الفصل الثامن عشر

213 4 3
                                    

كانت تحرك اصابعها الرقيقة حلقة الخاتم الذهبي بشرود وهو ملتف حول اصبعها النحيل ليقيد حركة مفصل العظمة ، وعينيها غائمة بدوامة تفكيرها البعيدة وبين طيات ذهنها الغائب عن الواقع بنقطة سابحة ببحار عقلها ، وبدون ان تشعر بخروج استاذ المحاضرة من القاعة يتبعه باقي الطلاب قبل ان تفرغ من الجميع بلحظات ، لتبقى وحدها الجالسة بآخر صفوف المقاعد شاردة بلا شيء ومع امواج بحار عقلها والتي لم تهدأ منذ ساعات ولو قليلا وهي تغيبها عن عالمها تماما .
 
تجمدت ملامحها فجأة وهي تقبض بيدها والتي تملك الخاتم بأصبعها وهو يحفر بباطن كفها بسبب احتضان الألماسة بداخل يدها حتى شعرت بها تخدش اناملها ، لتريح بعدها بلحظة قبضتها على اعلى صدرها لا إراديا وهي تضغط بها على موضع خفقات القلب والتي ما تزال تصدر طنينا مزعجا بكل إنحاء جسدها مثل نواقيس الخطر بحياتها ! لتتنفس بلحظة بلهاث طفيف دام لدقائق حتى آلمت صدرها لترمش بعدها بعينيها عدة مرات بدموع خفية لا تعلم مصدرها وهي تلسع روحها قبل عينيها ؟ بدون ان تتأكد إذا كان سببها العدسات ام هو الألم الساكن بروحها منذ دهور حتى اتخذ جسدها مسكنا ؟
 
زفرت انفاسها بقوة مكبوتة بعد وقت دام لخمس دقائق كاملة وهي تستعيد روحها المنتفضة ، لترخي بلحظات يديها المشدودتين كما جسدها قبل ان تقف من فورها باستقامة لتلتقط حقيبتها وهي تندفع لخارج القاعة بأكملها بدون تأبه بالطريق امامها وبكل النظرات الدائرة من حولها ، وهو الوقت القصير الذي تحتاجه دائما وتذهب إليه بتخبطات حياتها وفاصل بأمواج محيطها ، عندما تصل لمفترق طرق محتوم بين التراجع والتقدم والذي يدفعها دائما لتختار بين الموت بمكانها وموتها بالحياة ليقودها الخيارين للموت والذي لا فرق بينهما ! ولكن بعالمها الذي تخوضه هناك دائما خيار بالموت افضل من الآخر ، وعلى كل الأحوال لا ضير من تجربة جميع انواع الموت والتي لا تضاهي شيئا حين تأتي ساعة الموت الحقيقي والتي ستخلص البشر من تجربة هذه الأنواع من الموت ، ويبدو بأنها ستحارب كثيرا حتى تحين تلك الساعة والتي ستريح جسدها من معاناته الأبدية والتي وشم بها !
 
تباطأت قدميها عن السير باندفاع لبرهة وهي تخفت بخطواتها حتى توقفت تماما ما ان شعرت بدنو الخطر نحوها وبغريزة الحذر تنتفض بداخلها ، لترفع ببطء عينيها الواسعتين بتوجس باتجاه الواقف امامها على بعد خطوات منها ، وهي تراقب بتمعن ابتسامته المائلة بملامحه المفترسة مع عينين ناعستين لا تخفي لمحة الاجرام بهما والتي تعايشت على نظراتهما لها منذ الصغر بدون ان تأبه آن ذاك بمعنى تلك النظرات المقيتة والتي كانت تدور من حولها بتسلط متملك بكل مكان ، لتزيد من كرهها الأزلي لكل ما يمت بصلة بجنس الذكور المريض ...
 
ضيقت عينيها للحظات ما ان شعرت به يهمس بدون صوت بكلمته المشهورة والتي حفظت نطق احرفها بدون سماعها
"دميتي"
 
عقدت حاجبيها بضيق وهي تدير عينيها بعيدا عنه بأنفاس حادة غاضبة بكبت ، وكأنها قد عادت الطفلة التي كانت تغضب وتفور من كلماته المريضة والتي كان يطلقها عليها دائما وتقابله بها بالاستياء والغضب ، ولم تشعر بعدها بصوت خطواته وهو يقترب منها اكثر قاطعا الفاصل بينهما بلحظة ، وما ان اصبح امامها تماما حتى مال بجسده قليلا وهو يهمس بعبث خطر
"لو تعلمين كم يبلغ اشتياقي لكِ يا دميتي ؟ لقد استطعت بكل قدرتي ان اصبر نفسي كل هذه الفترة عنكِ ولا اتهور معكِ ، وهذا ابدا ليس من تقاليدي ومبادئي !"
 
تشنجت ملامحها وهي ترفع عينين زرقاوين بغضب مستعر هامسة من بين اسنانها بضيق
"ألم تمل من هذه اللعبة بعد يا مازن ! الجميع قد كبر وتزوج وبنى عائلة وحياة ، وانت ما تزال تلهو بتلك اللعبة السخيفة المتعلقة بلحاق نفس الطفلة والتي لا تطيق رؤية شكلك بحياتها وكأنها من ممتلكاتك الخاصة"
 
اتسعت ابتسامته بلحظة قبل ان تتحول لضحكة ساخرة بعيدا عن المرح ، ليعود بعدها للنظر لها بقوة وهو يهمس بحاجبين مرتفعين ببرود مستفز
"اجل الجميع اكمل حياته بطبيعية ، وحتى صفاء الصغيرة البلهاء استطاعت الزواج والتحليق بعيدا عنا ، ولكن ماذا عنكِ انتِ المجرمة الصغيرة والتي اوهبت حياتها لخدمة الشر والاجرام ؟ هل لديكِ حقا القدرة على اكمال حياتك بسعادة رغم كل الدمار والذي احدثته بحياة الناس بطريقة غير مباشرة حتى تكللت حياتك بالذنوب والآثام ؟ هل تستطيعين التسالم مع هذا الماضي ومحي كل ما فات بدون اي تعذيب ضمير او ذكريات سوداء تعيدك لحقيقتك الشنعاء بهذه الحياة ؟"
 
تصلبت ملامحها الحجرية لبرهة وهي تنظر له بأحداق جامدة بدون اي تعبير فقط أمواج من مشاعر وهياج انشبت بروحها بمخالب سوداء لماضي سحيق دفن بتربة الحياة ، بعد ان كانت تتسائل بنفس هذه الأسئلة الآن ليعيدها لدوامة بحار عقلها بدون اي هوادة بطريق ملئها الجميع بالألغام ، ولكي لا يصل اي قبس من السعادة بداخل مكان تربت فقط على اكل الألغام منه حتى تكيفت بتلك البيئة والتي لم يكن لديها خيار بها .
 
زمت شفتيها بارتجاف ظهر على محياها بلمحة خاطفة ما ان تابع كلامه بابتسامة باهتة وهي ترتفع بغموض
"عليكِ ان لا تنسي بأن حياتنا هكذا افضل بكثير من غيرنا ، فمن بمكانك الآن يتحاسب على اعماله منذ دخوله لذلك العالم الاجرامي حتى نهاية حياته ، وخاصة زمرة قيس والتي كنا جزء منها وقبض على معظمها ومن تبقى منها محدود جدا ، ونحن الاثنين باعتبار من الناجين من تلك الكارثة بسبب قلة تفاعلنا بنشاطاتها الاجرامية ، ولكن من يعلم قد تنقلب الادوار بعدها وتصبح اسمائنا من المطلوب القبض عليهم مع زمرة قيس !"
 
عبست ملامحها وهي تبتلع ريقها بهدوء ظاهري تشنجت معها تفاصيل وجهها الباردة وسحقت بمفاصل اصابعها المقبوضة مسيطرة على موجة الضعف بطيات غضبها الجائح والذي لا يكد يفلت من زمام امورها ، لتهمس بعدها بلحظات طويلة بازدراء وهي توجه له نظرات جليدية بدون اي تعبير
"هذا امر شيق وطريقة طريفة لبث الرعب بداخلي ، ولكن صدقني هو لا يؤثر بي ولو قليلا ، فكما نفذت من قبل من كثير من الكوارث ، فسأستطيع إذاً النفاذ بسهولة من هذه الكارثة الصغيرة والتي لا تساوي شيء امام ما واجهته بحياتي من قبل ، واسمي سيبقى دائما نظيف بعيد عن امثالكم وعن قائمة المجرمين السوداء"
 
اومأ برأسه بانبهار تمثيلي وهو يرفع يده لرأسه بإشارة الإعجاب الساخر قائلا بقتامة واضحة زادت عسلية عينيه اجراما
"ارفع لكِ القبعة يا دميتي ! ولكن ماذا ستكون ردة فعلك عندما يحاول احد آخر التحايل عليكِ وإيصال اسمكِ لهم مع الأدلة الواضحة والموصومة بأفعالك وعلى جرائمك ؟....."
 
قاطعته التي رفعت يدها بوجهه بتهديد وبانفعال مندفع
"لن تفعلها لأنه ليس لديك الجرأة الكافية لتوريط نفسك بمثل هذه التهمة......"
 
شهقت بوجل ما ان قبض بيده على كفها بعنف حتى كاد يكسرها لوهلة ، وما ان رفعت حدقتيها نحوه حتى تصلبت بمكانها بلحظة انحصرت بها الدماء عن وجهها بلمح البصر وهي تشعر بخطر نظراته العسلية والتي ابتعدت عن الهزل يكاد يحرقها بلهب تلك الشعلات بعينيه ، ليحدث عندها ما توقعته وهو يهمس بابتسامة ملتوية بقسوة وعينيه تشير لأصبع من اصابع يدها الظاهرة من قبضته
"خاتم جميل جدا ! لم انتبه له من قبل ، ولكن من اين جلبته فهو يبدو باهظ الثمن وما هو اساسا ؟"
 
عضت على طرف شفتيها بغضب متوجس وهي تحين منها التفاتة جانبا للنظرات والتي بدأت تتجه نحوهما تدريجيا وبالتتابع ، ليسحبها بعدها بثواني الذي كان يمسك بيدها وهو يسير بها بعيدا عن ساحة الكلية ، بدون ان يهتم لمقاومتها لاندفاعه وليدها والتي تكسرت مفاصل اصابعها بقبضته الساحقة .
 
وما ان وصلت عند الحديقة الخلفية والبعيدة عن باقي الطلاب حتى كان يديرها امامه بعنف ليفلت يدها اخيرا عن قبضته ، لتدلك من فورها يديها معا وهي تعدل الخاتم على مفصل اصبعها برفق ، لتنظر له بعدها بنظرات باردة وهي تهمس بفورة الغضب
"لن اسامحك عليها ايها الفظ الهمجي ، هل تظن نفسك تملك حياتي لتتصرف بها كما تشاء ؟ امثالك يستحق السجن وعدم الخروج منه حتى يموت ويدفن هناك ليصبح عبرة لكل من يفكر مثل تفكيرك المريض......"
 
تأوهت بألم ما ان انقض على ذراعيها وهو يهزها منهما مزمجرا بغضب ناري بعد ان فقد اعصابه بلحظة
"ماسة اخرسي لأني لست بمزاج جيد لأتقبل سخريتك وشراستك والتي ستنهي على حياتك بقبضة واحدة من يدي وبحركة طائشة مني ، لذا تكلمي الآن واخبريني بدون اي تمثيل ، هل هذا بيدك خاتم زواج ام ليس كذلك ؟"
 
حركت رأسها بقسوة وهي تهمس ببرود جليدي بدون ان تتأثر بنفث نيران غضبه بوجهها
"بل هو مجرد خاتم ارتديه بأصبعي من اجل ان اغيظك واغضب جميع من يفكر مثل تفكيرك لكي لا يجرأ احد على الاقتراب مني مجددا"
 
صرخ فجأة بفوران وهو يشدد على ذراعيها بدون اي تخفيف وبصوت انضح به خطورة المجرمين
"تكلمي يا ماسة......"
 
ردت عليه من فورها وهي تبصق الكلام بوجهه بنفور
"اجل انه خاتم من الشخص الذي يستحق ان امنحه حياتي بدون اي تردد لأنه من يستحق الحصول على ماسة ، وهي ليست حكر لك ولن تكون"
 
زمت شفتيها بارتباك شل حركتها ما ان وضع يده بلمح البصر حول عنقها وهي تستعد ليقضي على انفاسها الاخيرة ، ولكن ما حدث عكس ذلك تماما وهو يهمس بجانب اذنها بشرارة حاقدة وبجنون حرقت اذنها بلهيب انفاسه
"حسنا إذاً هكذا تريدين الأمر ! سأريكِ من هو الذي يستحق الحصول عليكِ حقا ولمن ستكونين يا ماسة الفاروق ؟"
 
كتمت انفاسها لوهلة ما ان ابتعد عنها بلحظة ومع انفاسه الحارقة ليودعها عندها بنظرات مفترسة ناعسة عادت لهدوئها الغامض المريب ! ليستدير بعدها لبرهة وهو ينحني قليلا قبل ان يغافلها بسرعة برمي صخرة مدببة بلمح البصر ، لينخفض جسدها لا شعوريا بهلع وهي تجثو على ركبتيها مغطية بيديها فوق اذنيها ما ان صدح صوت تحطم الحجر لذرات غبار مبعثرة على جذع الشجرة من خلفها ، لتزفر بعدها انفاسها بثواني وهي ترفع عينين مذعورتين لمكان اختفاءه وكأنه شبح الماضي المظلم مر على حياتها ، ليختفي بعدها بلمح البصر وبعد ان زرع الخوف الفطري بروحها والتي عاشت وتربت على هذا الخوف منذ شبت على تلك الطفولة القاسية ! بدون ان تعلم ما يخبئه لها القدر من المزيد من الكوارث الموجعة والقادمة على الطريق ؟
______________________________
امسكت بالسكين الحادة لتبدأ بقطع الخضراوات امامها لأنصاف بهدوء على لوح التقطيع الخاص وعينيها تتابع حركاتها بدقة ، وهي تمسك بيدها الاخرى الخضراوات التي تنوي تقطيعها قبل ان تلقي بها بقدر الطبخ لتعود بعدها لإكمال تقطيع باقي الخضراوات برتابة ، توقفت لبرهة ما ان سمعت صوت ضوضاء خافتة من خلفها ، لتلتفت بنصف وجهها للخلف وهي تنظر بحيرة للتي كانت تمسك دلو الماء بيدها والممسحة الطويلة بيدها الاخرى .
 
عقدت حاجبيها بوجوم ما ان وضعت دلو الماء ارضا بقوة لتقطر منه بعض القطرات من حوله وهي تتبعه بمنشفة قطنية صغيرة ألقت بها بداخل الدلو ، لتقول بعدها وهي تستدير امامها بلحظة وبنظرات حائرة بارتباك
"ما لذي تفكرين بفعله بهذه الأغراض يا عمتي هيام ؟"
 
رفعت رأسها التي كانت تعدل الوشاح حول وجهها جيدا بعقده خلف عنقها وهي تقول بابتسامة هادئة بوهن
"اليوم هو يوم تنظيف المنزل يا ابنتي ، فأنا لم انظفه منذ اسبوعين وقد اصبحنا بنهاية الشتاء ، لذا عليّ ان ابدأ بتنظيفه مباشرة من كل الأتربة والأوساخ والتي جلبها الشتاء معه ولكي نستقبل الربيع ببيت نظيف"
 
احنت نظراتها بعبوس لدلو الماء والممسحة الطويلة وهي تفكر بالجهد والوقت والذي يستغرقه تنظيف منزل كامل من عشرة غرف وعلى امرأة كبيرة مثلها لم تستطع التوازن بحمل دلو الماء ! عادت بنظراتها لها وهي تهمس بخفوت عابس
"ولكن أليس هناك احد يساعدك بتنظيف المنزل عادةً ! فهو كبير جدا ويحتاج لجهد جبار لأنهاء تنظيفه"
 
نظرت لها للحظات وهي تهمس بابتسامة متسعة بهدوء
"لا تقلقي يا عزيزتي فأنا معتادة على تنظيف المنزل لوحدي بدون مساعدة من احد ، فقط المشكلة بأن المنزل قد اصبح حجمه اكبر وعدد غرفه اكثر بالنسبة لمنزلنا القديم والذي كنا نعيش به بالسابق ، وقد اقترح عليّ جواد كثيرا ان احضر خادمة تعمل هذه المهمة ، ولكني رفضت بشدة ولم اقتنع بالفكرة فليس من اللائق ان يخدمنا الناس او ان يعمل تحت أمرتنا من اجل الحصول على بعض النقود فهذا بالنسبة لي بالغ القسوة"
 
اومأت برأسها بشرود وهي تفكر بأن هذه المرأة تتشابه معها بنفس المنطق والذي كانت تعيش عليه عندما كان والدها يحاول اقناعها دائما بإحضار خادمة تساعدها وتساندها بالمهام اليومية بالمنزل ، ليكون جوابها على الدوام الرفض وعدم ادخال امرأة اخرى بتلك الوظيفة الرخيصة والتي تقلل من قيمة المرأة وتفسد مكانتها بالمجتمع ، همست بعدها بلحظة بوجوم غيم على ملامحها لوهلة
"هل كان لديكم منزل آخر غير هذا ؟"
 
رفعت نظراتها بشرود حزين لمحته بتلك العينين السوداوين وهي تهمس بابتسامة صغيرة بحنين
"لقد كان منزل بسيط جدا وبحيّ سكني شعبي ، بالرغم من صغر مساحته وقلة غرفه ولكنه كان يحمل الحنين والدفء بزواياه الضيقة ، وخاصة بأنه كان يجمع عائلتنا معا بدون ان يفسد ترابط تلك العائلة الصغيرة"
 
عقدت حاجبيها بامتقاع وهي تشعر بدوامات الحزن تحيط بالأجواء من حولهما حتى كادت تخنقها بشعور سحيق بصميم روحها ، بدون ان تفهم سبب تلك المشاعر الآن والتي اجتاحتها على حين غفلة منها ؟ فهل تشعر بالحزن على فراق رجل المنزل ام هو شيء آخر لم تفهمه بأسرار هذه العائلة الغامضة ؟
 
قالت بعدها بلحظات بابتسامة متسعة وهي تنفض غيوم الحزن والحيرة عنها
"ولكني ارى بأن المنزل نظيف جدا ، ولا يحتاج لحملة التنظيف هذه والتي ستأخذ منكِ كل طاقتك وصحتك من اجل انهاء تنظيفه والذي لن ينتهي قبل الغد....."
 
قاطعتها بروية التي كانت تمسك بعامود الممسحة قائلة بخفوت جاد
"لا داعي لكل هذا الخوف عليّ يا صغيرتي ، فأنا لن يهدأ لي بال حتى ارى المنزل نضيف تماما وخالي من اي اتربة او ميكروبات قد تؤدي عن امراض خطيرة ، وايضا لقد اتفقت مع جواد بعد جدال طويل بأنني سأنظف فقط الغرف التي نقيم بها والأماكن التي نتواجد بها كثيرا بالمنزل ، واما باقي الغرف سأتركها لتنظيف السنوي"
 
زمت شفتيها بدون ان تقتنع تماما بكلامها وخاصة بأنها ادرى الناس عن مدى الوقت والجهد والذي يأخذه تنظيف منزل من عدة غرف حتى لو كانت من طابق واحد ومجرد ثلاث غرف التي سيتم تنظيفها ، تقدمت نحوها بهدوء لتقف امامها تماما وهي تمسك بعامود الممسحة عنها هامسة برقة
"حسنا يا عمتي بما انكِ مصرة على رأيك ، إذاً سأترك لكِ مهمة تقطيع وطبخ الخضراوات وانا سأستلم مهمة تنظيف المنزل ، فهو لا يقارن امام المنزل والذي استلم تنظيفه يوميا"
 
ارتفع حاجبيها بدهشة بلحظة قبل ان تعبس وهي تراقبها تمسك بمقبض الدلو قائلة لها باستنكار غير راضي
"لا يا صفاء اتركي عنكِ هذه المهمة ، فأنا التي استلم مهمة تنظيف هذا المنزل لسنوات ، وليس يعني انكِ زوجة ابني تصبحي خادمة عندي فهذا غير مقبول ابدا....."
 
قاطعتها التي سارت باتجاه باب المطبخ وهي تقول بابتسامة بمحبة
"لقد حسم الأمر يا عمتي وانا من سأنظف المنزل ولن يستغرق مني الكثير من الوقت ، وصدقيني لست افعل هذا لأكون خادمة عندك ، بل لأني اكون باعتبار ابنتك وانتِ بمقام والدتي لذا على الابنة ان تساعد والدتها بأعمال المنزل من اجل راحتها وتعبير عن مدى محبتها لها"
 
خرجت من المطبخ من فورها بعد ان لمحت نظرات تلك المرأة الدامعة وهي تخصها بنظرات مكسورة تراها لأول مرة بعينيها الواسعة ، ام تراها تتوهم هذا فقط بسبب حاجتها الشديدة لتجربة مثل هذه المشاعر الأمومية والتي حرمت منها لسنوات !
 
وصلت امام الغرفة الاخيرة بالمنزل بعد ان انتهت من تنظيف الغرف الخاصة بها هي وعمتها وباقي الغرف التي يستخدمونها كثيرا ، لتصل بالنهاية للغرفة الخاصة بذلك الفارس الحاقد والذي يكون زوجها ويتوجب ان تكون هذه غرفتهما معا وليس كل واحد منهما بغرفة منفردة وكأنهما اغراب ولا تربط بينهما صلة !
 
تنهدت بهدوء وهي تفتح الباب امامها لتطل عليها الغرفة الفارغة بصمت داكن شبيه بأجواء الغرفة المظلمة وكأنه يعيش طيلة حياته بالعتمة بعيدا عن النور ، لتتنقل بعدها بنظراتها تلقائياً بمحتويات الغرفة الانيقة والفاخرة والتي تمزج بين اللونين الرمادي والاسود بدون ان يدخل اي ألوان اخرى لحياته ذكرتها بألوان (ماسة) المفضلة والتي لا تفضل غيرها بحياتها السوداوية .
 
تقدمت بخطواتها للداخل ببطء حذر وهي تحمل الدلو بيديها والممسحة تحت ذراعها ، لتقف بعدها بمنتصف الغرفة بلحظة وهي تضع الدلو امامها بتعب ، لتستقيم بوقوفها لوهلة وهي تمسح جبينها بظاهر يدها بهدوء قبل ان تمسك بالمنشفة القطنية الصغيرة وهي تعصرها من الماء بقوة .
 
اتجهت امام السرير الواسع لتبدأ بمسح خشبه الأملس برفق وهي تشرد للحظات بملاءة السرير ناصعة البياض وبالوسائد المرتبة من فوقها وكأن لا احد ينام عليه او يقطن بهذه الغرفة ؟ نفضت الافكار الحالمة عن رأسها بلحظة ما ان انحدرت لمستوى آخر فجر الدماء بوجنتيها الحمراوين بطيات احلام يقظتها !
 
انتفضت واقفة بمكانها تلقائياً وهي تمسك بعامود الممسحة الطويلة لتحركها بعيدا بعشوائية عن مسار افكارها بدون ان تنظر للسرير الفارغ ، لتشعر بعدها بلحظة بشيء تحت قدمها داست عليه بدون ان تنتبه ، لتوجه نظراتها للأسفل لبرهة وهي تنحني من فورها مبعدة قدميها قبل ان تلمح بصدمة مفتاح صغير معدني لا تعلم من اي اتى ؟
 
امسكت بالمفتاح الصغير بارتجاف وهي تحدق به بحيرة عن سبب وجوده وما هي وظيفته هنا ؟ لتحين منها التفاتة من حولها وهي توزع نظراتها بالمكان علها تجد مصدره ، لتقع بالنهاية على الادراج بجانب السرير وهي تضيق عينيها العسليتين ناظرة لثقب الدرج الأول والذي يحتاج لمفتاح صغير ليستطيع فتحه .
 
عضت على طرف شفتيها الورديتين بحذر بدون ان تمنع الفضول من نهش اطرافها بقوة عن سبب وجود هذا الدرج والذي يحتاج لمفتاح خاص لفتحه ! لتتنفس بعدها بهدوء وهي تغرز المفتاح بلحظة بداخل القفل ببطء شديد ، قبل ان تسمع بثانية صوت فتح القفل والذي تبين بأنه فعلا خاص به وصاحب هذا المفتاح ...
 
ابتلعت ريقها بانقباض لوهلة وهي تفتح الدرج امامها ببطء صامت خيم على المكان للحظات ، لتلقي بعدها نظرة خاطفة على محتويات الدرج والتي كانت تضم اوراق وملفات متكومة فوق بعضها البعض بفوضى قبل ان يلفت نظرها برواز لصورة مقلوبة لم تستطع رؤية محتواها ، امسكت بإطار الصورة لتخرجها من الدرج بحرص وهي تقلبها على الجهة الاخرى من الصورة بلحظة ، لتظهر الصورة الفتوغرافية بداخلها بتشوش بسبب تكوم كتل الغبار فوق زجاج الصورة لتمنع رؤيتها لها بوضوح .
 
التقطت المنشفة الرطبة بجانبها لتمسح بها على زجاج الصورة برفق حتى ظهرت الصورة واضحة امامها بكل تفاصيلها ، عقدت حاجبيها بوجوم لوهلة وهي تنظر للأشخاص المتواجدين بالصورة والذين لم تتعرف منهم سوى على اثنين ، ومنهما المرأة المبتسمة بسعادة بشوشة يلف وجهها وشاح وردي جعل ملامحها اكثر بياضا وتوردا وكل سعادة العالم تسكن بتلك العينين السوداوين الجميلتين ، وكأنها امرأة اخرى او انعكاس لصورة امرأة حوّلها الزمن والحزن لتلك الصورة الباهتة والتي تراها امامها على الواقع ، وكل ما تفكر به ما لذي غير تلك المرأة يا ترى ؟ واما الشخص الثاني الذي تعرفت عليه من فورها ذلك الفتى الصغير والذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره وما ميزه هي تلك الملامح السمراء الحادة وعينين سوداوين عميقتين ، ولكن الاختلاف بأنهما لا يحملان اي شيء من تلك القتامة الحالكة بنظراته بل نظرات تحمل السعادة والدفء معا والثقة والتي تطغى على كليهما ، وكأنه يستطيع حمل الكون بأكمله وتحريك العالم كما يشاء بدون ان يأثر بثقته شيء !
 
تغضن جبينها بلحظة ما ان وصلت للفردين المتواجدين بالصورة والذين لم تعلم حتى الآن اصلهما بهذه الصورة العائلية ! وهي تنظر لطفلة صغيرة لا تتجاوز سن الخامسة بشعر اسود قصير حدد وجهها الدائري الصغير بملامح بيضاء طفولية تشع براءة ونور وبابتسامتها الكبيرة والتي تنير براءة العالم بداخلها ، لتصل للفرد الثاني الغريب وهو فتى يبدو بنفس عمر الأول ولكنه اصغر منه بسنتين تقريبا بسبب ملامحه الاكثر طفولية والتي تحمل نفس الاسمرار الحاد تتخللها ابتسامة مرحة بشقاوة غير موجودة عند الآخر .
 
انتفضت من غمامتها الشاردة بلحظة وهي تقف من فورها بهلع ما ان شعرت بدخول احدهم للغرفة ، ليقع برواز الصورة منها بغفلة عنها وبموجة رعبها ، نظرت بعدها بوجل للتي دخلت بسرعة للغرفة وهي تتجه نحوها قبل ان تنحني بلحظة خاطفة امام البرواز وهي تلتقطه من الأرض بحرص ، عقدت حاجبيها بارتباك ما ان وقفت المرأة امامها متجسدة من الصورة بالبرواز وهي تقول لها بتلعثم
"الحقيقة لقد كنت انظف بالغرفة ورأيت هذه الصورة مصادفة ، اقصد رأيتها بالدرج الذي كان مغلق وهو....."
 
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تزيد فعلتها غباءً بلسانها الطائش والذي سيجلب نهايتها بالمنزل وبهذه العائلة ، لتنظر بعدها بحيرة للمرأة التي جلست على طرف السرير وهي تتلمس زجاج الصورة بكفها بدموع برقت بمقلتيها الواسعتين وبحزن عميق لمحته بنظراتها الذابلة ، قبضت بعدها على يديها معا بتوتر مفرط وهي تقول بخفوت حزين مترافق مع حزن المرأة والتي تجسدت من شبح الماضي المؤلم
"هل هذه صورة عائلتك ؟"
 
تنهدت التي كانت ما تزال تشرد بالصورة امامها بحنين للماضي البعيد وقبل حدوث كل مآسي الحاضر ، لتقول بعدها بغصة بكاء لم تتركها منذ سنوات
"اجل عائلتي الصغيرة واجمل من انار حياتي منذ سنوات"
 
تشنجت ملامحها بارتباك بدون ان تجد الرد المناسب لمثل هذا الكلام والذي وضعها بغمامة مشوشة وبتخبط اكبر من السابق ، لتقول بعدها بحيرة واجمة بدون ان تمنع نفسها
"ومن الموجودين بالصورة مع جواد ؟ هل هؤلاء اولادك ؟"
 
ابتلعت ريقها بتوجس ما ان شحبت ملامح المرأة فجأة لتزيد لمعان الدموع بتلك العينين الواسعتين اكثر من السابق وكأنها قد انتقلت لعالم آخر بعيد عنها فصلها عن الواقع لدقائق ، لترفع بعدها يدها بتردد وهي تربت على كتفها بهدوء متشنج للحظات ، رفعت نظراتها نحوها لبرهة وهي تعود للابتسام بشحوب حاني ، قبل ان تخفض نظرها بلحظة للصورة قائلة بهدوء شارد واناملها ما تزال ترسم تفاصيلها على زجاج الصورة
"اجل اولادي الصغار ، الفتاة هي ابنتي الصغرى غنوة واغنية الحياة بهذا المنزل ، واما الطفل الثاني اوس فهو ابن شقيق زوجي الطفل الشقي ومن ارضعته مع ابني جواد ليكون ابن لي مثل مرتبة اولادي تماما ولا يختلف عنهم بشيء ، ليكونوا جميعا منارة حياتي وكل ما املكه بهذه الحياة"
 
ارتفع حاجبيها ببعض الدهشة ممزوجة بالاستياء من الحقائق والتي تتلقاها الآن الواحدة تلو الأخرى قاضية على آخر ذرة عقل برأسها بدون اي توضيح ، فأين هم هؤلاء الاولاد وكم تخشى من طرح السؤال واجابته ؟
 
قالت بعدها بلحظات بخفوت مرتجف وهي تشتت نظرها بعيدا عنها نافضة هالة الحزن والصمت والذي اصبح حلقة حول عنقها يكاد يخنقها
"عائلة جميلة جدا والله يحفظهم لكِ ، وانا متأكدة بأنهما الآن بمكان افضل من هذا المكان......"
 
قاطعتها بنفس شرودها الحزين واناملها ما تزال تتلمس على زجاجها البارد بقسوة
"غير صحيح يا صغيرتي ، اوس ما يزال على قيد الحياة ، ولكنه لم يعد موجود بالعائلة فقد عاد للعيش مع والده وبعيدا عنا ، وحرمت انا من رؤيته بحياتي مجددا وبقسوة من الجميع ، بدون ان يعلم احد بقلبي المفطور والذي تعلق بذلك الطفل البريء"
 
لعقت طرف شفتيها بثواني وهي تحاول فهم الحقيقة الجديدة فوق الحقائق الاخرى وهي تهمس باستفهام لا إرادي
"وماذا عن غنوة كيف رحلت عنكِ ؟"
 
تسمرت ملامحها لوهلة وهي تقابل ملامح باردة كالجليد مرسومة بملامح الجالسة امامها ويدها تقبض على اناملها فوق الزجاج بقوة حتى اصبحت شبيهة بملامح ابنها القاسية ! بدون ان تعلم سبب كل هذه القسوة والجمود بحياتهم المعقدة ؟
 
رفعت رأسها بعيدا عنها بانتفاض ما ان سمعت صوت صفارة خافتة قادمة من المطبخ ، وما ان افاقت الاخرى من افكارها وهي على وشك النهوض عن السرير حتى اوقفتها التي قالت بابتسامة رقيقة بهدوء
"لا بأس انا سأذهب لأكمل امور الطبخ ، فقد انتهيت بالفعل من تنظيف الغرف"
 
لتغادر من فورها لخارج الغرفة بلحظات بدون ان تنتظر ردها ، لتعود الجالسة بشرودها على الصورة امامها وهي ترفع قبضتها لشفتيها بلحظة ما ان خرجت الشهقة المذبوحة من صدرها المنتحب وهي تتذكر بعض من ذلك الماضي والذي يجمعها بأولادها ، وخاصة مع صغيرتها الزهرة والتي فقدتها بسن صغير وقبل ان تتفتح تماما وعبارة واحدة تتردد بذهنها قبل ان يتحول كل شيء من حولها لسواد حالك لم تخرج منه للآن وهو يلون سقف حياتهم
(ابنتكِ ماتت مقتولة برصاصة طائشة اصابت قلبها واودتها قتيلا)
 
______________________________
دخلت للمطبخ بسرعة وهي تنظر للقدر تحت النار والذي كان يصدر صوت الصفير المرتفع والماء يتسرب من حواف الغطاء بسيلان ، لتتجه من فورها امام الغاز بلحظة وهي تطفئ النيران الملتهبة من اسفل القدر بارتجاف حتى تأكدت من توقف فوران الماء تماما وخفوت صوت الصفير ليحل مكانها بلحظة الصمت التام لثواني .
 
تنفست الصعداء وهي تمسك بذراعي القدر بحرص ، وما ان حاولت رفعها قليلا حتى قصف صوت من خارج المطبخ يهتف بقوة
"امي......"
 
ادارت وجهها ناحية باب المطبخ بشرود بذات الوقت الذي شعرت به بثقل القدر على يديها والتين ابتعدتا عن الغاز وهي تتراجع للخلف لا إراديا ، لتشهق بذعر لوهلة ما ان اخترق شرودها صوت صارخ ليتبعها سقوط ما بين يديها بلحظة واحدة
"انتبهي يا صفاء !"
 
لم تسمع بعدها سوى صوت ارتطام القدر على الأرض الرخامية مع محتوياته والتي خرجت مع سقوطه ، لتملئ الأرض من حولها قبل ان يغيم الصمت لبرهة على عالمها للحظات طويلة كاتمة للأنفاس ، فتحت بعدها بلحظة عينيها العسليتين بتوجس وهي ترمش عدة مرات بارتعاش لتتأكد مما تراه امامها ، وهي تنظر للجسد الطويل والذي كان يعانق جسدها النحيل بقوة ذراعيه وهما تطوقان خصرها الغض بتشبث ، بينما نظراته الحادة كانت معلقة من خلفه وعلى مصدر الدمار والذي احدثته الآن وبملامح تتقلب لأول مرة بتشنج حاد ينضح منها القسوة وبشكل مختلف تماما عن المعتاد قريب من الخوف او الذعر وكأنه يخفي ذلك الشعور خلف واجهته القاسية !
 
زمت شفتيها بارتجاف وهي تخفض نظراتها العسلية بعيدا عنه ما ان وجه نظرات قاتمة نحوها وهو يتأملها عدة لحظات بتمهل بعث الرعب بأوصالها ، لتقبض على يديها لا شعوريا لوهلة ما ان رفع يديه ببطء عن خصرها بدون ان يتركها ليصل ليديها وهو يمسك بهما بقوة اخترقت عظامها هامسا بوجوم عابس
"لقد حرقت يديكِ ، يا لكِ من بلهاء !"
 
عقدت حاجبيها بتشوش وهي ترفع نظراتها بحذر لما يفعل لتفاجئ بملامحه الباردة والتي عادت لهدوئها الظاهري بعيدا عن ملامح الخوف والتي رأتها تنضح بتفاصيله منذ لحظة ، لتخفض بعدها نظراتها ليديها وهي تلاحظ لأول مرة احمرارهما القاني وخطوط دقيقة جدا بباطن كفيها سببها الماء المغلي والذي كان يتسرب من غطاء الطنجرة ، ليصيب يديها بدون ان تنتبه او تشعر بحضوره المفاجئ والذي طغى على كل شيء ؟
 
ابتلعت ريقها بانتفاض وهي تحاول التملص من يديه هامسة بارتباك
"لا بأس فهذه ليست اول مرة احرق بها يديّ ، وهو مجرد حرق صغير وسيزول......"
 
قاطعها الذي شدد اكثر على يديها حتى كاد يحطم مفاصلهما وهو يهمس بأمر
"اخرسي يا صفاء ولا كلمة ، يكفي الغباء والذي تسببتِ به لنفسكِ للآن"
 
انفرجت شفتيها بانشداه بدون كلام وهي تشتمه بداخل نفسها على التخبط والذي سببه بحياتها حتى كادت تحرق نفسها بطنجرة الطبخ بسبب دخوله للمكان بدون إذن او تنبيه وهو يهتف باسم والدته بصوته الخشن العميق والذي يرجف له كل جزء بجسدها ، وما هي ألا لحظات حتى سحبها معه امام صنبور الماء وهو يقدم يديها فوق المغسلة بقبضة ليفتح صنبور الماء بقبضته الاخرى بقوة ، ليهدر من فوره الماء فوق يديها معا لبرهة وهي تشعر ببرودة جليدية تنخر عظام كفيها نافضة الألم عنهما للحظات قبل ان يجتاح شعور الراحة بدواخلها ببهجة خالصة .
 
اغلق صنبور الماء بصمت وهو يتمتم بضيق واضح
"حقا بلهاء ! اين كان عقلكِ وانتِ تمسكين بطنجرة الطبخ حتى وقعت من يديك هكذا بدون اي حس بالمسؤولية ؟"
 
عبست ملامحها بحزن وهي تراقب يديها بداخل قبضته هامسة ببؤس
"لقد افزعني صوتك المرتفع ، لذا سقطت الطنجرة مني بدون قصد"
 
تصلبت ملامحه وهو يمسح بقبضته الخشنة على كفيها لا إراديا هامسا بسخرية قاتمة
"هل تقصدين بأنكِ تفزعين من كل الاصوات العالية وعليّ ان اخفض صوتي كلما دخلت لمكان تتواجدين به ؟ لكي لا ازعجك ولا تدمرين شيء او تحرقين نفسك كما فعلتِ الآن !"
 
حركت رأسها باهتزاز وهي تهمس بابتسامة صغيرة بعفوية
"لا قصدت بأنه من الافضل ان تعمل تنبيه لوصولك قبل ان تفزع احد بصوتك العالي"
 
تجهمت ملامحه بلحظة وهو يتمتم باستنكار
"ماذا !......."
 
توقف عن الكلام فجأة ما ان اخترق جدالهما التي دخلت للمطبخ من فورها وهي تقول بقلق
"ما كان ذلك الصوت ؟......."
 
شهقت بصدمة وهي تنظر للدمار امامها بعينيها السوداوين المتسعتين بوجل محدقة بمحتويات الطعام من قطع الخضار المتناثرة ارضا مع الماء من حولها ، والذي كانت تفكر بسلقه بالماء المغلي لتتركه فوق النار لينضج براحته قبل ان تفجع بهذه الحادثة ، همست بعدها بأنفاس مذهولة وهي تضع يدها فوق صدرها النابض بتعب
"ما لذي جرى هنا ؟"
 
زم شفتيه بوجوم وهو يترك يديها بصمت ليوجه نظراته لوالدته والتي تبدو ستصاب بالإغماء وهو يقول لها بنفس قسوته المعتادة
"اسألي هذا السؤال للبلهاء والتي تعمل معكِ والتي سلمتها كل امور المطبخ بدون اي مراقبة ؟ فهي تبدو لا تصلح لمثل هذه الأعمال الصعبة على فتاة مثلها !"
 
ارتفع حاجبيها بوجل وهي تنقل نظراتها للتي اصبحت تنظر لها بصدمة لتهمس بسرعة بتعثر مبرر
"الحقيقة لم اقصد حدوث هذا ، صدقيني فقط سقط مني عندما سمعت صوت جواد بالخارج......"
 
ابتلعت باقي كلامها بتوجس ما ان اصبحت تقف امامها التي امسكت بذراعيها وهي تهمس لها برفق حاني
"هل انتِ بخير يا صفاء ؟ هل تأذيتِ مما حدث ؟"
 
حركت رأسها بالنفي بضعف بدون كلام وهي تضم قبضتيها معا بصمت موجع ، لتوجه (هيام) نظراتها السوداء للواقف بجانبها وهي تقول بحيرة عابسة
"جواد متى عدت من العمل ؟ هل حدثت معك مشاكل بالعمل ؟"
 
افاق من شروده بلحظة وهو يهمس بخفوت خشن
"لا يا امي ، لقد عدت للمنزل لأسألك عن الملف والذي طلبت منكِ ان تخبئيه لي ؟"
 
عقدت حاجبيها بتفكير لوهلة قبل ان تهمس بهدوء
"اجل لقد وضعته لك بداخل الخزانة بغرفتك"
 
اومأ برأسه بصمت وهو يلقي نظرة اخيرة على الساكنة بمكانها قبل ان يغادر بسرعة لخارج المطبخ ، لتنظر بعدها صاحبة العينين العسليتين باتجاه الواقفة امامها بخجل يكاد يفتك بها وهي تهمس لها بحزن عميق
"انا اعتذر حقا يا عمتي على الدمار والذي سببته لكِ بالمطبخ"
 
نظرت لها لبرهة قبل ان تبتسم بشحوب وعطف تدفق بعينيها المستديرتين بجرح يأبى ترك جمال عينيها وهي تربت على كتفها هامسة ببحة صوتها الحانية
"لا داعي للحزن وللأسف يا صغيرتي ، فالمهم عندي هو سلامتك هنا فكل شيء بالحياة يعوض ألا انتِ يا صغيرتي ، وايضا هذه مهمتي انا منذ البداية الاهتمام بالطبخ ولم يكن عليّ ترككِ تتصرفين بها بمفردك"
 
ابتسمت بحياء وهي تزفر انفاسها براحة ما ان انتهت من مشكلة تأنيب الضمير بسبب ما فعلت يديها بغباء غير محدود ، لتقول بعدها بلحظات وهي تحرك رأسها بحماس
"إذاً انا من سأنظف هذه الفوضى لأنني السبب الرئيسي بها"
 
نظرت لها وهي على وشك الكلام قبل ان يسبقها الصوت بالخارج بصراخ منتفض بنفس نبرة صوته الخشنة
"امي !"
 
ارتعشت كل اطرافها دفعة واحدة وهي تتجمد بمكانها بوجل ورعب سكن بروحها مما هو قادم الآن من انفجار وشيك لن يسرها ابدا ! ليحدث بعدها ما توقعته وهي ترى الذي وقف عند إطار باب المطبخ وهو ينفخ انفاسه بانفعال متهدج شعرت به بتقاسيم وجهه ، ليهمس عندها بلحظة بقسوة عادت لتسكن تفاصيل ملامحه الحادة بسواد قاتم
"من الذي كان يعبث بأغراضي الخاصة بغرفتي ؟"
 
عضت على طرف شفتيها بجزع تكاد تدميها بدون كلام وهي تعلم جيدا إلى ما يلمح إليه بكلامه المبطن وهو يقصد ذلك الدرج المقفل بالمفتاح والذي نسيت اقفاله بعد ان ذهبت للمطبخ ، لتمسك بعدها بلحظة لا شعوريا بعباءة الواقفة امامها وهي تتشبث بها برعب واستنجاد صامت ، لتفهم تلك الاخرى اشارتها وهي توجه كلامها لابنها لتواجه غضبه قائلة بهدوء جاد
"وما لمشكلة بذلك ! هل تخفي بها اسرار خطيرة لتخاف عليها هكذا وكأنها مملكتك الخاصة ؟"
 
تجهمت ملامحه اكثر بسواد اشتعل بتلك الاحداق القاتمة ليتبعها بعدها بنطق كلماته بتشديد متصلب
"امي لا تبدأي الآن بهذه السخرية المقيتة ! فالأمر لا يحتاج صدقا ! وانا متأكد بل على يقين من هوية هذا الفاعل والذي اقتحم غرفتي وخصوصياتي وانتِ الآن فقط تحاولين التستر عليه والدفاع عنه امامي"
 
اخفضت عينيها العسليتين بدموع متحجرة بمقلتيها وبارتعاش احتل كل جزء بأطرافها حتى لم تعد تستطيع التحكم بعضلة عينيها والتي تشنجت فجأة بجمود ويديها تزيدان من تشبثهما المجنون على تلك العباءة الخفيفة ، لتتدخل بعدها بلحظة والدته وهي تقول بانفعال حانق احمر معها وجهها بصرامة
"كيف تتكلم معي بهذه الطريقة ! كل الذي حدث بأننا انا وصفاء كنا ننظف الغرف بحملة التنظيف الاسبوعية ودخلنا لغرفتك واضطررنا للعبث قليلا بأغراضك لنستطيع تنظيفها جيدا ، فهل بهذه الطريقة نكون قد اخطئنا باقتحام حدود مملكتك وعرشك ؟"
 
عبست ملامحه لبرهة وهو يوجه نظرات نارية للتي شعرت بها تحرقها بمكانها لتصيبها بالصميم ، وهي تحاول الاحتماء بوالدته الواقفة امامها مثل درع حامي بدفاع يخرج منها لأول مرة ! ليقول بعدها وهو يعود بنظراته لوالدته قائلا بتهديد حاد يحمل بين طياته الكثير وهو يشملهما بكلامه
"حسنا فهمت يا امي ، إذا كنتِ تريدين هذا الاسلوب بالكلام لكِ هذا ! ومرة اخرى إذا علمت بأن هناك احد قد اقتحم غرفتي او حاول العبث بها مجددا فلن اسامحه أياً كان ، ولا يحاول احد تنظيفها او فعل اي شيء بها فهي من الآن قد اصبحت من الاشياء المحظورة عنكما وتجاوزها سيكلف كليكما الكثير"
 
انتفضت والدته وهي تقول بعتاب حزين
"هذا ليس اسلوب رائع بالكلام معي يا جواد !......"
 
ولكنها كانت وكأنها تكلم نفسها والمقصود بكلامها كان قد غادر من المطبخ بأكمله بلمح البصر ، ليتبعها بلحظة مغادرته للمنزل وهو يصفق الباب من خلفه بكل قوة رجت محتويات المنزل بعنف ، بينما التي ما تزال تتشبث بالعباءة الخفيفة كانت قد ارتخت مفاصلها لوهلة كما يديها لتفلت العباءة وهي محنطة تماما بدون اي مشاعر فقدت معها الاحساس بالخوف للحظات ، وبدون ان تشعر بالذراعين واللتين عانقتا كتفيها بهدوء وهي تربت على ظهرها بحنان ودفء عصى ان يصل لروحها المكسورة من كل ما يحدث من حولها دمرها لشظايا متناثرة حتى اصبحت تجرح كل ما تصله روحها ...
____________________________
سارت بالرواق الطويل بخطوات بطيئة متخاذلة لأول مرة تحدث معها بعيدا عن الثبات والذي كانت تتحلى به فيما مضى ، وبدون اي روح تسكن زوايا جسدها الخاوية وكأنها قد فقدت كل شيء مع كلمات ذلك المجنون وتحطم الحجر والذي كاد يصيب رأسها ، وهي اعلم الناس بنوايا (مازن) الاجرامية والتي لا تقل خطورة عن زوج والدتها والذي ورث منه تلك النزعة الدنيئة والمريضة بالاستيلاء على كل ما يقع تحت ملكيتهم ويعجبهم بمسمى (اصبحت تخصني وحدي) وقبل ان يسبقهم الآخرون بالاستحواذ عليه ، كما فعل زوج والدتها من قبل بالاستيلاء والسيطرة على والدتها من النظرة الأولى ليخضعها له بأيام ويدفعها للزواج منه ، بالرغم من كل العيوب والتي كان يعاني منها والتي لا تقارن بالأمنيات والتي حققها لها وأولهم هو تقبل بناتها بحياته ووضعهم تحت رعايته الخاصة ومعيشته ، ليصبح منذ تلك اللحظة باعتبار والدهما الروحي والذي وضعوه بحياتهما رغما عنهما ، ومع كل المشاكل والتي تبعتها بعد الزواج فلم تستطع التخلي عنه يوما او التفكير بالطلاق منه بسبب الأمان والذي يقدمه لعائلتها الصغيرة والذي لن تجده عند احد آخر ولكي لا تحمل لقب مطلقة بعد ان حصلت على لقب ارملة بحياتها الزوجية .
 
تنفست بارتجاف خاوي ما ان وقفت امام غرفتها وهي تلقي نظرة اخيرة على الخاتم الالماسي والذي للغرابة لم تفكر بخلعه بعد كل ما حدث معها ! فهل تثبت لنفسها بأنها بدأت بالرضوخ لفكرة الزواج من (شادي) والذي ما يزال متمسك بها للآن ؟
 
فتحت الباب باللحظة التالية بهدوء لتتسع مقلتيها الزرقاوين بوجوم لوهلة ، قبل ان يحل الصمت على ملامحها الباردة وهي تتبعها بهمستها الباهتة
"اهلا وسهلا بروميساء ، نورتِ غرفتي"
 
كانت المقصودة جالسة امام الخزانة المفتوحة وهي تقلب بين حقائب الملابس بصمت بدون ان تعير كلامها الاخير اي اهتمام وكأنها لم تسمعها ، لتحرك الاخرى كتفيها بلا مبالاة وهي تغلق الباب من خلفها بقوة قبل ان تكمل سيرها بلحظة لداخل الغرفة .
 
جلست على طرف السرير بهدوء وهي تلقي الحقيبة بجانبها ، لتبدأ بعدها بلحظة بخلع حذائيها بإنهاك وهي تهمس بابتسامة جامدة
"هذه الفوضى والتي تسببتِ بها بالغرفة انتِ من سترتبينها ، فأنا ليس لي مزاج لأرتب خلف احد"
 
عندما لم تجد اي ردّ من المشغولة امام الحقائب وهي ترمي بكل قطع الملابس من حولها بسكون مقيت ، حتى زفرت انفاسها ببؤس وهي تنهض عن السرير بلحظات لتتجه من فورها امام المرآة وهي تزيل الخاتم عن اصبعها الطويل بعد ان ترك اثره على مفصل اصبعها ، ليثبت اكثر العلاقة والتي تجمعها بهذا الخاتم والتي تبدو علامته لن تزول بسهولة ؟ وضعته امامها فوق طاولة الزينة برفق لترفع بعدها يديها وهي تمسك بعقدة شعرها بهدوء ، قبل ان تخلعها من فورها بعنف ليتساقط شعرها بفوضى حول وجهها الساكن بدون اي تعبير ظاهر عليه ، حانت منها التفاتة جانبا لبرهة وهي تهمس بعبوس متصلب
"هل ستطول اقامتكِ كثيرا هنا ؟ ام ان المشاكل بحياتك الزوجية تمنعك من الإجابة !"
 
مرت عدة لحظات قبل ان تنطق لأول مرة وهي تخرج عن صمتها هامسة بخفوت بارد
"سأبيت عندكِ لثلاث ليالي قادمة حتى موعد الزفاف ، فأنتِ تحتاجين لكثير من التجهيزات والارشادات من اجل يوم زفافكِ ، وانا اريد ان يتم زفافك على اكمل وجه بدون اي مشاكل ، لذا عليكِ تحمل وجودي معكِ لثلاث ايام كاملة"
 
عقدت حاجبيها بحدة مع عبوس شفتيها بآن واحد ونظراتها معلقة بظهرها على طرف المرآة ، لتقول بعدها بلحظة بسخرية قاتمة وهي ترفع يديها لتعود لعقد خصلات شعرها من جديد
"ارى بأنكِ تبالغين كثيرا بالتفكير بيوم زفافي والذي لن يكون بكل هذه الأهمية ، فقط مجرد حفلة مبتذلة ومظهر امام الناس من الطبقات المخملية والنبيلة والتي ستغادر ما ان تنتهي مسرحية الزفاف والتي لن تغير شيء بحياتنا"
 
ردت عليها التي التفتت بوجهها قليلا للخلف هامسة بهدوء
"تقولين هذا الكلام لأنكِ لم تجربي يوم الزفاف وما يتبعه من قوانين جديدة عليكِ التأقلم معها ، وعندما تصبحين ملك هذا الشخص للمتبقي من حياتك والتي ستقدمينها له بكل لحظة ويوم والتي ستجمعكِ معه مثل كيان واحد......"
 
قاطعتها بانفعال حانق وهي تستدير نحوها بعنف
"توقفي عن مثل هذا الكلام يا روميساء ، تتكلمين وكأنكِ جربتِ يوم الزفاف وكل هذه التفاهات ! وانا ارى بأن علاقة زواجك تختلف تماما عن جميع ما تفوهتِ به الآن والذي لا يتبع اي منطق بحياتك"
 
تغضن جبينها بوجوم التي عادت بنظرها للأمام لوهلة هامسة بشرود بارد
"حسنا لقد جربت القليل ولم يكن رائعا على اي حال ، وانتِ على حق لم احصل من هذه العلاقة سوى على الألم والذي فقدت معه الحق بالحزن على زوج كانت تملكه غيري"
 
زمت شفتيها بتشنج لبرهة وببعض الألم والذي بدأ ينضح بعينيها الزرقاوين القاتمتين بعد الكلام الاحمق والذي تفوهت به الآن والذي سيكون جرح شقيقتها بشدة بدون ان تظهر شيء ، وكله بسبب جنونها والذي اصبح يسيطر عليها كثيرا مؤخرا بدون ان تستطيع كبح جماحه !
 
تنفست بقنوط وهي تخفض يديها عن شعرها بلحظة والذي عاد للانتشار حول وجهها بفوضى مجنونة بدون ان ينصاع لأمرها ويتهذب بعد عقده فوق رأسها لوقت طويل ، لتتقدم من فورها باتجاه الجالسة بمكانها قبل ان تجثو على ركبتيها بقربها لتعانق عندها كتفيها بلحظة وهي تهمس فوق كتفها بخمول تام احتل اطرافها لوهلة
"انا اعتذر حقا إذا كنت قد جرحتك بكلامي"
 
رفعت يدها بصمت وهي تربت على كفها عند كتفها بسكون هامسة بشحوب
"كل شيء بخير يا ماسة ، واهم شيء عندي الآن هو ان يسير زفافك على اكمل وجه واضمن حياة سعيدة من اجلك ، لذا لا تفكري بأمري كثيرا وركزي فقط على يوم زفافك"
 
تصلبت ملامحها بجمود وهي تدفن وجهها بقميص بيجامتها القطنية بحزن ، لتفيق من شرودها بلحظات على صوت التي قالت بسعادة غريبة نفضت الحزن عن صوتها
"واخيرا وجدتها"
 
رفعت وجهها بعيدا عن كتفها لوهلة وهي تنظر لما بين يديها والسبب بسعادتها ! لترفع بعدها حاجبيها بحيرة مندهشة وهي تلمح دميتين محشوتين شبيهتين بالدببة الصغيرة وهي تمسكهما بيديها الاثنتين واحدة تبدو اصغر من الاخرى بلونين مختلفين طريفين ، لترفع نظرات متعجبة للتي قالت بمرح وهي ترفع لها الدمية الزرقاء الصغيرة بشريطة حمراء حول عنق الدمية
"هذه الدمية كانت لكِ بطفولتك ، أليست جميلة ؟"
 
اتسعت عينيها الزرقاوين بحيرة اكبر وهي تتمهل بالنظر للدمية خاصتها ، لتنقل بعدها نظراتها للدمية الاخرى الشبيهة لها بلون الاخضر وشريطة صفراء تحتل عنقها ، لتتمتم بعدها بلحظة بوجوم عابس
"لا اتذكر بأنني كنت املك مثل هذه الدمية !"
 
عادت للنظر لهما بسعادة وهي ترفع الدميتين معا امامها لتقول بعدها بابتسامة حانية بشرود
"لقد اشتراهما ابي بيوم مولدك ، وقال بأن الدمية الكبيرة لي والثانية الصغيرة لكِ ، واتذكر بأنكِ كنتِ تحبين اللعب بهما وتشاجريني احيانا لتحصلي على الدمية الكبيرة ، ولكن ما ان كبرت قليلا حتى انشغلتِ بألعاب اخرى اجمل منها ، لذا لم يعد احد يسأل عن هاتين الدميتين ، ولأني احبهما كثيرا احتفظت بهما معي والآن فقط تذكرت وجودهما"
 
اومأت برأسها بشرود وهي تخفض ذراعيها بعيدا عن كتفيها لتلتقط بلحظة الدمية الزرقاء منها بصمت ، لترفعها امامها للحظات قبل ان تتمتم بابتسامة صغيرة تجمدت عند طرف شفتيها بدون ان تصل لوجنتيها
"لقد اختار ألوان الدمى على ألوان اعيننا ، هل هذه صدفة ؟"
 
نظرت لها لثواني قبل ان تقول بابتسامة شاردة بحنين
"ليست صدفة ، فالذي لا تعلمينه بأن والدنا كان شخص منظم جدا وكان يهتم دائما بأدق واصغر التفاصيل بحياته ! فهو كان محاسب مهووس بالتنظيم ومسؤول عن الأمور المالية بالشركة والتي تحتم عليه ان يهتم بكل تنظيمات حياته"
 
تسمرت بمكانها للحظات بجمود وهي تشيح بنظراتها بعيدا عنها ، لتنظر بعدها لحقيبة الملابس المفتوحة قبل ان ترفع يدها بلحظة وهي تلتقط منها دفتر الرسم الكبير بين طيات الملابس ، لتقلب بعدها بين صفحاته بلمحة خاطفة وهي تهمس بخفوت باهت
"لم اكن اعلم بأنكِ ما تزالين محتفظة بدفتر الرسم الخاص بكِ ! يبدو بأنكِ قد ورثت روح التنظيم عن والدك ؟"
 
امتعضت ملامحها وهي تنتشل الدفتر منها قائلة باستنكار
"وهل تظنينني فتاة تعيش بالفوضى مثلك ومثل والدتي والتي ورثت عنها كل الصفات الحسنة والتي تدعو للفخر بها ؟"
 
اتسعت ابتسامتها بجمود بدون كلام وهي تومأ برأسها بصمت بدون اي تعبير ، لتعود الاخرى للنظر للدفتر بشرود وهي تنظر للأوراق المرسومة بيد مراهقة صغيرة عشقت يوما هواية الرسم حتى اتقنتها بأصابعها الحالمة فوق الاوراق البيضاء والتي خطتها بكل انواع الألوان المبهجة والتي كانت تلون حياتها يوما ما .
 
افاقت من شرودها على التي وقفت بعيدا عنها وهي تخرج بعض الملابس من الخزانة هامسة ببرود
"لم يكن عليكِ ترك مثل هذه الهواية الجميلة ، فأنا ارى بأنها افضل شيء حدث بحياتك يا روميساء ، ولم يكن من المفروض التضحية بها بسبيل ارضاء الآخرين"
 
اخفضت وجهها امام الاوراق انحنت معها مقلتيها الخضراوين بحزن لبرهة وهي تهمس بمرارة
"لم اكن اريد التخلي عنها ، لكن عندما تختفي الألوان بحياة الانسان فلن يبقى له شيء يستخدمه لتلوين تلك الصور الصماء !"
 
كانت الاخرى قد وصلت للحمام الملحق وهي تمسك بملابسها المريحة قبل ان تلتفت نحوها بنصف وجهها هامسة بهدوء
"بل كنتِ تستطيعين فعلها يا روميساء ، فأنتِ بيديكِ تجلبين الألوان لعالمك وبيديكِ ايضا تمحين الألوان عن تلك الأوراق ببساطة"
 
رفعت عينيها نحوها لبرهة بدون اي حياة قبل ان تتسع ابتسامة (ماسة) بجمال لأول مرة وهي ترفع يدها بلحظة قبل ان تلقي بشيء بها بلمح البصر ، لتلتقطها بالمقابل الجالسة ارضا وهي ترفع نظراتها المتسعة للدمية المحشوة بيدها ، قبل ان تنقل نظراتها بصمت للتي همست بخفوت وهي تصفق باب الحمام من خلفها
"احتفظي بالدمية من اجلي كما كنتِ تفعلين بالماضي ، فهي ملكي ولن اتنازل عن حقوقي"
 
ضحكت بخفوت التي عانقت الدميتين بصدرها معا وهي تسبح بنظراتها الخضراء الندية للصورة المرسومة امامها على الورقة البيضاء ، وهي لوجه طفلة ضاحك ظهرت تفاصيله بوضوح وبقلم الرصاص بدقة احترافية ودعاء واحد يتردد بصدى روحها
 
(احفظ لي يا الله شقيقتي من كل سوء واتم فرحتها بزفافها ولا تقرب الحزن منها ، فهي القطعة التي ما تزال تنبض بها الحياة بعائلة فقدت الكثير)
_______________________________
سارت بداخل المجمع التجاري والذي يضم عدة متاجر معا وهي تتنقل بنظرها بدون هدف حقيقي بين الملبوسات المعلقة امامها من كل انواع الماركات ومن افضل الأقمشة والتي من الممكن ان تبتاعها بسوق الحرير ، لتحرك بعدها نظراتها بعيدا بلا مبالاة وهي تخرج من المحل من بين مئة محل دخلت إليه بدون ان تحدد وجهتها الحقيقية بهذا المكان الذي يعج بكل أنواع البشر الراغبين بالتسوق للترفيه عن انفسهم او من المقبلين على الزواج .
 
بينما هي تختلف عن كل البشر وعن سبب وجودها بمكان لا يليق بها والذي لم يدفعها سوى الشعور بالملل من الذي تحياه بالمنزل وكأنها عادت الطفلة حبيسة المنزل والتي يمنع عنها كل سبل مباهج الحياة بخارج عالمها المحدود والمنغلق على نفسها ! ولولا موعدها للكشف الدوري مع طبيبتها الخاصة والتي تهتم بمعاينة حالة قلبها وهي تزورها بالصباح الباكر مع سائقها الخاص والذي يهتم بذهابها وإيابها....لما استطاعت مغادرة جحرها واقنعت بطريقة ما سائقها الخاص ليوصلها لهذا المكان القريب من المشفى الذي تتعالج به مع طبيبتها ، فهي تعلم بأنها مهما حاولت اقناع والدتها بشتى الطرق لتتركها تغادر المنزل فلن تسمح لها بقوانينها الصارمة والتي لا تقبل الجدال وخاصة بعد الحادثة الاخيرة التي حدثت بالجامعة ، فقد كانت رافضة من الأساس دخولها للجامعة ولم تؤيد فكرة عودتها لعالم الاختلاط وكأنها بهذه الطريقة تحميها من كل الاخطار المحدقة بها والتي تفكر بالوصول لها !
 
زفرت انفاسها بتأفف وهي تقف امام حاجز السلم بالطابق الأعلى ناظرة لحركة البشر من حولها والتي لا تخبو ولا تهدأ بأكبر مجمع تجاري بالمدينة ، لتريح بعدها خدها على قبضتها بشرود وهي تلمح بعض العائلات والازواج من بين موجة البشر امامها والتي تتلون بكل انواع العلاقات والتي تجمع البشر مع بعضهم ، وهي عليها فقط بالتكهن بما يجمع كل علاقة تراها امامها ، وكم كانت تغبطهم بالسابق عندما كانت تشاهدهم بساحات الجامعة وبكل مكان وهي تشعر بالحنين لتجربة مثل هذه المشاعر والتي يخوضوها هؤلاء الناس .
 
انحرفت ابتسامتها الصغيرة لوهلة ما ان تذكرت تجربتها لجزء من هذه المشاعر عندما كانت تدور بأول علاقة لها مع شخص غريب عنها ، وهو يكون اول من دخل عالمها المنعزل واكتسح به لتعلق قلبها بأمل ان يكون منقذها ويحقق احلامها المستحيلة بالحياة الهانئة والسعيدة ، لم تنسى ابدا لقاءاتها السرية به خارج الجامعة والتي كانت تجمعهما معا بمثل هذه الأماكن بمجمع تجاري كبير ، لتشعر حينها بالنشوة والسعادة تحلق بسماء عالمها عندما ترى بأنها قد اصبحت مثل باقي البشر الطبيعيين واصبح لديها علاقات حقيقية مثل جميع المتواجدين بالمكان بدون ان تأخذ دور المشاهد فقط .
 
ادارت عينيها بلحظة بعيدا عن المشهد امامها والذي يأخذ دائما تفكيرها لذكريات بعيدة ما تزال تحتل حيز كبير بحياتها ، وما ان كانت على وشك المغادرة حتى اوقفها الصوت الجهوري المعروف والذي جمد الدماء بعروقها لوهلة
"غزل ! هل هذا معقول ؟"
 
ابتلعت ريقها بانتفاض وهي تدعو بداخلها ان يكون مجرد وهم نسجه عقلها المشوش بتخبطات ذكرياته ، لتخفض بعدها نظراتها بيأس المظلوم ما ان عاد للكلام من اصبح بالقرب منها وهو يتمتم باستياء
"ماذا دهاكِ يا فتاة ؟ هل تحاولين تمثيل عدم الانتباه لي وعدم سماعك لصوتي ؟"
 
عضت على طرف شفتيها وهي تهمس بغيط
"لا فائدة"
 
عقد حاجبيه بوجوم وهو يحاول ان يفهم همستها الاخيرة ليتمتم من فوره بحدة
"غزل بماذا تهمسين ؟"
 
رفعت وجهها بسرعة وهي تستدير نحوه بلحظة قائلة بابتسامة حاولت اغتصابها بصعوبة
"مرحبا استاذ هشام ، انا مصدومة من رؤيتك هنا بهذا الوقت ! لم اتوقع ان اراك بهذا المكان ! اقصد بأنه من المفترض ان تكون الآن بالجامعة ؟"
 
ارتفع حاجبيه بخفة لبرهة وهو يدس يديه بجيبي سترته قائلا ببساطة عملية
"اليوم عطلة عن العمل إذا كنتِ قد نسيتِ ، ألا إذا كنتِ تقصدين بأنكِ لا ترغبين برؤيتي ؟"
 
زمت شفتيها وهي تشعر به يقرأ افكارها فهي بالفعل لم تكن ترغب برؤيته الآن وكانت تود لو تقولها بوجهه مباشرة وترتاح لكي يتوقف عندها عن الظهور بوجهها دائما بكل لحظات انعزالها مع نفسها ، لتقول بعدها بدلا عن ذلك بابتسامة مرتبكة
"لا ليس هذا ما قصدته ، لقد سألت فقط لأنني ظننت بأنك لا تحب زيارة مثل هذه الأماكن والتي تمتلئ بالضوضاء والإزعاج ! وفكرت ايضا بأن العطلة لا تشمل الاساتذة بالجامعة كذلك"
 
اومأ برأسه وهو ينظر لها للحظات هامسا ببرود غامض
"حسنا لا تفكري مرة اخرى وتوقعي رؤيتي دائما بمثل هذه الأماكن ، فأنا لست بشر يختلف عن الآخرين هنا لكي لا ادخل هذه الأماكن ، فهي ليست محتكرة لكِ وحدك !"
 
عضت على طرف شفتيها بحنق وهي تشيح بوجهها المحمر بعيدا عنه بدون إجابه وبعد ان عاد لإهاناته نحوها من جديد وكأنها هواية يتسلى بها ، بينما اخذ هو وقته بتأملها بمهل وهو ينظر لهيئتها المنمقة بأول رؤية لها خارج المنزل والجامعة ، وهي ترتدي تنورة سوداء طويلة تصل لأسفل ركبتيها بقليل مع قميص ابيض يعلوها سترة حمراء قصيرة لا تتعدى صدرها وهي تضيق بياقة واسعة عند عنقها ، ليصل لحذائها ذو الكعب العالي والذي تصر دائما على ارتدائه بدون ان يجد فائدة منه ، فهي بطول معتدل ويناقض هيئتها الرقيقة الغير متكلفة والتي لا تحتاج لحذاء مزعج فقط يجلب الصخب والألم على قدميها الصغيرتين !؟
 
عاد بنظره لوجهها بلحظات والذي يشعر به اليوم مختلف عن السابق بلمحة حزن خفية مع احمرار شارد ، ولكن ما هو متأكد منه بأنها اليوم مشرقة بعيدا عن الألم والذي يسكن تفاصيل حياتها وصوتها المنغم والذي اصبح اكثر جمالا !
 
قطع الصمت الطويل وهو يهمس ببعض السخرية ناظرا لعينيها الهاربتين منه
"يبدو بأنكِ تحبين زيارة مثل هذه الأماكن ! هل هذا يعني بأنه مسموح لكِ بزيارة المجمعات التجارية ولا تستطيعين الدوام بالجامعة والتي تكون اقل ازدحاما بالبشر من هنا ؟"
 
رفعت حاجبيها بدهشة وهي توجه له من فورها نظرات غاضبة لتفاجئ بلحظة بنظراته المعلقة بها جمدتها بمكانها لثواني ، وكأنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليمسك بعينيها الهاربتين منه ؟ بينما ابتسامته كانت تتسع تدريجيا وهو يراقب كل حركات عينيها العسليتين والتي اتسعت بصدمة لتعود بلحظة لحزنها وهي تنحني بعيدا عنه بضيق لتتشرب بخضرة قاتمة وكأنها امواج من ألوان الطيف تتشكل حسب مزاج صاحبتها .
 
قالت بعدها التي ضمت قبضتيها معا بقوة وهي تهمس بعبوس متبرم
"هذا ليس من شأنك يا استاذ هشام ، وليس انت من تقرر وضع حالتي ، لذا إذا كنت قد يأست ومللت من مهمة تدريس مساقات الجامعة الخاصة بي فيمكنك الانسحاب ؟"
 
استمر بتحديقه المتأمل بها لعدة لحظات اخرى وكأنها عينة مختبر احب مراقبتها ودراستها بأدق تفاصيلها ، ليقول بعدها بابتسامة جانبية بهدوء وبعد ان لاحظ مدى غضبها المنضح بتفاصيل وجهها الصغيرة
"اهدئي يا غزل ، ليس هناك داعي للغضب فقد كنت امزح فقط"
 
زمت شفتيها بضيق لوهلة وهي ترفع وجهها نحوه تنوي رد سخريته عليها والتي لا يوجد بها مزاح ابدا وعدم مسامحته على كلامه الأخير ، لتتوقف بآخر لحظة وهي تضم شفتيها بوجوم ناظرة لابتسامته الجذابة والتي كانت تتسع لأول مرة بوجهه المنحوت برقي وفخامة مثل كل شيء بهذا الرجل امامها .
 
تنفست بغيظ وقد احمر وجهها اكثر عن السابق باحتقان ، لتقول بعدها بلحظة بغضب مكبوت طغت على نبرة صوتها الحزينة
"عذرا ، ولكن عليّ الذهاب"
 
حاولت السير بعيدا عنه وهي تتشبث بحقيبة يدها ليقول من خلفها بلحظة بقوة وبصرامة عادت لصوته الجهوري
"انتظري يا اميرة الحيل"
 
توقفت للحظات بدون ان تستدير له منتظرة تكملة كلامه ، ليصل بعدها بلحظات بجانبها وهو يقول بهدوء قريب للأمر
"اريد منكِ مرافقتي لتساعديني باختيار هدية صغيرة تخص فتاة ، فأنا اعلم جيدا بأن الفتيات تتقارب اذواقهن ، لذا اريدكِ ان تعطيني بعض النصائح عن الهدية بما انكِ موجودة هنا وبدون اي عمل تفعلينه ، وانا بالمقابل سأحميكِ من اي حادثة اغماء او تعب على قلبك بين هذا الحشد من البشر"
 
فغرت شفتيها بذهول ممزوج بالاشتعال الغير منطوق والذي بدأ يحتل كيانها المنتفض بإيباء ، لتنظر بعدها بعيون متسعة للذي تجاوزها بلحظة وهو يسبقها بالسير ، وبعد ان ألقى امره عليها بدون الرجوع لرأيها وكأنها تعمل عند سيادته ولا تستطيع ان تخطو اي خطوة بدون حمايته ؟
 
عضت بعدها على طرف شفتيها بقهر وهي تهمس بعيون تقدح مرارة
"من يظن نفسه ليؤمرني بهذه الطريقة ! ومن تلك الفتاة يا ترى ؟ هل تكون حبيبته ؟ اللعنة عليك فقط اريد ان افهم من اين تخرج لي بكل مرة ؟"
_____________________________
كانت تحدق بالمتجر الجميل المبهج بكل البريق بداخله والذي يحوي على كل انواع الإكسسوارات والحلي من الذهب والفضة ، ومنها المزيف والحقيقي والذي لا يحتاج لذكاء لتستطيع التمييز بين الجمال الخالص قلبا وقالبا وبين الجمال الخارجي والذي يغطي قبح وتزييف من خلف لمعانه الملفت .
 
تجمدت بمكانها لوهلة ما ان وقعت نظراتها على عقد ذهبي بسلسلة رقيقة شبيهة بالتي تملكها وما تزال تحتفظ بها للآن ، لتسند بعدها يديها على الواجهة الزجاجية والتي تحوي بداخلها على صف من الحلي الجميلة وعينيها معلقة فقط على تلك السلسلة والتي اعادت عقلها لتلك الغمامة الشاردة ولذكريات بعيدة ، عندما كانت تقف بنفس وضعها الآن وهي تنظر للواقف بجانبها والذي كان يختار عقد من الحلي الجميلة من اجل شخص عزيز عليه لم يفصح عن هويته ، وهي ما تزال تذكر عندما قالت له بملل من الوقوف الطويل بداخل المتجر
"هل انتهيت يا عصام ؟ فقد بدأت اشعر بالملل"
 
قال عندها الذي استدار نحوها وهو يريح ذراعه على الواجهة الزجاجية بجانبه بكسل
"ما رأيكِ ان تساعديني على الاختيار بدل التذمر هكذا ؟ فقد يكون ذوقك بالاختيار اجمل مني"
 
زمت شفتيها بحنق وهي تهمس من بينهما بغيظ
"لن اساعدك قبل ان تخبرني ، لمن تريد شراء العقد ؟"
 
ابتسم بهدوء وشقاوة دائما ما يتميز بهما وهو يهمس بابتسامة ملتوية بتسلية
"لا اعلم ماذا اخبرك عنها ! ولكن كل ما اعلمه بأنها فتاة جميلة وظريفة ومحبوبة بالنسبة لي ، وايضا اضيفي بأنها رقيقة حتى النسيم يستطيع تحريكها والعبث بها......."
 
قاطعته فجأة بهياج لون وجنتيها باحتقان الغضب وهي تتمتم بضيق
"كفى لا اريد سماع المزيد ، وهنيئاً لها بشخص محظوظ مثلك"
 
اتسعت ابتسامته بصمت وهو يعود للنظر لأنواع الحلي امامه متجاهلا الغاضبة بجانبه والتي تكاد تحرقه بأنفاسها المشتعلة ، وبعد عدة لحظات كان يرفع عقد جميل امامها بسلسلة رقيقة جدا تنتهي بلؤلؤة صغيرة بيضاء وبذات الوقت بسيطة لا تنتمي لأنواع المجوهرات الفاخرة وباهظة الثمن ، لتهمس بعدها بلحظة لا شعوريا بانبهار
"يا له من عقد جميل !"
 
ارتفع حاجبيها بدهشة مع وجهها ما ان نطق الواقف امامها بابتسامة صغيرة بشقاوة
"جيد بأنه قد اعجبك من اجل ان اراكِ وانتِ ترتدينه امامي"
 
فغرت شفتيها ببلاهة وهي تهمس بذهول
"هل هذا العقد لي ؟"
 
اومأ برأسه بقوة وهو يغمز بعينه بمرح هامسا بمحبة
"اجل هذا العقد من اجل غزلي"
 
اشرقت ملامحها ببريق السعادة لوهلة والذي دفع نبضات قلبها للرقص ببهجة لتهمس بلحظة بابتسامة حالمة وبعيون عسلية دافئة
"شكرا لك يا عصام ، انت الأفضل"
 
اومأ برأسه بهدوء وهو يقدم العقد امامها قائلا بلطف
"إذاً هيا ارتديه امامي ، واريني كيف سيبدو عليكِ !"
 
اومأت برأسها ببعض الحياء وهي تتناول العقد منه بتردد لترتديه حول عنقها بحذر ، قبل ان تخفض يديها بلحظة وهي تهمس بابتسامة خجولة بمرح
"ما رأيك ؟"
 
ارتفع حاجبيه بانبهار بلحظة وهو يهمس بتصفير الإعجاب
"رائع ! والأجمل منه هو صاحبته"
 
ضحكت بمرح لتخفف قليلا من احمرار خديها لتضرب بلحظة ذراعه بخفة وهي تهمس بمزاح صارم
"ومرة اخرى إياك وخداعي بهذه الطريقة القاسية وكلامك عن فتاة اخرى امامي"
 
رفع ذراعه لصدره بضحكة صغيرة ليربت على مقدمة صدره وهو يقول بابتسامة جانبية بثقة
"لا تقلقي يا غزلي ، لأني لن اسمح لنفسي بالتفكير بفتاة اخرى غيرك ، وتأكدي بأن هذا القلب لن يسكنه احد آخر ولن ينبض لسواكِ"
 
قبضت على يديها لا شعوريا وهي تقبض على روحها بقبضة من حديد ما ان خرجت من غمامة ذكرياتها والتي انحدرت لها دون إرادة منها بكل مرة تشرد مع نفسها بجزء من صندوق ذكرياتها المنسية ، وكل ما تتمناه ان تستطيع يوما دفنه مع كل شيء يخصه بحياتها وحرقه بزوايا روحها المسكونة !
 
ابتعدت من فورها عن الواجهة الزجاجية ما ان اخترق سمعها صوت الذي اصبح بجانبها وهو يقول بوجوم عابس
"ماذا هناك يا غزل ؟ هل اعجبكِ شيء من هذه الحلي ؟"
 
حركت رأسها بالنفي تلقائيا وهي تهمس بتلعثم محمر من الذكريات والتي اجتاحتها بلحظة غفلة
"لا ليس هناك ، اقصد لا شيء ......"
 
قاطعها الذي لم يسمعها من الأساس وهو يشير بأصبعه السبابة للواجهة الزجاجية قائلا بهدوء
"هل هذا الذي اعجبك وخطف نظرك !"
 
نظرت بسرعة للعقد الرقيق والذي كانت تنظر له من لحظة والسبب بحالتها الآن ، لتضم قبضتيها معا بارتباك وهي تهمس بشرود واجم
"لا ليس تماما !"
 
اومأ برأسه الذي قال بقوة وهو يوجه كلامه للصائغ الواقف امام طاولة المتجر
"لو سمحت اريد منك ان تخرج لي هذا العقد"
 
تقدم بسرعة الصائغ ليقف خلف الواجهة الزجاجية بلحظة وهو يخرج لهما العقد المقصود ، ليضعه بعدها بلحظات فوق سطح الواجهة الزجاجية امامهما برفق ، ليمسك المقابل له بالسلسلة بين اصابعه وهو يتفحصه قائلا بتركيز حاد
"انا ارى بأنه جميل ومناسب جدا ! ما رأيكِ انتِ ؟"
 
اتسعت عينيها بوجل وهي تنظر للعقد بين اصابعه الطويلة والذي ينتهي بلؤلؤة صغيرة ، لتهمس بعدها بلحظة بخفوت باهت
"لا بأس به جيد"
 
حرك رأسه للصائغ الواقف امامه وهو يسلمه العقد قائلا بجدية عملية
"اريد شراء هذا العقد ، لذا من فضلك ان تضعه لي بعلبة يظهره بشكل هدية"
 
اشاحت بوجهها بضعف وهي تشعر بإجهاد يحتل خفقات قلبها وكأنها قد بذلت مجهود جبار للتو ! لتستدير بعدها بلحظة وهي تسبقه بالخروج من المتجر بصمت طلبا لبعض الراحة بعيدا عن كل تلك الذكريات المؤلمة والتي تصيب قلبها دائما بالمزيد من الإجهاد .
 
وقفت امام باب المتجر لبرهة وهي تنظر لحركة الناس بالمجمع التجاري الكبير ، لتخفض بعدها نظراتها بوجوم لحذائيها العاليين وهي تطرق بكعب احداهما على الأرض الصلبة برتابة تطغى على صوت الضوضاء من حولها .
 
افاقت من شرودها على صوت هتاف باسمها ، لترفع بسرعة وجهها بتوجس وهي تنظر للذي وقف امامها تماما وهو يبدو عليه من الشخصيات المرموقة وخاصة بملابسه الانيقة فاحشة الثراء ، ليقول بعدها بلحظات بابتسامة هادئة عملية تناسب مدراء الأعمال
"مرحبا يا غزل ، لم اركِ منذ وقت طويل ، هل تعرفين من اكون ؟"
 
رفعت حاجبيها بصدمة لبرهة وهي تحرك رأسها بالنفي هامسة بخفوت
"لا لم اعرفك !"
 
ردّ عليها الواقف امامها بثقة
"اسمي هو مروان حمدي ، هل عرفتني ؟"
 
عقدت حاجبيها بتفكير لوهلة قبل ان تهمس بعبوس محرج
"لا لم اعرفك ، اعتذر"
 
اومأ برأسه بهدوء بدون ان تهتز ابتسامته وهو يقول بابتسامة متسعة بغرور
"انا ابن شريك والدك وصديقه بالعمل"
 
اتسعت حدقتيها العسليتين بلحظة وهي تسترجع كلام والدها عن آخر شخص طلب يدها للزواج اكثر من مرة وهي تقابله دائما بالرفض والذي يكون الآن الواقف امامها يتكلم معها بكل هذه الأريحية ! لتنتفض بعدها بسرعة وهي تلوح بيدها بارتباك قائلة بحياء
"اجل تذكرت ، مرحبا بك يا رامي"
 
ارتفع حاجب واحد بخفة وهو يقول بتعديل
"اسمي هو مروان ، وعلى كل حال غير مهم فقد اردت ان اسلم عليكِ"
 
تنحنحت بإحراج اكبر احمر معها خديها باشتعال وهي تهمس بخفوت معتذر
"اعتذر قصدت مروان ، اهلا بك بأي وقت ، ولكن كيف تعرفت على شكلي وانا لم اقابلك بحياتي !"
 
اتسعت ابتسامته العملية وهو يقول بنبرة واثقة اقرب للغرور
"قد تكونين لا تذكرين ولكني اتذكر جيدا زياراتكِ مع والدك للشركة عندما كنتِ اصغر سنا ، بالرغم من انها زيارات متفرقة ولا تحصى ولكني رأيتكِ بها وحفظت شكلك جيدا ، ولأنني لم اتكلم معكِ بأي مرة من زياراتك لهذا لا تستطيعين تذكري"
 
اومأت برأسها بشرود وهي بالفعل لا تذكر بأنها قد لمحته بتلك المرات القليلة والتي كانت تخرج بها من جحرها للذهاب مع والدها لمكان عمله والذي كان المتنفس الوحيد لها فيما مضى !
 
تسمرت بمكانها لوهلة وهي تنظر جانبا ما ان ظهر الذي خرج من باب المتجر من خلفها ، ليقف بعدها بجانبها وهو يوجه نظرات قاتمة للشاب الواقف امامهما قائلا بضيق واضح غير مفهوم
"ماذا تريد يا هذا ؟"
 
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يدقق النظر به للحظات ليقول بعدها بابتسامة جامدة
"من هذا الرجل يا غزل !"
 
ارتبكت ملامحها وهي تهمس بخفوت متوجس
"هذا يكون......."
 
قاطعها الصوت الصارم بجانبها دب الرعب بأوصالها وهو يقول بغضب مكتوم بدون اي مقدمات
"ولما تسألها هي ؟ يمكنك التكلم معي انا شخصيا بدل هذه الطريقة الرخيصة بالمراوغة ! ألا إذا كنت معتاد ان تتكلم مع الفتيات اكثر من الرجال اشباهك ؟"
 
زمت شفتيها بارتجاف ممزوج بالذعر وهي تنظر للذي وجه نظرات غاضبة دفعته ليخرج عن لباقته وهو يقول بجمود خافت
"يبدو بأنك لا تعلم من اكون وما هي مكانتي ! ولأنني محترم اكثر منك لن اجابهك بنفس الأسلوب ، فمكانتي تحتم عليّ ألا احتك بأمثالك"
 
ابتسم المقابل له بغموض لبرهة ليهمس من فوره باستهزاء بارد
"إذا كنت قد انتهيت من ثرثرتك يا طفل جيلك ، فيمكنك ان ترحل من امامي قبل ان انسى المكان الموجود به والذي يحتم عليّ ألا اتجاوز حدودي مع طفل مثلك"
 
عبست ملامحه بلحظة بتجهم وهو يحاول الحفاظ على لباقته امامه ، ليوجه نظرات اخيرة للساكنة بمكانها بوجل وهو يقول لها بمودة
"وداعا يا غزل ، واوصلي سلامي لوالدك"
 
اومأت برأسها باهتزاز بدون معنى وهي تشاهد الذي رحل بعيدا عنها ، وما هي ألا لحظات حتى شعرت بيد تمسك بذراعها وهي تديرها نحوه بقوة قائلا بصرامة قاطعة
"من ذلك الرجل الذي كنتِ تحادثينه من وراء ظهري يا غزل ؟ ولما خرجتِ من المتجر وحدك بدوني وقبل ان انتهي ؟ هل تحاولين التهرب مني ليحلو لكِ الجو برفقة الرجال والتسلية بقصص حبهم التافهة ! والتي تسمونها بقاموسكم الصداقة البريئة ، كم هذا الأمر يدعو للاشمئزاز والقرف !"
 
انفرجت شفتيها بانشداه لوهلة قبل ان تتصلب بمكانها بلحظة وهي تنزع ذراعها بعيدا عنه بعنف ، وما ان رفع نظراته نحوها بحدة حتى وجهت له نظرات محمرة بغضب يخرج منها لأول مرة وهي تلوح بذراعها هامسة بغضب وبدموع تدفقت بمقلتيها لا إراديا
"ومن انت لتحكم على حياتي بهذه الطريقة المهينة ؟ وما لذي يجمعني بك من الاساس لأذهب برفقتك واختار هدية لحبيبتك ! وانت تتهم ذلك الرجل بينما يحلو لك رفقتي والذهاب معي ؟ هل تظن بأنه لديك الحق لتتحكم بمجريات حياتي وتستحقرني هكذا فقط لأنك تدير شؤوني الدراسية ؟"
 
ارتفع حاجبيه بوجوم للحظات بدون ان تلين ملامحه وهو ينظر للتي كانت تتنفس بقوة ما ان انتهت من فورة غضبها والتي اشعلت وجهها باحمرار دموي ، لتربت بعدها على صدرها بكفها الصغيرة وبنبرة عادت لنغمتها الحزينة الآسرة
"اعلم بأني ابدو طفلة مثيرة للشفقة ولا املك اي حيلة للدفاع عن نفسي ، ولكني مع ذلك دائما ما احاول جهدي لمقاومة ذلك الشعور ونفضه بعيدا عني ، فقط كل ما اتمناه ان يتوقف الجميع عن قسوة القلوب فهي مؤلمة جدا حتى بالنسبة لك !"
 
عبست ملامحه بعضلة بزاوية فكه بارتباك وهو يشرد بحزنها المؤلم والذي على ما يبدو بالغ بجرحه بدون قصد ، وكل ما كان يحركه نزعة الدفاعية عن الضعفاء واستنكار علاقات الحب التافهة والتي تتملكه بين الحين والآخر ، وما ان كان على وشك التبرير حتى استدارت من فورها التي بدأت بالسير بعيدا عنه اقرب للجري المتعثر على كعبي حذائيها والذين كانا يطرقان على الأرض بحدة جديدة وبنغمة مزعجة .
 
اتسعت عينيه بصدمة وهو يتحرك من فوره خلف التي اختفت بين امواج البشر الهائجة مثل بحر عالي اخذها بجوفه بلحظة خاطفة ورحل ؟ ليدور حول نفسه بتخبط للحظات بدون ان يجد لها اثر وبعد ان اختفى صوت طرق حذائيها المزعجين بين اصوت حشد من احذية الفتيات المسننة وبنغمات إيقاعية متفرقة اصمت اذنيه عن سماع صوت آخر غيرها !
_____________________________
بعد مرور يومين........
كانت جالسة على ارض الشرفة بسكون وعينيها الداكنة ساهمة بالنظر للسماء الشاحبة والتي تخيم من حولها بأجواء باردة قبل موعد الشروق بساعات ، وهي تريح جانب رأسها على العواميد الحجرية الخاصة بحاجز الشرفة بشرود طفى على ملامحها الجليدية بحالة من الصمت والهدوء ، والذي لا يظهر عليها سوى بمقتطفات قليلة تأخذها من حياتها غدرا والتي تنعزل بها عن باقي البشر ، وكل محور تفكيرها قد اصبح يدور فقط بحدث اليوم والذي يكون يوم زفافها المزعوم بدون اي استعداد او حماس لهذا اليوم وكأنها مجرد ضيف غير مهم بتلك الحفلة التافهة وليست العروس نفسها وتلك الحفلة بأكملها على شرفها ! وهذا ما دفعها ليفارقها النوم لثلاث ايام متواصلة لم يستطع فيهن ان يغمض لها جفن ، وليس بسبب التوتر والتفكير والذي يرافق عادةً اقتراب موعد حفلات الزفاف مثل اي عروس بل بسبب انعدام الثقة والذي اصبحت تعاني منه مؤخرا ، وهي فقط تفكر بمستقبلها المجهول وما سيحول به بعد انتهاء هذه الليلة وانزال الستار على مسرحية حفلة الزفاف ؟!
 
تنهدت بتهدج وبسكون لا يقطعه سوى صوت خرير الماء بالنافورة الحجرية والمستوطنة بالحديقة الامامية ، وهي تدلك على ذراعها برجفة احتلتها رغما عنها من تحت قماش بيجامتها القطنية لتصلب جسدها بلحظة قبل ان يعود لسكونه المعتاد ، اخفضت جفنيها الحمراوين بنصف اغلاق وهي تحني حدقتيها المائلة بزرقة بحرية لكفها الممسكة بالدب الصغير الازرق والذي عثرت عليه (روميساء) بين الملابس ، وهي لا تعلم حقا سبب وجوده معها الآن بهذه اللحظات اليتيمة ؟ فكل ما تعلمه بأنه لم يفارق لياليها الطويلة السابقة وكأنها تحتاج لرفيق ولو كان مجرد دمية صماء لتشاركها وحدتها القاتلة والتي لا احد يتحمل اكمالها معها ؟ بالرغم من وجود شقيقتها والتي اصرت على ملازمتها لثلاث ليالي كاملة قبل موعد الزفاف ، ولكنها كالعادة ما ان تعود من عملها حتى ترتمي مثل القتيل ما ان تضع رأسها على الوسادة وخاصة مع المهمة الجديدة والتي استلمتها بخصوص تجهيز كل ما تحتاجه من اجل يوم الزفاف وهي بكل يوم تتنقل بين الأسواق بدون اي كلل او ملل .
 
عانقت الدمية بيديها معا وهي تقربها امام وجهها بلحظة قبل ان تعلو شفتيها ابتسامة باردة هامسة بخفوت حزين
"ليس هناك احد آخر غيري انا وانت !"
 
ارتجفت عضلة بابتسامتها بدون ان تفارق ملامحها الباهتة وهي تتلمس على الشريطة حول عنقه بأصبعها الإبهام بشرود اخذها بعيدا على حين غفلة ، لتدير بعدها رأسها للجانب الآخر قبل ان تجتاحها جبهة هواء عبثت بخصلاتها المجنونة بقوة ، لتلتصق بملامحها وعينيها الدامعة ببرودة الهواء وبتشنجات جسدها وهي تبثها بحدقتيها الساكنتين بدون اي تعبير مطلقة سراحها مثل روحها الهائمة بسماء عالمها وهي تطلق جماحها لأول مرة .
 
تنفست بارتجاف قريبة للانتفاضات وهي تغمض عينيها لخيوط ذكرياتها البعيدة وهمسات الرياح تلعب بملامحها والتي صنعت بعقلها شبكة رقيقة ، وهي ما تزال تسمع صوت الضحكات البريئة والخطوات الصغيرة والتي كانت تجري خلف التي وقفت فجأة امامها لتلوح بعدها بالدمية بيدها وهي تقول بمرح صارم
"الدمية الخضراء لي ، وانتِ لديك الدمية الزرقاء ، لذا توقفي عن سرقتها لأنها ليست لكِ"
 
تبرمت شفتي الطفلة التي لم تتجاوز سن السادسة بعد وهي تشير بأصبعها الصغير هامسة بتصميم
"بل اريد تلك الدمية ، اعطيني دميتك يا روميساء ، انا اريدها"
 
ضربت الطفلة الاخرى بقدميها ارضا وهي ترفع الدمية عاليا هامسة بغضب
"لا لم تحزري ! تريدين افساد دميتي كما فعلتِ بالدمى الأخرى ، وايضا انتِ مهملة جدا بخصوص الألعاب الخاصة بكِ ، وانا من المستحيل ان اترك دميتي بين مخالبك الصغيرة"
 
زمت شفتيها الصغيرتين بعبوس وهي تلوح بيديها هامسة بتذمر طفولي
"غير صحيح انا محافظة ولست مهملة ، واريد تلك الدمية الآن وحالاً"
 
حركت رأسها بالنفي وهي ترجع الدمية لخلف ظهرها هامسة برفض حانق
"لن اعطيكِ دميتي ، لديك الكثير من الدمى معكِ ! لذا اذهبي والعبي بأي دمية بعيدا عن دميتي"
 
زادت ملامحها عبوسا وهي على وشك الانفجار بكاءً لترفع قبضتيها الصغيرتين بلحظة وهي تضرب بالهواء صارخة بنحيب
"اريد تلك الدمية ، اعطيني إياها ، اعطيني إياها"
 
وما ان بدأت بالصراخ والنحيب حتى قصف صوت الضرب القوي على إطار باب الغرفة وصاحبتها تصرخ فوق بكاءها بعصبية مفرطة
"كفى اصمتا حالاً ، لا اريد سماع اي نحيب او صراخ يصدر منكما ، وإذا سمعت اي ضوضاء اخرى فأنا عندها سأحرم كليكما من اللعب بالدمى طيلة حياتكما"
 
ألجمت الصدمة كليهما للحظات بدون اي صوت او نفس وهما يعرفان جيدا ماذا سيحدث إذا نفذت تهديدها وخاصة بحالتها العصبية الهستيرية تلك والتي دائما ما تصل لها بفعل العمل والضغط الشديد عليها ، وما ان غادرت من امامهما حتى تنفست كليهما براحة قبل ان ترفع صاحبة العيون الزرقاء بدموع باتجاه التي كانت تنظر لها بعبوس عاتب ، لتتنهد بعدها باستسلام بثواني وهي تمد الدمية لها قائلة بعطف وشفقة عليها
"هيا خذي دميتي والعبي بها بقدر ما تشائين ، ولكن حاولي المحافظة عليها وعدم اضاعتها لأنه ليس لدي الوقت للبحث عنها ، ومرة اخرى إياكِ ان تسرقيها بدون إذني فهذه عادة سيئة وليست لطيفة ابدا"
 
اجابتها بسرعة بثغرها الباسم وهي تضحك بدموع الفرح
"انا اعدكِ يا آنسة شريرة"
 
عضت على طرف لسانها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بغيظ
"ماكرة"
 
فتحت عينيها ببطء شديد وهي ترفع كفها لتمسح بطرف اصابعها بعض الدموع المتدفقة بأطراف مقلتيها الباهتة وهي تهمس بخفوت غير واعي
"انا اعدك بأن احافظ عليها من الضياع وبكل ما استطيع من قوة"
 
اعادت رأسها للأمام وهي تبتسم بارتجاف لوهلة ناظرة للدب الصغير امامها والذي ما يزال بيدها ، لتهمس له بعدها بلحظة بابتسامة واهية بغرابة
"أليس هذا صحيحا ! هل تراهن ؟"
 
مرت لحظات اخرى على سكونها الصامت والذي لا يقطعه هذه المرة سوى صوت صفير الرياح الباردة وماء النافورة بالحديقة وابتسامتها تذوي رويدا رويدا حتى احتضرت بمكانها بثواني ، لتعود لصفحة ملامح الجليد بلحظة وهي تمسك بحاجز الشرفة بيد لتقف من فورها باستقامة .
 
نظرت للنافورة الحجرية لبرهة والتي تحتل منتصف الحديقة وهي تهدر الماء برتابة والشيء الوحيد الذي كان يقطع صمت اللحظات الماضية ، لتدس بعدها خصلاتها خلف اذنيها بقوة وهي تحاول الافلات من حجزها بتمرد .
 
استدارت من فورها وهي تنسحب لداخل الغرفة قبل ان تتجه بلحظة امام الحقائب المتراصة بجانب بعضها البعض بتنظيم ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تدس الدمية بداخل طيات الملابس والتي رتبتها (روميساء) بدون ان تغفل عن شيء من اجل هذا اليوم المهم ، وهي تشعرها وكأنها ستنتقل للطرف الآخر من العالم وليس لغرفة اخرى تقبع بنفس المنزل !
 
وقفت بلحظة وهي تسير بجمود باتجاه السرير والذي تنام عليه رفيقتها المؤقتة بالغرفة والتي ستنتهي اقامتها بها غدا ، لتجلس بعدها على طرفه الفارغ لوهلة وهي تتبعها بجسدها والذي استلقى ببطء من فوق ملائته الناعمة بصمت ، ادارت نفسها وهي تنام على جانبها ناظرة لوجه المقابلة لها والتي كانت تغوص بسبات عميق ، لتحاول بعدها اغماض عينيها علها تعطيها بعض من هالة نومها وهي تستغل الدقائق الباقية للشروق لتستطيع الغوص بها وبعد ان جافاها النوم لأيام....فقط دقائق وستكون بأفضل حال لتستعد للقادم من حياتها .
____________________________
بعد مرور ساعات طويلة وما ان دقت الساعة السابعة مساءً حتى بدأت الضوضاء الصاخبة تلوح بالأفق مصاحبة مع اصوات قرع الطبول ونغمات الموسيقى المتدرجة من الصاخب للهادئ ومن الرقيق للناعم ملتف بغمامة حول اجمل قاعات المدينة للأفراح والحفلات ، ليحضرها اناس من جميع انواع الطبقات بالمجتمع وكل من لديه اهتمام بحضور مثل هذا النوع من حفلات الزفاف والتي تجمع فردين من عائلتين وطبقتين متناقضتين كل التناقض ، والسؤال الذي يحير اغلب الحاضرين عن سر تلك العلاقة والتي تجمع بين ابنة المجرم وابن طبقة العائلة الكبيرة ؟
 
كانت العروس والمقصودة بكل هذه الحفلة الاسطورية والمقامة على شرفها تجلس امام المرآة الكبيرة والتي كانت تعكس بذات الوقت صورة لامرأة شبيهة بعرائس الدمى بعينين زرقاوين جميلتين نزعت عنهما العدسات ليظهر لونهما السماوي الباهت بدون اي غيوم او سحب....وببشرة ثلجية من الرخام الابيض القاسي بدون ان تظهر اي تعبير على تلك التقاسيم والتقاطيع الدقيقة بنحت خلقي وبدون ان تأثر بها تلك المساحيق الخفيفة والتي لم تخفي سوى هالة الحزن والتي ترافق جمودها الصخري والقابع بروحها....وهي تخفي كذلك هالات جفنيها الحمراوين والتي تظهر دائما مدى الكبت والذي تحجره بالدموع المنسكبة على روحها بدون ان تظهر شيء لكي تلون بالنهاية جفنيها بذلك الاحمرار القاني اسفل تلك العينين الجميلتين...وشفتيها الحمراوين بلونهما القاني الطبيعي وهي تزيد من لونهما الدموي بطلاء التبرج الصاخب....بدون ان تفهم فائدة كل هذه الألوان السخيفة على صفحة وجهها والتي لا تزيد حياتها سوى قتامة بدل ان تدخل البهجة على فرحة زفافها المنتظر بدون ان تستطيع اختراق روحها بألوان اسودت بعينيها منذ زمن !؟
 
رفعت يدها تلقائياً وهي تتلمس على تسريحة شعرها الغريبة والمعقودة بالأعلى بإحكام وخصلاتها مشدودة بعدد كبير من المشابك الفضية لتظهر كتلة شعرها بالمنتصف وحولها بعض الخصلات القصيرة المتهدله بعشوائية ناعمة بينما خصلة طويلة من غرتها المتمردة بقيت تحتل صفحة جبينها العريض بدون ان تصفف مع باقي الخصل...لتصل بالنهاية لفستان الزفاف الطويل والذي يناسب نوع هذه الحفلة بطبقات من قماش الحرير الناعم وهو يتدرج من الشيفون الرقيق بالأسفل ليرتفع تدريجيا بشيفون افخم واعرض مع كل طبقة حتى يلتف بخصر مستدير مع طبقة شيفون لامع عند الصدر....ومع اكمام طويلة من نفس الشيفون الرقيق والذي يزين طول ذراعيها ببعض العقيق الفاخر وهو ينافس بياض بشرتها الرخامية...وبدون ان تعلم من اين اعتلت بلحظة ابتسامة ساخرة شفتيها المشدودتين ما ان مرت عبارة مشهورة سمعتها من الكثيرين من الذين قابلتهم بحياتها والذين ليس لهم تصنيف من البشر
(دمية تعيث بالقلب فسادا !)
 
زفرت انفاسها بهياج مفاجئ احتل كامل جسدها لوهلة بكل مرة تسمع بها تلك العبارة الوقحة والتي تدفعها لتصب جام غضبها على صاحبها ، وكأنها حقا مجرد دمية الجميع يتحكم بها كما يشاء وهم يطلقون عليها كل ما يحلو لهم من ألقاب بدون ان يأبه احد برأيها ونفورها البدائي من هذا النوع من البشر .
 
امسكت بالمنديل امامها فوق سطح طاولة الزينة لوهلة لتمسح به بثواني على جبينها المتعرق بقسوة ، بالرغم من برودة الجو من حولها بهذا الطقس العاصف والذي هدأ عن السابق وكأن كتل الهواء الباردة قد انحصرت لتختفي معها سحابات الهموم والتي كانت تحتل السماء بجو ماطر حزين !
 
وقفت بمكانها فجأة بانتفاض لا إرادي بغريزتها الطبيعية وهي تتلفت من حولها بريبة للحظات ، قبل ان تقع على نافذة الغرفة بقاعة الحفلة والتي كانت تصدر تلك الاصوات الغريبة والتي بعثت الشكوك برأسها !
 
عبست ملامحها بتوجس لبرهة وهي تبادر بالتقدم ببطء باتجاه النافذة المفتوحة وبحذر شديد ، وما ان وقفت امامها مباشرة وهي تنظر للفراغ بالخارج بحيرة حتى قفزت للخلف تلقائياً بلحظة واحدة وهي تقع ارضا بقوة ، ما ان اندفع نحوها الكائن الغريب والذي دخل لها من النافذة بغفلة منها وبدون ان تشعر به !
 
اتسعت مقلتيها الزرقاوين بصدمة لم تدم سوى للحظات قبل ان تعود لصلابتها وهي تصرخ باستنكار حاد
"انت يا مجنون كيف تتجرأ على الدخول هكذا !......"
 
قاطعها الذي كان ينفض سترته من الغبار وهو يعتدل بوقوفه قائلا بابتسامة متوحشة برضا
"جيد لم يضع تعبي بالبحث عن الغرفة هباءً ، فقد كانت حساباتي صحيحة ودقيقة بالنهاية ، لكي تعرفي فقط بأنه لا شيء يستطيع الوقوف امامي بهدف الوصول لكِ"
 
امتعضت ملامحها لوهلة وهي لا تصدق لما وصل له حالها مع هذا الاحمق حتى يخرج لها من العدم مثل شبح الموت ليفسد عليها اي فرحة قد تفكر بطرق بابها بخجل ؟ استندت بيديها على الأرض وهي تحاول النهوض على قدميها لتنظر بغضب ليده والتي امتدت نحوها وهو يهمس بفحيح
"اعطني يدكِ يا دميتي"
 
دفعت يده بعيدا عنها بلحظة وهي تقف باستقامة بصمت ، ليرفع بعدها حاجبيه ببطء الذي كان يراقب بها بتمهل وافتراس من رأسها حتى اخمص قدميها وهو يهمس بانبهار واضح
"تبدين دمية بحق وتعيث !......."
 
قاطعته التي رفعت قبضتها بقوة وهي تصرخ بانفعال غاضب
"إياك وان تقول تلك العبارة الحمقاء"
 
اتسعت ابتسامته بملل امام التي كانت تحاول تعديل ثوبها الطويل والذي انحنى قليلا بدون ان تبالي بوجوده ، ليقول بعدها من فوره بابتسامة زادت بميلان مفترس
"ما بكِ ! هل انتِ متضايقة من وجودي هنا بهذا اليوم المهم من حياتك ؟ والذي ستحتفلين به مع زوجك المستقبلي والذي يستحق الحصول على دمية مثلكِ واكثر مني !"
 
تصلبت ملامحها بشراسة وهي تضغط على اسنانها بحدة هامسة من بينهما بقنوط مشتعل وهي تلوح بذراعها جانبا
"كم مرة عليّ ان اخبرك بأني لست دمية ملك لأحد ! فأنا لم اخلق من اجل ان اكرس حياتي لكم واكون لعبة بين ايديكم القذرة ، وبخصوص الشخص الذي سيتزوجني فهو لا يملك نفس المفهوم المشمئز والذي تعيشون عليه جميعا وتنظرون له من خلالي"
 
اختفت ابتسامته بلحظة وهو ينظر لها بعينيه الناعستين والتي ازدادت قتامة باردة لبرهة ، لتنفض بعدها ذراعيها بقوة وهي تستدير بعيدا عنه هامسة بعنف
"هيا اخرج من هنا يا مازن وعد من حيث اتيت ، فأنا لن اخضع لك مهما حاولت معي وكل محاولاتك ستبوء بالفشل لأن الدمية التي تعرفها لم يعد لها وجود بقاموسي ! لذا ارحل بكرامتك افضل لك ولي وللجميع حفاظا على ما تبقى من سمعتك"
 
زمت شفتيها بصمت وترقب وهي تشعر بخطواته من خلفها تتحرك بتخبط بعيدا عنها قبل ان تختفي بلحظة ، ليتغضن بعدها جبينها لوهلة ما ان عاد صوت الخطوات برأسها وهي تقترب منها بسرعة ارسلت الرعشة بكل اطرافها المنتفضة !
 
وما ان كانت على وشك الاستدارة حتى تسمرت بمكانها بوجل ما ان طوقت الذراع عنقها بلمح البصر وهي تشعر بفوهة المسدس مصوبة على جانب رأسها وانفاسه المشتعلة تخترق بشرة عنقها المكشوف ببرودة سرت بطول ظهرها ، وقبل ان تنطق بحرف سبقها الذي قال بنشوة وهو يقرب شفتيه من اذنها بقوة تزداد على عنقها الهش حتى شعرت بها ستخنقها بأي لحظة
"حركة واحدة متهورة منكِ وسينتهي كل شيء لتودعي عندها فرحة زفافك المرتقب والذي سيتحول من فرح لحزن وحداد !"
 
تجمدت ملامحها تحت بشرتها الجليدية ببرود شرس وهي تهمس بابتسامة ساخرة وكأنها ترحب بمطلبه بسعادة منقطعة النظير
"وهذا ما كنت انتظره منك ، وصدقني اجمل شيء ستقدمه لي بحياتك هو الموت على يديك لتنتهي عندها كل حروبنا بهذه الحياة اخيرا"
 
مرت لحظات ساكنة بصمت قبل ان يقطعها من فوره بضحكة خشنة خبيثة وهو يعود ليقرب شفتيه من اذنها هامسا بلحظة بابتسامة شامتة وبنبرة صوته الحاقدة بغل وانتصار
"لا يا عزيزتي هذا لن يحدث ، فأنتِ هي اساس كل حروبي منذ سنوات كيف تريدين مني ان افرط بكِ واقتلكِ بهذه البساطة ! لقد قصدت بكلامي بأن روح اخرى هي التي ستودعينها لتخرج من هنا جثة هامدة قبل ان تفرحي بها بحياتك"
 
عبست ملامحها ببطء وباستيعاب مشتت لوهلة قبل ان تتسع بلحظة كل من عينيها وحواس ادراكها لما تسمعه وما ان وصل لها فحوى كلامه ونواياه الاجرامية المستترة ، لتقبض بعدها تلقائياً على يديها بقوة حتى شعرت بها تخترق باطن كفيها وهي تهمس بلحظة باستنكار غير مصدق
"انت تكذب لن تفعلها !......"
 
قاطعها بضحكة اكثر خشونة حتى اظهرت مدى قبحها بين خلجات صوته وهي تضرب بأذنها مثل قصف المدافع ، قبل ان يتبعها بلحظات بصوته الخافت الشرس بثقة بالغة ضربتها بالصميم
"هل تراهنين على حياته ؟ صدقي او لا ولكني اعدك بأن لا اخيب ظنك وما ان ألمحه امامي الآن سأطلق عليه رصاصتي بدون ادنى تردد وامام عينيك الجميلتين"
 
عضت على طرف شفتيها بنشيج صامت لبرهة بدون ان تجد ما تفكر به بهذه اللحظة بالذات وبعد ان غابت عنها كل افكارها وحلولها البديلة بلحظة غادرة وكأنها ليست الذكية المعروفة بحل اصعب العقد بحياتها والتي لم تخلو منها يوما ؟ فما لذي حدث لعقلها الآن يمنعها من التفكير ولو بحل سريع يخرجها مما هي فيه الآن ؟
 
ارتعشت مفاصلها اكثر وكل عضلة بجسدها قد تجمدت بمكانها ما ان عاد للكلام بنفس الهمس المشمئز بترقب خطير
"ما هو قراركِ ؟ هل ننتظر حتى نشيع جثمانه امامك لتصدقي بأني لا اكذب ابدا ؟......."
 
قاطعته بانقباض حاد وهي تحاول العودة لضبط زمام امورها بتشتت افكارها
"حسنا ماذا تريد مني ان افعل الآن ؟"
 
اتسعت ابتسامته بميلان ساخر وهو يهمس بسعادة باردة
"واخيرا بدأتِ تفهمي سير اللعبة"
 
تنفست بجمود مرتجف بدون اي تعبير ما ان فك قيدها بلحظة وهو يبعد ذراعه عن عنقها مع فوهة المسدس بجانبها ، لتحجر بعدها ملامحها الجليدية بقسوة ما ان شعرت به يمسك بكتفيها ليديرها نحوه بلحظة ، وما ان قابلت نظراته الساخرة بعينيها الباردتين مخفية كل المشاعر والتي تلوج بداخلها حتى قال ببساطة وهو يلوح بالمسدس امام وجهها بتسلية
"والآن يا دميتي ستفعلين كل ما اقوله لكِ حفاظا على حياة الابرياء الموجودين بهذه الحفلة السخيفة واولهم ذلك الزوج المصون ، لذا اتبعي كلامي بكل طاعة وبدون اي اعتراض لا داعي منه ما دمتِ الآن مع الشخص الذي يستحقك"
 
اغتصبت ابتسامة حاقدة توديها كل نفورها منه بدون كلام وهي تحيد بنظراتها جانبا لوهلة ، لتعقد بعدها حاجبيها ببطء وهي تلتقط اول الخيط لمهربها من اسره ومن وجوده المحاصر بحياتها المهددة بخطره .
 
عادت بنظرها للأمام بقوة ما ان قال بصرامة آمرة وهي يدس المسدس بجيب بنطاله بهمجية
"هيا بنا لنغادر من هذا المكان الكريه والذي لا يناسب افكاري ، قبل ان اتهور واصوب على جميع الموجودين من الحمقى المدللين والذين يظنون نفسهم يملكون العالم !"
 
اومأت برأسها للأسفل بصمت قاتم وهي تراقب بطرف عينيها الزرقاوين الذي استدار امامها وهو يتقدمها باتجاه باب الغرفة ، لتتراجع بخطواتها للخلف بحذر قبل ان ترفع ذراعها بسرعة وهي تلتقط بلحظة المزهرية الزجاجية من فوق طاولة الزينة لتمسك بها بوضع المدافع ، وبلحظات كانت تسير عدة خطوات للأمام وبلمح البصر وقبل ان يفتح باب الغرفة طوقت عنقه بذراعها كما كان يفعل معها وهي تهمس ببرود محتقر
"انا اعتذر ! ولكن للضرورة احكام !"
 
وقبل ان يدرك شيء من فحوى كلامها الخافت كانت تحطم المزهرية الزجاجية فوق رأسه بلمح البصر حتى تحولت لشظايا متناثرة تساقطت من حولهما مثل هطول المطر ، وهي تنظر بأحداق حاقدة برضا للذي هبط امامها بسلاسة وهي تحرر عنقه بلحظة ليقع ارضا وهو يفقد الوعي تماما عن كل من حوله .
 
تنفست بابتسامة هادئة بارتعاش وهي تضع كفها على صدرها المتخبط بتقافز خفقات قلبها الملتاع ، لتضغط عليه من فورها تدريجيا حتى هدأ تماما وكأنها تأمره بالخنوع والصمت بدون اي تأثر حقيقي بادي على ملامحها ، لتلقي بعدها بما تبقى من المزهرية بيدها ارضا وعينيها على الجسد الخامد امامها بدون اي حركة .
 
رفعت عينيها للأعلى بوجل وهي تنظر للساعة المعلقة فوق الجدار بتوجس بدون ان تنتبه للوقت ! لتضغط بعدها على اسنانها وهي تشتم بغضب ، قبل ان تتحرك من فورها وهي تبدأ اولاً بسحب الجثة الهامدة بإمساك يديها لتحركها بسرعة بضع انشات ، لتدفعها بعدها باللحظة التالية بقدميها وهي تخفيها تحت السرير بالغرفة بحذر حتى تأكدت تماما من عدم ظهورها وعدم مقدرة احد على رؤيتها .
 
اتجهت بعدها لتنظيف الزجاج المتساقط والمتناثر على ارض الغرفة حتى انتهت تماما وهي تلقيه جميعه بسلة النفايات الصغيرة .
 
ما ان تنفست الصعداء حتى شهقت بذعر ما ان سمعت الطرق القوي على باب غرفتها والصوت المألوف يناديها من خلفه ، توقفت بسرعة امام المرآة وهي تعدل القليل من شكلها وهيئتها لتظهر افضل من السابق وهي تهدأ الانفعال الذي ما يزال يسيطر على خفقات قلبها وانفاسها .
 
التفتت من فورها باتجاه الباب والذي فتح فجأة ليقول من فوره الذي وقف عند إطاره بابتسامة جذابة غزت بلحظة ملامحه الباردة
"اين انتِ يا ألماسة ؟ لما كل هذا التأخير ! هل تريدين ترك العريس بدون عروسه ؟"
 
ابتسمت بجمود وهي تتقدم امامه بخطوات ثابتة بصمت تام ، وما ان وقفت امامه تماما حتى انتفض بمكانه وهو يمسك بذقنها بقوة ليرفعه امامه بلحظات وهو يهمس بقلق بالغ
"ماذا هناك يا ألماستي ؟ هل هناك ما يضايقك !"
 
حركت رأسها بالنفي بدون ان تنطق بحرف آخر وهي نفسها لا تستطيع شرح ما تشعر به الآن من تخبط غريب اوقف كل حياة تسكن بقلبها النابض بقسوة ؟ ليرفع بعدها رأسه عاليا وهو يجول بنظراته بالغرفة قائلا بوجوم وهو يرفع حاجب واحد بشك
"هل كنتِ تحاولين الهروب يا ألماستي ؟ ولكن المشكلة هنا بأن الغرفة بطابق مرتفع والانتحار منها ليس حلا للهروب من مصيركِ معي"
 
رفعت عينيها الزرقاوين باهتزاز وهي تهمس بابتسامة هاوية ببهوت
"لا تقلق فقد تعايشت مع مصيري وانا وهو بحالة سلام"
 
ارتفع حاجبيه لبرهة بغموض قبل ان يبتسم باتساع وهو ينحني امامها هامسا بأذنها بمكر
"اتمنى ان يدوم هذا السلام لصباح الغد"
 
انفرجت شفتيها بانشداه وهي تدفعه بصدره بقبضتيها بعنف هامسة بخفوت محتد لون وجنتيها بحمرة طفيفة
"وقح"
 
ضحك بانشراح لوهلة وهو يمسك بذراعها بلحظة ليضعها حول مرفقه بهدوء ، قبل ان يسحبها معه لخارج الغرفة بلحظات وهو يقول بابتسامة صغيرة بصوته الاجش وبدون ان يترك عينيها المعلقة به بصمت
"لقد نسيت ان اخبركِ بأنك تبدين اليوم من اجمل ما يكون مثل الألماسة الحقيقية والتي لا احد يكتشف جوهرها سوى من يعرفها جيدا ويدخل لحياتها !"
 
ابتسمت بهدوء وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه وكل ما يدور برأسها كلامه الاخير ومعناه والذي عبث بنبضات قلبها بسمفونية جديدة لم تحدث معها من قبل ؟ ومختلفة تماما عن معنى تلك العبارة الكريهة والتي كانوا يطلقونها عليها كل من يعرفها ظاهرا بدون ان يجرب احد الدخول لحياة تلك الدمية الجميلة كما يقولون ؟!
______________________________
كانت تسير بالقاعة الكبيرة بخطوات ثابتة وهي تجول بنظراتها بكل زاوية وبانبهار خفي بالمكان الافخم والذي تراه بحياتها الضيقة والتي لم يتواجد بها يوما مثل هذه الرفاهية فاحشة الثراء وحتى انها قد تجاوزت حفلة العمل والتي حضرتها بمنزل العائلة ! وخاصة بأنها تجمع كل طبقات المجتمع الراقي بمكان واحد يخلط كل انواع البشر والتي لهم صلة ولو من بعيد بهذه العائلة العريقة ، والتي لم تنتمي لها سوى بسبب والدتها والتي تكون السبب الرئيسي بانتمائهم لهذا العالم الكبير والوسيع والذي تجاوز مخيلاتهم الصغيرة آن ذاك .
 
ابتلعت ريقها بحشرجة مسننة وهي تجثم فوق صدرها كاتمة انفاسها لوهلة ، وهي تشرد بعينيها بالأضواء الخافتة المنتشرة بأنحاء القاعة لتعطي جمالا ساحرا بالأجواء من حولها ، فهي تقريبا لم تحضر حفلات زفاف منذ سنوات طويلة ولم يطرق الفرح على ابواب قلوبهم الصغيرة منذ امد بعيد ، ألا حفلة زفاف واحدة حضرتها مجبرة بسن التاسعة تقريبا ولم تكن ضمن الافراح والتي تسعد قلوب حاضرها عندما تكون متعلقة بحياتها القاسية والتي انقلبت رأساً على عقب ليأبى الفرح من وقتها بالدخول بين شقوق شظايا زجاج محطم انكسر وانتهى الأمر ، والسحابات تغيم على حدقتيها الخضراوين لبرهة بدون إرادة منها او شعور ما ان عادت لتلك الذكرى والتي توقفت بها حياتها ، عندما كانت تشاهد بعينيها الخضراوين تلك العروس والتي كانت تتزين وتتجهز من اجل زفافها المنتظر وكأنه لم يسبق لها الزواج من قبل ، وهي تبدو بأبهى طلة من الممكن ان تظهر بها اجمل عروس ما تزال بريعان شبابها ، وهذا ليس غريب على الجميلة الساحرة والدتها والتي كانت محط اهتمام الجميع من الجنس الآخر لولا مزاجها العصبي والذي كان يفسد صورتها ببعض الاحيان بحالات هستيرية غريبة ؟
 
تذكر جيدا عندما تدفقت الدموع بمقلتيها بدون اي سعادة حقيقية وهي تتمسك بكفيها الصغيرين بثوب والدتها الحريري وصوتها يخرج مرتجفا ببكاء متوسل
"ارجوكِ يا امي لا تفعلي هذا وتتزوجي بذلك الرجل ، ماذا سيحدث لو علم والدي بفعلتك ؟ انتِ بهذه الطريقة تخونين والدي بالزواج من رجل آخر !"
 
انتفضت برأسها نحوها لوهلة بدون ان تفقد ابتسامتها الجميلة وهي تحرك رأسها هامسة بخفوت مشتد
"روميساء كم مرة عليّ ان اعيد لكِ يا حبيبتي بأن والدك قد مات ولم يعد له وجود بحياتنا ! لذا انسيه تماما وفكري فقط بفرحة والدتك بهذا الزواج ، فبعد هذا العمر الطويل عادت السعادة لتنير حياتنا من جديد ومع رجل سيكون العوض عن كل ما تلقيناه من اذى وذل من العالم"
 
حركت رأسها بالنفي بشدة وبوجه محتقن وعينيها الكبيرتين تسبحان بالدموع الحبيسة وهي تهمس برفض عنيد
"لا لن يعوض عن وجود والدي بحياتي ، ولا اريده ان يكون بمرتبة ابي ، ولا اريدكِ ان تتزوجي منه فهو ليس الرجل المناسب لكِ ابدا"
 
اهتزت ابتسامتها لوهلة قبل ان تتحول لعبوس صارم بلحظة امام مرأى ابنتها وهي تحاول ضبط اعصابها فقط بهذا اليوم ، لتلوح بعدها بذراعها جانبا وهي تقول من بين اسنانها بضيق واضح
"لماذا لا تفهمين ما اقوله يا حمقاء ؟ ذلك الرجل والذي تتكلمين عنه بسوء قد وافق على الزواج من والدتك الارملة ، ومعها قد وافق على وجودكِ انتِ وماسة بحياته وتحت رعايته ومسؤوليته الخاصة بالرغم من انه ليس مضطرا لذلك ! وانتِ ما تزالين تكرهينه ولا تريدينه ان يكون الرجل المناسب بعد كل ما فعله من اجلنا بعكس والدك......"
 
صرخت فجأة بانتحاب التي كانت تضرب الارض بقدميها بعنف وهي تبكي بصمت
"لا غير صحيح هو ليس والدي ! ولا اريده ان يكون والدي ، انا اكرهه واكرهكِ اكثر لأنكِ لا تحبين والدي والذي يكون افضل منكِ بكثير....."
 
صمتت بارتجاف ما ان تلقت الصفعة القاسية والتي لونت وجنتها بحمرة قانية بلحظة ، بينما كانت تنظر لها صاحبة تلك الهالة العصبية والتي تنتابها بين الحين والآخر وهي تلون عينيها بزرقة قاتمة دموية ، لتتدارك بعدها نفسها وهي تنظر لابنتها التي كانت تشهق بصمت ودموعها تشكل خيوط رفيعة فوق وجنتها الحمراء من الصفعة ومقلتيها الخضراوين تنظران لها بجمود قاسي تقابله لأول مرة من ابنتها الكبرى .
 
لتزفر بعدها انفاسها بارتباك وهي تحاول تهدئة ثورتها ، ما ان انحنت امامها وهي تمسك بكتفيها الصغيرين قائلة بابتسامة متصلبة بدون ان تفقد عصبيتها
"اسمعي الكلام يا صغيرتي ولا تغضبيني اكثر ، فأنا افعل كل هذا من اجل مصلحتنا جميعا ، فنحن لا نستطيع العيش بدون رجل وسند يساعدنا بمصاريف معيشتنا ، لذا عليكِ تقبله بحياتكِ ولو مرغمة لأنه هذا هو الحل الوحيد لنعيش بهذه الحياة والتي نبذتنا منذ سنوات فلا احد يطيق وجودنا بهذا العالم"
 
نظرت لها للحظات بدون كلام وبعد ان خفت البكاء قليلا وهي تمسح الدموع عن وجنتها بكفها الصغيرة هامسة بخنوع
"حاضر يا امي"
 
ابتعدت عنها من فورها بلحظة وهي تعود لابتسامتها الجميلة قائلة بلا مبالاة وهي تنظر لنفسها بالمرآة بسعادة
"اذهبي وراقبي شقيقتك الصغرى ريثما انتهي من تجهيز نفسي ، فلن اتحمل اي دمار او خراب قد تسببه تلك الطفلة المجنونة بيوم حفلتي ، فلم يبقى سوى القليل على بدء الحفلة"
 
اومأت برأسها ببرود وهي تراقب سعادة والدتها بدون ان يصل لها اي قبس من تلك السعادة الغريبة ، وهي لا تعلم لما لا تشعر بالراحة للزوج المنتظر والذي سيحل مكان والدهما ويكون سند العائلة الجديد وكأنه تحذير خفي لما هو قادم بحياتهما ؟
 
تنهدت بهدوء وهي تخفض نظرها بعيدا عن الاضواء والتي غشت عينيها بهالة مزعجة لوهلة....لتمسح بعدها يديها بارتباك بقماش الفستان الحريري بلون التوت البري وهي ينزل على جسدها بضيق من الأعلى ليتوسع عند وركيها بانتفاش لطيف حتى يصل لكاحليها....وبكمين قصيرين يصلان عند مرفقيها ومفتوحين عند الاكتاف بشق طولي غير ظاهر تقريبا....ويلتف بشريطة من قماش الثوب حول عنقها مثل الطوق ومربوط بعقدة خلف عنقها بأناقة ليغطي صدرها بالكامل باحتشام ...
 
زفرت انفاسها بابتسامة راضية وهي تنظر للثوب والذي اشترته بآخر لحظة مع كمية التجهيزات الاخرى والتي تولتها بأكمل وجه ، فقط ليكون كل شيء مثالي وكما تراه الآن بدون ان تغفل عن شيء ، فهي تعلم جيدا بأن مثل هذه الحفلات المبهجة والتي تدق ابوابهم بسعادة لا تحدث كل يوم ، وكل ما تسعى إليه فقط ان تصل هذه السعادة لشقيقتها الصغرى نافضة هالة الألم والحزن عنها والتي اكتسحت حياتهم منذ سنوات .
 
ضمت قبضتها فوق صدرها وهي تحين منها التفاتة بطرف عينيها وتحديدا للذي كان مشغول كالعادة بالتكلم مع اقارب العائلة كثيرين الافراد ومدراء العمل بشركته ، وهو محور اهتمام كل من بالحفلة وخاصة بأنه الوحيد والذي تبرع بالاهتمام بالمدعوين واستقبالهم بحفلة شقيقه .
 
عقدت حاجبيها بوجوم وببرود جليدي اكتسح ملامحها لوهلة بدون إرادة منها وهي تتمنى ان تحظى ولو على القليل من معاملته اللطيفة نحو الناس والتي كان يغدقها بها على الدوام فيما مضى قبل ان تسبب بذلك الشرخ الكبير بحياتهما والذي يبدو لم يلتئم للآن ! وكيف سيفعل وهي تقابل كل محاولاته بالرفض بسبب انشغالها بالأيام الماضية بالتجهيز لحفل شقيقتها الصغرى وملازمتها لها ليل نهار ؟ بدون ان تدع له اي مجال ليستطيع الدخول به بينهما بعناد مستميت غريب ! وهذا غير تقلباتها المزاجية والتي اصبحت تنتابها مؤخرا مع تخبطات مشاعرها العنيفة والتي لم تستطع للآن الثبات على شعور محدد ، ليزيد عليها حالتها الجسدية والنفسية المتدهورة وهي تشعر بشيء غير طبيعي بدأ يزعزع هدوء حياتها إذا ساءت الظن ؟
 
تسمرت بمكانها لبرهة ما ان عادت بنظرها للشخص والذي اصبح ينظر لها بثبات متجمد بلحظة ، وعينيه الرماديتين ترنو بين الجمود والبرود بدون ان يرحمها بنظرة لطيفة تنسيها كل هموم ايامها الماضية كما كان يفعل معها بالماضي ، ولكن لم يحدث شيء من هذا وتلك النظرات تتحول باللحظة التالية لقسوة الاستهجان وهو يشملها بنظرات غريبة من رأسها حتى اخمص قدميها ، فقط لحظة قبل ان يشيح بتلك العينين والوجه بعيدا عنها مكملا انسجامه مع المحيطين به وكأن شيء لم يكن ! وبدون ان يبالي بما حطمه بتلك النظرات وبالشرخ الدامي والذي اصبح اكثر اتساعا عما سبق !
 
رفعت كفها بسرعة وهي تمسح دموع غير ظاهرة على وشك الانسكاب عند طرف عينيها بدون ان تفسد زينة وجهها الهادئة ، لترفع بلحظة رأسها بقوة وإيباء باتجاه العروس القادمة برفقة خالها الممسك بها من جهة وزوجها من الجهة الاخرى ، وامام الجماهير والحاضرين المتحلقين من حولهم ، وكل منهم قد بدأ بأخذ مكانه بتأهب وانتظار وببعض الفضول وبصمت طغى على اجواء الحفلة الناعمة للحظات طويلة ...
_______________________________
كانت تشهق ببكاء صامت وعينيها العسليتين سابحتين بدموع حارة تأبى الهطول اكثر من هذا وهي تغرق وجنتيها المحمرتين باحتقان ساكن ، وهي تحاول منذ ساعة تقريبا بدون فائدة مع الجبل القاسي الواقف امامها ، وهو ينظر بعيدا عنها بدون ان يرحمها بنظرة شفقة او رأفة تعطيها بعض الأمل في امر معدوم النجاح ومفروغ منه كما كان يقول منذ قليل بحكم قوانينه التعسفية والتي تكون منتهى الظلم بالنسبة لها .
 
تنفست بعدها بتعثر وهي تحاول مجددا لآخر ذرة امل وكرامة متبقية لها ، وهي تضم قبضتيها معا هامسة بحزن موجع ورجاء شديد
"ارجوك يا جواد ان تسمح لي بالذهاب لحفلة صديقتي فقط لدقائق معدودة ، فهذه الحفلة مهمة جدا لصديقتي وقد كنت قد وعدتها من قبل بأني سأحضرها ، ليس من العدل ان تحرمني حتى من الذهاب للحفلة !......."
 
ابتلعت كلماتها مع شهقاتها ما ان عاد للكلام بحدة نافذة للصبر وهو يوجه لها نظرات سوداء تحمل الازدراء والاستنكار معا
"اخرسي يا صفاء ، ألم تفهمي ما قلته سابقا واعدته لكِ مرارا ! فيبدو بأنكِ قد اصبحتِ تستهينين كثيرا بالقوانين والتي وضعتها لكِ بمهلة هذا الزواج ؟ وآخر ما افكر به هو حفلة صديقتك السخيفة والتي لا تستحق حقا كل هذا الاصرار الطفولي ! لذا افعلي ما اقوله فقط بدون اي عصيان او تذمر فرأسي لم يعد يحتمل"
 
انتفضت تلقائيا وهي تنفض ذراعيها للأسفل بحركة متشنجة هامسة بانفعال محتقن
"هذا قاسي جدا ! فقط اريد ان افهم لما لا تسمح لي بحضور حفلة صديقتي ولا الخروج من المنزل ؟ هل تظن نفسك تعيش بالغابة وانت حارسها والذي يمنع من اي احد اختراق قوانين قبيلتك هذه ؟"
 
ارتفع حاجبيه بتجهم ساخر لوهلة من تحليلها الطفولي لأمر بمنتهى الغباء ! ليتقدم بعدها بخطوتين نحوها قبل ان يمسك بلحظة بذراعها بقوة وهو يقربها امامه هامسا بتشديد حاد لا يقبل الجدال
"لقد قلتها ولن اكررها مجددا ، ذهاب لتلك الحفلة ممنوع أياً كان نوع تلك الحفلة والصلة والتي تربطك بصاحبها ، والنقاش بهذا الموضوع منتهي وإياكِ وان تعيدي فتحه امامي مجددا"
 
زمت شفتيها الورديتين عدة مرات بارتجاف لوهلة قبل ان تحني عينيها بعيدا عنه بحزن ساكن وهي تتمتم بوجوم خافت
"اتمنى ان تنتهي مهلة هذا الزواج سريعا عندها قد استطيع العودة لحياتي الطبيعية قبل ان تجتاحها !"
 
تصلبت شفتيه بدون كلام لبرهة وعينيه تتحركان عليها بصمت قاتم وبدون اي تعبير ظاهر على محياه فقط حدقتيه متحجرتين بسواد زاد عن السابق ، لينفض بعدها بلحظة ذراعها بعيدا عنه بصمت اقرب للعنف قبل ان يغادر من الغرفة بأكملها بخطوات جامدة بقوة حتى صدم الباب بجانبه بقسوة كاد ان يخلعه من مكانه .
 
زفرت انفاسها مع شهقة صغيرة ما تزال عالقة بروحها المنتحبة وهي لا تصدق ما تعيشه الآن من قسوة وظلم تجاوز حدود مخيلتها ؟ لتمسح بسرعة خديها من الدموع بظاهر يدها وهي تنظر للتي دخلت بعدها بثواني وهي تجول بنظرها عليها بتوجس هامسة بقلق
"ماذا هناك يا صفاء ؟ ولماذا جواد يبدو غاضب هكذا ؟"
 
تنفست بحزن وهي تخفض نظراتها بصمت وبعد ان استبد بها التعب والبكاء بالساعة الماضية ، لتشعر بعدها بيدين تمسدان على كتفيها المنحنيين وهي تهمس لها بعطف حنون لا يخلو منها تعب وحزن السنين
"لا داعي للحزن يا صغيرتي كل شيء يهون بالحياة إذا تحلينا بالصبر والعزيمة ، وانا متأكدة بأن جواد لا يقصد اذيتكِ او جرحك بكلامه فهو رغم كل شيء يملك قلب طيب خلف جليد قسوته لا يعرف عنه سوى من اختبره"
 
اومأت برأسها بشرود وابتسامة جانبية لا تعلم من اين بدأت تحتل طرف شفتيها بأسى على قلب طيب اغدقها بالحب يوما ما منذ كانت طفلة تحت مسمى فارس احلامها ؟ لتهمس بعدها لا شعوريا بروح انقبضت بلحظة بشرخ زجاج دامي
"ولكن اين هي الطيبة عن هذه القوانين والتي يحجز بها حريتي بمهلة زواج غير موجودة بمسميات الحب والزواج ؟"
 
صمتت (هيام) بارتجاف ملامحها الشاحبة بدون ان تجد ما ترد به على تصرفات ابنها والتي تجاوزت الحد بقوانين الحقد والانتقام ! قالت بعدها بسرعة وهي تخفض يديها عن كتفيها قائلة بتفكير مرتبك
"لا تهتمي لهذا الآن ، واخبريني بماذا كنتِ تناقشين جواد منذ ساعة حتى خرج من الغرفة غاضبا ؟"
 
نظرت لها بعيون دامعة لوهلة ما تزال تنبض بالأمل الميت قبل ان تنتفض بلحظة وهي تمسك بيديها بقوة هامسة برجاء
"ارجوكِ يا عمتي هيام ان تقنعي جواد بأن يتركني اذهب لحفلة صديقتي اليوم ، رجاءً احتاج للذهاب بشدة ولا اريد تفويت مثل هذه المناسبة"
 
عقدت حاجبيها بارتباك لبرهة وهي تهمس بخفوت حائر
"هل هي نفسها التي زارتك قبل ايام ؟"
 
اومأت برأسها بقوة حتى تطايرت بعض من خصلات شعرها الناعمة مع حركاتها وهي تهمس بسعادة دامعة
"اجل هي نفسها ، واليوم يكون حفل زفافها وقد تواعدنا من قبل بأن يحضر كل منا حفل زفاف الآخر ، ولكن للأسف لم يستطع اي منا تحقيق هذا ، ويبدو بأنني انا ايضا سأخلف بوعدي ولن اشارك صديقتي بفرحة هذه اللحظة ؟"
 
ابتسمت بحنان متدفق بعينيها السوداوين الواسعتين بحزن وهي تربت على كفيها الممسكين بيديها قائلة بخفوت
"يبدو بأنكِ تحبينها كثيرا !"
 
حدقت بها للحظات بغلالة دموعها الغائرة قبل ان تعتلي ابتسامة باهتة على تقاسيم وجهها الناعمة ، وهي تهمس بكل حب تملكه بقلبها الصغير للكائن والذي رافقها بكل سنوات طفولتها
"بل هي الشيء الثابت والجميل والذي تبقى بحياتي عندما غادرت كل الاشياء الجميلة من محور حياتي ! وهي تخون العهد بيننا بدون اي وجه حق لتتركني وحيدة اعاني مع ذنبي والذي لم اعرف للآن اين كان العيب به ؟"
 
عبست ملامحها بوجوم وهي تنظر لدموعها والتي عادت للسيل على وجنتيها بصمت موجع ، لتسحب بعدها يديها برفق وهي تربت على كتفها بحنان محاولة تهدئة حزنها للحظات ، قبل ان تغادر من امامها وهي تنسحب لخارج الغرفة بصمت بعد ان عزمت امرها .
 
وقفت امام باب المنزل المفتوح والذي وصلت له بلحظات ، لتجول بعدها بنظراتها قليلا قبل ان تقع على الجالس عند درجات سلم المدخل وهو مشغول بتدخين سيجارته بشرود غير مبالي .
 
تقدمت بخطواتها قليلا قبل ان تتوقف تماما ما ان اخترق الصمت الذي قال بأنفاس باردة بجمود صقيعي
"عودي ادراجكِ يا امي ، لأنه ليس لي مزاج الآن للتكلم مع احد"
 
تنفست بروية وهي تشدد من القبض على يديها قائلة بنبرة عطف تتخللها بعض الصرامة
"ألا تريد تناول طعام العشاء ؟ ام انك تفضل تناول دخان السجائر المضر بالصحة والنفس !......"
 
قاطعها من زفر انفاسه بحنق وهو يرفع رأسه للأعلى بقسوة
"ارجوكِ يا امي هذا ليس وقت محاضرات الصحة والنظافة ، ولا اريد التكلم عن اي شيء ولا تناول شيء ، فقط اريد الانفراد مع نفسي قليلا !"
 
تنهدت بهدوء وهي ترفع يدها بارتجاف لتعدل الوشاح من حول وجهها بقوة ، قبل ان تهمس بعبوس متصلب نافضة هالة الحزن عنها
"سأتركك ولكن قبل فعل هذا اريد منك ان تسمع مني هذه الكلمتين ، لا يهمني كل ما تصدره من اوامر بحق تلك الفتاة ولا قوانين حقدك المتأصل بداخلك اتجاه تلك الفتاة المظلومة والتي ليس لها اي علاقة بحادثة موت غنوة......."
 
قاطعها بنبرة خاوية من بين اسنانه القاسية
"امي الرحمة !......."
 
عادت للكلام بحدة اشد وبحزن اكبر وهي تتابع كلامها بثبات تحسد عليه
"اصمت واتركني انهي كلامي اولاً ، صحيح بأنني لم اعترض يوما على كل ما تفعله بحياتك المستهترة والقوانين القاسية والتي تتبعها بعلاقتك الزوجية ! ولكن تذكر بأن تلك الفتاة تبقى زوجتك وما تزال على ذمتك للآن ، لذا لا بأس بإسعادها قليلا بحضور حفلة صديقتها والتي لن تتزوج كل يوم ولن تأثر بمبادئ حقدك المرضي ولا بقوانينك الصارمة !"
 
مرت لحظات باردة بتفاصيل حياتهما القاسية قبل ان يخرج الرد الاجوف من الذي ما يزال مستمر بتدخين سيجارته بدون اي انتباه حقيقي
"هل هي من ارسلتكِ لتكوني تذكرة ذهابها ؟"
 
عقدت حاجبيها بوجوم لبرهة وهي تستدير بنصف جسدها ، لتهمس بلحظة بنبرة هادئة بدون اي تعبير
"اسمعني جيدا يا جواد إذا لم تفعل ما اقوله فلن اسامحك عليها ما حييت ! هذا إذا كنت تهتم بمسامحتي من الاساس وعتابي عليك والذي لن يقارن بعتاب الأيام الماضية ؟"
 
رفع رأسه بحدة بالتفاتة للخلف وهو يلمح آخر طيف من ظلها الداخل للمنزل وصوت حفيف عباءتها ما يزال يرفرف بأذنيه المرهفتين ، ليعود بنظره ببطء للأمام لبرهة وهو يدخن آخر رشفة من سيجارته ، قبل ان يتبعها بلمح البصر برمي السيجارة بعيدا بسواد الظلام الحالك من حوله وهو يتلقف عدة انفاس بقوة سوداوية قبضت على انفاسه لثواني .
 
ابتسم بالتواء طفيف وهو يعود لقناع البرود الجليدي ، ليقف بعدها بلحظة بجمود ثابت وهو يصعد درجات السلم ليسير من فوره لداخل المنزل .
 
دخل للغرفة بلحظة بدون استئذان ليقفز الجسد الجالس على السرير بارتعاد بجفلة وبعيون عسلية اصابها الذهول لوهلة ، وقبل ان تفيق من حالتها اللحظية قال بدون مقدمات بجمود صخري وكأنه مرغم على فعل كل هذا
"اسمعيني جيدا لديكِ فقط عشر دقائق قبل ان تكوني جاهزة لأوصلك لحفل صديقتك السخيف واعيدك منه ، وإذا تأخرتِ اكثر من الوقت الذي حددته لكِ فلا تحلمي عندها ان اوصلك لأي مكان فليس لدي وقت لكل هذه السخافات !"
 
انفرجت شفتيها بانشداه مصدوم لثواني قبل ان تشرق ملامحها الباكية بابتسامة كبيرة اخترقت غمامة حزنها وشموس عينيها الدامعة لوهلة ، لتنتفض بلحظة تلقائيا وهي تنهض بعيدا عن السرير بتعثر قبل ان تنقض على الساكن بمكانه بأول مبادرة منها لم تحدث من قبل ، وهي تعانق خصره المتصلب بذراعيها هامسة فوق منحنيات صدره ببهجة خالصة
"شكرا لك على موافقتك ، شكرا لك"
 
تجمد بمكانه للحظات وهو يستشعر بقرب جسدها ونعومة تفاصيله الطفولية توشك على نهاية صبره وذوبان حواجزه الجليدية بشعلة طاقتها الملتهبة والتي لا يشعر بها سوى من حرق بألسنتها ، ليحجر بعدها ملامحه باتزان لبرهة وهو يمسك بكتفيها ليبعدها عنه برفق ، لينظر بقتامة لخصلات شعرها الحريرية والتي ما تزال عالقة بقماش قميصه الاسود بسبب دموعها الحارة والتي عادت للنزول من فرط السعادة على ما يبدو !
 
زفر انفاسه بجمود وهو يرفع يديه عن كتفيها ليحيط بهما وجهها وهو يرجع خصلاتها الناعمة بأصابعه لخلف اذنيها عدة مرات حتى تحولت لهوس بدون إرادة منه ! ليقبض بلحظة على كفيه وهو يخفضهما بقوة بالإجبار ليدسهما بجيبي بنطاله وهو يهمس بصوت اجش منفعل
"لا تنسي اسرعي بتجهيز نفسكِ لننتهي من كل هذا التهريج ونعود بسرعة"
 
اومأت برأسها بحركة غير ظاهرة ما ان استدار بعيدا عنها وهو يخرج من الغرفة بأكملها بصمت ، لترفع بعدها نظراتها بدموع حبيسة من فرط مشاعرها والتي انتابتها لأول مرة بدون إرادة منها ، وكفها تتلمس مكان الخصلات خلف اذنها بدون شعور وبسعادة غريبة عادت لتضرب نواقيس قلبها بخلجات صدرها المتقافز فرحا وطربا !
____________________________
كان يضرب بقدمه الجدار من خلفه برتابة وهو ينظر امامه بقتامة باردة وبغضب على وشك النفاذ والتسرب بكل إنحاء جسده المشدود ببطء شديد ، وهو لا يعلم ما هذه الحماقة والتي وافق عليها من لحظة بدون ادنى تفكير ومن اجل حفلة تافهة لإرضاء تلك الطفلة الباكية ؟ هل يعقل بأن يكون كلام والدته الاخير قد اثر به بالرغم من انه كان يُخرج دائما اسوء من هذا بدون ان يبالي بتحذيرات والدته وعتابها الصامت عليه ؟ والذي اكثر ما يعلمه عنه بأنه لا يدوم سوى ليوم واحد قبل ان يرضيها ببساطة بقلبها الحنون والذي لا يعرف للقسوة طريق فقط تمثل الغضب على من تحبهم لكي يخضعوا لأمرها لا اكثر ، فماذا حدث إذاً ليغير رأيه هكذا ويوافق على مهمة اصطحابها للحفلة الغبية والتي تخرق قوانينه الصارمة بمهلة هذا الزواج والذي يشعر به اصبح يثقل على كاهله اكثر مما يتحمل ؟ فهل بدأ بتخاذل من الآن قبل ان ينتهي الشهر ام انه رغبة بعدم سماع انينها الباكي الرقيق وهي تتوسل إليه ان ينفذ طلبها ويطلق سراحها وكأنه سجانها !
 
رفع يديه بسرعة وهو يمسح تقاسيم وجهه الغاضبة بكبت وبصداع بدأ يجتاح رأسه بتصميم لا يريد ان يبارحه ، ليدس من فوره كفيه بجيبي بنطاله وهو يميل للأمام قليلا بإنهاك ناظرا للأرض الرخامية الملساء بثبات ، وامواج من ماضي سحيق بدأ بالتداخل مع صداع رأسه وبصوت بعيد ما يزال يحفظ نبرته الطفولية وهي تتوسل له برقة تشبه التي سمعها منذ لحظات فقط الفرق هي طريقتها المراوغة والتي تستخدمها عادةً ليوافق على طلبها
"ارجوك يا جواد و يا شقيقي الحبيب ان تسمح لي بالذهاب للحفلة ؟ فأنا اريد بشدة الذهاب لتلك الحفلة ولا استطيع التغيب عنها لأن مثل هذه الحفلات لا تحدث كل يوم ! لذا اتوسل إليك إذا كنت تحبني حقا ويهون عليك حزني فستقبل باصطحابي معك للحفلة بدون اي تفكير"
 
ردّ عليها المقابل لها بنفس الجواب الصارم مع ابتسامة ساخرة بجمود
"حركة جميلة منكِ ! ولكن جوابي ما يزال الرفض ولن اصطحبكِ لأي حفلة فارغة بمنتصف الليل فقط للتسلية واللهو"
 
عبست من فورها الملامح المتشربة بحمرة قانية ناسبت تفاصيله الصغيرة بوجهها الدائري وهي تهمس بحنق بالغ
"هذا ليس عدلا ابدا يا جواد ! كل صديقاتي يذهبن للحفلات ويستمتعن بحياتهن ؟ اما انا فلا اذهب لمكان سوى للمدرسة وهذا منتهى الظلم ، ماذا سيحدث لي عندما اصل لسن عجوز وتنتهي فرصتي بعيش الحياة الجميلة ؟......."
 
قاطعها بتصلب وهو يرفع حاجبيه ببرود ساخر
"غنوة ألن تكفي عن هذه التمثيلية العاطفية الفاشلة لأنها لن تؤثر بي ولو قليلا ؟ ولا تحلمي ايضا بالذهاب لتلك الحفلة فهذا القرار لا جدال به !"
 
امتعضت ملامحها باحتقان وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة من بين اسنانها بضيق
"اشك بأن يكون هناك شيء يؤثر بك يا جبل الجليد القاسي !"
 
حرك رأسه بضحكة ساخرة ما ان يسمع لقبه منها والذي تنعته به بتلك الطريقة الغاضبة بطفولية ، ليتنفس بعدها بروية للحظات وهو يرفع يديه ليمسك بكتفيها الصغيرين بقوة ، قبل ان يقول بابتسامة حانية يكنها لطفلته الغاضبة والتي لا يهون عليه حزنها كما قالت
"اسمعي يا غنوة انا لا اتقصد القسوة عليكِ او حجزك بالمنزل رغما عنكِ ، ولكن هناك امور خطيرة تدور من حولنا بالعالم بدون ان نشعر بها يتوجب علينا الحرص منها جيدا واخذ كل الحيطة ! وكل ما افعله من اجل مصلحتك وحمايتك من ذلك العالم يا صغيرتي ، فأنا كم اغنية حياة لدي بالمنزل وكم ابنة لدي بالعالم ؟"
 
تشنجت ملامحه بلحظة ما ان رفعت عينين سوداوين واسعتين بتمام القمر يغطيهما غشاء من الدموع والذي بدأ يهطل منهما كعادتها عندما تفشل كل اسلحتها معه والدموع تسيل على خديها المدورين لتزعزع بلحظة كيانه بأكمله ، وهي تهمس بنحيب ورجاء باكي
"اريد الذهاب للحفلة يا جواد ، انا اشعر بالوحدة ولم يعد لدي اي اصدقاء بعد تغيبي عن حفلاتهن ، لذا لا اريد خسارة باقي اصدقائي ، ارجوك لا تكون بكل هذه القسوة معي !"
 
اشاح بوجهه جانبا بحدة لبرهة قبل ان يعود بنظره لها بلحظات وهو يهمس بخفوت مستسلم
"حسنا لا بأس سنذهب للحفلة هذه المرة فقط ، هل انتِ سعيدة الآن ؟"
 
تهللت ملامحها بسعادة بالغة لوهلة وهي تمسح خديها بقوة ، قبل ان تهجم عليه بلحظة وهي تطوق عنقه بذراعيها بعنف صارخة بسعادة عادت لاحتلال صوتها الباكي
"شكرا لك يا جواد و يا والدي الحبيب انا اكثر ابنة محظوظة بوجودك معها ، واعلم بأني سأكون دائما بأمان ما دمت موجود بعالمي"
 
رفع رأسه بقسوة وهو يستند بالجدار من خلفه نافضا تلك الغلالة والتي ما يزال مأسور بها للآن لتذكره بكل مرة بسوء ظنه وخيانته لذلك الوعد بحماية تلك الطفلة والتي رحلت بطريقة شنيعة وبأسوء مما كان يتخيل ؟ وبدون حتى ان يكون موجود بحياتها بتلك اللحظات كما وعدها سابقا !
 
اغمض عينيه لعدة لحظات قبل ان يفتحهما بسرعة على مرأى التي خرجت من الغرفة بهدوء بدون صوت ، وهو يضيق حدقتيه السوداوين بلحظة خاطفة ما ان اكتشف بأن الثوب الذي كانت ترتديه هو نفسه الثوب الوردي القصير والذي لا يتعدى ركبتيها والذي ارتدته بيوم زيارته لها ليطلب يدها من والدها ، ولم يشعر بعدها بنفسه وهو يبتعد عن الجدار تدريجيا وعينيه تلاحق جسدها بتأمل بطيء بدون ان يغفل عن جزء منه من تحت قماش ثوبها ، وهي تخفض نظراتها بحياء بعيدا عنه وبعض الخصلات القصيرة المتحررة من عقدته الفوضوية تلامس عنقها وحول وجهها بإغراء واضح .
 
انتفضت لا شعوريا وهي ترفع وجهها المشدوه نحو الواقف امامها والذي كان يقول بتصلب بدون اي تعبير يعلو ملامحه الساكنة
"اذهبي وبدلي الثوب"
 
انفرجت شفتيها للحظات وهي تهمس بغباء واضح
"ماذا ؟!"
 
قطب جبينه بحدة اكبر وهو يزيد من قبض يديه بداخل جيبي بنطاله بدون إرادة منه هامسا بتشديد واضح وبصرامة اكبر
"ألم تسمعي ما اقوله ؟ اذهبي وبدلي الثوب حالاً !"
 
رمشت بعينيها عدة مرات بانتفاض وهي تخفض نظرها بارتباك لثوبها الجميل والاحب على قلبها من بين جميع اثوابها ، وهي تعود لرفع عيون عسلية حائرة هامسة بعدم فهم
"لما ! ألا يبدو الثوب جميل عليّ ؟"
 
تنفس بحدة اكبر وهو يتمتم من بين اسنانه بقسوة ساخرة ضربتها بالصميم
"لا لم يعجبني بتاتا فهو يناسب فتيات الليل وليس لامرأة متزوجة تهتم بسمعة بيتها ! لذا بدليه الآن قبل ان افقد صوابي وألغي موضوع الخروج بأكمله"
 
عضت على طرف شفتيها الورديتين بامتقاع وهي تحاول كتم شهقاتها الصغيرة بصدمة من الاتهام المجحف بحقها تجاوز جميع اهاناته السابقة لها بدون اي تفكير بقلبها المتقافز فرح والذي سحقه بقسوته الآن !
 
ابتلعت الغصة بداخلها لبرهة بدون ان تسمح لشيء آخر او تافه بتخلل فرحتها الآن ، لتهمس بعدها بوجوم حزين وهي تكلم نفسها بشرود
"فقط قل بأنك لا تريد اصطحابي معك للحفلة بدل كل هذا الشقاء بتعذيبي !"
 
تجهمت ملامحه بلحظة وهو ينحني بوجهه امامها قائلا بجمود خطير
"ماذا قلتِ الآن يا آنسة صفاء ؟"
 
رفعت وجهها بسرعة نحوه وهي تهمس بابتسامة مرتجفة بخفوت
"لقد كنت اقول بأني سأذهب لتبديل الثوب كما امرت"
 
حرك رأسه للخلف وهو يهمس بنفس جموده الصخري ناظرا بعيدا عنها
"جيد ، إذاً هيا اذهبي بسرعة فلم يبقى من وقتك سوى خمس دقائق"
 
اومأت برأسها بارتجاف وهي تستدير من فورها لتدخل للغرفة بلحظات وهي تغلق الباب من خلفها بصمت ، ليتنفس الآخر بغيظ عابس وهو لا يعلم ما لذي يفعله بالضبط بلعب هذه اللعبة السخيفة معها وهو يرى بأنه لو رفض منذ البداية اصطحابها معه لما وصل لكل هذا الآن ؟
 
وبعد دقائق معدودة كانت تخرج اخيرا من الغرفة للمرة الثانية....ولكن هذه المرة بفستان طويل يصل لكاحليها تقريبا بلون الاسود الحالك وهو يضيق عند خصرها بحزام فضي رفيع معقود بمنتصفه شكل فراشة صغيرة...وبأكمام قصيرة من الشيفون الاسود الرقيق وهو يظهر نحافة وبياض ذراعيها بوضوح....واما شعرها فقد كان ما يزال معقود بفوضوية فوق رأسها مظهرا عنقها البيضاء الطويلة من ياقة ثوبها الواسعة شبيهة بالنعامة...بدون اي زينة او حلي سوى عقد ذهبي رقيق جدا يطوق عنقها ليناسب بشرتها الشفافة ...
 
تقدم امامها عدة خطوات وهو ما يزال مستمر بتأمله البطيء لها والذي يوصلها دائما لحافة الانهيار بكل مرة وكأنه يستمتع بإشعالها مثل الفتيل المشتعل ؟ شهقت بدون صوت ما ان نزع عقدة شعرها بلمح البصر لينتشر شلال شعرها العسلي حول وجهها وعنقها واعلى ذراعيها مخفيا كل مفاتنها والتي قد تظهر من تحت قماش ثوبها الرقيق من الأعلى ، وما ان افاقت على نفسها وهي تتلمس خصلاتها التي وصلت لنهاية ذراعيها حتى همست بغمامة حائرة
"ولكن لماذا ؟....."
 
عاد للكلام الذي كان يتخلل خصلاتها الحريرية بكفه وكأنه يتأكد من نعومته وانتشاره من حولها مثل الستار قائلا ببرود
"هكذا افضل ، لنذهب الآن"
 
تغضن جبينها بتشوش لوهلة بدون ان تنطق بالمزيد من الاسئلة ما ان امسك بكفها بقوة وهو يتخلل اصابعها قبل ان يقبض عليها بلحظة بعثت الحرارة بأوصالها ولقلبها والذي عاد ليتراقص فرحا ، وكم ذكرتها بلحظة خروجها من منزل والدها بنفس إمساكه لها الآن ! ليسحبها بعدها بلحظات لخارج المنزل بدون اي كلام آخر لا فائدة منه وقد يفسد تلك اللحظات الفريدة والتي تتمنى ان لا تنتهي وتبقى معها للأبد .

نهاية الفصل........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن