(14)

7 3 0
                                    


في هذا اليوم لم أستطع حضور أي من المحاضرات، لم أتناول الطعام، الكثير من القهوة ولا شيء آخر، كنت ألوم نفسي لعدم تسجيل الذي سمعته من مخزن الآلات الهالكة . لم أحسن التصرف، مكثت في كافيتريا الكلية أنتظر يونس الذي قلق لما سمع صوتي خائفة حين رن الهاتف، رأيت «العم سيد» يراقبني، كلما رأيت هذا الرجل ونظراته الغريبة سيطر على تفكيري شعور أنه يراقبني لسبب ما غير مراقبته المعتادة لبقية الطالبات؟ بدات أشك في أن هذا الرجل يتتبعني! إنه كما قال كريم «يعرف دبيب النمل وأماكن بيوته» لم أكن خائفة من شيء أو أحد وقتها، فقط أفكر في الكثير من الأسئلة، هل نجد لها إجابات شافية؟ أم نظل مثل كريم وجميع الدفعات السابقة لا تعلم شيئا ؟
مر الدكتور صالح من أمامي، أشعر أن هذا الرجل يعرف شيئًا، شخصية تحمل الكثير من الغموض، ثم جاء الدكتور قابيل يبتاع قهوته ويسلم علي في عجلة، استوقفته لأقول له شيئًا لم أرتبه ولم أكن واثقة في الحديث معه قبل أن يوافق يونس فهو شريكي في الأمر، ولا أريد أن أتسبب في مشاكل له، ابتسم الدكتور قابيل وتساءل:
- أراك شاحبة هذا المساء يا فريدة.. هل أنت بخير ؟
- أنا بخير فقط تواجهني صعوبة في النوم هذه الأيام..
جاء يونس وكان قلقا علي إثر المكالمة التليفونية الأخيرة توجه مباشرة نحوي كأنه لا يرى الدكتور قابيل من فرط قلقه وقال بصوت مسموع:
_ ماذا حدث ؟
لا ألومه في ذلك فقد كنت خائفة إلى حد الموت عندما رن هاتفي كأنني نسيت وظيفته الأساسية، نظر إلينا الدكتور قابيل وقال:
_  يبدو أن الأمر أكبر من مجرد صعوبات في النوم! هنا انتبه يونس إليه وألقى سلامه ثم قال في تلقائية: - تحدثت معي فريدة بالفعل وكانت مريضة لتلغي عزف اليوم، فلماذا لم تغادري إلى الآن؟
نظر إلينا الدكتور قابيل نظرة ذات مغزى وقد فهم أن يونس يواري أمرًا عنه ثم قال بحرج :
_ ألف سلامة يا فريدة.. على العموم سأكون مستعدًا
لمساعدتكما في أي وقت على الرحب.
في هدوء قال له يونس متداركا:
أشكرك يا دكتور.. سننتظر قليلا لنرى حالتها، فإذا تحسنت نبدأ العزف وإذا انتكست أوصلتها لبيتها.. لا تقلق، لكن ألم تبدأ إجازتك اليوم؟
قال الدكتور قابيل:
- بدأت إجازتي من اليوم بالفعل لكنني اضطررت أن أعطي الدكتور صالح بعض الأوراق، ثم أسافر مع العائلة، تعلم أني أفضل السفر ليلا.
رد یونس بود ملحوظ :
- لتنتبه إلى الطريق إذا ولتصحبك السلامة.
شكر الدكتور قابيل يونس ثم رحل .. جلس يونس وقد عاد إليه قلقه من جديد وسألني :
- ماذا حدث؟ أخبريني بالتفصيل. سردت له ما حدث فلامني على جرأتي كثيرًا، وعلى وعدي الذي نقضته بأن أبقى إلى جانبه طوال الوقت خاصة في هذا الأمر، جددت وعدي مرة أخرى في صدق، وبعد أن انتهينا من القهوة، قال يونس

- الآن يجب أن نصل إلى غرفة العزف للتدريب كما أخبرنا الدكتور قابيل والا سيشك في أمرنا.
قلت متسائلة ...
- هذا يعني أننا لن ندخل مخزن الهالك الليلة؟
قال في ثبات :
- في منتصف وقت العزف وعندما يخلو المبنى من الطلاب والأساتذة أتركك بمفردك آسفًا لتفقد المكان لأي حجة، إذا ما كان قد رحل الدكتور قابيل ندخل مخزن الهالك.
أومات بنعم، وتمنيت أن يرحل الدكتور قابيل الآن.
ذهبنا إلى الغرفة وكانت بقية الغرف مزدحمة هذه الليلة تعج بالمتدربين على جميع الآلات، بدأت العزف ومع كل هذه الأصوات لا تملك إلا أن تحب الحياة من جديد، وتنسى كل شيء يزعجك رغما عنك في استراحة قصيرة خارج الغرفة بدأ العازفون في الرحيل واحدا تلو الآخر، أيضا المعيدون والدكاترة، ولمحت الدكتور صالح ينظر إلى كما ينظر العم سيد تماما ! بدأ الطابق الثالث يهدأ رويدا رويدا، وكنت قد تدربت بما يكفي ولا استطيع الانتظار أكثر من هذا، فدخلت الغرفة وقلت ليونس...
_  مر نصف الوقت.. ألن تذهب كما قلت؟
ابتسم يونس كأنه ينظر إلى طفلة وقال:
- أنت متحمسة حقا ...
بالتأكيد... نظر يونس إلى الساعة وأخذ مفتاح سيارته وقال:
لن أتأخر .. كوني حذرة ولا تندفعي في فعل أي شيء..
أومأت له إيجابا وشعرت بكثير من الأمان، بدا لي أبا حنونا أكثر من حبيب، أحببت فكرة أن يكون أبا لأولادي حينها، أحيانا أفكر في أشياء لا تمت بصلة لما أنا فيه من مواقف! خرج يونس وبقيت أنظر إلى الجدران وأتمشى في الغرفة الصغيرة، وأسمع الطلبة ينسحبون بهدوء من الطابق الثالث.
خرجت من الغرفة على استحياء لأستكشف بنفسي ماذا يحدث خارجها، الغرف شبه خالية إلا من طلبة قلائل يستعدون للرحيل؛ لأن الطابق بدا شبه خال، وهذا أمر يزعج الطلاب خشية أن يحدث شيء غير منطقى آخر عُدت إلى الغرفة وبدات في إصدار أصوات من الحقيبة والنوتة وكأنني أستعد للرحيل مثلهم، بعد برهة أتى يونس ترتسم ملامح الجدية على وجهه نظر إلي فرأى أنني أستعد للرحيل فقال : - هل حدث شيء ؟ هل تغادرين؟
تبسمت وأجبته بصوت خافت...
- لملمت أغراضى لأوحى لمن يتفقدني أننى أغادر بالفعل تحسبا لأي موقف.
_ يعجبني تفكيرك الآن.. غادر جميع الطلبة، والأساتذة والمعيدون جميعهم .. بالطبع إلا «العم سيد»، لا أريده أن يشك في أمرنا، سوف أدخل أنا الغرفة أولا لأرى ما بها وأتفقدها. أريدك أن ترحلي فعلا، بعد مرور دقائق أمامه وعند البوابة تظاهري أنك نسيت هاتفك لنكسب مزيدا من الوقت وتصعدي من جديد، حينما تأتين إلى المخزن لا يجب أن يستغرق الأمر أكثر من دقائق معدودة.
كنت أثبت عيني في عينه لأستمد منها قوة لا أعلم مصدرها، قلت في ثبات :
- فهمت ..
ذهب يونس ووقفت مكاني أسمع صوت خطواته على الأرض، صوت المفتاح في باب الغرفة، صوت الباب يفتح ويُصدر صريرا خفيفًا، ثم سكونا، تعلقت عيني على الساعة فوق البيانو، بعد دقائق هبطت الدرج بالفعل، المبنى خال تماما، في هو المينى سمعت صوت العم سيدة عاليا يتحدث عبر الهاتف في الخارج، أو لعله يتحدث مع فرد أمن آخر، مررت بجانبه دون أن أنظر إليه، عبرت البوابة وانتظرت قليلا ثم تفقدت حقيبتي كثيرا، ثم تفقدت جيوبي كأني أبحث عن شيء، ثم هرولت إلى الداخل مرة أخرى كأنني على عجلة من أمري.
وهكذا دخلت المبنى مرة أخرى، في البهو كان الظلام قد حل به من كل جانب فأصبح مخيفا، خرجت لأخبر «العم سيد» بان يضيء بعض المصابيح لكنني ترددت، لم يخبرني يونس أن أفعل ذلك، ربما أفسدت خطته ؟ لكنني أردت أن أجعل الأمر طبيعياً، قبل أن أصل إليه سمعته يقول مطمئنا «لا يوجد غيرهما بالداخل ! تسمرت مكاني قبل أن أصل إليه وقفز الدكتور صالح إلى ذهني، لم أعرف هل أفاجئه ليعلم أنني سمعته أم أتركه وأراقبه ؟
اخترت ألا يعلم، فناديت عليه قبل أن أصل إليه بحجة الخوف من الظلام، لما وصلت إليه كان مرتبكا بعض الشيء، لقد أغلق هاتفه في الحال، عرفت ذلك لأن إضاءته ما زالت تعمل، أعتقد أن هذا الرجل لم يعتد ما هو عليه، أو على الأقل يشعر بفعل خطأ بداخله، فلو كان كاذبا محترفًا لكان في قمة الثبات الآن، أخذ يتفحص وجهي كأنه يسألني هل سمعتيني ؟...
بادرت في تلقائية وقلت...
- الظلام بالداخل مخيف.. لم أستطع أن أصعد، هل تنير بعض المصابيح في بهو المبنى من فضلك يا عم سيد؟
قال في سرعة.
بالطبع .. لم ألحظ ذلك .. شكرا لك.
ابتسمت له في سذاجة وقلت...
- أشكرك.
ابتسم الرجل في شك وظلت نظراته تلاحقني إلى أن اختفيت من أمامه، صعدت إلى يونس الذي بدأ القلق يتسرب إلى قلبه، اتجهت مباشرة إلى غرفة المخزن، مرة أخرى تلفن حولي لأتأكد من عدم وجود أحد، إذ إنني لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن أكون في هذه الغرفة مع يونس، دخلت الغرفه فاستقبلني يونس في قلق:
- لماذا تأخرت هكذا ؟
_ ليس الآن... أخبرك لاحقا، لا بد أن تسرع... أين هو البيانو؟
- أشار إلى بيانو من النوع الكبير في زاوية من زوايا الغرفة مغطى بقماش أبيض متسخ وقال...
- لقد تفقدت أغلب الآلات ولم أجده.. أشك في أنه المغطى في الزاوية هناك...
الغرفة حقا كبيرة، حجمها ككل غرف العزف مجتمعة مررت عبر كثير من الآلات الهالكة كما يسمونها، لا أحب أن أرى الآلات بهذه الحالة أبدا، وقفت أمام البيانو وقد كشف يونس عن لوحة مفاتيحه، وبالفعل كان هو .. العجيب أن ما ذكره (كريم) حقيقي البيانو كله بحالة جيدة جدا، بيانو كبير غالي الثمن، كيف يحترق العاج ؟! بل يحترق في أماكن وضع أصابع اليد فقط ! يحترق على هيئة أصابع فى سرعة كان هاتفى يحتفظ بصور كثيرة للبيانو كله من بعيد ومن قريب ومن زوايا مختلفة، كان يونس يتفقد الطرقة كانه يتفقد صندوق الكهرباء، عندما هممت أن أخرج كان صوت داخلي يحثني أن أكشف الغطاء عن البيانو كله، كان الفرق بين تكوينه الخارجي والأصابع المحروقة رهيبا، كأنه بيانو لم يستعمل
وقد ركبوا عليه أصابع عاج محروقة !
نظرت إليه في تمعن وأردت أن أراه من الداخل، فتحت الذراع الخشبية فشهقت، أتى يونس مسرعًا، وقفنا مذهولين مما وجدنا، قد يكون بداية الخيط الذي نبحث عنه، جزء من نوتة موسيقية محروقة الأطراف وظرف كبير، لم أعر النوتة الموسيقية انتباهي.. أردت أن أرى ما بداخل الظرف، الظرف الأبيض الذي اصفر لونه بمرور الوقت، فتحنا الظرف في وجل، كان مملؤا بالصور القديمة، صور أناس لا أعرفهم، أخذنا نقلب فيهم بسرعة من فرط فضولنا، فشهقت مرة ثانية، هنا أمسك يونس بقايا النوتة الموسيقية وأخذ مني الصور ووضعها في الظرف ثانية ثم في حقيبتي وقال في حزم...
- لابد أن تغادري الآن...
أجبته على الفور
هل تعلم من في الصور ؟
أجابني بصوت خافض وهو يتلفت حوله ...
- لدينا كل الوقت لنكتشف لاحقا... خرجت ووقفت أمام باب الغرفة ثم قلت:
- هل أقابلك بعد قليل ؟
ربت يونس على كتفي في مودة وقال:
- بل أقابلك في الصباح الباكر في الكافيتيريا القريبة من بيتك، الوقت تأخر الآن، كان يوما مليتا بالأحداث، تشرب

القهوة في الصباح.
_ وأنت لا ترهق نفسك أكثر من اللازم... أراك في الصباح.
ابتسم يونس، كنت مستعدة لأذهب فتفاجأت بالعم سيد يقف عند بداية الدرج ينظر إلي ويقول في شك: - وجدتك قد تأخرت.. فصعدت لأطمئن على سلامتك.
علا صوت يونس عن عمد وهو يغطي البيانو بهدوء:
- جئت في وقتك يا عم سيد... أين أنت يا رجل، تعال لتساعدني...
قلت بصوت عال أيضًا...
- أقترح عليك أن تلغي هذا البحث يا يونس، يكفي رائحة الغرفة العفنة ...
ثم نظرت إلى رجل الأمن في خبث وقلت :
- لا تقلق يا عم سيد فقد وجدت ما أبحث عنه أخيرا

                               ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن