(13)

8 3 0
                                    

كان عزفي ليلتها مرتعشا خائفا، وهذه النوتة الموسيقية صعبة ومعقدة، لكن بها شيء ما يجذبني بشدة كمغناطيس قوي، لا أستطيع أن أتركها أبدا، حتى إنني في أوقات شرودي أجد نفسي ادندن ببعض نغماتها دون وعي.
لكنها تحتاج إلى تمكن من الآلة الموسيقية، وأنا الليلة خائفة، نعم كنت خائفة، فهذه هي نفس الغرفة التي تغلق فيها الإضاءة دون سبب، وهي الغرفة التي امتلأت بالمياه وكانت جافة تماما! وهي الغرفة التي تدور فيها كل أحلامي المزعجة، وهي الغرفة
التي احترق فيها أحدهم !
أحس يونس بحالتي وفهم أنني لن أستفيد من العزف تلك الليلة، فاقترح أن نرحل وأوصلني إلى البيت قبل الانتهاء من التدريب.. وفي الطريق شردت منه كثيرا.. هذا الصوت الآتي من أعماقي قد ملأني إصرار بتغيير كل ما لا أرغب في وجوده في حياتي، أن أمحو هذا الخوف بداخلي، لأكون حقا ما أردت أن أكون، لأصبح كل الأحلام التي راودتني حين كنت على يقين من تحقيقها، أنا الثائرة على الحياة بكل ما تحمله من خوف وإحباط لنا، هذا الصوت الذي أسمعه الآن، إنه ليس صوت عقلي اللاواعي،إنما هو صوت ضميري الذي استيقظ معي هذا الصباح.
كنت قد سألت كثيرا زملائي عن أحلامهم، فلم يذكر أحد منهم شيئًا من عجاء فكرت حينها لماذا أنا؟ لكني الآن أرى أحلامي رسالة لا بد أن أتتبعها، بل إنني أتوق إلى معرفة المزيد، هل اختارني الله لمعرفة سر ما ؟ إذا كان الأمر كذلك فلتكن مشيئة الله.
ذهبت إلى الكلية في الصباح، عند البوابة رأيت العم سيده يشير إلي بالتحية، فتظاهرت أنني لا أراه مستغلة نظارتي الشمسية، اتجهت مباشرة إلى غرفة العزف لأتدرب ولأكسر في نفسي خوفا أحاطها، صعدت الدرج في نشاط كأنني في مهمة، قابلت الكثير من الزملاء في طريقي ورددت تحيتهم، جاءني صوت أحدهم منبها :

_ الطابق الثالث خال الآن يا فريدة ...

الآن أعلم مغزى التنبيه، أومأت برأسي أنني أعلم دون أن أرى المتحدث، ثم ابتسمت كأنني على ميعاد أنتظره، تخطيت الغرفة وذهبت أولا إلى صندوق الكهرباء وتأكدت من فتح أزرار الإضاءة كلها، ثم رجعت إلى غرفة العزف. ها هي غرفتي المفضلة للعزف، عند مدخل الغرفة وقفت أنظر إليها في حيرة، ليت الجدران والأرض والنوافذ تحكي عن ماضيها وساكنيها، من صانها ومن أساء إليها، ليقولوا: إنهم كانوا هنا يتحدثون ويضحكون، يرقصون ويلعبون، يبكون في قوة، أو أنهم كانوا تعساء لم تحبهم الحياة، أو جبناء لم يقدروا على مواجهتها، سيكون الجماد أصدق من كل ابن آدم بلا شك، فليس له غرض ليكذب أو يزور الحقائق.
فتحت معزوفة النوم الأسود أمامي و بدأت بالعزف في تحد كأني أتمنى لو كان صوت البيانو أعلى من ذلك، كنت أضغط على أصابعه في عصبية، جاء اللحن مبتذلا لم تحبه أذني، توقفت وأخذت نفسا عميقا ثم بدأت من جديد، كان بلا شك أجمل من سابقه، خاصة أني أنظر إلى السماء عبر النافذة أمامي، لكنه ما زال لا يروقني، انتهيت من العزف ولم يحدث شيء! الاضاءة كما هي لم تغلق ، هل كان يجب أن أخاف لتحدث الأشياء الغريبة؟ أم أنها
لا تحدث إلا للخائفين فقط ؟
ما زال الوقت مبكرًا للمغادرة، أردت أن أتدرب أكثر على اية حال عزفا وغناء، وعند مقطع معين رأيت يمامة بيضاء تقف عند النافذة، تنظر لي وللغرفة، توقفت عن العزف والغناء فنظرت اليمامة من النافذة إلى الخارج كأنها ستطير، ثم بدأت العزف مرة أخرى فرأيتها تدقق النظر في الغرفة مرة أخرى! هنا علمت أنني صدد الجنون إذا ما تماديت أكثر من هذا، إنها حركات اليمام الطبيعية، فقط يظل ينظر في كل الاتجاهات، توقفت عن كل شيء.. فجأة طارت اليمامة لأعود إلى تركيزي.
أغمضت عيني وأخذت نفسًا أعمق ثم بسملت وبدأت من جديد، كان العزف هذه المرة في تمهل قصدته، استمتعت كثيرا ونسيت كل شيء، أنا أعشق الموسيقى حد التقديس، فيها ومعها أنسى كل شيء ولا يبقى من الدنيا إلا أنا وهي فقط.
بعد أن انتهيت لملمت أشيائي واستعددت للمغادرة بعد أن وصلت لمستوى أكاد أرضى عنه، نظرت للغرفة نظرة أخيرة فلم يحدث شيء، أغلقت الباب وانصرفت، كان الوقت باكرا لحضور الطلبة إلى غرف العزف، ذهبت إلى صندوق الكهرباء وأطفات كل الإضاءة مرة واحدة، ثم مشيت إلى الدرج مرورا بالغرفة و شرعت في هبوطه، وما إن هبطت بضع درجات حتى سمعت النوتة الموسيقية تعزف وحدها !
توقفت مكاني برهة قصيرة، التفت إلى الطرقة وقد بات كل الطابق مظلما الآن، بقيت أستمع في إنصات وأراجع بضع معلومات لا تحتاج إلى مراجعة، إنها نفس النوتة الموسيقية الذي أتدرب عليها!
« النوم الأسود» !! الطابق الثالث خال تماما ! جميع الآلات في الطابق الثالث فقط الجميع في الطابق الأول والثاني الحضور المحاضرات أو للرسم أو للنحت فقط ! ها قد بدأت اللعبة !
قررت أن أصعد مرة أخرى على مهل، فتحت كشاف هاتفي المحمول وكلما صعدت درجة واقتربت وضح صوت البيانو أكثر، كانت مشاعري تختلط وتموج كالبحر الهائج بين تحد وخوف أحاول التغلب عليه، أخذت أقترب أكثر وأكثر من الغرفة والصوت يتضح أكثر وأكثر، بدأت في قراءة آية« الكرسي» حتى أتحصن مما لا أعرفه، وقد علمني يونس التعود على ذكر الله، كنت أطمئن نفسي أن الله معي في كل خطوة أخطوها، وأنه خالق الأسرار وما لا أستطيع رؤيته أو معرفته كما خلقني، فهو الحافظ على أية حال ولا ينبغي أن أخاف.
الحد الصوت يزداد علوا، لم أسمع عزفا متقنا كهذا في حياتي! هذا العازف ماهر جدا، لولا أنني لا أراه لاستمتعت بحق، قبيل باب الغرفة أغمضت عيني وأخذت أعمق نفس في حياتي وفتحتها، ياللا المفاجأة.. لم يكن العزف آتيا منها! العزف ما زال مستمرا لكنه يأتي من غرفة ما قريبة جدا لكني لست أعلم ما هي.. هل أتفقدهم جميعا؟ على أية حال عدد الغرف ليس بالكثير، سوف أفعل، أم أن من يعرف يتنقل بين الغرف على سبيل اللعب معي ؟ سخف خطر ببالي.. هل سينقل نفس البيانو معه أيضا ؟! بالغبائي !
وقفت عند باب الغرفة أنظر للغرف بالخلف ناحية الدرج، وقتها حيل إلى أنني أرى طيفا أبيض ورائي عند صندوق الكهرباء، التفتت في سرعة ووجهت الإضاءة نحوه.. فلم أجد شيئا، لكن بات واضحا أن الصوت يأتي من الأمام وليس الخلف، بدأت في السير نحو صندوق الكهرباء في آخر الطرقة مرورًا بالغرف، أقف عند كل باب أفتحه فلا أجد شيئا، ويستمر العزف ويستمر إبهاري من شدة إتقانة وعذوبته كلما اقتربت من صندوق الكهرباء سمعت اللحن أوضح وأعلى، لم أعرف هل أخاف أم أستمتع بهذا اللحن الذي أتمنى أن يأتي يوما أعزف
نصف جماله !
وقفت عند صندوق الكهرباء أخيرًا، وهنا كانت المفاجأة. غرفة مخزن الهالك وضعت أذني . كان اللحن آتيا من الباب ولم أكن بحاجة لذلك، فالغرفة مصدر الصوت بلا شك، كيف يكون العزف بهذه الدقة على بيانو غير صالح للعزف في مخزن الهالك ؟ فجميع الآلآت به لا تصلح للعزف! وفي ظل وجود هذا القفل الكبير على بابه.. من دخل ومكث وعزف في الظلام!
ظللت واقفة دقيقة كاملة أستمع باقي اللحن إلى أن انتهت مقطوعتي الغريبة الرائعة وبدون تفكير طرقت الباب، رغم القفل على الباب، ما زلت أتعامل مع الأشياء على أنها لابد أن تكون منطقية، فقط لأنني لم أر حولي أشياء غير منطقية من قبل ! وضعت أذني عند الباب لعلي أسمع شيئًا آخر، لكنني لم أسمع غير صوت السكون، فجأة رن صوت هاتفي وجاء مزعجا للغاية في هذا السكون .. انتفضت وكاد قلبي أن يتوقف، إنه يونس يتصل أخيرا.

                               ***

النوم الاسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن