(34)

4 2 0
                                    


ضغط يونس على يدي مشجعا وهو يعطيني النوتة الموسيقية بينما عيناه تحاولان إخفاء قلقه، نظرت إلى أطرافها المحترقة ولم أشعر من الداخل أنني بحالة تسمح بالعزف والإبداع بعد كل ما رأيته وما زلت أراه، لكنني علمت أنني لا بد ماضية في طريقي لا محالة، أمي الوحيدة التي تصفق قبل أن أبدأ وما زالت تشير إلى بعلامة النصر ، الحمد لله على نعمة وجودك يا أمي، كان يونس يحاول أن يخبئ القلق في عينيه فيبتسم ابتسامة واسعة كلما نظرت إليه، بينما عادت حنين إلى طبيعتها كما أعتقد فرأيتها قلقة أيضًا. أغلقت عيني لثوان وتنفست بعمق قبل أن أخطو خطوة واحدة وقرأت { بسم الله الرحمن الرحيم.. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } ، ثم رفعت بعضا من طبقات قماش الرداء لأسير في ثبات نحو المسرح، خطوات منتظمة لكن بطيئة بعض الشيء، الدكتور قابيل ينظر لي وكذلك لجنة التحكيم، أما هي.. فما زالت جالسة مكانها ! ثم بدأت تبتسم لي وتزداد ابتسامتها اتساعا كلما اقتربت منها، أنا في حالة هذيان بكل تأكيد، لا يمكن أن يكون ما أراه حقيقيا! كيف أجلس فوقها؟ وإذا لم أفعل سيسألونني عن سبب عدم جلوسي! هل أصارحهم جميعا حينها بما أراه؟ هل يصدقونني؟ أم تبكي أمي وأهلي لفقدان عقلي ؟
اقتربت أكثر واتضحت الكلمة الفضية أكثر.. لمعت في الإضاءة الخافتة وقرأت «حياة»، فاطمأننت، وصلت إلى السلم الصغير للمسرح وبدأت في الصعود، وعندها أمسكت بطبقات قماش الرداء الأبيض وقامت من مكانها لتفسح المكان لي، ثم وقفت وراء الكرسي، للمرة الثانية لم أكن خائفة منها بل شعرت بألفة وقفت أمامها للحظات كما أعتقد قبل أن أجلس على البيانو، فوجدتها قد تحولت إلى شمس ! ففغر فاهي رغما عني ولم أستطيع أن أسيطر على ردة فعلي.. فقالت وهي تنظر إلي:

-  ننخدع كثيرا ... لا شيء يبدو لنا كما هو عليه في الدنيا، الليلة تنكشف الحقائق.

تحدث الدكتور صالح في الميكروفون بجانبه لأول مرة في الحفل قائلا ...

- الطالبة فريدة .. هل أنت بخير ؟

تنبهت إلى صوته واختفت الفتاة تماما فأردفت متلعثمة :

- نعم بخير يا دكتور...

فقال الدكتور قابيل في تعجب :

- ألم تسمعيني يا فريدة عندما تحدثت إليك قبل الدكتور صالح ؟

- لا ... لم أسمعك !

- تساءل الدكتور قابيل:

- هل أنت بخير يا عزيزتي ؟

أردفت في توتر :

- نعم.. نعم بكل خير .

بدأت تصل إلى آذاني همهمات، فجلست وأغمضت عيني للحظات وأخذت نفسًا عميقا، ابتسم الدكتور صالح وأشار إلي بالبدء وسط قلق أمي ويونس وحنين وتعجب باقي الطلبة في الدفعة، استحضرت حديث يونس في تدريب العزف توحدي مع الآلة.. اشعري بها.. تذكري أن أصابعك تلمس الآلة وهي أيضًا تلامس أصابعك.. اجعليها تعزف النغمات بدلا عنك تذكري أنها تشعر بك، حين تفعلين ذلك .. تعطيك الآلة أجمل ما فيها من نغم، الآن أبدأ العزف البطئ للنوتة الموسيقية ... كانت أصابعي تتحرك رغما عني في خفة ورشاقة لم أعتدهما، وكأنهم أصابع البيانو وليست أصابعي، كنت أعزف بأسلوب غريب علي ! بدوت في منتهى التمكن من الآلة واللحن، وكأن شيئًا خارج إرادتي يُمسك بأصابعي فيلقيها هنا وهناك في رقة ووداعة وفن أصيل.
بدأت أسمع صفافير كثيرة من الحضور إعجابا بما يسمعون؛ لكني لم أكن أبذل جهدًا في العزف على الإطلاق! أتعزف شمس بدلا عني ؟ هل كانت تعرف بدلا عن حنين أيضًا عندما اختفت ؟ بدوت للحضور وكأنني منهمكة في العزف لكن في الحقيقة كنت أفكر كيف ماتت شمس؟ وبعد أن انتهيت من العزف البطئ للنوتة الموسيقة «النوم الأسود»، بدأت عزفها مرة أخرى بتوزيع حديث وأسرع قليلاً .. رأيت لجنة التحكيم تستمع أو تهيأ لي أنهم يتمايلون من فرط عذوبة اللحن وبراعتي، كما أن الدكتور صالح قد ألقى بالقلم على الورق أمامه وقد وضع يده تحت ذقنه وبدا مستمتعا، كانت أمي تستمع بإنصات وتهز رأسها طربًا، بينما كان يونس وحنين يقفان في قلق في آخر الصفوف؛ لكنني أذكر وجه الدكتور قابيل متجهما تملؤه الشكوك.. وأيضا القلق!
لأول مرة أستغرق في العزف وفي نفس الوقت أتابع
الحضور ! ليلة عجيبة بكل ما فيها !
عندما انتهيت في اللحظات الأخيرة وأنا أختم المعزوفة .. كان الحضور قد انتشى عن آخره وقاموا واقفين في أماكنهم يصفقون حتى لجنة التحكيم وكأنها حفلة لإحدى النجوم في مسرح من مسارح الأوبرا وليست حفلة تخرج، أفقت حينها وكأنني كنت في حالة غريبة طغت على وتملكتني في هدوء ووداعة، وقفت مكاني ثم ذهبت في منتصف المسرح الأحيي الجميع، كان يونس وأهله وحنين وأهلي جميعا في شدة السعادة، استمر التصفيق كثيرًا لمدة لم أحتسبها لكني أظنها طويلة جدا.
بينما رأيتني مرة أخرى من جديد أقف عند حافة المسرح وأبتسم، كانت الفتاة هي أنا وليست شمس ! نظرت جهة اليسار حيث تنتظرني الفتاة وهي تمسك ببعض طبقات قماش الرداء الأبيض وتهبط من المسرح بضع درجات لتختفي وسط الحضور
وتخرج من المكان ! هبطت بدوري وراءها لكن الدكتور قابيل قد أعلن في الميكروفون عن استراحة نصف ساعة لنعود جميعا ونستمع إلى باقي مشاريع تخرج الدفعة، وخرجت لجنة التحكيم من المسرح يصاحبهم قابيل إلى حيث يستريحون حتى يحين النصف الثاني من الحفل، ووجدت نفسي مُحاطة بدائرة الأهل والأصدقاء يحتضونني ويهنئونني وعيني ما زالت معلقتان باتجاه الفتاة! هل
كانت هذه الفتاة هي روح شمس؟

                            ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن