طرق بمطرقته ليتردد صداها في المكان ثم تحدث بصوته الجهور معلناً عن قراره :
-سيتم ايداع المتهمة ايلين عمر ديمير لمستشفى الامراض العقلية من أجل اعادة تأهيلها نظراً لما يتوفر من أدلة تثبت كونها لم تكن بكامل قواها العقلية عند ارتكابها للجريمتين .
ترددت كلمات القاضي الذي اصدر حكمه النهائي بين جدران عقلها لتنبثق صور عديدة مشوهة وغير واضحة الملامح امام عينيها وترددت ضربات قلبها بأضطراب لتصل حتى اذنيها ، رفعت بصرها بيأس شديد كمن حُكم عليه بالاعدام لتمرر حدقتيها الدامعتين على والدتها الباكية وزوجها التي حالته يرثى لها الى ان استقر على ادهم الذي وقف امامها مباشرة خلف القضبان قائلاً بصوت عالي طغى على الضجة التي انفجرت في المكان بعد مغادرة القاضي وهو يبتسم وخيبة الامل تلوح من عسليتيه الدامعتين ويده مثبته على القضبان بأحكام والاخرى كانت مربوطة الى عنقه كونها مكسورة :
-لا تقلقي يا ايلين سأحرص على زيارتكِ دائماً ولن أترككِ ابداً حتى تتحسني وأخرجكِ بنفسي من ذلك المكان ثقي بي يا ايلين سيكون كل شيء على ما يرام كما كان اتفقنا .
وقبل ان ينهي حديثه الحماسي محاولاً طمأنتها جرها رجال الشرطة للخارج ليلحق بهم تبعه زوجها والمحامي والطبيب برفقة والدتها المثكولة وتبعهم الشهود بالخروج تدريجياً ما ان خرجت الى الممر حتى انقض عليها سليم يعانقها باكياً ويشد عليها بكل قوته كما لو اراد دفنها داخل ضلوعه ثم ابتعد عنها قائلاً من بين دموعه :
-لنِ اترككِ يا حبيبتي سأكون دوماً الى جانبكِ حتى تتعافي تماماً وبعدها سنخرج من البلد بأكمله لنعيش حياة جديدة لا تشوبها شائبة .
ثم طبع قبلة عميقة على رأسها مستنشقاً رائحتها بعمق ليبتعد بعد ان شعر بكف تشد قميصه برقة ليجدها ليلى التي تعانقت مع ابنتها تحتضنها بعمق لتنهار الاخرى ببكاء شديد ، ابتعدت عنها بعد مدة ليتقدم ادهم نحوها معانقاً اياها بقوة بذراع واحدة مقبلاً مقدمة رأسها ثم ثبت عسليتيه الباكيتين في عينيها مبتسماً بخفة ليردد كلماته ذاتها :
-سيكون كل شيء بخير وستعود الامور لتكون على ما يرام كما كانت ايتها المتمردة .
ابتسمت من بين دموعها مومئة ايجاباً ليعانقها مجدداً واخيراً تم اخذها في سيارة الشرطة حيث اصر ادهم على مرافقتها وتبعهم الطبيب بينما عادت عائلتها برفقة المحامي .
بانت بناية المشفى بعد نصف ساعة لتلوح امام عيني سجينتها التي سرت رعشة طفيفة في جسدها وعقلها يصور لها اسوء ما قد تتعرض له داخل جدران هذه المشفى سرعان ما نزلت ليتم ابعاد الاصفاد عن يديها ثم ادارت رأسها نحو السيارة التي توقفت خلفهم مباشرة والتي ترجل منها الطبيب باريش الذي حياها بأبتسامة لطيفة ليرافقها الاثنان للداخل ما ان وصلت رائحة المعقمات الى انفها حتى سرت قشعريرة في جسدها ليقع نظرها على المرضى المنتشرين في المكان ! كانت الممرضة تتقدمهم غير مبالية وكأنها معتادة على تواجد من يصرخ بلا سبب ومن يقطع شعره ومن يضرب رأسه بالحائط ومن يصفق بكل سعادة واخر يبتسم ببلاهة مكشراً عن صف اسنانه حتى ظهور سن العقل مع اللثة ! كان منظراً منفراً لآيلين التي تخيلت نفسها تمكث هنا للأبد ! حتى خروج الرمق الاخير وانتقالها للسماء زادتها افكارها يأساً لتخمل حركتها وتبطء خطواتها ليمسك ادهم كفها شاداً عليه بقوة لتلتصق به لا ارادياً وكأنها ترجو أمانه للمرة الاخيرة ، اخذتها الممرضة نحو احدى الغرف بينما انطلق الاثنان نحو مكتب مدير المشفى دلفت للداخل لتساعدها الممرضة على تغيير ثيابها الى اخرى متمثلة بلباس المشفى الازرق الذي قبض على قلبها بقبضة من فولاذ ثم قادتها لترميها في احدى الغرف لتغادر تاركة اياها وحدها ، ترتجف كورقة خريفية في مهب الريح ، تطالع الجدران وتفاصيل الغرفة بأعين زائغة ونفس لاهث وهي تتخيل ما قد يصيبها هنا ، فمالذي تعنيه مستشفى امراض عقلية او مصح نفسي بالنسبة لها ؟ انها تعني كابوس أبدي ! فتواجدها وسط اشخاص غرباء بحد ذاته مرعب ماذا اذن عن اشخاص غير اسوياء لا يملكون عقولاً ! بالتأكيد ستغدو واحدة منهم ، اضافة الى اللامبالاة الواضحة على العاملين في المشفى ، فالممرضة لا تكترث والطبيب لا يكترث وهذا المكان ماهو الا سجن مجرد مكان يجتمع فيه من فقدوا عقولهم وتخلى عنهم ذويهم ليصبحوا فئران تجارب لأطباء مجانين ! هذه هي الحقيقة الكاملة وراء كل مصح نفسي .
سرعان ما جلست على السرير تضم ركبتيها الى صدرها تحوطهما بذراعيها تتكئ عليهما بذقنها وحدقتيها تدوران في الارجاء والدموع تتجمع اسفلهما لتنسكبان بهدوء وهي تعود لتخيلاتها المظلمة حيث تصبح نسياً منسياً في هذا المكان مجرد ذكرى قديمة كانت يوماً في حياة احدهم ، تكبر وتهرم وتفارق الدنيا من دون ان يشعر بها احد ثم تنتقل للحياة الاخرى حيث تقابل ابيها ونيفين اللذان ينتظرانها على احر من الجمر كانت الغرفة صغيرة الحجم والابيض يأخذ الحيز الاكبر من كل ما يكونها وكانت بلا نافذة وتحتوي على كاميرا مراقبة لغرض مشاهدة المريض والباب كان فولاذياً يُقفل فقط من الخارج وله نافذة زجاجية صغيرة تسع لظهور الرأس فقط ليتمكن العاملون من مشاهدة المرضى دون الاضطرار لفتح الباب مر بعض من الوقت ولا زال الصمت يحتل المكان ومنقذها بعيد عنها لا تدري له مكاناً ، هل تركها وذهب ؟ ألن يودعها للمرة الاخيرة على الاقل ؟ تملكتها الهواجس كما تملكها الحزن وهي ضائعة بين هذا وذاك حتى فُتح الباب لتحدق نحوه بلهفة حيث أطل ادهم من خلفه لتنهض متوجهة نحوه تبتسم بخفة ليقع نظرها على باريش وبقربه شاب لم تتعرف عليه كان متوسط الطول حنطاوي البشرة ذو شعر اسود كما هما عيناه ولحيته خفيفة وكان يبتسم وهو ينظر اليها ، شدها ادهم من ذراعها نحو السرير ليجلس الاثنان عليه ليبتسم لها بهدوء ثم تحدث بصوته الحنون الذي ستشتاقه كثيراً :
-ستمكثين هنا لفترة قصيرة يا ايلين لا تزيد عن السنة وايضاً لا تنقص عنها سيكون الطبيب " دوغان " طبيبكِ الخاص والمشرف على حالتكِ وهو سيبلغنا اولاً بأول عنكِ كما انني سأزوركِ هنا دائماً ولن اترككِ ابداً وسأبقى معكِ خطوة بخطوة حتى تخرجي من هنا .
بعدها تقدم لها طبيبها دوغان معرفاً عن نفسه اما هي فلم تتقبل وجوده وتوجست منه ريبة الا انها أمنت نفسها على امل الخروج من هنا وايضاً بطلها وعائلتها لن يتركونها لوحدها ابداً .
بعد مدة قصيرة خرج ادهم والطبيب باريش الذي هدأها هو الاخر بكلمات مطمئنة لتجلس امام طبيبها الشاب الذي جلس امامها على كرسي خاص جلبته الممرضة له بينما استقر ادهم خلف الباب يراقبها من خلف الزجاج وهي ثبتت نظرها عليه تنقله بتوتر بينه وبين الغريب الذي حُبست برفقته ، اعطاها ابتسامة هادئة وشرع يطرح اسئلته بلا توقف لغرض التعارف ولطمأنتها ولكنها لم تزدد الا نفوراً وقلقاً وهماً وكأن الهموم تنهال عليها من كل حدب وصوب ، لم يتوقف عن التنقل بين المواضيع وهو يشرح لها عن المشفى وعن نظام الجلسات التي ستخضع لها وبالتأكيد لم يُخفى عليها نظراته الثاقبة لمنحنيات جسدها البارزة بسخاء من اسفل رداءها وكم ضاقت ذرعاً من عينيه اللتان ترمقان ساقيها المكشوفتين برغبة ولهفة واضحة مما اثار خوفها وارتعابها اكثر وجعلها تنكمش على نفسها وهي تتكئ على السرير من خلفها تحاول مواراة نظره عن ساقيها .
ذهب بعد مدة وعادت لعزلتها من جديد حتى حل المساء وانتصف الليل ولا من جديد ، تُركت وحيدة كما لو كانت بداخل قبر ، فالغرفة مظلمة ولا من ضوء يصلها ، والدها يحوم حولها بمطرقته تلك ونيفين لا زالت تردد بعناد انها ايلين وقد ملئت دمائها الارجاء ، لا زالت جالسة متجاهلة ما حولها تغطي جسدها الذي يرتجف بخفة وهو يتقشعر كل فينة واخرى بسبب البرودة المحيطة به ولا زالت نظرات ذلك الطبيب ماثلة امام مخيلتها تجاورها نظرات ادهم الحنونة الذي برحيله تركت فجوة عظيمة بداخلها وهي تدرك انها عادت وحيدة كما كانت دوماً وفي أحلك الظروف عادت تواجه اكبر مخاوفها ولا من حضن تلوذ به ولا من سند تحتمي خلفه ، لم تكف دموعها عن التساقط في تلك الليلة ولم يزر النوم جفنيها وبقيت مستيقظة لساعات ولساعات لا تعلم عدتها ولكن الذي تعلمه ، اذا غفى لها جفن فسيحصل لها ما هو أسوء من ما تعيشه الان من كوابيس !
بينما كان دوغان يراقبها في مكتبه من خلال كاميرا المراقبة بتمعن لا يزال يذكر تفاصيلها بدقة ، وكم كان منجذباً لها ولتلك الهالة السحرية التي تحيط بها ، كانت حالها كحال الجميلات ذوات الحظ العاثر اللاتي يقعن في قبضته ، تشكل ثغره بأبتسامة جانبية وحرارته ترتفع مع كل ذكرى عنها وعن تفاصيل ذلك الجسد الخلاب الذي تمتلكه حتى قاطع تخيلاته اتصال هاتفي ما ان رفع السماعة حتى تحدث بحماس مبالغ به وهو يعتدل بجلسته :
-كيف حالكَ يا سيدي لم اتوقع اتصالكَ المباشر هذا انا محظوظ يا سيدي .
اجاب الاخر بصوته الرخيم بلا مبالاة :
-هل تسلمت البضاعة الجديدة ؟
-اجل اجل ولكن لدي لكَ خبر سيفرحكَ حتماً .
تحدث بلهفة ولكنه لم يتلقى غير الصمت من الجانب الاخر ليكمل :
-المحقق ادهم جلب مريضة عندنا لا يمكنني وصفها لشدة جمالها ومثاليتها يا سيدي .
-اذن لا تلمس منها شعرة لأنكَ اذا فعلت ستلحق ببضائعكَ الثمينة واحرص على ارسال تقرير مفصل عنها اضافة الى معلوماتها اولاً بأول فكل ما له علاقة بعدوي فهو يعنيني .
كان صوته شديد البرود ولكن نبرته الآمرة الحادة لا نقاش فيها ليضيف على حديثه بتحذير :
-تذكر عيوني واذاني تحيطكِ من كل مكان لذا لا تتغابى وتخطئ في عملكَ .
ثم اغلق الهاتف في وجهه ليبعده المعني عن اذنه ناظراً له بحاجب مرفوع ثم وضعه على المكتب بعصبية قائلاً بنرفزة وهو يعقد يديه على صدره :
-ستحين نهايتكَ يوماً ما ايها الناب .
ثم عاد لمراقبة ملاكه كما اصبح يسميها بداخله التي رمقت الكاميرا بنظرات ثابتة وكأنها تعلم بما يجري خلفها !يتبع......
" القاعدة الثامنة والعشرون "
" واجه ما تخافه وان كنتَ وحيداً فلا سند دائم لأحد في هذه الحياة "
أنت تقرأ
براءة مُدانة
Mystery / Thrillerخُلقتُ بشراً فجعلتوني شيطان وها أنتم تدفعون الثمن غالياً آيلين & أدهم الغلاف من تصميمي