«ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف ؟ إن اختبار الدنيا شديد الصعوبة.. لذلك لابد لنا أن تكون شديدي الصلابة والمرونة أيضًا، فنحيا غير مكسورين ونرحل فائزين »قابلت حنين وتوجهنا إلى سينما فاتن حمامة حيث ينتظرنا یونس، ركبنا سيارته وانطلق إلى مكان المشفى النفسي كما أخبرنا كريم لنرى سليم، سيطر علينا الحماس لتقفي أول خطوط الحقيقة، وصلنا في وقت وجيز، كنا متأهبين لمواجهة أي شيء، أوقف يونس السيارة أمام المشفى، نظرنا جميعا إلى المبنى في هدوء قطعه يونس ها قد وصلنا، من المفترض أن يكون كريم قد وصل أيضا... دقائق وأهاتفه إن تأخر. وصل كريم في العاشرة والنصف صباحا.. علقت حنين عندما رأته يوقف سيارته أمامنا:
_ وصل في ميعاده بالضبط يا جماعة .. يبدو أننا وصلنا قبل الميعاد من شدة حماسنا.
قال يونس في شرود :
_ إن كل ما نفعله كان من الممكن أن نتفاداه بسهولة، أو نتجاهله أيضا كما يفعل باقي الطلبة وكل أعضاء هيئة التدريس، ما الذي يجعلنا تنفق وقتنا على شيء قد يكون سرابا ؟
رددت العلامات التي وضحت لنا كانت إشارة ربانية لتكملة ما بدأناه.
قال يونس :
_ وها نحن نتبع خطوات القدر.. تذكروا إن كل ما نفعله هو درء الأذى عن أنفسنا وعن الناس، تذكروا إنه عمل خالص لوجه الله تعالى.
ثم أكمل في قلق:
اقتربت الامتحانات، لا أريد لكما سوى النجاح
أردفت على الفور..
_ اطمئن.. سوف نتخرج وبتقدير أيضا بإذن الله.
ابتسم يونس ونظر إلى قائلا:
- سوف أفرح فرحا شديدًا حينها، أريدك أن تكوني معيدة يا فريدة وأن تعودي إلى فرقتك الموسيقية بعد التخرج.
قلت في فرح :
- كأنك تعلم ما أرجوه !
كانت حنين تستمع مبتسمة ثم قلت في مرح:
- هل يمكننا تأجيل كل هذا الحب لبعد الزيارة؟ لأن كريم يقف أمام باب المشفى منتظرا.
ضحكنا ونزلنا من السيارة وحيينا كريما، لأول مرة في حياتي أدخل مشفى للأمراض النفسية، أثناء دخولنا فكرت أن مرضاها لم يولدوا مرضى، إنما أعيتهم الحياة كثيرا ولم يستطيعوا المقاومة فسقطوا في الاختبار، كيف نخوض اختبارات الحياة
دون سقوط ؟ كن معنا يا الله .. قاطع أفكاري كريم قائلا :
- لم أتي لزيارته منذ فترة طويلة جدا... لكنني كنت أسأل بعض زملائي القدامى عنه بشكل دوري، فأكدوا لي أنه مازال هنا. لم تختلف المشفى كثيرًا من الخارج أو الداخل عن أي مشفى آخر، رأيت الحديقة الخارجية نظيفة يجلس بها بعض المرضى مع ذويهم أو أصدقائهم الهدوء يخيم على المبنى حتى إن زقزقة العصافير لها صوت واضح، كنت أظنني سأرى أناسا تصرخ و ممرضات تمسك بهم لإعطائهم حقنا مهدئة كما نرى في الأفلام، لم يحدث هذا أمامي، قالت حنين بصوت قلق:
- أحس برهبة شديدة المقابلة مريض نفسي يسكن مشفى فترة طويلة .. لا أطمئن لردة فعله..
سمعها كريم فلحق بجانبها وقال في نبرة هادئة :
- الحقيقة المؤلمة أننا كلنا مرضى نفسيين لكن بدرجات متفاوتة، الفرق في قوة تحملنا للظروف وطريقة تعاملنا معها، كان من الممكن أن نكون نحن المرضى بداخل المشفى أو قد تكون في المستقبل، لا أحد يعلم ما تخفيه الأيام لنا .
نظرت حنين إليه في انبهار، لكن أصابها شيء من الكآبه والتعاطف والخوف أيضا، تركنا كريم ويونس ليتحدثا إلى موظف الاستقبال وإحدى طاقم التمريض، ثم انضما إلينا وقال كريم :
_ الحمد لله مازال موجودا.
تبسم يونس في أمل وقال..
_الحمد لله.
قال كريم :
_ لم أشأ أن نزوره فحسب، بل طلبت التحدث مع الطبيب المعالج لمتابعته بصفتي صديقا قديما.
قالت حنين :
- عظيم جدا.. على الأقل نعرف حالته قبل زيارته.
جلسنا ننتظر الدكتور المعالج بضع دقائق، حين جاء
لاستقبالنا رأينا فيه هيئة ووقارا، صافح كريم بجدية قائلا:
- حضرتك أستاذ كريم ؟
تقدم كريم خطوة وصافحه قائلا:
- نعم أنا ..
قال الدكتور :
- قالوا لي : إنك صديق قديم السليم وتريد أن تطمئن على حالته
- في الحقيقة أنا مقصر إلى حد كبير نظرا لعدم وجودي
بمصر ..
قال الدكتور :
- أتابع حالة سليم منذ سنوات وبالفعل لم أرك من قبل .. على الأقل أتيت أخيرا، قليلا ما أرى لسليم زائرا، حتى أقاربه لا يأتي منهم أحد إلا نادرا لا يوجد إلا قريب واحد تقريبا !
قالت حنين في تأثر :
- شيء محزن.
نظر إلينا الدكتور متفحصا وقال ...
- لا تبدون لي أصدقاء له، هل أنتم أقاربه ؟
أجابه كريم سريعا قبل أن تثير شك الدكتور فينا:
- أقاربي يا دكتور .. يونس يعمل على ماجيستير في الموسيقى يطمح أن يثبت أنها علاج فعال في الطب النفسي، أراد فقط أن پری كيف تسير الأمور، لكنني أو كلتهم بمتابعته لأطمئن عليه من وقت لآخر عندما أسافر .
ابتسم الدكتور وقال وقد بدأنا جميعا نتحرك معه في اتجاه المصعد :
_ لا بأس.. ليت الأمور بهذه البساطة.. سليم لا يتحدث منذ سنوات مهما كان الدافع، حسب التقارير الطبية لحالته فهو يعيش في حزن دائم وصمت طويل ، ربما يؤنب نفسه على شيء يشعر بالذنب طوال الوقت، تراوده كثير من الكوابيس، هو يعي
وجودك ويعي ما تقوله جيدًا، لكنه يختار صمته، ويتجنب النظر إلى عينيك، بالإضافة إلى الأعراض الجسمانية المستمرة، مثل: الصداع واضطراب الهضم وآلام الجسم المستمرة، حاولنا كثيرا علاجه بجميع طرق العلاج من أدوية وعلاج سلوكي. تحسن بشكل طفيف لكن أقولها لكم... لابد أن أحصل على مساعدة المريض نفسه، لا بد أن تتوفر لديه الرغبة في الشفاء، مع الأسف سليم لا يرغب في الشفاء أو في الحياة نفسها، حتى إنه حاول الانتحار أكثر من مرة، فهو مصاب بحالة اكتئاب شديد مصاحب لعزلة، وللأسف في مجتمعنا يستهين البعض بمرض الاكتاب ويعتقدون أن المريض قد يتحسن بنزهة أو رحلة أو حتى بمرور الوقت هذا ليس اكتتابا، الاكتئاب مرض شديد الخطورة إذا لم تبدأ في العلاج مبكرا، بالنسبة لسليم قد تكون صحته العقلية تأثرت عبر السنوات جراء أخذ الجرعات الدوائية، لكنه رغم ذلك يتمتع بذكاء استثنائي توقف المصعد في الطابق الثالث فهمست في أذن يونس :
_ الطابق الثالث أليست مفارقة عجيبة ؟
ابتسم يونس عند الغرفة توقفنا، طرق الدكتور الباب. طرقة سريعة ودخل، كانت هناك ممرضة تفتح ستارة البلكونة الشير الغرفة، ومن ثم الباب الزجاجي لتجدد هواءها، وبدأت تعطيه الدواء ثم وقفت في انتظار تعليمات الدكتور، بدت في المشفى في مستوى جيد، لابد أن أهله لم يتخلوا عنه على الأقل في الأمور المادية.
كان سليم يجلس متوجها ببصره إلى البلكونة أمامه في صمت، رجل هزيل أسمر، يغطي الشعر الأبيض رأسه متناثراء تحيط بعينيه الغائرتين تجاعيد واضحة، عظام وجهه البارزة تعلن عن كثير من الألم، تبدو تعبيرات وجهه مصدومة، صامت شارد في اللاشيء، يُمسك بمسبحة تدور أصابعه بعقدها دون أن تتحرك شفناه، لا يوجد تشابه بينه وبين صوره القديمة التي بحوزتنا، ألهذا الحد يبدلنا المرض؟ ألهذا الحد يطغى علينا الألم؟ لم ينظر إلينا أبدا، في الغالب لم يزعجه وجودنا كأنه لا يرانا، دخل حوار قصير من طرف واحد، أخذ ينظر إلى معه الدكتور وأقام . الكشف المعلق على طرف السرير وكتب فيه تعليماته، ثم توجه
إلينا قائلا:
- الزيارة المقررة نصف ساعة من الآن، أرجو عدم الضغط عليه بأي شكل من الأشكال.
انصرف وانصرفت معه الممرضة وبقينا وحدنا معه، أشار لنا كريم بالجلوس ففعلنا، مرت دقيقة ننتظر من كريم البدء في الحديث ونتمنى أن يتحدث سليم، نظر إليه كريم وقال:
- كيف حالك يا سليم؟ هل تتذكرني ؟ أنا كريم الطالب بالسنة الأولى في كلية الموسيقى عندما كنت معيدا هناك في آخر سنة لك؟ لم نكن أصدقاء لكنني كنت أزوك في الماضي... لم يتحرك سليم أو حتى تتحرك عيناه نحو كريم، فقال كريم ممازحا:
- ربما اختلفت قليلا أو لنقل كثيرًا لأكون صريحًا ... ضحك كريم ضحكة خافتة في حين بقي سليم على حاله
قال كريم :
- أعلم أنني مقصر في حقك فلتسامحني، لم أكن في مصر، سافرت للعمل، أعتقد أنني سافرت هربا مما يحدث منذ أن احترقت غرفة العزف، لم تتوقف الكوابيس إلا بعد أن تركت البلد.
نظرت إلى يونس وحنين في ذهول لكنه أكمل حديثه .... الدكتور قال: إنك تسمع وتعي لكن لا تريد الحديث باختيارك أنت حدسي يؤكد لي ذلك أيضا، كأنك قد حكمت على نفسك حكما أبديا !! لماذا يا سليم؟ ألا نستطيع مساعدتك ؟ نظر إلينا يونس في حيرة في حين بدأ اليأس يزحف إلى عقلي أنا وحنين لمعرفة أية معلومة، مرة أخرى تحدث كريم دون يأس أرجوك ساعد نفسك.. أنت لست ضعيفا، لا يوجد إنسان ضعيف، الضعف والقوة اختيار ما عليك إلا أن تختار .. فلماذا تختار الضعف ؟ أنا لا أعلم متى أراك ثانية.. فلتتحدث الآن.
همست حنين في أذني :
- يعجبني إصراره.
نظرت إليها وقد تأكد حدسي، إنه يعجبها وهي تروق له أيضًا، هنا قام يونس من مجلسه وربت على كتف كريم وقال:
- كما قال الدكتور لن يتحدث، دعنا نحاول في وقت آخر ..
نظر إليه كريم وقال:
- للأسف ستكون بمفردك، يجب أن أسافر قريبا. قام كريم من مقعده وقبل رأس سليم وخرجنا جميعا من
الغرفة، في الطريق إلى المصعد مشيت أنا ويونس في المقدمة وحنين وكريم يتحدثان خلفنا التفت يونس موجها حديثه الكريم ..
- لماذا لم تذكر تلك الكوابيس من قبل ؟
أردف دون النظر إلينا وقد بدا حزينا :
مضت عليها سنوات ولم أتذكرها.
قلت في تلقائية ..
- هل تذكر شيئًا منها ؟
قال كأنه يتذكر ...
- أتذكر حرائق ومياها تملأ الأرض، موسيقى وغناء وصرخات. وامرأة تجري ورائي كأنها تريد قتلي، كنت في كل مرة أستفيق أدرك أنها كانت تستغيث لكني لم أعرف كيف أغيثها !***
أنت تقرأ
النوم الاسود
Horror{ ليلة ظهور شبح غرفة الموسيقى } تصعد فريدة إلي الدور الثالث بمبنى كلية التربية الموسيقية، وتحديدًا أمام باب غرفة الموسيقى المهجورة، حيث تبدأ في تذكر كل شيء، لكن ما تتذكره أو تراه أو تحلم به لا يخصها. إنما هو مجرد مفتاح لكشف كل ما حدث وكل ما قد يحدث...