ملككم

19 16 24
                                    

في القصر ما بعد الظهيرة

كانت بيسان تقوم بتضميد جراح وسام بوجهها الممتقع، وشفاهها المتحجرة. لم يكن ذاك الوجه وجه بيسان البشوش واللطيف الذي يعرفه وسام، ولم يعد يحتمل رؤية ذاك الوجه الذي أصبح كالجثة ليتحدث قائلًا:
-لم أستطع سؤالكِ منذ قدمتِ فقد بدأتِ بتوبيخي، وإثرها هرعتِ لتضميد جراحي صامتة...ما بالكِ؟ ما بال وجهكِ قد شحب هكذا؟ هل أنتِ بخير؟

غمغمت بيسان بصوت مخنوق به غصة، لا يحتمل المرء سماعها:
-لا يمكنني قول شيء.

اختلج قلب وسام بعد أن سمع صوت بيسان المخنوق، فهتف:
-بيسان هل أنتِ معي؟ هل أنتِ بخير؟ لماذا لا يُمكنك قول شيء لي؟

ترقرقت أعين بيسان بالدموع للتحدث بشفاها المرتعدة بينما تُكمل لف آخر الضمادة حول كتف وسام:
-لقد قُتل لك أصدقاء كُثر، وتملك من الحزن ما هو فائض؛ فلا يُمكنني أن أُثقل عليك بمشاركتك حزني!

صاح وسام: تبًا لي! ما بالكِ؟ ألا أن حزني ضعفين إن لم أستطع التخفيف عنكِ، بل إن امتقاع لونكِ، وشحوبتكِ هذه قد أدمت قلبي، فأرجوكِ لا تُعذبيني أكثر، وبوحي لي بما أثقل صدركِ هكذا، ما بكِ؟ لا تتألمي بمفردك أرجوكِ!

تلفظت بيسان بصوت به حرقة:
-إنني أختنق!

صاح وسام جزعًا:
-لما كل ذلك؟! بوحي يا عزيزتي، قولي لماذا أنتِ بهذه الحالة المزرية؟!

همعت أعين بيسان، وقالت، وهي تنشج بالبكاء:
-لقد قُتل والدي أمام ناظري!

أمسك وسام بخد بيسان الشاحب، وقال يبتغي التخفيف عنها، وعنه فلم يعد يحتمل رؤية بيسان بهذا الحزن الدامي:
-ألا لإنه أشد الأخبار إلامًا! ولكن أرجوكِ يا بيسان لا تُعذبي نفسكِ هكذا! فل تنظري ما حل بكِ، إن جسدكِ يرتعد من رأسكِ حتى أغمص قدميكِ، وها قد همت عيناكِ بالدموع الحارقة، ألا لطفًا بنفسكِ. قولي لي، قولي يا حلوتي...إن كان والدكِ هُنا هل كان سيقبل بحالتك هذا؟ هل سيرضى بعذابك هذا؟ أجيبي...أجيبي يا جميلتي!

تمتمت بيسان بغصتها التي لم تنحل:
-لا!

أكمل وسام:
إذن لما تفعلين هذا؟ لما تقسين على جسدك هكذا؟ لا أظن بأن قلبكِ الرقيق يحتمل ما تفعلي به! فأرجوكِ توقفي! وإن كنتِ ترضين بتعذيب قلبكِ بفعلتك، فهل يهون عليكِ تمزيق قلبي هكذا؟ هل من السهل لكِ طعن قلبي بخنجر مسننًا مسموم؟ فأنتِ الآن تفعلين ذلك، هل يهون لكِ ذلك يا قمري؟!

قالت بيسان وهي تنحب بالبكاء، وقد بللت دموعها أهدابها، ومحياها:
-لا، بل هو أقسى عليّ!

قالت ذلك وقفزت إلى صدره، تُخفي رأسها في كتفه، فشدها إليه شدًا قويًا، وقال بينما يستمع لنحيبها الذي أخلج قلبه:
-لا بأس يا حلوتي، لا بأس عليكِ! دعي ألمكِ هذا، لما تتشبثين به؟! ارمي به بعيدًا عنكِ. ألا إن العين لتدمع حقًا على موت السيد رائد، ولكنك قد افرطتِ في ذلك! دعيكِ من حزنكِ توقفي عن نحيبكِ هذا؛ فلا أقوى على سماعه! صدقيني قد فاز رائد، لقد مات في سبيل إنقاذ آلاف الأرواح، وهل هُناك فعل أشهم من فعلته؟! ألا إن رائد منبعًا لشكيمة، وقاد موته البقية نحو النصر!

مملكة الجورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن