سوداوتيها زائغتين وهما ترمقان تلك الجثة الغارقة في دمائها في منظر بشع صاخب الدموية ، تلهث انفاسها طلباً للهواء الملوث بالرائحة العفنة التي ملئت الإرجاء ، قبضتها تحكم على المطرقة والأخرى تعتصرها بقوة ، وكلتاهما مغطيتان بالدماء ! تحركت عينيها ببطء تتبع تلك الأنهار الحمراء التي أخذت تنتشر مكونة بحراً تسبح فيه قطع لحمية مبعثرة ، عقارب الساعة تقطع السكون بدقاتها المزعجة ، ومع كل دقة تزداد دقات قلبها حتى كاد يخرج من محله ! ثم رمشت مستعيدة شيء من عقلها الغارق في عوالم اخرى غير هذا العالم الأحمر الذي يحتويها ! لتتحرك مقلتيها نحو جسد والدتها الهامد عند الزاوية فوق الجثة ذات الرأس المهشم ! تحرك جسدها ببطء نحو منبع حنانها لتجثي على ركبتيها تلقي بالمطرقة بعيداً تهزها بخشونة محاولة لأيقاظها فلا تفلح ، قربت انفها من أنف الاخرى لتصلها انفاسها فخفت ارتعادت جسدها ، حملتها بين يديها المرتجفتين بصعوبة ثم انطلقت تتخبط في مشيها تحاول موازنة ساقيها الضعيفتان تجرهما جراً لتسقط أرضاً بعدما سيطرت عليهما رجفة عنيفة لتنهض مجدداً وهي تحمل جسد والدتها الثقيل عليها ليخرج لسانها اخيراً من قيده فخرج صوتها الواهن تخاطب المحمولة بين يديها وقد عادت للجلوس أرضاً :
-امي هيا ارجوكِ أفيقي هيا أفيقي لنرحل علينا الرحيل .
بكت بحرقة لتتسابق دموعها بالنزول لتتدفق ذكريات السجن الى دماغها فتحاملت على نفسها ونهضت تحمل أمها لتخرج من المنزل تحت جنح الظلام حيث لا ينير طريقها سوى القمر ، فمشت بخطوات مسرعة وهي تضع احدى ذراعيها المتورمة من منطقة الزند اثر ضربة مطرقة عنيفة أسفل رأس والدتها المتكئ على كتفها والأخرى أسفل قدميها لتدور بالشوارع وهي لا تدري الى أين تذهب وكلما بدأت تلمح خيوط الفجر الاولى حتى بدأت تسارع في المشي لا تقوى على الركض حتى عادت الى ذلك المتنزه لتضع والدتها الغائبة عن الوعي أسفل شجرة ثم شرعت بالحفر لتستخرج كيس اموالها وبعدها انطلقت نحو البحيرة تغسل تلك الدماء عنها وعاد جسدها للأختضاض بعنف ازالتها بصعوبة لتسحب يديها تدفئهما بين قدميها تحدق الى انعكاسها على صفحة المياه ، عينها اليسرى متورمة حالها كحال وجنتها ، تنتشر ألوان بنفسجية وزرقاء وحمراء تغطي ملامحها ، دموعها تبلل وجهها وشفتيها مقوستين للأسفل فراحت تحتضن نفسها تردد بصوت بَكَاء :
-لا تبكي كل شيء سيكون على ما يرام .
شفطت سائل انفها لتكمل :
-لا تبكي لا تخافي كل شيء سيكون على ما يرام اتفقنا .
مدت يدها المرتعشة نحو انعكاسها بغية مسح دموعه البائسة التي تثير شفقتها ولكن أناملها اخترقت صفحة الماء لترسل قشعريرة عنيفة لجسدها لتبعد يدها بحركة سريعة نحو صدرها ، ثم انحنت بوضعية السجود تضم كلا كفيها نحو صدرها تبكي بشهقات عالية مرددة بصوت عالي تتخلله الرجفة :
-انه يؤلم يا امي ! انه يؤلم جداً أوقفيه ارجوكِ فأنا لا أقوى على ايقافه ! اوقفيه انه يلتهمني من الداخل اشعر به يخترقني يقطعني بقسوة ، انيابه تلتهم قلبي يا امي !
استمر نشيجها مدة من الزمان حتى بانت خيوط الفجر بوضوح ولَم يتبق سوى القليل على شروق الشمس ليدب الهلع في داخلها فنهضت تغسل وجهها بحركة سريعة ثم انطلقت تعدو نحو كيس الأموال الذي ربطته حول خصرها لتضعه أسفل ملابسها بين ثدييها واخفت الحبال القماشية خاصته بلفها عدة مرات لتبدو كأنها حزام ثم حملت والدتها وراحت تستعجل المشي وهي تتعمق داخل المتنزه لما بعد البحيرة حتى وصلت الى الشارع الرئيسي لتطلب سيارة اجرة ، ما ان ركبت حتى اخرجت سكين من جيبها وضعته على رقبة السائق الذي انقطعت انفاسه لعدة دقائق بخوف وهو يرفع يديه بأستسلام لتهمس له بصوت حاد :
-خذني الى اَي مكان خارج اسطنبول !
ابتلع ريقه بهلع لتتحدث مجدداً وهي تغرز طرف السكين برقبته :
-سأتركك الان اياكَ والالتفاف للخلف .مفهوم ؟
هز رأسه بحركة سريعة إيجاباً لتبتعد عنه فسحب انفاسه براحة ثم تحدث بصوت مرتجف :
-ولكن سيدي كيف سأصل بك الى خارج اسطنبول فهذه سيارة اجرة وليست طائرة !
لم يصله سوى الصمت ومرت عليه الدقائق ليحاول الالتفات بهدوء قبل ان يصل صوتها الخشن مفزعاً إياه :
-خذني الى فندق ولكن احرص على الا يكون وسط المدينة بل بعيد كل البعد عنها .
زفر انفاسه وقاد بالركاب المجهولي الهوية بالنسبة اليه ليدور في أنحاء اسطنبول باحثاً عن فندق بذات المواصفات حتى وقفت السيارة عند نزل صغير يقع قرب غابة أشبه بمنزل صيفي للسياح نزل السائق ودلف للداخل ليسأل عن غرفة شاغرة ، بينما عاينت هي المكان جيداً لتُتمتم :
-مناسب جداً .
ثم نظرت الى والدتها التي تحدق بشرود الى الامام لتضع يدها على كفها قائلة :
-كل شيء سيكون على ما يرام يا امي لن يجدنا احد .
دلف السائق الى السيارة لتخرج بعض الأموال تناولها له قائلة :
-انه مناسب هذه اجرتك واياكَ وان تجلب سيرتي لأحد اعتبر ان هذا الْيَوْمَ وهذا اللقاء كله لم يحصل مفهوم ؟
هز رأسه إيجاباً لتترجل من السيارة تحمل والدتها بين يديها وخرجت تتمشى حول النزل انطلاقاً الى الغابة حيث ربما توجد بعض الأكواخ الصيفية للأيجار ! وضعت والدتها على كرسي خشبي ثم انطلقت نحو النزل تدلف بداخله نحو مكتب الاستقبال ولَم تبالي بشكل وجهها الذي اثار الريبة لدى العاملة فتحدثت بصوت خشن طغت عليه نبرة التعب :
-هل يوجد أكواخ للأيجار هنا فأنا ارغب بمكان وسط الطبيعة لغرض الاستجمام .
-لا يوجد ولكن يمكنك تأجير غرفة هنا .
تحدثت مع ابتسامة كابدت لوضعها وعيناها زائغتين على الهيئة المرعبة التي تخص احد الفارين من العدالة أمامها ، صمتت ايلين لعدة دقائق ثم اومأت وهي تثبت أنظارها على العاملة لتومأ إيجاباً ببطء ثم وضعت اسم مستعار واستلمت مفتاح غرفتها لتضع ابتسامة خفيفة على شفتيها ثم انطلقت برفقة العاملة ناحية الغرفة المنشودة التي تطل على اروع جزء من الغابة ، رحلت العاملة اخيراً بعدما نزلتا للأسفل مجدداً لتنطلق نحو والدتها وتحملها بين يديها ثم التفت من الخلف حيث يوجد باب خاص لدخول العاملين لتدلف منه بعدما لاحظت خلو المكان ثم صعدت نحو الطابق الأعلى حيث جحرها الجديد .
وضعت والدتها على السرير بعدما اغلقت الباب بقدمها ثم جلست أمامها ممسكة بكفيها تحدق اليها برجاء مخاطبة إياها :
-ابقي هنا ولا تخرجي سأذهب لجلب بعض الطعام لنا أعدك لن أتأخر عَلَيْكِ .
ثم طبعت قبلة على وجنتها لتخرج بسرعة وما ان نزلت للأسفل حتى تجمدت عن الحركة وهي تشاهد الشرطيان القابعان امام مكتب الاستقبال واللذان سرعان ما التفتا ناحيتها لتشعر بقلبها يهوي ذعراً .
****************
استيقظت نرجس في الصباح الباكر تطالع الجانب الفارغ من السرير لتفلت من بين شفتيها تنهيدة عميقة ثم نهضت لتتوجه نحو الحمام بغية التخلص من كل هذا التعب الملقى فوق كاهلها ولتخفي اثار البكاء الطاغية على ملامحها فبالتأكيد ستأتي والدتها وعمتها لأشباع ذلك الفضول ! ولكن مالذي ستفعله زوجها ويرفض قربها هل يوجد اسوء من ذلك ! انتهت بسرعة لتخرج نحو الغرفة لتتفاجئ به هناك وهو يرتدي ملابس منزلية متخلصاً من خاصته السابقة التي تفوح منها رائحة الكحول والعرق فأقتربت منه محتضنة إياه من الخلف تقبل كتفه لتتحدث ببعض المرح :
-صباح الخير زوجي الحبيب هل أعد لك الحمام أم نفطر أولاً ؟
ازال يديها عن خصره ليلتفت نحوها لتلاحظ تلك الشعيرات الشقراء التي بدأت بالنمو على ذقنه ، عيونه متورمة ووجهه شاحب كما الأموات ، شفتيه متشققتين لونهما مائل للأبيض وكم تألم قلبها لرؤية حاله هذا ، تحدث بصوت متعب :
-لا اريد شيئاً سأخلد للنوم .
ثم اتجه ناحية السرير نحو جهته التي تقابل النافذة ليتمدد على الجانب مغمضاً عينيه ، فحملت هي ملابسه وتوجهت نحو الحمام لتضعها في الغسالة ثم نحو المطبخ لتعد له الافطار وضعته في صينية صغيرة عائدة نحو الغرفة لتضعها على الطاولة ثم جلست قربه تقبل وجنته متحدثة بهمس :
-هيا حبيبي انهض جلبت لك الفطور يجب ان تأكل شيئاً لقد اصبحتُ نحيلاً جداً !
اصدر همهمة صغيرة ولَم يرد فزفرت نفسها بقهر ونهضت وقبل خروجها التفتت له تفرك أناملها ببعض قائلة بتردد :
-امي وعمتي ستأتيان لزيارتنا الْيَوْمَ احرص على ان تجهز نفسك .
وكالعادة لم تتلقى رداً لتخرج بصمت تغالب دموعها الا ان عقلها يردد لها " صبراً يا نرجس قلبه سيلين يوماً ما لكِ "
ابتسمت بأتساع مانحة نفسها بعض الإيجابية لن تتوقف عن المحاولة حتى يقع في مصيدتها فهي ليست اول أو اخر امرأة زوجها لا يحبها وقررت ان تستعمل معه كيدها حتى تكسر كل تلك الحواجز التي يضعها حول نفسه حتى تصبح أماً لتسعة أطفال ! عضت شفتيها بخجل وراحت تدور في المطبخ لأعداد الغداء بينما زوجها الحبيب فلقد كان يضع بين يديه ذلك الخاتم الذي أهداه لفتاة القمر خاصته يوماً ما ! تفاجأ بوجوده في القمامة بعدما طارد هايدي التي هربت منه دالفة نحو حديقة منزل حبيبته في احدى زياراتهما اليومية بخفية اليه ، وكأن القدر أراد له ان يسترجعه ليطوق بنصره وهكذا سيبقى ولو جزء بسيط من طفلته عالقاً معه .
وضع يده على جهة قلبه الذي يؤلمه جداً على غير العادة وكأن هناك أمراً فادحاً قد حدث ، وصله صوت خطوات ليرفع رأسه بتعب نحو زوجته التي خُطف لونها والتي تحدثت فوراً بلا مقدمات :
-الشرطة عند الباب !
نهض من فراشه مهرولاً نحو الأسفل لتقع عيناه على الضيف الغير متوقع لتنطق شفتاه بلا وعي :
-الضابط ادهم !
*********************
يتبع .....
*****
ميلوجان"القاعدة الخامسة عشر "
"ما كُسر لن يعود يوماً كما كان لذا لا تتعب نفسه بمحاولة اصلاحه "

أنت تقرأ
براءة مُدانة
Misterio / Suspensoخُلقتُ بشراً فجعلتوني شيطان وها أنتم تدفعون الثمن غالياً آيلين & أدهم الغلاف من تصميمي