(١)

164 7 0
                                    

كنت علي يقين من قدومه في يوم من الايام ، تخيلت تفاصيله ،رتبت له كل شئ وتدربت علي مواجهته ،ملأت عقلي بكثير من عبارات الايمان والمنطق ،تأملت الكثير من المواعظ في قصص القرآن وفي السيره ، كل هذا للصبر وابقي صامده حامده حين موعده ،ذالك الموعد الذي ولا يخلفه ابدا ،لكني الان عندما وقفت أمامه وجها لوجه ،خارت قواي ، لم اتحمل المواجهه كما ظننت ، فجأة نسيت كل الاستعدادات التي قمت بها علي مر السنوات الماضيه .
إنه الموت ، تلك الكلمه التي نخشاها ونطلق عليها
" شر "، المعني الذي لا ندركه ، الوجه الاخر للحياه أو الحياه الأخري التي سوف نحياها ولن نسردها ابدا ، لكنه يقينا الحقيقه الوحيده في هذه الحياه .
عجبا أن تكون الحقيقه الوحيده في الحياه هي نهايتها ، ليتنا لا ننسي ابدا ان الوداع أمر محسوم ، مكتوب علينا ، فنحن لمن نحبهم تماماً كما نحزن علي فراقهم .
وقفت أمام جسد ابي المسجي امامي ، انظر اليه، تتخيله يستفيق في أي لحظه من غفوته .. ينظر إلي في حنان ويسأل " هل اذن الفجر بعد يا فريده ؟" لكنه لم يفعل ،انما يرقد في سلام لم أعده من قبل ، طالما كان نومه منقطعا من كثره تفكيره في مسؤولياته تجاهنا ، أراه رقد في سلام وهدوء دون أن يحمل هما بعد الان .
غسلوة ولا حول له ولا قوه ، هذا الذي كان يوماً بطلاً رياضياً يهتف الناس بإسمه ، الان جرده الموت من كل شئ حتي إسمه ! عندما فارقتنا روحه سمعتهم يقولون " احضرو الميت هنا .. انقلوا المرحوم هناك ..احضروا الكفن للميت " ام يعد أحد يردد اسمه مره اخري !
حقيقه قاسيه جدا ، لكن عزائي الوحيد أنني سوف اذكر اسمه كل ليله ، بل كل ساعه ، سوف يذكرك قلبي كل دقيقه يا ابي إذا لم يسعفني لساني وعقلي .
كنت افكر في هذا اليوم يا ابي بعد كل مره احتضنك فيها ، لكني لم اتوقع ان تتركني فجأة هكذا رغم علمي التام أن الموت لا يأتي إلا فجأة ودون استئذان.
تمنين لو انك تبقي قليلا لتري احفادك كما فعلت مع اخواتي الثلاثه ، أو علي الاقل لتراني انهي دراستي الجامعيه ، لإعوضك عن رسوبي في اخر سنه دراسيه ، تمنيت لو اخبرك أنني لن اخذلك ثانيه وقد شجعتني علي دراسه الشئ الوحيد الذي أحببته في الدنيا { الموسيقي } ادرسها واعمل عازفه في فرقه موسيقيه شهيره تاخذ من وقتي الكثير ، هل احد السلوان فيها الان ؟ هل تعزف لي الكمنجة لحن بطعم الموت ؟ هل تنقذني من تعاسة اتيه ووحده طويله ؟ لا ادري ، إنما اعلم أن روحك سوف تتابعني وتطمئن علي دوماً ، استرح يا ابي ولتنعم بهدوء لم تذقه من قبل .
أحسست بخدر يسري في عقلي وقلبي قبل جسدي ، كنت ارانب افعل كما يطلب مني رغما عني ،تبكي امي وتنهار اخواتي ولا افعل مثلهم ، اري المشهد كأني اشاهد فيلما مكرراً ، أو لعله كابوساً معتاد أتمني فقط أن استيقظ منه ؟ فأري ابي جالساً بيننا في المنزل ، أو آتيا من المسجد ، أو حتي في المشفي كما كان ، ولكن لا .. لا اريد أن أراه يتألم مره اخري كماكان ، فلينعم بالسلام الذي أنار وجهه واراح روحه ، وتلك الابتسامه الراضية التي باتت تزينه .. سلاما عليك يا حبيبي الي أن نلتقي .
جاء المشهد الذي ل يفارق ذاكرتي ما حييت ،تعلقت عيناي علي التابوت المغلق علي جسد ابي ، يحمله أناس لا اميزهم أو ربما اعرفهم ونسيت فكان لساني ينطق بالتوحيد من تلقاء نفسه ، الان لا ادري ماذا اقول أو افعل ! اشعر أن قلبي يطير هناك معه .
وسط المقابر رأيت قبره من هناك مفتوحا من بعيد .. بيته الجديد ، ها قد جائت اللحظه الحاسمه ، وهذا ال "ترابي " كما يطلقون عليه ينتظر ابي ليواريه عن الدنيا ! ازداد صوت النحيب عندما انزلوه هناك ، أنها اللحظه الاخيره بلا شك ، بعدها .. توقف الوقت ووقفت مع الجميع ندعو له بالرحمه قدر استطاعتنا .
تأملت الميلاد والحياه وكل ما نواجهه عمدا أو غصبا ما نفرح به لوقت قصير ونظنه دائما ، ليذهب كل ما مررنا به من تجارب هباءً ؟ اتكون حياتنا كلها لا شئ ؟ وتسائلت حينها :
(( ما العبره الذي يقدمها لنا الموت علي طبق رائق شفاف؟ وكانت الاجابه واضحه كنور شمس الصباح ، الا نأمن الدنيا .. فالعمر مهما طال بنا لابد في النهايه من دخول القبر )) .

   
                            * * *

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن