(20)

10 2 0
                                    

فتحت ستائر غرفتي لأرى صديقي الأقدم الذي أعشقه هل أراه راكدًا أم مُتدفقا ؟ هل يخبرنى النهر عما يجبرني ؟ تُرى  «ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟ أن ابتغاء السلام على الأرض أمر مستحيل، لذلك كان الموت طريق له» هل يكون الموت سلاما إلى الأبد؟ وإذا كان كذلك لماذا تواجه كل هذه المعاناة في الحياة من الأساس لنصل إليه؟ ربما لتذوق طعم السلام.
قطع الهاتف أفكاري لأجيبه، كانت حنين تخبرني أنها سوف تصل للكلية قبلي، نظرا لمبيتها في منزل جدتها الأقرب إلى هناك، لابد أنها قلقة فاليوم تنتهي المراجعات النظرية الأخيرة قبل بدء الامتحانات، تذكرت ميعادي مع يونس في الكافيتيريا، فأسرعت أستعد للخروج، سرقني الوقت وكنت قد تأخرت عليه بالفعل، في طريقي إلى الكلية جاءتني رسالة منه
« أين أنت؟»، فرددت عليه «دقائق وأكون عندك».
عند دخولي فناء الكلية أدركت على الفور أن ثمة أمرا غريبا قد حدث، كان الطلبة ملتفين حول أحدهم داخل إحدى البرجولات، هل أتى كريم مرة أخرى؟ ولكنه أكد سفره لنا! دخلت بين الطلبة المتزاحمين لأرى ما يحدث، كانت حنين جالسةتبکی بهيستيرية على يدها آثار دماء وتضع عليها الكثير من المناديل الورقية، يقف إلى جوارها يونس والدكتور قابل يهدئون من روعها، رآني يونس، فأفسح لي مكانا لأكون بجوارها، فسألته :
- ماذا حدث ؟
قال یونس بصوت خافت...
- لا أدري.. كنت أحضر القهوة فسمعت صراخا مدويا بالطابق الثالث، هرولت إلى المبنى وهممت أن أصعد لكني رأيتها تسقط من أعلى الدرج إلى أن بلغت آخره ويدها تنزف ساعدتها على النهوض وكانت في حالة بائسة كما ترين !
جلست بجانبها وما إن رأتني حنين حتى ارتمت في أحضان وقالت باكية :
- فريدة.. أين أنت ؟ أحدهم أراد أن يؤذيني.. لن أصعد إلى الطابق الثالث أبدا ..
ظلت تبكي، فاحتضنتها وأخذت أربت على كتفها وأنا أنظر في عينيها وأقول:
_ احكي بهدوء يا حنين. نحن جميعا حولك، لن يؤذيك شيء ما دمت على قيد الحياة.
بكت قليلا ثم تناولت جرعة ماء من يونس، وبدأت تسرد ما حدث وسط صمت الجميع :
_جئت مبكرا كما تعرفين، قبل أن أبتاع قهوتي من
الكافيتيريا.. تذكرت أنني نسيت البارحة ملف النوتات
الموسيقية الخاص بمنهج السنة داخل المبنى، قلت ربما قد نسيته بإحدى غرف المحاضرات بالطابق الأول أو الثاني، كانت الكلية خاليه تماما، فأخذت أدخل كل غرفة على حدة ولم أجده. نظرت إلي وبكت فقلت :
_ وماذا في ذلك يا حنين ؟
جففت دموعها وأكملت وقد تورمت عيناها من كثرة البكاء:
- كلما دخلت غرفة وجدتها غرفة العرف الثالثة بالترتيب من اليسار في الطابق الثالث! أخرج من أي غرفة فأجد نفسي بالفعل في الطابق الأول أو الثاني! وبعد أن أدخل أي غرفة مرة أخرى أجدها غرفة العزف بالطابق الثالث! كانت إضاءة الغرفة ترتعش ثم تضاء إضاءة شديدة لكنني متاكدة أنني لم أصعد إلى الطابق الثالث، كنت أتنقل بين الطابقين الأول والثاني ! أنا واثقة تمام الثقة ! لم أكن لأصعد إلى الطابق الثالث بمفردي أبدًا.
قال الدكتور قابيل ...
- هل هذا كل ما حدث ؟
بينما كانت تسرد ما حدث إذ نظرت إلى فوق، فوجدت الدكتور صالح يقف بالطابق الثالث متفرجا يدخن سيجاره في هدوء، لم يتكلف عناء فهم ما حدث كما فعل الدكتور قابيل ويونس، أكملت حنين :
- لا .. في إحدى المرات وأثناء دخولي إلى إحدى الغرف التي تحولت إلى غرفة العزف، فتحت مروحة السقف دون أن ألمسها.. فأردت أن أطفئها عبر المفتاح الخاص بها، كان المفتاح يعمل لكن المروحة لم تستجب أخذت أجرب أن أطفئها مرات دون فائدة، تصرفت بغباء.. كان لابد أن أرحل، لا أعلم لماذا أردت أن أطفئ المروحة !
فجأة شعرت بيد تدفعني بقوة خارج الغرفة، فوقعت من شدة الدفع في الممر بالفعل، ثم أغلق الباب بقوة وسمعت نوتة موسيقية تعرف بداخل الغرفة ! نظرت حولي فوجدتني في الطابق الثالث نهضت لأهبط منه لكنني سمعت صوت خطوات بجانبي والعزف مازال مستمرا بداخل الغرفة! أقف فتتوقف الخطوات، أسرع فتسرع .. أبطئ فتبطئ ! أخذت أجري إلى الدرج والخطوات تجري معي حتى وصلت إليه. وإذا بامرأة مخيفة تظهر فجأة لحظات بجانبي تماما .. ثم تصرخ في وجهي وتدفعني بعنف لأسقط على الدرج كله وأستقر في آخره ليجدني يونس أنزف! توقفت المسكينة عن الكلام ولم تتوقف عن البكاء، بات تظهر
الطلبة في حالة ذعر، نظر إليها الدكتور قابيل ثم إلى باقي الجمع في شفقة وقال:
- سوف نرى ما يمكننا فعله .. أنا أقترح تأجيل المحاضرات وتدريبات العزف اليوم على الأقل.
قال يونس :
_ من الأفضل فعل ذلك يا دكتور.
قلت في تساؤل:
_ أين الأمن من كل هذا؟ أين العم سيد؟
نظر الطلاب حولهم باحثين عنه، فقال يونس:
- ربما ذهب ليحضر إفطاره أو يبتاع شيئًا من بقالة قريبة، فمازال الوقت مبكرا.
تركنا الدكتور قابيل وذهب للمشاورة في الأمر مع باقي أعضاء التدريس، لكنه عاد بعد دقائق يهز رأسه في يأس يمينا ويسارا ويقول :
_ للأسف لم يوافق الدكتور صالح واقتنع باقي الأعضاء بذلك نظرا لضيق الوقت.
نظر يونس في ضيق ثم التفت إلى الطلبة:
- لا بأس يا شباب نحن جمع كبير من الصعب أن يصيبنا شيء، حنين كانت بمفردها وقد نوهت عن الأمر كثيرًا، نحضر المحاضرات النظرية في الطابقين الأول والثاني وأنا معكم طوال اليوم.
سأل طالب بصوت عال ...
_ وماذا عن تدريبات العزف ؟
قال يونس:
_ نتدرب جميعا في المسرح، فكما تعلمون يوجد به كل الالآت.. استعدوا سوف نحصل على قسط وفير من المرح اليوم.
كان الدكتور صالح مازال بالطابق الثالث يسمع يونس
بوضوح ويدخن سيجاره في هدوء.

                             ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن