قضيت كثيرا من الوقت بصحبة نفسي في إحدى الكافيتيرات المنتشرة على ضفاف نهر النيل بمنطقة المنيل هذا المكان الذي نشأت فيه وتسكن فيه روحي، لم يعد قلبي يطمئن لقرب أحد؛ لأنه لابد مفارق بطريقة ما، أصبحت لا أجد الألفة والانسجام إلا في القرب من الله ، الذي لن يفارقني ولن يخذلني ولن يضيعني. ظللت أفكر ساعات لم أشعر بمرورها، أطلب كثيرًا من المشروبات ولا أرتشف منها إلا الرشفة الأولى فقط ! ماذا حل بعقلي؟ هل توهمت كل ما حدث؟ وهل أصدق إلا ما أرى؟ لكنني رأيت الأرض مبللة ورأيتها أيضًا جافة! فماذا أصدق؟ سألتني حنين ذات مرة ماذا أريد من الحياة؟ إلى الآن لم أجد الإجابة الحقيقية بداخلي، لأن عقلي موجه نحو الموت وليس الحياة، حينئذ تنبهت أن الموت ليس نقيض الحياة وإنما هو وجه الحياة الحقيقي بعد التخلي عن زيف الدنيا.
سألت نفسي «ما العبرة التي يقدمها لنا الموت على طبق رائق شفاف؟ أن نختار رفقاء رحلتنا بعناية كي لا يكون المزيد من الوقت الضائع والكثير من الندم »
كنت قد أغلقت هاتفي لتفادي التحدث إلى أي إنسان، نظرت إليه في تردد ثم فتحته فكان سيلا من المكالمات والرسائل، كان يونس أكثرهم اتصالا، جزء مني حثني على الاتصال به،ففعلت.. جاء رده سريعا
فريدة.. أين أنت ؟ وماذا حدث اليوم ؟ فكرت أن العم سيد لابد أنه نشر بين الطلبة والأساتذة كل ما حدث.. رددت في يأس :- لا شيء
- جاء رده أسرع...
- أين أنت ؟ أريد أن أراك .
حينها فقط كنت أريد الحديث عما جرى، ربما كان يونس الرفيق الأمثل الآن، مر أقل من نصف ساعة، فوجدته أمامي! تجمدت لحظات عندما رأيته ينظر إلي في شوق، أو ربما يُهيئ لي قلبي سخافات أريد تصديقها، كانت المرة الأولى التي أراه فيهابدون حنين، اقترب وتبسم قلبي رغما عني وسألته:
- كيف جئت بهذه السرعة في الزحام ؟
أشار إلى النادل وطلب قهوته، ولم أكن قد أكملت قهوتي بعد ثم استرسل :
ـ المكان ليس ببعيد عن الكلية...
مرة أخرى سمعت الكلمة الأخيرة منه، فعاد امتقاع وجهي مرة ولم أعلق، أشحت بوجهي تجاه النيل، فقال يونس :
- ألا تودين أن تلقي ببعض مما تعانيه على عاتقي يا فريدة؟
التفت إليه في غضب وقلت مسرعة :
- أنا لا أعاني شيئًا .. فقط بعض الكوابيس.
تبسم في هدوء وقال:
- أعلم تماما أنك بخير، لكن جميعنا يعاني في الحياة وهذا ليس بالشيء المعيب، إنها طبيعة الحياة التي تلقي إلينا بمتاعبها لا لكي تتألم فحسب بل لتتعلم أيضا، والحمد لله الذي جعل الصديق سندا وقت الحاجة والضيق.
نظرت إليه وقد هدأ غضبي ولم أعلق، فأكمل بصوت رخيم وهو ملتفت بجسده تجاهي:
- علمت من الدكتور صالح اليوم ما نقله العم سيد له، ثم تحدثت إلى حنين لأفهم منها فوجدتها مثلي تماما لا تفهم شيئًا. رأتك تغادرين مسرعة إلى الخارج دون أن تلتفتي إلى أحد. قالت إن المنظر العام بدا غير مطمئن؛ فقد كنت شاحبة الوجه والعم سيد يحاول أن يلحق بك ! إنها قلقة عليك وأنا أيضا.
دون قصد التفت إليه مرة أخرى، هذه المرة لأتحقق من عينيه بعدما قفز إلى ذهني حديث حنين عنه، هربت عيناه مني في سرعة بعد أن استشف سؤال عيناي اعتدل في جلسته وأخذ يصفف شعره كمن يحاول تشتيت انتباهي، لا أعلم لماذا فرح شيء بداخلي حتى مع احتمال وجود معنى مزدوج الحديثه، تشجعت لأقص عليه ما حدث بالتفصيل، رأيته مهتما ولا يسفه من شيء ولم يقاطعني.
كنت كمن يتحدث إلى نفسه دون خجل، الآن عرفت لماذا احب صحبته مهما كان قصر مدتها، ففي صحبته أكون كما أحب أن أكون، لا أخاف ردة فعله أو حديث نفسه لنفسه ورأيه عني،أنا أعلم أنه يفهمني ويرى ما بداخلي مباشرة، لذلك أتحدث فقط ولا أبالي، بعد أن انتهيت، كان يونس قد استغرق في التفكير، لم نتحدث دقائق، ثم التفت إلي في جدية وقال:- فريدة.. أنا أصدقك وأدعمك، وأعلم أن هناك شيئا غريبا بل غير منطقي أيضا في هذا المكان، وبالتحديد في الطابق الثالث، يبدو أن كل ما حسبناه أساطير عن المبنى حقيقي، اسمعي.. أنا أعلم أنك لا تؤمنين إلا بكل ما هو واقعي ومنطقي، كنت مثلك ثم اكتشفت أن الأمور لا تقاس بهذه الطريقة، نحن نؤمن بوجود الله والملائكة والشياطين الأنبياء والمعجزات، لكننا لم نرهم، بل نرى الدلالة على وجودهم.
أجبته فورا:
- بلا أدنى شك ...
ابتسم ورأيت جمال روحه فابتسمت، شعرت أن لأول مرة يربطنا خيط مضيء شيء روحي نقي، ربما لنكون أصدقاء أوفياء أو ربما أكثر من هذا، قال حينها:
- سوف نكتشف معا ما يحدث يا فريدة، فقط دعيني أكون جوارك دائما، لا أريد أن يحدث مكروه لك.
حاولت أن أخفي شعاع فرحة وليدة في عيني لكني أجبته في سرعة ...
- اتفقنا
***
أنت تقرأ
النوم الاسود
Horror{ ليلة ظهور شبح غرفة الموسيقى } تصعد فريدة إلي الدور الثالث بمبنى كلية التربية الموسيقية، وتحديدًا أمام باب غرفة الموسيقى المهجورة، حيث تبدأ في تذكر كل شيء، لكن ما تتذكره أو تراه أو تحلم به لا يخصها. إنما هو مجرد مفتاح لكشف كل ما حدث وكل ما قد يحدث...