كان هذا الموقف من أصعب ما قابلت في الحياة، إذ إنه أثبات وتواصل ومواجهة بيننا وبين المجهول، لم يصل النوم إلى جفوفنا في هذه الليلة، لم أشأ أن أخبر حنين بما جرى لتنال قسطها من الراحة في صباح اليوم التالي أيقظتها لتتقابل خارج الكلية، جلست معها في الكافيتيريا التي بانت تجمع كل حكاياتنا الكثيرة المتلاحقة، كنت على ميعاد مع يونس في نفس المكان لنتجمع ثلاثنا، ونرى ما يجب علينا فعله، كانت حنين تستمع في دهشه حتى انتهيت ثم قالت في حيرة :
- لو أن أحدا آخر غيرك تفوه بمثل هذا الكلام لما صدقت أبدا هذه المشاهد لا نراها إلا في أفلام الرعب فقط أراك لا تحملين الطرف والنوتة الموسيقية ! أين هما ؟
تركتهم في سيارة يونس ليله أمس، للحق أقول تركتهم عن عمد، شعرت بحوف من تلك النونة يا حنين، حتى يونس تركها في سيارته هو أيضا، كانت ليلة غريبة.
جاء يونس في ملابس رياضية لا يذهب بها إلى الكلية، كان الإرهاق قد تملك منا، سلم يونس علينا ثم طلب قهوته من النادل، جلس و حاول رسم ابتسامة خلف نظارته الشمسية بعد ان وضع كفه تحت ذقته في تعب وقال:
_ الدهشة على وجه حنين تضحكني
قالت حنين :
_ وهل ترى ما تسرده فريدة بالشيء الطبيعي ؟
_ بالطبع لا .. لو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء، للحق أقول: لو أنني لم أمر بالتجربة بنفسي لما صدقت حدوثها بالمرة، كنت سأردد أنها أوهام وخزعبلات، لكننا على يقين أن ثمة أمورا عجيبة في هذا المكان.
قالت حنين وكأنها تفكر بصوت عال ..
_ وما الفائدة أن نجلس معا ونحكي ما تراء بأعيننا لبعضنا البعض ؟
قلت لهم حينند:
_ أعتقد أننا يجب أن نفعل أي شيء لنجيب عن كل هذه الأسئلة.. لكن ينقصنا التوجيه.
حينها انتفض يونس كأنه تذكر شيئًا ونظر لي وقال:
- فريدة... الآن يجب أن نستعين بالدكتور قابيل، أنا واثق في أنه يمكنه مساعدتنا، خاصة بعد أن يرى الصور والنوته القديمة المجمعة.. ما رأيكما ؟
قالت حنين:
- بالتأكيد يملك من المعلومات ما يفتح أمامنا كثيرا من الأبواب، فما رأيك يا فريدة ؟
قلت:
_ بالطبع فلنذهب إليه. أمسك يونس بهاتفه يقلب فيه وهو يقول:
_ليس بالكليه فهو لديه محاضرات اليوم سوف أهاتفه الأستأذنه في الذهاب إلي بيته.
كان ظننا في الدكتور قابيل في محله، دعانا إلى بيته في منطقة« الزمالك» وذهبنا، حمل يونس النوته والصور معه، واستقبلتنا زوجته في بشاشة وأدخلتنا غرفة مكتبه التي ينطلق منها« كونشيرتو» لم أسمعه من قبل، رحب بنا أشد ترحيب، ثم أخذ يلقي النكات على ما يحدث في الكلية، فنسينا ما بنا وتشاركنا جميعا الضحك لدقائق، فهو شخص مرح بطبعه، جاءت زوجته بالقهوة مرحبة ثم تركتنا معه نظرت إلى يونس وحنين ثم إلى دكتور قابيل وقلت أذكره:
- أنتذكر يا دكتور يوم أن تقابلنا في كافيتيريا الكلية وسألتك عن طلبك أن ينقل مقر الكلية إلى مبنى آخر لكن تم رفض طلبك من الوزارة .
بدأ يرتشف قهوته وهو يستمع إلي في إنصات وقال.. _ نعم... بالفعل المبنى وما يحدث فيه مريب، لكن الروتين وظيفته تدمير كل الاقتراحات
قالت له حنين:
_ لابد أن هناك سببا جعل المكان موحشا هكذا ...
قال الدكتور قابيل:
في هذه الأمور لا نستطيع أن نجزم بشيء على وجه التحديد، خاصة في الماورائيات يا ابنتي، هذه أمور كل السلامة في البعد عنها وليس في الاقتراب منها والبحث وراءها . فتح يونس الظرف وأطلعه على الصور واحدة واحدة وهو يذكره
_ أتتذكر هذه الأيام يا دكتور قابيل ؟
ترك الدكتور القهوة ونظر إلى يونس في تعجب ثم أخذ منه الصور يقلب فيها ويقول مندهشا ...
- يا الله ... من أين أتيت بها يا يونس ؟ هذا من عمر مضى، من أين جئتم بمثل هذه الأشياء؟
تهلل وجه يونس مستبشرا وقال:
- سوف أحكي لك لاحقا يا دكتور، المهم. هل تتذكر هذه الفتاة ذات الرداء الأبيض ؟
أخذ الدكتور نظارته الطبية ولبسها ثم أخذ يدقق النظر فيها .. ثم قال ضاحكا:
- هذا الدكتور صالح وهذا العم سيد.. أيام شبابها بالطبع .
أما أنا فما زلت أحافظ على شبابي كما ترون.
نظر إلينا يونس في غيظ ثم سحب صورة بعينها وقال له أتحدث عن الفتاة العازفة ومن معها في الصور يبدون كاحبة أليس كذلك ؟
تمعن الدكتور قليلا ثم قال :
_ بالتأكيد واضح جدا من الصور
هتفت في فرح :
_ من هي يا دكتور ؟
قال في تلقائية:
_ إنها طالبة بالطبع ويبدو أنها في حفل تخرج
نظرنا إلى بعضنا وقد علت خيبة الأمل وجوههنا وقلت له في رجاء :
_ هل تتذكر اسمها أو من معها في الصور يا دكتور ؟ خلع نظارته الطبية ونظر إلينا نظرة أب خائف وقال: _ هل صدقتم أني مازلت شابا ؟ لا تسعفني ذاكرتي بالطبع. فقد مضى وقت طويل على هذه الصور، لكن ..
ثم تنفس مليا وقال بلغة أب ناصح
_ إني بكل صدق أدعوكم للتوقف عن العبث. مع تلك الأشياء، قد تكون العواقب وخيمة والأمور أكبر منا جميعا
قالت حنين في سرعة :
_ بل نشك في أحدهم.
ارتدى نظارته وأزاحها في منتصف منخاره ونظر إلينا من فوقها وقال:
_ وما الفائدة التي سوف نجنينها من وراء كل هذا؟
قلت..
_ الحقيقة، وربما لا شيء.. ربما إرضاء ضمائرنا.
قال وكأنه يفكر:
- بما أنكم في هذه المرحلة هل توصلتم إلى شيء نستعين به على البحث ؟
فقال يونس
_ لا شيء سوى هذه النوتة والصور
نظر الدكتور قابيل إلى حنين وقال ...
- أتشكون أن أحدًا ما له علاقة بما يجري في الكلية أو يعلم شيئًا ؟
قلت:
- ليس بالضبط لكننا لا نرتاح إلى بعض الأشخاص لذلك لجأنا إليك.
نظر الدكتور إلى يونس وقال في نبرة غريبة:
- ليسامحنا الله جميعا على الظن دون بينه ودليل، لكني اعتقد أن الخيط كله يبدأ وينتهي من وإلى شخص واحد تعرفه جميعا، لكنني لا أملك دليلا مع الأسف.
نظر إليه يونس وقال في حذر:
- أهو الرجل الذي أشك فيه يا دكتور أيضًا؟
رفع الدكتور قابيل يديه الاثنتين ومد شفته السفلى إلى الأمام إشارة إلى عدم يقينه.
عندما خرجنا من عنده ترددت في ذهني مقولة الدكتور مصطفى محمود ((ليعد كل منا إلى قلبه في ساعة الخلوة وسوف يدله قلبه على كل شيء.... ))
حينها لم تفارقني صورة الدكتور صالح...
***
أنت تقرأ
النوم الاسود
Horror{ ليلة ظهور شبح غرفة الموسيقى } تصعد فريدة إلي الدور الثالث بمبنى كلية التربية الموسيقية، وتحديدًا أمام باب غرفة الموسيقى المهجورة، حيث تبدأ في تذكر كل شيء، لكن ما تتذكره أو تراه أو تحلم به لا يخصها. إنما هو مجرد مفتاح لكشف كل ما حدث وكل ما قد يحدث...
