(5)

25 3 0
                                    

ومثل حنين لم يتركني يونس يوما واحداً دون توجيه رغم انشغاله ،نفذت تعليماته ووجدت نفسي انخرط شيئاً فشيئا في حياه اكثر جديه ، كان يراني فتبتسم عيناه في صدق أحسه ، يحاول دوما ان يخبئ مشاعر لا تقوي عيناه علي تحمل كتمانها فتظهر واضحه في تعاملاته ، تخيلت الأمر كذالك ودعوت الله الا يبوح بها ابدا ، لا اريد ان اجرحه أو اخيره وقد أصبح الصديق الأمثل الذي عرف كيف بخرجني من محنتي ، لا اريد ذنبا من نوع اخر في حياتي ، لكنني اعترف أنه كان وحده قادرا علي ازاحه الستار قليلا حتي اري ضوء الحياه من جديد ، و استعيد نفسي التي كادت تذهب بلا رجعه .
ذات يوم كان موعد محاضره الكمنجه الساعه الثامنه مساء مع يونس ، كنت في الكليه منذ الصباح ، فقط خرجت مع حنين بعد انتهاء المحاضرات لتناول وجبه الغداء ، ودعتني بعدها وذهبت هي لانشغالها ، لم اجد ما أفعله في الساعه السابعه والنصف الا انتظار يونس ، كان عدد الطلبه الموجودين في هذا المساء قليلا جدا علي غير العاده ، بينما اصعد الي الطابق الثالث سمعت صوت أحد الزملاء أثناء هبوطهم منه يناديني :

_ فريده .. الطابق الثالث أصبح خاليا تماما الان .

لم افهم ما يقصده بالظبط فأجبته ..

_ وماذا في الأمر ؟ .. سوف انتظر يونس .

نظر نظره لم افهمها ثم همهم بكلمات لزميل اخر لم اسمعها ثم قال ..

_ كما تحبين .. لكن لا تنسي غلق الاضائة كلها لأن العم سيد لن يصعد لإغلاقها ابدا .

تفهمت ما قال ؛ لأن حنين أخبرتني أن العم سيد هو أحد أهم أفراد الأمن واكبرهم سنا ، أجبته بصوت عال :

_ سوف افعل ..

أكملت صعودي ، انوار الطابق الثالث كلها مضائه ضوء الطرقة الطويله التي تمتلئ بعده غرف صغيره متجاورة جهه اليسار ، كلها معده لمحاضرات العزف فقط ، ومجهزة بجميع الآلات الموسيقية وخاصه الثقيله منها التي لا يصعب علي الطالب حملها ، مثل البيانو ، وال تشيلو ، دخلت الغرفه الثالثه وكان بعدها اربع غرف اخري مثلها تماما ، ثم غرفه أخيره تستخدم كمخزون للآلات القديمه الهالكة ، ثم المرحاض آخرهم في جهه اليمين ، يتوسط المرحاض والغرف في المواجهة صندوق الكهرباء الخاص بالطابق الثالث .
دخلت الغرفة الثالثه ووضعت الكمنجه جانبا ، فقد وجدت البيانو وهو الأحب الي نفسي جاهزا امامي مع مقعدين من الخشب ، مقعد للعازف واخر للمعلم ، المخرج الي البلكونه مغلق ومثبت بمسامير ، نافذه الغرفه الصغيره فوق البيانو بمساحه لا تكفي لأن أنظر منها ، كان مستوي النافذه يفوق طولي ، فقط يسمح للعازف بلنظر الي السماء ، وكان هذا ما أحببته عندما تدربت سابقا في الصباح منفرده ، صوت البيانو والطيور المحلقه خارج النافذه الصغيره ، أن اعزف الموسيقي واري السماء يخبراني بأسرار نفسي التي لا اعرفها ، كم اعشقهما ، الغرفه صغيره لكنها كافيه لاحتواء الآلات والعازفين معا ، ربما لاحتواء ارواحنا التائهة ، ارضيتها من خشب الباركية العتيقه الذي يضفي اصاله للمكان ، في السقف علقت مروحه للتهوية تعمل بزر بجانب زر الكهرباء ، وضعت حقيبتي علي الارض وجلست في مواجهه النافذه ، فأصبح باب الغرفه خلفي مباشره ، كذلك كانت هناك نافذه زجاجيه صغيره مربعه متحركه في مجري مخصص لها تتيح لمن بداخل الغرفه أو بخارجها التواصل اذي ما احتاج الأمر ، نظرت إلي ساعه يدي ، فوجدتها توقفت تماما ، لحسن حظي كانت ساعه الحائط في الغرفه بجانب النافذه تعمل .
الساعه السابعه واربعون دقيقة ، خلست خمس دقائق اخري في هدوء ثم في ملل حيث بدأت كل الأصوات بالاسفل تهدأ أيضا ، والظلام يطل عبر النافذه في غموض ، تركت باب الغرفه مفتوحا وقررت أن أفتح النوته الخاصه بي ، وابدا العزف لحين معاد وصول يونس ، كنت اتدرب علي مقطوعه خاصه بحفل التخرج ، بدأت بالفعل اعزف وكانت عيني معلقه تماما علي الساعه التي كانت تشير عقاربها علي الساعه السابعه وخمس واربعون دقيقة ، فجأة سمعت صوت اغلاق نور الطرقة قويا من لوحه المفاتيح .
اوقفت العزف بغتة والتفت خلفي ، فوجدت النور قد أغلق بالفعل ، اتراهم يظنون أن الطابق الثالث خال تماما كما نبهني زميلاي ؟ لكن كيف ذالك وموعد المحاضره الاخيره لم يحن بعد ! كيف قام أحد أفراد الأمن باطفاء الاضاءه دون أن يراني جالسه أو أن يسمع عزفي !
خرجت لإعلان لم أغلق النور انني انتظر محاضره العزف ، لكنني لم اجد احد ، نظرت يمينا ويسارا ..كانت الغرف كلها مغلقه ! الدرج الي اليمين خال والهدوء يسيطر علي المكان !
علي ضوء كشاف هاتفي المحمول المحمول ذهبت الي الكهرباء الرئيسيه في اخر الطرقة ، فوجدت بالفعل الزر وقد حركه أحدهم لاسفل ، عدلت من وضعه لاعلي ، فصدر منه نفس الصوت الاول عند إغلاقه واضيئ نور الطرقه !
ذهبت الي الغرفه لكن ظللت افكر كيف لم يرني من أغلق الاضاءه ولم اشعر به ؟!
المسافه طويله بين لوحه الكهرباء والدرج ! هل من الطبيعي أن يمر بي دون أن يسمع صوت عزفي ؟!
لن اقضي الوقت في التفكير الان ، ربما حدث ذلك من تلقاء نفسه جراء استخدام مفرط في الكهرباء..تحدث احيانا بالمنزل ، كانت الساعه السابعه والخمسون دقيقة ، فما بال الوقت لا يمضي !
بدأت مره اخري بالعزف ، وما أن وصلت الي نفس الجزء الذي وصلت إليه سابقا حتي سمعت نفس صوت مفتاح الكهرباء .. كان صوته اعلي من صوت العزف ، توقفت والتفت إلي الوراء ، فوجدت الظلام قد حل بالطرقة من جديد ! لم اكن خائفه لكن ما يحدث أثار فضولي ، خرجت علي مهل أنظر يمينا ويسارا من جديد ، لا يوجد احد ! غرف العزف خاليه والمرحاض مغلق ومظلم .
ذهبت للمره الثانيه الي لوحه الكهرباء ، فوجدت المفتاح لاسفل مره اخري ، تعجبت ، لابد أن يكون هناك تفسيرا ، أعدته الي الاعلي كالمره السابقه ، ثم ذهبت الي الدرج ، وناديا علي أفراد الأمن وفلم يجبني أحد ، رجعت مره اخري ونظرت الي الغرفه لا إراديا وكانت خاويه ، أكملت سيري الي أن وصلت الي الدرج فما يبدو أن الطوابق خاليه وليس الطابق الثالث فقط .
عدت الي الغرفه وكانت الساعه السابعه وخمس وخمسون دقيقه ، شرعت في تكمله المقطوعه حيث توقفت ، بدأت بالعزف ولم تمر دقيقه واحده الا وقد انقطعت الاضاءه كلها للمره الثالثه ، توقفت وتجمدت للحظات في مكاني ، ثم أسرعت في هذا الظلام الدامس والهدوء المخيف ، فاحضرت هاتفي المحمول من جديد، اضأت نوره وحركته بالغرفه علي شكل نصف دائره الي أن وصلت الي الباب ، حينها سمعت صوت خطوات قريبه بالطرقة ، ظننته يونس قد وصل أو أحد أفراد الامنى، لابد أن النور العمومي قد انقطع عن الكليه بأسرها ، اخذت حقيبتي وخرجت من الغرفه علي ضوء هاتفي ، سمعت صوت الخطوات مره اخري ، فناديت بصوت مرتعش ..

_ يونس ..انت هنا ؟

لكن لم يجبني أحد ؛ لانه بالفعل لم يكن هناك أحد ! الغريب في الأمر أن صوت الخطوات لم ينقطع ، عندما وصلت الي الدرج وهممت بالهبوط سمعت صوت زر الكهرباء قويا ، فأضاء الغرفه والطرقه معا ! توقفت ونظرت الي يساري في تعجب .. كانت الطرقة خاليه تماما الا من طيف ابيض يحلق في الهواء ! أسرعت فسمعت صوت الخطوات يقترب أكثر تجاهي وتختفي الطيف .. بدأت أهبط الدرج سريعا كأنني اهرب من شئ لا أراه ! الي ان اصطدمت بجسد ما ، أغلقت عيني وصرخت عاليا ثم سمعت صوت يونس :

_فريده .. اهدئى انا يونس .. ماذا حدث ؟

                                 ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن