(28)

5 2 0
                                    


نظر إلينا عم سيد وقد تورمت عيناه من كثرة البكاء وقال :

- الحمد لله على مجيئكما، أريد أن أتوب إلى الله قبل لقائه، فلتصغوا إلى حكايتي..

نظرت إلى يونس وأردفت ...

- قل ما شئت يا عم سيد ولا تخف.. الآن هو وقت الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.

جلسنا جميعا وتنهد الرجل وبدأ يسرد :

- لم يعد لدي ما أخاف عليه ...

ثم شرد وكأنه يتذكر شيئًا جميلا بعيدا وأكمل...

- تزوجت كمعظم أبناء جيلي وطبقتي، لم يكن الحب أو المال شرطًا كجيلكم، يكفي القبول والإيجاب، سيدة بسيطة مثلي ولكنها زوجة صالحة تحملت معي مصاعب الحياة وساندتني بكل ما تقدر عليه، لم يكن للمال عندي وزن، فنحن نعيش بها لدينا ونوفق أمورنا ومتطلباتنا عليه، لم نطمح إلى الكماليات... كأجيال هذه الأيام، الشيء الوحيد الذي كان ينقص علينا عيشتنا هي الذرية التي نتمناها، فلما سلمنا الأمر كله الله ورضينا بقدره بشرتني زوجتي بحملها، رقصت فرحًا وكأن الدنيا تتصالح معي من جديد، رزقنا بابنتنا الوحيدة وسارت الأيام في هدوء، لكنى تعلمت ألا أأتمن الدنيا أبدًا، مرضت ابنتي فور ولادتها وعلمنا أنها قد ولدت بعيب خَلْقي في إحدى كليتيها، ولا بد من زرع أخرى! أردت أنا وأمها أن نتبرع لها لكن التحاليل أكدت عدم استطاعتنا ذلك، من أين أتي بالمال اللازم لعلاجها؟ كيف أنقذ ابنتي ؟ كان هذا هو السؤال الأصعب في حياتي.

فقدت السيطرة وبدأت دموع صامتة تتجمع في عيني، وصوت نحيب زوجته لم ينقطع عن أسماعنا في الخلفية وحولها النسوة يهدئنها في بيتهم، كانت حنين ويونس ينصتان بتأثر شديد لسرد عم سيد باكيا، أكمل الرجل:

- حينها علمت أن للمال وزنا في الحياة، ربما هو أهم شيء... فلو أني أمتلك المال لأسعفت ابنتي الوحيدة التي تمنيتها من الدنيا، وبدأت أفعل أي شيء أستبيحه لنفسي لأجني المال من أجلها، كانت حالتها تتدهور والتبرعات من الأهل والأصحاب لا تكفي شيئًا، والدولة تعطيك دورا في صفوف مرضى تزداد ولا تنتهي، وبعد أن جمعت المال اللازم؛ طلب الأطباء أن أوفره لأن الوقت قد فات وما هي إلا مسألة وقت نقضيه معها حتى ينقضي أجلها ! أتعلمون كم هو صعب على أب يرى فلذة كبده تموت بين يديه كل يوم ولا يستطيع إنقاذها ؟

قال يونس وهو يربت على كتفه:

- هذا أجلها المكتوب.. رحمها الله وألهمك الصبر والسلوان يا عم سيد..

أكمل الرجل في وهن:

- وهل لنا من أمرنا كله شيء؟ إن الأمر كله بيد الله تعالى، لكني لم أتخيل أن ترحل سريعا هكذا.. لم تنتظرني المسكينة، الموت قريب جدا من كل مخلوق؛ بل إنه الأقرب على الإطلاق لكننا في غفلة كبيرة يفيقنا الموت منها كثيرًا لنعود إليها كل مرة في جهل عميق !

صمت لبرهة يمسح دموعه ثم تابع :

- لم ينقذها المال يا يونس.. أتعلم لماذا؟ لأنه مال حرام، كنت كالأراجوز أصفق لهذا وأرقص لذاك، ساعدت في فعل الشر، ونقلت الأخبار كل يوم حتى أنني ... ضللتكما ...

سألته باهتمام...

- كيف هذا ؟

قال الرجل وهو يجفف دموعه...

- لم أكن أنقل الأخبار للدكتور صالح .

رددنا جميعا في صوت واحد

- ماذا ؟؟

تابع في نفس نبرته الجزيئة :

- بل للدكتور قابيل.

نظرنا إلى بعضنا في ذهول، فأردف الرجل :

- نعم.. دكتور قابيل.. كما أنني كنت أشيع بين الطلبة أن مخزن الهالك في عهدة الدكتور صالح؛ لكنه في الحقيقة في عهدة قابيل، أدعو عليه فجر كل يوم فقد جرني إلى الشر كما يجر إبليس أعوانه تماما، كحال السكارى لا يعترفون بسكرهم لا يعترف الفاسدون بفسادهم، كان قابيل مثل فرعون لا يرى فيما فعله فسادا بل طريقة من طرق كسب العيش...

وانهار مرة أخرى في البكاء، فقال يونس وكأنه تذكر شيئا:

- لكنني استأذنت الدكتور صالح بالفعل في فتح مخزن الهالك وكان هو المسئول !

أجابه عم سيد :

- يكون هو المسئول فقط بصفة مؤقتة عندما يكون قابيل في اجازه .

تذكرت حينما صعد معي حين تدفق مياه المرحاض وقلت:

- لكنك كنت مندهشا مثلي مما حدث في الطابق الثالث من تدافع المياه وأنين الفتاة! لماذا لم تُحذرني؟

نظر إلي في خجل وقال :

- لم أكن أملك أمر نفسي يا ابنتي، كانت رقبتي في يد قابيل، لو أنني تحدثت في الأمر أو هكذا ظننت حينها .

قالت حنين في دهشة:

- حقا لا أصدق ما أسمعه.. كيف لنا أن نثق بأحد مجددًا ؟ إن الأمور لا تبدو كما هي عليه !

أردفت وقد تذكرت الحلم في تعجب:

- ليس كل ما نراه حقا، قد يرتدي الباطل ثوب الحق، ابحثي عن الحقيقة !!

نظر إلى يونس وكأنه يريد أن يفهم قولي.. لكن عم سيد. أكمل باكيا ...

- عندما رزقت بالنعم لم أشكر، وعندما ابتليت لم أصبر؛ فلا رفع الله النعم ولا أدام البلاء... ولقد علمت بعد تجربة وعناء أن الله قد أودع أرواحنا القوية في هذه الأجساد الضعيفة لتعلم أن الأرواح سامية بإيمانها فوق كل مطالبنا الزائلة، أرجوكم ساعدوني.. أريد أن أكفر عن ذنوبي، أريد أن أتحرر من كل ما فعلته.. ماذا تريدون مني أن أفعل لأساعدكم؟ أريد أن أفعل أي خير قبل أن أموت.. أعلم أنني سأموت قريبا.. أشعر بالنهاية تقترب والموت لا يستأذن أحدًا .. أريد أن أكفر عن ذنبي .. لعله يكون شافعا لي عند الله .

تأذيت كثيرا بما سمعته وقلت:

- سوف نساعدك يا عم سيد، ولتكثر أنت من فعل الخيرات ولتثق برحمة الله إنه هو الرحمن الرحيم.

                              ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن