في صباح يوم الاثنين في تمام الساعة التاسعة صباحا، استيقظت احدى المدن الصغيرة على صوت صراخ قويّ يدبّ في احدى المنازل معلنا عن سقوط ضحيّة جديدة من عشرات الضحايا التي لا أحد يعلم سبب موتها فالكل أصبح يعطي فرضيات البعض منها لا أساس لها من الصّحة.. أو ربما صحيحة من يدري!..
"لااا لاااا لا أُريد أن أمووت أخرجوني من هنا.." صاح شاب بهستيريا وهو يلتمس عنقه بعد ما وجد وعائلته جثّة أباه مرمية أمام باب المنزل ويعتليها رأسه معلقاً على الجدار، والدماء الدافئة تتقاطر منه بهدوء...
أقام سكان الحيّ الجنازة وأكرموا الميّت بدفنه في المقبرة التي تبعد عندهم بضع أمتار، ثم عاد كل منهم الى عمله ومنزله ينتظرون مصيرهم المحتوم أيضا!...
الشرطة؟ لقد قاموا بالتحقيقات اللاّزمة، تم استجواب الجيران والأشخاص المقربين من الضحية للحصول على وميض من المعلومات التي قد تفيد في حل هذه القضية ولم يتوصلواا لأي نتيجة... لا بصمات ولا دليل يُذكر الا جثةً هامدة أُخرى تُغرقها الدماء!..
"انها لعنة" قالت تلك العجوز الواهنة إلى الضابط الذي أمامها فبدأ بالضّحك تدريجيا وقال: "آسف سيدتي! لا أُريد تكذيب فرضيتك المتواضعة لكن ليس هناك وقت لهذه التفاهات.. لعنة؟!.. هيا الى منزلك الآن وسنقوم بكل مانقدر عليه وباذن الله سنمسك بالفاعل.." نظرت له تلك العجوز نظرة توحي بالخُذلان: "لم يعد لدي ما أفقده يا بني فأعزائي كلهم هناك" وأشارت بيدها الى المقبرة البعيدة نوعاً ما.. وقالت بعيون تملؤها الحسرة: "لكنني أُريد ان أذهب وبالي مرتاح على هؤلاء المساكين الذين يُخطفون واحدا تلو الآخر.."
في نفس المدينة...
أمسكت أنجيلا الهاتف بيد مرتعدة واتصلت بشخص ما...
أنجيلا فتاة في الثانية والعشرين من عمرها توفي والديها عندما كانت في سنّ الخامسة من عمرها... في حادث سير وتكفّلت بها جدتها، تدرس في السنة ما قبل الاخيرة في كلية الهندسة فتاة رشيقة ذات بشرة بيضاء وشعر بني قصير نوعا ما وبعيون بنية لوزية
" الو" أجابت بصوت مبحوح بالكاد أخرجته: "جاكلين أين أنت واللعنة!"
أجاب الطرف الآخر: " أنا في العمل لم يتبقى الكثير" ثم أكمل بتساؤل: "ماذا هناك؟ "
كان الخوف يسيطر على ملامحها وقالت بهدوء لا يتناسب مع الأجواء: "ضحية جديدة!... " ثم انفجرت بالبكاء وقالت تحت شهقاتها: "أنا...أنا خائفة جاكلين سنموت حتماً"
طمأنها الطرف الآخر قائلا: "اهدئي عزيزتي لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا لا تخافي سآتي حالا!"
أغمضت عينيها بتعب وقالت: "حسنا أنا في منزل جدتي... "
أغلق الهاتف ثم إعتلاه الشرود لدقائق....
جاكلين شاب في السابع والعشرين من عمره أكمل دراسته في الجامعة وتخرج بامتياز، ويعمل الآن موظّفا في شركة صناعة السيارات ويُعتبر من أرقى الموظفين هناك لنزاهته وشفافيته وتفانيه في العمل، طويل القامة صاحب عيون خضراء مضيئة شعر أسود وبشرة قمحية يعيش مع أبيه وحيدا فلقد قُتِلت أمه قبل خمس سنوات على يد هذا السفاح وأقسم جاكلين على أنه سيخلف الثأر ويرجع حق والدته ويجعلها تنام مطمئنة في قبرها مهما طال الأمر...
يسكن هو وأنجيلا في حي واحد ولقد عاشوا طفولة واحدة فلم يمرْ يوم ولم يتقاسموا تفاصيل يومهم معاً حتى كبروا ومزالوا محافظين على صداقتهم الجوهرية هذه...
عند الثامنة مساءاً...
كانت أنجيلا تحضر مائدة العشاء
: "جدتي تعالي العشاء جااهز! "...
جلست الجدة على الطاولة التي تتوسط غرفة الضيوف الواسعة وضحكت بخفوت ممازحة ابنتها: "ماهذا ابنتي رائحة طعامك شهية"
تذمّرت أنجيلا وقالت: "جدتي أهذه سخرية أم ماذا؟ أنت من قمت باعداد الطعام! لا أنا"
قالت الجدة ببلاهة: " ابنتي كما تعلمين لقد كبِرتْ وذاكرتي تلاشت لم أعد أتذكر جيداً"
ابتسمت أنجيلا ابتسامة جانبية زيّنت ثغرها الصغير: "بل تتذكرين"... ثم مدت يدها وقرصت الجدة بحنو على خدّها : " سأُعدُّ غدا الغداء وسترين طعام حفيدتك اللذيذ! سأصبح أم وليد غدا (أم وليد هي طباخة جزائرية مشهورة جدا)"
حملت الجدّة الملعقة ثم سألت حفيدتها : "الن ينظم الينا جاكلين!؟"
ابتسمت أنجيلا وهي تسكب الحساء في الأطباق: "بلى، اتصلت به وهو الآن في الطريق"
سمعوا طرقاً خفيفا على الباب الخشبي الداخلي يليه صوت رجولي "السلام عليكم"
ردّت الجدّة: "وعليكم السلام أهلا بني تفضّل بالدخول"
التفتت أنجيلا نحوه لتتلاقا عينيهما لثوانٍ وابتسمت بخجل....
ازاح جاكلين عينيه بسرعة واتجه نحو الطّاولة: "شكرا أيتها الطيبة.." ثم علّق:" رائحة الحساء شهيّة"
قالت أنجيلا ممازحة ايّاه: "لقد أعددته أنا"
نظر نحوها بأعين جانبية: "لا أضن"
مثّلت أنجيلا البرود وقالت: "أتقصد أنني لست بارعة بالطّهو؟"
وقع جاكلين في الشرك و حار ماذا يقول... ثم قال بتردد و ارتباك: " لم أقل هاذا مابكِ!.."
وضعت أنجيلا الملعقة جانبا وقالت بثقة متصنعة: "على كل حال غدا سترى"
رفع جاكلين حاجبيه للاعلى: "عفوا ماذا أرى؟"
ضحكت الجدة ثم قالت:"طبخها يا بني "
تصنع الاانتباه قائلاً: "اهااا حسنا انا متحمّس لهذا"
قالت أنجيلا: "ششت كل هيا بلا ثرثرة سيبرد الحساء"
بعد الوجبة اللذيذة ...
ساد السكوت على الجميع ونهضت الجدة لغسل الاطباق... فشمّرت أنجيلا على ساعديها واتجهت نحو المطبخ: "عليكِ جدتي سأغسلهم انا" ثم نهضت متجهة نحو المائدة لتجمع الأطباق
الجدة: "لا عليك بنيتي اجلسي مع جاكلين ربما لديكم ما تتحدثون بشأنه"
وضع جاكلين رجلا فوق أُخرى وقال: "لا جديد جدتي دعيها تغسل لعلها تفيد في شيء ما.."
ضيقت أنجيلا عينيها بخبث ثم قالت: "هكذا اذن..! جدّتي سأغسل أنا الأطباق وجاكلين سوف يمرّرهم في الماء ثم يمسحهم"
و نظرت له بكل ثقة وقالت:" هل لديك اعتراض سيد جاكلين؟"
نظر لها بقلّة حيلة: "لا ليس لدي أنا معتاد كما تعلمين ثم غمز وضحك"
فبعد وفاة والدته كان وحيداً حقا فقد اعتاد على انجاز مهام المنزل بنفسه رفقة والده
ومع ذلك لم تتركه أنجيلا لوحده فلقد كانت الداعم الأول له، الاخت والصديقة.... تذهب لمنزله لتتقاسم معه أشغال المنزل وتتبادل معه أطراف الحديث وتزيل عنه الهمّ فتحول أحزانه الى أفراح وضحك...
بعد غسل الأطباق خرجت أنجيلا وجاكلين يحملان صينية الى الحديقة الأمامية للمنزل التي بها اثاث منها طاولة وكراسي خشبية مريحة لتناول الطعام في الهواء الطلق ، ارتشف جاكلين القليل من الشاي الساخن ثم وضعه على الطاولة...
"أنجيلا" قال اسمها وهو شارد
نظرت أنجيلا بانتباه: "نعم!.. "
قرّب الكرسي الخشبي منها ونظر في عينيها البندقتين بعمق:
"لا تخافي أنا معك..لن أدعه يؤذيك!..."،ثم حدق في اصابعها المتشابكة واكمل :" وإن أراد ذلك عليه أن يجتاز جثتي أوّلا... "
نظرت له أنجيلا بابتسام والتمست الصّدق في كلامه كالعادة... بل هي على يقين أنها تستمد كل هذه القوة والصبر من كلماته قبل أفعاله.... ثم أكمل
"لا يجب أن أستسلم يجب ان يُحلّ هذا اللغز ونمسك بهذا الوغد الذي يطلق على نفسه السفاح أنا لا يمكنني السكوت هكذا!..."
نظرت له أنجيلا بحزن ثم قالت: "أنا أيضا أريد هذا بشدة لكنني خائفة عليك جاكلين!"
قال جاكلين بعدم فهم: " ماذا تقصدين؟ "
أرادت أن تتكلّم لكن الدموع التي تجمّعت في مقلتيها منعتها من ذلك، صمتت قليلا ثم قالت باندفاع : "اتضنني لم أرك تخرج بعد منتصف الليل من منزلك وتتجه الى المقبرة؟.. بل أحيانا تبقى الى الشّروق أمام قبر والدتك؟"
صدم جاكلين من تصريحها: "ماذا!... كيف عرفتِ؟"
استفزها جوابه اللّامبالي هذا: "هل هذا الذي يهمّك! ...كيف عرفت!"
ثم تابعت بصوت مبحوح بالكاد أخرجته من حنجرتها: "أنا خائفة عليك.. لا أريدك أن تتأذى أرجوك!"
قال جاكلين محاولا تغيير مجرى الحديث: " اذن اتخذتِ الليل للتجسّسِ عليّ؟ "
علمت أن النقاش معه حول هذا الموضوع لن يجدي نفعاً فجارته في موضوعه: " أمامك المحققة التي لا تنام"
ضحك جاكلين وقال ممازحا: "اه نعم ...ولكن هل رأيتِ يوما محققة قصيرة؟"
تحول لون وجهها للأحمر وقالت بغضب: "قلت لك ألف مرّة لست قصيرة أنت الطويل زيادة عن اللزووووم"
حاول جاكلين كتم ضحكته قائلا: "حسنا يا صاحبة الطول المثالي أهذا جيد؟ هل أنتِ راضية الآن؟"
قالت بهدوء وهي تضع السكر في الشاي وتحركه : " جيد جيد اصمت فقط"
ساد صمت خفيف ثم قال جاكلين: "لكنني مستغرب في أمر ما! "
أنجيلا : "ماهو؟"
و بصعوبة أخرج كلماته التالية: "أمي هي الوحيدة التي قُتلت من أفراد عائلتي.. كما تعرفين حسب الاحداث التي تجري لسنوات يتعمد هذا السفاح قتل شخصين من كل عائلة ولا أعرف السبب لكن الاّ نحن لم يفعل هذا معنا مازلت مستغربا..!"
"الله أكبر الله أكبر" قطع صوت الأذان حديثهم معلنا عن صلاة العشاء
وضع جاكلين كأس الشاي : " انه العِشاء.. سأذهب للصلاة في المسجد ثم أعود للبيت لدي بعض الاوراق لتحضيرها للعمل غداً"
ابتسمت أنجيلا بخفوت وقالت: "أنا أيضا سأصلّي ثم أخلد للنوم لدي دراسة غدا"
جاكلين بمزاح: "لا تتذمري تبقى القليل فقط وان احتجتِ الى مساعدة أنا هنا"
قالت بتملل: " نعم هيّا سأذهب الآن"
جاكلين: "تصبحين على خير اراكِ غدا"
أنجيلا: "ان شاءلله تصبح على خير أيضا"
ضلّ يراقبها بعينيه حتى دخلت ثم ابتسم وخرج...
أدت أنجيلا صلاتها ثم سمعت صوت اشعار في هاتفها، أمسكت الهاتف وتفحصته وقرأت كلمة "مجهول" عقدت حاجبيها باستغراب وفتحت الرّسالة بسرعة لتجد :
« مرحبا أيتها الملاك ... هذا مايعنيه اسم أنجيلا صحيح؟.. لكنّكِ ملاك مزيف وعليكِ الموت ...لكن لا أريد أن اقتلكِ الآن سأترككِ للنهاية لأتلذّذ بك...»بعد قراءة الرّسالة وقعت أنجيلا أرضاً مغمى عليها من شدة الصدمة...
كانت الجدّة تجلس في غرفة الضيوف تقلب السنانة عبر خيوط الكروشيه بهدوء وهي مبتسمة فلم يتبقى لها الكثير لصنع كنزة لحفيدتها ...حتى سمعت صوت ارتطام قوي في الطابق العلوي للمنزل...
"أنجيلا ابنتي أهذه أنتِ؟" سألت الجدة لكن لا مجيب.... أتراها نامت بهذه السرعة؟، ذهبت لتتفقد حفيدتها وصعدت الدرج ببطئ ثم اتجهت نحو غرفة أنجيلا لتجد أمامها منظراً جعلها تتسمر في مكانها بلا حركة فقد وجدت أنجيلا ملقاة على الارض فاقدة لوعيها وآثار الهلع تكسو وجهها....
أنت تقرأ
ما بعد الهدوء
Misterio / Suspensoأرادت أن تتكلّم لكن الدموع التي تجمّعت في مقلتيها منعتها من ذلك، صمتت قليلا ثم قالت باندفاع : "اتضنني لم أرك تخرج بعد منتصف الليل من منزلك وتتجه الى المقبرة؟.. بل أحيانا تبقى الى الشّروق أمام قبر والدتك؟" صدم جاكلين من تصريحها: "ماذا!... كيف عرفتِ؟...