية مني جد لي حلاً"
اشاح بوجهه جانبا وهو يتمتم بملل
"ليس هناك حل سوى طلب المساعدة من رئيسك والسبب بورطتك هذه"
تجمدت ملامحه بغموض وهو يقول بجدية بالغة
"لا تنسى بأنك تتكلم عن والدك ، ولو انه سمعك الآن لقطع لسانك هذا وطردك من المنزل بأكمله !"
عاد (شادي) بنظراته نحو شقيقه بهدوء وهو يقول ببرود متجاهلا كلامه الأخير
"اخبرني إذاً ما سبب هذه الحفلة الغريبة ؟ فما اعرفه عن السيد محراب بأنه لا يحب عمل الحفلات بمنزله ولم يفعلها من قبل !"
شرد (احمد) بنظراته بعيدا وهو يتذكر كلام والده الاخير والذي لم يفهم منه شيئاً وإذا كان سبب الحفلة هو الشراكة حقا او انه سبب آخر مختلف تماما عنه ؟ قال بعدها بلحظات بدون اي تعبير
"لا اعرف حقا ما سبب هذه الحفلة"
ردّ عليه (شادي) وهو يحرك رأسه بضيق
"كل هذا الوقت اخذته بالتفكير لتخبرني بهذا الكلام ! كنت قلتها من البداية وارحتنا"
التفت نحوه بقوة وهو يقول بصرامة حادة
"توقف عن اللف والدوران معي ، واخبرني هل ستساعدني بهذا العمل ام ستأخذ دور المشاهد فقط ؟"
ردّ عليه وهو يعيد ذراعيه لخلف رأسه براحة
"لا تقلق فلن اؤخذ دور المشاهد هذه المرة بل سأؤخذ دور الغائب ، واريحكم من وجودي بأكمله ومن حفلكم السخيف !"
عقد حاجبيه بحدة وهو يقول بتصلب مشتد
"هل ستغيب عن الحفلة والتي ستحدث بالمنزل ؟"
اومأ برأسه بالإيجاب بقوة بدون ان ينطق بأي كلمة ، ليتابع بعدها (احمد) كلامه باستهجان وهو يمسد على جبينه بأصابعه بإنهاك
"يا إلهي ساعدني مع هذا الاحمق ! لما تحب ان تجلب لنفسك المشاكل ووجع الرأس مع والدك وكأنك تهوى فعل هذا ؟ لكي يطردك من العائلة بالنهاية ام من اجل ان تعيش المتبقي من عمرك وحيدا بائسا ؟"
ردّ عليه (شادي) وهو يفكر ببلاهة
"لقد اعجبني الخيار الثاني"
حرك (احمد) رأسه بيأس وهو يعود بنظره للأمام ليضع الهاتف جانبا على الطاولة امامه قبل ان يقول بحسم
"حسنا كما تشاء افعل ما تريد ، وإذا كنت لا تريد مساعدتي فأنا لم اعد احتاج لها"
اخفض ذراعيه عن رأسه وهو يتمتم بابتسامة جانبية
"لا تغضب هكذا يا احمد ، فأنت تعلم بأنني لا استطيع لغضبك ، ولستُ شخصا سيئاً لأترك شقيقي وحده بمصيبته وهو بحاجة لي !"
كان يمسك بالورقة بيده وقد عاد ليدون عليها بالقلم وهو يرمقه بطرف عينيه قائلا بوجوم
"وهل عليّ ان ابتهج من هذا الكلام ؟"
رفع (شادي) كفه عاليا لرأسه بطريقة مسرحية وهو يقول بطاعة
"انا بخدمتك سيدي"
اتسعت ابتسامته بهدوء وهو يرفع حاجبيه بإعجاب منبهر من تغير حاله فهذا هو شقيقه الصغير والذي يتقلب بكل مرة بمزاج ولون مختلف عن الآخر وكله حسب الوضع والبيئة ، تابع بعدها كلامه وهو ينظر بعيدا عنه قائلا بحيرة مريبة
"ولكن هل سيحضران بنات مايرين الحفلة ؟ فقد يفسدوها بسمعتهم السيئة والتي لن يتقبلها مجتمع الطبقة المخملية !"
تصلبت ملامحه وكلام الرجل وسؤاله المبطن عن عائلة عمته يمر بذهنه بلمحة خاطفة وهذا يعني بأنه لن يكون راضيا عن وجودهن بالحفلة والتي ستقام على شرفه ، ولكن مع ذلك فقد وضح له والده وجهة نظره واستطاع تبرئة عائلة عمته من كل هذه القذارة والتي كان يتكلم عنها ولن يتجرأ بعد الآن على نطق كلمة تسيء لهن مجددا .
قال بعدها بلحظات بجفاء جاد
"لا تتكلم هكذا عن بنات عمتك ! ولا تنسى بأنهن افراد من هذه العائلة ولهن الحق بحضور حفلات العائلة مثلنا تماما"
حرك (شادي) كفيه ببساطة وهو يقول بلا مبالاة متعمدة
"ولكني لم اخطئ بالكلام عنهن ولم اجلب كلام من عندي ، فهذا ما يتكلم عنه جميع افراد المجتمع ومنهم من يظن بأن قيس هو والدهم الحقيقي لأنه قد تبناهم بصغرهم !"
اعاد رأسه للأمام وهو ينفض الأفكار السوداء عن رأسه بفعل كلامه ، ليعود بعدها للنظر للورقة بيده وهو يقول بحنق بالغ
"توقف عن قول الترهات وساعدني قليلا ام انك تراجعت بكلامك ، لأني لن اعيد لك الهاتف قبل ان تساعدني يا غر !"
ارتفع حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يهمس بعبوس
"هل هذا تهديد ؟"
حرك رأسه ببرود وهو يعدد الاسماء بالقائمة بتركيز شديد ، ليقول (شادي) بعدها وهو يبتسم باتساع رافعا ذراعيه لفوق رأسه بكسل
"اتعلم يا احمد اشعر بأن هذه الحفلة ستكون مليئة بالمغامرات والمفاجآت الرائعة والتي ستذهل جميع من بالحفلة ! وانا حدسي لا يخطئ ابدا"
____________________________
كانت شاردة بالنظر للنافذة بجانبها والتي كان يكسوها الضباب بفعل الطقس البارد بهذا الوقت من السنة وهي تعتبره اجمل فصول السنة بالنسبة لها والتي تمر عليها عندما تتحول جميع اوراق الربيع للون البني المحمر ، وهي ترتدي ثوبها المحمر فوق خضارها البديع لتسقط جميع الأقنعة المزيفة وتبدأ الأوراق بالتيبس لتظهر حقيقة الجمال والذي كان يلفت الأنظار إليه من قبل ، وما هو ألا ارض قاحلة جفت سيقانها بعد ان يئست وتعبت من تمثيل هذا الدور لفترة طويلة ، ليكون فصل الخريف هو راحتها الأبدية ونهاية الأدوار الرديئة ليكون فاصل طويل بحياتهم تختفي بها جميع اشكال الجمال والتي كانوا يتمتعون بالنظر لها من العالم بأسره .
سمعت صوت رقيق بجانبها وهو يقول بارتفاع متعمد
"حفلة الشراكة بين شركة حوت الفكهاني وشركة النصران بنهاية الأسبوع القادم ، بحلول الساعة التاسعة مساءً بمنزل رجل الأعمال محراب الفكهاني ، يبدو هذا امراً شيقاً !"
حانت منها التفاتة نحو الجالسة بجانبها وهي تنتظر اي بادرة اهتمام منها بدون اي استجابة ، لتعبس بعدها ملامحها وهي تلوح بالهاتف امام نظرها والمفتوح على الإعلان والذي كانت تتكلم عنه للتو ، ابعدت (ماسة) نظراتها عن النافذة لتلتفت نحوها وهي تهمس ببرود صقيعي
"ماذا ؟"
تبرمت شفتيها بعبوس وهي ترفع الهاتف امامها قائلة بحنق بالغ
"كنتُ اتكلم عن هذا الإعلان ، ألم تلاحظي بأنه يتكلم عن عائلتكِ بوجه الخصوص وانتِ لم تخبريني بأي شيء عن هذا الأمر ؟"
نظرت بجمود للهاتف وهي ترفع كفها لتمسك به قبل ان تبعده بسرعة الجالسة بجانبها وهي تقول بتوجس قلق
"لا لن اعطيكِ هاتفي ، من اجلي ان تلقيه بعيدا كما فعلتِ بهاتفي القديم !"
زمت شفتيها بجمود وهي تقول باستياء خافت
"سأحاول هذه المرة ضبط اعصابي بدون ان احطمه ، فقط اعطيني الهاتف"
ارتفع حاجبيها بعدم اقتناع قبل ان تتنهد بيأس وهي تضع الهاتف بكفها قائلة بتحذير
"إياكِ وخدشه ولو قليلا لأني هذه المرة سأكلفكِ ثمن تصليحه"
رفعت (ماسة) الهاتف امام نظرها وهي تتجاهل كلامها تماما ، لتضيق بعدها عينيها الزرقاوين بغموض وهي تبتسم بسخرية قاتمة ، قالت (صفاء) بحيرة وهي تنظر لها باهتمام
"ماذا هناك ؟ لما تبتسمين بهذه الطريقة الغريبة ؟"
اخفضت الهاتف من امامها وهي تقول بابتسامة شاردة باشمئزاز
"ألا ترين ؟ انا اشفق على هذه العقول المريضة والتي تظن بأنها ستحقق نجاح باهر وإنجاز عظيم بعمل مثل هذه الحفلات الرخيصة والمبتذلة والتي تثبت مدى غبائهم ! فالهدف من هذه الحفلة ليس تقوية الشراكة كما مكتوب هنا بل من اجل جعل المدراء الآخرين يرون مدى روعتهم وإنجازاتهم لكي يستطيعوا كسب ودهم ، وستكون ايضا فرصة ليدخل المخربين من بينهم والذين يملكون حيل ستجعلهم يكسبون من الشراكة اكثر من اصحابها"
فغرت شفتيها الورديتين بانشداه وهي تستمع لكلام تسمعه لأول مرة يخرج من صديقتها وكأنها لم تعد تعرفها ، لتهمس بعدها بارتياب وهي تنظر لها بتركيز
"تتكلمين وكأنكِ كنتِ تعملين بذلك المجال لسنوات !"
ابتلعت (ماسة) ريقها بتصلب وهي تفكر بجمود بأنها لم تعمل بذلك المجال فقط بل كانت جزء منه والخاص بالمخربين عندما كانوا يرسلونها لتفسد العلاقة بين الشراكة والتي تجمع الشركات بتهديد كل منهما برسالة غامضة وقد يكون السبب انتقام منهم لعداوة قديمة او من اجل كسب المال الغير القانوني منهم ! لم تنتبه بعدها للهاتف بكفها والذي كانت تضربه على حافة الطاولة امامها حتى كادت تحطمه ، لتندفع بعدها (صفاء) وهي تستل الهاتف من يدها قائلة بوجل
"ستحطمين هاتفي يا مجنونة !"
اخذت الهاتف منها وهي تنظر له بتفحص شديد ، بينما عادت (ماسة) للشرود بالنافذة بجانبها ببرود وقد اختفى بعض الضباب عن زجاجها بفعل الشمس والتي برزت بين الغيوم الرمادية بقوة ، نظرت بعدها نحوها وهي تدس الهاتف بحقيبتها قائلة بحماس
"بغض النظر عن كلامكِ الأخير ، ولكنكِ ستحضرين الحفلة صحيح ! فهذه الحفلات لا تتكرر كل يوم"
ردت عليها (ماسة) بجمود حاسم
"كلا لن احضر ، فإذا كنتِ قد نسيتِ فأنا لستُ فرد معترف به بهذه العائلة !"
عضت (صفاء) على طرف شفتيها ببؤس وهي تهمس برجاء شديد
"لا تقوليها يا ماسة ! اريد منكِ ان تحضري من اجل ان تخبريني عن الذي يفعلونه بتلك الحفلات الكبيرة والتي اسمع الكثير عنها بالأفلام والحكايات"
التفتت نحوها بحدة وهي تتمتم بجفاء بارد
"قلت لكِ لا يا صفاء ، وتوقفي عن العيش بعالمكِ الخيالي المزيف وعودي لعالم الواقع ، لكي لا تصدمي عندما تكتشفين بأن كل هذا الذي تفكرين به ليس ألا مجرد وهم لا اكثر !"
عبست ملامحها بحزن عميق وعينيها العسليتين تنظران للأسفل بوجوم قبل ان تهمس بخفوت ممتعض
"حقا انتِ مملة جدا يا ماسة ! وعدوة المتعة"
ادارت (ماسة) عينيها الزرقاوين بعيدا عنها بتأفف غاضب وهي توزع نظراتها بقاعة المحاضرات الفارغة نسبيا بهدوء ، لتعود بعدها للنظر لها بندم وهي تهمس بخفوت اقل برودا
"انسي ما قلته لكِ الآن يا صفاء فأنا اشعر بحالة من الغضب المفاجئ والتي تنتابني بين الحين والآخر ، وايضا لم تخبريني للآن عن الكتاب الجديد والذي اشتريته من المكتبة مؤخرا !"
رفعت (صفاء) عينيها العسليتين وقد عادتا لبريقهما الذهبي قبل ان تهمس بابتسامة متسعة بتفاؤل
"اجل صحيح ، وقد احضرته معي للجامعة لتعطيني رأيكِ به"
اومأت برأسها بهدوء وهي تنظر لصديقتها والتي كانت تخرج الكتاب من حقيبتها بحماس قبل ان ترفعه نحوها وهي تقول ببهجة غامرة
"انظري إلى غلافه الجميل ولعنوانه ، أليس يبدو رائعا ومشوقا لقراءته ؟"
كانت (ماسة) تنظر بتركيز للونه المحمر الملفت للنظر كما قالت ، لترفع بعدها يديها وهي تمسك به قبل ان تتلمس على غلافه بكفها برفق وهي تقول باهتمام
"ولكن ليس كل المظاهر مثل ما بداخلها فقد تكون مجرد واجهة لجذب النظر ودفع الناس لشرائه وصرف المال عليه"
ردت عليها (صفاء) من فورها بغيظ
"هذا ليس وقت الحكم يا ماسة ، وهيا اخبريني برأيكِ به بسرعة"
كانت (ماسة) تتصفح به قليلا حتى وصلت لنهايته لتعود مجددا لتتلمس على غلافه بحذر وقد جذب انتباهها ، لتقول بعدها بابتسامة صغيرة بلطف
"انه رائع ! هنيئاً لكِ به"
اتسعت ابتسامتها بسعادة غامرة كما يحصل دائما بكل مرة تقدم به رأيها بشيء تحضره معها وكأنها بهذه الطريقة تُسعد نفسها وتفرحها بدون ان تهتم برأي الآخرين ، فهذه هي طبيعة (صفاء) البسيطة تسمع فقط ما يسعدها وتحيى عليه وتتجاهل ما يتعسها ويفسد فرحتها الطفولية بعالمها الخيالي الحالم والذي لن يستطيع العالم بأكمله ان يؤثر به !
_____________________________
كانت تحرك ساقها للأمام وللخلف بملل وهي تركل الحصوات الصغيرة من على الأرض برتابة ، لتلتفت بعدها بسرعة للطريق الفارغ ما ان سمعت صوت سيارة بالقرب منها ، قبل ان تعبس ملامحها بلحظة وهي تكتشف بأنها مجرد سيارة عادية وليست سيارة أجرة ، نظرت للساعة بمعصمها وقد اعلنت عن وصولها للثامنة تماما وهي تنتظر هنا منذ ربع ساعة بدون ان تمر اي سيارة أجرة لتوصلها للمنزل .
انتفضت بوجل ما ان سمعت صوت زامور السيارة نفسها والتي توقفت بمقربة منها ، لتلتفت بعدها بوجهها بتوجس وهي تنظر للسيارة السوداء الفارهة والتي اصبحت على بعد امتار منها ، تنهدت براحة ما ان اطل عليها من نافذة السيارة وجه (احمد) وهو يقول بارتفاع حازم
"هيا تعالي لأوصلكِ معي"
ابتلعت (روميساء) ريقها برهبة وهي تفكر بأنه ليس من الجائز الذهاب معه بسيارته لوحدهما وخاصة امام زوجته غريبة الاطوار والتي اكيد ستقطعها إربا ما ان تراها عائدة مع زوجها ! لتقول بعدها بسرعة بارتفاع مرتبك
"لا بأس ، سأنتظر سيارة الأجرة لتوصلني"
عاد (احمد) لإخراج رأسه من نافذة السيارة وهو يقول بأمر قاطع
"انا لم اكن اطلب منكِ الاختيار بل هذا امر وانتِ عليكِ بتنفيذه ! هيا تحركي بسرعة فقد تأخرنا بالفعل"
عضت على طرف شفتيها بتفكير قبل ان تتحرك على مضض باتجاه سيارته المركونة عند زاوية الطريق ، وما ان دخلت من الباب بجانب مقعد السائق حتى قال (احمد) بعجلة وهو يحرك السيارة بعيدا
"ضعي حزام الأمان ، لأن رحلتنا ستكون طويلة"
جلست بسرعة وهي تغلق باب السيارة من جانبها بقوة ، لتحاول بعدها الإمساك بحزام الأمان بارتباك وهي تخرجه من مكانه العالق به بدون اي فائدة ، لتشعر بعدها بيد خشنة تمسك بكفها وهو يشدد عليها بقوة لتستطيع إخراج الحزام من مكانه بمساعدته قبل ان يفلتها بلحظة وهو يعود للتمسك بعجلة القيادة بيديه بهدوء بالغ .
ربطت حزام الأمان بطرف مقعدها وهي تعتدل بجلوسها للخلف براحة بعد يوم عمل طويل ، لتحتضن بعدها كفها والتي امسك بها بيدها الأخرى بقوة وهي تشعر بقشعريرة غريبة تحتل باقي اطراف جسدها بارتجاف منقبض ، التفتت نحوه بسرعة ما ان قال بحيرة جادة
"لقد قلتِ بأنكِ تعملين بمدرسة الزهور الابتدائية ، ولكن ما رأيته غير ذلك تماما !"
اعادت نظرها للأمام وهي تتمتم بهدوء طبيعي
"لقد كنتُ اعمل بها سابقا ، واما الآن فقد اصبحتُ اعمل بهذه المدرسة وجميعها بنظري مثل بعضها لا يوجد اي اختلاف"
تصلبت زاوية شفتيه وهو يقول باستنكار واضح
"ولكن ألم تجدي مدرسة غير هذه لتعملي بها ؟ لا اقصد الإهانة ولكن سمعة هذه المدرسة كل من بالأرض تعرفها ! ولا ينصح ابدا بالعمل بها بسبب سمعة مديرها والنظام بها"
عبست ملامحها بحزن وهي تنظر بعيون خضراء متسعة للسيارات من حولها وبذات الوقت تتكلم بداخلها بأنها كانت تتمنى حقا لو استطاعت ان تتوظف بأي مدرسة اخرى غيرها ولكنه لم يتبقى لها سواها من جميع المدارس والذين رفضوا توظيفها واستقبالها ، قالت بعدها بابتسامة ضعيفة بمرارة بدون ان تنظر له
"هذه الوظيفة والتي كانت متوفرة امامي بالوقت الحالي ، وانا سعيدة جدا بالعمل بتلك المدرسة وهذا ما يهمني"
حرك رأسه بهدوء وهو يحاول استيعاب نبرة الحزن والتي خرجت من صوتها وكأنها مرغمة على كل هذا ! ام انه هو الذي اصبح يتفحص كل شيء يخرج منها بتتبع غريب مؤخرا بدون ان يستطيع منع نفسه ؟
قطع بعدها تفكيره صوت (روميساء) وهي تهمس بحيرة
"هذا ليس طريق المنزل ، أليس كذلك ؟"
التفت (احمد) باتجاهها بسرعة ليفاجئ بنظراتها الثابتة نحو وجهه وهي تنظر له بعيون خضراء متسعة بجمال الطبيعة وحاجبيها السوداوين الرقيقين معقودين من فوقهما بحيرة واجمة ، ليعود بنظره للطريق امامه بصمت وهو يشدد بيديه على عجلة القيادة بتشنج ، عادت (روميساء) للكلام وهي تهمس بخفوت عابس
"ما بك ! هل وجودي معك يضايقك ؟"
قال (احمد) بسرعة بجدية حادة
"لا ليس هكذا هو الأمر ، وايضا نحن سنذهب بالبداية لزيارة شخص مهم لأن هناك ما عليّ انجازه معه"
ردت عليه بسرعة بشحوب متوتر
"يمكنك ان تنزلني عند مكان قريب وانا سأكمل الطريق بسيارة أجرة ، لتستطيع عندها زيارة ذلك الشخص بحرية اكبر"
غامت ملامحه بجمود وهو يقول بجفاء حاد
"هلا توقفتِ عن تكراري نفس الطلب ! لأني لن اترككِ تعودين للمنزل لوحدكِ حتى لو اضطررت لتأجيل زيارتي"
صمتت (روميساء) بإحراج وهي تشدد من القبض على حزام حقيبتها بتوتر ، لتهمس بعدها بحزن واضح
"اعتذر إذا كنتُ قد ضايقتك بمهمة إيصالي للمنزل"
زفر (احمد) انفاسه بضيق وهو يتمتم باقتضاب
"فقط اصمتِ ولا تقولي اي كلمة اخرى عن هذا الموضوع ، وسأكون عندها اكثر من سعيد"
زمت شفتيها بامتقاع وهي تعيد انظارها للنافذة المفتوحة بجانبها بشرود سور عقلها ، ولم تنتبه للنظرات والتي كانت تراقبها خلسة وهو يتمعن بخصلات شعرها السوداء الطويلة والمتراقصة مع الهواء البارد بهدوء وهو يتسلل من النافذة وكأنه يسرقها منه .
اوقف السيارة بعدها بدقائق بجانب الطريق وهو يقول بحزم صارم
"إياكِ والخروج من السيارة ، سأغيب عشر دقائق فقط واعود ، لذا حاولي ان تكوني مهذبة بهذا الوقت"
عقدت حاجبيها بضيق وهي تستمع له وهو يتكلم معها بهذه النبرة وكأنه يتكلم مع طفلة مشاكسة كثيرة الحركة وهو نفس الكلام والذي كانت توجهه لطلابها عندما تخرج من الفصل ، خرج بعدها من السيارة وهو يقفل الباب من خلفه بقوة ليسير من فوره نحو منزل متوسط الحجم وعواميد الإنارة تضيء الطريق امامه وامام مدخل المنزل .
تقدمت (روميساء) بجلوسها وهي تنظر بتركيز من النافذة الأمامية للسيارة للذي وصل لمدخل المنزل ليقرع عندها على الجرس بهدوء ، ليطل عليه بعدها بثواني رجل لم تتبين ملامحه او شكله بسبب الظلام الحالك والمنتشر بالمكان ، ولكن كل ما استطاعت لمحه هو يده الممسكة بشيء ليناوله ذلك الشيء ليد المقابل له قبل ان يودعه بالنهاية وهو يلوح له بابتسامة هادئة باتزان !
تراجعت بسرعة بجلوسها ما ان عاد ادراجه وهي تراقبه يدور حول السيارة بهدوء قبل ان يدخل لها بصمت ، ليجلس بعدها بمكانه وهو يلقي بالشيء الذي احضره فوق المقود والذي تبين بأنه كرت مستطيل الشكل بلون ابيض مزخرف بالفصوص والالماس بإتقان عمل يدوي ، حرك (احمد) السيارة بهدوء وهو يقود بعيدا عن الطريق ليسلك طريق آخر مؤدي للمنزل ، بينما لم تستطع (روميساء) منع نفسها من إمساك الكرت وهي تتفحصه بين يديها بانبهار صامت ، لتسمع بعدها صوت الجالس بجانبها وهو يقول بهدوء
"هل اعجبكِ صنع الكرت ؟"
اومأت برأسها بالإيجاب وهي تهمس بحيرة
"هل هذا كرت زفاف ؟"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهي يقول بابتسامة جانبية بسخرية
"اجل هذا كرت زفافي"
التفتت (روميساء) نحوه بصدمة وهي تقول بانشداه
"ولكنك متزوج بالفعل !"
اتسعت ابتسامته بغموض غير مفسر وهو يقول ببرود واثق
"ولكن الرجل بالشرع محلل عليه بالزواج من اربع"
عضت على طرف شفتيها بتأنيب من تفكيرها الاحمق وما دخلها هي لتحشر نفسها بما لا يعنيها وبخصوصيات الآخرين ! ليقول بعدها (احمد) بابتسامة هادئة
"افتحي الكرت وستعلمين تفاصيل الزفاف جيدا"
فتحت الكرت بأصابع مرتجفة وهي لا تعلم ما سبب كل هذا الارتجاف والرهبة والتي تنتابها لأول مرة اتجاه شيء ؟ لتخرج بعدها ورقة مزينة بالفصوص من داخله ومكتوب عليها بالخط العريض
(نتشرف بدعوتكم لحفل شراكة بين شركة حوت عائلة الفكهاني وشركة نصران بنهاية الأسبوع القادم بحلول الساعة التاسعة مساءً .
نتشرف بمجيئكم....)
توقفت عن القراءة وهي ترفع نظراتها بصدمة هامسة بعدم استيعاب
"هذا ليس كرت زفاف بل كرت دعوة لحفلة شراكة !"
انفجر (احمد) بالضحك بمرح قبل ان يقول بجدية متزنة
"اجل هذه دعوة لحفلة شراكة بعائلتنا وابي سيقيمها بمنزلنا ، وقد طلبتُ من منسق الكروت ان يصمم لنا كرت خاص لهذه الحفلة ، وهذا الذي بين يديكِ هو اول نسخة من الكرت ويمكنكِ الاحتفاظ به بما انه قد اعجبك"
انفرجت شفتيها بارتعاش وهي تعود بالنظر للكرت قبل ان تهمس بعبوس جاد
"ولكنك تحتاج هذا الكرت كأول نسخة منه لتتفحصه جيدا وتتأكد بأنه لا يوجد به اي عيب ، وانا لا استطيع قبوله....."
قاطعها (احمد) وهو يقول بصرامة عابسة
"ألا تستطيعين فعل شيء او تنفيذه بدون ان تناقشيني به او ان تعترضي عليه ؟ وايضا انتِ قد رأيته وتفحصته وهذا يعني بأنه لا يوجد به اي عيب !"
ارتبكت ملامحها وهي تعيد الورقة لداخل الكرت هامسة ببساطة
"حسنا لا تغضب ، سأتقبله منك بما انك لا تمانع هذا"
حاد بنظراته نحوها بضيق وهو لا يصدق مدى عناد هذه الفتاة ولكنه بالحقيقة يروقه كثيرا فهو لم يحاول يوما مناقشة احد بأفكاره بحرية كما يفعل معها هي ! قالت (روميساء) بعدها وهو ما تزال شاردة بالكرت
"يبدو بأنك تبذل قصارى جهدك من اجل ان تكون الحفلة رائعة وتروق مستوى المجتمع الراقي !"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يبتسم بزهو فقد استطاع احد ان يفهمه اخيرا ويقدر ما يبذله من مجهود ليجعل الحفلة كاملة لا ينقصها شيء ، قال بعدها بهدوء ممتن
"هذا إطراء جميل ! وسيكون رائعا حقا لو حضرتي هذه الحفلة ايضا فوجودكِ بها سيجعلها كاملة"
ردت عليه بسرعة برفض
"كلا لا استطيع يا سيد احمد ، فأنا ليس لي مكان بتلك الحفلة ابدا !"
تجهمت ملامحه وحل البؤس عليه بعد ان كان قد انتهى من عنادها وهو يقول بتسلط
"ماذا قلنا عن التوقف عن مناقشتي بكل شيء اقوله ؟ انا اخبرتكِ بأمر وانتِ عليكِ بتنفيذه فهذه الحفلة تخص عائلتكِ وهذا يعني بأنكِ انتِ ايضا مدعوة لها !"
قالت (روميساء) بارتباك وهي تحرك رأسها بالنفي باهتزاز
"ولكن يا احمد ، انا لا استطيع ولا املك حتى ملابس مناسبة او اي شيء خاص من اجل تلك الحفلة !"
لم تنتبه لتغضن ابتسامته بغموض وهي تنطق اسمه مجردا لأول مرة بدون ان تقصد وهو يجرب اسمه منها بدون اي ألقاب وبعفوية محببة ، ليقول بعدها بهدوء وبثقة بالغة
"لا تقلقي يا روميساء ، فأنا من سأهتم بكل هذه الأمور ، فقط انتِ وافقي على الحضور ولا تهتمي للباقي"
تنهدت بهدوء لوهلة قبل ان تعود للنظر للأمام بشحوب وهي تدس الكرت بحجرها بصمت ، ليطول الصمت بينهما حتى نهاية الطريق المؤدي للمنزل والظلام يحيطهم بكل مكان ألا من بعض الانوار والتي كانت تضيء الطريق امامهما بخجل .نهاية الفصل....
أنت تقرأ
بحر من دموع
Ficción General"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...