في اليوم الموالي في تلك الساعة المبكرة من الصباح، عندما كانت الشمس بالكاد تبدأ في شق طريقها عبر السماء الرمادية، توجهت لارا إلى مركز الشرطة، حيث كانت خطواتها تُسمع في الردهة الهادئة. شعرها الأسود الطويل كان مترامي الأطراف خلف ظهرها، وعينها البندقيتان كانت تغلفها هالة من التوتر والقلق. ارتدت زيًا بسيطًا بألوان دافئة، ولكن كان هناك شيء في عيونها يوحي بأنها ليست في مكانها الطبيعي. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها هذا المكان، لكنها كانت بالتأكيد الأكثر إرهاقًا. رفضت اصطحاب أي أحد من أصدقائها وقررت استعادة ثقتها المهدورة...
كما لو كانت تحمل عبئًا على قلبها، توقفت لحظة أمام الباب الزجاجي لمكتب التحقيقات، قبل أن ترفعه وتدخل.
توقف المحقق "توم" عن الحديث مع زميله بمجرد أن رآها تدخل. عيونهم انصبت نحوها، في حين كان يلاحظون التوتر الذي كان يكسو ملامح وجهها. كانت لارا تعرف أنها في مشكلة، ولكنها كانت لا تعرف إلى أي مدى ستكون الأمور معقدة. كانت قد أصبحت في دائرة الضوء، وكانت متأكدة أنها لو لم تكن حريصة، فقد تكون قد ارتكبت خطأً لا يمكن إصلاحه."أهلاً لارا، تفضلي بالجلوس." قال المحقق "توم" بهدوء بينما أشار لها بمقعد أمامه.
لم تجد في نفسها القوة للإجابة، بل اكتفت بهز رأسها وهي تجلس، تطيل النظر في الأرض. كان المحققون يعرفون أنها تتظاهر بالهدوء، ولكن كان هناك شيء في سلوكها يوحي بأنها ليست على ما يرام.
"نحن هنا لنتحدث عن الحادثة التي وقعت منذ فترة. الأمر يبدو غير واضح تمامًا..." بدأ المحقق "توم" محاولًا إظهار نوع من الهدوء. "أنتِ... على ما يبدو كنتِ قد تم الإعلان عن وفاتكِ في وقت سابق، لكننا نرى أنكِ على قيد الحياة. نحتاج إلى فهم ما حدث."كانت لارا تشعر ببرودة تتسلل إلى أطراف أصابعها، وكأنها كانت في حلم لا تستطيع الهروب منه. كانت تتذكر جيدًا لحظة اكتشافها أن كل شيء كان مغلقًا من حولها. كل من عرفها اعتقد أنها ماتت، والجميع كان يعاملها وكأنها مجرد ذكرى. لكن الآن، هذه اللحظة كانت مليئة بالكثير من الأسئلة التي لا تستطيع الإجابة عليها.
"أنا... لا أعرف ماذا أقول..." همست لارا، وكانت عيناها تتنقلان في الغرفة المليئة بالورق والأدوات. "الحقيقة هي أنني تعرضت للاختطاف. من قبل شخص كان قريبًا جدًا مني، شخص لم أكن أظن أبدًا أنه قادر على فعل شيء مثل هذا." قالت لارا، ونظراتها كانت حادة، لكنها كانت تحاول توجيه الانتباه إلى قصة أخرى غير القصة الحقيقية.
"هل تقصدين شخصًا معينًا؟" سأل المحقق "توم" وهو يلاحظ كيف كانت لارا تخفي شيء ما. كانت إجاباتها مربكة، لكنها حاولت أن تبقي الأمور بسيطة.
"نعم، كان حبيبي السابق. اسمه جان. كان يشعر بالغيرة ، وكان يعتقد أنني أضعه دائمًا في الظل. وعندما انفصلنا، بدأ يطاردني." قالت لارا، ثم توقفت، وكأن الكلمات كانت تخرج بصعوبة.
"أكملي من فضلك؟" قال المحقق "توم" وهو يركز على تفاصيل حديثها.
عندما شعرت لارا بأنها قادرة على التنفس مجددا، قالت بصوت هادئ لكنه مليء بالندم: "جان... هو القاتل المتسلسل الذي تبحثون عنه"
توقفت الشرطة عن التنفس لثوانٍ، كما لو أن الكلمات لم تصل لعقولهم في البداية. لكنها استمرت في حديثها، محاولة ايضاح ما كان يختبئ خلف تلك التصرفات الغريبة.
"كان يقتل كل شخص يبتسم لي... نعم، كان يعتقد أن ابتسامتهم تعني شيئا ما، أنني قد أكون مهتمة بهم أو أنني قد أقترب منهم بطريقة ما.. كان يراهم تهديدا مباشرا لوجوده في حياتي"
ثم أضافت لارا وهي تشعر بالذنب
"لكنه لم يتقلهم فقط بسبب هذه الابتسامات. كان يقتلهم ليثبت لي أنه الوحيد الذي يمكنني العيش من أجله، الوحيد الذي يمكنني أن أهتم به. كان يعتقد أن القتل هو الطريقة الوحيدة لابعادي عن الآخرين، ليحتفظ بي لنفسه.. وكل ابتسامة كانت كأنها خيانة في نظره. كان يضن أن كل من يبتسم لي هو شخص يحاول أن يأخذني منه.. لذلك كان يقتلهم"
كانت تلك اللحظات من رواية لارا تحمل وحشية غير متصورة، وكان المحققون في حالة من الذهول وهم يحاولون فهم تعقيدات هذا المختل العقلي...
عندما انتهت لارا من الاستجواب.. نظرت الى المحققين بعينين متعبتين. كلماتها الأخيرة عن جان تركت الغرفة في حالة من الصمت الثقيل. المحقق الرئيسي أغلق دفتره ثم قال: "علينا التحرك بسرعة!، هذا الرجل لن يتوقف حتى يدمر كل شيء حوله.."
لكن لارا لم تقل شيئا اكتفت بالنظر الى الأرض، حيث كانت يداها تتشابكان في صمت. عيناها تحملان سرا لا يمكن لأحد أن يقرأه... كلماتها السابقة عن جان... عن اختطافها.. وعن القتل بسبب ابتسامة، كانت تبدو وكأنها الحقيقة الكاملة... لكنها لم تكن كذلك.
في أعماقها، كانت لارا تخفي الحقيقة التي لم يكن بمقدورها البوح بها... جان لن يعود للبحث عنها، لأنه ببساطة لن يعود أبدا. لقد قتلته بنفسها، في تلك اللحظة التي علمت أنه لن يتوقف عن ملاحقتها أبدا.
تذكرت كيف كان يحدق بها بنظرة جنونية مخيفة بعد تعرضها للضرب على يده وهو يصرخ "أنتِ لي فقط لارا! لن أسمح لأحد بأخذك"
تلك اللحضة التي حملت فيها السكين الذي كان يهددها به، وبضربة واحدة، وضعت جدا لجنونه...
عرفت أن الكذبة التي نسجتها كانت لحمايتها، لكن الثقل النفسي لقتل جان سيبقى معها الى الأبد.
الآن كان التحدي الحقيقي بالنسبة لها ليس الهروب من سامي... بل الهروب من الذكريات التي ستطاردها الى الأبد...خرجت لارا من مركز الشرطة تحت سماء ملبدة بالغيوم، والهواء البارد يلسع وجهها كأنما يعيدها إلى الواقع. خطواتها كانت متثاقلة، وكأن كل كلمة نطقتها خلال الاستجواب قد استنزفت جزءًا من قوتها. لم تنظر خلفها، وكأنها تخشى أن يخرج أحدهم ليطلب منها العودة أو يسأل المزيد من الأسئلة.
خرجت لارا من مركز الشرطة تحت سماء ملبدة بالغيوم، والهواء البارد يلسع وجهها كأنما يعيدها إلى الواقع. خطواتها كانت متثاقلة، وكأن كل كلمة نطقتها خلال الاستجواب قد استنزفت جزءًا من قوتها. لم تنظر خلفها، وكأنها تخشى أن يخرج أحدهم ليطلب منها العودة أو يسأل المزيد من الأسئلة... أسرعت في خطواتها لتتوقف عند سيارة مألوفة التي كانت تنتظرها على الجانب الآخر من الطريق. خرج منها جاكلين ليقول بصوت هادئ "اركبي" عندما فتحت الباب وجلست، شعرت بدفء المقعد يذكرها بأنها لم تعد أسيرة للخوف... على الأقل الآن. اكتفت لارا بالنظر من النافذة، بينما السيارة تتحرك ببطء نحو منزل أنجيلا، حيث تأمل أن تجد لحظات قصيرة من السلام قبل أن تواجه ما ينتظرها....
أنت تقرأ
ما بعد الهدوء
Mystery / Thrillerأرادت أن تتكلّم لكن الدموع التي تجمّعت في مقلتيها منعتها من ذلك، صمتت قليلا ثم قالت باندفاع : "اتضنني لم أرك تخرج بعد منتصف الليل من منزلك وتتجه الى المقبرة؟.. بل أحيانا تبقى الى الشّروق أمام قبر والدتك؟" صدم جاكلين من تصريحها: "ماذا!... كيف عرفتِ؟...