في الصباح الباكر و بعد مغادرة أطفالي الى مدارسهم خرجت من المنزل الى سوق المدينة الكبير المكتظ با الباعة و الناس المتجمهرين فيه لاقتناء بعد النواقص اللازمة للبيت .
كان الازدحام شديدا عندما وصلت الى هناك مما دفعني للركض بين الأزقة الضيقة و محلات البقالة المصطفة جنب الى جنب قبل أن يصبح الازدحام أشد أو أن تصبح الأسواق خاوية مما أتيت لأجله.
جلست بعدما فرغت من ذلك على كرسي أمام أحد الأسواق بجسدي المنهك في رحلة الركضة اللامتناهي التي كنت فيها أراقب ذلك التجمهر الكبير و في الأزياء المختلفة التي كان الناس يرتدونها مما اتضح لي أن أغلبهم كانوا من العجم الغرباء عنا.
أخرجت ساعة جدي تارياغ الفضية ذات السلسة الطويلة من جيب معطفي لتحقق من الوقت حيث كانت الساعة في تلك اللحظة تشير الى التاسعة و النصف صباحا تنهدت با ضيق عند تذكري للمسافة التي يجب علي أن أقطعها من المدينة و حتى مهجعي هناك قائلة :
لماذا جعلت بيتنا بعيدا الى هذا الحد يا عمر !!! .
وقفت أراقب المكان لبرهة من الزمن قبل أن أفتح ذرفت باب الفناء الخارجي لبيتنا أحمل الأكياس الثقيلة بتعب و ارهاق كبير, وضعت الأكياس على الأرض لأتناول حقيبتي و أخرج منها مفتاح المنزل حتى شعرت با ضيق في صدري جعل أمر تنفسي صعبا لم أعلم سبب ذلك الشعور الذي انتابني و لا با عدم رغبتي في الدخول للبيت حتى أنني لم اجد سببا لهذا الإحساس الغريب و لكن قلبي غير مرتاح .
أدرت مقبض الباب لأفتحه بعد حرب مجهدة في اصال المفتاح الى قفله دون أن أفقد شيئا من بصري غير مصدقة وصولي الى البيت باكرا بعد قطعي لكل تلك المسافة سيرا على الأقدام .
اخذت الأغراض في اتجاه المطبخ لترتيبها و للبدء في الطبخ قبل أن يعود الأطفال من مدارسهم حتى توقفت لتمزق الكيس الذي يحمل التفاح و تناثر التفاح في كل مكان على الأرض .
نظرت اليهم بينما يحمل وجهي وجوم الكون كله قائلة :
يا الاهي !!! هذا ليس وقتك أنني با الكاد أستطيع الحراك ولا أملك مزاجا لهذا.
جلست على ركبتي أجمع التفاح داخل معطفي بعد أن فردته على الأرض و خلال قيامي بذلك رفعت نظري حيث يقبع الباب الرئيسي للمنزل ... أنظر بحذر إلى مقبض الباب الذي بدأ با التحرك ليتبعه فتح الباب و دخول أحد منه بسرعة لم أستطع تمييز هالته بسبب الظلام في الداخل شلت حركتي حتى أن صوتي اختفى ليقاطعني ذلك الصوت المحبب لقلبي (مهند) قائلا :
مرحبا امي !!! ... كيف حالك اليوم لقد اشتقت إليك كثيرا .
أخرجت الهواء من صدري بعمق لأبتسم له قائلة :
اهلا عزيزي كيف كان يومك ؟ لابد انك متعب كثيرا ...اذهب و غير ثيابك وخذ قسطا من الراحة سوف يجهز الغذاء بعد ربع ساعة .
ابتسم مهند بسعادة كبيرة قائلا:
حسنا امي ... انني جائع جدا ... يمكنني أكل ثور بمفردي!!!.
أعدت رأسي إلى الأرض بابتسامة حيث كنت أجمع التفاح المتناثر داخل معطفي بعد أن ابتعد مهند عني ذاهبا إلى غرفته حتى توقف بقلق و تعجب قائلا : أمي! أين نائلة ؟ هل عادت من المدرسة ؟ لقد خرجت من هناك قبلي و يجب ان تكون هنا منذ ساعة .
ضيقت عيني في محاولة لاستيعاب ما قاله حيث أني لم أشعر بنفسي الا و كنت أمام الباب أناظرها بعد أن ذاب قلبي و تملكني الخوف مع كل ساعة تمر على غيابها .
حاولت أن أسأل كل المارين في الطريق عنها و لكن دون جدوى كأن الأرض انشقت و ابتلعتها .
هدوء مخيف عم المكان حيث لا يسمع فيه إلا صوت عزيف الرياح بعد أن أسدل الليل ستائره فلم أعد أشعر ببرد تلك الليلة و لا با قدماي التي أصبحت هي من يقودني دون سيطرتي عليها ... صار قلبي شعلة من الخوف و القلق شعلة يمكنها احراق المدينة بأكملها .
مع انتصاف تلك الليلة و انتشار حزام من الضباب الثقيل و الذي بدوره جعل الرؤية مشوشة الى حد ما جفت دموعي من عيني و أنا لا زلت في انتظار قدومها و مع مرور الوقت يتلاشى ذلك الأمل ليأتي مكانه التعب و القلق و الأفكار السيئة التي أصبحت تضج داخل عقلي.
تسمرت مكاني ما ان أمعنت النظر لذلك الجسد الغير متزن في الأفق البعيد الذي يصارع الضباب بقوة فتارة يمسك في يده قنينة من الخمر و تارة يمسك بها رأسه تبعه صوت غناء خافت .
وضعت يدي على فمي لأكتم الصرخة التي أحسست أنّها ستنطلق لأرمي بثقلي على الحائط خلفي قائلة:
هذا مستحيل ذلك الصوت ... لا يا الاهي .. لا اصدق .. متى عاد؟؟ .. لا هذا مستحيل ... عمر!!! .
كان ذلك المنظر يثير في النفس الرهبة با الشكل الكافي الذي جعل من قلبي لا يحتمل ما رأيته لأقعد فاقدة لوعيي.