رأيت الوهج الاحمر من الاسفل يزداد أكثر واكثر عند دخولي بهو المنزل ، لم استبن ماهيته بشكل قطعي ، هل يستبدلون الاضاءه باللون الاحمر ؟!لكني لا اري عمالا في الأدوار كما يحدث أثناء القيام بأعمال الصيانه ! واللون الأحمر غير منطقي بالتأكيد لغرف العزف !
دققت النظر قليلا فخيل الي أنه دخان احمر او برتقالي اللون ، ترددت في الصعود للطابق الثالث وكنت أوشك أن افعل قبل رؤيه كل هذا ، لكنني بعد مفاوضات مع نفسي قررت أن اصعد لاعرف ما يحدث ، صعدت الدرج بحذر وكلما انتهيت من طابق وجدته مهجورا ، كان صوت بداخلي يجذبني مره اخري إلي الأسفل ، لكن فضولي والسعي وراء الغموض يحرك قدماي لتصعدان الي اخر طابق بالكليه رغما عني .
علي مشارف« الطابق الثالث » أحسست بسخونه تملأ اجواءه ، كأنها رياح غاضبه ومحذرهتلهب كل من يفكر بالاقتراب ، لكنني رغم ذالك اقتربت ، كان بابا الغرفه التي اتدرب بها مغلقا ويرتج بشده من الداخل !وكأن ضغطا من داخل الغرفه يحاول أن يخلعه من مكانه .
كان دخان كثيف يملأ الغرفه يخرج من تحت عقب بابها ، حتي بدت موشكه علي الانفجار ، نظرت عبر النافذه الزجاجيه بالخارج ، فوجدت كل ذالك لا وجود له ، ثم رأيت خيالات لأناس لا اعرفهم وسط تكوينات ضبابيه خفيفه جدا بالكاد المحها .
تبينت أكثر فوجدت فتاه في مثل عمري تقريبا لا تتضح ملامحها ، ترتدي رداء ابيض كأنها عروس ، تحمل ورودا بيضاء وتبحث عن شئ ما..ثم تلاشت وتلاشي كل شئ !
اقتربت أكثر من النافذه لاري بوضوح ، ويا لهول ما رأيت ، فجأة بدأت الغرفه تحترق ! احتراق بدأ صغير ثم تحول لاحتراق شامل فجأة في لحظه واحده وكأنه انفجار ما .. سمعت أصوات استغاثه لم اتبينها .. هممت أن اهرول واصرخ فآتي بأحد أفراد الأمن لإنقاذ من بالداخل ، لكنني لم أبلغ الدرج قط ، يد ما امتدت وامسكت بقدمي أو شئ لا اعرفه ، شعرت أنها تود لو أن أدخل فاحترق معهم ! صرخت كما لم افعل من قبل ..صرخت وصرخت حتي استيقظت .
في البدايه لم أكن أستطيع أن اتنفس بشكل طبيعي ، تناولت جرعه من الماء وحمد الله أنه كان كابوسا وان صوت صراخي لم يزعج امي ، كانت الستائر المخمليه بغرفتي مسدوله ، فحجبت ضوء اشعه الشروق التي كانت قد بدأت تتكشف قمت من مكاني علي عجله لافتح الستائر ونافذه الغرفه لاري من بعيد مظهر نهر النيل الذي يريح نفسي بهدوئه الدائم وغموضه الابدي ، اتنسم ما تبقي من هواء الفجر المنعش لعله ينسيني ما رأيته في هذا الكابوس القاتم ، ثم سمعت ما بقي من أصوات ، من مسجد بعيد ،روح الفجر الذي ولي منذ دقائق .
اطمئن قلبي كثيرا ، دائما ما يفكرني الفجر بيونس ، هل اري يونس بدايه جديده ؟ ام ربما لتعلقه بصلاه الفجر ؟ ربما لحديثه الدائم عنها .. عن صعوبه الاستجابه لها ، وعن فضلها وإخلاص المؤمن في الحفاظ عليها ، لكن يا تري هل كان ما رأيته رؤيا أم كابوسا ؟ هل احترق من الداخل بالفعل ؟ واين ذهبت الفتاه ؟ لا اعلم لما تذكرت ابي .. فقد ارتبط ابي والموت معا في ذهني ، لكن كل هذا ليس بجديد ! الناس تموت كل يوم ، تموت بصور عديده لا اختيار لهم فيها ، لقد سيطر علي الموت بكآبته منذ رحيل ابي ، وتسائلت أذا كانت الحياه تقدم الكثير من الالم والامل معا .. فماذا يقدم لنا الموت ؟
صليت الصبح والضحي وارتديت ملابسي واكتفيت بكوب كبير من القهوه لأعود مره اخري لواقع بلا حرائق أو خيالات ، قررت أن اتنفس الهواء مره اخري بصحبه كورنيش النيل علي غير عادتي ، في هذا الصباح الباكر تكون القاهره خاليه من السيارات والماره ، كم احب هذه الأوقات ، وكأنني اتمشي في حقبه الخمسينات ، ما قبلها أو بعدها ، انا الوحيده بين أقراني التي تعشق الماضي البعيد وتري نفسها في تفاصيله .
كم كان خيالا جميلا الي أن تتبعتني فتاه صغيره متمرسه تبيع الزهور ، الحته في أن ابتاع ورده بيضاء ذابله تحتضر ، اعطيتها ما أرادت من نقود لتنصرف لكنها أصرت أن آخذها ، وبعد أن فعلت نظرت لي وتبسمت ابتسامه مخيفه ثم تولت عني وهرولت بعيدا ، نظرت إليها متعجبه ثم أكملت السير وانا احاول ان استنشق بقايا ورده ، حينها قفز الي ذهني الكابوس أو الرؤيه مره اخري .
لكن لماذا اسميها رؤيه ؟ هل سوف يحدث حريق بالكليه فعلا؟! هل تكون من رأيتها تحمل الورود داخل الغرفه تكون انا ؟ ولماذا اسير وحدي باكرا قم ابتاع ورده بيضاء تموت اليوم بالتحديد ! هل بت اخاف من الموت الي هذه الدرجه ؟ هدأت نفسي فلم تتحقق احلامي ولو مره واحده ، لا اريد أن يسيطر علي ذهني شيئا ويشتته ، اريد أن أتذكر ابي واهديه نجاحي ، ثم فكرت كثيرا كم هو مزعج الموت بجميع صوره وأشكاله .
لم انتبه الي أنني اقتربت الي الكليه بشكل كبير ، حتي أنني لم استقل الحافله ولا التاكسي ، فأكملت الطريق سيرا حتي وصلت ، كان «العم سيد »حارس الأمن يرتدي زيه في الغرفه المخصصه له علي اغلب الظن ، كنت اول من يصل الي الكليه ، دخلت بتلقائيه الي المبني دون تفكير ،، بطريقه لا اراديه نظرت الي الاعلي وتحديدا الي الطابق الثالث ، اريد فقط ان اكمل التدريب على «النوم الاسود» تلك النوته الموسيقيه العجيبه التي سوف اعزفها بحفله التخرج بعد اشهر قليله ، تري هل ستشتعل الغرفه الان ، هل ستتحقق الرؤيه أو الكابوس ؟ وهل لهذا علاقه بالنوته العجيبه مجهوله المؤالف ؟ هل حقا تتحقق الكوابيس فتصبح حقائق ؟ وقفت مكاني للحظات ثم صعدت في هدوء محاوله طرد كل هذه الكوابيس من رأسي .
كانت اضائه ربانيه تشع من خلال النوافذ الزجاجيه الملونه المنتشره في بهو المكان لتنقل روحانيات مختلفه ، الهدوء يخيم عليه ولعله يضيف شئ م الغموض كنت أحسبه سكينه من الماضي القريب ، لكني اري المرأه ذات العيون الواسعه في اللوحه الزيتيه تنظر إلي في وداعه ، ربما تبتسم أيضا! جميع التماثيل تبدوا كأنها أناس مجمدون !
بدأت في الصعود ببطئ ، كأنني اري المكان لاول مره ، استخدمت هاتفي المحمول في اناره اضافيه أثناء صعودي علي الرغم من عدم احتياجي لها ، تنبهت أنني كلما مررت بطابق نظرت إليه متوهجسه ، تماما كما كنت أفعل منذ ساعات قليله في الحلم ! مره اخري احاول أن أكون فريده الواقعيه التي لا تؤمن بأي من الاشياء غير المنطقية ، اللامنطق في حياه الانسان يحدث نوعا من البلبله واانجراف وراء المجهول ، فقط لإثبات وجود المنطق ، وانا لا اريد كل هذا العبث ، فقط اريد أن احيا في سلام وبساطه .
اخيرا وصلت الي الطابق الثالث ، مرت الدقاىئق كأنها ساعات علي روحي ، ذهبت الي صندوق الكهرباء الرئيسي بالطابق وأضأت كل ما به ، تفحصت عيناي ممر الطرق والغرف حتي المرحاض المغلق ، كل الغرف مغلقه وخاليه ، دخلت غرفه العزف اول مره تمنيت أن يكون موضع البيانو في مقابله باب الغرفه لاري من بالخارج ، اول مره لا اتوقع لرؤيه السماء من النافذه امريعه الصغيره فوق البيانو أثناء العزف ، لم أكن أعلم ااني اخاف الي هذا الحد ! ربما لأنني لا أؤمن بالعلم والمنطق ، ولا أجد تفسيرا منطقيا لما حدث معي الي الان ، كما أن اجابه يونس عندما سألته لم ترحني أيضا .
وضعت حقيبتي جانبا وأخرجت النوته ووضعتها علي حامل النوت الموسيقيه ، أغمضت عيني للحظات حتي استعيد قليلا من سلامي الداخلي ، فتحت عيني فوجدت السماء صافيه تنتظر نغمات عزفي ، ابتسمت وبدأت في العزف ، ظللت اعزف البنوته الموسيقيه ، استمتعت كثيراً بعزفها وقد نسيت كل ما حدث وانا أنظر الي السماء مره ثانيه ، احدثها وتحدثني بما تسره الأنفس ، ها هي الطيور تحلق مره اخري ، انتهيت من العزف وقد وصلت الي نشوه لم أدركها منذ فتره ، فاعدت العزف مره ثانيه مع استمتاع اكبر ، استمتعت كثيراً ، انتهيت ونظرت حولي متفقده المكان ، فوجدته كسابق عهده ، به كثيرا من الجمال رغم قدمه .
أثناء العزف الثالث سمعت صوت خرير ماء قريب ، صوت بدأ خافتا لكنه واضح بشده واخ يزداد بشكل منتظم ، تجاهلته ببساطه ، فربما أحد العملين يروي أحد أشجار حديقه الكليه ، بالأسفل ويصلني الصوت الهدوء المكان، استمر عزفي واستمر صوت الماء أيضا، بات صوت الماء قريبا من أذني... فتوقفت أصابعي عن العزف .. كان صوت الماء أقوى بدون عزف بشكل تلقائي نظرت إلى أرض الغرفة، فوجدت الخشب مبللا بماء يستمر في التدفق والارتفاع، رفعت حقيبتي من الأرض بسرعة ووضعتها فوق البيانو، ثم وجدت إضاءة الطابق كله مظلمة إلا غرفتي، من أغلق الإضاءة ولم أشعر به مرة ثانية ؟! رأيت ممر الطرقة أيضًا يغمره الماء، تتبعت مصدره فوجدته آتيا من المرحاض، وجدت بابه مفتوحا! ألم يكن مغلقا حين أتيت؟ استخدمت هاتفي في الإنارة وذهبت إليه في توجس لأتفقد صنبور المياه، لكن قبيل دخولي إليه سمعت صوت امرأة تهمس ...- فريداااااااااا .
كان صوتا لم أعهده من قبل، أجبتها تلقائيا دون وعي:
- من ؟ من ينادي ؟
لم تجبني اقتربت أكثر وصوت المياه ينبعث بقوة والمياه تفيض حتى امتلأ المكان.. خفت أن تفسد الأرض الخشبيةأعدت سؤالي بصوت أعلى...
- من بالداخل؟
لم تجبني! ثم سمعت أنينا كأنها تتألم! للمرة الأولى يغلب عقلي فضولي، شعرت أنه من الحكمة ألا أقترب أكثر ولا أعرف لماذا، تراجعت في هدوء وهبطت الدرج في سرعة وهرولت إلى«العم سيد» أطلب عونه وأنا ألهث.. كان يجلس مسترخيا يحتسي
كوبًا من الشاي حين رآني مذعورة أناديه:- العم سيد... المياه... المياه بالأعلى.. يبدو أن ..
نظر إلى الرجل في ذهول وقاطعني..
- أستاذة فريدة.. متى وصلت؟ وأين هذه المياه؟!
أكملت وأنا ألتقط أنفاسي:
- يبدو أن ماسورة المياه انفجرت في مرحاض الطابق الثالث، ويبدو أنك لم تلحظ وجودي أو تلحظ وجود الفتاة الأخرى أيضًا .
قال متعجبا:
- بالفعل لم ألحظ وجودك.. هل يوجد طلاب آخرون؟
ـ نعم هناك واحدة بالأعلى.. لقد سمعتها تبكي بالمرحاض.. فلنسرع لا يوجد وقت.. لابد من إغلاق محابس المياه.. استفسد الأرض الخشبية إذا تركناها كثيرًا.
وضع الرجل كوب الشاي جانبًا وأتى معي على عجلة، صعدنا الطابق الأول والثاني وكنت في المقدمة كي أريه ما حدث، وعندما وصلنا إلى الطابق الثالث تسمرت في مكاني وفغر فاهي عن آخره، ونظرت إليه في ذهول ! الأرضية الخشبية بالطابق الثالث جافة تماما !
كما أن جميع الأنوار مضاءة ! أخذ الرجل يتفحص الأرض يمينا ويسارًا وينظر إليَّ ، تجهمت ملامحي وأنا أتفقد كل هذا، نظرت إلىباب المرحاض فوجدته مغلقا ! ذهب الرجل دون أن ينبس بكلمة إلى المرحاض ودخله ثم خرج لينظر إلي ويقول متسائلا :- أين كل الماء المتدفق والمرحاض العالم؟ ومن هي التي تبكي ؟ لا يوجد سوانا في الطابق كله كل شيء على ما يبدو في أحسن حال، أكنت تتدربين هنا ؟
ثم دخل غرفة العزف ودخلت وراءه أجر قدماي، فرأيت حقيبتي ما زالت على الأرض ! أحسست أنني أريد كوبا من الماء، فقد جف حلقي تماما، أو ربما أريد سكبها على رأسي لأستفيق نظرت إليه وأنا لا أستطيع النطق، وضعت النوتة الموسيقية في حقيبتي وخرجت من الغرفة دون أن أجيب أسئلته التي لا أملك لها جوابا، هبطت الدرج في سرعة. بينما لمحته يحاول أن يلحق بي ليفهم ما حدث، كانت الكلية قد بدأت تمتلئ بالطلبة في ذلك الوقت، كانت حنين تصعد الدرج وأنا هابطة، رأيتها تبتسم وتلقي التحية لكنني لم أجبها، كما أنني رأيت الدكتور صالح يصعد الدرج أيضًا وينظر إلي وإلى العم سيد في فضول، فلم أعره انتباهي، ولم أكن لأفعل أي شيء إلا أن أخرج من هذا المكان سريعًا لألتقط أنفاسي.
***
أنت تقرأ
النوم الاسود
Horror{ ليلة ظهور شبح غرفة الموسيقى } تصعد فريدة إلي الدور الثالث بمبنى كلية التربية الموسيقية، وتحديدًا أمام باب غرفة الموسيقى المهجورة، حيث تبدأ في تذكر كل شيء، لكن ما تتذكره أو تراه أو تحلم به لا يخصها. إنما هو مجرد مفتاح لكشف كل ما حدث وكل ما قد يحدث...