دخلت للجناح باقتحام وهي تراقب فريستها التي كانت تجلس على الاريكة باسترخاء وتضع ساق فوق الاخرى بخيلاء ، لتتحرك قدميها نحوها بشكل آلي وهي تحدد هدفها المنشود على بعد امتار منها وتقلص المسافة بينهما ، وما ان وقفت بالقرب منها حتى اخذت وقتها بتأملها ببرود جليدي وجذب انتباهها لها ، لتصل لمرادها ما ان رفعت الجالسة عينيها عاليا بحيرة وهي تخفض ساقيها وتعتدل بجلوسها باستقامة .
قالت (سلوى) بعدها بابتسامة ملتوية بعلياء وهو تلوح بأصبعها نحوها
"ماذا هناك يا ضرتي العزيزة ؟ هل اتيتِ للبحث عن زوجك عندي ؟ هل تحتاجين لمساعدتي باستعادة زوجك لحضنك وسريرك ؟!"
غامت ملامحها بسحابة اكثر سوداوية اخفت ودفنت كل المشاعر بداخلها ، لتقول بعدها بابتسامة مصطنعة تجاري كلامها الساخر برسالة مبهمة
"شكرا على عرضكِ وكرم اخلاقك ، ولكنكِ قد فعلتي الكثير وزدتِ لدرجة لم اعد اعرف كيف ارد لكِ كل هذه الجمائل والذي فاض بها رصيدك ، حقا لقد ادهشتني وابهرتني بشكل غير متوقع !"
ارتفع حاجبيها بعدم استيعاب وهي تهمس بتفكير بدون ان تفقد ابتسامتها
"لم افهم ، ما لذي فعلته انا ؟"
انقلبت ابتسامتها بتقوس وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بجدية تقمصتها بلحظة ، لتقول بعدها بمواجهة مباشرة وهي تظهر شخصيتها الغير مهذبة
"الآن ستعرفين كل شيء فعلته واحد تلو الآخر ، انتِ السبب بإفساد العلاقة الزوجية بيني وبين احمد ، انتِ السبب بزرع الشكوك بقلوبنا بإدخال طرف ثالث بيننا ، انتِ السبب بنزع الثقة وتزعزع ثبات علاقتنا الزوجية ، انتِ السبب بجعلي انقلب على شقيقتي الصغرى وتدمير الوفاق بيننا ، انتِ المسؤولة الوحيدة عن كل هذا ، مسؤولة عن كل دمار احدثته بحياتي ، ولا اعلم ان كان هناك المزيد من الخفايا والافعال التي اضرمتها بحياتي ! هل كان الامر يستحق ؟ هل يستحق ان تدمري حياة الآخرين بهذه الطريقة الرخيصة والحقيرة وتخسري انسانيتك ؟ ان تدمريها بدون ان تشعري بذرة حياء او ضمير !"
اشاحت (سلوى) بوجهها جانبا وهي تمثل عدم المبالاة لتقول بعدها بابتسامة باردة باضطراب داخلي
"بماذا تهذين يا امرأة ؟ هل شاهدتي فيلم عن الدراما تلاعب بعقلك وجعلكِ تصورين الامر بخيالك ؟ من اين لكِ بهذا الكلام والثقة حتى تتهميني بهذه الطريقة القاسية ؟ عليكِ ان تراجعي نفسكِ قبل ألقاء مثل هذه التهم على ضرتك وإدانتها بأفعالك......."
قطعت كلامها بشهقة مصدومة ما ان قبضت على ذراعها لتدفعها للوقوف امامها بعنف وكأنها تواجه شخصية وحشية خرجت عن صورتها ، وقبل ان تعطي ردة فعل على اسلوبها سبقتها بصراخ ضاري وهي تهزها بتأنيب
"توقفي عن التظاهر بالحماقة فقد كشفت كل ألاعيبكِ ومكائدكِ ! كنتِ تستطيعين خداعي سابقا ولكن ليس بعد الآن ، فهذه التي امامك ستحاسبك على افعالكِ وكل ما اقترفته يديكِ بحق حياتي الزوجية والشخصية ، فأنا لن اتنازل عن حقي باستعادة كرامتي ومكانتي وحقوقي التي سلبتها مني وقلبي الذي تلاعبتِ به ، ولكن اكثر ما يزعجني ويقلب بعقلي لماذا فعلتِ كل هذا بي ؟ لماذا تكنين كل هذه المشاعر السوداوية نحوي حتى جعلتي من نفسكِ ظالمة ؟ ما لذي فعلته لكِ حتى تكونين بكل هذا الشر والحقد ؟ لدرجة ان تدخلي رجل غريب بيننا وبعائلتنا فقط لكي تدمري حياتي ! هل انتِ انسانة سوية ؟ هل انتِ انسانة حقا ؟"
تلبدت ملامحها بصمت بقناع الحقيقة وهي تمسك يدها على ذراعها قائلة بشحنة كراهية خلف ابتسامة حاقدة
"لأنكِ سلبتني حياتي ! سلبتني كل ما املك ! الحب والعائلة والطفل ، لهذا انا اكرهكِ ، اكرهكِ بشدة"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بذهول غزى محياها وكأنها تستمع لمجنونة غذت قلبها بالحقد وقست على روحها بالكراهية ، وما هي ألا لحظات مرت بينهما حتى قصف صوت بالمكان بعد ان تفاجئ بذلك المشهد الحي امامه
"ما لذي يحدث هنا ؟ هل كنتما تتشاجران ؟"
خرجت (سلوى) من الموقف بدهاء وهي تسحب ذراعها بعيدا عنها قائلة بثورة مفاجئة وهي تشير لها باتهام
"انظر لها يا احمد ، هذه المجنونة قد جاءت لجناحي لتهددني وتلصق بي اتهامات حقيرة لا علم لي بها ! فقط لأنها شعرت بالانهزام والخذلان منك بدأت بشن الهجوم عليّ ومضايقتي بتصرفات غير مهذبة وقليلة الحياء ، انا اعتقد بأنه عليك بالتحدث معها ومعالجة مشكلتها لكي لا تتجرأ على التهجم عليّ واستخدامي اداة بإفراغ غضبها......."
قاطعتها (روميساء) بنبرة مصدومة وهي تنظر لها بازدراء واضح
"كفى كذباً ! ألم تكتفي من الكذب بعد ؟ كم تملكين من حيل تريدين لعبها بحياتك ! ألا تتغيرين ابدا ؟ حقا انتِ مجرد فاجرة لا تستحق الرحمة عليها......."
صرخ (احمد) بقوة حتى هزت اركان المكان وهو يلوح بذراعيه بصدمة مما يراه
"اخرسا كليكما ، هل تسمعان نفسكما ما تقولان ؟ ما لذي اصاب عقلكما ؟ ما لذي يجري هنا ؟ ألا يملك اي احد تفسير لما يحدث بينكما ؟"
نظرت له (روميساء) بقوة وهي تقول بثقة بالغة وكأنها لم تعد تتأثر من اي شيء يجول حولها
"انت ابقى خارج الموضوع يا احمد ، فهذا النقاش بيننا ، وانت لا علاقة لك بما يدور بيننا ، لذا اخرج من هذه المسألة ولا تتدخل بها"
قطب جبينه بجمود قاسي وهو يتقدم نحوهما بخطوات واسعة وكأنه يتحداها ان تعارض ، ليقف بعدها مقابل لها وبينهما وهو يقول بتصلب جاد غير دفة الحديث
"ماذا ستفعلين يا روميساء ؟ ماذا ستفعلين إذا تدخلت بهذه المسألة ؟ هل ستحاولين امساكي والصراخ بي كما تفعلين مع سلوى ! هل ستطردينني من الجناح بأكمله لكي لا اتدخل بمسائلك الشخصية ؟ اجل ماذا ستفعلين ؟!"
ضمت شفتيها بامتعاض صامت بدون ان تتأثر من هالته الوحشية وهي ترفع ذقنها قائلة بهدوء تحسد عليه
"إذا لم تبتعد من امامي يا احمد فقد تضطرني للبوح بأسرار وامور قد لا ترغب بسماعها ! وقد تندم على امور كثيرة بحياتك حدثت امام عينيك ولم تعيرها انتباه ، لذا ارجو ان تتفهمني وتترك غضبك وغرورك بعيدا بهذه المسائل فأنا لا اريد اقحامك بها"
ارتفع حاجب واحد بحدة وكأنه لم يسمعها وهو يتقدم اكثر خطوتين قائلا بنبرة جادة بتحدي سافر
"وانا على استعداد لسماع كل كلامك بآذان صاغية ، ولن اتحرك من مكاني قبل ان اعرف كل شيء تطمرينه بقلبك وتخفينه عني ، فليس هناك اسرار بيننا يا روميساء ومن حقي ان اعرف كل شيء يحدث تحت سقف منزلي ، سواء كان بينك وبين نفسكِ او بينكِ وبين زوجتي الاخرى !"
عقدت حاجبيها السوداوين بحد السيف بجمود قبل ان تحرك كتفيها بعدم اهتمام قائلة بقتامة
"كما تشاء يا احمد ، سأنفذ طلبك بكل رحابة صدر ، الحقيقة بأن ضرتي سلوى ، اعتذر اقصد زوجتك الأولى سلوى ، قد خدعتنا جميعا وحاكت الحيل بيننا بهدف تدمير علاقتنا الزوجية ونزع ثقتنا ببعضنا ، اولاً هي التي ارسلت عنوان منزل يوسف لك ، وثانياً هي التي قامت بدعوة يوسف لحفلة زفاف غزل ، وثالثاً هي التي احتفظت بقلادتي كل هذه المدة منتظرة الفرصة المناسبة لتسلمها لك وتزعزع الثقة بعلاقتنا ، لقد كان كل هذا من تخطيطها وعملها هي ، وكل هذا لأنها تكرهني وتحملني مسؤولية سلبي حياتها وخطفك منها ، هل تصدق كلامي الآن ؟"
ما ان انهت كلامها حتى غيم الصمت بين ثلاثتهم بأسلاك مشحونة بالمشاعر السلبية فتحت الغطاء عنها ، لتتدخل (سلوى) من فورها وهي تتمسك بذراع الجدار الواقف بينهما قائلة بدفاع شرس غير واعي يدفعها الخوف من الخسارة
"لا تسمع لها يا احمد ، فهذه الفتاة مجنونة مثل شقيقتها الصغرى ! ويبدو بأنها عدوى بعائلتهم ان ينقلوا الجنون لبعضهم ويرموه علينا لنتحمل نحن مشاكلهم النفسية ! وهذا بسبب تجاهلك لها وكشفك لحقيقتها لهذا جعلتني ضحيتها لتلصق بي بلاويها وافعالها لكي لا تخسر مكانتها امامك وتُخرج نفسها بريئة وانا الشيطانة ، فأنا اعرف هذا النوع من الفتيات اينما اراه والذي يحاول بشتى الطرق اختراق حياة الناس والتملق عليهم بأساليب رخيصة ، وانا اقول لك دافعها الحقيقي من اجل ان تحمي علاقتها بهذه العائلة وتحمي علاقتها المشبوهة بيوسف......."
قاطعتها (روميساء) فجأة وهي تنفض ذراعيها بعنف صارخة بصوت ساخط
"كفى تقليل من قدر نفسك ! كفى انحطاط وانعدام اخلاق ! اللعنة عليكِ"
اضطربت ملامح (سلوى) لأول مرة لدرجة توارت بها خلف كتف الجبل الصامت بينهما وكأن قوتها قد تداعت بلحظة وبإهانة كبيرة بحقها ، ليخرج بعدها عن صمته الجبل الصامد بينهما وهو يوجه كلامه للواقفة امامه قائلا بعملية جادة
"كيف عرفتي كل هذا ؟ من اين لكِ بكل هذه الثقة بألقاء مثل هذه الاتهامات الكبيرة على سلوى ؟ هل لديكِ ادلة او براهين تثبت كلامك !"
رفعت حدقتيها المتسعتين نحوه ببهوت وهي تدرك لأول مرة حقيقة ما تفوهت به ، لتدير بعدها عينيها جانبا وهي تقول بهدوء مشتد
"هذه الامور تخصني وحدي ، فقد اجريت تحريات خاصة وكشفت كل ألاعيبها وحيلها ، ولم يأخذ الامر مني مجهودا كبيرا لأدرك نوع الفخ الذي وقعت به بكل سذاجة"
ارتفع حاجبيه ببرود ساخر وهو يميل نحوها قليلا قائلا بخشونة هادرة لا تقبل الشك
"دعيني اخمن لكِ من هو وراء كل هذه التحريات ، يوسف وراء كل هذا صحيح ! هو من دفعك لهذا الجنون واقحم اسم سلوى بحربك وجعلها الطعم ! وانتِ بكل سذاجة صدقته ووثقت بكلامه بدون الرجوع لأحد آخر ، إلى متى ستتركين ذلك الرجل يسيطر عليكِ وعلى تفكيرك ؟ إلى متى ستقحمينه بمشاكلنا الشخصية وبحياتنا الخاصة ؟"
نظرت له بغيوم ضبابية اخذت مساحة بقلبها وهي تهمس بخفوت مستاء بائس
"انت لا تصدقني ! لا تصدق اي كلمة مما اقوله ! ولا تريد تصديقي"
رفع رأسه عاليا يحاول تمالك اعصابه لوهلة ليعود بعدها بالنظر لها قائلا بثورة مملوءة بالكثير
"لست لا اصدقك انتِ ، بل لا اصدق كلام من يقف وراء ظهرك ، من تعتمدين عليه وتأخذين كلامه وتصدقيه وبعدها تلقينه على اسماعنا ! انتِ حتى تثقين به اكثر مني ومن الجميع ! ماذا فعل بكِ حتى تثقي به كل هذه الثقة ؟"
ردت عليه (روميساء) باندفاع لا إرادي وهي تضرب بقبضتها على صدرها بقهر
"لأنه مختلف عنك بكل شيء ، لأنه يمنحني الثقة التي احتاجها ويصدق كلامي ، يتكلم معي بالمنطق والعقل وليس باندفاع احمق وبغرور رجولي متملك ، انت حتى لم تصدق كلمة واحدة من كلامي ! لم تتعب نفسك بالتفكير ولو قليلا بصحة ما قلته وباحتمالات حدوثه ! لم تحاول ولو قليلا مجاراتي واعطائي بعض التفهم والرفق والرحمة ، كيف تقارن نفسك به وانت لم تعطني اي شيء ؟ لقد ظننتك كل حياتي وملاذي وملجئي ولكنك كنت عكس ذلك تماما فقد كنت عذابي وجحيمي الذي حرقتني به طيلة تلك الاشهر !....."
رفرفت بعينيها برجفة خطيرة ما ان لمحت الكف العالية التي كانت تنوي التوجه لها ، ليقبض بعدها عليها لوهلة قبل ان يخفضها للأسفل بعنف وكأنها تضربها من بعيد حركت احشائها من الداخل ، لتفيق بعدها على صوته الجاف وهو يقول بوجوم اكتسح الاجواء بينهما
"كفى يا روميساء ! لا اريد سماع اي هراء عن هذا الموضوع ! واسم هذا الرجل لن ينطق به اي احد منكما على شفتيه ، لأني اقسم بالله لن يخرج احد من هذا المكان سليم ، وهذا التهديد لا مزاح او عبث به !"
اعتلت ابتسامة ساخرة محياها وهي ترفع اصبعها الطويل نحوه قائلة بتغطرس وكأن قوة اخرى تتملكها
"انت لن تصدقني الآن يا احمد ، ولكن سيأتي الوقت الذي ينكشف به كل شيء ويسقط الستار عن الحقائق ، وعندما يحدث هذا لن اكون موجودة بجانبك لأنني سأكون بعيدة المنال عنك ، وبهذا الوقت استمتع بحياتك القصيرة !"
تنقلت بنظرها بينهما بعينين مغدورتين وهي تستدير على عقبيها لترحل بعيدا عنهما خارج الجناح بأكمله بعد ان قلبت الطاولة على زوجها وضرتها ، فقد نسوا بأن جينات والدتها ما تزال متحكمة بها ولها الأولوية بالسيطرة عليها عند لحظات الغضب والشعور بالغدر والخيانة عندها يخرج ظل الشيطان ليعيث بالأرض فسادا .
افاق (احمد) من دوامة افكاره على اليد الناعمة التي كانت تربت على كتفه وهي تقول بلطافة تحاول تحسين مزاجه
"انسى ما قالته تلك المختلة عقليا ! فهي تعاني من حالة جنون عالية المدى ، وقد تطورت حالتها بعد هجرانك لها ونبذها......"
انتفضت بعيدا ما ان استدار نحوها بقوة وبملامح قاسية وهو يعقب قائلا بجمود كاسر بتهديد مبطن
"اسمعي كلامي يا سلوى وتذكريه دائما ، إذا عرفت بأن لكِ اصبع واحد بهذه الاتهامات التي وجهتها نحوكِ روميساء ، فأنا اضمن لكِ بأن نهايتكِ لن تكون هينة وسأتأكد بنفسي بجعل حياتكِ تنغمس بالجحيم ، وعندها لن يكون هناك رحمة او رأفة او عشرة بيننا وستكون الحقيقة هي القاضي بيننا ، لأنكِ لن تعودي بعد تلك اللحظة زوجتي"
فغرت شفتيها بأنفاس مشدوهة برعب شل حركتها وهي تراقب الذي غادر بعيدا عنها خارج المكان يتبع الاخرى ، لتجلس بارتجاف فوق طرف الاريكة وهي تمسح وجهها بتعرق غزير وبخوف من انكشاف الحقيقة التي ستكون الضربة القاضية على حياتها التي جاهدت للحفاظ عليها بكل الاساليب والطرق الغير مشروعة حتى اصبح الغفران صعب المنال .
________________________
وقفت امام باب غرفة المكتب وغرفته الخاصة التي يقضي فيها معظم وقته إذا لم يكن كامله ، فهي بعد تلك الليلة التي دمر فيها وفاقهما وقطع عقدها الثمين اصبح الجفاء يغيم بينهما بحلقات مفرغة ونادرا جدا ما يتقابلان سويا وخاصة بعد عودته للعمل بالجامعة ، وغالبا ما يجتمعان بجلسات الطعام او بجلسات معارف واصدقاء العائلة الذين ما يزالون يتناوبون على زيارتهم ، وهذه كانت بداية زواجهما العظيم الذي لم يمر عليه سوى اسبوعين والقادم اظلم .
طرقت على باب المكتب بأدب وخوف ما يزال يعبث بأطرافها ويسبب لها عصر هضم من المخاطرة التي اقدمت عليها ، ولكن كيف لها ان ترفض بعد ان طلب منها بجلسة العشاء الصامتة ان تتوجه له فور الانتهاء من توضيب السفرة بأمر نافذ لا يقبل الجدال ! فهي لا تريد ان تسبب المزيد من المتاعب لرأسها وتجلب وجع القلب لها فقد اصبحت طاقتها تخبو وعزيمتها تخور .
فتحت (غزل) باب الغرفة ما ان سمعت الإذن بالدخول لتدلف بعدها للداخل بخطوات حذرة وهي تحدق بالأرض اسفلها ، وما ان طال الصمت بينهما لحظات اخرى حتى قطعها الجالس خلف المكتب قائلا بعملية وكأنه بوسط محاضرة
"جيد بأنكِ حضرتي اخيرا ، لقد ظننت نفسي سأنتظر طويلا حتى تقرري المجيئ ، بالرغم من ان الامر استغرق منكِ عشر دقائق بالقدوم ، ولكن لا بأس فأنا معتاد على هذه التصرفات الغير منضبطة منكِ"
عضت على طرف شفتيها بامتقاع وهي تمتثل للصمت التام منتظرة انتهاء هذه المحاضرة العصيبة والتصريح بطلبه ، ليعود بعدها للكلام مجددا بصوت اكثر تراخي وخفوت
"أليس كلامي صحيحاً ؟ يا سلحفاة !"
ابتلعت ريقها بارتباك ما ان وصلتها كلمته الاخيرة بذلك اللقب اللعين الذي كان يمثل لها كل الغضب والاستياء سابقا عندما يخرج منه بسخرية متسلية ، ولكن الآن وهي تسمعه بتلك الطريقة الجافة التي تخلو من كل انواع المشاعر وبالشوائب التي تحوم بينهما لا تستطيع الشعور سوى بالحزن والضيق الشديد يحاصر بها بزاوية ضيقة ويكتم عليها بقوة .
مسحت يديها بثوبها القطني وهي تهمس بخفوت باهت بدون اي حياة
"لقد استدعيتني للكلام ، هل هناك امر هام تريد التكلم معي عنه ؟"
صمت للحظات قبل ان تسمع صوت تحرك الكرسي للخلف قليلا ليخرج صوته بحزم جاد
"لقد اتخذت قرار وكنت اريد ان تسمعيه مني بشكل خاص لأنه يتكلم عن حياتك شخصياً ، وليس لكِ حق بالرفض او الموافقة لأن الامر مسلم منه ، لذا هل انتِ مستعدة لسماع القرار الذي توصلت له ؟"
اضطربت ملامحها وهي تشعر بنفسها قد وضعت بالوضع الإلزامي بدون ان تستطيع الرفض او الهروب او التقدم او التراجع ، وهذا يعني بأن أياً كان ما سيطلبه منها عليها بالرضوخ له بكل ذل وهوان بدون ان تبدي اي اعتراض على الامر قبل التصريح به ، لتشدد بعدها على يديها وهي تهمس بضعف خائن تسلم امرها لمتناول قبضته
"ماذا تريد مني يا هشام ؟"
ارتفع حاجبيه باهتمام وهو ينجذب لنغمة صوتها العذبة بنطق اسمه القصير والذي يصبح بمذاق آخر بصوتها وكأن آلة موسيقية تعيش بحنجرتها تتلاعب على اوتارها بكل مرة تنطق بها ، ليجمد بعدها مشاعره بمهارة عالية وهو يقول بابتسامة هادئة بحسم
"تعلمين بأنني قد عدت للعمل بالجامعة من جديد وهي تأخذ كامل وقتي وجهدي ، وبما انني لا استطيع اكمال تعليمكِ الجامعي بالمنزل بسبب انشغالي الطويل بالخارج ، فقد قررت ان اعيدكِ للدراسة بالحرم الجامعي وحضور محاضراتك بشكل اعتيادي ، وهذا سيكون لصالح الجميع لكي لا اقلق عليكِ من جهة ولكي تستطيعين مواصلة مسيرتك الجامعية من جهة اخرى"
رفعت رأسها بلمح البصر وهي تصرخ بلا وعي منها
"لا !"
عقد حاجبيه بتصلب بدون اي تعبير يعلو محياه وهو يتجول بنظره عليها بدراسة سريعة ، لتتدارك بعدها نفسها وهي تقول بخفوت ثابت بتبرير
"اقصد بأنني لا استطيع فعل هذا ، فأنا قد تركت الدراسة بالجامعة من اجل مشاكلي الصحية ، وليس من المستحسن العودة لها بعد ان خرجت من تجربة كادت تقضي على حياتي ! لذا ارجوك اعفيني من هذا القرار !"
تجمدت ملامحه بتعبير قاتم وهو لا يفارق التحديق بعينيها الهاربتين بخوف قبل ان يقول بابتسامة حفرت بعمق
"بخصوص هذا الامر فقد تم حله بالفعل ، لقد تكلمت مع طبيبتك الخاصة بحالتك وقالت بأنه لا مانع من العودة للتعايش بين تجمعات الطلاب ، بما انكِ قد تحسنتِ عن السابق وليس هناك اي مضاعفات على وضع قلبك ، ولا تقلقي فأنا سأكون هناك بجوارك لكي اساندك واطمئن عليكِ بدون ان اسمح بمكروه ان يصيبك ، لذا ليس لديكِ اي حجة او اعتراض على عودتك للالتحاق بالجامعة !"
زمت (غزل) شفتيها باحتقان ثارت الدماء بوجهها وهي تقول بممانعة ضعيفة
"ليس عدل ما تفعله بي ! هل كنت تخطط لفعل كل هذا مسبقا ؟ انت لم تخبرني بأنك ستعيدني للجامعة بعد الزواج ! هل فكرت برأيي بكل الاحوال ؟ ام انك تظن بأنك السيد هنا وكلامك عليه ان يسير فوق الجميع بدون ان يصدر احد صوته !......."
ابتلعت باقي كلامها بغصة مسننة ما ان قاطعها بصوت صارم بقوة
"لا تجادلي اكثر يا غزل ، فقد انهيت الامر بالفعل وسجلت اسمكِ ومعلوماتك بقسم القبول بالجامعة بالأمس لكي تستطيعي لحاق فصولك ، فنحن لا نريد ان تفوتي فرصة التخرج من جامعة مرموقة وعريقة ، لذا فعلت ما عليّ وانجزت مهمتي وجاء دوركِ الآن لتجهزي نفسكِ جيدا لبداية الدوام غدا ، وستكون مهمة إيصالكِ وعودتكِ من مهام زوجكِ اليومية بما ان طرقنا ومصالحنا تؤدي لنفس الجامعة والوجهة"
فغرت شفتيها بانذهال وهي لا تصدق سرعة حدوث الامر بدون ان يعطيها الفرصة للاستعداد او الاستيعاب ! وكأنها بساحة سباق سيارات كل شيء يجري بسرعة الضوء بدون ان تأخذ انفاسها حتى ، اخفضت بعدها رأسها للأسفل بانكسار بعد ان فقدت الامل بالانسحاب من الوضع الراهن وهي تهمس بجمود وكأنها تكلم السراب
"لماذا ؟! لماذا فعلت هذا ؟"
غامت ملامحه بطبقة جليدية وهو يضم قبضتيه امامه قائلا ببرود بديهي
"لقد تصرفت حسب الظروف الراهنة وحكمت عقلي بهذه الامور بعيدا عن العواطف ، وايضا ألم تكوني طالبة بالجامعة من قبل واستمريتِ بها حوالي سنتين ؟ لما كل هذا التحفز والاعتراض من العودة للجامعة الآن ؟ هل تعانين من مشاكل اخرى بجانب مرض قلبك وسرعتك بالاستيعاب ؟"
تبرمت شفتيها بعبوس عند آخر كلماته التي يقصد بها سخرية واستصغار وهو يتكلم عن عيوب تعاني منها ، لتمسك بعدها بأطراف ثوبها القصير بتوتر وهي تهمس بكلمات مبتورة
"لقد قصدت بأن الوضع مختلف الآن عن السابق ، فقد تغيرت امور كثيرة عما كانت عليه قبلا !"
ارتفع حاجب واحد بانتباه حاد وهو يسند ذقنه فوق اصبعيه ليقول بعدها بهدوء يجاري سياق الحديث
"اجل وما هو الاختلاف الذي تتكلمين عنه ! هل تستطيعين ان توضحي وجهة نظرك بشكل اكثر منطقية لكي استطيع مساعدتك بهذه الحالة او افهم سبب رفضكِ القوي للعودة للجامعة ؟!"
ابتلعت (غزل) ريقها بجفاف وهي تشعر بالأرض تميد وتموج بها بتيارات عالية قبل ان تستقر على وضع معين وهي تقول بصوت منكسر الاجنحة
"السبب هو بأنني لا اريد العودة للجامعة بعد ان اصبحت زوجة استاذ المحاضرة ، قد يختلقون العديد من القصص والإشاعات عنا ويسمعوني كل ما يسيء لسمعتنا وحياتنا ، ستصبح حياتي اكثر صعوبة عن السابق ، وحينها سأتمنى لو تنشق الارض وتبتلعني او ادفن نفسي تحت التراب بعيدا عن انظارهم وكلماتهم التي لا ترحم !"
اعتلت ابتسامة ساخرة محياه وهو يخفض اصبعيه وعينيه للأسفل قائلا بجدية قاسية
"هذه ليست اسباب بل مخاوف يعاني منها طفل الابتدائية خائف من حضور والديه اجتماع الآباء ! وإذا لم تتجاوزي هذه المخاوف بسرعة فقد تصبح عندكِ عائق بحياتك تحول بينكِ وبين النجاح ، وعندها سيرافقك الإخفاق والفشل بكل طرق حياتك ، وكل ما يجيده امثالكِ من الفاشلين هو جذب الانتباه لهم وإثارة الشفقة والحزن عليهم بسبب عدم محاولتهم من تطوير انفسهم وحبس نفسهم بشرنقتهم ، أليس هكذا هي حالتكِ ؟"
شددت اكثر من ضم حواف الثوب بيديها وهي تشعر بطعنات كلماته تدمي قلبها الصغير الذي فقد انضباط ضرباته ، لتهمس بعدها بكلمتين جارحتين خرجتا منها محملتين بالكره مثل انبثاق البركان
"قاسي القلب"
رفع نظره بسرعة مثل الطلق الناري وهو يلمح نهاية ثوبها القصير بعد ان اختفت خلف الباب بلمح البصر مثل الحلم باليقظة ، ليرجع بعدها رأسه لمسند الكرسي وهو يتأمل السقف بفراغ واسع ليقول بلحظة بهدوء مترقب بدون اي شعور
"كل شيء مخفي ومستتر سيقع الستار عنه ويظهر ، وقد حان الوقت المناسب لظهور تلك الحقائق المخفية والتي مهما كان مدى سوئها وصعوبتها فلن تكون بصعوبة ما اعيشه وادركه !"
_______________________________
قطب جبينه بتركيز وبأعصاب مشدودة وهو ينظر لها عن كثب بدون اي مواربة وكأنه يحاول تحليل جزيئات عقلها وتشريح قلبها القاسي ، بينما الجالسة بالأريكة المجاورة تضع ساق فوق الاخرى تمثل الخيلاء والثقة اقرب للغرور والفجور وهي تحدق به بعزيمة لا تحدها عائق ، قطع بعدها الصمت الخانق وهو يقول بصوت خفيض بدون ان يخفي الخذلان به
"ماذا تريدين ؟"
تحرك التمثال الجامد وهي تضم اصابع يديها امام ركبتها قائلة بصوت انثوي جذاب بدون اي مقدمات
"اريد منك ان تفسخ الخطبة وتفسد حفل الزفاف ، فأنا لا اريد ان يتم هذا الزواج"
تجمدت ملامحه وهو يدير حدقتيه بعيدا بعد ان صرحت بنواياها والتي يعرفها منذ اول مرة قابلها بها وهي تقولها بكل صفاقة ليست غريبة عنها ، ليخفض بعدها رأسه بصمت خاوي تعبأ بصدره وهو يقول بكلمة واحدة بلوم واضح
"لماذا ؟!"
اشتدت ملامحها القاسية وهو يشعر بهالة حرارتها تصل له بوضوح عندما يحاول احدهم العبث معها او كسر كلامها ، لتقول بعدها بصوت طبيعي وهي تتصرف بتلقائية فظة
"هل هذا سؤال ؟ انت اكثر من يعلم برفضي عن هذا الزواج التقليدي رفضاً قاطعا وعدم قبولي بهذه الفكرة من بدايتها ! فأنا ببساطة واقعة بالحب من شخص آخر اعلى مستوى منك ويستحق قلبي الذي اصبح صريع هواه ، لذا لا استطيع الاستمرار بهذا الزواج وقلبي معلق بغيرك ، ولو كان الامر بهذه السهولة لما استنجدت بك لتلغي انت هذه الخطبة الغبية ! فلا احد يسمع صوتي بالمنزل وخاصة بأن عائلتي تقف بجانبك وتدعمك بكل شيء لأنك ابن العم الغالي والاقرب لقلوبهم لدرجة ان يرحبوا برمي ابنتهم للتهلكة"
تغضنت زاوية ابتسامته بالتواء ساخر يعبر عن الألم الغائر بقلبه والذي اجادت غرسه بنقطة ضعفه ، لينظر بعدها لقبضتيه المتصلبتين بشرود وهو يقول ببهوت جاف مجرد من الحياة
"الامر ليس بهذه البساطة كما يصور خيالك ! بالإضافة بأن كل من العائلتين قد اتفقتا على كامل التفاصيل والتجهيزات بخصوص حفلة الخطبة وليلة الحنة وحفلة الزفاف ، وإيقاف كل هذا الآن سيكون بغاية الصعوبة وقد يسبب مشاكل وعواقب وخيمة بين العائلتين ! هل تفهمين حجم المصيبة التي ستوقعين بها ؟"
ارجعت رأسها للخلف وهي تحرك كتفيها بميوعة هامسة بعدم اهتمام وكأنها غير مسؤولة عن شيء
"هذه ليست مشكلتي ولا شأن لي بكل هذه الامور ، كل ما اريده هو ان تمنع اتمام هذا الزواج وتوقفه بأي طريقة ، وألا انا من سأجعل النتائج وخيمة على الجميع ! لذا اطلب منك لآخر مرة ان تنهي هذا الزواج"
تنفس (هشام) بكبت مرهق قلبا وقالبا وهو يقول بانفعال مندفع وبذهن مشتت
"ليست هذه المشكلة الوحيدة يا ميرنا ، فالأمر لا يتعلق فقط بوفاق العائلتين والقرابة بينهما ، فأنا كذلك اريد لهذا الزواج ان يتم ، ارغب بأن تصبحي زوجتي بالشرع والقانون وتكوني تحت سقف منزلي ، انا ، انا احبكِ ، احبكِ بشدة يا ميرنا ، ولم احب احد غيرك بحياتي بهذه الشدة والقوة !"
انفرجت شفتيها الكرزيتين بدهشة وهي تحرك رأسها بعنف قبل ان تهمس باستنكار حاد بقصد
"ما لذي تتكلم عنه يا هشام ؟ هل جننت تماما ؟ هل سمعت ما قلته لك الآن ! انا احب غيرك ومستعدة ان اقتل نفسي واحرقها ولا اكون لغيره لأن قلبي اسير حبه ، ما لذي تقوله انت الآن ؟ ما لذي تريده مني ! هل تريدون التآمر عليّ وتدمير حياتي ؟ ماذا افعل لكي تقبل الانفصال عني ؟"
تلبدت ملامحه بغيوم ضبابية رعدية تحصر كل المشاعر خلفها وتحجبها بعيدا ، ليقول بعدها بلحظات بصوت اجش عميق
"أليس هناك امل من استمرار هذا الزواج ؟ فهو لا يملك الحق بالحصول عليكِ اكثر مني......"
قاطعته (ميرنا) من فورها باندفاع ضاري وهي تبصق كلامها بعجرفة
"لا تحلم بحصول اي شيء من هذا ! وإذا كنت بكل هذا التبجح والغرور بامتلاكي ، فعليك ان تعلم بأنني قد بعت نفسي لذلك الرجل الذي يكون حب حياتي ، يعني سلمته قلبي روحيا وجسديا وامتلكني قبلك ، لذا لم يعد لك ولو فرصة ضئيلة بالحصول عليّ كما كنت ترغب انت والعائلة الكريمة ، فأنت بالطبع لن تقبل بامرأة باعت نفسها لرجل غريب وكتبت صك ملكيته !"
تجمدت معالم وجهه وكل شيء يدور من حوله بطنين موجع مثل عقارب الساعة بعد ان فجرت قنبلتها الموقوتة واحالت حياته جحيما ، وما ان استطاع اعادة انظمة عقله للعمل حتى كان ينهض عن الاريكة بهدوء شديد استغرق منه دهورا وكأنه قد كبر عشرين سنة للأمام ، ليسحب بعدها انفاسه بحرارة اضاقت على صدره المشحون بطاقة سوداوية وهو يقول بكل جمود وكأنه يشمئز من نفسه
"لقد احسنتِ عملا ! يمكنني الآن الانفصال عنكِ بكل سرور ورحابة صدر ، فقد اكتشفت بأنني قد وقعت بأكبر فخ تعرضت له بحياتي ، وليس من اجل تحقيق رغبتك الدنيئة مع قليل الشرف بل لأني اصبحت اشمئز منكِ ومن نفسي ولا اطيق النظر لوجهك ، وحتى لو كانت هذه خدعة منكِ لتلغي الزواج التقليدي فكلامك لوحده يكفي ليبين نوعك واصل معدنك ، فقد ظننت بأنكِ ستتغيرين عن السابق عندما افتح لكِ قلبي ولكن يبدو بأن الحيوان القذر سيبقى قذر طوال حياته ! وداعا يا ابنة عمي وبلغي سلامي لوالديكِ"
رفع ذراعه عن رأسه وهو يخرج نفسه من تلك الدوامة السحيقة التي لعنته طيلة حياته وهي تفقده الشغف والحب والهيام وكل تلك المشاعر الانسانية من تجربة حب كانت الاسوء على الاطلاق ، ليزفر بعدها انفاسه بظلام الغرفة الفارغة وهو يعيش بظلمة داخلية اكثر بشاعة تسربت لخارج حياته .
استغفر ربه وهو يميل على الجانب الآخر من الاريكة الوثيرة التي ينام عليها بغرفة المكتب ، لتقع نظراته تلقائيا على الباب المغلق الجامد والذي دبت به الحياة عندما خرجت منه صاحبة الصوت الملائكي والذي لا يليق بها تقمص القسوة او الحدة
(قاسي القلب)
ارتفعت طرف ابتسامته بشعور ساخر يتشمت بنفسه وهو يبعد نظره عن الباب ، ليشرد بعدها بالسقف العالي يتوه بمتاهات قدره التي اوقعته بفخين باختلاف كبير بالسمات والصفات ، عاد ليغطي عينيه من جديد يحجب الصور عنه وهو يقول بهدوء خاوي
"من المستحيل ان يتكرر هذا ! لن تكون مثلها ! لن تكون صاحبة القلب القاسي مثل صاحبة القلب المريض"
غطى بعدها بسبات عميق على تلك الفكرة الوحيدة التي يرافقها قلب قاسي تعب من تذوق طعم الخيانة حتى اصبحت شراب حياته اليومية .
______________________________
كانت تحط قدميها داخل اسوار الجامعة الكبيرة وهي تشد بيدها على حزام حقيبتها تستمد منها العون ، لتأخذ بعدها عدة انفاس طويلة اتعبت خفقات صدرها وهي تكمل طريقها بخط مستقيم ممهد ، ولا تعلم لما عادت بذاكرتها لليوم الأول لها بهذه الجامعة التي انتسبت لها واخرجتها من عالمها المغلق لتقتحم المجتمع المحلي وتتكيف بين البشر ، وكم تاهت بذكرياتها الحبيسة التي اخذتها بحنين للحظات جميلة تمنت لو تعود لها يوماً وتنسى كل ما فات وما هو قادم ، فقط كل ما تريده هو ان تستغرق بتلك البقعة وتبقى عالقة بها للأبد مثل حدود دائرة رسمتها بيديها واستقرت بوسطها ، ولكن كما يحدث دائما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فهذا حالها منذ مغادرتها تلك الدائرة والتي ندمت بشدة على تمردها فقط لكي تطارد النجوم .
دخلت (غزل) بناء الكلية بقوة مهزوزة وهي تستعد للقاء الاسوء بطبيعة الحال ، وكما توقعت كانت الانظار تنجذب لها تدريجيا والغير منتبه اصبح يشير له رفيقه للنظر نحوها وكأنها طالبة جديدة وليست متسربة عادت للالتحاق بالجامعة ، وحتى لو كانت طالبة جديدة كان الحال سيكون اكثر سهولة ومرونة عليها وبالأخص مع القصة الجديدة والإشاعات التي بدأت تدور حول حياتها الكارثية ، وكم كانت تبغض تلك النظرات السامة وما تحويه من معاني وسهام طائشة وان تكون محط انتباههم الدائم وعينة دراستهم ، فهذا هو ما علمها من الاختلاط بين البشر واكثر عيوبهم هو الفضول والتدخل بما لا يعنيهم والانجذاب لأكثر الكائنات غرابة وندرة .
ابقت عينيها ارضا بدون ان تجاري سباق النظرات من حولها وهي تتجه للسلالم بخطوات كعبيها العاليين بتلقائية ، وما ان وصلت حتى اوقفها الصوت الانثوي المألوف وهي تقول بمودة مزيفة
"مرحبا ، مرحبا بالطالبة المتسربة التي غابت عن الجامعة مدة طويلة لتعتكف بالمنزل هربا من الشر الموجود بالعالم ، ولكني سعيدة بعودتك لنا سالمة غانمة وبقوة تحسدين عليها ، فما تعرضتِ له بتلك الفترة ليس بالهين واقدر ظروفك ، ولكن الجانب المشرق هي بالغنائم التي ربحتها بنهاية المطاف !"
تنهدت بإرهاق حقيقي وهي تقابل الاسوء الذي كانت تخشى منه والتي لن تتوانى عن مضايقتها وحشر نفسها بتفاصيل حياتها ، فهي تعلم جيدا هوية المتكلم معها والتي لطالما كانت تتعمد مضايقتها منذ انتسابها للجامعة وكأنها دمية تعمل على تفريغ غضبها بها ، لتتحامل بعدها على نفسها وهي تستدير نحوها ببطء وباستقامة على كعبيّ حذائيها ، وما ان استقرت كلتيهما مقابل بعضهما البعض حتى بادرت بالكلام بنفس الصوت الانثوي بغرور متملق
"اعتذر يا صديقتي غزل ، لقد نسيت ان ابارك لكِ زواجك وإيقاع استاذ جامعة كبير بشباكك ، حقا اهنئك على هذا الإنجاز العظيم والذي لم يستغرق منكِ الكثير من الوقت بالنسبة لمقوماتك الشكلية والداخلية ! ولكني ابارك لكِ بالفوز بهذه الجولة وسحق خصومك يا ملكة الدراما"
كشرت ملامحها بشحوب وهي تشيح بوجهها بعيدا هامسة باقتضاب بارد
"الله يبارك فيكِ"
ارتفع حاجبيها تمثل الاندهاش وهي تمسك خصرها بيديها قائلة بابتسامة متحفزة
"ماذا بكِ ؟ لماذا تتكلمين معي بهذه النبرة الجافة ؟ هل يعقل بأنكِ لم تسعدي برؤيتي مجددا ؟ هل نسيتِ بهذه السرعة اصدقائك القدامى وذكرياتكِ معهم ! هل اخذكِ التكبر والتعالي بعيدا عنا واصبحتِ ترين نفسكِ لا تليقين بنا ؟"
نظرت لها (غزل) ببرود وهي تقول بإيجاز تشدد على الاحرف
"انتِ لستِ صديقتي ، ولم تكوني كذلك يوماً !"
امتعضت ملامحها بلمحة خاطفة وهي تقول بابتسامة واثقة تتابع سيطرتها
"يا لكِ من قاسية القلب ! منذ متى اصبحت هكذا غير مراعية لمشاعر الآخرين ؟ ولكني فقط اريد ان اذكرك بأنكِ ما تزالين نفس الطفلة البريئة الساذجة التي تثير شفقة كل من يراها وتجذب اهتمام الجنس الآخر نحوها ، حتى لو تزوجتِ من استاذ جامعتنا او من عميد الكلية ذاته فلن تستطيعي محو ماضيكِ وحقيقتك وبأنكِ مخلوق متطفل يحشر نفسه بحياة الآخرين ويبحث عن مكان بقلوب الرجال......"
قطعت (غزل) كلامها بانفعال مفاجئ بعد ان عبثت بنقاط ضعفها وهي تقول بانفجار فتحت فوهة البندقية عليها
"كفى ، كفى ، انتِ مجرد مغرورة حقيرة تثير اشمئزاز ونفور كل من حولها ! فقط تبحث عن عيوب الغير بدون النظر لعيوبها الخاصة ، تظن نفسها الافضل من الجميع بتغطرسها وعجرفتها ولا تعلم بأنها ما هي ألا نكرة وعالة على المجتمع تلصق فشلها العاطفي وفشلها الدراسي بالآخرين !"
تنفست (غزل) بتسارع عنيف ما ان انتهت من قول كل ما يعتمل بصدرها فاض لسنوات طوال ، لترفع بعدها عينيها العسليتين ببهوت ناحية التي جمدتها الصدمة ونحتت احافير قاسية على محياها ، قبل ان تنفض ذراعيها على جانبيها بحركة عصبية وهي تستعيد زمام الامور قائلة بازدراء غاضب
"هل اصبح لكِ الآن لسان تتكلمين به بكل هذه الوقاحة والصفاقة ؟ من اعطاكِ الجرأة لتتكلمي عني هكذا بدون اي خوف او خجل ؟ هل تظنين نفسكِ قد كبرتي ويحق لكِ الكلام فقط لأنكِ تزوجتِ من الاستاذ ؟ هل يعلم اساسا عن ماضيكِ الغير مشرف مع عصام شرفات والذي ترككِ بعد ان فرغ من التسلية بكِ ؟ هكذا انتِ مجرد تسلية بالنسبة للرجال يعبثون بكِ وما ان يشعروا بالملل حتى يتركونكِ ، وغير معروف متى سيكون الوقت الذي سيترككِ به الاستاذ وتنتهي نزوته العابرة !......"
صرخت بقوة تقاطع كلامها السام الذي جرحها بشدة حتى لفتت الانظار لها
"اخرسي ، ولا تصفي افعالكِ بي !"
صمتت (سامية) بامتقاع وهي تشدد على يديها بنيران نشبت بخلدها من الإهانة العلنية امام كل طلاب القسم ، لتقول بعدها بصوت خفيض حاولت شحنه بكل كراهية تحملها بقلبها نحوها منذ سرقتها حبيبها من سنتين
"عليكِ ان تكوني شاكرة وممنونة لي طول حياتك ، فأنا التي كنت السبب بتقريبك من الاستاذ هشام والجمع بينكما عندما حُبستي بذاك المختبر ، وهذا يعني بأن كل شيء حدث لليوم وتحولت له حياتك كان بفضلي انا !"
رفعت وجهها بارتجاف وهي تستوعب الصاعقة التي ضربت رأسها بلمح البصر ، لتهمس بعدها بصوت خافت بارتياع
"ماذا تعنين ؟"
"ما لذي تفعلانه بالوقوف امام السلالم ؟ انتما تعيقان حركة الطلبة بالوقوف هكذا"
قصف صوت صارم بالممر قشعرت له الابدان وهو يلفت نظر الجميع له ما عدا الجامدة بمكانها والتي فضلت الصمت والشرود بالفراغ بعيدا ، وبعد ان اصبح بالقرب منهما حتى قال بهدوء جاد وعينيه تطوفان على جانب وجهها الغائب عنه
"ما لذي يحدث هنا ؟ أليس لديكما محاضرات ؟!"
امتعضت ملامح (سامية) وهي تدير وجهها بعيدا تتلاعب بخصلات شعرها بعدم اهتمام ، واما (غزل) فقد وجهت حدقتيها الغائمتين نحوه بمزيج من المشاعر طفت على السطح حتى جمدته بمكانه تأسره بهالتها الحزينة بطبيعتها الساحرة ، وكأنها تحمله كل الذنب واللوم وبعض العتاب بينهما بما اصابها الآن وبكل سنوات حياتها ، وهو لا يعلم كيف تستطيع اضعافه بهذه الطريقة وشل خيوط افكاره الذهنية لتنقل حزنها القاتل لقلبه برادار مشاعرها !
تغضن جبينه بتصلب ما ان استدار ذلك الوجه وتلك العينين عنه وكأنها تخاصمه بصمت ، وبعد مرور لحظتين كانت تصعد فوق درجات السلم وهي تكمل تخبطها بحذائيها ذو الكعبين العاليين والذين يصدران صدى بكامل المكان لا يضاهي ما تثيره بدواخله وتحركه بأحاسيسه المقترنة بها ، فبالرغم من انها ليست اجمل فتيات الارض وهناك من تفوقها جمالا وحسنا مثل قريبته التي وقع بحبها سابقا ولكنها مع ذلك تبدو انثى لا مثيل لها ومميزة بشكل استثنائي يجعله يقف عندها متأملا مغرما حتى ينجرف بدراستها روحياً وعقلياً .
_______________________________
حك جبينه بضيق مرهق حد الصداع وهو يتأمل شاشة الحاسب المضيئة التي تمتلئ بحسابات الشركة والتي لا تستطيع محو الصور المغروسة بعقله خانت قلبه وخدشت رجولته ، ليضيق بعدها حدقتيه الرماديتين بسطح صلب مصقول بعواطف هادرة قلعت جذوره من اصلها ، ولا احد يرى تلك النيران القاسية التي اندلعت بداخل اعماقه حبست كل شعور خارجي عنه ، حتى اصبح العمل هو السبيل الوحيد للفرار من تلك التكتلات النفسية والمعنوية التي هدت روح الحياة به .
افاق على الشاشة التي اظلمت فجأة بانعكاس ظلام عينيه وكأنها استشعرت رادار الشعور عنده ، ليتغضن جبينه بجمود لوهلة وهو يعبث بالأزرار بدون اي استجابة قبل ان يكتشف بأن شحنه قد فرغ بدون ان ينتبه له .
زفر (احمد) انفاسه بكبت وهو يتمتم بصوت مشحون بقهر
"تبا لك ، هذا فقط ما كان ينقصني !"
نهض عن الاريكة وهو يحمل الحاسب تحت ذراعه ليتجه بعدها خارج الغرفة ، وما ان تجاوز الباب عدة خطوات حتى تسمر بمكانه قليلا وهو يسمع الصوت المغتاظ ببكاء مكتوم
"ارجوكِ يا امي ، توقفي ، توقفي ، توقفي عن لومي بكل شيء !"
التفت بوجهه وهو يصوب نظراته نحو الغرفة المجاورة والتي تقبع بها زوجته حادة الطباع والمزاج وهي تكلم امها الاكثر شرا منها ، تعقدت ملامحه بتشابك وهو يشعر بحوار هام يخوض بينهما خاصة مع نبرة صوتها العنيفة ببكاء حاد لا يسمعه سوى بأسوء اوقاتها سوداوية ، ليتغلب المنطق على تفكيره وهو يقترب من باب الغرفة المفتوحة بشق طولي صغير يستطيع ان يمرر كلامها والذي ينخر الجدار بحدته .
وقف (احمد) على بعد سنتمترات من الباب وهو يسترق السمع للصوت كثير البكاء والشكوى وهي تقول بحدة اكبر والهاتف على اذنها
"امي اسمعيني ، اسمعيني رجاءً ، انتِ لا تعلمين اي شيء مما يحدث معي بالمنزل ، لو اني لم اقدم على فعل كل هذا لما تبقى هناك زوجة ولا حبيبة ولا ابنة بهذه العائلة والتي لم تعد تراني بينها وكأنها قد استولت على عقولهم بسحر جمالها الملعون والذي سلبني كل شيء بحياتي !"
غامت ملامحه بتلبد وهو يدرس كلامها بعقله والذي اصبح يسترجع كل كلام (روميساء) والتي هاجمته بالأمس بشراسة لبؤة وباتهامات كبيرة جارحة ، ليقبض بعدها على يديه المتصلبتين بانقباض سحيق وهو يتجاوز حدود الحياء والأدب ليتابع تسمعه على زوجته التي بدأت تنطق وتعري بالحقيقة ، لتكمل بعدها حوارها مع والدتها وهي تصرخ باستنكار حاد وكأنها تنفي التهمة الموجهة لها
"اخبرتكِ يا امي بأنني كنت مرغمة ! لقد اضطررت لارتكاب كل تلك الافعال لأحافظ على نفسي ومكانتي اولاً ، ولكي امحي من وجودها واكسر من مميزاتها ثانياً ، فهي ليست فقط اخذت مني شرف الحصول على لقب ام اطفال احمد بل هي اخذت ايضا لقب الزوجة المفضلة عند احمد ، فهو قد اخبرني بلسانه بأنه لو كان قد قابل روميساء اولاً بحياته لما فكر بالزواج بي واستبدالها ، يعني انا مجرد عائق بحياته ، مجرد فاصل لا اهمية له بينهما ، كيف تريدين مني ان اتمالك نفسي بعد تلك الكلمات ؟ كيف تريدين مني ألا احمل الضغينة والكره نحوها وهي التي كانت لا تسوى شيء قبل دخولها لهذا المنزل والذي دمرته فوق رأسي ؟!"
تنهد بتعب وهو يدير وجهه بعيدا بذنب عصف بصدره لأول مرة وكأنه انتهك حقها بعدم تقديرها بحياته ، وما ان كان على وشك الانسحاب وتركها تفضي بهمومها بعد ان دخلت بنوبة بكائها الحادة ، حتى عاد للتوقف من جديد بصدمة جمدت اعضائه الحيوية عندما عادت للكلام بصوت امتلئ بالحقد بثانية واحدة
"لهذا قتلت طفلها ، لكي تشعر بذاك الألم ، الألم بعدم القدرة على إنجاب طفل واحد ! لقد كانت تستحق هذا لكي لا تحاول سرقة الفرحة مني ، لكي تحزن وتبكي كما حدث معي لسنوات لم استطع بها إنجاب طفل واحد لهذه العائلة ، أليس هذا اكثر عدلاً ؟ ألم افعل الصواب بتصرفي ؟"
ارتفع حاجبيه بذهول امتزج بغضب اسود بدأ يلتهب على مسامات ملامحه ويلامس براكين قلبه الذي ما يزال متألم على طفل لم يكتب له الولادة ، ليخفض بعدها جفنيه المثقلين بصمت قاتل تعادل عن شهور بحياته مرت بلمح البصر ، ولم تكتفي بذلك وهي تتابع الثرثرة بنبرتها الحاقدة على شكل سكاكين تصوبت نحوه وحقنت السموم به
"ولكن لا تقلقي يا امي ، فلا احد يستطيع ان يكشف امري ، ولا حتى ذاك المدعو يوسف ، فما لا تعلمينه بأن احمد يكرهه بشدة ويتمنى له الموت ، وقد ظن بأنه بإفصاح افعالي امام روميساء سيفتضح امري ويصل لأحمد والذي لم يصدق أياً من كلامهما ! فقد ساعدني بفعلته بأن دمر الثقة بين الزوجين وانهى على الرابط المتين بينهما ، يعني كل شيء محلول عندي ، لذا لا تخافي ولا تقلقي فكل شيء على ما يرام وتحت السيطرة"
فتح عينيه المبصرتين بحدة صقر متربص وهو يستدير امام الباب ، وما هي ألا لحظة سيطرة حتى كان يقتحم الغرفة بقوة اكبر مما توقعها وكأن طاقة عقله قد انتقلت لطاقته البدنية ، وما ان دلف للداخل حتى لمح الجسد الذي استدار نحوه بذعر تجلى على محياها وهي توقع الهاتف من يدها .
بعد عدة لحظات صمت خانقة كان يقطعها الصوت الاجوف والذي خرج من التمثال الواقف امامها
"ماذا بكِ ؟ لماذا تجمدتِ هكذا ؟ هل رأيتِ شبح الموت امامك ؟"
حركت (سلوى) رأسها بضياع وهي تمسح الدموع عن وجنتيها هامسة بخفوت مضطرب
"لا ، ليس هناك شيء ، فقط اشعر بالضيق قليلا"
ارتفع حاجبيه باهتمام جليدي وهو يميل برأسه جانبا قائلا بتفكير جاف
"اجل هذا واضح من الدموع التي تملئ عينيكِ وكأنكِ فقدتِ طفلكِ للتو ، ولكن ما سبب البكاء بهذا الصباح يا ترى ؟"
نظرت له باهتزاز خاطف عند كلمة طفل وكأنه يقول ما يجول بعقلها وكانت تفرغ به لأمها ، لتستعيد ضبط جماحها بلحظة وهي تنفض شعرها للخلف قائلة بغرور واثق
"لا الامر فقط بأنني كنت احادث امي عن حفلة قريبتي والتي لم استطع حضورها للأسف ، لذا كنت ابكي واشتكي لأنها لم تخبرني عن الحفلة مبكرا وضاعت عليّ فرصة حضورها ، لابد بأنني قد كبرت الامر اكثر مما يستحق وافسدت كحل عينيّ والذي سال وانتزع !"
كان (احمد) يحرك رأسه باستماع غير فعلي وهو يعقب قائلا بجمود
"حقا ! يا لها من خسارة كبيرة ! لقد اثرتِ جلبة من اجل موضوع تافه ، ولكن لما الاستغراب ؟ فأنتِ بالفعل غير متزنة عاطفيا وعقليا"
عبست ملامحها بامتعاض وهي تتلقى السخرية والاستهزاء بدون ان تتجرأ على التفوه بحرف ، وليس لأنها لا تريد افتعال المشاكل بل لأنه يبدو غير طبيعيا بالتعامل معها ويطمر نحوها الكثير ! لتفيق بعدها على صوته الجاد وهو يقول بعملية قاسية
"لقد جئت ابحث عن شاحن الحاسب ، وقد جذبني صوت بكائكِ العالي لذا اقتحمت الغرفة عليكِ ظنا من ان مكروه قد اصابك ، ولكن بما ان كل شيء بخير ولا يدعي الاهتمام سأغادر الآن"
فتحت شفتيها تنوي قول شيء لولا الذي سبقها بمغادرة الغرفة بهدوء عكس دخوله الهجومي وكأنه امسكها بالجرم المشهود ، لتضع بعدها كفها على صدرها الخافق بعنف وهي تحرر اسر مخاوفها وتريح نفسها بالسكينة المؤقتة والتي منحها إياها ، وقد نسيت امر هاتفها تماما والذي ما يزال يصدر إشارات بوجود مخلوق كان يستمع للحديث والذي جرى بينهما بأذن مرهفة واحاسيس بدأت تترصد الخطر المقترب من ابنتها .
_______________________________
خرجت من قاعة المحاضرات بسرعة وهي تحاول سحب نفسها من بين ازدحام الطلاب الخانق ، فهي بالرغم من انها لم تعاني من اي اعراض ضيق تنفس او إجهاد جسدي او معنوي ، ولكنها ما تزال تستصعب التأقلم مع البشر والتصرف بطبيعية معهم فذلك الرهاب المتشكل بعدم قبولها بينهم يبعدها عن دائرتهم امتار ويخفيها خلف ستار المسرح والجميع يتقن ادواره على خشبة العرض ، وايضا هكذا الحال افضل لكي لا تضطر للتبرير لهذا وذاك وشرح ظروفها المأساوية لهم والتي جعلتها تنقطع عن التعليم الجامعي فترة قبل عودتها زوجة لأستاذهم والتي ستكون محور السيناريو ولهم حرية الابتكار والابتداع .
زفرت (غزل) انفاسها بإرهاق ذهني قبل ان يكون معنوي وهي تعيد خصلات قصيرة عصية لخلف اذنها بشرود ، لتتسمر بعدها بمكانها لوهلة ويدها ممسكة بخصلاتها خلف اذنها بعد ان وقف الزمن عندها وفقدت الإشارة بداخلها ، لترمش بعدها بعينيها الغائمتين بسحابات طافت على السطح وهي تدرك هوية الواقف على بعد امتار منها سبب لها التشوش العقلي لثواني ، لتستعيد بعدها ضبط اجهزتها النابضة وهي تخفض يدها بهدوء حتى استقرت على جانبها بارتخاء تام .
ابتلعت ريقها بقوة وهي تخفض عينيها بعيدا وتخمد احزانهما التي اتصلت بقلبها ، تنبهت بعدها لصوت الخطوات التي استشعرت قدومها نحوها ، لتتحرك بعدها بآلية وهي تتخذ زاوية الجدار مسلك لكي تستطيع تجاوزه بشكل اسرع ، ولكن حدث الغير متوقع وهي تلمح الذراع التي امتدت امامها بصمت ما ان كادت تفلت من مواجهته وهي تسد عليها الطريق ، وما ان التقطت انفاسها بلوعة حتى قال الصوت بهدوء جامد تسمعه منه لأول مرة
"اريد التحدث معكِ ، ضروري"
اتسعت حدقتيها العسليتين بصدمة توارت خلف وميض اخضر باهت ، وقبل ان تنطق بدورها كان يخفض ذراعه بهدوء وهو يسير بعيدا عن جانبها وكأنه يطلب منها ان تتبعه بصمت .
استدارت بهدوء وهي تراقب ابتعاده بتفكير مستاء وعدة اسئلة واحتمالات تدور برأسها بآن واحد ، واكثرها اهمية هو سبب تغير نبرة صوته المرحة والتي اختلت من مشاعره الفياضة ! وثانيا هو سبب تصرفه الجريء نحوها والذي لم يقدم عليه يوما طول معرفتها به !
عزمت امرها وهي تسير بالطريق التي سلكها بدافع اقوى منها لمعرفة الموضوع الذي يريد التحدث به معها بكل هذا الإصرار ، فقد كانت تتمنى فيما مضى ان تتبادل معه اطراف الحديث ويقدم على مثل هذه الخطوة بعد انفصالهما الاخير ، ولكن حدث ان تكون تلك الخطوة متأخرة وفائتة لأوانها عندما افترقت بينهما الطرق وانتهت .
وصلت عند الفناء الخلفي للكلية وهي تراقب الواقف امامها يوليها ظهره ، وما ان وقفت على مسافة امتار منه تصنع حقل امان من حولها حتى بدأت تتنحنح وهي تهمس ببهوت تمثل الطبيعية
"ماذا تريد مني ؟ عن ماذا تريد التحدث ؟ هيا اخبرني"
التفت بنصف وجهه وهو يقول بصوت خفيض مريب
"حمد لله على سلامتك ، لقد سعدت بشدة بعودتك"
اومأت (غزل) برأسها بهدوء حذر وهي تهمس بامتنان متحفظ
"شكرا لك على اهتمامك"
تصلب جانب وجهه الظاهر لها وهو يقول بابتسامة غريبة
"لقد سمعت بأنكِ قد تزوجتِ ! صحيح ؟"
زمت شفتيها بامتقاع وقد توقعت ان تصل لهذا السؤال الحتمي منذ طلبه بالتحدث معها ، ويبدو بأنه يحاول الوصول للحقيقة من الشخص نفسه واثبات صدقها ، وليس هناك مفر من مواجهة الحقيقة والتي تصبح اكثر تقبلا لها واكثر واقعية مع مرور الوقت والاحداث .
قالت (غزل) بعدها بابتسامة مصطنعة ترفقها مع إيماءة رأسها الهادئة
"اجل صحيح ، انا الآن متزوجة مثل باقي الفتيات بعمري"
استدار (عصام) نحوها هذه المرة بشخصه وهو يتابع طرح الاسئلة بهدوء اكثر قتامة
"تزوجتِ من استاذ بالجامعة !"
اومأت برأسها للأسفل تكاد تنزل تحت الارض من الإحراج الذي تجاوز حد المعقول ، وهي تهمس بخفوت محتقن بالحياء
"اجل صحيح"
ارتجفت اطرافها بصقيع ما ان التقطت اذنيها صوته البارد وهو يقول بجمود مفاجئ
"هل هكذا هو الامر ؟"
رفعت رأسها بملامح عابسة بحزن وهي تقابل عينيه واللتين تلمح بهما الحزن لأول مرة تلاعب بضربات قلبها بشرخ جديد ، لتلوح بعدها بيدها باضطراب وهي تهمس بأسلوب منطقي اخذ شجاعة كبيرة منها
"لما كل هذه الاسئلة الغريبة ؟ أليس كل شيء واضح امامك ! ما لداعي للف والدوران بالحديث ؟ انا قد تزوجت وانت مخطوب على وجه زواج ، أليس هذا هو العدل بعينه ؟ كل منا اختار طريق حياته والذي يراه يليق به"
تغضنت ملامحه بعذاب وهو يقول بخفوت ناقم
"ولكنكِ قد سبقتني بخطوات وتزوجتِ مباشرة بدون ان تعلني عن ارتباطك ، لقد فاجأتني بسرعة قرارك وناقضتِ كل توقعاتي التي رسمتها عنكِ !"
زمت شفتيها بارتجاف مرير وبغصة حرقت جزء من قلبها بشعلة صغيرة ، لتهمس بعدها بشبح ابتسامة بهتت على طرف شفتيها
"لست الوحيد الذي تفاجأ وخابت توقعاته ، فأنا ايضا تألمت بشدة وحزنت عندما عرفت بخبر خطبتك ، لذا لا تمثل عليّ الآن الألم وانت الذي جعلتني اعيشه بالبداية"
عقد حاجبيه بتصلب وهو يقول باستنكار مفاجئ
"ألم تكوني انتِ المذنبة بكل شيء ؟ أليس كل الحق عليكِ ؟ انتِ من قطع الأمل منذ البداية ! لقد كان كله بسببكِ انتِ ولن اسامحكِ عليها ابدا"
ضيقت حدقتيها العسليتين بدموع حبيسة داخل حلقات من لهب موجع ، لتنفض رأسها بحركة عنيفة وهي تهمس بسخرية فاضت عن الحد
"تلومني بكل شيء ! دائما لوم ! لماذا جميعكم تجعلون مني الضحية بكل شيء وتحملوني ذنوبكم ؟ ألا تعلم كم تألمت وعانيت بتلك الفترة ؟ انا ايضا استحق السعادة ، استحق السعادة التي تحصلون عليها ، استحق الحياة مثلكم جميعا......"
قاطعها (عصام) بقوة وهو ينظر لها بتخاذل وكأنه فقد السيطرة على مشاعره
"ما فائدة الكلام الآن ؟ لقد فعلتها وتزوجتِ ومضيتِ بحياتك ! يبدو بأنني الوحيد الذي كنت بكل تلك السذاجة حتى صدقت قصة حب صعبة التحقيق ، لقد ظلمت نفسي وبذلك الأمل الزائف الذي عشت عليه كل هذا الوقت"
فغرت شفتيها وهي تخرج صوت ضحكة غير منتظمة من صميم الوجع قبل ان تهمس بلحظة بخفوت معذب
"يا للغرابة ! وانا ايضا كنت اشعر بنفس الشعور قبل ان تعلن خيانتك لي ! لقد بقيت احمل الأمل بقلبي لآخر لحظة حتى كدت انهي على حياتي ، من بعدها قررت سحق ذلك الأمل ورؤية حياتي مرة اخرى وبالسعي وراء سعادتي الخاصة"
تعقدت ملامحه التي لطالما اتصفت بالمرح والبهجة لتكون المرة الأولى التي تراه بتلك الحالة العصيبة ، ولكنها للغرابة لم تشعر بالحزن عليه ولو ذرة بعد كل ما تجرعته بسبب تلك العلاقة المرهونة بالفشل والتي شطرتها مئة قطعة وبتعاون الجميع ! هل سيبدأ بتمثيل الانكسار والخذلان عليها ؟ وماذا عن مشاعرها وانكسارها هي ؟ هل هي مصنوعة من حديد لا تتأثر مثلا ؟!
انتصبت برأسها بقوة ما ان عاد للكلام مجددا بهدوء بارد
"وهل تشعرين بالسعادة ؟ هل حصلتِ على سعادتكِ الخاصة ؟"
ابتلعت ريقها بارتباك متعرق ما ان هاجمها بالسؤال الذي فكك جزيئات عقلها السميك ، حتى انها لوهلة كادت تنطق بالحقيقة وبقلبها الذي ما يزال معذب منه ولم يجد سعادته للآن ، ولكنها مسكت نفسها بآخر لحظة بروح ابية وهي تقول بثقة كبيرة حفرت ندوب بقلبها النازف
"اجل سعيدة جدا ، وماذا ظننت مثلا ؟ ان ابقى ادور حول مدارك لآخر عمري ! عليك ان تعلم بأن كل شيء بيننا قد انتهى ، انتهى منذ اللحظة التي قررت بها خيانتي وليس منذ هجرانك لي وعدم السؤال عني ، فأنا لن استمر بحمل هذا الأمل اتجاه جبان هارب مثلك لا يجيد سوى لوم وعتاب الضحية !"
رفع عينيه بعدم ثبات وهو يقول بخفوت واجم
"لم اقصد حدوث كل هذا ، كنت ، كنت سأعود لكِ بنهاية المطاف ، صدقيني كنت سأعود لكِ مجددا......"
صمت عندما لم يجد الكلمات المناسبة لتصف حالته امامها بعد ان برئت ذمتها منه ، ليتنفس بعدها بإحباط وهو يقول بهدوء يائس
"على كل حال مبروك زواجك ، وقد فرحت كثيرا لأنكِ وجدتِ سعادتك الحقيقية بالحياة ، واتمنى لكِ كل التوفيق والسعادة"
حدقت به بعينين اسيرتين بدوامة حزنهما وهي تهمس بثبات رسمي وكأنها تنهي معركة شبت بقلبها
"واتمنى لك المثل ، ولا تطيل كثيرا بهذه الخطبة لكي لا تمل منك خطيبتك ويجرح قلبها !"
نظر لها بطرف عينيه بدون اي معنى وهو يومئ برأسه بشرود ، لتقول بعدها بسرعة وهي تلوح بكفها بارتباك تستعد للرحيل
"حسنا بما ان كلامك قد انتهى ، يتوجب عليّ الرحيل الآن ، فلا اريد ان يرانا احد بهذا الشكل الذي سيجلب لنا الشبهة والأقاويل ! لذا وداعا"
استدارت بسرعة وهي تعود من حيث جاءت امام عينيه المجروحتين بعد ان قتلت الأمل القديم ومضت ، ولم يدرك بأن هناك عينين أخريين تنظران من خلف الجدار وهو ما يزال يطاردها مثل قابض الأرواح والذي ينتظر الفرصة المواتية ليزهق روحها وقلبها المفطور بغيره .
_______________________________
تنفست بضيق اصبح يطبق على صدرها بصخور ناتئة منصهرة اذابت قشور قلبها القاسية بشح نبضاتها التي تصارع بغريزة الحياة ، فقد ظنت بأنها لن تعود للشعور بتلك الآلام والتي غادرتها منذ سنة واكثر ، ولكن ما ان ظهر الدافع لذلك حتى بدأت تفلت من سجنها وتستحضر مشاعرها القديمة التي غرقت بها حد الصميم ، ولا تعلم كيف استمر باقي يومها الشاق بشكل طبيعي حتى عودتها للمنزل بيومها الجامعي الأول والذي خاضت به احداث ومشاعر اكثر مما فكرت وجهزت له فاق المستحيل والمنطق .
كانت تقف امام النافذة المغلقة تكتف ذراعيها فوق صدرها ودموعها تنهمر فوق ملامحها بغزارة مثل يوم ماطر شديد البرودة لم يتنبأ به الطقس ، وهي تشاهد صورتها المنعكسة على الزجاج القاتم وبداخل عينيها المستديرتين تظهران كل ما ينبع بداخلها اندلع بهما ، ولم تستطع إيقاف ذلك الانهيار الصامت الذي حدث من شقوق بقلبها تحولت لشروخ مع الأيام قبل ان تفيض بالسيول والانهار .
انتفضت بلسعة خارقة انتشرت بأنحاء جسدها بسرعة البرق ما ان تلاقت نظراتها مع الصورة التي انعكست على الزجاج بشفافية واضحة وكأنها شاشة عرض ، لتشهق من بين بكاءها بضعف وهي تمسح وجنتيها بكفيها بارتجاف عنيف ما ان ادركت بأنها مراقبة من مستهدف ، وبدون ان تعي بلحظة دخوله للغرفة وهي غارقة بعالمها الآخر الذي دخلت له منذ ساعات طويلة فقدت القدرة على حسابها .
انتصبت بمكانها وهي تغطي وجنتها الحمراء بأناملها النحيلة تخفي جانبها الضعيف الذي ظهر للعيان ، بينما كان الساكن بمكانه يتخذ خطوات نحوها بهدوء شديد حتى انتهى به واقف من خلفها على بعد سنتمترات جمدت الحركة والهواء بينهما ، لتمتد لحظات الصمت فترة اطول بينهما قبل ان يتطوع قائلا بهدوء متصلب بنبرة طبيعية
"لما لم تخرجي من غرفتك منذ عودتك من الجامعة ؟ ألا تريدين ان تشاركيني الحديث عن يومك الشيق !"
ابتلعت (غزل) ريقها بصعوبة تنحي مشاعرها جانبا لتهمس بعدها بخفوت مرتبك ببحة تغلبت عليها
"لقد شعرت بالتعب من السير الطويل بالجامعة لذا قررت المكوث بغرفتي لأخذ قسط من الراحة ، وبخصوص الحديث عن يومي فقد كان روتيني جدا ويدعو للملل والاكتئاب"
قطب جبينه بجمود ساكن وكأنه يمثل الاهتمام البالغ وهو يقول بتفكير بديهي
"ولكن ليس هذا ما كان ظاهر لي عندما رأيتكِ تصرخين بزميلتك والتي تبدو اسهبت بالكلام معكِ ! هل كان مجرد حديث اصدقاء ودي او نقاش غاضب ؟"
قبضت اناملها بقوة على خدها وهي تسترجع ذلك الحوار الاقرب للضرب بالكلام وإهانة كل واحدة للأخرى ، ولكنها بالحقيقة ليست مذنبة فتلك الحقودة هي التي بدأت بالكلام معها وإهانتها والتقليل من قدرها بطرق غير مباشرة حتى انفجرت بها بذلك الشكل ، ولن تسمح لأحد بأن يلومها بعد هذه اللحظة فهي ستضع حد لكل متمرد ولكل حقود يحمل الضغينة نحوها فقد تبين بأن الصمت ليس الحل الامثل لردع المشاكل .
قالت (غزل) بعدها بعبوس حانق وهي تنظر لصورتها المشابهة لها بالمشاعر والمعالم
"ليست زميلتي ، وليس لدي زملاء بالجامعة ، انها فقط عدوة تكن لي الحقد والضرر منذ انتسابي بالجامعة ، واليوم قد جاءت الفرصة لكي تسخر مني وتجعلني مادة تفريغ غضبها !"
عقد حاجبيه بهدوء وهو يتمتم بصيغة المنطق
"ليس هناك انسان يكره انسان آخر بدون سبب ، هناك لكل شيء بالحياة سبب ، ولا شيء يحدث بدون وجود تلك الاسباب المنطقية"
سحبت عينيها عن مواجهة عينيه بصعوبة خوفا من ان يستطيع قراءة ما يجول بفكرها بهذه اللحظة ، فهي لن تخبره عن سبب كراهية تلك المرأة نحوها والتي اشعلتها بسرقتها حبيبها والذي لم يكن حبيبها بالمعنى الحرفي ، المهم بأنها تكرهها كثيرا منذ تلك الحادثة وتطمر نحوها بالحقد والضغينة والتي لم تتغير حتى بعد انفصالها عنه وكأنها تتسلى باللعب بحياتها !
زمت شفتيها بوجوم وهي تمسح خدها بقبضتها هامسة بخفوت مستاء
"ربما حياتي بأكملها ليست منطقية ! فليس هناك شيء حدث معي وكان له تفسير ، لذا لا تشغل بالك بهذه الامور"
غامت ملامحه وهو يتابع هروب عينيها بترصد قائلا بابتسامة غامضة
"ولكنكِ قد فعلتِ الصواب ، فقد كانت تستحق هذا الموقف منكِ منذ وقت طويل ، لكي تتوقف عن طريقة استغلالك بتفريغ غضبها"
اتسعت حدقتيها بوميض وهي تلتقط عينيه بصمت على الزجاج والذي رسم الطريق لهما ، لتستدير بعدها بسرعة بدون وعي منها وهي تهمس بلهفة ما ان تقابلت العيون بينهما بدون اي صور او انعكاسات
"هل هذا رأيك حقا ؟ لقد ظننت بأنك ستقف بصفها وستوبخني على تصرفي ذاك !"
انقلبت ملامحه بجمود صخري اثار رهبتها بآن واحد وهو يقول بابتسامة جانبية بريبة
"ولماذا اوبخك من اجل تلك المرأة الحقودة ؟ إذا لم تذنبي بشيء فليس هناك داعي لتوبيخك ! ألا إذا كنتِ قد اذنبتِ بالفعل ولا تريدين البوح لي"
تراجعت خطوتين بخوف دب بأوصالها وهي تقول من فورها بانفعال عصيب
"لا لم اذنب بشيء ، انا بريئة تماما صدقني"
نظر لها (هشام) مطولا بدون اي تعبير مقروء قبل ان يعقب قائلا باهتمام جاف
"لماذا كنتِ تبكين ؟ هل حدث ما يسيء لكِ بالجامعة ؟"
فغرت شفتيها بارتعاش بعد ان كشف امرها لتعود لمسح وجنتيها وعينيها الحمراوين من جديد وهي تقول بخفوت مضطرب النبضات
"لا ، لم يحدث لي ما يستحق الاهتمام ، فقط داهمتني بعض الذكريات الحزينة ، لهذا كنت ابكي عليها ، ليس لها علاقة بيومي بالجامعة"
تغضنت زوايا عينيه بدون ان تنتبه للتغيير الذي طرأ عليه بلمحة خاطفة ببضعة كلمات منها اعادت تلك المشاهد برأسه بفيلم صامت حزين ، ليستعيد بعدها نفسه الحاضرة وهو يدير رأسه جانبا قائلا بجفاء
"اجل بالطبع ، فأنتِ تعانين من حساسية مفرطة اتجاه هذا النوع من المواقف ، يا لها من حالة صعبة تلك التي تمرين بها !"
نظرت له بحزن عميق ابى ان يتركها وهي تهمس ببؤس
"هل هذه سخرية ؟ ماذا فعلت لك لتكون معي بكل هذه القسوة ؟ يكفي بأنني قد تقبلت عودتي للجامعة بدون ان تأخذ رأيي بالأمر وكأنه لا اعتبار لي عندك !"
كان يجول بنظراته على ملامحها بدورة كاملة قبل ان يدنو بالقرب من وجهها المحمر بتوهج البكاء والغضب ، ليقول بعدها بصوت حاد بعد ان توقف عن لعبة القط والفأر
"انتِ التي بدأت اولاً يا غزل ، لقد كنتِ قاسية جدا عليّ ! وهذا الامر لم يعد يحتمل ! لذا عليكِ تلقي حسابك"
ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تنظر له بخوف حقيقي تجلى على محياها وما ان وجدت صوتها حتى همست بخفوت متوجس
"ماذا تقصد يا هشام ؟ بماذا اخطئت معك ؟ هل انت تتكلم بجدية ؟......"
قاطعها (هشام) بجمود وهو ينحرف عند جانب وجهها المشتعل منه
"لقد رأيتكِ تقفين معه ، لذا ليس هناك فائدة من المراوغة والتسلل بالكلام معي ، هل فهمتي الآن ؟"
شحبت ملامحها بذهول حتى سحبت الدماء من عروقها وهي تخفض رأسها بانتكاس بعد ان فقدت القدرة على الصمود ، لتلفح بعدها انفاسه الحارة وجنتها التي اصبحت تتأجج بنيران متصاعدة وهو يتبعها بالهمس بكبت منفعل
"هل هو ذاته ؟"
غصت بأنفاسها المضطربة وهي لا تستطيع اخراج الكلام من حنجرتها التي علقت بغصتها ، فهي تعلم بأنه لا يقصد سوى شخص واحد بصيغة ضمير الغائب والذي يشكل كل الحروب الباردة بينهما ، لتومئ بعدها برأسها باهتزاز وهي ترد على سؤاله بإيماءات صامتة واكثر ما استطاعت استجلابه .
تأوهت (غزل) بنفس مكتوم من شفتيها ما ان كبل ذراعيها بقبضتيه بدون ان يفك اسرها ، ليتابع بعدها استجوابه القاسي بنبرة حادة بحدة نصل السيف والذي خدش بشرتها
"عن ماذا كان يدور الحوار بينكما ؟ وكيف تكونين بهذه الجرأة لتقابلي شخص كانت هناك علاقة تربط بينكما بالماضي ! وانتِ الآن متزوجة مني ! ام انكِ لا تعطين هذا الزواج الغير مكتمل الشروط اي اهمية !"
تملصت بين ذراعيه بمقاومة ضعيفة وهي تهمس بخفوت مبرر ذاهب الأنفاس
"لقد تبادلنا التحيات والمباركات ، لم نتكلم بشيء مهم ، ولم اقم بخيانتك من وراء ظهرك ، صدقني هذه الحقيقة كاملة"
زادت سخونة انفاسه بانفعال وهو يرفع رأسه قليلا قائلا بتفكير مبهم
"يعني كل شيء قد انتهى بينكما ، ليس هناك شيء يخص الماضي من الممكن ان يجمع بينكما ، ليس هناك شيء !"
اومأت (غزل) برأسها بقوة وهي تحاول رفع يديها بينهما هامسة بتأكيد تكاد نبضاتها تخرج من صدرها
"اجل ليس هناك شيء ، ليس هناك اي شيء مما تفكر به !"
تنفس بقوة حتى شعرت بصدره يسحبها لداخله بشحنات متنافرة تكاد تحرق اصابعها ، وما هي ألا لحظات صمت مجنونة حتى شعرت بيديه تخليان سبيلها لتلتف ذراعيه من حولها بعناق حشرها بحلقات اكثر صلة بين اضلعه ، وما ان حاولت تحرير نفسها الضعيفة من داخل اسواره حتى شددت اكثر من قيودها وهو يهمس بأذنها بصوت جامح وكأنه يسلم امره لهوى رغباته
"لقد اخبرتكِ يا غزل ، عليكِ بتلقي حساب اهمالكِ بأمر زواجنا وعدم اعطاءه قيمته ، وهذه المرة لن اتوقف حتى اطبع صك الملكية عليكِ"
تسارعت انفاسها وهي تتحول من دفعات لضربات برفض تفجر بداخلها وهي تنقلها لكل اجزاء جسدها المسجون ، لتهمس بعدها بممانعة وهي تشعر بشفتيه تنقضان على عنقها وبقوة هجومية مفترسة
"لا تفعل يا هشام ، لا تفعلها بي ، لا تعاقبني بهذه الطريقة ! لا تكون بكل هذه القسوة !"
استخدمت كل قوتها دفعة واحدة حتى تحررت من قيوده وهي تتعثر للخلف خطوتين وانفاسها تخرج بقوة مهدورة ، لتستقيم بعدها بصعوبة وهي تمسد بكفها على عنقها المنتهك بدمغات شفتيه ناظرة بعيون مهتزة للواقف امامها يتلبس ملامح البرود بدون اي شعور بالذنب ، لتتسمر عينيها على وجهه الذي تراه لأول مرة وهو يقول باستهزاء قاسي وكأن احدهم قد اخرج الشيطان المحبوس من جحره
"لماذا كل هذا الخوف والرفض بمثل هذا العنف ؟ هو امر طبيعي سيحدث بكل الأحوال الآن او بعد اليوم ، هل ستبقين تقفزين وتنفرين بكل مرة اقترب منكِ فيها ؟ إذا بقيتِ على هذه الحال والتصرفات فلن تذهب الرغبة بكِ فقط بل ستزرعين الشك بقلب الشخص الذي يشاركك بهذه العلاقة بأن هناك ما يخيفك سينكشف بعد اكتمالها......."
صرخت باندفاع وهي تنفض ذراعيها بقوة وتنفي تلك التهمة الغير مصرحة عنها
"لا مستحيل ! كيف تقول هذا الكلام عني ؟ كيف تفكر بهذا الاستنتاج ؟ كيف تتهمني بشرفي ؟"
حرك (هشام) كتفيه ببرود وهو يهتف ببساطة كأنه لم يقل شيء وافكار الماضي تسيطر على افكاره الحالية
"إذا كنتِ تريدين تبرئة نفسكِ فعليكِ بعدم المماطلة والبدء بتقبل علاقتنا الجديدة واخذها على محمل الجد ، فأنا لن امرر لكِ تلك الخيانة التي حدثت من وراء ظهري ، وإذا صدق ظني وشكي بكِ فلن تبقي على قيد الحياة يوم آخر"
غطت اذنيها بكفيها باضطراب لكي لا تستمع للمزيد من التجريح الذي فاق اقتناص من نفسها بل وصل لشرفها وكبرياء المرأة ، لتصرخ باستنكار حاد ودموعها تسيل على قلبها دماءً
"كفى يا عدم الحياء والادب ، كف عن هذا الكلام ، انا لم ارتكب اي خطيئة بحياتي ! كيف تقول عني بأني من هذا النوع ؟ كيف تقولها بدون الشعور بذرة تأنيب ضمير ؟......"
شهقت بخوف ما ان امسك بذراعها يدفعها امام صدره حتى اصطدمت به بقوة ، ليقول بعدها بصيغة الامر بدون اي رحمة وكأنه ليس بشري
"اثبتِ ذلك إذن ، اثبتِ برائتك امامي"
اغرورقت عينيها بدموع اكثر كثافة حتى اخترقت الغشاء الشفاف وسالت على وجنتيها بحسرة وندب ، لتحرك رأسها بالنفي ببطء قاتل وهي تهمس بهذيان يكاد يغشى عليها
"ليس هكذا ، ليس هكذا يتم الأمر !"
اسودت ملامحه بخطوط قاسية بدون ان يتخلى عن شخصيته التي تقمصها منذ عودته من الجامعة وتلك المشاهد لا تغيب عن فكره حتى تلونت بلون الدماء ، وبغضون لحظات كان يدفع جسدها بعيدا وهو يلقيه على الفراش بسهولة حتى استقرت مستلقية عليه ، وما ان اخذت انفاسها بشح الهواء بصدرها حتى شعرت بحمل ثقيل يعلو فوقها بثواني وهو ينهش جانب وجهها وصوته يخترق اذنها برنين صاخب يعلن سطوته عليها
"سنرى إذا كنتِ صادقة بكلامك ومشاعرك ، وانا بنفسي سأتأكد من دحض كل تلك الشكوك عن كلينا ، لكي اثبت عندها ملكية هذا القلب اللعين ومَن يحب !"
كانت انفاسها تخفت بشكل تدريجي وهي فقط تصدر انين خافت لا معنى له من بين هجوم عاطفي تخلى عن اسلحته وحصونه واصبحت كل الوسائل مباحة ومشروعة....وجسدها يتلوى بحريق قلبها الخافق بهلع وخوف ولكن لا يضاهي ألم الجرح الغائر الذي غرسه بباطن روحها بنصل حامي...وهو يأسرها بسجن انفاسها وجسدها بنيرانه المندلعة بسواد الماضي وآلام الحاضر قيدتها وكبلت حريتها وقادت قلبها للانصياع مجبرا لرغبات الهوى .
______________________________
افاق من دوامته السحيقة التي غرق بها حد الهلاك وهي تكبل قلبه بقيود وهمية غاصت بين الوهم والواقع ، ليدرك عقله بثواني ما حدث بآخر لحظات جنون غضبه بالأمس وما ادى إليه من جنون اكبر سببه الوحيد شعور الخيانة للمرة الثانية ، فتح عينيه على اقصى اتساعهما وهو يحدق بالفراغ امامه يحاول رسم مجريات الاحداث بعقله الغائب بأحلام اليقظة ، وبلحظات كان يلتفت على جانبه بسرعة وهو يصوب نظراته على الوجه الابيض الشاحب الذي اختفى منه كل سمات الحياة وكأنه قد سرق منه الروح الذي كانت تنبض بداخله .
استقام (هشام) بمكانه على مرفقيه وهو يمسك بجانب وجهها يتحسس بشرتها بخوف تمكن منه لأول مرة ، وهو يقرب جسدها العاري بذراعه التي اعتقلت خصرها الغض وهو يشعر بكل جزء بجسدها الصغير المكشوف على العيان والذي وطأ كل منطقة به ، ليتنفس بعدها امام وجهها بلوعة وبنيران موقدة تكاد تذيب عظامها الهشة التي تحطمت تحت سطوة هجومه ، ليقول بلحظة بصوت مرتبك لأول مرة يخرج بكل هذا التعثر والخوف
"غزل ، استيقظي يا غزل ، استيقظي يا حبيبتي ، لا تخيفيني عليكِ هكذا ! لم اقصد ان اكون بكل هذه القسوة معكِ بأول مرة لكِ ! هيا استيقظي"
ازدادت انفاسه حرقة وضخ الدماء بصدره الخافق وهي لا تستجيب لأي نداء وبرودة جسدها تعادل برودة تمثال منحوت من الجليد ، بعكس ما حدث ليلة امس عندما كانت بين يديه تتلوى بسخونة عالية وكأنها تستشعر حرارة رغباته حرقت كل العوائق بينهما ولم يبقى سوى جسديهما تلاحما معا ، ولكنه لم يدرك بأن طاقة الغضب الاسود كانت مسيطرة عليه حتى ظهر بكل هذا العنف والقسوة ليخرج الحقيقة منها بأبشع صورها ويجعل ليلتهما الأولى هي الاسوء لها وبصمة سوداء بحياتهما متناسي تماما مرض قلبها وخوفها من الخوض بهذه العلاقة .
قبض على جانب وجهها وهو يقبل كل تفصيل بملامحها مثل المهووس عله يعيد الشغف وحرارة مشاعره لها لتذيب صقيعها ، ليهمس من بين كل قبلة شغوفة بندم شديد يكاد يرجوها
"اعتذر يا حبيبتي ، اعتذر على قسوتي ، اعتذر على إدانتك بهذه الطريقة ، لقد كنتِ محقة انا قاسي القلب وقد اذيتكِ بسبب قسوتي تلك ! سامحيني يا صغيرتي ، اغفر لي زلتي ولا تحاكميني هكذا !"
ابتعد (هشام) عنها وهو يتنفس بثورة تحكمت بكل اعضائه وهو يشاهد برودها وتصلبها بين يديه وكأنه يعانق جثة ، لينزع يده بسرعة عن جانب وجهها وهو يقرب اصبعه بتردد امام انفها يتأكد من وجود نفس لها ، ليأخذ الامر لحظات كادت تودي بحياته حتى استطاع اخيرا الشعور بنفس ضعيف يضرب اصبعه وينعش روحه التي توقفت عن النبض وهو يتنفس الصعداء وكأن الحياة قد عادت له ، ليمسك بعدها بمعصمها النحيل وهو يستشعر النبض به والذي كان بنفس الضعف والرقة حتى لم يعد يستطيع تحمله .
جلس على السرير بلمح البصر وهو يرتدي بنطاله بلحظات ويرفع جسدها معه بذراع واحدة وكأنها لا تزن شيء ، ليلتقط القميص الخاص به وهو يحيطه على كتفيها بعشوائية قبل ان ينهض عن السرير وهو يحملها بكلتا ذراعيه ، دخل بعدها للحمام المرفق وهو يتجه فورا لحوض الاستحمام ، وما ان وقف تحت مرش الماء حتى ادار الصنبور ببطء ليهطل الماء رذاذ متساقط برقة وهو يسيل من وجهه ليرسله لوجهها بالتتابع .
بعد مرور لحظات كان جسدها يتقلص وينكمش وهي تشهق بقوة وكأنها غريق اخرجوه من اعماق البحر بعد ان كاد يفقد حياته هناك ، لتتمسك تلقائيا بكتفيه بيديها الصغيرتين وهي تحفر اظافرها بلحم كتفيه العريضين بكل قوة ، ولم يكن يشعر بأي ألم من خرمشت اظافرها القصيرة والتي كانت مثل الحياة تغرس بقلبه وبذات الوقت تألم مشاعره والتي اجاد حرقها بها وكأنها تأنبه على كل شيء حدث معهما وعلى كل ألم سببه لها .
ادار صنبور الماء اكثر ليزيد من شدة انهمار قطرات الماء عليهما حتى اصبحت تعصف بهما علها تغسل ذنوبه وتذيب قسوة قلبه ، وهو متمسك بجسدها بقوة والذي اصبح يرتعش بارتجاف طبيعي من قربه والذي دب بها الحياة بعد عناء ، ليخفض بعدها رأسه ما ان شعر بعينيها تصوبان نحوه لتتلاقى الاعين بينهما بقوة غير مرئية تبصم اكثر من الكلام ، كانت عينيها بتلك اللحظة خضراوين قاتمتين فاقدتي الحياة وقطرات الماء تمزج مع دموعها المتحجرة على رموشها الطويلة وكأنها تحمل لوم وحزن غير منطوق بالشفاه ولكنه واضح بالنظرات .
زفر انفاسه بصدر ضائق وهو يرفع جسدها اعلى ليستطيع دفن وجهه بعنقها الابيض المبتل وهو ينشر عليه قبلات رقيقة لتمسح آثار افتراسه السابق ، ليهمس بعدها بصوت اجش مختنق باحتراق تستطيع الشعور به
"انا اعتذر يا غزل ، سامحيني"
تصلبت ملامحها تحت انهمار الماء البارد والذي يمسح الألم عنها بدون ان يطفئ الحريق المدوي بداخلها وبقلبها الذي تفاقم ألمه اي مرض ، ليخترق صوته غشائها السمعي مجددا وهو يهمس بخفوت مشتت بعيدا عن صوته الثابت الصارم
"يمكنكِ شتمي ولومي او حتى ضربي ، ولكن لا تبقي ساكنة هكذا بدون صوت ، ابكي واصرخي واشتكي ، اخرجي كل ما يعتمل بصدرك ونفسك ، قد استطيع عندها الشعور بأنكِ حية وحتى لو كلفني الامر بأن تكرهيني !"
شددت (غزل) من القبض على يديها حتى طبعت علامات بأظافرها فوق كتفيه وهي تطبق على جفنيها بشدة لثانيتين وما سمحت بها مقاومتها المهدورة....قبل ان تجهش ببكاء عالي اخترق الآذان وتردد صداه بأرجاء الحمام الواسع....وهي ترفع وجهها للماء المتدفق فوق محياها ليطغى على صوت بكاءها ويخفف من وطأة الألم بداخلها والذي اصبح مثل الحمم البركانية...بينما كان (هشام) يعانق جسدها المرتجف وهو يزيد من ضمه لصدره المبتل كلما تضائل اكثر مع كل شهقة بكاء تستنزف كامل طاقتها الخائرة وهي تنقل تلك الذبذبات بين صدريهما النازفين .
خرج من الحمام بعد ان استغرق خمس دقائق بغسل جسدها واعادتها لوعيها تحت مرش الماء البارد ، ليصعد بعدها فوق السرير وهو يريح جسدها الصغير فوق الفراش الناعم ، ليدنو بعدها بالقرب منها وهو ينزع قميصه المبتل عنها بعد ان احضر ملابسها وهو يهتم بتلبيسها قميص نومها القصير ، لتتوقف حركة اصابعه لوهلة عند الازرار ما ان سمع صوتها الخافت لأول مرة وهي تهمس ببحة بكاء باردة
"هل صدقت الآن ؟"
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يفهم مغزى كلامها الذي تقصد جرحه به لتنقل حزن العالم له وطعم الغدر بحلقه ، ليكمل بعدها ترتيب ازرارها بعملية وهو يستطيع لمس تغير وتيرة انفاسها التي زادت سخونة فوق رأسه وبحركة صدرها الملتاع ، ولكنه مع ذلك كان يريحه بطريقة سحرية بعد ان كان يبحث عن اي مصدر اكسجين بداخلها ويتحسس اي إشارة على تنفسها ، لتتابع بعدها بلحظات كلامها الجارح وهي تهمس بنفس الصوت الحزين والذي اجاد قطع اوتاره
"هل صدقت بأنني بريئة ؟ هل اثبت براءتي امامك ؟"
زفر (هشام) انفاسه بجمود تحجر بصدره الممزق تحت برودة الماء والذي اصبح مثل اللهب يذوب على جلده ، ليرفع بعدها وجهه ببطء وهو يصطدم بذائبية عينيها اللتين عادتا عسليتين حزينتين لائمتين بقسوة ، ليربت بعدها على شعرها الناعم وهو يقول بصوت خفيض بعطف
"ارتاحي الآن ، ولا تفكري بشيء آخر ، فقد ارهقتِ نفسكِ كثيرا منذ ليلة امس ، ولا اريد ان تتدهور صحتك اكثر"
ازاحت رأسها بعيدا عن كفه بقسوة وهي تعود للهمس بنشيج غير منتظم بإعياء
"لن ارتاح قبل ان تجيبني"
تغضنت عينيه بعذاب وهو يمسك جانب وجهها برفق ليقبل بعدها جبينها تحت خصلات شعرها الندية وهو يهمس فوقها بحزن عميق
"انا اعتذر يا حبيبتي ، اعتذر على إدانتك ، اعتذر على غضبي منكِ ، اعتذر على كل شيء ، اعلم بأن خطأي لا يغتفر وبالغت كثيرا بقسوتي معكِ ! ولكني كل ما املكه لكِ هو الاعتذار وطلب الصفح"
كانت (غزل) تنظر له من تحت غشاء عينيها الملتهبتين بالدموع الحبيسة بمحجريها بعد ان ذرفتها بالبكاء تحت مرش الماء ، لتحني بعدها حاجبيها الرقيقين بضعف وهي تخفض نظراتها بعيدا بعد ان خارت قواها ولم يعد بإمكانها المجابهة ، ليبتعد عنها بهدوء وهو يدس خصلاتها القصيرة خلف اذنها برقة قائلا بخفوت ثابت وبأقصى هدوء ممكن
"خذي قسط من الراحة الآن ، وإذا احتجتِ لأي شيء او شعرتِ بأي تعب فقط اهتفي باسمي وانا سأحضر لكِ على الفور ، واهم شيء إياكِ وان تجهدي نفسكِ او تحمليها اكثر من طاقتك ، حسنا ؟"
اشاحت برأسها بعيدا بدون الإتيان بحركة او استجابة لكلامه ، ليمسح بعدها على رأسها بهدوء بحركة آلية وهو يقول بابتسامة طفيفة بصعوبة
"اعتني بنفسكِ جيدا"
تراجع للخلف وهو ينهض عن السرير وكأنه لا يطيق مفارقتها وخاصة بعد ما حدث معها من انهيار نفسي وجسدي وهو يكتشف هشاشة مناعتها وضعف قلبها الغض ، ليدور بعدها بنظره من حولها وهو يقول بهدوء جاد تقمصه بلحظة
"يمكنكِ النوم بقدر ما تشائين ، فنحن لن نذهب للجامعة اليوم ، وحتى تتحسن حالتك لن تخرجي من المنزل ولن تستقبلي احد ايضا"
كان السكون يخيم بالأجواء بينهما بدون اي مشاعر او ردود افعال ، ليسقط بعدها بنفس الهوة وهو يعود بالنظر لها بشغف استجلبت كافة المشاعر التي انتابته ليلة امس مثل جذوة حارقة لم تنطفئ للآن ، فما حدث امس بصم قلبها ونبضاتها على كفه وطبع لمساته على جسدها حتى لم يعد هناك مجال للشك بأنه استحوذ عليها كاملة وسيطرت على عقله الذي كان ما ينفك يفكر فيها بكل دقيقة وثانية .
قال (هشام) بعدها بمحاولة يائسة بجذب انتباهها قليلا
"غزل إذا كنتِ تحتاجين لشيء اخبريني ، لا تصمتي عن احتياجاتك ، وانا مستعد لتحمل كل المسؤولية......"
قاطعته (غزل) بهمس خافت يكاد لا يسمع مجرد من الحياة
"فقط اريدك ان تخرج"
تلبدت ملامحه بصمت يخفي كل المشاعر خلف واجهته الصلبة التي نحتها من صخر ، ليلتقط بعدها قميصه الملقى بهدوء وهو يستدير للجهة الاخرى قائلا برفق شديد
"سأخرج من هنا ، ولكن لا تنسي بأني موجود متى ما احتجتِ لي"
سار بعدها خارج الغرفة قبل ان يغلق الباب خلفه بهدوء شديد بدون ان يصدر صوت ، لتخفض بعدها نظرها بانكسار وهي تضم الغطاء لصدرها ببرد شديد شعرت به ينخر اطرافها الهشة بشكل تلقائي وكأنها سقطت من فوق قمة جبل وانجرفت مع التيار حتى وقوعها ببحيرة جليدية جمدت قلبها عن النبض .
اسندت جانب رأسها على ظهر السرير بارتخاء تام وهي تغمض عينيها على صوت نبضاتها الثائرة وحقيقة واحدة تطرق برأسها مثل رنين الحلقات على ارض مصقولة (لقد اصبحت زوجته قولا وفعلا بغض النظر عن الوسيلة) .
_______________________________
كتفت ذراعيها فوق صدرها وهي تشاهد الواقف على بعد امتار منها يتأنق بحلته السوداء امام المرآة منذ ساعة تقريبا ، وهي تميل بجلستها على الاريكة الصغيرة بزاوية الغرفة تسند مرفقيها فوق ركبتيها وتمسك وجهها بيديها وشفتيها مزمومتين بعبوس تراقب بإمعان شديد وكأنها تحل مسائل معقدة بعقلها ، لتزفر بعدها انفاسها بعصبية مفرطة وهي تعلم جيدا اساس الشيء الذي يؤخر رجل الاعمال بالوقوف امام المرآة وهو يستصعب عقد ربطة عنقه الغبية ، وإذا استمرت بانتظار انحلال الامر من تلقاء نفسه فقد تنتظر طول اليوم وتفقد فرصتها بالتسلل خارج المنزل ويضيع عليها الاختبار المرتقب ، فهي لم تصدق معرفتها بأمر عودته اخيرا للعمل بالشركة من جديد وخروجها من دائرة مراقبته وكأنها كائن تحت المجهر تتم دراسته وضبطه منذ اسبوعين ! ولن تضيع فرصة حريتها مهما كلفها الثمن !
تأففت (ماسة) بنفاذ صبر وهي تقول باستسلام تتنازل عن موقفها
"هل تحتاج للمساعدة بمهمة عقد الربطة الانيقة ؟ فهي تبدو من اكبر مشاكلك والتي تتعرض لها بحياتك المهنية والخاصة !"
ادار وجهه نحوها ببرود وهو يلوح بربطة العنق بأصابعه قائلا بنبرة باردة بتحدي
"وهل تنتظرين دعوة لفعل ذلك ؟"
رفعت رأسها بعيدا عن يديها بارتكاز وهي تهمس من بين اسنانها بقنوط
"ما كان عليّ ان اسأل"
عقد حاجبيه بجدية وهو يشير بعينيه لربطة العنق بأمر واضح لتلبي للنداء بكل طاعة ، نهضت عن الاريكة بهدوء وهي تجر خطواتها نحوه بطواعية وكأنها الوحيدة التي يسمح لها بأداء مثل هذه المهام ، وما ان وقفت امامه برشاقة حتى قابلته بعينين واسعتين بعمق المحيط وعينيه المرسى لهما ، وبلحظة كانت اصابعها تعرف طريقها جيدا وهي تشد على جانبي الربطة لتعقد بينهما بخطوات مدروسة وكأنها تتعمد استفزازه بنعومة اصابعها النحيلة وحركاتها المتقنة وهي ترسم لوحتها الخاصة وهو الاداة والوسيلة لذلك .
جذب نظره عندما شدت على عنقه بطريقة خادعة ايقظته من غفلته بعد ان تركها تقوده كما تشاء ، لترخي بعدها من ربطة العنق تدريجيا وهي تهمس امام وجهه بابتسامة ماكرة تلونت بملامحها الجميلة
"اعتذر على تضييق نفسك ، ولكني اردت سحبك من غفوتك"
نظر (شادي) إليها بوضوح يقبل التحدي وهو يشب يده بخصرها الغض ليقول بلحظة بهدوء مبتسم
"انتِ وكل شيء بكِ يضيق نفسي"
زمت زاوية شفتيها بوجوم وهي تشعر برغبة عامرة بالتحدي وبشراسة ، لترفع بعدها يدها لجانب وجهه وهي تلمس بأصبعها صدغه هامسة بابتسامة بريئة
"إذا كان هذا كلامك سأحاول منذ الآن صنع مسافة خمس امتار بيننا لكي لا يضيق نفسك وتستطيع الحياة"
مالت ابتسامته بتحفز واثق وهو يمسك بيدها المضمومة ويخفضها بعيدا عنه ليقبل مفاصل قبضتها ببطء مشوق ، قبل ان يهمس فوقها بخفوت اجش متلاعب
"ليس هذا ما قصدته ، بل قصدت بأن ابتعادكِ هو الذي يضيق نفسي ، لذا عليكِ بالبقاء بقربي لكي تمديني بالحياة وبالهواء اللازم"
انفرجت شفتيها بإدراك متأوه وهي ترى وجهه يدنو منها بهجوم سريع اقتنص شفتيها بلحظة ليمد نفسه بالهواء اللازم من انبوب الاكسجين الخاص به ، ليرتجف جسدها بتشنجات خاطفة طبيعية سرعان ما تفاعلت مع طوفان مشاعره وهي تتعلق تلقائيا حول عنقه بطوق نجاة ، لتعطي نفسها لحظتين استمتاع بسباق القبلات الهادر قبل ان تخفض وجهها بإرادة قوية وهي تقفز للخلف بلمح البصر مثل الغزالة الشاردة .
استقام (شادي) بمكانه بلهاث طفيف اجتاح خفقات صدره الصلب وهو يمسح على عنقه قائلا بابتسامة منفعلة
"شكرا على حفنة الاكسجين الطبيعي ، ستكون مخزون جيد ببداية عمل طويل سيخلو من كل انواع الاكسجين"
عضت على طرف شفتيها باضطراب اكبر وهي تغطي خدها باحمرار ساخن هامسة بابتسامة مغتاظة
"محتال بجدارة !"
ارتفع حاجب واحد بحدة وهو يميل قائلا بنظرات مفترسة بتهديد
"ماذا قلتِ يا زوجتي المهذبة ؟"
ادارت رأسها وجانب جسدها بآن واحد وهي تهمس بصوت مكبوت
"لا شيء"
عاد بالنظر للمرآة وهو يعدل من وضع ربطة العنق الانيقة بهدوء عملي ، بينما كانت (ماسة) تختلس النظر له بعينين قطة متقدتين باهتمام واضح وهي تستهوي دراسة تعبيراته وحركاته بأدق تفاصيلها ، لتقول بعدها بدون ان تمنع نفسها اكثر بفضول
"من الذي كان يعقد لك ربطة عنقك إذا لم تكن تجيد فعلها ؟ ام انك كنت تطلب بكل مرة من فتاة مختلفة ان تربطها لك ! حقا انت شخص مثير للاهتمام بالنسبة للفتيات"
نظر لها عبر المرآة بتحديق جامد ثبتها بمكانها وهو يجيبها ببساطة بدون ان يجاري دعابتها
"لقد كانت امي تربطها لي سابقا بالمناسبات الهامة ، وباقي الاوقات اتخلى عن ربطة العنق ولا ارتديها ، فهي شيء مزعج معقد التركيب وتضيق على انفاسي باختناق غير محتمل"
ابتلعت (ماسة) ريقها بارتباك غزى محياها وهي تشيح بوجهها بعيدا لتهمس بعدها ببهوت
"إذاً لما تصر على ارتدائها الآن ؟"
استدار بكامل جسده وهو يتابعها عن كثب ليقول بعدها بابتسامة جانبية بشغف
"لكي استطيع ان احظى باهتمامك"
التفتت نحوه بهدوء وقد استطاع ان يلفت نظرها وتركيزها بسهولة وببضعة كلمات وكأنها اصبحت سهلة الانخداع ، لترسم بعدها ابتسامة هادئة على محياها وهي تقول بمرح
"هل تعلم بأن تصرفاتك طفولية جدا ؟"
حك شعره بتفكير لوهلة قبل ان يقول بابتسامة مشاكسة
"ربما فقد كانت امي تقول هذا عني دائما"
ادارت مقلتيها الزرقاوين بملل وهو يقول مجددا باهتمام بالغ بعد ان تغيرت نبرة صوته
"هل ستشعرين بالاشتياق لي بغيابي ؟"
عادت بالنظر له بقوة وهي تقول بإيباء وثقة
"وهل تركت لي مجال لكي اشتاق لك ؟ وانت ملتصق من حولي منذ اسبوعين متواصلين ، فقط اريد بعض الخلوة بحياتي والاستمتاع ببعض الخصوصية لنفسي"
حرك كتفيه ببرود وهو يفرد ذراعيه على جانبيه قائلا بابتسامة مسترخية
"خذي يا آنستي ، هذه المساحة كلها ملكك ، استمتعي بخصوصيتك بقدر ما تشائين ولكن داخل حدود مملكتي ، مفهوم ؟"
شحبت ملامحها قليلا وهي تشتت نظرها من حولها هامسة بجمود
"فقط اذهب لعملك ، ولا تشغل بالك بشأني"
اخفض ذراعيه بصمت وهو يسير عدة خطوات صوب باب الغرفة ، وما ان وصل امام الباب حتى استدار للخلف مجددا وهو يشير بأصبعيه نحو صدره قائلا بابتسامة جادة
"لقد نسيتِ شيئاً مهما ، وانا لن اغادر قبل الحصول على الوداع الخاص منكِ والذي سيسعدني لباقي اليوم"
تجمدت ملامحها وهي تسقط بشباك عينيه بعد ان اوقعها بالفخ بمنتهى البساطة ، لتتنهد بعدها بيأس وهي تهمس بوجوم متبرم
"لن ترحل قبل ان تحصل على مسعاك !"
حرك رأسه للخلف والامام بحركة رفض عابث غير متنازل وكأنه يتحداها ان تمانع ، زمت شفتيها وهي تتقدم نحوه بخطوات واسعة تلقائية وكأنها تساق لمصيرها ، وما ان اصبحت تقف امامه حتى ارتفعت على اطراف اصابعها وهي تحاوط عنقه بذراعيها بإغراء فطري وهي تستخدم مفاتنها الفتاكة لتكون مرشدها ، وما هي ألا لحظات صمت قصيرة حتى طبعت قبلتها الباردة على طرف شفتيه والتي اشتعلت بين قلبيهما الصاخبين باحتياج شديد شرس ، لتغرق بلهيب قبلاته الحارة التي اخذت ترتشف وتنزع قبلتها الصغيرة التي لا تضاهي الاكتساح الهجومي ، لتمسك بأذنيه بأصابعها الرقيقة وهي تبعد وجهه عنها لتحرر نفسها من اسر موجاته العالية وتسمح للهواء بالتدفق بينهما وتخفيف شدة مشاعرهما .
تركت اذنيه وهي تسحب ذراعيها بسرعة لتتراجع خطوتين واسعتين تحمي نفسها من اي هجوم غادر ، بينما كان (شادي) يحك اذنيه الحمراوين وهو يقول بابتسامة مشتعلة بحمم العاطفة
"يا لها من طريقة مبتكرة بإيقاف هجوم عاطفي بمنتصف تأجج علاقتنا ! منتهى الوقاحة"
زفرت (ماسة) انفاسها ببؤس وهي تهمس بخفوت عابس
"ألن تذهب للعمل ؟ لقد طال بقائك كثيرا"
ارتفع حاجبيه ببطء بارد وهو يخفض يديه قائلا بابتسامة جانبية بمغزى
"من يرى تصرفاتك معي وانتِ تعجليني بالخروج لا يصدق بأنكِ تملكين سلاح قبلات فتاك تجيدين التقبيل بمهارة ! فهذه القبلات تصبح إدمان بعد مرور الأيام والتجارب"
اشاحت بوجهها بعيدا باحمرار مفرط وهي تمسك خصرها بيديها قبل ان تهمس بخفوت محتقن
"تبا لك"
التوت ابتسامته بافتراس شمل اغلب ملامحه وهو يقول بتفكير خبيث يلعب على نفس الخط
"بالإضافة كذلك لحركات الإغراء الجريئة التي تسحبيني لها رغما عني تقلبني رأساً على عقب ، وكأنني بداخل لعنة ألقيت عليّ من ساحرة صغيرة سوداء الشعر وزرقاء العينين......"
قاطعته (ماسة) باندفاع لا إرادي وهي تهجم عليه بدفعه بقبضتيها خارج الغرفة بكل ما اوتيت من قوة
"اخرج من هنا ، اذهب لعملك ، اخرج من المكان"
تراجع للخلف بتعثر وهو ينفجر بضحك متحشرج ويده على صدره بعد ان فقد السيطرة على اتزانه ، ليستقيم بعدها بصعوبة بعد ان اصبح خارج حدود الغرفة وهو يقول بابتسامة صغيرة بانفعال
"لن احاسبكِ الآن ، بل عندما اعود ستتم محاسبتك ، لذا اقتنصي لحظات خلوتك جيدا قبل ان اقتحمها بقسوة كاسرا كل الحواجز بيننا ، وبهذه الاثناء إياكِ وان ترتكبي اي تهور او حماقة بغيابي ! انتظريني بمكانكِ بكل طاعة وتهذيب ، لا تنسي كلامي جيدا !"
كانت (ماسة) تقف بالقرب من الباب وهي تراقب بصمت الذي غادر بعيدا عن مرآها ، قبل ان تسمع بلحظات صوت اغلاق باب المنزل من خلفه ، لتتنفس بعدها الصعداء بثواني قبل ان تدب بها الحياة فجأة وهي تجري بداخل الغرفة .
فتحت الخزانة على مصرعيها وهي تخرج منها بلحظات سترة جينز زرقاء وحقيبة وكتابها ، وكانت وكأنها تسابق الزمن وهي تحسب كل دقيقة تمر من وقتها الثمين الذي اصبح يضيق بها ، وهي ترتدي السترة بثانية وتليها بوضع حزام الحقيبة على كتفها بثانية اخرى وتعديل شعرها الفوضوي بأصابعها بثانية ثالثة ، لتسحب بعدها الكتاب بيدها بخروجها وهي تجري باتجاه باب المنزل الذي خرج منه سجان حريتها .
بدأت بالعبث بحقيبتها وهي تخرج منها مفتاح المنزل الاحتياطي الذي سرقته من حلقة المفاتيح واحتفظت به بدون ان يعلم ، لترتدي بعدها حذائيها الرياضيين بذات الوقت لتستطيع الانتهاء بشكل اسرع ، وما ان انتهت اخيرا حتى دست المفتاح بقفل الباب بهدوء وهي تدوره بكل سلاسة وبدون اي عناء .
خرجت من المنزل وهي تعيد اغلاق الباب من الخارج بحذر شديد ، لترمي بعدها المفتاح بداخل الحقيبة وهي تغلقها بإحكام ، اعادت بعض الخصلات التي انسدلت على جانب وجهها بلحظاتها المجنونة بسباقها مع الزمن ، لتتلمس بعدها على خصلاتها من خلف اذنها وهي تهمس بخفوت مستعد بضراوة
"لن استطيع ان اكون مطيعة ومهذبة وحلمي يطير من بين يديّ ، فليست ماسة من يفرض عليها الكلام ، بل هي من تفرض عليكم الكلام ، وهذا يخص الحب كذلك فهي من ستفرض سلطتها على الحب وليس العكس !"
_______________________________
كان الكتاب مفتوح فوق حجرها وهي تقلب بين صفحاته بقراءة سريعة ذهنية تحاول استرجاع كل مذاكرات الجامعة ، لتغلق بعدها الكتاب بهدوء ما ان انتهت من مراجعة المادة التي اخذت منها عشر دقائق واقصى حد زمني عندها ، فهي بالدراسة لا تمنح نفسها ساعات بالمذاكرة وتكفيها قراءة مرة واحدة لترتكز المعلومات بعقلها الصلب الذي ينقسم لذرات تنشطر وتتكاثر مع الدراسة وكأنها قوة داخلية تمتص كل ما يتم التركيز عليه ، وهذا لا يعود لأسباب جينية او وراثية بالفطرة بل بسبب الاعتياد وقسر عقلها على العمل بشكل آلي لكي ترضي حلفائها وتتلافى العقوبات المعنوية والجسدية حتى اصبح عقلها تحت رحمة الوحوش .
طرقت على النافذة بجوارها بالقطع النقدية وهي ترى الطريق التي وقفت عنده الحافلة ، لتنهض بسرعة عن مقعدها وهي تحتضن الكتاب بين ذراعيها بتشبث لتتجاوز ازمة الركاب باندفاع قوي ، وما ان وصلت للسائق حتى قدمت له النقود بسرعة وهي تقفز بسرعة من باب الخروج ومنفذ الهروب من حلبة المصارعة والتي لا مكان للضئيل بينها .
تنفست الصعداء وهي تستنشق الهواء الطبيعي الذي كاد يخلو بداخلها ، وهذا اكثر ما تكرهه بالمواصلات العامة التي تتكبد منها عناء كبير بالركوب والوصول ، ولولا النقص المادي الذي تعانيه بالوقت الراهن لما اضطرت للركوب بالحافلة بدلا من سيارة الاجرة الاكثر راحة ولطفا وتختصر الوقت والجهد .
عدلت جانبي سترتها وهي ترفع حزام الحقيبة جيدا لتكمل طريقها بسرعة بخطوات مهرولة ، فلم يعد هناك وقت للتفكير سوى بالدقائق القصيرة التي اصبحت تقترب من الانتهاء ، وصلت بثواني لمدخل الجامعة وهي تقف بلهاث بعد الطريق التي اضطرت لقطعها سيرا على الاقدام فهي ملكة الجري بلا منازع منذ ايام مراهقتها المجنونة عندما تسبب المتاعب للعالم وتفر هاربة بجلدها ، وهذا لا يختلف عن مهام اختراق الانظمة وسرقة المعلومات من اصحاب النفوذ العالية والتسلل هاربة من حصونهم مثل اللصوص والجواسيس المأجورين .
رفعت رأسها بإيباء تمحي سراب ذكرياتها السوداء عن ذهنها وهي تحدد هدفها مباشرة بدون اي تفكير بماضي او حاضر فقط مستقبل نظيف لا تكون به دمية مأمورة عند احد ، لتخطو بعدها بخطوات واثقة على ارض الجامعة بقوة لا يستطيع احد ان يضاهيها او ينافسها ، لكنها بلحظات اختل توازنها وتسمرت الخطوات ما ان ظهر امامها آخر انسان توقعت رؤيته بهذا المكان وبهذا الوقت تحديدا وكأن العالم اصبح يتآمر ضدها بمهمة كونية هدفها تدميرها .
ابتلعت (ماسة) ريقها بارتباك ما ان تحرك الواقف امامها بخطوات اصبحت تتقدم نحوها بهدوء تستطيع استشعار الذبذبات عن بعد تكاد تحرق اجنحة حريتها ، تمسكت لا شعوريا بالكتاب بحضنها وكأنها تستمد منه العون للمجابهة امام الخصم والذي يقلص المسافة بينهما رويدا رويدا ، لترفع يدها بسرعة بأمر وهي تصرخ بحزم مضطرب تمكن منها
"لا تقترب مني اكثر ، إياك وان تقترب !"
توقف بالفعل بمكانه وهو يتأملها ببرود جليدي من يدها الجامدة بارتجاف لرأسها ثم يتمهل عند ملابسها وكأنها النقيض عن التي ودعها منذ دقائق ، طال الصمت بينهما لبرهة قبل ان تنفض يدها بقوة وهي تقول باستنكار حاد حتى عضت على لسانها بتعثر من الغضب
"كيف عرفت بأنني هنا ؟ بل كيف استطعت ان تسبقني لهذا المكان ؟! ألم تكن ذاهب للعمل ؟ هل انت برج مراقبة معلق فوق رأسي ؟"
حدق بها (شادي) بجمود وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قبل ان ينطق قائلا بابتسامة ملتوية بغموض
"هل ظننتِ بأنكِ تستطيعين خداعي بهذه السهولة ؟ والتحايل عليّ من وراء ظهري لكي تستطيعي التحليق نحو اهدافك !"
ارتفع حاجبيها السوداوين بارتباك وهي تواجه مسألة عصيبة بعثرت الافكار بعقلها حاد الذكاء ، لتتمسك بعدها بحزام حقيبتها وهي تقول بتفكير عابس
"كيف حدث هذا ؟ هل تقصد بأنك تعلم بخطتي بالذهاب للجامعة اليوم ؟ مستحيل ان يكون هذا صحيحاً ! لو كنت تعلم بذلك لما تركتني وذهبت لعملك ببساطة ، انت تحاول السخرية مني لا اكثر !"
رفع رأسه وهو يضحك بخفوت قصير لا يمت للمرح بصلة ليعود للنظر لها بلحظة وهو يقول بسخرية شامتة
"يبدو بأن ذكائك يخونكِ لأول مرة ، ولا ألومه فقد كانت الصدمة ثقيلة قليلا عليكِ ! ماذا ؟ ألم تعجبكِ المفاجأة ! عليكِ ان تكوني سعيدة بمقابلة زوجك مجددا بعد الوداع الذي حدث بالمنزل"
تنفست بضيق مهتاج وهي تشدد اكثر من ضم الكتاب لصدرها لتقول بعدها من بين اسنانها بشراسة ناقمة
"ألن تقول كيف عرفت بمكاني ؟ ومن الذي اخبرك عن موعد الاختبار بالجامعة ؟ هيا اعترف بالحقيقة وكف عن المماطلة"
تجمدت ملامحه بتعبير قاتم ارهبها وهو يقول بهدوء جاد شديد البرودة
"لم اكن اعلم بشيء ببادئ الامر ، فقد ظننت بغباء بأنكِ محل ثقة ولن تتجرئي على فعلها بي ! حتى راودني اتصال وانا بطريقي للشركة من إدارة الجامعة يعلمني بموعد الاختبار الخاص بزوجتي وضرورة الحضور ، عندها لم افكر للحظتين بل غيرت وجهتي بسرعة وحاولت الاتصال بكِ مرارا وتكرارا ولكن بدون إجابة ، وبدلا من العودة للمنزل ذهبت للجامعة مباشرة لأتأكد بعينيّ من شكوكي وصدق توقعاتي ، وكالعادة لم تخذليني فقد اتيتِ بقدميكِ للجامعة وبكل ثقة العالم بدون ان تعلمي بأنني سأكون بانتظاركِ بفارغ الصبر مثل العائق بطريق قدرك !"
شددت على اسنانها بغيظ وهي تخفض رأسها هامسة بسخط
"سحقا لحظي العاثر الذي اوقعك بطريقي"
تنفس بهدوء وهو يقترب خطوات منها قبل ان يقول بتصلب بعد ان تخلى عن قناع البرود
"لماذا تصرفتِ هكذا ؟ ألم يكن من الاسهل قول الحقيقة لي ؟ لماذا لم تخبريني عن موعد الاختبار ببساطة ؟ لماذا تتعمدين ان تخفي عني كل خططك بالحياة ؟......"
قاطعته بغضب وهي تضرب الكتاب على صدرها بعصبية
"لأنني اعلم بأنك سترفض ، سترفض الفكرة وتطلب مني الانصياع لأوامرك وتحت رحمتك ، ستمنعني عن الذهاب بكل الوسائل الممكنة ، وستحرمني من هذه الفرصة التي انتظرتها طول حياتي ، هل عرفت لماذا لم اخبرك ؟"
تغضنت زاوية ابتسامته باستهزاء وهو يقول بهدوء شديد
"وكيف تحكمين على الامر بدون ان تسألي او تخاطري بالتجربة ؟ هل تستطيعين تكهن المستقبل ! هل تستطيعين قراءة ما في نفوس وبقلوب الناس ؟ هل تظنين نفسكِ خارقة الذكاء حتى تفعلي كل شيء من رأسكِ وما يمليه عليكِ ؟ انتِ اكثر شخص غير سوي ويفتقر للثقة بالنفس بحياته !"
زمت شفتيها بامتقاع وهو يعرف جيدا كيف يصيب اهدافه بكلمات واضحة صريحة عادةً ما تصيب المرمى بنجاح ، لتشيح بعدها بوجهها جانبا وهي تقول بتبرير بديهي
"لقد رأيت ردة فعلك سابقا ، وكانت كافية لأعرف نظرتك الشاملة للأمر ! إذاً لما اتعب نفسي بالتفكير اكثر ؟"
غامت ملامحه بصمت وهو يقترب اكثر حتى لم يعد هناك خطوات تفصل بينهما قائلا بصوت واضح بعمق
"لا يمكنكِ الحكم على الامر والاستسلام هكذا ، فأنا وانتِ كيان واحد ويتوجب علينا اعطاء انفسنا فرصة من اجل هذا الرابط بيننا"
ضمت شفتيها بامتعاض وهي تدرك بلحظة وضعها الحالي والذي انساها هدفها الاهم ، لتلتفت بسرعة امامه حتى اصطدمت بقربه المهول وهي تتراجع بسرعة قائلة بعجلة
"هذا غير مهم الآن ، فأنا لدي اختبار عليّ الذهاب لخوضه ، لذا اعذرني لو سمحت"
ما ان حاولت تجاوزه حتى وجدت يده تمسك بمعصمها وتعيدها امامه بلمح البصر وهو يقول بقوة اكبر
"ليس هناك اختبار لكِ ولا جامعة ، فنحن الآن سنعود للمنزل ومن حيث جئنا بكل طواعية"
فغرت شفتيها بصدمة وهي تشعر به يسحبها بالفعل لتضرب قدميها بالأرض بتشبث وهي تصرخ بعناد شرس
"لن اتحرك من هنا خطوة واحدة ، ولن اسير كما تهوى نفسك ، وحتى لو قتلتني هنا لن اتحرك !"
استدار نحوها بعنف وهو يقول بصوت عاصف على وشك قلعها
"تحركي يا ماسة ، وبلا من قول السخافات الآن ، هل تريدين ان تسببي بفضيحة لنا ؟"
عضت على طرف شفتيها بخبث لمع بحدقتيها بشر وهي تلوح بالكتاب بيدها عاليا قائلة بثقة كبيرة
"لا تريد ان تسبب الفضائح ! إذا لم تتركني الآن ، فأنا سأسبب لك اكبر فضيحة عرفتها الجامعة !"
احتدت ملامحه بمزاج ناري وهو يهزها من ذراعها لكي يحركها من مكانها قائلا بصوت خفيض مهدد
"كفى يا ماسة ، لقد قلت ما عندي ، وانتِ ستتحركين شئتِ ام ابيتِ"
تشبثت بالأرض بقوة اكبر وهي تفتح فمها على اتساعه قبل ان تبدأ بالصراخ بصوت عالي اخترق الآذان وسحب كل الناس المحيطين بهما ، بينما تسمر (شادي) بمكانه من هول الصدمة وهو ينظر لرجال امن الجامعة يكبلونه بذراعيه ويبعدونه عنها وكأنه مجرم مطلوب للعدالة ، وما ان افاق عقله من الصدمة التي عطلت اجزاء جسده حتى دفعهم بلحظة بقوة اكبر وكأن الطاقة تفجرت به دفعة واحدة لدرجة اسقطت الرجلين ارضا ، ليتمالك بعدها نفسه للحظات خاطفة وهو يقول للرجلين الواقعين ارضا بقسوة
"لن احاسبكما على حماقتكما الآن ، ولكن حسابكما معي سيكون عسيرا ، ولن اكون شادي الفكهاني إذا لم امسح بكرامتكما الارض يا بضعة حثالة !"
استقام بمكانه وهو يشتت نظره بين الحشود التي اجتمعت حول المعركة القائمة عند مدخل الجامعة ، ليتحرك بعدها باندفاع مجنون وهو يدخل بين الحشود ليخترق صفوفها ويصنع طريقه الخاص بينهم بدون ان يأبه بإصابة احد وبهمسات الاعتراض منهم .
بهذه الاثناء كانت (ماسة) تجري برواق الممر وهي تبحث عن المدخل ، وما ان استسلمت حتى اتجهت لمكتب سكرتيرة وهي تتشبث بحافة المكتب قائلة بهجوم
"اسمعي ، اين يقام اختبار التأهيل لخريجين الجامعة ؟ فهو من المفترض ان يكون بهذا الوقت"
نظرت لها السكرتيرة ببرود وهي تقول بإيجاز وكأنه ليس عملها
"لقد فات موعد الاختبار يا عزيزتي ، يعني لا تستطيعين الدخول له الآن ، لقد كان عليكِ ان تكوني اكثر دقة بمواعيدك"
انفرجت شفتيها بأنفاس ذاهلة حتى تحولت لحريق انتشر بكل انحاء جسدها بعد كل الضغط والتوتر الذي تعرضت له بالدقائق السابقة ، لتمد بعدها جسدها على حافة المكتب باندفاع حتى تراجعت السكرتيرة للخلف بخوف وهي تقول لها بعدائية تكاد تنفث نيران من انفها
"اسمعي جيدا يا وجه التنين ، انا احتاج لتقديم هذا الاختبار الآن وحالاً ، من انتِ لتعرفي الظروف التي مررت بها للوصول لهذا المكان لتحكمي عليّ هكذا وتطرديني من هنا لأني تأخرت بضعة دقائق ! بينما انتِ تتأخرين عن العمل يوميا بوضع اطنان من مساحيق التجميل الرخيصة على وجهك ! وهذا يعني بأنه ليس هناك اي وجه مقارنة بين الحالتين ، لأني لا استحق ان احاكم واتلقى توبيخ من مجرد عاملة رخيصة مثلك !"
تراجعت السكرتيرة عن مقعدها بسرعة صارخة بصرامة تخلل بها الجزع وكأنها تواجه وباء خطير
"يا إلهي ! ما هذه قلة الادب والحياء ! فليأتي احد ويخرج هذه المجنونة عديمة الانضباط من هنا"
التفتت (ماسة) بوجهها بلمح البصر ما ان سمعت صوت متزن يأتي من آخر الرواق
"ما لذي يحدث هنا يا نسيم ؟ لما صوتكِ عالي هكذا ؟"
نظرت المقصودة وهي تنهض بسرعة لتحني رأسها باحترام هامسة بلباقة
"اعتذر على الإزعاج يا استاذ بشار ، ولكن هذه الفتاة تسبب لنا المشاكل بوجودها وتسيء للعاملين"
انخفضت عن حافة المكتب بهدوء وهي تعانق الكتاب بين يديها بصمت وكل طوفان غضبها انحبس بثانية ، ليتقدم بعدها الاستاذ نحوها بدون ان يعير السكرتيرة اهتمام وهو يوجه كل تركيزه للتي اقتحمت المكان بقوة ، وما ان وقف امامها فقط لحظات قبل ان يبتسم باتساع وهو يقول بصوت مبتهج مثير للشبهة
"ماسة ! صحيح ؟ لقد تعرفت عليكِ فورا ، فليس هناك فتاة بالجامعة تمتلك هذه الهالة غيركِ"
ابتلعت ريقها بقوة وهي تدس خصلاتها لخلف اذنها لتغتصب ابتسامة صغيرة هامسة بتحفظ
"اجل هذه انا ، وقد اتيت اليوم لتقديم اختبار التأهيل للحصول على الشهادة ، ولكن لسوء حظي فقد قابلت هذه السكرتيرة اللبقة التي قالت لي بأن وقت الدخول قد انتهى"
ارتفع حاجبيه باهتمام بالغ وهو يشيدها بنظرات طويلة بمعاني عدة لا علاقة لها بموضوع الحوار ، لتشيح بنظراتها بعيدا ما ان قال اخيرا بهدوء غريب
"ما كان عليكِ ان تتأخري عن موعد الاختبار إذا كنتِ مهتمة لهذه الدرجة ، لقد كان هذا إهمال كبير منكِ"
عضت على طرف شفتيها بغضب دموي وهي تعود بالنظر له بنفس الهدوء الساخر وهي تهمس بوجوم
"اعتذر يا استاذ بشار ، فقد حدثت ظروف خاصة اخرتني عن الموعد ، ولكن يبدو بأنكم ليس لديكم حسن استماع وتفهم لظروف الناس ، فهي بالنهاية بشر وليست آلات تعمل على مواعيد محددة !"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقول بتفهم غريب
"اجل اتفهمكِ تماما يا ماسة ، فأنا اكثر من يعلم بظروف طالبتي النابغة والتي لا يستطيع احد ان ينافسها ، إذا تسمحين لي يمكنني ان اقدم لكِ المساعدة اللازمة"
رمقته بأطراف حدقتيها الشرستين وهي تهمس بعبوس مستاء
"وكيف ستساعدني ؟ هل ستدخلني للاختبار ؟ فأنا ليس لدي الوقت للعبث"
تجمدت ملامحه حتى اجزمت بلمح غضب بعينيه استطاع اخفاءه بمهارة ، ليقول بعدها ببساطة وهو يربت على كتفها بمودة
"حقا ما تزالين وقحة ومندفعة بكلامكِ كعادتك ! اخبرتكِ بأني مستعد لمساعدتك ودعمك ومهما كلفني الثمن ، فقط تعالي معي لنتكلم بهدوء بمكتبي والتفكير جيدا بحل لمشكلتك"
انتفضت بلسعة خاطفة وهي تتراجع للخلف خطوتين واسعتين بحيطة لتلوح بيدها هامسة بعدم اهتمام
"لا اريد ان اتعبك معي بمشاكلي ، وانا على استعداد لانتظار شهر آخر حتى يعاد عقد الاختبار مرة اخرى ، وحظا موفقا بعملكم"
جمدتها اليد التي امسكت بكتفها بقوة بعثت القشعريرة بعامودها الفقري وصاحبها يقول بهدوء واثق بعد ان ظهر جانبه الحقيقي
"لا تكوني بكل هذا العناد والتعنت ! اخبرتكِ بأني سوف اساعدكِ وابذل كل جهدي من اجلكِ ، وانتِ بالمقابل لا ترفضي الحسنة وكوني اكثر طاعة واحتراماً لها ، أليس هذا ما كنت اعلمكم إياه دائما ؟"
اغمضت عينيها بغضب تلوى بأمعائها الداخلية وهي تنظر له بكل كراهية العالم التي تجمعت بحدقتيها الزرقاوين ، وما هي ألا لحظة فاصلة حتى كانت ترمي الكتاب بيدها بمنتصف وجهه بقوة وكأنها ترد له كلامه ورأيها بأسلوب حياته زير النساء ذاك .
استدارت بسرعة تنوي الرحيل من المكان بأكمله بعد ان هبطوا معنوياتها العالية ، لتتجمد للمرة الثانية لليوم بفعل شخص آخر دفع الدماء للتحجر بعروقها وبأوردتها والانسحاب من بشرتها التي لم تكن بكل هذه البرودة ، وهي تنظر بعينيها الشاخصتين للواقف على بعد امتار منها عينيه السوداوين العميقتين لا تنظران لها بل على شخص آخر يقبع خلف كتفها ، لتحني حاجبيها بحالة يأس اجتاح كيانها وهي تلعن حظها الاكثر سوءً بالعالم الذي جعلها تقابل ذلك الاستاذ واظهار ردة الفعل تلك امام نظرات رجل يملك من الغرائز ما يجعله يتحول لوحش لا يملك مبدأ او قانون اتجاه ممتلكاته الخاصة !
____________________________
كانت جالسة بمكانها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بحالة هياج صامت اقتلع كل ما بداخلها من مشاعرها واحاسيس ولم يبقى سوى الغضب يسيطر على الساحة ، وهذه ثاني مرة بحياتها تشعر بكل هذا الغضب الفائض عن الحد بعد ان تسحب من مكان قسرا قبل ان تنجز ما وصلت له ، فقد كانت المرة الأولى عندما سحبها من عند شقيقته التي اوشت بها بأول لقاء بينهما او ثاني لقاء ، بالحقيقة لم تعد تذكر ! بالرغم من انها غالبا بل كثيرا ما يحدث هذا معها وتسحب رغما عنها مع اليد التي اعتادت ان تقودها خلفه وكأنها حيوانه الأليف الذي يتمرد على مالكه ، ولكن كل المرات لا تعادل تلك المرتين التي افسد بهما كل مخططاتها وعرقل بهما سير اهدافها ومصالحها ، فهذا عندها يتجاوز طاقة احتمالها المحدودة ويدفعها لأقرب تهور وارتكاب جريمة !
رفعت رأسها بانتباه وذكرى ارتكاب جريمة تطرق برأسها مثل تساقط الحجارة فوق عقلها ، فلن تنسى ابدا ما حدث بعد رؤيتها (شادي) يدخل لبناء الكلية بشكل مصارع متأهب على وشك نطح خصمه ، ولولا وجود رجلين امن الجامعة بالقرب منهم وتدخل الطلبة بالاشتباك لما كان استطاع احد ان يفلت عنق الاستاذ من بين براثنه ، بالرغم من انه قد حصل على بعض اللكمات بأنحاء وجهه وتمزق القليل من قميصه الفاخر وبسبب كبر عمره لم يستطع مجابهة شاب يافع ببداية الثلاثين يملك حيوية وقوة بدنية تفوقه بكثير ، وهذا بالإضافة للإصابات التي وصلت لرجلين الامن وهما يحاولان فك الاشتباك بينهما ، وهكذا تستطيع ان تقول بأن سجل حياتها الجامعية المرموقة قد اسود ببصمة عار سوداء وانتهت مسيرتها النظيفة هناك ، واقل شيء ممكن ان يحدث لو لمحوها تدخل للجامعة مجددا هو رميها بأقرب مقلب نفايات وإرسالها للمريخ !
ادارت وجهها نحوه وهي تراقبه يقود بأعصاب باردة وملامح صخرية اجاد اخفاء المشاعر خلفها وكأنه لم يفعل شيء ، وكأنه لم يضرب استاذ جامعة كبيرة ولم يتهجم على رجلين من الأمن كانا يؤديان وظيفتهما المنطوية عليهما ! وتتفاجأ حقا كيف سمحوا لهما بالمغادرة ولم يحاسبوهما على الدمار الذي خلفوه بوسط الجامعة ! وتراهن بأن مرتبة عائلته الكبيرة لم تسمح لهما بإدخالهما بأي مشاكل ، وخاصة بعد ان تدخل مدراء الكلية وتعرفوا على هوية مرتكب الجريمة ليأخذ الامر منهم ساعات بالحوار والسلم قبل ان يسمحوا لهما بالرحيل بحال سبيلهم ، هذه اسرار عالم النفوذ العالي والحكام الذين يديرون العالم فقط بأصبع واحد وصوت منهم !
عاد التجهم يعلو ملامحها الصخرية وهي تهمس بصوت عدائي بعد رحلة الصمت الطويلة
"إذاً يا سيد شادي ! هل انت سعيد بعد ان مسحت بكرامتنا الارض وهبطت رؤوسنا امام من يسوى ومن لا يسوى ؟"
شدد على المقود بهدوء وهو يقول ببرود قاتم وكأنه تأقلم مع انقلابات مزاجها واصبح طقس روتيني
"انتِ التي جلبتِ كل هذا لنفسكِ وليس انا ، لذا ابحثي عن كرامتك بعيدا عني"
اشتدت صلابة ملامحها وهي تستدير نحوه بكلتيها لتلوح بذراعها بالهواء قائلة بانفعال بعد ان عبث بأعواد الثقاب بعقلها
"ماذا كان الداعي لكل هذا الاستعراض امام كل الجامعة ؟ هل تظنها مسابقة بعرض العضلات وسحق كل الخصوم من حولك ؟ لقد شوهت سمعتي وصفحتي بالكامل امام المدراء والاساتذة والطلبة حتى لم يعد لي وجه اظهر به امامهم ! هل هذا كان هدفك منذ البداية ؟ اقصائي بعيدا عن الجامعة لكي لا اقدم الاختبار واخسر الفرصة للأبد !"
حرك المقود بسلاسة وهي يحرك كتفيه باستخفاف قائلا بابتسامة ساخرة كانت اشبه بالتواء مشتد
"على اساس كانت سمعتكِ بالجامعة بيضاء لامعة لدرجة كان كل من يراكِ يهب لمد اواصر الصداقة معكِ طلابا واساتذة ! وبالواقع بأنكِ لا تجذبين نحوكِ سوى اصحاب النفوس الدنيئة والذين يحملون سوابق إجرامية وغرائز حيوانية ، حتى احترت اين اذهب بكِ ، حقا انتِ حالة وجودكِ يختل بنظام بالكون !"
عبست شفتيها بخطين قاسيين وهي تقول من بينهما بغضب ويدها تضرب على صدرها
"توقف عن السخرية مني بهذه الطريقة ! هل تظن الأمر بيدي ؟ هل تظنني اتعمد حدوث هذا ؟ هل تعلم اساسا ما كنت اتعرض له يوميا بحياتي حتى تأتي وتتبجح بغرور بأنني سبب اختلال حياتك ؟ لقد كان هذا مجرد عينة عن مجموعة اكبر من مريضين النفوس الذين كانوا يحومون دائما بعالمي السابق"
ابتلع (شادي) ريقه بحركة مؤلمة وكأنه يحاول استساغة كلامها والذي تحول له موضوع حوارهما ، ليقول بعدها باتزان صلب يكاد يحترق تحت سطح من رماد باهت
"لا اعلم الكثير عن تلك الحياة ، ولكني اعلم القليل لدرجة تجعلني اود لو اقتل كل من يقترب منكِ او يفكر بكِ بطريقة مريضة غير سوية ! هل فهمتي ؟"
هذه المرة هي من ابتلعت ريقها بصعوبة مضنية وكأن غصة مريرة انتقلت عبر ذبذبات حديثهما ، ليرمقها بعدها باهتمام وهو يقول بجدية بدون ان يتركه القلق
"هل فعل لكِ ما يسيء ؟ هل حاول التقرب منكِ قبل هذه المرة ؟ صارحيني بالقول يا ماسة ! هل فعلها من قبل ؟"
حدقت به بعينيها الواسعتين بعمق المحيط وبشحوب السماء الصافية بدون ان يسكنها تعبير محدد ، وما ان فقد صبره حتى التفت بعينيه نحوها بحديث عيون صامت وهو يستحثها للبوح والكلام بإشارات قوية ، اعتدلت بعدها بجلوسها باستقامة وهي تكتف ذراعيها قائلة بهدوء يغلفه الظلام
"لقد كان يتقرب من كل طالبة مجتهدة وفاتنة بحجة الدراسة والمراجعة ، وقد كان يطلب منها مراجعته بمكتبه ليأخذ راحته بالتسلية بها على انفراد ، وعندما فعلها معي اول مرة وطلب مراجعتي بالمكتب لم تنطلي عليّ الخدعة ولم استجب له من خبرتي الطويلة مع هذا النوع من الرجال ، وكلما حاول التقرب مني كنت اضع له حدود بطريقتي واتجاوزه حتى يأس مني ومل ، وبعد تلك التجربة قررت عدم وضع اي محاضرة عنده او جعل اسمه يقترن بجدولي ، وبعدها لم اعد اراه بالأرجاء او اتقابل معه بالجامعة فقد محيته من سجلي تماما"
كان يحرك رأسه بطبيعية والسواد بداخله يزداد اتساعا وعمقا وكأنه لم يعد هناك مساحة للضوء بها ، ليقول بعدها بلحظات بهدوء طبيعي يحاول مجاراة سير الحديث
"ولما بقيتي صامتة كل هذا الوقت ؟ لما لم تبلغي عنه عند إدارة الجامعة ؟ فأنا اعرف بأنكِ تملكين من القوة والجرأة لدرجة تستطيعين بها تحدي امثاله وجعلهم يتعفنون بالسجون !"
اعتلت ملامحها ابتسامة باهتة وهي تضم يديها بحجرها بقوة قبل ان تردف قائلة بضعف تسلل بصوتها الذي اختفى كل لمحة غضب عنه
"ثقتك بي كبيرة جدا ، ولكن عليك ان تعلم بأنه مهما بلغت مدى قوتي وجرأتي فلن تساعد شخص وحيد مثلي كل العالم متآمر ضده ، يعني حتى لو سمعوا صوتي فلن يصغي لي احد وبنهاية الأمر سأكون انا الخاسرة ، وانا قد خفت من خسارة المزيد من نقاطي الإيجابية بسجلي الاسود والمليء باللطخات والسلبيات حتى كان قبولي بالجامعة شبه مستحيل ، فأنا بعد كل شيء املك جانبي الضعيف واشياء لا اود خسارتها بحياتي"
ادار وجهه نحوها بدافع غريب وهي يتأمل جانب وجهها والذي تخفيه بستارة شعرها الاسود الكثيف المنسدل عليها بفوضى ناعمة ، فبعد كل شيء تلك الفتاة الحديدية التي ينفر منها الجميع تملك من نقاط الضعف ما لا يستطيع الانسان رؤيته تحت ستار من التمرد والعنفوان والذين تتخذهما غطاء خلف انكسارات وشقوق تكدست بحياتها .
تنفس بعدها بكبت وهو يعود بنظره للأمام يحاول استجلاب كل سيطرته على النفس بعد كل ما سمع وتحاكى امام عينيه ، ليقول بعدها بابتسامة واثقة وكأنه يتباهى بنفسه
"هذا يعني بأن ما حصل لذلك الرجل كان يستحقه ، لو كنت اعلم بذلك لما سمحت لشيء بأن يبعدني عنه حتى تخرج روحه من جسده ، ما كان عليّ ان اكون متساهل معه هكذا !"
نظرت له بصدمة نفضت سمات الضعف عنها وهي تقول من فورها باستهجان
"تقول بأنك تساهلت ! لقد كدت تخنق الرجل بيديكِ ! هل تريد ان تصبح مجرم لكي ترضي غرورك الرجولي وتباهيك امام نفسك ؟ لقد كان يكفي ان تضربه على وجهه وتترك كدمة على انفه او تدفعه من كتفيه وتوقعه ارضا ! ولكن ليس ان تحول ارض الجامعة لساحة حرب وتقوم بضرب استاذ كبير وكأنه كيس ملاكمة ، لقد بالغت بالأمر وعشت بالدور ودمرت صورتي بالكامل حتى اصبح دخول الاختبار حلم بعيد المنال عني !"
كانت تتنفس بثورة وهي تفضي بكل ما يعتمل بصدرها وجثم على قلبها الممتلئ منه ، ليحرك بعدها كتفيه بلا مبالاة وهو يقول بابتسامة باردة
"لقد كان هذا اقل تصرف يستحقه مني بعد ان حاول ملامسة ممتلكاتي الخاصة ، وما فعله لا يتغاضى عنه ابدا ويحتاج لعقاب قاسي ينسيه الطريق إليكِ ! لذا لا تهتمي ولا تشغلي بالك بهذا الأمر فأنتِ موجودة بين ايديّ امينة"
ضربت بقبضتها على ركبتها وهي تقول بهجوم متمرد
"لم اطلب منك ان تدافع عني او ان تتدخل بشيء يخصني ، انا اكثر من قادرة على حماية نفسي وإدارة حياتي كما ينبغي ، وتدخلك سيجلب فقط المشاكل لي ، كما فعلت الآن وانت تحرمني من تقديم الاختبار والعودة للظهور بالجامعة مجددا"
قست تقاطيع ملامحه بلمح البصر وهو يقود بثبات قائلا بجمود صلب
"اخرسي يا ماسة وتوقفي عن التكلم عن الاختبار بكل دقيقة وكأنه آخر اختبار بكل الكرة الارضية ! هل استحوذ هذا الاختبار على آخر ذرات عقلكِ حتى لم تعودي تفكرين بغيره ؟ لا تنسي بأنني ما ازال صامت للآن عن موضوع هروبكِ من المنزل والتخطيط للأمر ! بالإضافة لتعطيلي عن الذهاب للعمل والانشغال بكِ ، وهذا بالطبع لن تسامحي عليه فكل شيء حدث له ثمن عليكِ دفعه ، فقط عندما نعود للمنزل لن اتهاون معكِ !"
زمت شفتيها بغيظ صامت وهي تدير وجهها بقوة هامسة بغضب محترق
"اعدك ان تدفع انت الثمن يا سيد متملك غيور ، ثمن تضييع اهم فرصة بحياتي وتشويه صورتي وسجلي امام الجامعة بأسرها ، ولن اتهاون معك ايضا !"
حاد بنظراته بضيق وهو يلتقط بعض الهمسات المبهمة تخرج من شفتيها مثل تعويذة شيطانية ، ليقول بعدها بجدية وهو غير مطمئن لسكونها
"بماذا كنتِ تهمسين للتو ؟ هل هو نوع من اللعنات ؟"
رمقته بأطراف حدقتيها بعدم اهتمام وهي تنحرف بنظرها بثانية لمصدر الصوت الذي خرج من جيب سترته بطنين مكتوم ، لتقول بعدها بشبه ابتسامة وهي تبعد نظرها عنه
"اجب على الهاتف"
تلبدت ملامحه ببرود وهو يخرج الهاتف من جيب سترته ببساطة ، ليوقف بعدها السيارة على الطريق وهو يجيب على الهاتف بهدوء قائلا برسمية
"مرحبا يا احمد ، ماذا هناك ؟"
اخذ وقت عدة لحظات بالاستماع بإذعان شديد قبل ان يقول بعدها بكلمات مختصرة بجدية
"حسنا يا احمد ، دقائق واكون عندك"
ارتفع حاجبيها بانتباه وهي تلتقط آخر كلماته التي جذبت تفكيرها بفضول نحو فحوى الحديث الذي جرى بينهما ، لتراقبه بعدها بصمت وهو يغلق الهاتف ويدسه بجيب سترته ، ليقول بعدها بحزم وهو يعود لتشغيل محرك السيارة
"اربطي حزامكِ جيدا ، فنحن الآن عائدون لمنزلنا القديم بزيارة عائلية سريعة"
فغرت شفتيها بانشداه لحظي وهي تغلقهما بسرعة بعبوس لتربط حزامها من حولها بعملية ، وقد تراجعت عن نيتها باستجوابه وسؤاله عن سبب الاتصال والذي جعله يغير وجهة طريقه الحالية ، فهي قد تعرضت للكثير اليوم وقد استنزف هذا الامر طاقتها كاملة حتى لم تعد تقوى على القتال والعناد ، وتشك بأن ينتهي هذا اليوم على خير بسباق المشاكل والمنغصات والتي تتوالى عليها الواحدة تلو الاخرى ، لتتحرك السيارة من مكانها على نفس الطريق وهي تعتكف الصمت والشرود بعالمها الفارغ بدون اي روح .
_______________________________
وقفت السيارة امام مدخل المنزل والذي تستحوذ الحديقة والهالة الملائكية من حوله ببهاء وخيال ولا بالأحلام ، ولكن ليس هناك اي من هذا الجمال موجود بداخل تلك الاسوار والجدران العالية والتي تخبئ سواد وظلام سكن بأفراد ذاك المنزل لدهور وسنوات حتى حفرت بكل صخرة شامخة به ، وكل تلك الافكار كانت تدور بعقلها الغارق بالظلام وهي تقف امام درجات سلم المدخل بدون الإتيان بأي حركة .
افاقت من شرودها على الصوت الحازم وهو يمر من جانبها بهدوء
"هيا تحركي ، هل تنتظرين دعوة لدخول منزل عائلتك ؟"
بهتت ملامحها الجليدية وهي تحدق بعينيها الداكنتين نحو الذي صعد درجات المدخل يسبقها ، لتهمس بعدها بهدوء قاتم وكأن روحها استحوذت عليها الشياطين
"انها ليست عائلتي ، ولن تكون"
تنفست بهدوء وهي تباشر بصعود السلم بخطوات قوية وتفكيرها يحوم حول سبب هذه الزيارة المفاجئة الغير مخطط لها ، وقوة اخرى تدفعها لاستغلال الفرصة التي قدمت لها برغبة مُلحة للاطمئنان على شقيقتها الكبرى التي غابت عنها فترة طويلة لم تحسبها بقاموسها ولم تتمنى حدوثها ، وغير هذه الاسباب فهي لا تتمنى ان تطأ قدميها ارض هذا المنزل مجددا وتلطيخ نفسها ببؤرة اسرارهم السحيقة .
ما ان سارت ببهو المنزل حتى قابلت جميع افراد العائلة مجتمعين بأجواء تسودها الشحنات المتنافرة من كل واحد منهم ، بل هناك من ينقصهم فقد كان (احمد) وزوجته الشمطاء غير ظاهرين بالتجمع العائلي ، لتأخذ بعدها جولة سريعة بينهم بداية بخالها وابنه الصغير (زين) يجلسان على اريكة منفردة بصمت مهيب ، بينما كانت (روميساء) تقف بالقرب من السلالم بوقفة جندي محارب وهي تكتف ذراعيها بعلامات بائسة ، حتى بعد ان لمحتها لم تعطيها سوى بسمة طفيفة قبل ان تغير مسار نظراتها بنفس الملامح الصارمة التي لم تعد تعرف اللين ، لتصل بنهاية المطاف لزوجها الذي كان يقف بمنتصف الرواق وقد كانت قدميها تقفان بجواره بعد ان قادتهما نحوه مباشرة .
عقدت حاجبيها بجمود وهي تهمس بالقرب منه بخفوت متصلب
"ما لذي يحدث هنا ؟ وما لذي ننتظره بالضبط ؟"
رفع يده لفمه يطلب منها الصمت بحركة الإشارة وهو يقول بحزم
"اصمتِ يا ماسة ، ولا تنطقي بحرف واحد"
عضت على طرف شفتيها ببؤس وهي تشيح بنظراتها بعيدا بدون ان تضيف كلمة اخرى ، ليقطع الصمت المغيم بينهم صوت جهوري قوي ما يزال يحافظ على نبرته الفولاذية
"من الجيد بأنكما قد حضرتما بهذه السرعة ، فقد كنت متشوق بشدة لمعرفة مخططات هذا التجمع المفاجئ الغير معلوم اهدافه من اسبابه ، واراهن بأنها من افعال بنات مايرين اللتين لا يصعب عليهن شيء بسبيل حصد سعادتهما من هذه العائلة !"
كانت ردة فعل (ماسة) ملامح باردة تعادل الصقيع بعينيها الزرقاوين وهي تلقي عليه نظرة عابرة قبل ان تشيح نظرها بأكمله ، بينما اكتفت (روميساء) بالصمت وهي تستمر بالنظر بعيدا اتجاه السلالم وكأنها منفصلة بعالم مختلف عنهم ، ولم ينطق بعدها احد ما عدا (شادي) وهو يرد على كلامه بابتسامة هادئة بعملية
"نحن لا نملك اي اجابة نعطيها لك يا ابي ، وكل ما نستطيع فعله هو انتظار حضور احمد والذي يملك كل الاجوبة على اسئلتك ، لذا تحلى بالصبر اكثر"
تلبدت ملامح والده بتحدي العيون بينهما ولم يخترقها سوى صوت صراخ انثوي عالي تردد صداه بأنحاء المنزل ، لترتفع ازواج العيون بآن واحد ناحية السلالم التي ظهر منها صاحب الدعوة بتجمع افراد العائلة وليس هذا وحسب فقد كان يسحب خلفه زوجته (سلوى) التي كانت بالمقابل تصرخ وترفس لتثبت نفسها بالأرض بقوة مهدورة ، ولأنهما كانا يهبطان السلالم فقد كانت سرعتهما اكبر وخطواتها اكثر تعثرا بالمقارنة مع اندفاعه وقوة سحبه لها ، وما ان انتهت درجات السلم وتوقف بمكانه حتى دفعها بقوة اكبر اوقعتها ارضا بمنتصف البهو بين شهقات متفرقة ذاهلة وعيون اتخذت شتى المشاعر المتناقضة .
استوت (سلوى) جالسة على ركبتيها من تحت فستانها الذي تمزقت اطرافه من شدة تعثرها على كامل درجات السلم ، وما ان كانت (روميساء) على وشك التقدم بجرأة تحلت بها حتى اوقفتها اليد التي امتدت بحزم وهو يقول بأمر صارم بصوت متباعد
"قفي بمكانكِ ، وإياكِ والاقتراب"
ابتلعت ريقها برعشة هبطت عزيمتها وهي ترتد خطوتين للخلف بتحفظ بدون ان تفقد ثباتها ، ليتدخل هذه المرة والده وهو يقف بشموخ متأهب ليقول بكل غضب شحن به
"ما هذه المهزلة ! هل جننت يا احمد ؟ هل انت بكامل عقلك ؟ ما لذي تريد ان تثبته بهذه الحركات الصبيانية شديدة الرعونة والتي لا تخرج من رجل يبلغ ثلاث وثلاثون من عمره ! هل هكذا يعامل الرجل زوجته التي امضت معه ست سنوات بحلوها ومرها وبمواجهة كل الظروف والصعاب ؟ ماذا تظن نفسك تفعل وانت تعرضها علينا هكذا ؟ ألم يكفيك كل ما حدث من قبل عندما فضلت امرأة اخرى عليها ! ألم يكفيك بأنها قد تقبلتك بكل ذنوبك واخطائك وعطبك ! تكلم أليس لديك تفسير لما تفعل ويحدث ؟"
لوح بذراعه نحو والده وهو يقول بأمر نافذ بدون ان يهاب من احد وكأن شيطان قد تلبس عقله
"رجاءً يا ابي لا تجزم ولا تصدر احكام قبل سماع الحقائق كاملة ، ولن يتحرك احد من هنا او يتكلم قبل ان اسمح انا بذلك ، فما اريد التحدث عنه الآن مهم جدا إذا كان بحياتي الشخصية او بحياة هذه العائلة ، فأنا قد قررت اليوم ان افتح جرة الثعبان امامكم التي تختبئ بحياتي وتدس سمومها بيننا"
غيمت موجة صمت ثقيلة بين الجميع بعد كلامه ما عدا والده الذي كتف ذراعيه بجمود قائلا بهدوء مريب
"وانا مستعد لسماع تبريرك المنطقي الذي ستقدمه لي جراء افعالك ، ولكن إذا لم يكن بالسبب المنطقي الذي يقنع عقلي فسيكون عندها حسابك عسيرا ، وقد اعذر من انذر"
صمتت الافواه واعطت الحرية للعيون للكلام على شكل تعابير وإشارات كلها توجهت حول الجالسة ارضا تتخذ وضعية التي حاصرتها كل الذنوب والاتهامات بدون سبيل للنجاة ، لترفع رأسها بخوف بادي على ملامحها الشاحبة التي انهمرت الدموع فوقها وهي تستمع للصوت الصارم وهو يؤمرها بدون اي رحمة او رأفة وكأنه ليس زوجها الذي عرفته منذ ست سنوات
"هيا قولي ما لديكِ امامهم ، اعترفي بكل ذنب وخطيئة اقترفتها بحياتنا الزوجية ، اخبريهم بكل شيء سمعتكِ تقولينه على الهاتف ، اريد منكِ ان تصرحي بكل ما بجعبتك من دناءة وحقارة فعلتها بحياتك ، قوليها يا سلوى !"
ارتجفت بمكانها بانتفاض تخلل بكل طرف بجسدها وهي ترفع يديها امام وجهها تضمهما بقوة ، لتهمس بعدها بتضرع شديد وبشفتين مرتجفتين بهلع استبد بها
"ارجوك يا احمد ، لا تفعل هذا بي ، لا تفعل شيء تندم عليه فيما بعد ! لا تجعل الانتقام يعمي عينيك وينسك مكانة زوجتك عندك ! لا ترتكب مثل هذا الفعل الذي لا رجعة عنه ، انا زوجتك الأولى التي قضت سنوات طويلة معك ، ألا تهون عندك العشرة ؟ ألا تهون عندك تلك السنوات ؟ رجاءً ، رجاءً يا احمد ، من اجل تلك السنوات ارأف بحالي واغفر لي زلاتي......"
قاطعها بصراخ وهو يضرب بقبضته بالهواء بأمر لا رجعة عنه وكأن الرحمة والمغفرة قد محت من قاموسه
"اخرسي يا سلوى ، اخرسي تماما ، لا تقولي كلام زائد لم اطلبه منكِ ، لقد قلت كلامي ولن اكرره اكثر من مرة ، واخبرتكِ ما هو المطلوب منكِ ان تقوليه امام الجميع ، وغير هذا لن اسمع منكِ كلام آخر ، لا تبريرات ولا اكاذيب ، فقط عليكِ بقول الحقيقة ، اخبريهم بكل الحقائق الحقيرة التي عرفتها عنكِ ، اخبريهم عن كل اتهامات روميساء التي وجهتها نحوكِ الواحدة تلو الأخرى ، هيا قوليها يا سلوى ! وألا اقسم بالله ان اخرج الحقيقة بنفسي !"
اخفضت قبضتيها المضمومتين لصدرها وهي تنكس برأسها ببكاء ازداد علو وقوة واكثر ما تجيده بهذه المواقف التي تتلف اعصابها وتنفذ منها الحيل والوسائل ، ليعود صوت والده ليعلو بالأرجاء وهو يقول بجمود صارم بعد ان اكتفى من العرض
"ما لذي تريد فعله بها ؟ ما هذا العرض السخيف ؟ لماذا تتصرف معها هكذا ؟ وما هو التصريح الذي تريدنا ان نسمعه منها ! ألا تستطيع انت التكلم نيابة عنها ؟ ألم تعد لك شخصية حتى اصبحت تتجبر على فتاة اضعف منك ؟ انا اريد سماع الكلام منك شخصياً ، اريدك ان تفسر لي سبب كل هذه التصرفات وسبب كل هذا التوتر والشحنات التي قلبتها بالأجواء......"
التفت (احمد) نحو والده بملامح جامدة وهو يقول بصوت حاسم بعد ان اتخذ قراره وضغط على قابس القنبلة
"حسنا يا ابي ، اسمع ما سأقوله الآن ، كنتك الغالية وزوجة ابنك ارتكبت اخطاء بحياتها لا تغتفر ولا يسامح عليها ، فهي سبب كل دمار حدث بحياتي الزوجية بطريق ان تفسد الوفاق بيني وبين روميساء ، وكل هذا من اجل دوافع مريضة ومشاعر غيرة جعلتها ترتكب افعال لا تخرج من انسان يحمل قلب وضمير ! فقط من اجل ان تهزم ضرتها روميساء والتي تراها اكبر اعدائها حتى حولت نفسها لوضيعة حقيرة تخاف منها شياطين الأرض !"
زادت الشحنات المتناقضة بالمكان حتى اصبحت على شكل شعلات صغيرة تنتظر الكاز للانتشار واحراق الارض ، ليقول بعدها والده بهدوء شديد وكأنه يقود الحديث بسلاسة
"اجل تكلم ، وما هي الافعال التي ارتكبتها زوجتك حتى قلبتك بهذه الصورة وحولتها لوضيعة بنظرك ؟ ما هي الافعال التي لا تغتفر والتي لا تستطيع مسامحتها عليها ؟!"
تلبست ملامحه قناع القسوة وهو يخفض نظره نحو التي رفعت رأسها مجددا وهي تحرك وجهها بالنفي بهذيان ورجاء باكي وكأنها تستغيث ، لتعتلي ابتسامة ساخرة محياه وهو يقول بجمود صريح بدون اي مواربة
"هذه المرأة قد ادخلت رجل غريب بيننا وبوسط عائلتي ، وتلاعبت بثبات علاقتي الزوجية مع روميساء وعبثت بأواصر الثقة بيننا حتى اصبحنا على خلاف دائم ، وقد ابرمت معه اتفاق لكي تستطيع توسيخ سمعة روميساء وتصوير الأمر وكأن هناك علاقة تربط روميساء بذاك الرجل ، وقد فعلت هذا عدة مرات وبسبب غبائي صدقتها ببعض المرات ونجحت بالاحتيال عليّ واللعب علينا بأرخص الطرق واسهل الوسائل ، ولم اكتشف كل هذه الحقائق ألا عندما سمعتها تكلم والدتها عن تفاصيل جرائمها وتصرح لها بكل فعل ارتكبته بحياتنا ، حتى روميساء حاولت كشف ألاعيبها ومكائدها ومع ذلك لم استطع الوقوف بصفها وانقلبت عليها ، هل هذه الافعال تخرج من امرأة شريفة تملك سمعة وعائلة ؟ هل تستحق المغفرة والتجاوز عنها بعد كل ما فعلته وبدر منها ؟ هل تستحق ان يسامح ببساطة عن كل تلك الحقارة والوضاعة التي خرجت منها ؟!"
تجمدت الاجواء بينهم ببرود صقيعي بعد ان اطفئ حريقهم وكل منهم يعبر عن صدمته ومشاعره بداخله بدون اي صوت او وقع ، ليقول والده مجددا بصوت صلب غير مبالي وكأنه يسمع شيء يحدث كل يوم
"تعلم جيدا بأن هذا ما سيحدث بالوضع الطبيعي وبعد كل ما جرى بينكما ، فلا تخدعك تصرفاتها المتمردة والتي كانت ردة فعل على افعالك معها واهمالك لها كل هذه المدة ، فأنت الذي بدأت اولاً بإدخال طرف ثالث بينكما عند زواجك من امرأة اخرى وخيانتها من وراء ظهرها ، وبعدها تفضيل تلك المرأة عليها بكل شيء وعدم اعطاء زوجتك الأولى اي اهتمام او قيمة حتى قررت الدوران من حولك واستخدام نفس طرقك ، يعني هي فقط تحاول لفت نظرك لها ودفعك للاهتمام بها بعد ان اختفت من محور حياتك واستولت الاخرى عليك ، فلو انك ادرت حياتك بالشكل الصحيح وعدلت اكثر بين زوجاتك ولم تفضل واحدة على الاخرى لما وصل الامر لهذا المنحى ولكنت اكتشفت نواقص زوجتك واصلحتها قبل فسادها ، يعني انت المذنب الأول بما يحدث لكم !"
ادار نظره بصدمة غزت محياه وهو يضرب بقبضته على صدره قائلا باستنكار غاضب بعد ان فقد صوابه
"انا يا ابي ! انا من تلقي عليه الذنب ! بدلا من ان تلوم سبب كل هذا الحريق تلومني انا وتحملني المسؤولية بما آلت له حياتي بسبب اختيارك لها زوجة لي ! لقد كنت اتحمل كل شيء تلقيه على عاتقي وحتى بتحمل مسؤوليات اكبر مني وكنت دائما توبخني على اقل الامور وابسطها بدون ان يكون لي يد بها ، ولكني مع ذلك لم اشتكي ولم ابكي ولم اعارض ولم اصرخ ، ولكن ان تلومني على تصرفات تلك المجنونة فقط لأنك اخترتها زوجة لي وتناسب مقامك وعائلتك وتساعد مصالحك واهدافك ! فهذا ما لا اتقبله ويفوق قدرتي وطاقتي على التحمل ، وليكن بعلمك بأن كل افعالها لا تساوي شيء امام الجريمة البشعة التي اقترفتها بحقي وبحق زوجتي روميساء ، عندما قامت بقتل روح بريئة بداخل رحم والدته كادت تقضي على حياة روميساء معها فقط لأنها لا تستطيع الإنجاب وصل حقدها لقتل تلك الروح التي لم تجرم بحقها ! اي تبرير او سبب يشفع لها ما فعلته ؟ ما هو التفسير المنطقي لما فعلته بروح لم تسمح لها بالحياة ؟"
هذه المرة دبت المشاعر الحارقة مثل اعواد الثقاب بين كل منهم حتى صدرت بعض الشهقات المكتومة الخارجة عن الإرادة بددت الصمت ، ولكنها لم تلفت الانتباه بقدر صوت التأوه الذي خرج من الساكنة بعيدا وهي تستند على حاجز السلم بعد الضربة التي هزت كيانها بأكمله واختلت باتزانها ، حتى استدار (احمد) نحوها بسرعة الطلق وهو ينظر لها بعينين عاصفتين بمشاعر قوية وكأنه تنبه لأول مرة لوجودها ، ليغيب التعبير عنه بوجوم ما ان تلاقت النظرات بينهما ولمح الجرح الغائر بخضار حدقتيها وكأنها قد تلقت كسر لم تعد تستطيع مداراته عن احد .
تصلبت خطوط ملامحه ببرود وهو يدير رأسه للأمام ليكمل إدانة الجالسة امامه ما تزال تجهش ببكاء عالي وكأنها لا تملك دفاع غيره ، ليصدح صوت والده عاليا وهذه المرة بسؤال توجه للجاثية ارضا قائلا بجفاء
"هل هذا صحيح يا سلوى ؟ هل ما يقوله زوجك احمد صحيح ؟ هل انتِ من قتلتِ الجنين ؟"
توقف نحيبها قليلا بدون ان يتركها ارتجاف شهقات بكاءها والتي ازدادت حدة وعنف تحت ضغط السؤال المباشر ، لتدير بعدها رأسها سنتمترات نحو مصدر الصوت وهي تهمس بصوت مبحوح بتعثر شديد
"انا اعتذر ، اعتذر بشدة يا عمي ، سامحني ارجوك"
هذه كانت الكلمات التي استطاعت التفوه بها اوصلت المعنى الحرفي لكل واحد منهم بدون توضيح ، ليقول بعدها (احمد) وهو ينطق بنبرة باردة بعد ان وصل لنهاية الطريق
"حسنا توجب عليّ الآن ان افي بوعدي لكِ ، واكون عند كلامي والذي تكلمنا عنه سابقا ، فقد حان الوقت الآن لتسوية كل الامور بيننا"
نظر له الجميع بحيرة بانت على وجوههم بعد كلامه الاخير الذي لا يبشر بالخير ، ليقول والده بسرعة وهو يفهم جيدا مغزى كلامه وعلى ماذا ينوي
"لا تفعل هذا يا احمد ، إياك ان تفعلها......."
صرخ فوق صوته بكل قوة وبكل كراهية تحملت بصوته وكأنه يصرح بالكلمة الاخيرة التي بقيت عالقة على طرف لسانه
"انتِ طالق يا سلوى ، ولا اريد رؤية وجهكِ لآخر يوم بحياتي ، لأني إذا لمحتك بالقرب مني لن اضمن نفسي عندها !"
صدرت شهقات اعلى عن السابق ترددت بصدى المكان واختبأت بزوايا المنزل الكبير بعد ان فشيت اسراره ، وبعد مرور لحظات كان (احمد) يستدير من امامهم وهو يعود ادراجه بصعود السلالم من جديد وكأنه لم يفعل شيء للتو ، بينما كانت (سلوى) تراقب صعوده بعينين مغرورقين بالدموع لم تتوقفا عن الانهمار لثانية واحدة ، ليحجب المشهد امامها ظل طويل وقف بمكان (احمد) وهي توجه نظرات اتهامية نحوها وكأنها استنساخ عن زوجها ، لتقول بعدها بهدوء ثابت تستطيع استشعار هالة القسوة والوحشية من حولها
"ربما تكونين تملكين الجاه والمال والخدم والنسب ، ولكنكِ لا تملكين ربع الموجود عند البشر وهو الانسانية ، وعندما تنعدم الانسانية من البشر لا تكون لهم قيمة او حياة ، ومجرد وجودهم بيننا يكون مرض ووباء على البشرية ، لذا من الافضل ازالتهم واقتلاعهم قبل انتشارهم"
ما ان انتهت من كلامها والذي شرح طريقة تفكيرها نحوها والتي ادت عملها بمنتهى المهنية ، حتى كانت تنسحب كذلك وهي تصعد درجات السلم بعيدا عنهم ، تحركت بعدها (ماسة) بخطوات هادئة باستعلاء وهي تمر من الجالسة ارضا ناظرة لها باحتقار قبل ان تصعد السلالم بدون ان تعطيها اهتمام كبير .
افاق الجميع على صوت خطوات فرد آخر اقتحم المكان منذ وقت بدون ان يشعروا بوجوده ببداية الحدث ، وقد تمت دعوته كذلك لاجتماع العائلة وهو يتخذ وضعية المشاهد الصامت بدون ان يبدي اي رأي او تعليق على ما حدث ، ليصل بعدها امام ابنته الجالسة ارضا تنظر للفراغ امامها بدون اي حياة او شعور وكأنها فقدت الاحساس بالواقع ، ليمسك بعدها بمرفقها وهو يساعدها على النهوض ببطء حتى استقرت تضع كامل ثقلها عليه وذراعه تحاوط كتفيها ، ليقول بعدها بهدوء متزن امام العيون الناظرة له
"اعذروني جميعا ولكني مضطر للرحيل الآن مع ابنتي ، واعتذر على كل ما سببته لكم من متاعب وفضائح لا تغتفر ، وكل ما اطلبه منكم هو التفهم والاحترام ، عمتم مساءً"
تدخل (محراب) بسرعة وهو يقول بتعب جاد بانت تجاعيد العمر عليه
"اسمعني يا رأفت ، فما حدث الآن لم يكن بالشكل الصحيح ، لقد كان مجرد سوء فهم ، ونحن علينا بإعطائهما فرصة....."
قاطعه (رأفت) بحركة كفه وهو يقول بجمود جاد غير متراخي
"شكرا على كلامك يا سيد محراب ، ولكن اعتقد بأنه قد وصلنا لنهاية المطاف ، وليس هناك طرق اخرى لحل هذا الامر ، واتمنى ان يكون هذا لقاءنا الاخير"
صمت (محراب) تماما وهو يراقب رحيله مع ابنته بوجوم تغضن بملامحه الصلبة ، ليتحرك بعدها بخطوات سريعة متعثرة بوهن وابنه الصغير يرافقه بسيره بعيدا ، ولم يبقى سوى (شادي) متواجد برواق المنزل الفارغ وهو يشرد بالسلالم مفكرا بما يفعله هنا ! وهل من الصحة عودته للمنزل بهذه الظروف ؟
_______________________________
دخل للغرفة ونظراته تقع على الجالسة على طرف السرير شاردة بعالمها السوداوي من نظراتها القاتمة المعبأة بنيازك هبطت ببحار عينيها المظلمتين ، وكأن ما حدث قبل قليل عاث بأرضها فسادا وبعثر مشاعرها الداخلية ، ومن يراها يظن بأنها هي التي تم اضطهادها وظلمها بعد معرفتها بجرائم تلك الضرة المجنونة التي لم تعد تميز بين الصواب والخطأ تحت ظل كراهيتها الغير منطقية والتي لا وجود لها من الصحة ! فهو يستطيع استشعار هالة الوحشية تحوم من حولها تلسع الكائنات الحية على بعد امتار منها بدون الداعي للإسهاب بالكلام معها فقط من تعبيراتها وحركاتها تخرجها بصور وبعدة لغات تصف اكثر من الكلام ، وقد يكون السبب هو رابط الدماء القوية بين الشقيقتين واللتين تعايشتا مع بعضهما تحت نفس الظروف والبيئة حتى اصبحت كلٌ منهما تشعر بمشاعر الاخرى تارة بلحظات الحزن وتارة بلحظات السعادة وتارة بلحظات الألم ، وليس هناك افضل من (ماسة) تستطيع تجسيد الألم بمنتهى المهارة وكأنها تعايشه وتفهمه وتقبله بكل جوارحه وتفاصيله حتى اصبح الجزء المرادف لقدرها والوجه الآخر لوجهها .
قطعت (ماسة) شريط الصمت بينهما وهي تقول بمنتهى الهدوء والاتزان
"هل كنت تعرف ؟"
ارتفع حاجبيه بانتباه وهو يفيق من شروده بتحليل شخصيتها التي انغمس بها وتعرف عليها بكل هذه المدة ، ليتقدم بعدها عدة خطوات طويلة يخترق دارتها التي صنعتها من حولها وهو يقول بتعجب ساخر
"اعرف ماذا ؟ لم افهم ؟"
توقف بمكانه ما ان نهضت عن السرير بقوة وهي تستدير نحوه بكلتيها ، لتلوح بعدها بذراعها بالهواء وهي تقول ببداية هجوم غير واعي
"هل كنت تعرف عن الموضوع الذي جمعنا من اجله اليوم ؟ هل كان لديك صورة او خلفية عن الامر ؟ هل كنت تعرف بما كان يحدث بالمنزل وانا لا علم لي بشيء ؟!"
تلبدت ملامحه بصمت بدون ان يرف له جفن وهو يشاهد ثورة مشاعرها التي بدأت تطفو على السطح ، ليحرك بعدها كتفيه باستهانة وهو يقول بجدية يجيب على اسئلتها التي تقصد بها اتهامه
"انتِ لست بكل هذا الغباء حتى لا تعرفين بأنني بنفس حالتك تماما لا علم لي بشيء ! فقد تلقيت الاتصال امام عينيك ولم اتلقى منه سوى امر بالحضور بشكل عاجل بدون اي تفاصيل عن الموضوع وعن سبب الاجتماع ، وقد رأيتِ صدمتي بما حدث امامنا تماثل صدمتك كذلك ! وغير ذلك انا لست شخص اقحم نفسي بمشاكل عائلتي واعطيها مساحة بحياتي ، لذا توقفي عن هذه الاتهامات المندفعة واخراج نفسكِ بتلك الصورة الغبية فقط لتفضي بمشاعرك الثائرة التي فاضت عن الحد"
نفضت ذراعيها للأسفل بحركة متوترة وكأنها فقدت السيطرة على ذبذبات غضبها من كل ما يحدث لها وحولها ، لتعود بعدها للصراخ باستنكار وهي تنظر له بتلك العيون التي تسربت المشاعر السلبية منهما
"كيف لا تعرف عن شيء ؟ كيف ؟ ألست فرد من هذه العائلة المشؤومة ! ألم تكن تعيش هنا طيلة حياتك فيما مضى ! كيف لا تعرف عن تصرفات شقيقك بزوجته ؟ كيف لا تعرف بأنه كان يظلم شقيقتي كل هذه المدة ومع تلك الشيطانة المسماة ضرتها ؟ كيف لا تعرف بأنها كانت السبب بخسارة روميساء جنينها الذي حرمتموه منها ؟ كيف لا احد منكم يعرف بما يجري معها وامام اعينكم بدون ان ينصفها احد منكم ؟!"
عبست ملامحه حتى ضاقت عيناه بغضب وهو يقول بوجوم خافت
"ماسة هل انتِ تتكلمين من عقلك ؟ ام لا تريدين تصديق حقيقة بأنكِ انتِ التي لم تسألي عنها منذ البداية ؟ وتبحثين عن حجج واسباب تافهة ألفها عقلكِ لكي تلصقيها بي وتبرئي نفسكِ من اللوم والاتهام ! واذكركِ بأنكِ انتِ من خرج من المنزل بإرادته الحرة قبل اسبوعين واكثر قاطعة كل الصلات والروابط بحياتك ، لذا اضطررت بالنهاية لحبسك بمنزلنا الجديد لكي تهذبي من تصرفاتك وتعودي لوعيك ورشدك ، وهذا الامر ما جعلنا نبتعد عن العائلة بأكملها وصرف النظر عن كل شيء جرى بعدها وما حدث معهم بتلك الفترة الزمنية ، وايضا هل نسيتِ بأنني هنا من اجل ان احاسبك على تصرفك الاخير بالهروب من المنزل بدون إذن مني ؟ ام انكِ تستخدمين قصة شقيقتك وتجعلينها حجة لكي تكون إلهاء لكِ !"
اهتزت حدقتيها الزرقاوين حد الصميم اخذت لحظة فقط قبل ان يعود هياج الغضب يحتل كل اجزاء جسدها وهي تضرب الارض بقدمها صارخة بضراوة اكبر
"انا نادمة ، انا بالفعل نادمة ، ولكن ليس لأني لم اسأل عن اختي كل هذه المدة وقطعت الصلة بيننا ، بل لأنني قبلت الخسارة والرقود بمكاني بعد ان حجزتني بذلك المنزل اللعين ، كان من المفترض ان اقاوم واكسر حواجزك لأكون اكثر قربا من العالم المحيط بي والذي تركته وهجرته ، وانظر إلى ما حدث الآن بسبب عنادك وتملكك وتمسكك بي حتى خسرت فرصة خوض اختبار الجامعة وخسرت الوقت الذي احتاجتني به روميساء اكثر من اي وقت مضى عندما خذلها الجميع وانقلبوا ضدها بدون ان يقف احد بصفها ، لقد اخذت مني حلمي واختي الاقرب بحياتي ، ماذا سأفعل الآن ؟ كيف سأتمكن من استعادة كل ما خسرته ؟"
كان يحدق بها بصمت خاوي تحت سطح صلب دار من حولهما لبرهة قبل ان يقطعه بابتسامة جامدة وهو يقول بجفاء
"احسنتِ يا ماسة ! لقد تفوقتِ على نفسكِ بالغباء وتدمير كل شيء بنوبات غضبك ، هل نفذت منكِ كل الحجج والتبريرات حتى جعلتي مني طعم بصنارة غضبك التي اصطادت كل شيء امامها ؟ ألا تتوقفين عن هذه العادة بلوم الجميع واظهار الكل على خطأ لتريحي ضميرك وعذاب قلبكِ بقسوته على الآخرين وتحويلهم لأدوات بغضبك ؟ فنحن بالنهاية بشر نملك مشاعر وقلوب مثلكِ ولا تستطيعين رؤيتنا بنظرتك الشريرة والتي تطعن وتقتل بدون ان تأبه لتمري من خلالنا ، ليس هكذا تجري الامور يا ماسة ! وإذا كنتِ لا تستطيعين تقبل خذلانك لشقيقتك وخطئك بحقها ، فهذا ليس ذنبنا بل ذنبكِ وحدكِ ومن مسؤوليتك انتِ اصلاحها وليس برميها على الغير !"
شددت على قبضتيها بعد ان استطاع اخماد ثورتها وترك مخلفاتها بعينيها المشروختين مثل صدفتين ميتتين ، لتقول بعدها بصوت خافت بلسعة حزن حارقة
"انت تفعلها معي مجددا ! تظهرني سيئة وقبيحة امام نفسي ! تمثل بأنك تفهمني ولكنك عكس ذلك تماما ، فما ان يحدث موقف بسيط بيننا تسارع باتهامي وتجريحي بكل ما اوتيت من قوة وكأنني روبوت امامك يتوجب عليّ القبول والاستسلام ، لا احد يشعر بما اعاني وامر به ، لا احد منكم يعرف بما هو محشور بداخلي ومكبوت به ! انتم فقط تمثلون الحزن والاهتمام ولكنكم بالواقع لا تعرفون ، لا احد يشعر بالألم الذي تقاسيه سوى من يجربه ، وانتم بلا شك لم تجربوه ، لذا بأي حق تريدون محاسبتي ! بأي حق ؟ انتم بالطبع ليس لكم اي حق !"
غامت ملامحه هذه المرة بسحابة داكنة تخللت الاجواء بينهما بشرارات عالية المدى ، ليقول بعدها صاحب الصوت الباسم بدون اي تعبير وكأنه يسخر من الوضع
"اجل انا لا اعرف ألمك ، ولم اجربه بحياتي ، هل هذا ما تودين سماعه مني ؟ هل هذا ما تريدين معرفته ؟ هل ارتحتِ الآن يا سيدة الحزن والألم ؟ هل تشعرين بالسعادة بعد ان حققتِ هدفك وسددتِ ضربتك ؟ انا لم اجرب الألم بحياتي ، ولكن بعد دخولك لحياتي عرفت ما هو الألم ، فقد تألمت منكِ انتِ ، انتِ ألمي يا ماسة !"
اتسعت حدقتيها الزرقاوين بارتباك قبل ان تشيح بوجهها بعيدا وهي تهمس بضيق مضطرب
"لم يكن هذا قصدي من كلامي ! لم اقصد ان اسبب لك الألم ، ولكني ، ولكني اردت ان يفهم احدهم ألمي......."
بترت كلماتها بضياع مشتت وكأنها تُغرق نفسها بدوامة بدون إرادة منها ، ليقاطع تفكيرها صوت (شادي) وهو يقول باتزان مريب بدون اي تأثر
"لقد فهمتكِ تماما ، وانا الآن سأمنحكِ الهدنة والحرية نزول على رغبتك ، وليس هناك منزل مغلق او حواجز او اسوار او ابواب تحوم من حولك ، وها هو الباب مفتوح امامك يمكنكِ استغلال كامل حريتكِ بقدر ما تريدين ، حتى لو هربتِ ووصلتِ لآخر العالم لن احاول منعك او ردعك ، فقد اصبح كل شيء تريدينه وتسعين له بين يديكِ وبحوزتك ، حتى انني لن احاسبك على هروبك من المنزل والتخطيط لهذا الامر ، لأني بالواقع لم اعد اهتم ، لم اعد اهتم بشيء يحدث معكِ وبمسار علاقتنا الحالية ، لم يعد يهمني شيء !"
ادارت وجهها للأمام بسرعة وهي تراقبه يوليها ظهره قبل ان يكمل طريقه خارج الغرفة بهدوء شديد بدون ان ينتظر ردة فعلها ، لتخرج بعدها تنهيدة طويلة وهي تتابع اثره بحزن اسر امواجها بحدود قيدها للأبد ، لتنهزم قواها بلحظة وهي تجلس على طرف السرير بارتخاء وظلام الليل يسور عالمها حتى طافت على سطحه بعد ان كان يلون نظراتها .
رفعت يديها وهي تمسك شعرها الطويل بقبضتين قاسيتين هامسة بغيوم حزينة تأنب نفسها وقلبها عليه كامل اللوم
"احسنتِ صنعا يا ماسة ! هذا اكثر ما تجيدينه بحياتك ، تدمير كل شيء ، كما دمرتِ علاقتكِ الآن ، وكما ستدمرين كل شيء تلمسيه وتقتربين منه"نهاية الفصل.........
![](https://img.wattpad.com/cover/325623326-288-k203063.jpg)
أنت تقرأ
بحر من دموع
General Fiction"كل من ينظر إلى عينيها يلمح الجمود والقوة بهما لتضلله بنظراتها الثابتة وهي تنظر لكل من حولها بعدم مبالاة متعمدة لتدوس على كل ما يطأ قدميها بعنف قاسي مبالغ به ليتحول لرماد من تحت ضغط قدميها ، بينما هو من بين الجميع استطاع ان يلمح دموع متدفقة بعينيها...