(15)

9 2 0
                                    

لم أستطع النوم ليلتها أبدا، كنت مع يونس عبر الهاتف في هدوء الليل، قلت في همس لكي لا أزعج أمي ...
- يونس.. أنا لا أصدق صور البيانو الجديد وأصابع العاج المحروقة هذه النوتة الموسيقية القديمة هي الصفحة الأخيرة الناقصة لمعزوفة النوم الأسود أتصدق هذا ؟! ما وجدناه كان الجزء المفقود من النوتة الأصلية التي وقعت من حنين واخترتها أنا! نفس النوتة التي أتدرب عليها الحفل التخرج هل هذا طبيعي ! أم أنها صدفة! لا أصدق أن الفتاة ذات الرداء الأبيض الأنيق في الصور هي فتاة أحلامي هي الفتاة التي كانت في الغرفة قبل أن أراها تحترق ! هي التي أراها الآن في يدي الآن في صور عدة بنفس الرداء هي الفتاة التي تحمل الزهور البيضاء الآن أتذكر الوردة البيضاء الذابلة التي ابتعتها .. أتراها علامة؟لكن لماذا أنا ؟
قال يونس في قلق :
_ هذه الأشياء لا تحدث صدفة يا فريدة، هذه العلامات في طريقنا ترشدنا لتكمل ما بدأناه.
بقيت أتهامس مع يونس عبر الهاتف ليلا وأحدق في النوتةوالصور وأقول:لقد ارسلت لك جميع الصور عبر «واتس آب»، كما ترى الفتاة تبدو في حفلة في الكلية وتعرف على البيانو، في صور أخرى تعرف وتغني، صورة أخرى لها مع شاب يبدوان فيه كحبيبين الصور المحيرة هي التي تجمعهما مع طاقم التدريس في الكلية، بعض الطاقم لا أعرفهم، لابد أنهم في سن المعاش الآن، صورة تجمعها بشخص يشبه العم سيدا صورة أخرى تجمعها بالدكتور صالح في سن صغيرة بكثير، وصورة أخرى للدكتور قابيل، أخذت الصور أثناء حفل وربما أثناء تدريب على العرف.
قال يونس من هي الفتاة ؟ وهل كانت تعرف نفس النوتة الموسيقية؟ ومن خباً هذه الأشياء داخل البيانو المحترق ؟ ولماذا ؟!
- يونس.. لابد أن تعرف ماذا حدث ؟
قال في رفق:
- أو فقك الرأي، والآن لابد أن تريح عقولنا قليلا، اذهبي لتنامي كي لا توقظي أمك وسوف أراك في الصباح بإذن الله.
أنهيت المكالمة معه وتوضأت وصليت الله ركعتين ودعوته كما كان يفعل أبي في مواجهة الشدائد، ثم غلبني النوم.. قبيل الفجر بوقت قصير، رأيت أحلاما متداخلة لا تمت لبعضها بصلة، تارة أرى يونس يتحدث معي، تارة أرى الدكتور صالح يتحدث إلى العم سيد، عقلي الباطن لا ينام أبدا، هذا الفتاة في الصور تبكي وتشير إلى شيء لا أراه، أمي تبكي لرسوبي المتكرر، أبي غير راضي عني ولا يريد محادثتي، هنا استيقظت غير راضية عن نفسي، وجدت رسالة من يونس أن أنتظره التاسعة صباحًا في مكاننا المعتاد، كانت الساعة السابعة صباحا .. صليت الصبح والضحى، وأخذت أستعد لمقابلة يونس، بالطبع وضعت الظرف في حقيبتي، كانت أمي مستيقظة تراقبني نظراتها في فضول وشك، فقبلت يدها وجبينها قبل أن أرحل.
كان الوقت مبكرًا عندما ذهبت إلى الكافيتيريا؛ فمازال الجميع هناك يُنظف المكان ويعده لاستقبال رواده، جلست أمام النيل كعادتي أفكر في انغماسي في هذه المسألة، هل أنا على صواب أم خطأ؟ لابد أن أنجح هذه السنة، لن أتحمل فكرة رسوبي مرة أخرى، لا أريد أن أسبب لأمي إزعاجًا، ولا أريد أن يشعر أبي بسوء مرة ثانية، كل زملائي يعيشون نفس التجربة معي.. ولم أز أيا منهم مهتما بمعرفة الحقيقة ! ربما أعيش أحداثا إضافية، لكن لماذا لا أجاريهم وأركز في دراستي فقط ؟، ولماذا لا أتجاهل كل شيء غير منطقي إلى أن تمضي السنة الدراسية وأنجح، ثم أقطع علاقتي بالمكان؟ لماذا لا أستطيع فعل ذلك ؟
هنا فكرت من زاوية أخرى.. «ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟ أن نترك العلامات لكشف الحقائق، فنترك أثرا طيبا تحمد عليه بعد رحيلنا». جاء يونس من بعيد يرتدي نظارته الشمسية التي تزيده جاذبية كما أراه أعتقد أنه قد أطال شعره قليلا، اقترب وسلم علي في ود حقيقي، ود لا ينقطع أشعر به دائما في صحبته، هذا الشعور النقي الذي لا أستطيع وصفه، إنما هو شيء حقيقي، لماذا أنسى كل شيء بمجرد أن أراه أمامي ؟ أحب هذا الشعور وأحب أيضا أنني لا أجد تفسيرا منطقيا ! ألاحظ أن ثمة تحولا قد حدث لشخصيتي بالفعل، فليس بمقدورنا أن نمنطق كل الأشياء في حياتنا، حينئذ تصبح مملة بلا روح. جلس يونس وطلب من النادل قهوتنا، بعد أن انتهى من الطلبات نظر إلي وابتسم في فضول وقال...
- أتأخذك مني الأحداث إلى هذه الدرجة؟ إذا فلنتجاهل الأمر ونعلن خطبتنا.
تفاجأت من عرضه المكرر الذي أسعدني كثيرا .. ثم اقتربت قليلا منه و همست:
- إنما أفكر في هذا الشعور والإحساس الذي لا ينقطع كلما رأيتك، هذا الود والأمان الذي يزداد ولا ينتهي.
فقال لي يونس: عندما أحببتك كنت أراك كما أنت يا فريدة لم يكن حبي أعمى كما يقولون، رأيت عيوبك وقبلتها ورأيت مميزاتك وأحببتها، تقبلتك كما أنت، لذلك تشعرين بهذا الود دائما، الأمر بهذه البساطة.

قلت ضاحكة

- حتى وأنت ترى فريدة المرهقة بكل تلك الهالات السوداءتحت عيني، أنت الآن أعمى يا حبيبي.
رد في جدية:
- أحب أن نلتقي صباحا ونحن في شدة الإرهاق لم نذق طعم النوم، وأن نتقابل على عشاء في أحسن صورة لنا، هذه هي طبيعتنا الإنسانية، هل نبقى بصورتنا هذه حتى نكبر ونشيخ؟ مستحيل، هل تقبليني إذا ما مرضت وأخذ المرض مني أجمل ما
يجذبك في شكلي ؟
قلت في سرعة وجد:
بالطبع أتقبلك في جميع حالاتك.
- هذا هو ما أصبو إليه معك يا فريدة، علاقة حقيقية وفريدة.
جاء النادل بالطلبات، أخذنا نرتشف من القهوة، وقد طلب يونس إفطارا شهيا لنا، سأل حينها :
أين الصور وبقية النوتة الموسيقية.
حينما رآهم في يده قال على الفور...
- الآن أشك في اثنين...
على الفور أجبته كأنه كان يسألني:
- الدكتور صالح والعم سيد.. لابد أن نراقبهما عن كتب.
- قد فعلت هذا يا فريدة.
كانت مفاجأة بالنسبة لي فقلت غاضبة ..
لماذا لم تقل لي هذا من : قبل إذا وتوفر علي عناء التفكير ؟
قال في حلم..
أنا لا أتهم الناس باطلا لمجرد أنني أشك فيهم أو لأي سبب غير مقنع، لا أفعل هذا وأتمنى أن تتفهمي أني أرامي سمعة الناس التي هي أغل ما يملكون، كما أنني أخشى الله يا فريدة إذا ما رميت الناس بالباطل. انطفأ غضبي بها سمعت منه وقلت على استحياء... _ _ حسنا أنت على صواب، لكن لماذا راقبتهما إذا ؟
قال..
_ لأنني أصدق حدسي أيضا، لكن يبقى الأمر بيني وبين نفسي، شيئ ما كان قريبا، أردت أن أثبته أو أنفيه ليس إلا، كنت أحسب العم سيد يعمل لصالح الدكتور قابيل في البداية إدانه يعطيه شهرية لا بأس بها، لكني اكتشفت أن العم سيد بالفعل ينقل كل كبيرة وصغيرة إلى الدكتور صالح، في بادئ الأمر طنت أن الدكتور صالح مريض نفسي يعاني من حب الأناء لأنه الأقدم بالكلية ويظن أنه لابد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة، ثم علمت أن العم سيد ينقل إليه أخبار الدكتور قابيل أيضا فماذا نخمن ؟ اندهشت و خطر في بالي أمر، فقلت على الفور:
- ما رأيك بأن نستعين بهذا الطالب السابق الذي حكيت لك عنه المساعدتنا؟ معي رقمه.
فكر يونس قليلا وهو يرجع بخصلات شعره المتناثرة إلى الوراء، وينظر إلى بغيرة يخبأها .. ثم قال.
كريم . هذا الذي أعطاك رقمه ؟
أجبته
نعم هو ...
قال في غيرة يحاول إطفاءها ... وجدت إحساسا ما بعدم الراحة إليه في حكايتك..... لكن لتفعل ذلك ما دام قد اختلط الأمر علينا.. لا بأس. وافقته وبدأت بتناول إفطاري الشهي.

***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن