(9)

12 3 0
                                    

في اليوم التالي كنت أستعد للذهاب إلى الكلية، يوم آخر في هذه الحياة الجميلة البائسة أمل آخر، فرصة أخرى، نور آخر وظلام أيضًا، وقت إضافي إلى الرحلة نقضيه في شقاء أو في هناء، الرحلة التي مهما طالت حتما ستنتهي ! ركض متواصل لا ينقطع من أجل الوصول لأشياء زائلة، وماذا يُضيرنا لو عرفنا النهاية قبل البداية؟ هل كنا نتكلف عناء المعيشة من الأساس؟ هل ننعم بالعيش إذا ما عرفنا الغيب؟ إذا ما تيقنا من أقدارنا ؟ هل نسعد إذا ما كان كل منا يمسك بكتاب سُجلت فيه حياتنا مُسبقًا، فإذا ما جاء الصباح كان كل ما علينا هو تطبيقه حتى المساء؟ وما هو حقيقة الشعور مع اقتراب الأجل ؟ هل نفرح بالفراق؟ أم نسعد به ونستعد له ؟ هل كان يُحدث فرقا في حياتنا؟ أم أن متعة الرحلة كلها في الغموض ؟ في الأمل والتمني؟ في الترقب والمغامرة؟ هل كنا سنطبق ما نقرأه في هذا الكتاب عن رضا؟ أم نعترض عليه لنخط بأيدينا مصائر أكثر بؤسا بكل جهل وغباء؟في وسط كل هذا كنت دوما أتذكر صدق عين يونس وهو يقول «أنا أصدقك وأدعمك..»، أليس رائعا أن تجد من يصدقك ويدعمك في الحياة؟ هل كان يقصدها حقا؟ أم أن هذه أعراض الفراغ العاطفي اللعين ؟ لم أصدق مشاعري التي بدات تميل إليه كل هذا الميل ! هل التفت إليه قلبي؟ هل نجح يونس في هذا بالفعل دون جهد ؟ ولكن لم لا وأنا التي تبتاع لافتة أنا أتبع قلبي وتعلقها على جدران غرفتها في فخر، ثم تنظر إليها بإصرار وتقول نعم أنا أتبع قلبي بكل شجاعة» ، «أنا محاربة». الغريب أن عقلي بدأ ينحاز إليه ويصدقه ! لكني لم أحبه بعد، فقط بدأت أراه بشكل مختلف... وليكن ما يكن، أنا فقط لا أريد حيرة مرة ثانية في حياتي؛ فقد تعلمت الدرس جيدا، لن أفلت زمام قلبي أبدًا إلا بعد تقديم الطرف الآخر كافة شروط الأمان،أعلم أنني أخدع نفسي بلا شك، ليس هناك ما يسمى بالأمان في الحب أو في صحبة البشر، القلوب عادة متقلبة لا عهد دائم لها،ألم تُسمى قلوبا من فرط تقلبها ! الله سوف يبصرني. كان هذا حديثي الصامت بين قلبي وعقلي، أعلم أنها لن يتفقا أبدًا.. أعلم ذلك، لكنني لم أبال بحوارهما، فتحت هاتفي لأجد رسالة من يونس لابد أن نتحدث اليوم لأمر هام، تبسمت فرحة وأرسلت له أنا في الطريق إلى الكلية.. أراك هناك ، فتحت حقيبتي لأخذ شيء منها، فوجدت الوردة البيضاء الذابلة قد جفت تمامًا، أمسكتها وبقيت أنظر إليها، فأسنعيد صوت المرأة التي كانت تهمس باسمي ولم يكن لها وجود! ألقيتها بعيدًا عني فسحقتها على الفور سيارة جاءت مسرعة في نفس اللحظة ، سعدت بذلك وكأنني أرى ذلك الكابوس اللعين ينسحق أمامي. استقللت سيارة أجرة، وعندما وصلت الكلية ودخلت فناءها، كان شيئًا غير طبيعي يحدث بين الطلبة، التجمعات في الفناء كثيرة، على غير العادة يتهامسون، رأيت الدكتور قابيل يعطي «العم سيد» نقودا كعادته، فهو يشتهر بكرمه مع الجميع، هل ما زال ما حدث معي حديث الكلية؟ رأيت حنين تشير إلى من بعيد، ذهبت إليها فرأيت عينيها لامعة إلى حد كبير، جذبتني من يدي بعيدًا عن الطلبة وقالت كمن تعلن عن خبر حصري.. ألم تعلمي ما حدث البارحة؟ كان يجب ألا يفوتك ماحدث .. أثارت فضولي لكنها استرسلت على الفور كأنها تعلم جهلي بالأمر..بعد أن غادرت البارحة، كان الجميع يتحدث عما ردده العم سيد مع البعض ، تعلمين بالطبع لا توجد أسرار داخل هذه الأسوار، كان البعض يتحدث عن الطابق الثالث وكيف أنه مكان ثقيل الظل، أحيانًا تحدث به بعض الأشياء الغريبة، لكن ليس إلى الحد الذي حدث معكِ، كان البعض يكذب الرواية من الأساس، لكن ما حدث بالأمس ليلا جعل الجميع ذاهلا، بل إنهم تذكروا روايتك وصدقوها بلا شك !قلت في سرعة ..
- لم تقولي شيئًا إلى الآن يا حنين ! ماذا حدث؟
- أكملت كمن تروي قصة خرافية...
- امتلات غرف العزف بالطلبة والدكاترة والمعيدين البارحة ليلا، فلم تكن غرفة واحدة شاغرة، بدأ العزف وبداكل شيء على ما يرام، وفجأة انقطعت الكهرباء عن الكلية بأسرها. تنهدت في ملل وقلت...
- وماذا في ذلك ؟
- اصبري حتى أكمل، خرج الجميع من الغرف وذهب الدكتور قابيل إلى صندق الكهرباء ليتفحصه، فوجده لا يعمل ! حينها هبط يونس الدرج وخرج من المبنى كله ليسأل العم سيد عن المشكلة، لكنه وجد إضاءة الكلية كلها منارة من الخارج فحسب أن الكهرباء قد عادت لكنه عندما دخل وجد الغرف مظلمة، فخرج مرة ثانية فوجد الغرف منارة حينها هاتف الدكتور صالح ليخرج بنفسه ويرى ما يرى لكن الدكتور صالح بدا غريبا وغير مهتم، في حين اهتم الدكتور قابيل وتعجب مما يراه عندما عادوا إلى الغرف سألوا إذا ما كانت الكهرباء قد عادت وانطفأت مرة أخرى؟ فأجبنا بالنفي حينها قال الدكتور قابيل إن من الحكمة ترك المكان الآن»، في حين كان رد فعل الدكتور صالح مقتضبا غير إيجابي وبه كثير من الخوف! الآن فهمت رسالة يونس، لم تكن سببا يتصنعه ليراني، إنها
كانت لأمر مهم حدث بالأمس، شعرت بخيبة تسري في قلبي ولم أعلق، فتعجبت حنين وقالت:
أراك لا تهتمي ولا تتعجبي مثل الدكتور صالح حتى إنك لم تخافي مثله ! هل تعلمين شيئًا لا تعلمه يا فريدة؟ انتبهت أنها قد وضعتني والدكتور صالح في خانة واحدة، أفضل الفكرة فقلت...
- مالي والدكتور صالح يا حنين ؟! بل أفكر في تلك الأمور الغربية المتتالية علينا، لماذا تحدث الآن؟ أفكر في المكان وانشغالنا جميعا بها، هل كانت تحدث مثل هذه الأمور في الماضي مع دفعات سبقتنا؟ أنا لا أريد الانخراط في هذا كله.. أريد فقط أن أنجح
نظرت حنين إلى طويلا وابتسمت في خبث ثم قالت غير مقتنعة ربما تفكرين في المكان يا فريدة.. وربما في رواد المكان أيضا.. تحاشيت النظر إليها كأنني لم أفهم تلميحها فقلت في حزم:
- أنا لا أفكر إلا في النجاح...
عادت إلى جديتها وسرحت وهي تقول:
- دعك من النجاح والرسوب، أثق في أننا سوف تنجح، ما يشغلني ويشغلنا جميعا الآن ما يحدث حولنا دون تفسير.. أم أن فضولك قد انتحر ؟
بقيت شاردة أفكر في يونس وحنين تتحدث ولا أسمعها، هل بدأ ذلك الشعور السخيف مرة أخرى، أردت أن أراه، هووحده ولم أبال بوجود حنين معي! ثم رأيتها تشير وتصبح «يونس».. خفق قلبي قليلا وشعرت بتوتر ملحوظ، لاحظت أنها تراقبني عن كثب وتبتسم، لمحت «العم سيد» يتابعنا من بعيد، أو هكذا رأيته، أشار يونس من بعيد ثم جاء إلينا يبتسم في يوليا وقار وسلم علينا .. فقالت حنين وفي نبرتها لؤم ملحوظ ...
- فريدة تنتظرك بشدة ... نظر إلى يونس وابتسم وقد بدا أكثر وسامة فقالت حنين:
- لمعرفة ما حدث بالأمس... ثم استأذنت في الذهاب لانشغالها وكنت أعلم أنها تفتعل بهذا ذلك لتتركنا معا، بات مقصدها واضحًا كلما رأته، نظر إلى يونس كأنه يتساءل هل قصصت مقابلتنا على حنين وكذلك رسائلنا ؟
فرددت متسرعة دون أن ينطق لسانه السؤال....
- حنين لا تعلم أي شيء عنا، هي فقط تخمن...
ابتسم يونس في عذوبة ولؤم أحببته ثم قال وعيناه تنظران
إلى نظرة جعلت قلبي يخفق بشدة ...
- تخمن ماذا ؟
قلت وقد بدا علي خجل لم أشعر به من قبل كأنني بت مراهقة في لحظات...
_ أننا تقابلنا من دونها أو ربما نتحدث ..
اتسعت ابتسامته وقال :
_ وما الذي يجعلها تخمن هذا ؟
لم أعلق فأراد ألا أتحرج أكثر من ذلك فقال:
على كل الأحوال دعيها تخمن كما تريد.... لا أعلم لماذا كنت خجلة متوترة إلى هذا الحدا إلى أن تحدث هو في أمر الكلية مبتسما ...
بالطبع علمت ما حدث البارحة؟ فشعارنا لا يوجد أسرار في هذا المبنى. تحدثت وقد عدت إلى طبيعتي قليلا ... بالطبع .. الآن تأكد للجميع أن المكان مريب، ماذا نفعل بهذا الشأن؟ هل ينقلون مكان الكلية ؟ ضحك بصوت عال وقد مال بجسده إلى الوراء بحركة لا إرادية .. ثم اعتدل واقترب فأجابني...
- بالطبع لا يا فريدة، هذا مكان حكومي للدراسة، تعلمت فيه أجيال كثيرة، لا تنسي أن تاريخ المكان قديم، لقد اقترح الدكتور قابيل هذا الأمر من قبل لكنه لم يكن بهذه السهولة. استنشقت رائحته الذكية دون أن يلحظني وقلت في ثقة ....
- وهل عانى الدكتور قابيل من أمور مماثلة في الماضي أيضًا ؟ نظر إلى يونس كأنه يطرح السؤال على نفسه أول مرة.. وبدا كأنه يفكر ثم قال في صوت خافت...
- لم أسأله من قبل يا فريدا
- ساد الصمت لحظات أردت فيها أن تأتيني رائحته مره اخري ، رأيته ما يزال منشغلا بسؤالي فقلت
- - وهل بوسعنا فعل أي شيء؟
- نظر إلى كمن حسم أمرا طال فيه الجدل ثم قال...
لا شيء غير البحث يا فريدة.
لمحني يونس وأنا أطيل النظر إلى العم سيد الذي بدا مهتما بنا كما أراه، فنظر بدوره إليه، وللحظات بدونا كأننا مثلث يرأسه العم سيد، وتساءل عقلي هل يعلم هذا الرجل شيئا لا نعلمه ؟

* * *

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن