الفصل التاسع والأربعون

160 6 0
                                    

شربت حبة الدواء وهي تتبعها بكأس الماء بجرعة واحدة ، لتكشر ملامحها بتغير طفيف ما ان علق مذاق الدواء بلسانها ببعض المرارة ، لتخفض بعدها الكأس وهي تعيدها مكانها هامسة بخفوت عابس
"لماذا لا يضعون بعض السكر بالأدوية ؟ هكذا سوف ينفرون الاطفال من الادوية ! هذا مزعج حقا"
تنهدت بتعب وهي تمسح على بطنها بكلتا يديها والتي بدأت تبرز بتدوير طفيف من تحت قماش ثوبها القطني بلون الثلج الابيض ، لتتشابك بعدها يديها بمنتصف بطنها وهي تهمس بملاحظة مستاءة
"لقد اصبحت اتناول الكثير من الوجبات بالآونة الاخيرة ! وخاصة الوجبات الخفيفة التي تتضمن السكر وذات السعرات الحرارية العالية ، وإذا استمريت هكذا حتى موعد ولادتي فسوف اتحول لدب باندا سمين لن يستطيع المرور من مخرج الباب !"
زفرت انفاسها بصوت عالي وهي تحدق بالسقف بملامح مكفهرة وكأنها اكبر همومها الحالية ، لتحتضن بعدها بطنها بين ذراعيها وهي تهمس بلوم وكأنها تكلم شخص امامها
"هل يعجبك هذا الوضع يا طفلي ؟ هل يعجبك ان تصبح والدتك دب باندا محشو بسبب وجودك الذي يجعلها جائعة على الدوام ؟ ماذا لو تركني والدك بعد ان يكتشف بأنه احب دبة شرهة محبة للطعام والحلوى ! هل سوف تستطيع تعويضي عن وجوده ؟"
زمت طرف ابتسامتها الرقيقة وهي تخفض نظرها هامسة بخفوت واثق تعطيه الضمان
"لن يفعلها بي ، لأنه مسجون بقضبان حبي والتي لن يفلت منها او ينجو ، فهو لا يملك سوى زوجة واحدة ولن يكون هناك غيرها ، وهذا الكلام قاله بنفسه لي ومع الضمان"
شردت بنظراتها لوهلة وهي تشاهد العالم بشكل مختلف وكأنها تهيم ببحر خيالها ، لترتجف اطرافها بخوف غريزي ما ان سمعت صوت الطرق المنتظم على باب غرفتها ، لتشبك بعدها يديها فوق ساقيها وهي تقول بصوت عالي
"ادخل يا مازن"
دخل شقيقها للغرفة والوحيد الذي يمر عليها ما عدا الخادمة التي تدخلها بغيابها بغرض التنظيف والترتيب ، ليقول بعدها بجدية وهو يتقدم عدة خطوات
"هل انتِ بخير ؟ لقد كانت معدتك تؤلمك بعد الانتهاء من تناول العشاء ، وشعرت بالقلق عليكِ ، هل كل اموركِ بخير ؟"
نظرت له باندهاش وهي تهمس بسرعة بابتسامة مرتبكة تصطنع المرح
"اجل لقد كان مجرد ألم طفيف وزال بعدها ، فيبدو بأنني قد اثقلت قليلا من تناول الطعام على العشاء حتى بدأت معدتي تؤلمني ، لذا لا داعي لكل هذا القلق فلم تكن بالأمر الجلل او الخطير !"
وقف (مازن) بالقرب من سريرها وهو يقول بابتسامة ممازحة
"يا لكِ من فتاة نهمة ، لم اكن اعلم بأنكِ تملكين كل هذه الشهية المفتوحة على الطعام حتى قضيتِ على المائدة بأكملها !"
اخفضت رأسها بإحراج وهي تتلاعب بأصابع يديها هامسة بخفوت رقيق
"هذا خطأي كان عليّ الانتباه على كمية الطعام التي اتناولها ، لقد اسرفت كثيرا بإهمال صحتي"
حدق بها بغموض وهو يقول بابتسامة جانبية بخبث
"بل بالأحرى عليكِ مراقبة نفسكِ اكثر ، فأنا قد بدأت ارى تغيرات واضحة بشكلكِ العام وكأنكِ تقاربين للسمنة !"
نظرت له بسرعة بحدقتيها العسليتين المشدوهتين وغاب عنها موضوع حملها الذي يأخذ جزء من وزنها وهي تقول باستنكار متذمر
"هل تقول عني بأني سمينة ؟"
حرك كتفيه باستخفاف وهو يقول بتبرير بارد وكأنه ينفي عنه التهمة
"لم اقل عنكِ بأنكِ سمينة بل قلت تقاربين ، انتِ من تلاعبتِ بالكلمات !"
لوحت بذراعها بعشوائية وهي تصرخ بحنق
"وما هو الفرق بينهما ؟"
ادار رأسه بملل وهو يقول بصراحة يحسد عليها
"الفرق بينهما واضح ولكنكِ من لا تريدين رؤيته"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تشيح بوجهها قائلة بانفعال محتقن
"انت اسوء ما رأت عيني ، وتستحق كره النساء لك ، فأنت لا تعلم كيفية التعامل معهن وما يسعدهن ويغضبهن ، وبأن اكثر الاشياء المحظورة عندهن ويسبب الحساسية لهن هو ان يلقبها احدهم بالسمينة او الكبيرة ! سمعت يا عدو المرأة !"
ارتفع حاجبيه بدهشة من طريقة تفكيرها الطفولية وكأنه ارتكب جريمة بحق المرأة ، لتشرد ملامحه بسطح باهت اصابت وتر معطل بحياته وهو يتمتم بوجوم
"لا تقلقي فليس كل النساء يملكن نفس عقلك الصغير ونظرتك الساذجة للأمور والتي تتحسس جراء مثل هذه المواقف السخيفة !"
ابتلع ريقه برهبة ما ان قابله صورة وجهها العابس بغضب توهج بوجنتيها باحتقان الدماء الحارة التي شكلت جمرتين ، ليرسم بعدها ابتسامة طفيفة وهو يقول بمزاح يحاول تغيير مزاجها
"انا امزح معكِ يا صفاء ، لذا هيا فكي تقطيب جبينك وعبوسك الغاضب وابتهجي ، وايضا انظري للجانب الإيجابي بالموضوع فقد اصبح وجهكِ اكثر إشراقا وبخدود محشوة بعد تلك التغيرات الشكلية"
غطت خديها الحمراوين بيديها وهي تهمس بعتاب حزين
"كان من الافضل لك ان تنفي حقيقة بأني سمينة ، لا ان تزيد من ترقيع غلطتك الأولى !"
تنفس بضيق وهو يدير وجهه بعيدا بعد ان ضاق ذرعا من مهمة ارضاء الطفلة ، لتخفض بعدها يديها وهي تضمهما بحجرها هامسة بخفوت حزين تعود لحوارها الاول
"هل جئت لغرفتي لأنك كنت قلق عليّ ؟"
نظر لها بصمت وهو يقول بهدوء واثق
"بالطبع جئت لهذا السبب ، وألا ما لذي سوف يجلبني لغرفتك بهذه الساعة ؟"
اومأت (صفاء) برأسها بابتسام وهي تهمس بعفوية
"لقد اسعدتني حقا ، لم اكن اعلم بأنك تخاف على صحتي هكذا ! لقد اصبحت شخص مختلف تماما عن الذي كنت اعرفه عنك !"
غامت ملامحه بسحابة قاتمة وهو يرفع عينيه للسقف فوقه قبل ان يقول بذكرى جلبت الخواء لقلبه
"انا فقط كنت اتذكر امي بكِ ، انتِ تعلمين بأن وفاة والدتنا كانت بعد ولادتك بسنتين ! لقد كانت دائما تعاني من امراض كثيرة تجعل صحتها تتراجع كلياً من اي وعكة تصيبها حتى لو كانت نتيجة نزلة برد ، وكل هذا بسبب هشاشة مناعتها وضعف جسدها الذي لا يقوى على مقاومة المرض ويتعب ما ان يدخل به اي نوع فيروس ، وعندما رأيتكِ بتلك الحالة تذكرت مرض امي الذي سبق وفاتها بأعراض ألم البطن والغثيان والتقيؤ والدوار ، وانا لا اريد حقا إعادة كل تلك المشاهد امامي مجددا فقد كانت تؤلم جدا لدرجة لا تحتمل !"
عضت على طرف شفتيها تكبت غصتها التي خنقت قلبها الحزين وهو يحادثها لأول مرة عن حياة والدتها المخفية عنها والتي لم يقدر لها رؤيتها ، لتهمس بعدها بابتسامة حالمة اضرمت الدموع بمقلتيها الصافيتين
"انا سعيدة جدا ، هذه اول مرة تكلمني عن جزء يخص حياة والدتي ! وسعيدة اكثر لأنك تشبهني بها دائما ، فهكذا استطيع رؤيتها وتخيل شكلها ومعرفتها من خلال النظر لي"
عاد بالنظر لها بهدوء وهو يقول بابتسامة مائلة بمغزى
"لا تتأملي كثيرا فهي اجمل منكِ بكثير"
انفرجت شفتيها بذهول قبل ان تتحول لضحكة رقيقة بمرح تحولت لها تلك الذكرى الحزينة ، وبلحظة كانت تسعل بقوة من بين ضحكاتها وهي تتنفس بصعوبة تفاقمت بحالتها ، ليصل لها (مازن) بلحظات وهو يمسك بكتفيها يهزها منهما قائلا بتوتر
"اهدئي يا صفاء وخذي نفسا عميقا ، تنفسي بهدوء وببطء...."
همست (صفاء) بخفوت متقطع وهي تشير بيدها ناحية المنضدة بجانبه
"اريد...ماء"
تركها بسرعة وهو يتجه للمنضدة ليسكب الماء بالكأس قبل ان يقدمها لها باللحظة التالية ، لتتناول منه الكأس وهي تقرب حافتها من شفتيها لتشرب منها على مهل بمهمة تهدئة سعالها ، وما ان انتهت حتى قدمت له الكأس فارغة وهي تهمس بخفوت متحشرج
"شكرا لك"
اخذ منها الكأس وهو يعيدها مكانها قائلا بتساؤل جاف
"ما لذي اصابكِ فجأة ؟"
زمت شفتيها وهي تهمس بخفوت طبيعي
"اعتقد بأنها حساسية الخريف ، فنحن بمقتبل فصل الخريف كما تعلم"
تغضن جبينه بتركيز وهو يشد انتباهه طرف شريحة دواء خارجة من شق الدرج ، ليفتح بعدها الدرج مباشرة وهو يصدم بكمية كبيرة من علب الادوية مبعثرة بداخل الدرج ، ليقول بعدها بذهول وهو يخرج من صدمة ما يراه
"ما هذه الادوية كلها ؟ هل تعانين من امراض لا اعلم عنها ؟....."
قاطعته التي شهقت بجزع وهي تخرج امامه بلمح البصر وتغلق الدرج بظهرها ، لتقول بعدها بخفوت مرتجف وهي تتعثر بكلماتها
"لا شيء....ليس هناك شيء ، مجرد ادوية للصحة العامة"
ارتفع حاجب واحد بحدة بعد ان زرعت الشك بقلبه وهو يشير بيده خلف ظهرها قائلا باستنكار
"هل هذه الادوية كلها من اجل الصحة العامة ؟ هل تسخرين مني يا صفاء ؟ ألا تعلمين بأن مستواكِ بالكذب مثل مستواي بالدراسة ! لذا قولي الحقيقة وبدون اي مراوغة"
حركت (صفاء) رأسها بالنفي وهي تقول بإصرار منفعل
"هذه هي الحقيقة وليس هناك شيء اخفيه عنك"
امسك خصره بيديه وهو يقول بتشدق ساخر
"ولماذا خفتِ هكذا عندما فتحت الدرج ورأيت ادويتك ؟"
ردت عليه من فورها بتذمر
"لقد تجسست على خصوصياتي بدون إذني ، ماذا تتوقع مني ان افعل حيال هذا ؟"
قطب جبينه بجمود وهو يقول بقسوة
"هل هذه حجتك ؟ يا لها من حجة سخيفة لا تقنع طفل بالروضة !"
زمت شفتيها بعبوس بدون ان تعلق على كلامه الاخير وهي تلتزم الصمت ، لتفاجئ بعدها بيده وهي تمتد بسرعة من فوق كتفها ليصل للعلبة من خلف ظهرها ، ليسحبها بعدها امام عينيها المشدوهتين وهي تهمس بخفوت مذعور
"ما لذي تفعله بعلبة دوائي ؟ اعدها لي حالاً"
ضيق حدقتيه العسليتين بحدة وهو يقرأ المعلومات المكتوبة على وجه العلبة ، ليلتقط بعدها كلمة واحدة ضربت الاعصاب بعقله دفعة واحدة (جنين) ، ليعود بالنظر لها بصدمة وهو يلوح بالعلبة قائلا باتهام لا يقبل الشك
"ماذا يعني جنين ؟ هل هذا دواء يخص الحوامل ؟ هل انتِ ؟....."
صمت بأدراك وهو يرفع حاجبيه ببطء ليقول بعدها بجدية يتذكر كل الحوادث المهمة التي غاب عنها
"كيف لم انتبه لذلك من قبل ! الشهية المفتوحة للطعام ، وتغيرات واضحة بشكلك الخارجي وزيادة بوزنك ، ونفورك من كل روائح البيض والسمك والفطر ، وانا الذي ظننت بأنها حالة طبيعية ونتاج عن تغير حياتك وعودتك من تجربة زواج فاشلة ليتبين بأنه موضوع اكبر بكثير مما تصورت !"
اتسعت حدقتيها النديتين بدهشة وهي تهمس بخفوت مضطرب بدون ادنى تفكير
"هل كنت تعرف حقا ؟"
نظر لها بهياج قلبت ملامحه وهو يقول باستهجان غاضب
"انتِ حامل بالفعل ! كيف حدث هذا ؟ كيف حدث وانتِ منفصلة عنه منذ اكثر من شهرين ؟ كيف يمكن ؟......."
توقف عن الكلام فجأة وهو يقبض على ذراعها بلمح البصر ليتابع كلامه بخفوت حاد يكاد ينقض عليها
"ممن انتِ حامل ؟"
رمشت بعينيها بألم اسقطت دمعة على وجنتها وقصفت بقلبها بقوة وهي تهمس بعبوس محتد مجروح
"كيف تسألني مثل هذا السؤال المذل لي والمنحط لكرامتي ؟ انا ما ازال امرأة متزوجة ! مَن الرجل الذي سأكون حامل منه برأيك ؟"
اطبق على اسنانه بصرير وهو يهزها بقوة قائلا بتهديد قاتل
"لا تراوغي بالإجابة يا صفاء ، فكل ما يحدث الآن غير منطقي ، هل انتِ حامل من ابن...ابن مصعب ؟ هل انتِ حامل بابنه ؟"
صمتت للحظات وهي تحدق ببركتي الدموع بعينيها قبل ان تمسح وجنتها بظاهر يدها وهي تهمس برضوخ
"بلى حامل بابنه"
افلتت يده ذراعها بهدوء ما ان صدمته بالإجابة قبل ان يتخلل بها شعره بصداع اجتاحه فجأة ، ليقول بعدها بتخبط وهو يحاول فهم ما يحدث
"حامل ! انتِ حامل ! متى حدث هذا ؟ كيف....."
قاطعته (صفاء) وهي تجيب على اسئلته بهدوء جاف
"انا كنت حامل منذ لحظة انفصالنا"
رمقها بطرف حدقتيه الدمويتين وهو ينزع يده عن شعره قائلا بخفوت مستهزئ
"وإلى متى كنتِ تنوين اخفاء هذا الحمل عنا ؟ عندما تلدين هنا بالغرفة وينسب الطفل للمجهول وبلا والد او عائلة !....."
قاطعته من فورها بقهر بعد ان خارت قواها
"مازن كفى !"
ادار وجهه بعيدا والصمت يلفهما معا بدائرة محصورة بينهما للحظات ، ليقطعه بعدها الذي قال بحزم جاد
"وماذا ستفعلين الآن ؟"
اخفضت نظرها بهدوء وهي تهمس بأمر واقع بعد ان اتخذت قرارها
"سوف اعود له"
نظر لها باستنكار وهو يلوح بذراعه بالهواء قائلا بهجوم ضاري
"تريدين العودة له ! بعد كل ما فعله بكِ ودفعك للخوض به طيلة فترة انتقامه ! تستسلمين بالنهاية وتعودين لعيش العذاب معه بقعر جحيمه ، تسلمين قلبكِ مجددا لروح الشيطان الذي اعمى الحقد والانتقام بصيرته حتى يستخدمك انتِ بحربه عليّ ! لماذا انتِ بلهاء هكذا ؟ لماذا تجعلين من نفسكِ طعم سهل المنال ولقمة سائغة بأفواه الجميع بهدف استغلال ضعفك وعاطفتك ؟!....."
قاطعته مجددا باندفاع اقوى وهي تقول بكل ما يعتمل قلبها بشجاعة كبيرة
"هذا ليس ذنبي او ذنب طفلي ! بل هو ذنبكم انتم بإشراكي بهذه المصيدة التي انساقت لها حياتي بكل طواعية ، انتم السبب بوضعه بطريق حياتي ليلاحقني بطفولتي ومراهقتي وشبابي حتى اصبح كل حاضري ومستقبلي ، انتم السبب بجعلي اقع بحبه وابني عالمي وخيالاتي من حوله ، انتم من وقعتم عقد حياتي وملكيتي له بكامل رضاكم ، أليست هذه هي الخطة منذ البداية ان اكون البديلة عنك بصفقة التضحية بي وانقاذ حياتك ؟ وهو كان عند بنود الصفقة وقبل شروطكم واخذني تعويض عن التي قتلتها ! لذا بأي حق تشتكون الآن او تعترضون على ما آلت له حياتي بسببكم ؟"
كان يحدق بها بألم اجادت غرزه بصدره بسكين الحقيقة القاتلة ، ليستدير بعدها بنصف جسده وهو يقول بتصلب من عزم امره
"لن اتكلم معكِ انتِ بهذا الخصوص ، بل هناك من له كل الحق والأولية بالكلام معه بهذه الامور ، لذا لا تفكري بشيء الآن واذهبي للنوم ، فكل شيء محلول عندي"
ارتفع حاجبيها بشحوب وهي تتابع بعينيها الدامعة مسار علبة الدواء التي ألقى بها فوق السرير ، ليغادر بعدها خارج الغرفة بدون ان يضيف كلام آخر بصمت خلفه من بعده ، لتمسك بعدها رأسها بكلتا يديها بدوار مفاجئ وهي تسند ثقلها على المنضدة خلفها وافكارها تموج وتذهب بنفس الدوامة وقلبها يهتف بهلع (يارب ابعد شقيقي عن المخاطر ، واحمي جواد من كل مكروه)
_____________________________
رفرفت بعينيها بحالمية للحظات وهي تفتحهما على اتساعهما بلونهما العسلي المخضر كلون اوراق الشجر بموسم الخريف ، لترتسم الابتسامة الزاهية على محياها وهي تستقبل شعاع الشمس من خلف زجاج الشرفة التي تطل على البحر مباشرة وكأنها تعيش بنعيم الجنة ، وهي تستطيع سماع هدير امواج البحر الذي يكون بهذا الوقت هادئا ناعما مع اصوات نسائم الرياح التي تحتك بسطح زجاج الشرفة وتأخذ الإذن بالدخول والتلصص ، وكأنها تعيش صباح خيالي فريد لم تحظى به بحياتها لا قبل الزواج ولا بعده ليكون شهر العسل تعويض عن كل سنوات الجفاء والوحدة والقهر التي عاشتها طويلا .
ادارت وجهها للجهة الاخرى وهي تقابل وجه النائم مقابلا لها يناظرها بعينين شغوفتين هادئتين مثل مركب يرسو على اليابسة ، لتتفاعل مع نظراته تلقائيا وهي تتلون بحمرة الخجل التي اصبحت تنتابها كثيرا وكأنها مراهقة تعيش قصة حبها ، فهذه ثاني ليلة تجمع بينهما وثالث يوم لهما بشهر عسلهما الخيالي منذ بدايته والذي عاشا به اجمل قصة حب ابتدأت من هذا المكان .
رفعت بعدها يدها وهي تضم اصابعها امام شفتيها هامسة بخفوت محرج ببحة آسرة
"صباح الخير"
ارتجفت بارتعاش خاطف ما ان لامس وجنتها بظهر اصابعه بنعومة قائلا بنفس خفوت صوتها بحنان
"صباح النور والصحة على قلبك الجميل يا اميرتي النائمة"
اخفضت نصف اهدابها بحياء تشرب ببشرتها الرقيقة وهو مستمر بحرقها بملمس اصابعه الطويلة على جانب وجهها ، ليعيد بعدها خصلاتها الملساء لخلف اذنها الصغيرة وهو يهمس بخفوت شارد
"هل اخذتِ كفايتك من النوم ؟"
حركت رأسها بإيماء شبه مرئي وهي تهمس بخفوت محرج
"يبدو بأنني قد اطلت كثيرا بالنوم ، فأنا عندما اغرق بالنوم لا اشعر بالمكان او الوقت"
امسك بقبضتها المضمومة امام شفتيها وهو يقربها منه ببطء ليقبلها بعمق ساخن اشعل قلبها ، ليتبعها بعدها بالهمس بخفوت متعاطف اجش
"لا بأس بذلك فقد استمتعت حقا بتأملك بنومك مثل عصفور صغير فوق العش ، وتعداد كل نفس يخرج منكِ يطمئن قلبي قبل قلبك ، فهذه الهواية قد اصبحت من المستحبات عندي"
زمت شفتيها بخجل اكبر سرعان ما تحول لعبوس ما ان تابع كلامه بخبث واضح
"الآن فقط صدقت كلامكِ عن عدم قدرتكِ على الاستيقاظ على صوت المنبه ، فأنتِ تنامين بعمق شديد لا يستطيع شيء إيقاظك مثل نوم الاموات !"
استلت قبضتها بسرعة وهي تضرب صدره بها هامسة بحنق متذمر
"هشام !"
امسك بقبضتها بسرعة وهو يعود لتقبيل مساماتها التي اذابت مفاصلها وفكت تصلب اصابعها ، ليفردها بعدها على جانب وجهه وهو يقول بخفوت هائم سحرها بدوامات عشقه
"اعتذر يا حبيبتي الصغيرة ، ولا تقلقي بشأن طول نومك فأنتِ مسموح لكِ بالنوم بقدر ما تريدين ما دمتِ بداخل احضاني وامام عيناي وقلبك ينبض بإسمي ، ولا اريد اكثر من هذا سوى إكمال ما تبقى من حياتي معكِ"
رفعت عينيها الواسعتين نحوه ببريق ذهبي كسى محياها قبل ان تعود لخفض رأسها بلحظة وهي تهمس بصوت ملحن خجول
"هلا توقفت قليلا عن هذا الكلام والغزل الفائق عن الحد ؟ فأنا لم اعتد بعد على كل هذه الكمية من المشاعر العاطفية !"
مالت ابتسامته بعطف وهو يحيط بخصرها الغض من فوق الملاءة يقربها منه قائلا بمرح متودد
"تخجلين يا غزل ! بعد آخر ليلتين بيننا ما تزالين تخجلين مني ؟ ام هي طريقة ذكية لكي توقعي زوجكِ بحبك اكثر !"
وضعت يدها الحرة على صدره تمنعه من تقليص المسافة بينهما هامسة بحياء مفرط
"وما لعيب إذا شعرت بالخجل ؟ فأنا فتاة انطوائية خجولة بكل الاحوال"
دسها بأحضانه بقوة وهو يدفن وجهها بحنايا صدره العريض قائلا بخفوت عاشق حد النخاع
"وما خلق الخجل والحياء ألا من اجل الغزل"
عضت على طرف ابتسامتها بتورد وهي تتنعم بدفء احضانه الوسيعة وكأنها تسبح بفضاء رحب ، لتهمس بعدها بفترة بامتنان لطيف
"شكرا لك"
غضن جبينه بضيق وهي تعود لاستخدام التشكرات الكلامية رد على جمائله معها ، ليقبل بعدها باطن كفها بحرارة وهو يهمس بنفس مستاء
"ما تزالين ترددين نفس العبارات الشفهية التي ليس لها اي قيمة ! انا اريد شيء فعلي واقعي يترك بصمة او اثر لدي ، مثلا قبلة صباحية تكافئ مجهودي بانتظار إفاقة الاميرة من سباتها...."
سحبت يدها من كفه بقوة وهي تدفعه من صدره هامسة بحنق
"وقح"
اوقف هياجها بقبلة ناعمة كبحت غضبها وجرفتها مع تيار المشاعر الهادرة وهو يعلم انوثتها البريئة كل ما يخفى عن عالم العشق والوله بأجواء حميمية آسرة ، ليبتعد عنها قليلا إنشات صغيرة وهو ينشر قبلاته على محياها المتورد هامسا بخفوت جامح
"احبكِ يا قلب هشام ، حب لا حدود او قوانين له ، لأنه حب غير مشروط"
بعدها بساعة كان يتركها وهو يفك اسرها اخيرا ويستلقي على ظهره قائلا بهدوء باسم
"لقد تأخر الوقت كثيرا حتى فوتنا علينا وجبة الفطور ، وإذا بقيت معكِ دقيقة اخرى فلن نخرج من هذه الغرفة حتى موعد انتهاء الرحلة ! لذا من الافضل لنا ان نتحرك بسرعة ونلحق اللحظات الباقية من رحلتنا"
نهض (هشام) عن السرير وهو يقف بعيدا عنه ونظراتها تلاحقه بتتبع صامت ، ليدور بعدها حول السرير وهو يقول بمرونة
"هذه المرة انا سأسبقكِ للحمام ، لن اتأخر عليكِ"
سمعت بعدها صوت اغلاق باب الحمام من خلفه قبل ان يسود الصمت بالمكان ، لتنقلب بعدها على جانبها وهي تأخذ غفوة قصيرة بشعور بالإرهاق بعد ان بذلت مجهودا كبيرا بهاذين اليومين الذين كانا الاروع بحياتها ، ولكنها بعد عدة دقائق كانت تشعر بضيق شديد يطبق على انفاسها التي تسارعت بوتيرة اعلى وهي تقبض بيدها على ملاءة السرير بقوة ، لتنهض بعدها بصعوبة وهي تجلس على الفراش لتنقض على درج المنضدة بجانب السرير وهي تفتش به تبعثر كل ما بداخله بقوة .
تخللت خصلاتها بأصابعها المتوترة وهي لا تجد دوائها بين اغراضها الذي على ما يبدو بأنها قد نسيته بالمنزل ، وهنا ستكون المصيبة بحد ذاتها بعد ان انقطعت عن تناوله مدة يومين وهذا هو اليوم الثالث ! لترتمي بعدها بظهرها على السرير ببطء وهي ما تزال تأخذ انفاسها الذاهبة بتعاقب ويدها الصغيرة تمسك مكان قلبها الذي يخفق بتباطء يكاد ينتهي تماما...وهي تنظر للسقف فوقها بتشوش الدموع الزجاجية تشاهد من خلالها الرحلة التي شارفت على الانتهاء...
___________________________
خرج من مكتبه وهو يغلق الباب من خلفه بالمفتاح قبل ان يدسه بجيب بنطاله ويسير خارج المكان ، وما ان اصبح بالرواق الواسع حتى اوقفه الصوت الرجولي الآمر
"توقف مكانك جواد مصعب"
كست ملامحه طبقة جليد قاسية وهو يلتفت بنصف وجهه قائلا ببهوت
"ماذا تريد ؟"
تقدم بخطوات ثابتة من خلفه قبل ان يقف بالقرب منه وهو يقول بهدوء جاف
"هل تعلم بأمر حمل صفاء ؟"
ارتفع حاجبيه ببطء جامد وهو يستدير نحوه على عقبيه قبل ان يقول بابتسامة جانبية بسخرية
"وإذا كنت اعلم ، فماذا ستفعل ؟"
تجهمت ملامحه بقتامة وهو يشيح بوجهه متمتما بغضب
"سحقا لها !"
أطال بالتحديق به ملياً للحظات قبل ان يعقب قائلا باستهزاء
"يبدو من كلامك بأنك لم تكن تعلم بحملها مسبقا ، وكشفت الامر حديثا بالمصادفة ، وجئت لهذا المكان لتتأكد من حقيقة ما سمعته من الشخص الذي من المفترض بأنه لا يعلم بحملها ، ولكنها خانت توقعاتك وتبين بأنها قد كشفت السر امامي وليس امام احد آخر ! أليس كذلك يا شقيق زوجتي ؟"
تجمدت ملامحه وهو ينظر له بصدمة لحظية قبل ان يقول من بين اسنانه باستياء
"سحقا لذكاء المحامي ! تمتلك عقل لا يستهان به"
حرك (جواد) كتفيه باستخفاف وهو يتابع كلامه بجفاء قاسي
"يبدو بأنها ليس لديها الثقة الكافية بعائلتها لتخبرهم بأمر حملها الذي مر عليه اكثر من شهرين ، فكما يبدو بأنها قد فقدت الثقة والامان بين وسط عائلتها التي قدمتها كبش فداء لحماية ابن العائلة ، وهذا الامر لا تلام عليه قطعاً فقد باتت مجرد ضحية بين عائلتها المنافقة....."
قاطعه (مازن) بغضب انفجر دفعة واحدة
"توقف عن إهانة عائلتي يا ابن مصعب ، فقد تجاوزت الحد بكلماتك ولن اسمح لك بالتمادي معي اكثر ! وليس لأنك انقذتني بتلك المرة التي هاجمني بها رجال عمك عليّ ان ابقى مدينا لك طول العمر واتصرف معك بتهذيب ، فأنا بالنسبة لي عندما يصل الامر لكرامتي وعائلتي لن اقف ساكنا بمكاني وسوف اخرج لك الجانب الوحشي بداخلي !"
تجول بعينيه من حوله بطريقة ساخرة وهو يقول بابتسامة حادة بمغزى
"هذا اقل شيء تستطيع فعله من اجلي بعد الديون التي تراكمت عليك ! ومقابل كل الامور التي سامحتك عليها وغفرتها لك ، فأنت لا تعلم كم كان مقدار شوقي برؤيتك خلف قضبان السجن تتعذب وتذوق الويل بعدد السنوات التي تعذبت بها ! ولكنني قد تنازلت عن كل هذه الرغبات وتخليت عنها بسبيل العيش بسلام وسعادة ، لذا وجودك بهذا الكون وحريتك ما هي ألا رحمة مني لك ، لذا إياك ان تتجاوز قوانين حريتك التي قدمتها لك بكرم شديد ، تذكر هذا جيدا يا شقيق زوجتي !"
قطب جبينه بجمود وهو يطبق على اسنانه بحدة ليلوح بعدها بذراعه جانبا وهو يصرخ باستهجان
"توقف عن قول الهراء ! وقل ما لذي تنوي على فعله بعد ؟ انت بت تعلم بحمل صفاء وقبل الجميع ، ومع ذلك لم تفعل شيء حيال هذا الامر ! وكأن الموضوع لا يخصك بتاتا ، لماذا ما تزال تتلاعب بالفتاة هكذا ؟ إلى متى ستستخدمها وسيلة بالانتقام مني ومن نفسك ؟ إلى متى ستستمر بمعاملتها كلعبة بين يديك ؟ ألم تكتفي من كل ما حدث معها ؟"
ادار عينيه بعيدا بملل وهو يقول ببرود صخري
"لا تحلل كل شيء من عندك ، وتحكم على الموقف بمنطق تفكيرك الساذج ! فأنا لم اعلم بالحمل سوى من بضعة ايام ، فقد اجادت اخفاء الامر بمهارة بعيدا عن الجميع ! والفضل بمعرفتي بأمر الحمل يعود لصاحب الخبر الكاذب الذي نشر عن نيتي بالزواج ليصل لها ويقلبها ضدي ولم يكن يعلم بأنه سار لصالحي"
عقد حاجبيه بتجمد وهو يفهم ما يلمح إليه واتهامه هو بإيصال ذاك الخبر الكاذب لها ، فهو قد سمع بالفعل ذاك الخبر من سكان منطقته ولكنه اضاف احداث من عنده لكي يوصله لها بتلك الصورة وتنهي علاقتها الوهمية به ، ليتلبس بعدها ملامح البؤس وهو يتمتم بضيق
"تلك الحمقاء ، لقد افسدت كل شيء !"
قال (جواد) بحزم جاد وهو ينظر له بقوة يواجهه بكل هجوم
"ليكن بعلمكم بأنني لن اتنازل عن حقي بالطفل ووالدته ، فهما الاثنين ملكية خاصة تعود لي ، وانا لن اتنازل عنهما مهما حدث وتحت اي ظرف كان ، ومن يحاول فعل اي شيء بسرقة حقوقي مني واقصائي بعيدا عنهما فسيلقى حسابا عسيرا !"
مالت ابتسامته بقسوة وهو يقول بتعجب ساخر
"يا لك من متكبر متعالي ! تتكلم وكأنك تملك اشياء تستطيع رميها واسترجاعها بالوقت الذي تشاء ! وايضا لقد انتهت مهلة زواجكما حسب البنود المتفق عليها ، هل تريد تجديد الاشتراك شهر آخر ؟ هل تسعى لكتابة وثيقة جديدة تكمل بها انتقامك الغير منتهي ؟ ما لذي تريده منها بالضبط ؟"
سكنت ملامحه ببرود وهو يقول بابتسامة واثقة بدون ان يعبأ بكلامه الاخير
"لن يحدث شيء من هذا فأنا اخطط ان اجدد زواجنا بميثاق وبنود تستمر معنا لمدى الحياة ، وستكون بداية جديدة لعلاقتنا كعائلة متكاملة سوية وسعيدة ، وايضا سوف اكون على وعدي معها واحقق لها كل امنياتها التي حلمت بها بحفل زفاف كبير وحضور جماهير وحشود يشهدون على اكتمال علاقتنا الناقصة"
عقد حاجبيه بحدة وهو يقول من فوره باستنكار متجهم
"كيف تريدني ان اوافق على هذه العلاقة التي بنيت على انتقام وحقد دمرت آمال شقيقتي بالحياة واعادتها لنا جثة بلا روح ؟ هل تطلب مني ان اعيد رمي شقيقتي للتهلكة لتتحمل ذنوبي بالحياة ؟ فكر بها جيدا لو ان غنوة ما تزال على قيد الحياة ومرت بكل ما مرت به صفاء ، وجئت انا لكي اصلح خطأي معها واطلب يدها للزواج من جديد ، هل ستوافق حينها على طلبي ؟"
اسودت ملامحه بسحب ضبابية وكأنه يتخيل الموقف واقع امامه وحدث بالفعل ، ليتنفس بعدها بدخان قاتم خرج من حريق قلبه وهو يوجه نظره بعيدا قائلا بخفوت حاد
"بالطبع سوف ارفض طلبك واطردك خارج حياتها ! ولكن إذا كان الامر يتعلق بقلبها واختارت الحياة التي تريدها فلن اتدخل بها وسأعطيها حرية اختيارها حتى لو كرهته نفسي ، فسعادتها عندي هي اهم شيء بالحياة"
تغضنت زوايا حدقتيه العسليتين بعذاب وهو يقارن بين الموقفين ويرى حجم الفروقات بينهما ، والآن فقط يعترف كم كان حقيرا معها عندما طمس شخصيتها وقلبها واعطى نفسه القيادة عنها ! وهذا ما يفعله الآن ايضا عندما يقرر مصيرها عنها ويبعدها عن مصدر سعادتها المتمثلة بهذا الشخص .
صوب نظره نحوه مباشرة وهو يقول بشبه ابتسامة باردة لا تظهر المشاعر خلفها
"انا لن اوافق عليك حتى تثبت لي حقا بأنك تستحق استرداد شقيقتي وطفلها بصدق ، وهذا سيحدث بالطبع عندما تطرق حياتها من بابنا الامامي وليس من النوافذ ، وسأنتظر منك هذا بفارغ الصبر يا ابن مصعب ، لذا حظا موفقا"
ارتفعت زاوية ابتسامته بالتواء وهو يهمس بجمود 
"هل تحاول اختباري ؟"
اومأ برأسه بتأكيد وهو يقول بابتسامة جانبية
"هذا ضمان من اجل الحفاظ على حياة شقيقتي الوحيدة ، فهذه امانة والدتي ولا اريد التفريط بها"
صمت (جواد) عن الكلام وهو يراقب الذي تحرك من امامه وهو يمر من جانبه ليهمس بعدها بهدوء واثق
"بالتوفيق يا صهري"
اكمل طريقه بعدها خارج المكان بعد كلماته الاخيرة ، بينما الواقف بمكانه كان يشرد بالفراغ امامه وهو يردف بابتسامة متحدية
"سنرى هذا يا شقيق زوجتي !"
_______________________________
كان يشاهد بها خلف واجهة الغرفة الزجاجية بالمشفى القريب من الفندق الذي يقطنان به والذي استقروا به ثلاث ايام من شهر عسلهم الثاني ، بينما كان الجسد بداخل الغرفة يتلقى الاوكسجين عبر الانابيب المتصلة بقناع التنفس يبعث الحياة بداخلها وينظم ضخ الدماء بقلبها والذي توقف عن العمل لدقائق ، وهو الذي لم يغب عنها سوى دقائق بالحمام ليعود ويجدها نصف غائبة عن الوعي وهي تحاول جاهدة استعادة تنظيم تنفسها الراحل ، ليأخذ الامر بعدها دقائق خاطفة سرقها الهلع الذي انتابه والخوف من خسارة اهم انسانة اصبحت بالنسبة له كل شيء بحياته ، ليصل بالنهاية لهذا المشفى والذي عانى صعوبة بمعرفة اتجاهه ببلاد الغرب وهو يتوه بالطرق والمسارات ، وما ان وصل حتى انطلق بها بمدخل المشفى بدون ان يعبأ بترك باب السيارة مفتوحة وهو يدخل بها جريا جسد هامد الروح يطلب النجدة بالموجودين بالمكان ، لينقلوها بعدها بالسرير المتحرك ويدخلوها لقسم الامراض القلبية والتي تركها هناك امانة بين ايديهم .
زفر انفاس طويلة مجهدة وهو ما يزال على نفس الحال يراقب كل شيء يحدث بتلك الغرفة القميئة التي تقبع بها عصفورة قلبه كما اطلق عليها ، وبالرغم من اتساع المكان الفسيح وكثرة الممرضين والمرضى بالمكان كان يشعر بانطباق شديد بصدره وخواء من حوله وكأنه يعيش ببعد آخر منعزل عن البشرية ، وليس هناك احد بالمكان سواه هو وجسدها الغائب عن الوعي وجهاز قياس نبضات القلب الذي يعلو صوته فوق اي صوت .
ابعد يديه عن الزجاج البارد ما ان جذب انتباهه الصوت القريب منه ، ليمسح بعدها عينيه الحمراوين بإبهامه بقوة قبل ان يلتفت نحوها وهو يقول بلغة انجليزية مجهدة 
"كيف حالة المريضة الآن ؟"
ابتسمت له المرأة الشقراء وهي تقول بخفوت لبق
"لا تقلق على صحة زوجتك ، فهي قد تعدت مرحلة الخطر واصبحت على خير ما يرام ، وعندما ينتهي نقل الاوكسجين الكافي لها يمكنك عندها رؤيتها"
اومأ برأسه بابتسامة صغيرة وهو يتمتم بخفوت متعب
"الحمد لله ، الشكر لك يا الله"
نظر لها بقوة وهو يقول باتزان بعد ان استعاد رباطة جأشه
"ما سبب تدهور حالتها هكذا ؟ فهي لم تفعل شيء مجهد قد يوصلها لمثل هذا الوضع ! أليس هناك سبب منطقي لما حدث لها ؟"
امسكت الطبيبة بذقنها بتفكير وهي تقول بهدوء عملي
"بحالة مرضها كل شيء جائز الحدوث معها ، ولكن المرجح بأنها قد اهملت مواعيد ادويتها التي تحافظ على تنفس رئتيها ونبضات قلبها وحرارة جسدها ، وهذا وارد الحدوث كثيرا ولكن من الافضل عدم الانقطاع عنه مدة طويلة قد تؤدي لعواقب غير محمودة ، وهناك ايضا الإرهاق البدني الذي تعرضت له بالآونة الاخيرة اجهدت جسدها وقلبها اكثر من الطاقة الاستيعابية عندها ، وهذه الاسباب التي استنتجتها من حالتها التي وصلت بها للمشفى ، وغير هذا من تطورات او مضاعفات من الافضل التكلم مع طبيبتها الخاصة ومراجعتها بهذا الخصوص فهي الادرى بحالتها الكلية"
كان نظره شارد بدائرة فارغة وهو يحاول ان يستجمع طاقته باستيعاب كلمات الطبيبة التي لم تهدم بها معنويته وحسب بل هدمت بها كل ثقته وقوته بالحياة وكأنه رجل ضعيف وقليل الحيلة ، فماذا يلقب الرجل الذي يغفل عن زوجته ويحملها فوق طاقتها الاستيعابية ؟ وهو يزعم بأنه قد اصبح يحافظ عليها اكثر من روحه بدون ان يصيبها مكروه او اذى بعد تلك الحادثة الاخيرة ! حتى غفل عن اهم شيئين تدور حياتها من حولهما ادويتها وصحتها والذين كانا السبب بدخولها للمشفى جثة نصف حية .
حانت منه التفاتة نحو الواجهة الزجاجية التي تظهر من خلفها المريضة القابعة بالسرير الابيض ، ليقول بعدها بتغضن طفيف بحاجبيه بصعوبة وكأنه يخرج الكلام قسرا
"ولكنها تمر بحالات إجهاد اكبر من هذا ولم تصل بها للنقل للمشفى واخذها للتنفس الاصطناعي ، تعرضت ذات مرة للإغماء بأول ليلة زفاف لنا وعادت بعدها للإفاقة ، لماذا تدهورت صحتها هذه المرة ما ان فوتت الدواء يومين فقط ؟"
كان يصرح بكل شيء مخبئ بقلبه بدون اي حواجز او حدود وخاصة بأن الطبيبة من سكان الغرب الذين لا يكترثون لآداب او حياء ، لتقول بعدها الواقفة امامه بهدوء طبيعي وكأنها تشرح حالة مرت عليها كثيرا
"الامر لا يتعلق بطريقة حدوث الإجهاد او الإغماء ، بل يتعلق بقوة المريضة التي تمتلك جسد ضعيف جدا ومناعة شبه معدومة ، فأحيانا قلبها لا يتحمل الضغط الكبير الملقى عليه فتصل للإغماء فقط ، واحيانا اخرى قلبها يتوقف عن العمل تماما بضغط آخر يصل بها للتوقف عن التنفس والحياة ، واعتقد بأنها كلما تقدم بها العمر اكثر تزداد صعوبة وخطورة ضخ الدماء بقلبها لرئتيها ويزداد الحِمل والضغط عليه ، وافضل علاج لها اما زراعة قلب جديد او زراعة رئة ، وهذا الخيار متروك لكم النقاش به مع طبيبتها ، واتمنى السلامة لزوجتك"
اومأ (هشام) برأسه بدون اي حياة بعد ان جردته من قلبه بكلمات اقتنصت روحه برصاصات قاتلة ، وهذا لا يعني سوى شيء واحد وهو بأن حياة المعاناة والعذاب قائمة وسوف تستمر معها للأبد او لنهاية حياتها .
اخفض رأسه بسرعة يمحي صورتها القابعة بزاوية بقلبه المظلم وهو يتمتم بخواء
"فقط سؤال هل تستطيع السفر بالطائرة ؟ فنحن مجرد سائحين بهذه البلد ، ورحلة عودتنا هذه الليلة"
اومأت برأسها بابتسامة ودودة وهي تقول ببشاشة 
"اجل لا مشكلة بذلك ، ولكن الافضل ان تبقى مرتاحة حتى موعد الرحلة ولا تتعرض لأي نوع من التعب ، وعندما تصل الطائرة للبلد العائدين لها الافضل مراجعتها عند الطبيبة الخاصة بها والكشف العام عنها للتأكد من اي تطورات بحالة قلبها ، وكما اخبرتك سابقا هذا الامر سيبقى ملازم لها مدة طويلة ما لم تحل مشكلتها سريعا ، وكلما اسرعتم بالتصرف يكون افضل لها بعمرها الحالي"
اغمض عينيه بشدة لبرهة قبل ان يفتحهما ببطء قائلا باقتضاب
"شكرا لكِ على جهودك ، لقد ساعدتنا كثيرا"
ردت عليه ببسمة لطيفة
"هذا من دواعي سروري يا سيدي ، واتمنى لكما رحلة آمنة"
غادرت بعدها الطبيبة من امامه وهو يتابع عودتها لغرفة المريضة التي ما تزال تتلقى العلاج ، ليوجه بعدها نظره للزجاج الفاصل بينهما يسمح له بمراقبة المريضة عن بعد بدون ملامستها وتعذيبه بصمت ، ليعود لاسترجاع كلام الطبيبة الذي يعلن عن موت قلبه بعد ان عاد ليحيى من جديد على يديها ، وهو الذي قطع وعد على نفسه بالحفاظ على حياتها وإبعادها عن كل المخاطر التي قد تهدد حياتها بعد حادثة إغمائها القاسية التي كان السبب الأول بها ، وها هو يعيد الكرة ويهدد حياتها بدون ان يعي ذلك او يحذر وبمدى خطورة مرضها وكل ما كان يسعى له حينها هو كسب ثقتها وحبها على حساب صحة قلبها ، لينكث وعده بالنهاية حتى اوشك على خسارتها للأبد .
اسند قبضته على الزجاج البارد وهو يتلمس بأصابعه صورتها الوهمية قائلا بندم يكاد يفتت نياط قلبه
"اعتذر يا حبيبتي ، اعتذر على إيذائك مجددا"
تنفس بقوة وهو يعيد ضبط زمام الامور ما ان قاطعه صوت هاتفه بجيب بنطاله يخترق هالة الصمت من حوله ، ليأخذ بعدها برهة من الوقت قبل ان يبعد قبضته عن الزجاج وهو يخرج هاتفه بلحظة ، وما ان عرف هوية المتصل والذي عاود الاتصال به بعد ان فعلها عدة مرات حتى اجاب من فوره وهو يقول بتصلب جاد
"مرحبا ايتها الطبيبة ، اريد استشارتك بشيء مهم يخص حالة غزل ، لذا هلا استمعتِ لكلامي لدقيقة ؟"
_______________________________
بعدها بساعة كان يدخل للغرفة البيضاء الواسعة التي تفوح منها روائح الكلور وبخور التنظيف ويحتل جزء من مساحتها السرير الابيض الذي تستلقي عليه المريضة وهي تدثر تحت غطائه ناصع البياض ، ليتقدم نحوها لا إراديا بدون ان يشعر بنظراته التي بدأت تلاحق تفاصيل ملامحها وعينيها وابتسامتها وشرودها وصمتها ، حتى استطاع جذب نظرها نحوه ما ان توقف بقرب السرير وهو يتجمد امام عينيها الجميلتين مثل واحتين تشرق الشمس فوقهما وكأنها نهاية رحلة طويلة الأمد ، ليتنفس بعدها بنفس طويل وهو يهمس بابتسامة امتدت بشقاء
"كيف حالكِ الآن يا حبيبتي ؟ هل تشعرين بأنكِ بخير ؟"
اومأت برأسها ببطء شديد وهي تهمس بابتسامة لطيفة خرج بصوتها المنغم مثل انشودة الحياة
"انا بخير ، لقد اصبحت بخير بفضلك ، شكرا لك"
تنفس الصعداء وهو يبرد القليل من نيران قلبه عليها التي اشتعلت منذ ساعات بدون ان تنطفئ ، ليريح يده على طرف السرير وهو يميل نحوها هامسا بخفوت مرتخي براحة
"الحمد لله"
قطعت (غزل) الصمت بعدها وهي تهمس بخفوت حزين بذنب
"اعتذر على كل ما حدث ، لابد بأني قد افسدت علينا صباحنا الخيالي بتعبي المفاجئ ، فلو اني حرصت اكثر على احضار الدواء معي بين اغراضي الخاصة بالسفر لما حدث كل هذا معنا ، وبسبب إهمالي حدثت كل هذه الكوارث معنا وعطلت علينا رحلة شهر عسلنا"
سحب يده من جانبها وهو يستقيم بلحظة قائلا بصوت صخري اجوف
"لستِ المذنبة الوحيدة فأنا ايضا مذنب عندما لم اعطيكِ الوقت المناسب للاستعداد للرحلة وعجلتك بها بدون ان اراعي حالتك الصحية ، وليس هذا وحسب بل نسيت ايضا اهمية شربك للدواء بمواعيد منتظمة وعدم تحميلك فوق طاقتك الطبيعية ، بالرغم من انني وعدت طبيبتك مسبقا ان احرص على تناولك الدواء والذي كان الشرط بذهابك للرحلة والتي كانت مغامرة كبيرة بكِ ! وقد نقضت ذاك الوعد ولم اكن حِمل هذه المسؤولية حتى كدت اجازف بحياتك بدون ان اعي ذلك !"
حركت رأسها بالنفي بسرعة وهي تهمس بوهن حزين 
"كلا غير صحيح انا الملامة الوحيدة بكل هذا ، فأنا التي اهملت صحتي ، انا التي اهملت الدواء الذي كان من المفترض ان احرص على وضعه بين اغراضي ، انا التي تجاهلت إرشادات واوامر طبيبتي ، وايضا انا التي صبرت على نفسي يومين بدون ان انتبه لنفسي حتى اذيت صحتي......"
قاطعها (هشام) بقوة وهو ينظر لها بغضب تفجر من كبت ساعات الخوف التي عاشها
"كفي عن لوم نفسكِ يا غزل ، فأنتِ لستِ ملامة بقدر ما انا ملام اكثر منكِ ! فأنا الذي اقترح هذه الرحلة المفاجئة ، وانا الذي اخذ إذن الطبيبة باصطحابك بهذه الرحلة ، وانا الذي جازف بأخذكِ لآخر العالم ، وانا الذي اهملتكِ وارهقتك بهذه الرحلة بطريق كسب ثقتك وحبك وبصنع اوقات ممتعة لكِ ، لقد كانت هذه الرحلة خطأي الأول !"
ساد الصمت بينهما بدوامات عاصفة قبل ان يشعر بكفها الصغيرة تصافح يده الباردة وتشبك اصابعها بتسلل ناعم ، وما ان التفت نحوها بصدمة حتى قابلته بابتسامة وردية تطوف على محياها وهي تهمس بسعادة غامرة
"لا تقل هذا الكلام مجددا فقد كانت اجمل رحلة اخوضها بكل سنوات حياتي ! وانا سعيدة جدا بأني حظيت بفرصة خوض مثل هذه المغامرة ، بخلاف الفاصل القصير الذي حدث لي وغيابي عن الوعي فقد استمتعت جدا بهذه الرحلة ، فقد علمتني بأنه ليس هناك شيء يستحق الوقوف عليه وبأن سعادتك تستطيع صنعها بنفسك ، شكرا لك على منحي هذا الدرس يا استاذي الأول ورجلي المثالي"
لانت ملامحه بحنان ترافقها ابتسامة رقيقة على شفتيه وهو يشدد على يدها الصغيرة قائلا برفق
"على الرحب والسعة يا قلب هشام ، جميعنا نعمل على ارضاء الاميرة بطريق زرع الابتسامة على وجهها"
ضحكت بمرح مبحوح وما تسمح لها طاقة صحتها ، ليجلس بعدها على طرف السرير وهو يرفع يدها ويقبل ظاهرها بعمق يبصمها بعلامته قبل ان يهمس بخفوت ممتن
"يسعدني بأنكِ سعيدة معي"
تهللت اساريرها بسعادة وهي تمسك بياقة قميصها الواسعة هامسة بعتاب رقيق 
"كنت سعيدة قبل ان اكتشف بأنك قد ألبستني ملابسك قبل ان تأخذني للمشفى ، هل تعلم مقدار الإحراج الذي شعرت به عندما رأيت هذه الثياب عليّ ؟ كيف تفعل هذا الموقف معي ؟"
مالت ابتسامته بحرارة وهو يتمعن بشكل القميص الابيض الواسع طويل الاكمام ومخربط الازرار ومفتوح الياقة تكاد تنزلق عن صدرها الصغير ، ليعود بعدها بنظره لوجهها الوردي الجميل وهو يقول بمزاح طريف
"لم يكن لدي الوقت الكافي لأختار لكِ الملابس المناسبة ، وقد كانت هذه الملابس بيدي بذلك الوقت والذي قضيته اتخبط بينكِ وبين مهمة ستر جسدك وانتِ تأنين وتتنفسين مثل عصفور صغير يحتضر ، من الجيد بأنه كان لدي عقل يعمل بذلك الوقت العصيب !"
اخفضت عينيها بحياء وهي تتأمل كفها الصغيرة بداخل يده الكبيرة تكاد لا ترى قبل ان تهمس بتودد
"يبدو بأنك قد مررت بوقت عصيب بسببي"
عصر يدها بقوة اكبر وهو يقول بشرود مرير
"لقد كانت اسوء عشر دقائق تمر عليّ بحياتي !"
نظرت له بسرعة وهي على وشك الكلام لولا الذي سبقها بالانحناء نحوها ويده تستقر بجانب رأسها ليطبع قبلته على جبينها وهو يهمس بخفوت قوي
"لكنها لا تقارن بعودة قلبك للحياة من جديد"
اسدلت جفنيها بخجل وهي تستقبل قبلته التالية التي هبطت على شفتيها بحنان عذب وكأنها الهواء الذي شح من رئتيها ، وما ان ابتعد عنها سنتمترات حتى قبل خدها بنعومة وهو يهمس بخفوت متهدج
"عديني بأنكِ لن تخيفيني عليكِ مجددا"
ردت عليه من فورها بخفوت عفوي  
"اعدك"
تغضن جبينها بضيق ما ان شعرت بابتعاده عنها واخذ الانجماد بالوصول لأطرافها وقلبها ، لتفتح بعدها عينيها وهي تتأمل سكون ملامحه قائلا بجدية
"خذي قسط من الراحة الآن ، فأنتِ تحتاجين إليه بعد ذلك الوقت العصيب"
شددت على يده بقوة وهي تقول بتذمر عابس
"ولكني اشعر بأني بخير الآن ، ولا احتاج البقاء هنا اكثر ، لذا هل نستطيع الذهاب وإكمال رحلتنا قبل انتهاء اليوم الاخير لنا ؟"
سحب يده عنها ببطء وهو يقول بحزم آمر
"لن نخرج من هنا يا غزل ، بل سنمكث بالمشفى طول الساعات القادمة حتى يحين موعد إقلاع طائرتنا ، فأنتِ تحتاجين لشحن مخزون طاقتك من اجل رحلة العودة"
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تقول باستنكار محتد
"لماذا هذا القرار المفاجئ الآن ؟ انا بخير ولا احتاج ان ارتاح اكثر ، ويمكنني ان ارتاح بعد عودتنا من الرحلة ، لذا هل يمكننا إكمال رحلتنا السياحية بالوقت المتبقي لنا ؟ فأنا لم ازر جميع الجزر هنا......"
قاطعها بصرامة اكبر بدون ان يستمع لها 
"كفى إلحاح بهذا الامر يا غزل ، فهذا القرار مفروغ منه ، وصحتك وطاقتك هي كل ما علينا التفكير به حالياً وتقديمه على كل الاشياء الاخرى !"
زمت شفتيها بتبرم وهي تدير جسدها على جانبها الآخر هامسة بقهر 
"يا لها من خسارة ! لقد اضعت عليّ فرصة العمر"
تنهد بهدوء وهو يشاهد رأسها المستدير بعيدا عنه توليه ظهرها بتعمد ، ليمسح بعدها على شعرها القصير المنسدل على الوسادة وهو يقول بعطف
"يكفي لهو ولعب على حساب حياتك ، لقد حان الوقت لتعطي نفسكِ راحة وتعطي زوجك المثل"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يبعد يده قائلا بجدية يغير دفة الحديث
"اسمعي يا غزل ، هل كانت تنتابك هذه الحالة كثيرا عندما تفوتين موعد الدواء اكثر من يومين ؟"
صمتت ثواني حتى ظن بأنها لم تسمعه قبل ان يخرج له صوتها الجشي بنعاس
"احيانا كان يحدث معي غياب للوعي عندما انسى تناول الدواء ليومين ، ولكنها لا تصل لانقطاع بالنفس او انخفاض بنبضات القلب ، والواضح بأنني قد تحمست كثيرا بهذه الرحلة لدرجة لم يتحمل قلبي كل هذا الاعصار !"
كست ملامحه سحب داكنة ما ان انقطع صوتها وتبدل بهدير انفاسها المنتظمة التي تدل على دخولها برحلة النوم ، ليضم بعدها قبضتيه امام جبينه وهو يريح مرفقيه فوق ركبتيه وتفكيره منحصر بكلامها الذي يوضح معنى كلام الطبيبة الشقراء والتي لم تخطئ بتفسيرها ، وبأن هذا الموضوع لا يجوز المخاطرة به اكثر !
______________________________
كان يقود السيارة بهدوء وهو يتجاوز السيارات الاخرى بسرعة معتدلة ، والشرود يغيم على عالمه بأسوار عالية تشن حرب داخلية بوسطه منذ ايام والمنطق يقع بزاوية بعيدة مهملة ، ولا يعلم لماذا لا يتصرف حيال هذا الوضع المقيت ويضع حدا له يريح ضميره وقلبه بآن واحد ؟ ولكن كما يبدو بأنه لا نهاية لكل هذه الحروب المتوالية والتي يعيد الخوض بها بكل يوم وكأنه يضع راحته بكفه وقلوب من يحب بكفه الاخرى بمعادلة غير منصفة ! فأما ان يعيش بهناء ويقتل ضميره للأبد واما ان يستغني عن حياته بسبيل حماية قلوبهم .
اتسعت حدقتيه السوداوين وهو يلمح آخر مخلوق توقع وجوده بهذا المكان تحديدا وهو يكاد يجزم بأنه بات يرى شبح المرأة التي تتحكم بمقاليد قلبه وتغامر بحياتهما وحبهما بطريق اهدافها ، فماذا يستطيع ان يصنف البشري العادي تصرفات تلك المجنونة ؟ سوى بملاك مكسور خرج عن نطاق السيطرة !
لم يشعر بالسيارة وهي تتوقف على جانب الطريق ألا عندما سمع صوت اصطدام طفيف بحافة الرصيف ، ليركز نظره امامه وهو يوقف المحرك بلحظة قبل ان يحرر انفاسه من صدره بتضخم محمل بكل اعباء العالم ، وما هي ألا لحظات حتى كان يخلع حزام الامان بسرعة وهو يخرج من السيارة بنفس السرعة ليغلق الباب من خلفه بقوة .
تحرك من فوره ناحية البناية التي تقف امامها الفتاة التي كاد يجزم بأنها شبح قبل ان يتضح بأنها واقع امامه توشك على شن هجوم دموي ، وما ان وصل لها حتى امسك بذراعها وسرق نظرها وهو يسحبها معه بعيدا عن المكان ويتجاوز بها كل المارة بالطريق ، لتنتفض بعدها التي دبت بها الحياة وهي تستل ذراعها بقوة وتتشبث بقدميها بالأرض قائلة بخفوت مغتاظ 
"ما لذي تفعله هنا ؟ وماذا تريد مني ؟ هل تتعمد ترصد تحركاتي ؟"
استغفر ربه بهدوء وهو يحاول تمالك اعصابه قبل ان يستدير نحوها بملامح منحوتة من جليد وهو يقول بتصلب
"اسألي نفسكِ هذا السؤال ، فأنا كنت اتسائل ما لذي تفعله زوجتي امام بناء وزارة الثقافة ؟ ما لعمل الذي تنوين فعله هناك ؟"
كتفت ذراعيها فوق صدرها بإيباء وهي تهمس بتحدي مستفز
"ليس من شأنك"
ردّ عليها من فوره بتهديد صارم
"ماسة لا تختبري اعصابي اكثر !"
حدقت به بأحداق زرقاء مظلمة وهي تقول بجموح تتحداه الند بالند
"لن اجيبك قبل ان تخبرني كيف عرفت بمكاني ؟ هل تترصدني ام هذه مجرد مصادفة ؟"
ادار عينيه بعيدا ببرود وهو يقول بعدم اهتمام يعطيها مرادها 
"لم اكن اترصد لكِ بل كانت مصادفة مشؤومة ! فأنا اتيت لهذا المكان من اجل قضاء مصلحة ، انتِ التي ما لذي تفعلينه هنا ؟"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تحرك كتفيها باستهانة هامسة بنبرة ساخرة
"وانا ايضا مثلك اتيت لقضاء مصلحة"
قال (شادي) بسرعة وهو يضرب قبضته على جانبه
"ماسة !"
ادارت وجهها نحوه وهي تنفض ذراعيها على جانبيها قائلة بضراوة متقدة
"ماسة ! ماسة ! ماذا بها ماسة ؟ انا مجروحة مغتالة ! مسروقة الحقوق ! نازفة القلب ! لماذا لا تفهم ما امر به ؟ لماذا لا تساندني بما افعل ؟ لماذا لا تقف بصفي ولو لمرة واحدة ؟"
احتدت ملامحه بقسوة وهو يقول بانفعال مكبوت
"وهل انحلال مشاكلك يكمن بهذا المكان ؟ هل تعلمين حتى إلى ما تسعين له بهذا التهور ؟"
ارتسمت ابتسامة متحفزة على ملامحها وهي تلوح بذراعها باتجاه المكان الذي تركوه خلفهم قائلة بخفوت شرس
"ذاك المكان هو الحل الوحيد الذي املكه ، فأنا سأفعل ما لا تقدر انت على فعله بسبب نبل اخلاقك الشريفة ، انا سأتحدث مع وزير الثقافة بنفسي واطلب منه مباشرة ان يوقف جموح ابنته الفاجرة التي لا تملك اي ادب او حياء وهي تحاول سرقة رجل متزوج من زوجته بنشر اخبار كاذبة من تأليفها ، فإذا لم يستطع زوجي الموقر إيقافها ووضع الحدود لها ! فسيتصرف من يملك السلطة الاكبر عليها ويتأكد من إعادة تربية ابنته التي لا تملك اي ذرة حياء او شرف حتى تسرقك مني بكل مرة تسنح لها ، وانا لن اصمت لها بعد الآن ، لن اصمت حتى استرد حقي من كل شخص ظلمني واقتنص من حقوقي بهذه الحياة !"
زفر انفاسه بكبت وهو يمسد جبينه بطرف اصابعه قائلا بصبر
"هل تعلمين عواقب هذا الجنون ؟ انتِ لا تجازفين بحياتك فقط بل بحياتي ايضا ! هل تدركين مدى خطورة ما تنوين عليه ؟"
ارتفع حاجب واحد بسخرية وهي تهمس بخفوت بارد
"ماذا بك ؟ هل انت خائف ؟"
رمقها بطرف عينيه بجمود وهو يتمتم بضيق
"توقفي عن هذا العبث يا ماسة ! فأنا لا امزح"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بملل وهي تهمس بابتسامة جانبية بتكسر 
"لقد عرفت السبب الآن ، يبدو بأنك لا تريد تخييب ظن والد حبيبتك بك ! ولهذا قد اتيت اليوم من اجل التحدث مع والد حبيبتك والنقاش معه بأمور حفلتكم القادمة وهراء الطبقات الاجتماعية الراقية !"
عقد حاجبيه بجمود وهو يقول بنبرة جليدية قاسية 
"هل تسمعين نفسكِ ما تقولينه حتى ؟"
زمت شفتيها بعبوس وهي تلوح بأصبعها السبابة نحوه هامسة بشرارة الكراهية  
"لست اخاف او اهاب من احد ، لذا لا تتوقع مني الوقوف خلف الكواليس ومشاهدة العرض خلف الستار والتصفيق لكما بنهاية المشهد ! فقد اتيت اليوم لشن هجوم حربي ، وهذه الحرب لن تهدأ او تخمد حتى يخرج منها خاسر وفائز ، فقد اصبحت بالنسبة لي ليست مسألة كرامة فقط بل مسألة حياة او موت !"
ارتسمت ابتسامة ساخرة على محياه وهو يمسك بأصبعها بقبضته قائلا باستخفاف
"وهل تعتقدين بأنكِ ستربحين شيء من هذا الهجوم ؟ صدقي او لا ستكونين انتِ الخاسرة بكل الاحوال !"
اخفضت اصبعها بقوة وهي تقول بغضب مهدد 
"لن تحبطني بهذا الكلام ، ولن اتوقف حتى احصل على غايتي من هذه الحرب ، لذا لا تحاول ان تراهن على هذا التحدي لكي لا تخسر كرامتك وقلبك"
قبض على ذراعيها بقسوة وهو يهزها منهما قائلا بانفعال هادر يحاول ان يقحم الكلام برأسها الصلب
"تعقلي يا ماسة ! تعقلي ! فهذه ليست لعبة تحدي خسارة او فوز ، بل هذه مراهنة على حياتك التي قد تضيع بين موجات جنونك ، عليكِ ان تعلمي بأن هؤلاء الناس الذين تريدين شن الهجوم عليهم ليسوا اناس عاديين وليسوا من عامة الشعب مثلنا ! لذا اوقفي جنونكِ عند حده وعودي لرشدك ، لكي لا نخسر كلينا امور اكبر من الكرامة"
نفضت ذراعيها بعيدا عنه بعنف وهي تلوح بذراعها بالهواء قائلة بضراوة اكبر  
"اخبرتك بأني لست خائفة من احد ، وسوف اري كل انسان بهذا العالم مدى حجمه ومدى بشاعته امام حقيقته ، والمراكز والطبقات بهذا المجتمع البالي لا تهمني بشيء ، وحتى قوانينهم التي وضعوها على المخلوقات حسب مستواها واصلها لا تبين سوى رجعية وتخلف عقول الناس بهذا العالم والذي يكون به البشر جميعهم سواسية ! لذا سأعطيك آخر فرصة املكها لديك لتكون اما بصفي تحارب معي بنفس الهدف وتكشف الحقيقة امام العالم ، واما تنسحب وتكون ضدي كما تفعل الآن ، لذا اختر بأي صف تريد ان تكون ؟"
عصفت ملامحه بغضب وهو يكبل ذراعها ويقربها منه قائلا باستهجان يبين الحقيقة بأقسى الاساليب 
"لن افعل شيء مجنون كهذا ! هل تعلمين السبب ؟ لأنه لدي ضمير حي يفكر بمصالح الآخرين وحياتهم على حساب اهدافه ، ولا يغامر بحياته متجاهل كل من حوله فقط لكي يثبت مدى جدارته امام العالم ويحقق الفوز على نفسه ، فهناك امور اهم بكثير وتستحق التضحية من اجلها بعيدا عن مشاعر الانتقام والحقد وسلب الحق بطرق غير مشروعة تظهر المظلوم ظالم وتفسد ما تبقى من سمات حسنة بحياته"
اتسعت حدقتيها البحريتين بصمت مغدور وهو يفلتها بقسوة ويستدير بنصف جسده بعيدا عنها ، لتبتلع بعدها ريقها بجمود صخري وهي تستجمع شتات قوتها وذخيرتها المختزلة ، لتدير وجهها للجانب الآخر وهي تهمس بتعبير قاسي بخواء
"إذاً تقول بأنني اغامر بحياتي بدون التفكير بمن حولي لكي افوز على نفسي ! ولا اقدم تضحيات من اجل من احبهم ! هل هذا ما قصدته عني ؟"
تجمد جانب وجهه ببهوت وهو يقول بخفوت قاتم بدون ان يتبين نواياها من السؤال
"اجل انتِ كذلك ، فهذه نفسكِ الحقيقية والتي لن تتغير مهما حدث"
حركت رأسها ببرود بدون ان تظهر الألم الغائر بقلبها وهي تدس خصلاتها خلف اذنها بهدوء لتهمس بعدها بخفوت غامض
"حسنا انا سوف اظهر لك الآن عكس نظريتك ، وبأنني شخص يقدم التضحيات من اجل من يحبهم"
ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يلتفت بوجهه بسرعة قبل ان يفاجئ باختفائها ، ليدور بنظره بتشتت لبرهة قبل ان يراها تقف بمنتصف الشارع بوجه السيارات القادمة على الطريق وكأنها تتحدى الموت مقبلة وتستقبله بروح قوية بل مجنونة ، ليصرخ بعدها بهياج وهو يراقب السيارة التي بدأت تظهر من بعيد تنساق نحوها
"ابتعدي عن الطريق يا ماسة ، ابتعدي قبل ان تدهسك السيارة يا مجنونة ! هل تريدين الانتحار بهذه الطريقة ؟"
عندما لم تصغي له وكأنه يكلم تمثال اصم فقد سمات الحياة والعقلانية والسيارة تقترب منها على الطريق المستقيم ، حتى اختفى صوت محرك السيارة والحياة من حولها ما ان جاء ظل امامها يخفيها ويحميها من ذاك الخطر الذي كاد يهدد حياتها ، وهو السند الوحيد الذي افتقدته منذ براعم طفولتها وسنوات مراهقتها حرمت منه قسرا وعاشت اليتم قهرا بدون الشعور بأهمية وجوده والالتماس بحمايته التي احتاجت لها بشدة ضد العدوان والترهيب والذي عاشت تحته لسنوات طوال .
تنفست (ماسة) برجفة سكنت خفقات قلبها ما ان صرخ بجرس الإنذار
"توقف"
سمعت بعدها صوت زامور السيارة العالي يرافقها انزلاقها على الطريق المستوي حتى وصلت لهما على بعد خطوتين وهي تتوقف بأعجوبة بدون اي اصابات او حوادث ، ولم تتمالك نفسها بعد تلك اللحظة وهي تسقط جالسة على الارض فقدت اتزان ثباتها وهوت ساقطة بضعف بمنتصف حربها التي هزمت بها شر هزيمة ، وما ان عاد صوت محرك السيارات للتحرك بطبيعية حتى شعرت بيد تنتشلها من هوتها وهو يرفعها من ذراعها برفق .
سار بها خارج الشارع المزدحم بالسيارات والشهود على حادثهما وهو يقف بها على الرصيف ، ليوقفها بعدها امامه وهي ساكنة بين ذراعيه قبل ان يصرخ بها بثورة بعد ان قادته للجنون
"هل جننتِ ؟ هل جننتِ تماما ؟ ألم يبقى ذرة عقل برأسكِ ؟ ماذا يعني ان تقفي بمنتصف الشارع امام السيارات وكأن جنون العالم قد ركبك ؟ ماذا سوف تجنين عندما تقتلين نفسكِ ؟ تقتلين روح ! ألم يكفكِ تعذيب وقتل نفسكِ ! إلى متى ستبقين تقتلين بها ؟ وما ذنب روحك بجنونك وبأمراضك النفسية ؟......"
قاطعته بصراخ عصبي وهي تضربه بصدره بكلتا قبضتيها تفضي بكل اوجاع قلبها وروحها به
"توقف عن محاكمتي ! توقف عن لومي ! توقف عن قتلي وذبحي ! لا تخون قلبي اكثر ، لا تجرعه الخيانة والذل والقهر ، ألم يكفني كل ما عشته سابقا حتى تأتي انت وتتبجح بحبك وبعدها تخونني ؟ اين ذهب كل ذلك الحب الذي كنت تتغنى به ؟ لماذا عليّ ان اعيش الخذلان والقهر سنوات ؟ انا اكره ان اعيش بالأمل وبالحلم وبالسعادة ! اكرهها لأنني اعرف مسبقا بأنها كذبة ستزول مع مرور الوقت ! لماذا يا الله ؟ لماذا عليّ ان اذوق نفس العذاب بكل مرة ؟"
خارت قواها بالنهاية وهي تسند كفيها وجبينها على صدره بلهاث متعب بعد ان افضت بكل ما كان يكدرها ويؤلمها كل هذه الفترة ، بينما اخذ الآخر مهمة مسح موضع ألمها وهو يحاوط جسدها وقلبها بذراعيه يحميها من نفسها ومن عيون الحشود والمارة من حولهما ، ليسمع بعدها صوتها الخافت البعيد بين طيات صدره وهي تهمس بتحشرج
"لا تخون قلبا احبك يوما"
زفر انفاسه بصدر مطبق بتحشرج بكائها الذي يمزق نياط القلب وتحشرج الهموم التي يحملها منذ شهور هدمت جبال رجولته وقهرتها ، فماذا يعني ان تقهر الفتاة التي يحب الرجل ؟ وهذا هو المعنى للكلام الشائع بأن الفتاة هي التي تصنع رجولة الرجل وهي التي تهزمها بذات الوقت !
______________________________
خرج من باب الشركة وهو يتجه لمكان اصطفاف سيارته بالمرآب ، ليقف بعدها امام باب سيارته وهو يفتح بابها بهدوء ، قبل ان يتجمد بلحظة ما ان لمح سيارة من زملاء الشركة تقترب من مكان وقوفه بثبات حتى اصبحت بمحاذاته ، ليخرج بعدها صاحب السيارة رأسه من النافذة وهو يقول بابتسامة عريضة
"يبدو بأنك قد استرددت سيارتك اخيرا ! هل انتهى الحجز عليها ؟"
اومأ برأسه بابتسامة حرفية وهو يقول بعملية
"اجل لقد اخذتها البارحة من الحجز فقد انفك عنها اخيرا"
ارتفع حاجبيه بتفكير وهو يتأمل السيارة بتمعن قبل ان يعود بالنظر له قائلا بابتسامة غامضة
"حقا ! هذا خبر جيد فلم يستغرق الامر وقتا طويلا كما يحدث عادةً ! يبدو بأن مناصبكم العالية ساعدتك بهذا المأزق ، ومبروك على عودة العروس لصاحبها"
كسى ملامحه قناع البرود الجليدي وهو يقول بنبرة رسمية جادة
"شكرا على اهتمامك ، والحمد الله على انحلال هذه القصة"
اومأ برأسه وهو يعود لتحريك السيارة بطريقه ليلوح بذراعه من النافذة المفتوحة قائلا بصخب
"بالتوفيق يا ابن المحظوظة"
ادار عينيه بعيدا عنه بضيق وهو يدخل للسيارة متمتما بسخرية
"اين هو هذا الحظ ؟!"
تحرك بالسيارة وهو يقود بها خارج المرآب وتفكيره يتمحور بوجهته التالية وهي محكمة العاصمة التي سينهي بها قضية طالت مدة طويلة ، وما ان شرد بضباب افكاره السوداوية حتى قاطعه صوت هاتفه وهو يمزق شريط عقله برنين عالي ، ليخرجه بعدها من جيبه بلحظة وهو يجيب عليه تلقائيا قائلا بنبرة باردة محفوظة
"مرحبا ، بماذا استطيع مساعدتك ؟"
اجاب الصوت على الطرف الآخر بهدوء رسمي
"مرحبا ، هل هذا رقم زوج المدام روميساء الفاروق ؟"
عقد حاجبيه بارتياب وهو يقول بهدوء جاد يحافظ على اتزان صوته
"نعم انا هو ، تفضلي بالكلام"
صمتت للحظتين قبل ان تقول بشك تتأكد   
"هل انت السيد احمد الفكهاني ؟"
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يرد ببديهية
"نعم انا احمد الفكهاني يا سيدتي ، من يتكلم معي لو تكرمتِ ؟"
ردت عليه من فورها بلباقة تعرف عن نفسها بعد ان تأكدت من هوية المتكلم 
"انا الطبيبة فتون الخاصة بحالة زوجتك ومتابعتها الشخصية منذ حادثة إجهاض جنينها ، وقد اتصلت بك للتكلم معها بسبب عدم إجابتها على مكالماتي ، لذا لو سمحت ان تعطيها الهاتف إذا كانت بالقرب منك لتكلمني بأمر ضروري !"
ارتفع حاجبيه بتفكير لوهلة قبل ان يقول بوجوم مستاء 
"اجل تذكرتك يا طبيبة فتون ، ولكن للأسف زوجتي ليست معي الآن لتتكلمي معها ، لذا بما ان الامر ضروري ومستعجل يمكنكِ اخباري بالمشكلة وانا سوف اوصل لها كلامك"
توترت انفاسها وهي تقول بتردد مرتبك
"حسنا ولكن اعتقد بأن الامر خاص بها وحدها ، فأنتما على وشك الانفصال ، وليس من الصحة......"
قاطعها (احمد) بصوت صلب بدون ان يخرج من دائرة اللباقة
"سيدة فتون حتى لو كنتِ طبيبة ليس لكِ الحق بالتدخل بالمسائل الشخصية بمرضاكِ والحكم على تفاصيل حياتهم ، لذا سأسألكِ مجددا وانتِ سوف تجيبين بكل طواعية ماذا يحدث مع زوجتي ؟ وماذا تريدين منها ؟ وإذا لم تجيبِ اعرف جيدا كيف احصل على الحقيقة......"
قاطعته بسرعة وهي تقول بخفوت مرتبك
"كلا لا يوجد داعي لكل هذا ، انا سأخبرك بكل شيء اعرفه عن زوجتك ، الموضوع بأنني قد اتصلت بروميساء لأخبرها بالموعد الجديد للعملية الجراحية والتي نقلت لليوم وهذا بسبب نتائج الفحوصات التي تدل على خطورة واضحة بحياتها إذا لم تجري العملية بأقرب وقت......"
توقفت عن الكلام ما ان سمعت صوت توقف السيارة على جانب الطريق بعنف وهو يقول بصدمة متأخرة
"ماذا ؟"
تنفست الطبيبة بوجوم وهي تقول بخفوت بائس
"يبدو بأنك لا تعرف شيء عن القصة كما توقعت ! انا اعتذر حقا على افشاء السر"
قال (احمد) من فوره وهو يشدد على كلماته باضطراب
"قولي شيئاً استطيع فهمه ! هل روميساء تحتاج لعملية جراحية ؟ ومن اجل ماذا ؟ ما لذي تعانيه ولا اعرف عنه ؟"
تنهدت الطبيبة بهدوء وهي تردف بنبرة مهنية
"روميساء تعاني من التهاب الزائدة وتحتاج عملية جراحية عاجلة لاستئصالها ، وقد اخبرتها بهذا منذ ايام وبضرورة إجراء العملية سريعا من اجل احتواء الاضرار التي ستنتج عنها بحال التأخير ، ولكنها عاندت واصرت على تأجيل إجراء العملية واختارت موعدا بعيدا ، وعندما راجعت الفحوصات مجددا اكتشفت بأن هناك مشاكل اخرى تعانيها وتأخير العملية اكثر لن يكون لصالحنا ، لذا قررت تقريب الموعد المحدد وتحويله اليوم وقد جهزت كل الإجراءات اللازمة لذلك ، ولكن العائق الوحيد الآن هو كيفية الوصول لها وهي لا تجيب على اي من اتصالاتي او رسائلي !"
تلبدت ملامحه الصلبة بمشاعر خمدت تحت سطح رماد باهت شكل غيوم تحوم من حوله ، ليزفر انفاسه برواتب العواصف وهو يقول بكل ما يستطيع من انضباط راجح
"متى حدث كل هذا ؟ متى اجريتِ الفحوصات لها واكتشفتِ هذه الاعراض بها ؟"
ردت عليه بلحظة تتابع الكلام بعملية  
"منذ ما يقارب الاربع ايام ، لقد كان بمنتصف الاسبوع الماضي ، وقد جاءتني تعاني من اعراض متقدمة من التهاب الزائدة ، وبعد إجراء الفحوصات الكلية لها تبين بأنها مصابة بالفعل بمشاكل بالزائدة الدودية ليس من الصحة تركها لكي لا تشكل تهديد على حياتها"
ابتلع ريقه بجمود وهو يشدد بيده الحرة على مقود السيارة تمتص شحناته العالية ليقول بعدها بجدية
"وما هو الموعد الذي حددته لإجراء العملية ؟ ولماذا انتظرتِ عليها كل هذا الوقت بما ان وضعها صعب وخطير ؟"
اضطربت ملامحها وهي تقول بسرعة بتبرير سريع
"لقد طلبت منها إجراء العملية بعد يومين من اكتشاف المرض ، ولكنها عارضت بشدة واختارت اقصى موعد لإجراء العملية والذي يكون يوم غد بسبب امور تشغلها ، ولم تقبل بأي نصائح او إرشادات واصرت على ان يكون الاسبوع القادم ، ولم اجد حلا سوى الانصياع وتنفيذ طلبها"
رفع عينيه بإدراك وهو يعلم جيدا الآن سبب تأخير عمليتها كل هذا الوقت فقد كانت تخطط مسبقا لجعلها بعد جلسة الطلاق بالمحكمة ، لقد فعلت كل شيء من رأسها ونفذت بملء إرادتها بدون الرجوع لأحد ! ليفلت بعدها المقود ببطء قبل ان يمسح بأصابعه على جبينه بقسوة وهو يهمس بنقمة
"تلك الحمقاء ! سحقا لها"
افاق على صوت الطبيبة وهي تهمس بتوجس
"هل قلت شيئاً يا سيدي ؟"
اخفض يده بسرعة وهو يقول بصوت اجوف قاسي
"لقد كنتِ تقولين بأنكِ قد اكتشفتِ مشاكل اخرى تعاني منها دفعتك لتقريب موعد العملية ، ماذا يوجد غيرها ايضا ؟"
ساد الصمت من طرفها للحظات قبل ان تقول بهدوء شديد بغرابة
"لست متأكدة تماما من الفحوصات ، ولكن هناك علامات بازدياد مستوى الهرمون بمكان الرحم ، ولن استطيع التيقن قبل اجراء فحص اكيد لها"
تغضن جبينه بتركيز وهو يتمتم بعدم استيعاب  
"ماذا يعني هذا ؟"
ردت عليه مباشرة بدون ادنى تردد
"هناك احتمال من وجود حمل"
اتسعت عيناه بذهول غزى كامل ملامحه وكأنه يتلقى قنبلة موقوتة بقيت مدفونة منذ شهور عديدة بين الألغام ، وهو يشعر بالكذبة الصغيرة التي ألفها ليستقطب زوجته له ويرغمها على الخضوع تحولت لحقيقة امامه حتى لو كانت وهمية وغير مؤكدة ! فماذا لو حدث وكانت حامل بالفعل بين كل هذه الفوضى والعثرات انقشع ضباب اليأس من حوله ؟
اعاده صوتها من جديد وهي تقول بقلق
"سيد احمد ! هل انت معي ؟ هل حدث معك شيء ؟"
تنحنح بتحشرج وهو يعتدل بجلوسه قائلا بجدية يحزم امره
"لا كل شيء بخير يا طبيبة فتون ، ولا تقلقي بشأننا انا سوف احل هذه المشكلة من عندي ، انتِ جهزي فقط إعداداتك وغرفة العمليات وانا سأحضر لكِ برفقة زوجتي بغضون دقائق"
ردت عليه الطبيبة بخفوت منصاع
"حاضر يا سيد احمد ، سأكون بانتظاركما ، رافقتك السلامة"
فصل الخط وهو يتنفس نفس طويل معبأ بكل شقاء الحب والخوف من الخسارة وكأنه يقبع على حافة بركان ثائر ، ليشغل بعدها محرك السيارة بلحظة وهو يتمتم بكبت مشتعل بنيران اضرمتها بمهارة 
"ماذا تفعلين بنفسكِ يا روميساء ؟ ماذا افعل بكِ يا همي وأرقي الوحيد ؟"
_______________________________
ضمت يديها بحجرها بصمت خاوي وهي تتنفس بإجهاد تتلاحق عليها الآلام المعنوية والبدنية بالتتابع حتى بدأت تظهر آثارها على حركات اصابعها وتعرق ملامحها الشاحبة ، بينما المكان الذي تجلس به يعج بكل انواع الضوضاء التي تجلبها قاعات المحاكم وضربات مطرقة العدل على طاولة القضاة واصوات مختلفة متداخلة تأتي من كل صوب ، لتشدد بأصابعها النحيلة على اكمام قميصها الزيتي الداكن تحاول تركيز نظرها واعصابها العقلية بما تفعله يديها عله يلهيها عن الحشود التي تثور بداخلها .
عصرت جفنيها فوق احداقها بقوة وهي تضغط على اسنانها بشدة هامسة من بينهما بخفوت متضرع
"تحملي بضعة دقائق ، بقي القليل وننتهي ، فقط القليل من العذاب وينتهي كل شيء ، وينتهي ، وينتهي ، وينتهي....."
تسربت دمعة من تحت رموشها حفرت بملامحها البيضاء وهي تهمس مع كل نفس يتخبط بصدرها بأسى حزين
"انجدني من الألم يا الله ، انجدني من الابتلاء والسقم يا الله ، انجدني من هذه اللحظة ياربي"
استمرت تصارع وتكدح مع نفسها الضعيفة حتى اخرجها من دوامتها الصوت الرجولي القوي وهو ينادي باسمها بلهاث ملهوف 
"روميساء !"
فتحت مقلتيها الخضراوين المشبعتين بالدموع وهي ترفع وجهها بهدوء وتقابل الواقف امامها وصاحب الصوت الملهوف ، لتنجذب بعدها لحركة صدره وصوت انفاسه المتعاقبة والسبب الذي جعلها تسمع اسمها بلهاث وكأنه كان يجري طول الطريق بالوصول إلى هنا ، اخذت بعدها انفاسها بحذر تملئ رئتيها وصدرها بالهواء وهي تهمس بخفوت متحشرج 
"احمد"
توقفت انفاسه عن التسارع واخرجت زفير مرتاح نتيجة الرحلة الطويلة التي خاضها بالوصول لها وكأنها النهاية التي تاق لها ، ليتبعها بعدها ببسمة طفيفة لا تعادل المشاعر التي اندلعت بداخله تساوي العام الحافل بينهما ، حتى تبدلت وتيرة خفقاتها بلحظة وهو يعلقها بنظراته وببسمته وبكل شيء بات يلتف حول مداره وحده ولا سلطان على القلب .
ابعدت ناظريها بسرعة وهي تمسح عينيها بساعدها تعيد تنظيم قاعدة معلوماتها الرئيسية ، لتخفض بعدها ساعدها وهي تقول بهدوء جاد تمثل القوة
"من الجيد بأنك قد حضرت ، لقد اتيت بالوقت المناسب تماما ، فقد بقي على البدء بجلستنا الاخيرة بضعة دقائق وينتهي كل شيء"
تنهد (احمد) بجمود وهي تعيدهما للوضع الذي بات يمقته ليخفض بعدها نظره وهو يقول باتزان
"اسمعي يا روميساء ، هناك ما علينا الحديث عنه......"
قاطعته من فورها وهي تتجنب النظر له قائلة بانفعال مكتوم
"قلة الكلام والحديث هو افضل ما علينا فعله بالوضع الراهن ، لذا رجاءً هلا التزمت جانبك حتى بداية جلستنا ؟"
شدد على قبضتيه بتصلب وهو ينظر لها بقوة قائلا بجفاء بدون الاستجابة لكلامها
"ما اريد التكلم عنه مهم جدا ، واهم من جلستك القضائية ، ومن الضروري ان تسمعي الآن....."
نظرت له بسرعة وهي تقول باحتجاج
"قلت لك لا اريد الحديث معك ، لا اريد سماعك ، لا اريد مبادلتك الكلام ، لا اريد مبادلتك المشاعر ، لا اريد سوى انتهاء هذه الجلسة بسرعة وبأقصر وقت !"
كان يراقبها بجمود وهي تبادله النظر بحدة مشاعرها التي هاجت على سطح حدقتيها الخضراوين بقسوة ، ليرسم بعدها ابتسامة ساخرة على محياه وهو يتمتم بمرح مزيف
"هل انتِ تواقة جدا للطلاق مني ؟"
ارتجفت ملامحها بشحوب حتى سحبت الحياة من عينيها العشبيتين وهي تخفض رأسها بهدوء بدون ردّ ، وما ان طال بالتحديق بها لحظات حتى قال بجدية يتقمص البرود
"لقد اتصلت بي طبيبتك الخاصة فتون"
رفعت حدقتيها الواسعتين بصدمة وهي تهمس بخفوت مضطرب تلاعب بنبضات قلبها 
"ولماذا قد تتصل بك ؟"
حرك كتفيه ببرود وهو يقول ببساطة
"لقد حاولت الاتصال بكِ كثيرا ، ولكنكِ لم تجيبِ على اي من اتصالاتها ، لذا لجئت لي بالنهاية للوصول لكِ والتكلم معكِ بموضوع مهم يخصك"
توترت ملامحها وهي تضم يديها معا هامسة بخفوت عصيب واحشائها بدأت تؤلمها
"وما لذي كانت تريده مني ؟ عن ماذا كانت تريد الحديث ؟"
ضيق حدقتيه الرماديتين بتغضن وهو يقترب منها خطوتين قبل ان يقول بهدوء جاف
"لقد تم تقريب موعد عمليتك الجراحية لتكون اليوم بدل الغد ، بسبب الاضرار الوخيمة التي ستنتج عنها إذا تم إهمالها وتأخيرها اكثر ، هل تفهمين مقدار المخاطرة التي تهددين بها حياتك ؟"
اشاحت بوجهها جانبا وهي تهمس بخفوت ناقم
"إذاً لقد وشت عني بالنهاية !"
تجمدت خطوط ملامحه بقسوة وهو يشد فكه قائلا بجمود صارم
"يا لسخرية الوضع الذي نعيشه ! لا اصدق بأنكِ تفعلين مثل هذا التصرف الاخرق بحياتك ! لقد كنت اظن بأنكِ امرأة راشدة واستاذة متعلمة ، ولكن ان يخرج منكِ مثل هذه التصرفات التي تدل على انعدام المسؤولية والمنطق بحياتك فهذا ما لم اتوقعه منكِ ! ما لذي يحدث معكِ بالضبط ؟ هل تريدين الانتقام مني على حساب حياتك ؟....."
قالت (روميساء) بسرعة بدفاع شرس
"توقف بمكانك ، فأنا لا اسمح لك بإلصاق عيوبك وطبيعة تفكيرك بي !"
شدد على اسنانه وهو يفهم بأنها تلمح لذاك اليوم الذي اوقف به سيارته بمنتصف الطريق ، ليقول بعدها من بين صرير اسنانه بتشدق  
"توقفي عن ضربي بالكلام الغير مباشر ، فأنتِ لستِ الوحيدة التي تخافين على كل من يعيش من حولك وتحبينه ، هل تذكرين عندما سألتني ذاك السؤال بذلك اليوم ؟ هل انت مستغني عن حياتك تماما ! وانا الآن سوف اسألكِ هذا السؤال ايضا هل انتِ مستغنية عن حياتكِ تماما ؟ هل ترينني لا استحق ان اهتم بكِ واخاف عليكِ ؟ ام انتِ الوحيدة بالعالم التي تملك الحق بالخوف على الآخرين والقلق بشأنهم ؟"
ضمت يديها امام بطنها بألم وهي تهمس بخفوت ممتعض
"لقد اخبرتك بأنه كان تصرف انساني مني"
تنفس بضيق وهو يكبح مشاعره الداخلية بلحظة ليقول بعدها بتسلط 
"لماذا لم تخبريني بمرضك وبحاجتك لعملية جراحية لاستئصال زائدتك ؟ هل كان صعب عليكِ مصارحتي بالأمر ؟ لماذا تتعمدين اخفاء كل تفاصيل حياتك عني وصنع مئة باب يفصل بيننا ؟ على الاقل كنا استطعنا تأجيل جلسة المحكمة لبعد إجراء عمليتك ، هل تريدين القضاء على حياتك فقط من اجل الحصول على طلاقك ؟ كيف تضحين بنفسكِ هكذا من اجل تحقيق غايتك ؟ كيف تتحملين الألم والمعاناة بطريق التخلص مني وانهاء الامر ؟ هل هانت عليكِ نفسكِ حتى تقدمين على المخاطرة بها بكل هذه الانانية ؟"
رفعت نظرها نحوه ببرود وهي تقول من فورها بقسوة
"لأنك لست ولي امري حتى اخبرك بهذه الامور الشخصية ، لست تملك الحق بالتحكم بقرارات حياتي ، لا تملك السلطة عليّ ولا الجبروت حتى ابوح وافسر لك كل شيء يخصني ! لا تملك حياتي او موتي حتى تتحكم بهما !......"
قاطعها بقوة وهو يضرب الهواء بذراعه بعنف حتى جذب بعض الانظار من حولهما
"بل املك حياتكِ بأكملها ، ليس لديكِ الحق بفعل كل ما تشائين بحياتك وقتلها وإيلامها امام عيناي ، لن اسمح لكِ بسرقتها مني بمنتهى الانانية والانتهازية فقط لتحققي غايتك واهدافك الشخصية ، لن اسمح لكِ بعد الآن بتكريس حياتك بأكملها للآخرين ما عداي ، انا زوجك بالشرع والقانون بغض النظر عن القضية العالقة فأنا املك كل الحقوق نحوكِ وكل السلطات والصلاحيات واكثر منكِ شخصيا ! لذا لا تحاولي العبث بحياتكِ كثيرا لكي لا امنع عنكِ امور كثيرة ستصبح محظورة عنكِ بسبيل ابقائك حية امامي !"
حدقت به بعينين كبيرتين متهمتين وهي تهمس بعتاب ساخر بدون ان تترك نظراته
"هل رأيت ذلك ؟ انت لم تتغير عن الرجل المتغطرس المتملك الذي تدفعه غريزة الرجولة التي تبجل مرتبتكم وتطمس هوية المرأة ، وبسبب كل ذلك الغرور والتبجح لم تستطع رؤية جزء من معاناتي ! لم تستطع رؤية ما ادفنه بداخلي بعيدا عن العيان ! لم ترى سقمي ومرضي ! ولن تستطيع رؤيته يوما لأنك ترى فقط ما تريد رؤيته ، ليس عليّ ان ابوح بمشاعري وآلامي لك لتفهم ما يجول بخاطري وقلبي ، عليك ان تفهمها وحدك وتقدرها كذلك بدون استخدام القسوة وممارسة اساليب الإرهاب والجهل بإرغام الطرف الآخر على مبادلتك الحب والمشاعر والتفهم ، انت تثبت لي اكثر بأنك ما تزال محبوس بتلك الدائرة الزجاجية التي تربيت على مبادئها وقوانينها منذ الامد وترى بها عالمك الخاص ، هكذا انت يا احمد ، وما تزال كما انت"
غامت ملامحه بقتامة وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا بعبوس محتد وكأنه يعترف بحقيقته التي سأم من سماعها منها
"هذه حقيقتي يا روميساء التي لا مفر لنا منها ، انا كما قلتِ عني تماما مغرور ومتبجح ومتملك ، وايضا يمكنكِ القول عني اناني بحبك ، ولكني مع ذلك لن ادعكِ تؤذين نفسكِ بسبيل تدمير علاقتنا وحصولك على الطلاق ، لن ادعكِ تفكرين بكل من حولك وتنسين وجودي تماما واهميتك بحياتي وببقائك على قيد الحياة ، حتى لو كلفني ان اضربك او اربطك من اجل الحفاظ على حياتك واجراء تلك العملية ، ولو كان المقابل الانفصال عنكِ والطلاق من اجل ان تعيشي فأنا موافق ! لذا رجاءً لا تستهين بحياتكِ هكذا ولا تفعلي شيء على حسابها فهي حياتي انا مثلما هي حياتك !"
قوست شفتيها بعبوس حزين حتى سبحت مقلتيها الشاحبتين بدموع حبيسة بعيدا ، لتخفض رأسها للأسفل بسرعة وهي تشعر بالعيون قد ازدادت عددا من حولهما بمراقبة كثيفة ، لتقول بلحظة بخفوت متحشرج وهي تضغط بيدها على جانب بطنها
"توقف عن ذلك يا احمد فقد اصبحنا نلفت الانتباه من حولنا ، الافضل ان نلتزم الصمت حتى موعد الجلسة....."
قاطعها (احمد) بأمر صارم تغير بنبرة صوته
"لن نبقى هنا اكثر يا روميساء ، فهناك موعد عند الطبيبة علينا الذهاب له حالاً ، كي لا تزداد حالتكِ سوءً"
رفعت رأسها له وهي تقول من فورها باستهجان
"لا شكرا لا اريد الذهاب لأي مكان ، ولا تقلق على صحتي فأنا بأفضل حال وخير"
ردّ عليها بنظرات فولاذية وهو يقول بدون ادنى تردد
"كفي عن الاعتراض والتعنت ، فهذه الحياة لم تعد لكِ وحدكِ ، إذا لم تفكري بنفسكِ فكري بالطفل بأحشائك والذي لم يتكّون بعد !"
فغرت شفتيها بذهول حتى شحبت الدماء عن محياها وهي تهمس باندهاش
"بماذا تهذي ؟"
ضم شفتيه بكبت وهو يتمتم من بينهما بخفوت مرتبك حتى تعثرت الكلمات على لسانه
"هناك احتمال بأن يكون...اقصد بأن تكوني حامل"
اطبقت على شفتيها بارتجاف مضني وهي تسمح للدموع بالهطول على محياها بدون اي رادع ، لتمسك بيديها على جانبي الكرسي باستماته وهي تحاول النهوض بتخاذل وكأن ساقيها لم يعودا قادرتين على الصمود ، وما ان استوت واقفة امامه لثانية وهي تهمس بتأوه
"غير ممكن !......"
حتى سقطت بعد تلك الكلمة مغشيا عليها وهو يتلقاها بسرعة بين ذراعيه التي امسكتها بسهولة بسبب وقوعها نحو جهته ، وما ان تمالك نفسه حتى حملها بسرعة بين ذراعيه عاليا وهو يجري بها خارج المحكمة قائلا بانفعال مستعر يكاد يذيب عظامها فوق صدره المتهدج  
"لا تقلقي يا فاكهتي الحلوة ستكونين بخير ، وانا اعدكِ جميعنا سننجو من هذه الكارثة ، جميعنا سننجو....."
______________________________
اوقف السيارة على جانب الطريق تحت بناية منزلها تماما ، لتحين منه التفاتة نحوها وهي ما تزال على سكونها القاتل وتستخدم الصمت سلاح فتاك بمواجهة كل الكوارث الطبيعية والحياتية وكل ما يؤذي ويكسر مشاعرها ونفسها ، ولكنه لا يراه يؤثر على احد سواه وما يترك نتائج وخيمة عليه تشيع فوضى الاحاسيس بداخله وتفقده المنطق الصحيح بعقله وكأنها تستنزف كامل طاقته بدون فعل مجهود ، وها هي تعود لتقمص ذات شخصيتها الغامضة التي اتعبه محاولة فهمها وتفكيك رموز شيفرتها الخاصة التي تزداد تعقيدا كلما تباعدت بحزنها ووحدتها وتصبح اسهل كلما تقربت بلطافتها وثقتها فهي تعمل حسب مزاج صاحبتها وشعورها الحالي .
زفر انفاسه ببطء شديد يخلي الاثقال بصدره وروحه التي تحملت طول الطريق العصيب ، ليقول بعدها بخفوت جاد وهو يراقب جانب وجهها المغطى بستار شعرها
"لقد وصلنا"
اخذت لحظات بسكونها قبل ان تعطي استجابة ضعيفة من رأسها التي ارتفعت ببطء صوب النافذة تشاهد المكان الذي وصلت له ، وباللحظة التالية كانت تمسك بمقبض الباب تنوي الخروج لولا اليد التي امسكت بذراعها بقوة تثبتها بمكانها ، لتتنفس بعدها بصعوبة ضخمت دقات قلبها الحجري وهي تهمس ببأس
"اتركني"
قطب جبينه بجمود وهو ما يزال يلاحق شعرها الطويل المتمرد الذي يتضامن معها بإخفاء كل ملامحها وكل تعبير عنه ، ليشدد اكثر على ذراعها المتصلبة التي تشعرك بانعدام الطاقة بها وكأن دمائها الباردة لا تصل لها ، ليتمتم بعدها بلحظة بجدية هادئة 
"ماسة اسمعي ما سأقول قبل ان تخرجي....."
قاطعته (ماسة) بسرعة وهي تنتصب برأسها قائلة بهدوء جامد وتتخذ الفراغ محور نظرها  
"اعتذر منك على ما حدث بالشارع ، لقد فقدت اعصابي بلحظة جنونية ، لذا ارجو منك ان تسامحني على هذه الغلطة ولنتغاضى عن كل ما جرى ، هل هذا ممكن ؟"
كست ملامحه طبقة من الجليد وهو ينحرف بنظره ليده القابضة على ذراعها الساكنة ، ليرسم بعدها ابتسامة متصلبة وهو يقول بصرامة قاسية
"لم يكن هذا ما اريد الحديث عنه ، لقد اردت التكلم بما كنتِ تنوين فعله بمكتب الوزير بدون ان تحسبي حساب اي من المخاطر والعواقب التي تنتظرك هناك ! هل ظننتِ الامر يشبه دخول مكتبي او مكتب والدي ؟ هل فكرتِ ولو قليلا قبل ان تقدمي على تلك الخطوة المتهورة ؟ بماذا كنتِ تفكرين قبل فعلها ؟ هل انتِ حقا وصل بكِ الحال لكل هذا الضعف والانهزام حتى تمهدي طريقك من خلال الوزير بحد ذاته ؟"
شدت على يدها التي يمسك بذراعها وهي تقول بخفوت خاوي وكأنه يكلم حجر معدوم المشاعر والضمير
"اجل انا ضعيفة ومنهزمة ، وقد وصل بي الحال ان اذهب للوزير بحد ذاته ، ولكن ماذا افعل يا شادي ؟ لقد يأست من كل شيء ، وعندما يستحوذ اليأس على الانسان يختار اسهل الطرق للنجاة بنفسه حتى لو كانت بارقة امله ضعيفة جدا !"
عقد حاجبيه بوجوم وهو يقول باستنكار عابس 
"ما هذا الكلام الذي تتفوهين به يا ماسة ؟"
قالت من فورها ببرود وهي تحاول فتح مقبض الباب
"إذا كنت قد انتهيت فأنا راحلة......."
شدد على ذراعها مجددا يجذبها منها وهو يقول بجمود صارم
"بل هناك ما عليكِ سماعه ايضا ، إياكِ والاقتراب مجددا من عائلة لينا ومنها شخصيا ، ابقي بعيدة عن حدود ذلك المجال ولا تحاولي الدخول بينهم بأي طريقة ، هذه المرة سنتغاضى عن فعلتك وامررها لكِ ولكن مرة اخرى لن اسامحكِ عليها وسيكون حسابكِ معي عسيرا ! لا تنسي هذا الكلام يا ماسة وألزمي حدكِ لكي لا ألزمكِ إياه بخبرتي ! وعندما تستوعبين هذا الكلام بسرعة اكبر يكون الوضع اسهل بيننا"
تنفست بهدوء لبرهة قبل ان تلتفت نحوه طيرت خصلاتها على ذراعها المقيدة وهي تهمس بخفوت ناقم
"هل بدأت تخاف على حبيبتك المزيفة مني ؟"
اطبق على اسنانه بكبت ليس من كلامها الوقح وحسب بل من مشاهدة وجهها الصلب ذو الرسومات الفاتنة والتي حفرت خطوط قاسية نقشت فوق سطح رخامها بعناية ، ليغضن بعدها جبينه بوجوم ما ان تلاقت عينيه بعينيها الزرقاوين السابحتين ببحر احمر دموي لوث بحارها بدماء قلبها المجروح باغتيال ، ليقول بعدها بخفوت جاد رقت نبرته قليلا
"ماسة لا تفعليها مجددا"
عبست ملامحها بشدة وهي تسحب ذراعها بقوة تفجرت بعروقها دفعة واحدة ، لتلوح بأصبعها السبابة بوجهه هامسة بقسوة
"لا تقلق سأتأكد من ابتعادي عن مجالها تماما ، وليس هي فقط بل مجالك انت ايضا يا شادي الفكهاني ، لأنك قد تجاوزت حدود تلك الدائرة ودخلت دائرة غيرها ، وانا عند الحب لا اعرف الرحمة او الشفقة وعند الخيانة اقتل بدون ان يرف لي جفن !"
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يراقب التي استدارت بعيدا عنه تضرب خصلاتها الشوكية كل ما تلمسه بقلة تهذيب وحياء ، لتخرج بعدها من السيارة باندفاع وهي تصفق الباب بوجهه بكل قوة ، وما ان تعانقت النظرات بينهما صدفة عبر النافذة حتى قطعته التي ركلت السيارة بقدمها هزتها من مكانها وهي تبصق على الزجاج بلعابها حتى التصق البصاق على النافذة .
غادرت بعدها من امام نظره وهي تنفض شعرها للخلف بعنفوان وتجري داخل البناية السكنية ، ليحرك بعدها رأسه بابتسامة ساخرة كسرت جموده وهو يشغل محرك السيارة وينطلق مغادرا .
بهذه الاثناء كانت (ماسة) تدس المفتاح بقفل المنزل بعصبية مفرطة حتى نجحت بالنهاية بفتحه ، لتدخل بعدها بقوة وهي تدفع الباب ليصطدم جانبه بالجدار بعنف ، تباطأت بخطواتها بلحظة بضعف اخترق عضلاتها وسكن الألم بحنايا القلب الميت الذي ما يزال ينبض بوجع ، لتترنح بعدها بدوار وهي تتكأ بظهرها على ظهر الاريكة بتعب مهلك ونظراتها تجوب بالمكان بضياع وكأنها طائر جريح وقع عن عشه وتاه عن والديه .
سمعت بعدها صوت رنين رسالة تصل لهاتفها تعيدها لحاضرها ، لتدس يدها بجيب سترتها وهي تخرجه بصمت قبل ان ترفعه امام نظرها ، وما ان ظهر لها محتوى الرسالة حتى اتسعت عينيها الفارغتين بإفاقة اعادت العمل لعقلها
(تعالي بسرعة لمشفى المدينة إذا كنتِ تريدين رؤية شقيقتك ، المرسل احمد الفكهاني)
فغرت شفتيها بأنفاس مضطربة حتى اهتزت يدها بالهاتف وهي تهمس بخفوت منتحب وكأن شبح الموت استحوذ على روحها
"روميساء بالمشفى ! شقيقتي بالمشفى ! ليس هي ايضا ، ليس هي ياربي ، ليس هي !"
رفعت عينيها الواسعتين بدموع باردة كصقيع روحها وهي تمسح جفنيها الحمراوين بأناملها بكل اتزان ، لتدس بعدها الهاتف بجيب سترتها وهي تستقيم بعيدا عن الاريكة بثبات ، لتوجه نظرها ناحية باب المنزل المفتوح وهي تهمس بخفوت عازم
"شقيقتي بحاجة لي"
سحبت انفاسها بقوة وهي تزفرها بكل انتظام قبل ان تركض بسرعة خارج المنزل بدون ان تنسى اخذ الباب بطريقها واغلاقه بقوة وبدون ان تأبه بضرره الذي لا يوازي ضرر قلبها المكدوم  .
______________________________
زفر انفاسه باتزان وهو يشاهد تلبد السحب بالسماء الزرقاء التي باتت تشوبها الكثير من الغيوم افسدت اللوحة الفنية ، ليدير عينيه وتركيزه بعيدا ما ان سمع صوت السرير المتحرك الذي كان يدخل نطاق قلبه ببطء ويعبث بثبات نفسه ، ليستدير باللحظة التالية بعيدا عن النافذة وهو يقابل السرير الذي توسط الغرفة تقبع به الغائبة عن الوعي وعن العالم بأسره .
اعتمت عينيه الرماديتين قليلا وكأن صورة تلبد السحب اخترقت مجال نظره وتفكيره وهو يرى قلب امرأة تعبأ بالغبار والطين حتى اختفت نفسها الحقيقية بوسطه وتلاشت ، ليغضن جبينه بتركيز وهو يسمع صوت الطبيبة بجانبه تقول ببشاشة 
"حمد لله على سلامة زوجتك"
ادار رأسه نحو الممرضة التي كانت تركب انبوب المحلول الخاص بالمريضة حول معصمها ، ليقول بعدها بهدوء متزن ببعض الارتباك
"كيف اصبحت الآن ؟ هل هي بخير ؟"
ردت عليه الطبيبة بخفوت مستبشر 
"بخير وبأفضل حال وتجاوزت مرحلة الخطر ، فقد استطعنا استئصال الزائدة قبل انفجارها وانتشار العدوى بها ، وكل ما تحتاجه الآن هي الراحة التامة والاستلقاء حتى تتعافى تماما من آثار العملية الجراحية التي ستبقى عليها ايام تحت العناية"
تنهد بارتياح وهو يوجه نظره نحوها قائلا بتفكير
"وكم ستبقى نزيلة بالمشفى ؟"
تلبست ملامح الجدية وهي تقول بهدوء عملي
"على الارجح ست ايام حتى نطمئن من استقرار حالتها بعد العملية وعدم وجود اي اضرار جانبية ، وبعد عودتها لحياتها الطبيعية سوف توقف اعمالها الشاقة والنشاطات التي تتطلب مجهود مدة اسبوعين على الاقل"
اومأ برأسه بشرود وهو يفكر بأن هذه الفترة ستكون اسوء فترة تمر عليه بحياته بأكملها وخاصة مع فتاة محبة للعمل والحركة مثلها ، ليعود بعدها بالتركيز عليها وهو يقول بابتسامة جافة بامتنان
"شكرا لكِ يا طبيبة فتون ، لقد ساعدتنا كثيرا ، جزاكِ الله خير"
اومأت برأسها بابتسامة ودودة وهي تقول بهدوء
"اعتني بها جيدا فهي تحتاج للاهتمام الزائد بهذه الفترة الحساسة ، وسعيدة جدا بخروج زوجتك سليمة من هذا الابتلاء ، حمد لله على سلامتها"
تحركت بعدها اتجاه باب الغرفة قبل ان تتوقف بآخر لحظة وهي تلتفت نحوه قائلة بنبرة مهنية 
"انتبه جيدا لها فهي ستكون تحت تأثير المخدر لساعة اخرى ، ومن الممكن ان ينتج عنها الهذيان والهلوسة ببعض الحالات ، وقد تحتاج للوقت حتى تستعيد كامل وعيها ويزول عنها تأثير المخدر"
ما ان استدارت بعيدا عنه حتى اوقفها بسرعة وهو يقول بخفوت عابس
"هل هي ؟...هل هي حامل حقا ؟ هل هذا الاحتمال موجود ؟"
التفتت بوجهها نحوه وهي تقول بابتسامة هادئة
"سنتكلم عن هذا الموضوع بعد ان تستعيد المريضة وعيها ، والآن عن إذنك"
عقد حاجبيه باستغراب ما ان اختفت الطبيبة خلف باب الغرفة ، ليتمتم بعدها بخفوت مستاء 
"ما كان هذا الآن ؟"
انتفض برأسه نحو الممرضة التي نسي امرها وهي تقول بابتسامة رسمية 
"حمد لله على سلامتها ، سأكون معها هنا بأي وقت تحتاج به للمساعدة ، والآن عن إذنك"
غادرت بعدها خارج الغرفة امام عينيه بصمت كما جاءت ، لينقل بعدها نظراته عن الباب لحيث وجود النائمة المدثرة تحت الغطاء الابيض تظهر منها يدها البيضاء المستقرة بجانبها تقيدها بأنبوب المحلول المعقود حول معصمها واصبعها .
تقدم (احمد) عدة خطوات نحوها حتى اصبح يقف عند طرف السرير ، ليمد بعدها يده وهو يمسك بكفها برفق ويتحسس ظاهرها بإبهامه قائلا بخفوت نادم
"لقد افسدت كل شيء مجددا ، لقد كدتِ تفقدين حياتكِ بسببي ، لقد كنت طوال الوقت افرض عليكِ مشاعري الخاصة وقيود حبي على حساب حياتك ، اعماني الغرور والتملك عن رؤيتكِ جيدا وبما تخفينه بصميم وجعك بعيدا عن العالم ، لقد اخطأت مجددا وهذه المرة يبدو خطأي لا يغتفر !"
اشاح بوجهه بعيدا وهو يغرس اصابعه بشعره يكاد يقتلع خصلاته بعصف ذهني ، لتتجمد اصابعه بلحظة ما ان سمع الصوت الخفيض يهمس بوهن
"احمد ! هل هذا انت ؟"
استدار بوجهه بسرعة وهو يراقب انفتاح نصف جفنيها وتغضن تقاسيمها وكأنها تستصعب تجميع تركيزها بنقطة محددة ، لتهمس بعدها بخفوت عابس وهي تضغط على جفنيها بقوة
"يا إلهي كم هو مؤلم ! لم اتوقع ان يكون بكل هذا الألم ! اشعر بألم لا يحتمل ، يا الله ما كل هذا العذاب !"
ارتفع حاجبيه بخوف وهو ينحني نحوها بسرعة ليمسك بجانب وجهها الشاحب هامسا بتوجس
"روميساء هل انتِ معي ؟ ما لذي يؤلمك ؟ هل استدعي الممرضة لكِ ؟"
فتحت جفنيها على اتساعهما باستيعاب وهي تحدق بتركيز حتى ارتجفت ملامحه وشحبت امام غابة النخيل بعينيها ، لترسم بعدها ابتسامة هادئة غضنت زوايا حدقتيها وهي تهمس بخفوت رقيق وكأنها لا تعي ما تقول
"احمد انت هنا حقا ! لم تتركني بعد ، لماذا لم تتركني يا ترى ؟ انت حقا عنيد اكثر مما توقعت ! ايها العاشق المجنون !"
تجمدت ملامحه وهو ينزع يده بعيدا عن وجهها قائلا بقلق اكبر 
"ماذا بكِ يا حبيبتي ؟ هل انتِ بخير ؟ هل تحتاجين لأستدعي الممرضة لكِ ؟ قولي يا حبيبتي !"
ردت عليه من فورها بتذمر وهي تضيق حدقتيها بغضب 
"ما بك يا احمد ؟ لماذا تكرر كلمة حبيبتي هكذا ؟ انا لست حبيبتك انا روميساء ! يبدو بأنك اصبحت تهذي كثيرا ولم تعد تستطيع تمييز الموجود امامك ، منذ متى اصبحت حبيبتك ؟ يا إلهي اعطيني الصبر !"
عقد حاجبيه بدهشة وهو يقول بجدية
"من الذي يهذي بيننا ؟ انا ام انتِ !....."
صمت تماما عندما ادرك الوضع وهو يستقيم بوقوفه قائلا بخفوت ساخر
"اجل هذا تأثير المخدر !"
عاد بالنظر لها ما ان قالت بخفوت حانق 
"بماذا تهذي مع نفسك ؟ هل انت مجنون ؟"
عبست ملامحه وهو يكتشف جانب جديد بها لم يسبق ان مر عليه بحياته ، ليقول بعدها بجدية وهو يتخذ قراره
"انتِ لست بخير يا روميساء ، الافضل ان استدعي الممرضة لكِ لتعتني بكِ ، سأذهب لها الآن"
ما ان سحب يده من فوق يدها حتى تمسكت بها اكثر بقوة وكأن الحياة قد دبت بها ، ليلتفت نحوها بصدمة كست ملامحه ما ان قالت بوجل وهي تظهر خوف لأول مرة يراه بحياته
"لا ترحل يا احمد ، هل ستتركني وحدي بمكان غريب ؟ انا لا احب البقاء لوحدي فترة طويلة ، لقد اعتاد والديّ على تركي وحدي لفترات طويلة بسبب اعمالهما منذ كنت بالرابعة من عمري ، ومع ذلك لا احمل الضغينة نحوهما فهذه طبيعة حياة الكبار ، لذا ارجوك لا تفعل مثلهما ، لا تتركني انت ايضا !"
غامت ملامحه بسكون وهو يسمع تفاصيل عن طفولتها لأول مرة وكأنها تخرج الطفلة المحبوسة بداخلها منذ ولادتها ، ليتمسك بعدها بيدها تلقائيا بغريزة قوية وهو يقول بابتسامة واثقة
"لا تقلقي يا روميساء ، لن اترككِ مجددا ، انا معكِ دائما ، لذا لا تخافي"
ارتجفت طرف ابتسامتها وهي تهمس بأسى حزين
"عندما تقول هذا الكلام تجعلني اتعلق بك اكثر ، وهذا اكثر شيء محظور عندي ، انت لا تفهم حقا المجازفة التي تقودني إليها !"
قطب جبينه بحيرة وهو يجلس على طرف السرير بجوارها قائلا بخفوت عميق
"لم افهم عليكِ ! ماذا تقصدين بهذا الكلام ؟"
ادارت مقلتيها الخضراوين بدوار تموج بعقلها وهي تهمس بحزن مرير وكأنها تخرج كل ما يجول بقلبها بدون اي رادع
"انت لا تفهم لأنك لم تعيش تجاربي بالحياة ، لقد اقسمت بداخل نفسي ألا اجعل قلبي يتعلق بأحد او يراه الحياة بأكملها ، كلما تعلقت بأحدهم اكثر يكون من الصعب الافتراق عنه ! لقد حدث هذا منذ وفاة والدي كنت متعلقة به بشدة لدرجة جعلته الحياة بأكملها ، وعندما تركني انهارت قواي وعزيمتي وتألمت بشدة حتى فقدت قوتي على الاستمرار . من بعد تلك اللحظة رهنت حياتي بالعمل فقط واغلاق السبيل لقلبي بالتعلق والحب ، لأنني اعلم بأن التعلق عندي ستكون نهايته مؤلمة جدا وكأن قلبك قد دفن مع احبائك ، وهذا الألم يتجاوز احتمالي كثيرا ، لذلك جعلت نفسي مستقلة تعيش لوحدها ومنفردة ، فأنت عندما تعمل من اجلك لن تضطر لعيش ذلك الألم وسيكون المرور من كل تلك العثرات والعقبات اسهل عليك . والحقيقة بأن محبتي للعمل وبذل اقصى مجهودي به هو الدواء الذي ينسيني مرارة الألم ويبعدني عن طريق الحب والتعلق ، فهكذا لن اعاني من فقدان الاهتمام او من فقدان المشاعر او من فقدان الحب لأنني لا املكها حتى اخسرها !"
كان يحدق بها بصمت وكأن الكلام قد فرغ من عقله ولم يعد هناك شيء يستطيع التعبير به ، لتتسمر عينيه وانفاسه بلحظة ما ان وجهت نظرها وتركيزها عليه بقوة وهي تهمس بابتسامة رقيقة تحاول ربط خيوط عقلها الهاربة
"ولكن هناك لحظات استثنائية لا نستطيع تجاوزها توقعنا بفخ الحب والاهتمام وتعلقنا بتلك المشاعر ! مهما حاولنا التغاضي عنها او الابتعاد تعود وتقيدنا مجددا لنعلق بدورة الحياة . فأنا لم استطع مقاومتها عندما احببت استاذة اللغة العربية بالمدرسة الاعدادية التي بطيبة قلبها واهتمامها علقتني بها ، لأعيش الألم بعدها بالافتراق عنها بسبب تركها للعمل بعد زواجها واستقرارها ، احببت ايضا طالب بفصلي اهتممت بتدريسه ودخل قلبي مباشرة بدون عناء ، ولا اعلم ماذا سيحصل لي لو حدث له مكروه او خسرته كذلك ! سوف اعاني الألم بلا شك . وآخرها لقد وقعت بحب محرم وممنوع ، كان الحب الذي قلب موازين حياتي ومخططاتها ، كنت قد قررت العيش من اجلي فقط والاستمرار بالكدح والشقاء بالعمل لآخر عمري بدون التعلق بمشاعر احد وإيقاف حياتي له ، لأنه ربما لو تركني او خسرته ذات يوم سيكون من الصعب العودة للحياة مجددا . ولكني لم استطع مقاومة هذه المشاعر التي بعثرت كبريائي ودمرت قوانيني وعبثت بمبادئي ، وبالنهاية خسرت امام حرب الحب والمقاومة وحملت نكبة جديدة ستجعلني اعيش الألم طيلة حياتي !"
اغمضت عينيها تعصرهما بشدة وهي تبكي بصمت بشهقات مكتومة ادمت قلبها الذي اتعبته النكبات والحروب حتى انهارت محملة بأذيال الهزيمة بعد سنوات بالعراك بالحياة ، بينما كان الجالس بجوارها ينظر لها بخواء قاتل وكأنها سلبت منه نور الحياة واطفئت نيران قلبه بلحظة ، ليزفر انفاسه بهدوء وهو يمسك بجانب وجهها قائلا برفق
"انتِ متعبة جدا يا روميساء وتحتاجين للراحة ، لذا هيا نامي الآن واتركي كل تلك الاحزان عنكِ ، فليس هناك شيء يستطيع التعويض عن صحة الانسان لو خسرها"
حركت رأسها بتشوش وهي تريح جانب وجهها على الوسادة هامسة بإعياء خافت
"اريد ان ارتاح ، اريد فقط ان ارتاح من هذا الألم ، وبعدها قد استطيع العودة إليكم"
عقد حاجبيه بضيق حتى ظهرت خطوط فوق جبهته وهو يتحسس جانب وجهها بأصبعه ويمسح الدموع بعينيها قائلا بصوت اجش عطوف
"سترتاحين من هذا الألم ، سترتاحين منه وكأنه لم يكن ، تأكدي من ذلك يا حبيبتي"
تنهد براحة ما ان انتظمت انفاسها واستغرقت بالنوم بعد هذيان طويل اخذ كامل طاقتها ، ليدنو بعدها نحو وجهها وهو يقبل جبينها الابيض بدفء قبل ان يبتعد عنها بهدوء ، ليسحب يديه عن وجهها وكفها وهو ينهض عن جوارها ليسلط نظره نحو النافذة الوحيدة بالغرفة وهو يعزم امره بقرارة نفسه ويضع سلامتها وحياتها فوق كل اعتبار .
_______________________________
دخلت للممر وهي تجري بسرعة تجوب بعينيها بالأرجاء بحثا عن بوصلة طريقها ، وما ان وجدت خيط من الامل حتى اسرعت بالركض وهي تحدد مسارها نحوه ، لتقف بعدها باستقامة امام الذي نهض عن الكرسي يقابلها بكامل جسده ، وقبل ان ينطق بكلمة سبقته التي همست بلهاث ما يزال يعبث بخفقات صدرها 
"هل هي بخير ؟ اين هي الآن ؟"
تنفس (احمد) بهدوء وهو يقول بكل اتزان وجدية
"لقد اصبحت بخير الآن ، وقد ادخلوها من ساعة للغرفة العادية بعد خروجها من غرفة العمليات"
ارتفع حاجبيها بشحوب اوقفت تسارع انفاسها وجريان الدماء بعروقها وهي تهمس بخفوت متوجس
"خاضت عملية ! اي عملية ؟ ما لذي اصابها ؟ ما لذي لا اعرفه ؟"
حرك رأسه جانبا نحو الغرفة التي تقبع بها المريضة وهو يقول بتصلب
"لقد كانت تعاني من ألتهاب الزائدة واحتاجت لخوض العملية لاستئصالها ، وهذا الامر كان من المفترض ان يحدث قبل ايام ولكنها اجلت عمليتها وماطلت بها حتى زادت وضعها سوءً وتدهورت حالتها الصحية ، ولو لم نلحقها اليوم بإجراء العملية لما كان الوضع سيكون هكذا ، فتلك المجنونة تفعل كل شيء على حساب حياتها ونفسها !"
زمت شفتيها بعبوس وهي تخفض نظرها بحزن طاف بزوارق بمياهها المالحة وهي تكتشف مدى إهمالها وعدم اخذها حالة شقيقتها بجدية والتي كانت تتدهور امام عينيها بدون ان تدرك ، وكل هذا بسبب انشغالها بحياتها اليومية وبعلاقتها الزوجية المعقدة التي تصبح اكثر إيلاما يوما بعد يوم بدون سبيل للخلاص ، لتمسد بسرعة على صدغها بأصابعها ما ان اجتاحها دوار لحظي هز الصورة امامها بقوة ، لتسمع بعدها صوت (احمد) بقربها وهو يقول بجدية
"ماسة هل انتِ بخير ؟"
اومأت برأسها بإجهاد وهي تخفض يدها هامسة بخفوت
"نعم بخير ، ليس هناك ما يخيف"
حانت منها التفاتة نحو غرفة المريضة وهي تقول ببرود جليدي
"ماذا حدث بجلسة المحكمة ؟ ألم تكن اليوم ؟ ماذا حدث بها ؟"
شردت نظراته بعيدا وهو يقول بابتسامة باردة 
"لم نستطع حضور الدعوى لأننا غادرنا قبل بداية الجلسة ، بالرغم من اننا كنا هناك بالفعل ولكننا لم ندخل لها ، فقد كانت الاولوية عندنا انقاذ حياة المجنونة"
تنفست بإرهاق مضني قبل ان تعود بنظرها للذي تابع كلامه وهو يقول باستهجان 
"لقد فعلت كل هذا عنادا بي لكي تستطيع انهاء قضية الطلاق قبل إجراء العملية ، لقد خاطرت بحياتها ووضعتها على المحك لكي تنهي العلاقة بيننا وتحصل على مسعاها ، لم اظن ابدا بأن تدخل حياتها بهذه الحرب وتراهن عليها بطريق الانفصال عني !"
شدت شفتيها بعبوس وهي تهمس بامتعاض
"لديها جوانب سيئة بعد كل شيء !"
عقد حاجبيه بجمود لبرهة قبل ان يقول بهدوء عازم
"لقد اتخذت قراري بهذا الشأن ، بما انها قد اختارت الطريق التي تريد الوصول لها لهدفها ، وانا ايضا سأختار الذي يريح كلينا من هذه المعاناة ، لقد قررت ان اكمل إجراءات الطلاق واعطيها حقها من هذا الزواج ، وهكذا لن يكون هناك داعي لتضحي بنفسها وتؤذيها من اجل هذا الامر"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بوميض خاطف وهي تقول ببداية هجوم ضاري 
"بهذه البساطة ! بعد كل ما فعلته وقاتلت من اجله ! تستسلم هكذا ! هل هذه نهاية جهادك ومثابرتك كل هذه المدة الطويلة ؟ لقد خيبت ظني بك حقا"
حدق بها بسرعة وهو يقول بخفوت محتد 
"ماذا تقصدين بهذا يا ماسة ؟ هل تقولين بأنني تسرعت باتخاذ هذا القرار ؟"
ردت عليه من فورها وهي تضرب قبضتها على جانبها بقوة
"اجل تسرعت كثيرا ، ماذا يعني ان تلاحق بها طول الطريق بعدها تتراجع ؟ ماذا يعني ان تحاول إعادتها لك بكل الوسائل والطرق وتمارس الاضطهاد والإرهاب عليها حتى تستخدم حيل طفولية بلفت انتباهها بعدها تفل هاربا ؟ لقد اصبح كل هذا بلا معنى بعد ان تخليت عن هدفك واستسلمت بأول مطب يصادفك ! لماذا بذلت اقصى جهدك منذ البداية ؟ لماذا لم تعلن استسلامك قبل الوصول لهذه النقطة بحياتها ؟"
تجمدت ملامحه وهو يلوح بذراعه اتجاه الغرفة قائلا باستنكار بدون ان يعلو صوته بالممر 
"ألم تفهمي ما يجري يا ماسة ؟ هل اوضح لكِ اكثر ؟ لقد كادت شقيقتك تموت لكي تصل لمرادها ! وانا لن اخوض بهذه المخاطرة مجددا ، اخاطر بكل شيء ولكن ليس بحياتها !"
رفعت ذقنها ببأس وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها قائلة بقسوة
"هل تعلم من هو السبب بما وصلت له روميساء ؟ انت السبب بهذا ! انت من خسرتها بنفسك ، انت من اريتها الظلم والقهر والاضطهاد بعلاقتك ، انت من قتلت قلبها وكسرت بقايا مشاعرك بداخلها ، وبدلا من ان تصلح كل تلك الاخطاء التي اقترفتها بحقها ، ماذا فعلت انت ؟ بدأت تجبرها على العلاقة المكسورة باستخدام كل اساليب العنف والقسوة معها وكأنها شيء او سلعة مملوكة لك ، هل هكذا يكون إظهار الحب لديك ؟ هل هكذا تعيدها لك ؟ ألم تتعلم بأن اصلاح الخطأ يكون باعتذار صادق او بموقف يعطيها قيمة كل ما كسرته ؟ ألم يكن من الاسهل ان تريها الندم والحزن العطف والصدق لكي تشعر بأنك نادم حقا على كل خطأ ارتكبته معها ؟"
ابتلع ريقه بتصلب وكأنه يواجه مرآة تعكس كل تصرفاته وافعاله وتريه الحقيقة التي كان معصوب العينين عنها ، ليشيح بوجهه بجمود وهو يقول بغضب مكبوت
"يكفي يا ماسة ليس لكِ الحق بمحاسبتي على كل شيء ! فأنا لست الوحيد المذنب بهذه العلاقة ، وايضا لقد اعتذرت منها على كل شيء وطلبت منها الصفح سابقا ، ولكنها رفضتني وابعدتني عن طريقها بكل قسوة وكبرياء ، اصرت على الطلاق وبقيت على موقفها حتى آخر رمق ، لم استطع ان اكسب ثقتها ولا قلبها ولا عطفها ، ماذا افعل ايضا ؟ ماذا ؟"
حدقت به بعينين واسعتين بعمق المحيط وقسوة اليابسة وهي ترمي بأصبعها السبابة جانبا هامسة بنبرة شديدة البأس
"روميساء التي تملك الكبرياء والشموخ والقوة والاعتزاز بالنفس هي بالحقيقة تفتقر للكثير من الامور بحياتها ، لقد حرمت نفسها من اشياء كثيرة كانت من حقها بسبيل تكريس حياتها للآخرين وتوفير العيش لنا ، حرمت نفسها من دور الطفلة التي تلعب بشوارع الحارات ، حرمت نفسها من مراهقة تدرس وتحقق احلامها بالحياة ، حرمت نفسها من ان تكون امرأة انيقة وجميلة تواكب الموضة وتحادث العصر ، حرمت نفسها من عيش سنها الحقيقي بسبب تحمل مسؤوليات ولعب ادوار ليست لها . وكل هذا من اجل الآخرين وبقانون العيش آنذاك الاقوى هو من يبقى والخاسر يموت وكل شخص ولي امر نفسه ، هذا الاعتقاد الذي عاشت عليه وسارت على نهجه طويلا .
ولكن انت يا احمد الوحيد الذي اظهرت نفسها الحقيقية التي تطمع بالحصول عليها وكبحتها طويلا ومنها تحقيق رغباتها المطمورة واهوائها بالحياة وطموحاتها واحلامها التي تركتها بعيدا ، لقد كان الشيء الوحيد الذي فعلته من اجلها فقط من بين كل مسؤوليات واعباء الحياة وهمومها ، قد يكون حبك لها يؤلمها ويوجعها كثيرا ويكسر قوتها التي جاهدت بالحفاظ عليها ! ومع ذلك ما يزال هذا الأمل الوحيد لها بالتعبير عن شخصيتها وفعل الاشياء التي تحبها حقا . وإذا اعطيتها فرصة حقيقية فأنا متأكدة بأنها ستبادلك الحب بالنهاية وتقدم لك كل مشاعرها التي هجرتها منذ سنوات ، لذا ارجو منك ألا تستسلم بسرعة وتعطي علاقتكما الفرصة التي تستحقها فعلا !"
ادار وجهه نحوها بملامح مكفهرة وهو يقول بخفوت بائس وكأنه واقع بمأزق لا مهرب له
"هل تظنين ذلك حقا ؟ وما هو الحل الذي تقترحينه عليّ بأنهاء هذه المشكلة العويصة بما انكِ تنصحيني بعدم الاستسلام ؟"
غيرت طريق اصبعها حتى استقر امامه وهي تقول ابتسامة واثقة  
"هذا الامر يعود عليك انت بإيجاد حله ، لذا اسرع بكسب ثقة شقيقتي ولا تضيع المزيد من الوقت ، انا اعتمد عليك يا صهري لذا لا تخذلني"
اخفضت اصبعها وهي تنسحب بسرعة من امامه تكمل طريقها اتجاه الغرفة المقصودة ، بينما الذي تركته خلفها كان يرفع قبضته وهو يتأمل الخاتم الفضي ببنصرها قبل ان يتمتم بخفوت حاسم
"لن اخذلكِ يا شبيهة شقيقتك ، ولن اخذل اي احد من عائلتها ، فهذه الامانة ستبقى قيد بعنقي لآخر يوم بحياتي"
_______________________________
افاقت من سباتها الطويل وهي تغضن جبينها بألم قاهر وكأنها خرجت للتو من فجوة كبيرة اعادتها لواقع الحياة بعد ان غاصت بالمجهول والا مكان ، وما ان رفعت يدها حتى تجمدت بمكانها وهي تلمح انبوب المحلول المتصل برسغها واصبعها يمنع عنها التحرك بحرية وكأنها مأسورة بهذا السرير الذي تراه عذابها اكثر منه شفاءها ، لترجع رأسها للخلف بتأفف طويل وهي تتمتم بضيق مكتوم
"تبا لك"
حركت رأسها جانبا ما ان سمعت صوت هدير انفاس اخرى بالغرفة وهي تلمح الواقفة بقرب الباب تنشج ببكاء صامت وكأنها تحاول خنق عبراتها بصعوبة ، لتهمس بعدها بابتسامة ضعيفة وهي تستوعب وجودها بالمكان
"ماسة ! انتِ هنا !....."
ما ان نطقت بذلك الكلام حتى قاطعت جملتها وباقي افكارها التي انطلقت بسرعة نحوها قبل ان تهجم عليها بعناق وهي تنام بجوارها تقريبا ، لتشحب ملامحها بصدمة ما ان اجهشت تلك ببكاء عالي وهي تبلل قميص المرضى الخاص بها بدموعها وعبراتها وكأن سفينتها قد غرقت ، لتمسح بعدها على ظهرها بخوف غريزي وهي تهمس بذعر لم تشعر به بحياتها
"بسم الله عليكِ يا ماسة ! ماذا بكِ يا صغيرتي ؟ لماذا تبكين هكذا وكأن احدهم قد مات ؟!"
شددت من احتضانها وهي تخنق شهقاتها بصدرها هامسة بخفوت باكي تكاد تفقد انفاسها
"انا لست بخير ، لست بخير ابدا ، انا اموت ، اموت بكل نفس يدخل صدري ، اموت بكل نبض يخرج من قلبي ، اموت بالصمت وبالكلام وبالحياة وبالحب ! اموت....."
اضطربت انفاسها بتخبط حتى امتلأت مقلتيها الخضراوين بنبع الدموع وهي تستمر بمسح ظهرها بارتجاف قبل ان تهمس بغصة مريرة
"ماذا يحدث معكِ يا ماسة ؟ انا لا افهم شيء عليكِ ! حبا بالله صارحيني بالقول ! ما لذي اصابكِ هكذا ؟ ماذا......"
تأوهت ببعض الألم حتى قفزت النائمة عليها بلحظة وهي تجلس بجوارها وتمسح على بطنها هامسة بتحشرج وكأنها افاقت على نفسها
"انا اعتذر ، هل تألمتِ كثيرا ؟ هل هناك ألم مكان العملية ؟"
حركت رأسها بالنفي وهي تحاول الجلوس بصعوبة لتمسح على موضع الألم فوق يدها هامسة بهدوء
"كلا مجرد نخزة بسيطة بسبب الضغط عليها ، وهذا الامر سيلازمني بسبب حداثة العملية واحتياج الوقت لالتئام الجرج الجديد ، ولكني سأحاول جهدي التأقلم مع هذا الوضع من الآن وصاعدا"
عبست ملامحها بحزن وهي تمسح وجنتيها بظاهر يدها هامسة ببحة خافتة
"انا اعتذر حقا ، لقد تصرفت بغباء شديد وبحماقة عندما عانقتك هكذا وانتِ بهذه الحالة ولم يمضي شيء على خروجك من العملية ! لم افكر ولو قليلا بوضعكِ وبحالتك الصحية ! اعتذر منكِ كثيرا ، لابد بأنني قد فقدت عقلي"
تغضنت زوايا حدقتيها بحنان وهي تحيط جانب وجهها بكفها هامسة بابتسامة ودودة 
"لا بأس يا ماسة ، لم يحدث شيء خطير حتى تلومي نفسكِ هكذا ، لذا اريحي نفسكِ ولا تحزني من اجلي ، فهذه مجرد حادثة عارضة وستزول مع مرور الوقت"
رفعت حدقتيها الواسعتين نحوها وهي تهمس بارتياب 
"ستكونين بخير ! ولن تتركيني وحدي ، صحيح ؟"
اومأت (روميساء) برأسها بتأكيد وهي تمسح دموعها عن رموشها هامسة باطمئنان
"اجل سأكون بخير ، كل شيء سيكون بخير بإذن الله ، لذا لا تتعبي نفسكِ بهذا الخوف وابتهجي يا حبيبة قلبي"
تنفست الصعداء لبرهة وهي تومئ برأسها قبل ان تزيح يدها عن وجهها وهي تهمس بعتاب
"لماذا لم تخبريني بمرضك ؟ لماذا لم تخبريني عن معاناتك وألمك ؟ لقد كنتِ تتحملين كل هذا الألم بدون ان تبوحي لي بشيء ! ألم تعديني سابقا بأننا لن نخفي شيء عن بعضنا وسنكون صريحين بيننا دائما حتى بأصغر الاسرار والتفاصيل !"
زمت شفتيها بوجوم وهي تخفض يدها قائلة بهدوء متزن
"لم اكن اريد ان اقلقك بدون داعي ، لقد كانت مجرد اصابة بزائدتي تحتاج لعملية جراحية وتنتهي ، وايضا لقد مرت سليمة واجريت العملية بنجاح ، لماذا نتكلم عن هذا الامر الآن ؟"
عقدت حاجبيها باستنكار وهي تقول بانفعال محتقن 
"ما هو الذي ليس له داعي ؟ لقد كدتِ تخاطرين بحياتك من اجل ألا تفوتي جلسة المحكمة ! هل هناك تصرف جنوني اكثر من هذا ؟ ألن تتوقفي عن العمل والتضحية على حساب حياتك ؟ لماذا لا تفكرين بسعادتك وحياتكِ ولو قليلا ؟"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تشير بيدها لنفسها قائلة بخفوت ساخر
"هل تتكلمين عني الآن ؟ لأن هذا الكلام هو نفسه الذي كنت اكرره على اسماعكِ دائما ! هل نحن الآن قد تبادلنا الادوار بيننا يا ترى ؟ فأنا لم اعد اعرفكِ بهذه الشخصية التي تقمصتها بدلا عني لتحاسبيني على افعالي !"
لوحت بذراعها جانبا وهي تقول بعبوس مستاء 
"انا لست احاسبك لأنني احب ذلك ، بل احاسبكِ لأنني اخاف من خسارتك ، انتِ لا تقدرين حياتكِ ولا تعطينها قيمة ولكنها مهمة عند اناس يريدون منكِ البقاء معهم ! لذا حافظي عليها من اجلنا لكي لا نعيش الوجع مجددا ، لا اريد عيش وجع خسارة عائلتي بأكملها ، لا اريد عيش اليتم مجددا !"
ابتلعت ريقها بغصة مؤلمة حرقت قلبها وهي تحط بيدها على رأسها الناعم هامسة بحزن امومي
"لا تحزني لهذا يا صغيرتي ، وهوني على نفسكِ ، فأنا ما ازال على قيد الحياة ولن اترككِ حتى يأخذ الله امانته ، واعدكِ ألا تعيشي هذا الألم مجددا ، لذا هيا اريني ابتسامتكِ الجميلة !"
ارتفعت طرف ابتسامتها بارتجاف وهي تعيد خصلاتها المتمردة لخلف اذنها ، لتخفض بعدها كفها عن رأسها وهي تقول بهدوء جاد تغير الموضوع نحوها
"لقد نسيت موضوعك تماما ، لم تخبريني للآن ما سبب بكائكِ ذاك ؟ هل هناك ما تعرضتِ له اليوم ؟ فأنتِ لم تبكي هكذا بحياتك !"
تلبكت ملامحها وهي تخفض نظرها بسرعة هامسة بخفوت مبرر
"وماذا سيكون سبب بكائي ؟ لقد خفت كثيرا عليكِ لدرجة بكيت بها كما لم ابكي من قبل ! فأنا خفت كثيرا بعد ان سمعت بما اصابك بغيابي ! واعتذر لأنني لم اكن بجوارك بالمحكمة"
تجمدت ملامحها بصرامة وهي تمسك خصرها بيدها قائلة باستهجان
"وتتوقعين مني ان اصدقك بهذه السهولة ! لقد كنتِ تبكين وتهذين وتنطقين عن الموت وكأن روحك قد خرجت من جسدك ! وهذا ليس سببه حالتي او خوفك عليّ ، بل هناك امر آخر حصل معكِ جعلكِ مدمرة هكذا او على الاغلب مدمرة القلب !"
اشاحت بوجهها بعيدا وهي تهمس بتأفف مغتاظ
"اوووف ، حتى بأسوء حالاتكِ ما تزالين تحققين معي !"
ردت عليها بحزم وهي تشير بأصبعها لأذنها
"لقد سمعتكِ على فكرة"
نظرت لها بحزن عميق سور بحيرات عينيها وهي تمسك بيدها بين كفيها هامسة بخفوت موجع
"اتمنى لو نستطيع السفر بعيدا وبناء منزل احلامنا فوق السحاب وبمكان لا يعرف الألم او الحزن ويطوقه هالة من السلام والطمأنينة ، لقد كانت هذه امنيتي منذ طفولتي العيش بذلك المنزل بين عائلة حقيقية ، عائلة مكونة من اب وام واخت واخ وتسودها اجواء من السعادة والترابط والتآلف بينهم ، لكن منذ ولادتي لم استطع تحقيق تلك الامنية التي سهرت ليالي وايام احلم بها ! هل طلباتنا بالحياة كثيرة ؟ ألا نستحق عيش هذه الامنية وتحقيقها بالواقع ؟ لقد اشتقت لرؤية تلك العائلة !"
تنفست بصدر منهك من الاحزان التي تقبع بأعماقه وهي تمسك بيديها تطوقهما معا هامسة بابتسامة دافئة بعطف 
"ما هذا الكلام يا صغيرتي ؟ ألم نغلق صفحة الحزن من قبل بمنزل قيس ؟ لماذا عدتي لفتحها الآن ؟ وايضا لقد احزنتني كثيرا...ألم اكن انا كل عائلتك ! ماذا حدث الآن ؟ بالإضافة بأننا لا نحتاج لعائلة متكاملة لنكون سعداء فهناك انا وانتِ وصفاء كذلك ! نحن بالفعل عائلة سعيدة بدون الحاجة لوالدين او منزل يطير فوق السحاب او اخ ذكر يكملنا ، يكفي ان نكون سعداء ومرتاحين لنجعل عالمنا اجمل ، صحيح ؟"
عضت على طرف ابتسامتها تخنق ضحكتها الباكية وهي تدنو برأسها لتستقر نائمة فوق ساقيها ، لتزفر انفاسها بهدوء وهي تخفض جفنيها على دموعها الراكدة هامسة بجرح مرير
"هل اخبركِ شيئاً ؟ يا ليتنا لم ندخل بيت الخال محراب ، يا ليته لم يظهر بحياتنا يوما ، يا ليتنا لم نجرب تلك السعادة والرفاهية والاشياء التي كنا نفتقدها بحياتنا ،  يا ليتنا لم نطمع بالمزيد حتى اذينا انفسنا ، يا ليتنا بقينا نعيش بتلك الحارة للأبد ، بذلك الفقر والظلام وبتلك الحجرة الصغيرة ، ربما كنت سأشعر بالفراغ والوحشة طيلة حياتي ولكنها افضل من كسور القلب ومن حريق وجعها فلا شيء يستطيع مداواتها ! الجميع يعرف بأننا قد خرجنا من ذلك المنزل بسبب دخول قيس للسجن ، وانا اتمنى لو انني انا التي دخلت السجن بدلا عنه عندها قد استطيع دفع ثمن ذنوبي والرقود بسلام للأبد !"
انفرجت شفتيها باضطراب وهي تمسح على شعرها بيدها قائلة بوجل صارم  
"بعيد الشر عنكِ يا ماسة ، بعيد الشر عنكِ ، ما هذه الكلمات المجنونة التي تهذين بها ! من اين يأتي هذا الكلام على لسانكِ ؟ لا اريد سماع المزيد من هذا الهراء فأنا عندي احزان وهموم تكفيني عشرين سنة للأمام حتى اهرم ، وايضا بكل موقف وحدث يحصل بحياتنا اعلمي بأن هناك حكمة من كل هذا لم تظهر ولم تحدث ألا من اجل ان تري فائدة هذه الحكمة ، لذا احمدي الله كثيرا على نعمة الصحة والقوة وافخري بما تملكينه انتِ بين يديكِ غير موجود عند الآخرين"
حركت رأسها بشبه إيماء وهي تضم يديها امام صدرها وتدفن احزانها ومخاوفها تحت رأسها لتستمتع بهذه اللحظة ، بينما كانت (روميساء) تهمس بتذمر وهي تتخلل اصابعها بشعرها الناعم 
"انظروا لهذه الحالة ! انا المريضة هنا وانا التي اصبحت اطمئنكِ واعتني بكِ بدلا من ان تفعلي ذلك معي ! فمن هي المريضة الحقيقية بيننا الآن ؟"
همست (ماسة) بخفوت متبرم وهي تقلد نبرتها بالكلام
"لقد سمعتكِ على فكرة"
اتسعت ابتسامتها بعطف وهي تمسح على شعرها بترنيمة حزينة وكأنها الترنيمة التي عاشوا عليها طيلة حياتهما بدون ان يكسرها احد او يفسد جمال اوتارها .

نهاية الفصل.........

بحر من دموع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن