Chapter-5

3.6K 81 3
                                    


صباح يوم الاحد (5/25):
(8:040a.m):

سطعت الشمس وأنارت الارجاء بنورها ، تحوم حولها الغيوم وتطير أسفلها الطيور في تناسق بديع ، يهب الهواء برقة مداعباً كل ما مر من خلاله من أغصان وأزهار  وحشائش قصيرة ، كانت اسطنبول قد استيقظت مع بدأ العصافير لزقزقتها وخرج الناس لأداء أعمالهم المختلفة وضجت الاسواق بالحركة الدؤوبة وامتلئت الشوارع بضوضاء السيارات وازعاجاتها وامتلئ المارة على آخرهم على الارصفة وهم يتوجهون الى مشاغلهم وخرج الأطفال الى الاحياء يلعبون كما هي العادة وانشغلت النساء بعضهن بالتسوق وبعضهن بالتنظيف والبعض الاخر بالطهو كانت صورة مثالية لمدينة تنعم بالنشاط والرفاهية لأبعد الحدود .
في احد شوارع اسطنبول الواسعة وتحديداً في مبنى ابيض اللون كبير وواسع يتوافد اليه الناس ذهاباً واياباً وفِي داخل زواياه يتحرك اصحاب المعاطف البيضاء بخفة ونشاط بين غرف مرضاهم للاطمئنان على صحتهم وانطلقت العاملات لتنظيف الأرضيات وانشغلن الممرضات بمساعدة الأطباء وبتفحص حالات المرضى وبأستقبال الوافدين الى مبنى المستشفى ، الكل كان يعمل بنشاط فبدى المبنى كخلية للنحل ، وفِي غرفة منزوية في الطابق الاول حملت على بابها الابيض رقم ستة وثلاثون قبعت داخلها تلك الفاتنة الاربعينية التي استوت جالسة على سريرها تسهم بنظرها الى خارج النافذة حيث تشبع جفنيها المتورمين بالأحمرار وامتلئ أسفلهما بالهالات السوداء .
وجهها أغرقته الدموع وشعرها كان منفوشاً مرمياً على كتفيها بأهمال ولكنها أبدلت ملابس المستشفى بملابس منزلية مريحة جلبتها لها الممرضة ،كان عقلها مشغولاً بصغيرتها القابعة خلف قضبان السجن والتي لم تعرف عنها اي خبر لحد الان فلا سليم ولا ذاك المحامي اتصلا بها وطمئنا قلبها الملتاع على فلذة كبدها ، كل ما فعلته الشرطة هو اخذ أفادتها اليوم صباحاً كأجراءات روتينية وبعدها غرقت في عزلتها واصبحت هي في وادي والعالم في واد آخر ، طرقات على الباب أخرجتها من شرودها لتلتفت ناحيته حيث طلت من خلفه جارتها فهيمة برفقة بعض النسوة من حيها ليتحمدن لها السلامة وبالطبع ليرضين فضولهن لمعرفة ما حدث بالضبط وبالطبع جابهت ليلى أسئلتهن الغزيرة بالتجاهل وفضلت التكتم على الامر ثم رمقتهن بنظرات دلت على انزعاجها الشديد من هذه التدخلات وحالما فهمن ما ترمي اليه نظراتها غادرن بعد ربع ساعة فقط وهن يرمينها بنظرات ازدراء ولم يبق جوارها سوى فهيمة صديقتها الوفية والتي نظرت اليها بشفقة وحزن فقامت وجلست بجوارها على السرير وهي تحتضن كفيها القابعين في حضنها وراحت تواسيها وتطمئنها ان كل شيء سيكون على ما يرام وبعد بضعة دقائق خرجت فهيمة وبقيت ليلى لعدة دقائق اخرى وهي وحيدة مجدداً وهي تردد بينها وبين نفسها " سامحك الله يا عمر على ما وضعتنا فيه " مرت لحظات اخرى ليُفتح الباب وتظهر فهيمة من جديد وهي تدلف الى الداخل وقد امتلئت قسمات وجهها بالغبطة ثم تحدثت بسرور وهي تعدل شالها وهندامها لتقف امام ليلى مباشرة :
-هيا يا عزيزتي لتوقعي على اوراق خروجك سوف تكونين من اليوم ضيفتي ولن اقبل اي اعتراض .
ثم ساعدت ليلى على ابعاد الغطاء عنها لتنهض وهي ترتب ملابسها فناولتها فهيمة كيس ابيض لتأخذه الاخرى منها بينما هي فقد قالت بجدية :
-أرتدي هذه انها ملابس جديدة من السوق اشتريتها لكِ في طريقي ، سأكون في انتظارك في الخارج .
اومأت لها إيجاباً ولم تعلق كأن طاقتها قد نفذت تماماً ثم خرجت فهيمة مرة اخرى لتبدأ ليلى بتغيير ثيابها ووضع القديمة في الكيس ثم خرجت من الغرفة متجهة برفقة فهيمة الى مكتب الاستقبال حيث وقعت على ما يلزم من اوراق خروجها ثم اخيراً حثت خطاها لتخرج من المشفى بشكل نهائي ، تمشت الاثنتان في شوارع اسطنبول المزدحمة والمفعمة بالحياة حتى وصلتا الى الشارع الرئيسي لتطلبا سيارة اجرة انطلاقاً الى منزل فهيمة .
**********
في مخفر الشرطة :(9:00am):
كانت آيلين جالسة تحت ذلك الضوء الأصفر الكئيب فوق كرسي جلدي مقيدة اليدين وهي ترتدي ثيابها نفسها المكونة من التيشيرت الابيض والبنطلون الاسود مما سبب لها ضيقاً شعرها كان غير مرتب ومملوء بالعرق فليلة البارحة لم يغمض لها جفن وبقيت تفكر وتفكر بأستمرار حتى كاد رأسها ينفجر الى اشلاء وكان الخوف ينهش قلبها كذئب مفترس فغرق جسدها بالعرق كما غرق عقلها ببحر من الأفكار السوداء ولم تنم الا بعد حلول الفجر حيث تمكن منها النوم واقتنصها من صحوتها على حين غفلة وها هي الان تجلس بعيون حمراء ووجه ذابل تحدق بصمت الى المحقق يلماز والذي اصبح لها عدواً قبل ان يكون منقذها ! فمنذ ان تم جلبها الى غرفة التحقيق في الثامنة والربع لحد الان وهو يستمر بطرح الاسئلة ذاتها ولكن بصيغ مختلفة وكأنه يريد ان يثبت انها مدانة رغماً عن انفها ! كانت تحدق بين فينة واُخرى الى الكاميرا الموضوعة في الطرف الايسر من الغرفة في زاوية الحائط من الأعلى حيث كانت صغيرة الحجم سوداء اللون لا يميزها سوى لمعة زجاج عدستها ، المحامي قد تأخر ولم يظهر لحد الان مثله مثل سليم ووالدتها وَكَأنْ العالم اجمع قد قرر نسيانها ، اخرجها من حزنها العميق ضربة قوية على الطاولة المعدنية امامها لترفع ناظريها الى يلماز الذي كان يستشاط غضباً بلا سبب فكان الشرر يتطاير من زرقاوتيه وصدرهُ يعلو ويهبط بعنف بالطبع التزمت الصمت ولم تتحرك ذرة واحدة فيها حتى الخوف الذي اخذ ينهش قلبها الصغير البارحة لا اثر له اليوم وكأنه قد تبخر اقترب منها متكئاً على الطاولة ليهسهس بغضب :
-برودكِ هذا لن يجدي معي نفعاً وصمتكِ لن  ينقذكِ من العدالة ستعترفين بجرمكِ عاجلاً ام آجلاً .
راقبته بهدوء وهي تزفر انفاسها بخفة اما هو فرجع الى الخلف ليتكئ بظهره على كرسيه الجلدي شابكاً يديه فوق الطاولة قائلاً بجدية وبصوت عالي تردد صداه في أنحاء الغرفة الصغيرة :
-اذن كل ما لدينا هنا هو القتيل 'بشير تشيسكين ' والذي كان والدكِ مديوناً له فأخذ يلاحقكما كالمجنون ليسترد امواله ثم حاول اغتصاب والدتكِ وانتِ كنتِ في المدرسة وبلمح البصر تواجدتِ في ذلك الموقف لتصبحي البطلة المغوارة التي تنقذ والدتها من محاولة اغتصاب تحولت الى جريمة قتل غير متعمدة !
أنهى حديثه بسخرية واضحة ثم اعتدل بجلسته وعاد الى جديته ليتكلم :
-لما لا تقولين بأن والدتكِ من استدرجت الضحية بحجة اعادة امواله وتقومين أنْتِ بعملية القتل وهكذا تكونا قد تخلصتما منه ومن مطارداته لكما !
ثم اكمل بأنفعال اكبر :
-لما لا تكونا أنتما الرأس المدبر لهذه الجريمة ولربما لوالدكِ يد في هذا الامر فقد يكون مسجوناً ولكنه خرج بفكرة عظيمة للتخلص من دائنيه وهو ان تقوم زوجته الحبيبة بأستدراج الضحية وتتولى الابنة البريئة عملية القتل ثم تتصل على الشرطة لتلفق للضحية تهمة الاغتصاب !
كانت تستمع بصمت وهي تضغط بأظافرها الطويلة نسبياً على جلدها مسببة له خدوش حديثة بدأت بلسعها وامتلئت رؤوس أصابعها بالدماء حاولت الضغط على نفسها لكي لا تنفجر في وجهه كما فعلت بالامس وبعد لحظات كان هو يسرد بها استنتاجاته التي جمح بها بعيداً في خياله بصوت واثق وهو يحرك يديه في الهواء دليلاً على جديته فقاطعه صدوح صوت احد المحققين المتواجدين خلف الزجاج من سماعة الميكروفون والذين كانوا يراقبون مجرى التحقيق الذي اتخذ طريقاً اخر بدى مبتذلاً جداً لهم :
-هذا يكفي يا حضرة المحقق يلماز سنتولى نحن بقية التحقيق .
صمت لعدة دقائق ويديه معلقتان في الهواء حالهما كحال فكه ثم أغلق فاهه وانزل يديه ليُفتح الباب ويظهر من خلفه محقق اخر طويل القامة اسود الشعر مع بعض خصل الشيب ، انفه معقوف بكبرياء وله نظرات حادة عينيه كذلك اصطبغتا بالاسود مما زاد من نظرتهما حدة فنهض يلماز محيياً اياه بحبور ليجلس المحقق على الكرسي الجلدي امام آيلين الشاردة في عالمها الخاص وطلب من يلماز الخروج والذي اندهش لطلبه فأقترب منه مبتسماً بتوتر وخرج صوته متقطعاً :
-ولكن يا حضرة المحقق " يغيت " قد تحتاج الى مساعدتي فَأنْا ملم بكل تفاصيل هذه القضية وبال...
رفع يده مقاطعاً اياه فتوقف عن الكلام ليلتفت له بهدوء يحدجه بنظراته الواثقة قائلاً بصوته الرخيم :
-شكراً لكل جهودكِ يا حضرة المحقق ولكن الى هنا ويكفي لا نحتاج اليكِ في هذه القضية .
صمت مجدداً وقد تفاجأ لما سمعه ! هل تم سحب القضية منه ؟ ولما ؟ خرج بهدوء وعقله مملوء بالأسئلة وبداخله بدأ الغضب يتفاقم فوقف قرب الباب ولا يزال يمسك بمقبضه بيده اليمنى وكان ساهم النظر الى الأسفل غارق في شروده حتى اخرجه مما هو فيه صوت صديقه ' شاتاي ' الذي ماثله عمراً فالتفت ناحيته حيث استقبله الاخر وقد ظهرت في خضراوتيه نظرة تساؤل فحياه يلماز ليقف امامه مباشرة فبادر صاحبه وهو يهز رأسه تساؤلاً ليجيبه الاخر وقد غرق بشروده مجدداً :
-لقد تم اخذ القضية مني وإعطاءها لمحقق اخر !
ضرب الاخر كفيه بتعجب قائلاً :
-هالله هالله ! لماذا يا صاح مالذي حدث ؟
هز الاخر رأسه دليلاً على جهله ثم رفع زرقاوتيه ليصنع تواصلاً بصرياً مع صاحبه ذو الاعين الخضراء ليتكلم بعد ان بدأ يستوعب الموقف الذي هو فيه :
-لقد حدث ذلك فقط يا اخي من دون سبب ! تم إخراجي وانا في وسط التحقيق حتى انهم لم يعطوني ولو قدراً بسيطاً من الاحترام حتى امام تلك المدانة .
أنهى كلامه بغضب حيث علا صوته فالتفت له بضعة رجال شرطة كانوا في الجوار ما ان انتبه صاحبه لذلك حتى جره من ذراعه متأبطاً اياها ليتحدث له بمواساة :
-تمام لم يحدث شيء هيا هون عليك .
اما في داخل غرفة التحقيق وتحديداً في تلك اللحظات القصيرة التي مرت كان المحقق يغيت يحدق بنظراته المتفحصة الى الطفلة القابعة امامه والتي اخذت تحدق اليه بهدوء فعرف لها عن نفسه بصوته الرخيم وبنبرة حنونة كأنه يخاطب احدى بناته فهو بالفعل اب لخمسة فتيات وقد اصبح جد مؤخراً لأبناء اثنين منهن :
-انا المحقق يغيت اتاغول والمسؤول عن قضيتكِ من الان فصاعداً والمحقق يلماز لم يكن سوى محقق مؤقت اي لا علاقة له بالقضية هذه بتاتاً .
اومأت له إيجاباً ليكمل حديثه وقد رسم ابتسامة خفيفة على شفتيه :
-انا على صلة مع محاميكِ الخاص السيد احمد فهو جداً معروف بحكم عمله ، لقد تمكن على مدار سنوات حياته من حل قضايا لجرائم معقدة وتمكن من تبرئة أصحابها فهو فيما يتعلق بالدفاع عن المظلوم يكون اشد براعة وأكثر عدلاً من القاضي نفسه !
اومأت له مجدداً ليزفر انفاسه براحة فالفتاة تتجاوب معه جيداً اكمل حديثه بعد ذلك وقد حافظ على نبرته الودودة :
-لقد أرسل لي المحامي احمد عن طريق البريد الالكتروني ملف قضيتكِ وكل معلوماتكِ بشكل مفصل كما أرسل لي أيضاً معلومات حول بشير تشيسكين وقد تبين انه فعلاً من معارف والدكِ وهو رجل مطلق وأب لستة من الأطفال ويسكن في حي فقير لوحده اما عائلته فللأسف لا تتوفر عنهم اي معلومات .
صمت لبرهة يلتقط انفاسه ثم لعق شفته السفلى بلسانه مكملاً حديثه وهو يشابك أصابع يديه فوق الطاولة :
-لحد الان لم يصلنا خبر مؤكد عن موت بشير كل ما قاله الطبيب  حسب نتيجة الفحص فأن الرصاصة قد اخترقت عظمة الترقوة واستقرت قريبة من العمود الفقري تحديداً الفقرات العنقية لذا هو يرقد الان على فراش المستشفى مع احتمالية وقوعه في غيبوبة لذا ان حدث ذلك حقاً فسيتم تثبيت تهمة القتل عَلَيْكِ بالسجن وستمثلين امام المحكمة ولكن قد يتم تخفيف العقوبة قليلاً بحكم كون الجريمة غير مقصودة ولأنكِ لا تعتبرين قاصر فستسجنين بسجن النساء !
كان قلبها يخفق تدريجياً مع كل كلمة قالها حتى شعرت بالالم يجتاح صدرها في كلماته الاخيرة لتتهاوى دموعها فوق خديها وليخرج لسانها من قيد صمته اخيراً قائلة بحسرة :
-ولكنني ابلغ سبعة عشر سنة فقط ولم ابلغ بعد السن القانونية !
اطلق سراح انفاسه معلقاً على كلامها :
-ولكنك مسجلة من مواليد ألفين واثنين لذلك يتم احتسابكِ على انكِ بعمر الثمانية عشر .
تشنجت ملامحها في بكاء مرير ليخرج صوتها متقطعاً بحسرة :
-اقسم انني فقط كنتُ أدافع عن والدتي ،لم ارغب في قتل احد كل ما رغبت به هو العيش بسلام .
ثم رفعت وجهها ناحيته محاولة السيطرة على بكاءها :
-هل سأكون برفقة ابي ؟
حدق اليها للحظات ثم تنهد ليعلق على حديثها :
-يا صغيرتي ستسجنين في سجن النساء اي ستكونين حبيسة وسط النساء وليس برفقة والدكِ في سجن الرجال .
حدقت اليه وقد استوعبت حديثه فانسكبت اخر دموعها وأخذت تمسح وجهها محدثة اياه بأنفعال :
-وكم ستكون مدة سجني ؟
سحب نفساً قصيراً مجيباً على كلامها :
-بالأكثر اثنتا عشرة سنة ولكن ان تم تخفيف العقوبة وبحكم كونها جريمة قتل غير متعمد فستكون محكوميتكِ سبع سنوات فقط !
حدقت اليه وهي لا تفقه شيئاً من حديثه لتقول بعد لحظات من التحديق المتواصل الى عينيه :
-اليست مدة جيدة ؟
كان مدهوشاً من جوابها لا عجب انها طفلة  لا تعلم ما الذي تعنيه كلمة سجن ! اطلق ضحكات ساخرة لم يستطع كبحها لتحدق اليه بفاه مفغور أغلقته بصمت مبتلعة ريقها فاتكئ هو مجدداً على الطاولة امامها قائلاً ببعض الجدية :
-سيتم عرضك للمحكمة في الغد لذا نامي جيداً ولا تخافي سنعمل بأذن الله على إثبات برائتكِ فالحق سيظهر ولو بعد حين  .
فسئلته بتوتر :
-ولكن لما ؟
فعرف الى ما ترمي بسؤالها فتنهد مجدداً قائلاً ولا زالت الجدية تعتلي قسمات وجهه الصارمة :
-هكذا هي الإجراءات القانونية يا صغيرة عندما يرتكب احدهم جريمة سواء بذنب او بدون ذنب فتتم إحالته الى المحكمة ..
فقاطعته وقد علا صوتها بتوتر :
-ولكن لما ؟ انتم حتى لم تبحثوا بقضيتي من المفترض انني بريئة لماذا ستتم محاكمتي كالمذنبين !
حينها ازفر انفاسه بهدوء مجيباً اياها :
-لم تتم إثبات برائتكِ لحد الان كما ان الرجل قابع في المستشفى وهو في غيبوبة وليس هناك ما سنحقق بعد بشأنه فالقضية واضحة كوضوح الشمس ولم يتبق سوى ان تخضعِ لمحاكمة حالكِ كحال غيركِ من المحكومين سواء كنتِ مذنبة ام لم تكوني .
-ولكن ...لكن ..!
حينها صمتت ولم تجد الكلمات طريقها الى لسانها اما هو فتحدث مواسياً اياها :
-سنقف الى جانبكِ لا تقلقي فالمحامي احمد سيستطيع إثبات برائتكِ .
كانت كلماته بسيطة ولم يجد غيرها وبعدها استئذن ونهض   وتزامناً مع خروجه جاء الشرطي المسؤول عن زنزانتها وجرها خلفه وكالعادة لا تستطيع مجاراة خطواته وبلمح البصر كانت قد وصلت الى زنزانتها فدلفت اليها وجلست على الارض لتجد بعض الطعام موضوع وما ان رأته حتى شعرت بنفسها تكاد على الهلاك من الجوع فأنقضت على الصينية تأكل بشراهة بينما تراقبها اعين الشرطي المسؤول عن توقيفها بشفقة .
*************
(8:09pm):
حي سيفيل :
في منزل ابيض بسيط التصميم محاط بسياج صغير تتوسطه حديقة صغيرة عُلقت على جدرانه فوانيس ذهبية مضاءة بألوان زاهية احتفالاً بقدوم شهر رمضان المبارك وفِي داخله  كانت ليلى جالسة في غرفة الاستقبال ذات التصميم البسيط حالها كحال غرف المنزل استقرت امامها طاولة خشبية صغيرة وُضعت فوقها صينية تحتوي على تمر والقليل من اللبن كانت مشغولة البال والدموع لا تفارق وجنتيها وَكَأنْ عينيها أعلنتا الحداد للأبد حتى انها لم تنتبه الى سليم الذي جلس بجوارها واخذ يربت على كتفها ليخرجها من شرودها حيث التفتت اليه بوهن ليمسح دموعها وهو يتحدث بصوته المبحوح مواسياً اياها :
-لا تبكي يا امي كل شيء سيكون على ما يرام .
اخذت تحدق الى عينيه المحمرتين اثر بكاءه لتشعر بالشفقة نحوه متناسية حزنها قليلاً فهي بخبرتها كأمرأة تعلم جيداً جداً ان سليم يكن مشاعر الحب لصغيرتها وينتظر الوقت المناسب ليتقدم لخطبتها ولكنها لم تخبر آيلين بهذا السر بل كانت تخطط لأمد بعيد حيث ما ان تدخل ابنتها الى الكلية حتى تزوجها اليه ثم تدعه يخبرها بنفسه عن حبه لها ، قاطع تواصلهم البصري الذي لم يدم سوى لثواني معدودة دخول فهيمة وهي تحمل صينية تحتوي القليل من الفاكهة مع عصير البرتقال المعمول منزلياً وهي تتكلم بمرح :
-هيا تعاليا وشاركاني .
ثم وضعت الصينية على الارض لتجلس متربعة القدمين  قربها ثم أردفت مخاطبة ليلى :
-سيبرد لكِ قلبكِ يا عزيزتي وستشعرين بالتحسن هيا .
استجابا لها وجلسا على الارض يشاركانها الطعام ليقاطع لحظاتهم السعيدة التي لم تدم سوى لثواني حيث وصلهم صوت فتح الباب الخارجي لتنهض فهيمة فعلى ما يبدوا ان زوجها قد عاد ، حيته بعد ان وقع ناظريها عليه ثم رحبت بضيفه ودعته للدخول ، فدلفت الى الداخل برفقة يحيى بينما جلس كلا من ليلى وسليم متجاورين على أريكة واحدة بعد ان رحبا بالضيف الذي حل عليهم بلا خبر مسبق منه والذي لم يكن سوى المحامي احمد ، فجلس مقابلاً لهما يجاوره يحيى بينما فهيمة فقد اعادت الصينية الى المطبخ وعملت بعض القهوة للجميع وجلست على الكنبة المجاورة للنافذة ، كانت ليلى متلهفة لسماع ما وصلت اليه قضية ابنتها الا ان الوجوم الذي يعلو وجه احمد جعل فرحتها تخبو وحل الضيق قلبها ، سرد لهم الوضع بأختصار ليسود الصمت عليهم بعد ذلك ولم يقاطعه سوى صوت بكاءها الهادئ ليتحدث سليم بعد ذلك وقد طغى اليأس على صوته :
-وما الحل الان ؟
زفر المعني انفاسه مجيباً على تساؤله وقد فقد الامل هو الاخر :
-ستتم محاكمة آيلين في الغد ولن يتم تأجيل المحاكمة تحت اي ظرف كان ! حتى لو حاولت الدفاع عنها فليس لدي وسيلة لدفع العقوبة سوى تخفيفها .
حينها انتفضت ليلى هاتفة بغضب وقد نهضت من مكانها :
-وما الذي يعنيه هذا الان ! ألستَ محامي ؟ اذن دافع عن ابنتي وأثبت برائتها فهي لم تقتل أحداً .
نهض سليم هو الاخر محاولاً تهدئتها لتصرخ باستمرار مجدداً :
-ذلك الحقير لم يمت وابنتي لم تقتل أحداً ستدافع عنها غداً وتثبت برائتها وستعيدها لي سالمة غانمة فهذا هو عملك .
رفع رأسه يحدق اليها بيأس قائلاً :
-لا يوجد ما استطيع فعله يا مدام ليلى افهميني فَأنْا مجرد محامي ولست القاضي لأصدر احكامي كما اريد .
زادت حدة بكاءها فنهضت فهيمة وامسكتها من يدها وهي تقودها الى غرفتها لتدلف اليها وتغلق الباب عليهما اما سليم فلقد رمى بجسده فوق الأريكة وهو يحدق امامه بشرود ليعاود احمد الحديث قائلاً :
-لا يمكنني فعل شيء انا حقاً آسف لو كانت هناك اي طريقة لأخراج آيلين والعفو عنها لما ترددت أبداً بفعلها ولكن لا يوجد !
ربت يحيى على كتفه قائلاً بحزن :
-لا بأس يا اخي أنتَ فعلتَ ما بوسعكَ والباقي سندعه لله عز وجل .
رد عليه وهو يحدق الى يديه المتشابكتين في حضنه :
-والنعم بالله .
ثم نهض بعدها لينهض معه صاحبه فربت احمد على كتف الاخر قائلاً :
-علي الذهاب الان فيجب ان اتجهز لمرافعة الغد .
أومأ له الاخر تفهماً معلقاً على كلامه :
-رافقتكَ السلامة .
ثم ذهب الاثنان ناحية باب الخروج ليودع يحيى صديقه ويغلق الباب بعدها توجه بخطوات بطيئة ليقف على عتبة باب غرفة الاستقبال محدقاً الى ابنه سليم الذي يغطي وجهه وتصدر عنه شهقات مكتومة فزفر الأب انفاسه بحزن وتوجه ناحية ابنه ليجاوره بالجلوس مربتاً على ظهره ليخفف عنه ثم خاطبه بحنانه الأبوي :
-لا تقلق يا بني ان شاء الله ستهون .
أزاح يديه قليلاً مظهراً عينيه العسليتين المخلوطتين بالأخضر الداكن وكانتا غارقتين بالدموع بينما استقرت يديه فوق انفه وفمه ليسحب انفاسه بثقل وهو يحدق امامه ليجيب بصوت متهدج ملئه الحزن :
-ولكنها لن تتحمل السجن يا والدي انا اعرفها كما اعرف نفسي وهي لن تتحمل !
ثم انخرط في نوبة من البكاء قائلاً :
-هي جداً رقيقة يا والدي جداً ، لن تستطيع تحمل ظلمة السجن ولا تستطيع التأقلم مع ناسه المتوحشين ! وماذا عن سمعتها ؟ الناس سيأكلون وجهها بالحديث السيء فليس سهل على صبية مثلها كل هذا .
اخذ والده يربت على ظهره محاولاً التخفيف عنه بينما غطى الاخر وجهه وعاود البكاء من جديد .
***************
وفي وسط مدينة اسطنبول تحديداً في ملهى ليلي سطعت منه الاضواء ذات الالوان المتنوعة  وصدح صوت الموسيقى العالية في الارجاء وتمايلت اجساد الذكور والإناث على وقعها وتحديداً بالقرب من الساقي جلس على كرسي طاولة المشروبات يلماز الذي كان ثملاً وجهه محمر بالكامل وتفوح منه رائحة الويسكي الذي كان يتجرعه بتلذذ وهو يعاود السب والشتم والتحدث بما مر به سابقاً يجاوره صاحبه شاتاي الذي كان يستمع بصمت وهو يتناول كأس من البيرة من الساقي ليتجرعه على مهل فهو قد اعتاد على هذا الوضع فمنذ ان كانا معاً بكلية الشرطة وصاحبه يرتكب الاخطاء ثم يلجأ الى السكر ويلوم غيره ، والعجيب ان هذان الاثنان متناقضين الى حد ما فبينما يلماز شاب متهور متحمس على الدوام كشعلة من النار مما يسقطه في مواقف واخطاء لا تغتفر فشاتاي شاب متعقل يأخذ الأمور بتروي وجدية مما يجعله افضل من صاحبه في حل القضايا وطبعاً لأنهما قد تعينا منذ ثلاث سنوات فقط فلا تسند اليهما سوى القضايا العادية كالسرقة وغيرها ، خلال لحظات فقط غفا يلماز على الطاولة ليتنهد صاحبه بأسى ثم دفع الحساب للساقي وشرع بحمل صاحبه النائم الذي ازداد وزنه مؤخراً فبات ثقيلاً عليه  ، وأخيراً بعد عناء أوصله الى سيارته السوداء من الطراز الحديث ثم رماه في المقعد الخلفي ليجلس في مقعد السائق ويقود وصولاً الى شقتهما المشتركة ،عانى في حمله مجدداً بعد ان فشل بإيقاظه ليرميه على سريره ويخلع له حذائه وبعدها انطلق نحو الخزانة لأخذ بعض الثياب وتوجه ناحية الحمام ليستحم .
************
صباح يوم الاثنين (5/26):
(9:00am):
في قاعة المحكمة :
وقفت آيلين مقيدة اليدين خلف القضبان يقف بقربها شرطيان على جانبيها الأيمن والأيسر ولا زالت ترتدي تلك الملابس ذاتها كانتا عينيها مسمرتين على والدتها التي هي بدورها كانت تطالعها بأعين غزيرة الدمع وكانت محمرة الوجه لا ينفك لسانها عن الدعاء لأبنتها بالفرج ولو من خلال معجزة يجاورها سليم الذي كان هو الاخر ينظر اليها بعيون دامعة محمرة بخفة  وقد رسم ابتسامة مزيفة على شفتيه تبين ان كل شيء سيكون على ما يرام وان لم يكن كذلك فعلاً ! بجواره فهيمة والدته والتي ضجت هي الاخرى بالبكاء ولم تستطع منع شهقاتها من الخروج للعلن وأخيراً يجلس بجوارها زوجها يحيى الذي كان يراقب مجريات المحكمة وبقية الحضور كانوا من الحي والشاهدين على الحادثة وكذلك كلا من المحقق يغيت ويلماز وكان المحامي واقف في الامام وهو يحمل اوراقه بيديه وخيبة الامل تلوح من عينيه حتى انه لم يلقي ولا نظرة واحدة  على آيلين وكأنه يخشى مواجهتها ، جبهته مملوءة بحبات العرق التي كان يمحي اثرها بمنديله الابيض الذي كان يقبض عليه بين أنامله الثخينة ولكن ما تلبث ان تظهر على سطح جلده مجدداً ليمسحها وهكذا وكأنه لا يستطيع السيطرة على التوتر الذي يجتاحه حيث ذكره هذا الوضع بحاله قبل اكثر من خمسة وثلاثون سنة في اول محاكمة خاضها ودافع فيها عن المتهم وأنقذ برائته ولكنه اليوم لن يفعل ذلك فجميع الأدلة والظروف ضد آيلين جل ما يتمكن من فعله هو محاولة تخفيف العقوبة قدر الإمكان عن الفتاة ، كان القاضي يجلس على كرسيه يجاوره قاضيان آخران وأمامه استقرت امرأة مشرفة على الحاسبة لتدوين قرار المحكمة ، ضرب القاضي بمطرقته قائلاً بصوت جهوري :
-القضية ٢٤٥-المتهمة " آيلين عمر ديمير " لتبدأ المحكمة .
ثم ختم كلامه بالطرق مجدداً بعدها وضع مطرقته جانباً فاتحاً الملف الذي ناوله له رجل يقف بالقرب منه وهو يقرأه بصوت عالي وهو يضع نظارته المعلقة برقبته :
-آيلين عمر ديمير ، ثمانية عشر سنة ، متهمة بجريمة قتل غير متعمدة .
أغلق الملف ثم توجه ببصره الى آيلين التي ترمقه بهدوء فتوجه بالحديث اليها قائلاً :
-اذن انسة آيلين ما هو ردكِ للدفاع عن نفسكِ وماذا كان دافع الجريمة ؟
بقيت صامتة لعدة دقائق لتتحدث بصوت متعب ضغطت على نفسها لأخراجه :
-انا لم اقصد فعلها لقد حاولت الدفاع عن والدتي فقط والحمد لله لم افشل .
حينها تحدث معلقاً على كلامها :
-اذن أنْتِ تقرين بجريمتكِ !
تحدثت بصوت اعلى :
-ليست جريمة بل كان حماية لوالدتي .
قاطعهم نهوض والدتها الباكية وهي تصرخ بصوت عالي ممزوج ببكاءها :
-ابنتي بريئة يا حضرة القاضي لم تقصد قتله لقد ارادت حمايتي فقط هي حتى لم تؤذ نملة منذ ولادتها لحد الان ! ابنتي طيبة القلب يا حضرة القاضي ولم تقصد فعلها ، هي ليست مدانة ولا قاتلة .
حينها اخذ القاضي يطرق بمطرقته صائحاً :
-هدوء في المحكمة ، هدوء في المحكمة .
اجلسها سليم رغماً عنها محاولاً تهدئتها بينما لا يزال صوت نواحها مسموعاً وتعالت الهمهمات حولها مما جعل القاضي يصرخ مجدداً وهو يطرق بمطرقته طالباً الهدوء في المحكمة بعد ان هدأت الاجواء تحدث المحامي قائلاً :
-سيدي اسمح لي بتقديم ما عندي .
أومأ له إيجاباً ليتحدث ببراعته كمحامي :
-سيدي القاضي هناك شهود عيان كُثر من الحي رأو بشير تشيسكين وهو يحوم حول منزل المتهمة ولقد تسبب لها ولوالدتها بمضايقات عديدة حتى تم تهديده من قِبل رجال المنطقة لتختفي تلك الإزعاجات من طرفه .
اخذ نفساً قصيراً ليلعق شفته السفلى مكملاً حديثه :
-لقد قابلت بنفسي عمر ديمير والد المتهمة هذا الصباح عند السابعة والنصف وقد اخبرني عن علاقته ببشير وتفاصيل عديدة اخرى تخص حياته الشخصية ولقد كان لدي وقت قصير لأتأكد من صحة حديثه كما ان الضحية السيد بشير لم يتم تأكيد خبر موته لحد الان .
عقد القاضي حاجبيه بعدم فهم فتحرك احمد من مكانه ليقف امامه ويناوله ملف ما ان اخذه القاضي منه حتى عاد ادراجه ، فتح الاخر الملف ليقرأ ما بداخله وتكلم احمد في الوقت ذاته قائلاً :
-إصابته لم تودي بحياته بل فقط أدت الى غيبوبة قد تكون مؤقتة اي سيصحو بعد يوم او شهر ولا اظن المدة قد تتجاوز اكثر من ذلك .
حينها تكلمت امرأة قائلة من بين الحضور :
-انا اعترض !
وجه القاضي نظره نحوها قائلاً بتساؤل وعقدة حاجبيه لم تنفك :
-ومن تكونين حضرتكِ ؟
فنهضت المعنية وكانت امرأة ثلاثينية ترتدي بدلة رسمية شقراء الشعر زرقاء العينين فتكلمت بثقة عالية معرفة عن نفسها :
-انا محامية للضحية بشير تشيسكين وتم تعييني من طرف عائلته وانا اعترض على كلام المحامي .
تكلم القاضي مزيحاً نظارته عن عينيه :
-تفضلي يمكنك الدفاع عن موكلكِ .
حينها خرجت من مكانها لتقف على الطرف الاخر مقابلاً للقاضي وفِي يدها كومة اوراق فشرعت تتحدث بالثقة ذاتها :
-موكلي قام بأعطاء صاحبه المدعو عمر ديمير حوالي مئة وخمسة وسبعون الف ليرة ولاحقاً طلب المعني منه مبلغ اخر وكان حوالي مليونين ونصف وعندما حاول موكلي استعادة امواله هرب المديون منه وولى على أعقابه .
أومأ تفهماً وقبل ان تتحدث وصلهم صوت آيلين التي تكلمت بثقة لأول مرة وبصوت عالي جعل الانظار تتوجه نحوها :
-نعم عمر ديمير والذي هو والدي قد استدان هذا المبلغ وكنا وقتها في ازمير وكان جدي يخضع لعملية جراحية ولكنها فشلت وتوفى واستطاع والدي إيفاء نصف الدين قبل انتقالنا لأسطنبول في الفترة ذاتها التي انتقل بها ما تطلقون انتم عليه بالضحية بشير تشيسكين كنتُ وقتها طفلة ولكنني اتذكر تلك المقابلة التي حصلت في غرفة استقبال منزلنا حيث كان يوماً ممطراً وكان المطر يخر من السقف وكنا نضع دلواً برتقالي اللون .
صمت مهيب انتشر في الارجاء وكان الكل يحدق اليها وهي ترمق المحامية بنظرات شرسة وكانت والدتها تحدق اليها في دهشة فهي لا تتذكر هذا أبداً بل متى وكيف حصل ؟ حينها تقدمت المحامية لتقف امامها تطالعها بنظرات متفحصة سائلة اياها وهي ترفع حاجبها الأيمن :
-هل يوجد دليل على كلامكِ ؟
رفعت ذقنها بثقة تعجب لها القاضي نفسه :
-لدي بالتأكيد !
حدقت بها متعجبة فهي لم تتوقع هذا الرد بينما كان الحضور يطالعونها بأفواه فاغرة هل تحولت من قاتلة الى محامية دفاع ! حقاً امرها غريب ، وبالطبع شعرت آيلين بنظراتهم ولكنها تجاهلتها وأكملت تحديها الذي تخوضه فهي نفسها لا تعلم من اين جاءتها هذه القوة ولكنها قد تكون سبباً في تبرئتها الان وخروجها من هنا بسلام فعاودت الحديث وقد ارتسمت الثقة حتى في نظراتها :
-لقد كتبا في ذلك اليوم ورقة حسب ما فهمت من كلامهما انها بمثابة ضمان لبشير يضمن فيها ان والدي سيعيد له امواله .
سئلت المحامية مجدداً وهي تعقد يداها الى صدرها ولوت شفتها ساخرة :
-هل من شهود ؟
أجابت وهي ترمي ثقل جسدها على قدمها اليمنى :
-عمي وانا فقط .
ضحكت من جوابها ساخرة لتعلق على حديثها :
-أنْتِ كنتِ طفلة حسب قولكِ ولا تعتبرين شاهداً ووجود عمكِ فقط لا يكفي اي تعتبر هذه الورقة باطلة .
حدقت آيلين اليها بدهشة فهي ليس لديها اي خبرة قانونية وعندما صمتت وبدت عليها الحيرة رمقتها الاخرى بأستهزاء ثم أعطتها ظهرها لتتمشى بخيلاء قائلة :
-بالنهاية أنْتِ مجرمة لا محامية لتدافعي عن نفسكِ ..
وقبل ان تكمل حديثها علا صوت الاخرى بثقة مجدداً :
-لا تعد هذه الورقة شيئاً صحيح ولكن بشير وهب مبلغ مليونين ونصف لوالدي بكل رحابة صدر ولم يطالبه بأسترداد تلك الأموال ووالدتي كانت متواجدة وقتها لأنه زارنا في منزلنا في اسطنبول وبعدها اختفى وكأنه لم يوجد أصلاً بعد ان قال انه ينوي تطليق زوجته وكنتُ في عمر الثالثة عشر وقتها .
كانت المحامية قد التفتت بوجهها نحوها لتجد آيلين تبتسم بسخرية فتحدثت مجدداً وثقتها قد زادت لتطغو نبرة كبرياء في صوتها :
-لستُ محامية ولستُ مجرمة بل انا انسانة بريئة وقعت ضحية للظروف ولي الحق في الدفاع عن نفسي كما يسمح القانون بذلك .
نقلت ثقل جسدها على قدمها اليسرى مكملة حديثها :
-لقد عاد بعد ان زُج والدي في السجن ..
قاطعتها وقد رفعت حاجبها بمكر :
-ولما هو هناك ؟
فردت بفضاضة :
-هذا ليس موضوعنا الان .
تجهمت ملامح الاخرى لتكمل هي حديثها :
-لم يظهر الا بعد سنوات مطالباً بأمواله وكثرت ملاحقاته بعد ان زُج والدي في السجن حتى وقف في وجهه رجال المنطقة وبعدها تهجَّم على والدتي محاولاً الاعتداء عليها .
اقتربت منها المحامية وهي تتبختر ولا زالت مقيدة يداها الى صدرها وقالت ولا زال المكر يعتلي نظراتها :
-هل لكِ ان تتكلمي عن تلك الحادثة مجدداً .
ثم اخذت تمايل جسدها بخفة لتسرد آيلين تلك الحادثة بأدق التفاصيل حتى كيف كانت إجابتها بالامتحان !بالرغم
من كونها ضعيفة الذاكرة الى حد ليس بالقليل الا ان ذاكرتها تكون فولاذية في مواقف معينة ، بعد ان انتهت اضافت على حديثها بجدية وهي تقف معتدلة :
-اي انني تسببت بأصابته فقط ولم أقم بقتله كما انني قاصر ابلغ السابعة عشر فقط بعد عدة أشهر سأبلغ السن القانونية .
ختمت حديثها وهي تحدق الى القاضي الذي كان يطالعها بأهتمام بينما وصلها صوت المحامية الساخر :
-تصلحين لوظيفة المحاماة !
ثم أثنت عليها بتكشيرة ساخرة لترد الاخرى عاقدة حاجبيها بغضب :
-اذا كنتِ تملكين اي شيء ضدي قوليه الان وان لم يكن لديكِ فالتزمي الصمت .
قالتها بحدة ليطرق القاضي بمطرقته قائلاً :
-هدوء .
التزمت كلتاهما الصمت وكل واحدة ترمق الاخرى بحدة ليصدر القاضي حكمه قائلاً وهو يطرق بمطرقته :
-ليهدأ الجميع فسيتم الإعلان عن قرار المحكمة الان .
تحركت المحامية من مكانها لتقف في الطرف الاخر بالقرب من زوجة بشير الجالسة برفقة ابناءها ووقف المحامي قرب آيلين يحدق اليها بفخر فهي عملت ما لم يستطع هو عمله بينما هي كانت توجه نظرها نحو القاضي ويكاد قلبها يهوي انتظاراً لقراره تحدث بعد لحظات مُملياً القرار على المرأة صاحبة الحاسوب :
-بما ان القضية اتخذت منحى غير واضح وبما انها تحتوي على التلبس والغموض تقرر سجن المتهمة آيلين عمر ديمير على ذمة التحقيق حتى يتم إثبات برائتها وتحديد مصيرها والتأكد من وضع الضحية فيما اذا كانت على قيد الحياة ام لا .
حينها صرخت غاضبة بأعلى صوتها :
-هذا ظلم انا لم اقتل أحداً ، هذا غير عادل .
تزامناً مع صدور همهمات تحولت الى أصوات مختلطة وصدور صوت بكاء ليلى ووقوف احمد منظر المتفرج ، تم لاحقاً اقتياد آيلين من قِبل الشرطة وهي تصرخ بهيجان بينما نهض القاضي والآخران اللذان كانا برفقته حيث أبديا موافقتهما على قراره وبينما يتم اقتياد آيلين في الممر كانت والدتها تحاول اللحاق بها من زحام الناس الخارجين من قاعة المحاكمة ، فأخذت تشق طريقها بصعوبة حتى وٌجدت نفسها في الخارج وهي ترى فلذة كبدها تقاوم رجال الشرطة وترفض الدخول الى السيارة وهي تصرخ غاضبة فانطلقت تعدو نحوها منادية بأسمها لتلتفت ناحيتها وقد زادت مقاومتها اكثر ليمسكوها رجال الشرطة ويدخلوها عنوة فأخذت تصرخ بأعلى صوتها وقد تملصت من أيديهم بالقوة حتى كادت تُخلع عنها ملابسها ثم انطلقت تعدو نحو والدتها لترتمي بأحضانها وتبكي بشكل هستيري فضمتها والدتها الى صدرها بقوة وجلست كلتاهما على الارض وأحاط بهما الناس بشكل دائري بعضهم ينظر بشفقة والبعض الاخر انهمرت دموعه تفاعلاً معهما والبعض الاخر لم يتأثر ومنهم المحامية التي ظنت انه مشهد مفتعل من قبل الاثنتان لكسب تعاطف الناس لعلهم يقفون الى جانبها بعد لحظات تدخل رجال الشرطة وسحبوا آيلين من حضن والدتها بالقوة ليزداد بكاءها وتشد من عناقها لأبنتها ولكنهم شدوها منها بالنهاية وجروها خلفهم وهي تحاول التملص منهم وتلحقها والدتها التي اعترض طريقها شرطي ثالث منعها من التقدم وهو يتحدث اليها محاولاً تهدئتها بينما حُبست آيلين داخل سيارة الشرطة بالقوة ولكنها مع ذلك اخذت تصرخ بكل قوتها منادية والدتها ودموعها تنهمر بغزارة كأمطار شتوية انطلقت السيارة بسرعة مصدرة صوت صافرتها العالي وأخذت آيلين تحدق من خلال النافذة الخلفية وهي تطرق عليها بيديها المكبلتين وتنادي والدتها بصوت مبحوح بينما ارتمت ليلى أرضاً وهي تشاهد السيارة تبتعد عن ناظريها لتنوح بصوت عالي وهي تلطم على فخذيها ليرتمي سليم قربها ممسكاً ذراعها وهو الاخر اطلق العنان لدموعه ثم خلال دقائق انفض الجمع من حولهم ليساعدها على النهوض بينما تمسكها والدته من ذراعها الاخرى وهي تسندها بينما يحيى كان قد انطلق ليجلب سيارته البيضاء التي يتشاركها مع ابنه ، احمد كان واقفاً ينظر اليهم بحزن وقد قطع قلبه ما شهدته عيناه قبل قليل . كانت ليلى قد ركبت في المقعد الخلفي بين كلا من سليم ووالدته بينما قاد يحيى السيارة منطلقاً بها رجوعاً الى منزلهم وعلى الجانب الاخر لم تكف آيلين عن الصراخ وضرب رجال الشرطة بقبضتيها المقيدتين على الرغم من نهرهم المستمر لها ، استمرت نوبة جنونها لنصف ساعة تقريباً حتى هدأت تدريجياً فجلست تحدق الى حضنها ولم تتوقف عن البكاء الذي تحول الى حالة من السكون المفاجئ حيث انقطعت شهقاتها وباتت دموعها تنسكب بصمت .
 


يتبع....


                                                                         القاعدة الخامسة
                              "ها قد خرجت من الجنة ورُميت في قعر الجحيم فأما تقاتل او تنهشك كلابه الجائعة "

براءة مُدانة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن