مرت خمسة ايام اخرى بثقل كبير على ادهم وهو يراقب ايلين الغائبة عن وعيها من خلف الزجاج بلا كلل او ملل حتى بعد ان انتصف الاسبوع وتحديداً في يوم الثلاثاء عند السابعة مساءً حيث كان هو وباريش والطبيب المشرف على حالة ايلين جميعهم جالسين يتناقشون حولها لتدلف عليهم الممرضة المسؤولة عن رعايتها بطريقة هستيرية وتتحدث من بين لهاثها :
-لقد استيقظت المريضة ولكنها في حالة صعبة جداً ولا نستطيع السيطرة عليها !
خرج الثلاثة راكضين اولهم ادهم ليذهب ناحية الغرفة الخاصة التي تقبع بها ليقف مدهوشاً تبعه الثلاثة يناظرونها من خلف الزجاج بصدمة !
كانت الدماء تغطي ثياب المشفى التي ترتديها وكان مصدرها مكان العملية وهي تصرخ بأعلى طبقات صوتها بطريقة وحشية تخوض صراعاً شرساً مع الممرضين الثلاثة ذوي البنية الضخمة اضافة الى الشرطيان المسؤلان عن حراستها !
كانت متوحشة ، بربرية في هجومها ، تسدد ضربات قوية بتلك القبضة المشدودة واظافرها الطويلة تخدش كل من تطاله اناملها ! تحارب بأستماتة وكأنها وسط معركة مصيرية تخوضها ضد اعدائها ، حتى دلف ادهم يبعدهم عنها بشراسة هو الاخر يضرب بقبضته القوية كل من تسول نفسه الاقتراب منها حتى صاح بهم صيحة ليتوقف الجميع لاهثين والصدمة الاكبر ان ايلين سكنت تماماً وسقطت ارضاً تحتضن قدمه تطالعهم وهي مختبئة خلفه بخوف كطفلة تحتمي بأبيها ! فاض الخوف والجزع من عينيها الا انهما لمعتا بسعادة وهما تطالعان بطلها ومنقذها الذي يغطيها بقامته الضخمة ، خرج الجميع امتثالاً لأمره وهم يكيلون له الشتائم حتى الشرطيان فقدا صوابهما وبان الغضب والخوف عليهما من هذه المتهمة ! ولم يعلم احد لحد الان من هي حقاً ايلين ! هل هي طفلة عاشت طفولة شنيعة ام هي قاتلة بلا قلب ام هي مجنونة فقدت عقلها بين ليلة وضحاها تحت ظروف غامضة ! ام هي تدعي الجنون لتحقق مآربها المريضة !
تم علاجها من قبل الممرضة المسؤولة عنها التي كانت ترتعد خوفاً الا ان الاخرى كانت ساكنة تماماً وهي تحدق الى بطلها الذي كان يحتويها بين ذراعيه وهو الاخر يحدق الى عمق عينيها يطمئنها ان كل شيء سيكون على ما يرام .
*********
بعد ثلاثة اسبيع كان الجميع فيها واقفاً على قدم وساق حيث تشددت الحراسة في انحاء المشفى لمنع هروبها من جديد وادهم كان ملزماً عليه ترك ما بيده من قضايا ليهتم بها وكأنه جليس اطفال يلبي احتياجاتها ! وهي لم تكن تتحرك خطوة من دونه تثرثر على رأسه بما لا يفهمه والخوف يملئ كل تفصيلة من تفاصيلها تحرك يدها السليمة بعشوائية وهي جالسة في حجره ، عينيها تذرفان الدموع لتنخرط في نوبة بكاء سرعان ما تهدأ لتعود لسرد تلك الطلاسم على مسامعه وهو يبتسم لها يتصنع الفهم لكي لا يكسر قلبها الذي تعلق به بشكل غريب وكأنه طوق نجاتها الوحيد يربت على رأسها يحبس وجعه في داخله ودموعه تشوش عنه الرؤية تأثراً لما حل بها !
حتى بالفعل باتت تعود تدريجياً لحالتها الطبيعية الاولية ! ايلين الفتاة الهادئة ذات العقل الرزين وكل يوم يمر ورابطتها تقوى مع ادهم الذي بدأ يفهم ما يلم بها ويجعل حالة الهستيريا تعود لها من جديد !
حتى مهد لها الطريق للخضوع الى جلسات العلاج النفسي وكان طبيبها باريش الذي سجل معلومات اولية عنها من خلال مراقبته لها خلال هذه الفترة وكان ادهم خير داعم له .
*******
كانت الجلسة الاولى اليوم الذي يصادف يوم الاربعاء (10/7) حيث جلس الطبيب باريش على مقعده في غرفة خاصة ذات نافذة واسعة مفتوحة تطل على منظر خلاب امامه كرسي عريض ذو مقعد طويل مائل يسمح للمريض ان يتمدد عليه بجواره كرسي مريح اخر مخصص لأدهم فهذه الجلسات ستتم بوجوده وتم وضع كاميرا للتسجيل في مكان مخفي لكون المريضة شديدة الكره لهذا النوع من الاجهزة !
سرعان ما فُتح الباب ليحول خضراوتيه نحو الداخل والذي لم يكن سوى ادهم الذي ارتدى قميصاً ماثل لون عسليتيه ليرحبا ببعض بأيماءة خفيفة يمسك كف ايلين التي دخلت تجر خطاها بتوتر وهي ترتدي بيجامة زهرية اللون عليها طبع لرسم هزلي للقطط حيوانها المفضل ، شعرها استطال قليلاً ليتراقص بسواده حول وجهها المدور كالقمر وكم كانت جميلة وبريئة وهي تضع ذلك الطوق لتبعد الخصل عن عينيها والذي كان ايضاً زهري اللون .
لم تقل شيئاً وسرعان ما اخفضت بصرها تطالع الارض ثم جلست على المقعد المخصص لها بهدوء بجلسة مريحة ومحترمة وهي تمنح ابتسامة خجولة لهذا الشخص القابع امامها والذي لا تعلم هويته جاورها ادهم بالجلوس وهو يراقب الاثنين بعينيه ، تحمحم طبيبها ثم قال معرفاً عن نفسه :
-اهلاً بك وسهلاً يا صغيرتي انا طبيبك الخاص باريش غوكان يمكنك اعتباري كأب او أخ او صديق واخبريني بكل ما تشعرين به او بأي شيء تودين قوله .
اومأت له بهدوء ليكمل بأبتسامته العذبة التي اراحتها نسبياً :
-سأوجه لكِ بعض الاسئلة وتجيبين عليها واذا لم تريدي يمكنك الصمت او الاعتراض كما يحلو لكِ ومتى ما شعرتِ برغبة بالتوقف سنفعل اتفقنا .
اومأت مجدداً ليبتسم لها بهدوء ولم يكن يرتدي مئزر الاطباء بل قميص ماثل عينيه لوناً وبنطلون اسود ، عطره فواح اشبه بعطر زهور الجوري المفضلة لديها ولم يكن يحمل شيئاً كمذكرة او دفتر ليكتب به بل كان يوليها كل اهتمامه .
لعق شفتيه ثم سئل بنبرته الحنونة :
-اخبريني عنكِ اولاً .
لاحظ شحوب وجهها السريع لينفي بحركة من يديه قائلاً :
-كلا يا صغيرتي لا تخافي فأول قاعدة نتفق عليها هي عدم الخوف .
اومأت ولم تعلق ليتحدث من جديد :
-اخبريني عن نفسكِ انتِ لا المحيطين بكِ ماذا تحبين وماذا تكرهين وما هي هواياتكِ ؟
بقيت صامتة للحظات تدير عينيها بتوتر وكأنها ترتب حديثها فلم يضغط عليها وصمت يراقبها بهدوء حتى تحدثت وهي تشابك يديها بتوتر :
-أنا ..أنا كنتُ رسامة .
ثم ابتلعت ريقها لتستمر بأدارة عينيها وكأن تبحث عن المزيد من الكلام ليسئلها هو بأهتمام :
-ومالذي كنتِ ترسمينه ؟
اخذت نفساً عميقاً لتكمل :
-كنتُ ارسم ملابس ثم رسومات اخرى ولكنني توقفت .
اخفضت رأسها ليكمل بأهتمام اكبر :
-اذن صغيرتنا مصممة ازياء !
ابتسمت بخجل ليكمل هو بأبتسامة واسعة :
-اذن ارغب برؤية رسمكِ يوماً يا ايلين .
رفعت رأسها تحدق اليه بفرح لتهز رأسها ايجاباً تبتسم بأتساع كاشفة عن اسنانها اللؤلؤية ووجنتيها الممتلئتين مصبوغتان بحمرة طفيفة وكان ادهم يبتسم ناظراً اليها سعيد بتجاوبها مع طبيبها ليتحدث الاخر منتقلاً الى سؤال اخر :
-ماذا عن المدرسة كيف كنتِ ؟ كسولة ام طالبة مجدة ؟
عادت لأخفاض رأسها متحدثة :
-وسط كنتُ ادرس بجد ولكن ذاكرتي ضعيفة لذا درجاتي لم تكن مميزة ما عدى ..
تحدثت وقد اهتز جسدها برعشة طفيفة بصوت متقطع :
-بعد ذهاب ..و.وا...وال..والدي للسجن .
ثم تنهدت بصعوبة وهي تضغط بقوة على اصابعها لتكمل :
-تحسنت درجاتي قليلاً ونجحت بمعدل عالي .
-ماذا كانت مادتكِ المفضلة .
اعادت رفع رأسها تحدق في الارجاء لتجيب :
-الحاسوب .
-لماذا ؟
-احبه لأنه مادة سهلة .
-جيد اذن تحبين الالكترونيات ؟
اومأت بخفة ليكمل هو اسئلته :
-ماذا عن الاصدقاء ؟ من كانت صديقتكِ المقربة التي قضيتي معها ايام الدراسة ؟
زفرت انفاسها بضيق مجيبة وهي تبتلع ريقها :
-لم يكن لدي صديقة .
كانت سوداوتيها مثبتتين على حجرها ليسئل متكئاً للخلف :
-لماذا ؟ الا تملكين صديقة مقربة او حتى زميلة ؟
هزت رأسها نفياً ثم اكملت :
-افضل عدم الارتباط بأحد .
تنهد ادهم يراقبها بفضول وهو يكتشف هذا الجانب منها شيئاً فشيئاً وهي لم تكن تعي تحديقه المستمر اليها ليسئل الطبيب :
-فتاة طيوبة وجميلة مثلكِ لما قد تفضل عدم الخوض في علاقة صداقة فهي من اجمل العلاقات الانسانية !
لوت شفتيها بضيق وهي تتلاعب بأناملها لتجيبه :
-كنتُ محط سخرية للجميع لكوني شديدة النحافة لذا لم اختلط بأحد .
ثم رفعت رأسها قائلة بمرح طفيف والخجل يزداد على ملامحها :
-لكن لدي صديقان عزيزان وواحدة عزيزة ايضاً على قلبي .
سئل وهو يحتفظ بأبتسامته الهادئة التي تدل على اهتمامه :
-ومن هم ؟
تلاعبت بأناملها لتجيبه بالمرح ذاته :
-لدي علي وزوجي سليم وامي هي صديقتي الوحيدة .
ثم ادارت رأسها نحو ادهم قائلة :
-وادهم كذلك اعتبره احد افراد عائلتي وهو ايضاً عزيز جداً علي .
احمرت وجنتيه خجلاً وهو يبتسم لها لتبرز غمازته على خده الملتحي ثم عادت لتنظر نحو الطبيب الذي قال :
-هذا جيد جداً يا صغيرتي فأدهم انسان صالح وهو صديق جيد للجميع ، والان حدثيني عن افراد عائلتكِ .
تنهدت ثم تحدثت وهي تتكئ قليلاً لتسترخي في جلستها :
-امي جميلة جداً وانسانة حنونة لا تنقص علي بشيء وانا وحيدة بلا اي اخوة ولدي ايضاً قطة تدعى هايدي اعتبرها فرد منا ايضاً و سليم كان صديق مقرب والان كما اسلفت تزوجنا وعلي صاحبه هو ايضاً صديق لي وبمثابة اخ كبير .
-ماذا عن والدكِ ؟
شحب وجهها فوراً الا انه لم يعلق وسرعان ما تصلبت في جلستها ليمسك ادهم بيدها يضغط عليها ليبين لها وجوده وانها بأمان فتنهدت بتقطع وكأنها تختنق لتتحدث بتلعثم وبأعين زائغة :
-انا .. انا لم اكن .. -ثم زفرت انفاسها بقوة وراحت تتلفت في الزوايا خوفاً من وجوده فتحدث الطبيب بهدوء:
-لا تخافي يا صغيرتي لا يوجد احد هنا سوانا لذا يمكنك قول ما تريدين بدون خوف .
اخذت تلهث انفاسها تشدد من قبضتها التي تقبع بين انامل ادهم ليشد هو عليها بالمقابل ثم سئلت الطبيب وعيونها تفحص الزوايا من جديد :
-يعني ..-ثم ابتلعت ريقها -يعني ..هو .. هو لن يستطيع الدخول ..هنا يعني لن يدخل ..صحيح ؟
هز رأسه مؤكداً لتسأل بحرص مجدداً :
-ولن يعلم بما اقول ؟
هز رأسه نفياً مجدداً لتعود للتلفت للانحاء ثم نظرت لأدهم تتفحصه وكأنها تتأكد من وجوده لتجيب بتلعثم واضطرابها يزداد لا ارادياً :
-انا ..انا لا .. احبه .-عادت لأبتلاع ريقها -انه ..يعني انا اكرهه ..كلانا نفعل .
-أنتِ ومن ؟
-انا ووالدتي .
قالت حديثها بهمس ليتحدث ادهم ضاغطاً على كفها من جديد :
-لا تخافي يا ايلين تحدثي بلا اي قلق فنحن معكِ .
نظرت له للحظات مومئة لتعود بنظرها نحو الطبيب تحاول شحذ ثقتها :
-انه ...انه مؤذي ..كان ..كان يضرب امي .
ثم لمعت عيناها بالدموع لتكمل وهي تجاهد لسحب انفاسها وكأنها تكتم غصة البكاء داخل صدرها :
-لقد اوقعنا بورطة و كان يضربها ويؤذينا .
ثم تساقطت دموعها ليتجعد وجهها ببكاء لم تسيطر عليه ليعانقها ادهم وربت باريش على فخذيها قائلاً بحنية :
-اهدئي يا صغيرتي وخذي نفساً عميقاً .
هدأت بعد لحظات تسمح دموعها ليتحدث مبتسماً :
-والان شهيق زفير -وتنفس بعمق مطلقاً انفاسه -تنفسي بعمق شديد عدة مرات واطلقيه من ثغرك .
فعلت ما طلبه عدة مرات حتى ارتاحت فعلاً ليتكئ على ركبتيه قائلاً :
-كيف اصبحتي ؟
اومأت بأبتسامة بسيطة قائلة :
-افضل .
ثم عادت للتنهد مجدداً ليقول هو لتحدق نحوه مصغية بأهتمام :
-حدثيني بلا خوف فهو لا يمكنه التواجد معكِ بالمكان ذاته لذا لا تخافي وقولي كل ما تعرفينه فأنتِ قوية وهو الضعيف .
لم تعلق ومسحت ما تبقى من دموعها لتسحب نفساً عميقاً اطلقته بعمق من ثغرها لتكمل :
-انه كان لسبب ما يستمتع بأذيتنا -ثم ابتلعت ريقها -لقد كان سكيراً و مسرفاً ويضرب امي بسبب او بدون .
بدأت تعود لها تلك الذكريات المتقطعة والمشوهة وما ان بدأت بالشرود حتى فرقع الطبيب اصابعه قرب وجهها لتنظر اليه فقال ببعض الجدية ولا زالت الحنية تظهر مع صوته :
-تحدثي بتركيز وبلا شرود ليكن عقلكِ وذهنكِ متواجد معنا .
اومأت بهدوء ثم سئلها :
-مالذي يعمله ؟
-شرطي وتقاعد بعد مدة لأصابة في قدمه ولكونه قد تقدم في العمر .
كانت تحاول جاهدة طرد هيئته من عقلها وتصب جام تركيزها مع الطبيب لذا كانت تشدد على يد ادهم كل ثانية تمر لتبقى محتفظة بشعور السكينة هذا سئلها مجدداً :
-وماذا حدث بعد ذلك اخبريني بالتفصيل .
اومأت ثم باتت تسرد ورغماً عنها تسحبها الذكريات نحوها لتعرض لها مشاهد ما تحاول ذاكرتها الضعيفة استرداده :
-لقد عشنا في منزل جدي لفترة قبل موته وبعد الوفاة عشنا في اسطنبول .
اكملت كلامها بشرود ليعود لفرقعة اصابعه فأبتلعت ريقها مكملة بتركيز على خضراوتيه :
-كان يتدين الكثير من الاموال ويصرفها فيما لا نعرفه وكنا ننتقل كثيراً حتى بقينا لفترة طويلة في حي سيفيل وقد انتقلنا اليه منذ كنتُ في الحادية عشر .
كانت تقاوم ذلك السرحان وامواج الذكريات تستعرض لها بأحداث متتابعة بسرعة كل ما حصل في حياتها لتكمل ونظرها يتجول في الارجاء في محاولة فاشلة للتركيز :
-كان غامض بكل ما يفعله وغالباً ما كنتُ استمع لشجاراته هو وامي حول كل شيء حتى كبرت وبلغت الستة عشر سنة .
اخذت تهز رأسها نحو كتفها الايسر بحركة سريعة كما لو اصابها شلل ثم غزتها برودة عميقة جعلت كفها القابع في كف ادهم يتعرق بغزارة لتقول بشرود مجدداً :
-لأرتكب أول محاولة قتل فاشلة !
عقد الطبيب حاجبيه بأهتمام وهو يطلب منها الاكمال مفرقعاً من جديد امام وجهها لتزول منها تلك الحالة وتعود لتركيزها معه لتكمل :
-كان دينه يبلغ عشرة ملايين ولا احد يعلم ممن او هوية الاشخاص ما عدى واحد كان صديق له منذ كان في عمله -تنهدت بعمق تطرد ما يعتمل داخلها من هم وضيق لتكمل :
-اصبح يحوم حولنا لأنه وضع عينه على امي حتى تم ايداع ...و.وال..عمر في السجن .
انكتمت انفاسها رغماً عنها وهي تنطق اسمه لأول مرة في حياتها بعدما كانت كلمة " والدي " هي كل ما يتردد من فاهها ، تحدثت بعد لحظات بشكل مختصر عن بشير ودخولها للسجن حتى توقفت قائلة وقد ظهر الضيق على ملامح وجهها :
-لا اريد الاكمال .
ثم باتت تضغط على يد ادهم بقوة وكأنها تطلب منه ان يمد لها يد العون ، استجاب لها الطبيب وسرعان ما خرجت يقتادها ادهم نحو غرفتها لتقبع في سريرها بهدوء حتى مرت عليها نصف ساعة غطت بعدها بنوم عميق ليتركها ويتجه نحو الطبيب الذي ارسل له رسالة تفيد بتوجهه نحو الكافتيريا ليتبعه هو .
ثم جلس الاثنان بعد طلب بعض الشاي ليتحدث باريش متفحصاً الكاميرا بين يديه التي حوت فيديو الجلسة الاولى ليرى مدة الفلم :
-لحد الان حققنا تقدم ولو كان بسيط جداً -ثم اخرج الذاكرة واضعاً اياها في جيبه ليخرج اخرى فارغة يضعها في الكاميرا مكملاً -اظن ان جلساتنا ستطول لصعوبة تأقلمها مع اشباح ماضيها لذا علينا على الاقل اخذ اعترافاتها قبل يوم محاكمتها حيث لا اظن اننا سنستطيع حتى رؤيتها او الجلوس معها مجدداً وستتكفل بها اما مستشفى او مركز لأعادة التأهيل .
تنهد ادهم قائلاً بعد ارتشافه للقليل من شايه ليقول وهو يلعق شفتيه ناظراً الى كأسه :
-المهم ان لا تُحكم بالاعدام او السجن المؤبد فنفسيتها لن تتحمل اكثر من ذلك .
تنهد الاخر ولم يعقب على كلامه بشيء حتى مر وقت قصير ودعا فيه بعضهما وافترقا ليتجه باريش نحو منزله ويتجه ادهم نحو غرفتها يجاورها الجلوس لكي يراقبها عن كثب .
***********
مر بعد ذلك اسبوعان وكانت الجلسات يومية وخلال هذه الفترة كانت ايلين فتاة متقلبة ومتعبة جداً فتارة تغضب بلا ادنى سبب وتارة تصمت ولا تجيب عن اي سؤال يوجهه طبيبها لها وفي احيان اخرى تتكئب وتنعزل عما حولها ودموعها تكابح للنزول وغالباً ما كان الخوف يظهر جلياً على ملامحها وهي ترفض اشد الرفض الحديث عن كل من نيفين وابيها عمر ! وكثيراً ما تردد كونهما حولها يراقبانها بترقب لينقضا عليها الا ان طبيبها كان ذو خبرة واسعة للتعامل مع هكذا حالات مستعملاً معها طرق الترغيب والتجبير حتى يسحب الكلام من فمها ولو كان رؤوس اقلام ليعلم اكثر عن حالتها النفسية التي باتت تشكل خطراً حقيقياً عليها وعلى من حولها ! الا انها لم تؤذي احداً وكانت في غالب الاحيان تغط بنوم عميق بعد تلك الجلسات ،كان اليوم الاول من الاسبوع الثالث الذي صادف يوم الاحد حيث بدت ايلين فيه اكثر تماسكاً واكثر راحة وبما ان الطبيب عرف عن ذكرياتها وحياتها ما يكفي فكان هذا اليوم هو الاصعب عليه حيث سيجعلها تعترف بجرائمها وما الدافع من وراءها وان كان يعلمه فهذه كلها ادلة سيتم عرضها على وكيل النيابة عن طريق المحامي وبالتالي لن يتم اقتيادها الى مركز الشرطة واجبارها على الاعتراف بطرقهم العنيفة غير مبالين بحالتها النفسية التي غالباً ما تقودها للعنف ، كانت ترتدي ملابس منزلية مريحة وشعرها مجموع بذيل حصان صغير عملته لها الممرضة والعطر يفوح منها بتركيز جاعلاً نفسيتها مستقرة وهي كثيرة الابتسام وبدت اقل انفعالاً واكثر هدوءاً .
جاورها ادهم ذي الوجه الشاحب وعسليتيه محمرتين تعباً تحيطهما هالات سوداء يتململ في جلسته لكونه لم يحصل على راحة طوال هذين الاسبوعين وهو كان مضطر للعمل على ملفات القضايا المتراكمة عليه بقربها فيجلس لساعات على الكرسي محنياً رقبته بوضع غير مريح ليعمل ما يجب عليه عمله من تحقيقات وكتابة ملاحظات ثم يأخذ فترة استراحة ليأكل بعض الطعام والاغرب ان ايلين كانت تسهر برفقته ايضاً ترمقه بصمت وتتحدث اليه بين فينة واخرى في محاولة منها لتخفيف ما عليه من حمل !
ابتدأت الجلسة وبدأ الطبيب بطرح اسئلته الاعتيادية عليها عن حالها وعن كيف اصبحت حتى تعمق تدريجياً نحو ماضيها شيئاً فشيئاً مجبراً اياها على سرد تفاصيل جريمتها الاولى ، ليلاحظ انقلاب حالها على الفور ! فبدأ الضيق يحتل ملامحها وهي تطالب بإيقاف الجلسة الا انه لم يستمع لها وضغط عليها لتتحدث حتى بدأت تتصرف بعنف ، فباتت تصرخ غاضبة تكور قبضتها راصة على اسنانها وتارة تزمجر في وجهه بغيظ ولا تعطيه اي اجابات ولم تفلح محاولات ادهم بتهدأتها ! تركها طبيبها على راحتها مراقباً ارتعاشة جسدها وجبينها الذي يتصبب عرقاً والتفافة حدقتيها في الارجاء وقد غابت عنهما الى بعد اخر تردد طلاسم مبهمة ليتهز جسدها بعنف جاعلاً اياها تبكي بهسيتيريا ! بهدوء طلب الطبيب من ادهم ان يبقى ساكناً لتبكي كما تشاء حتى سكنت حركتها تدريجياً وعادت هادئة من جديد تحدق الى قدمي الطبيب بشرود .
حتى انحنى قليلاً للامام متكلماً بصوته الهادئ مخاطباً اياها :
-لما البكاء يا صغيرتي اخرجي ما بقلبك لترتاحي .
لم ترد عليه واكتفت بالسكون على جلستها ودموعها تتساقط بخط مستقيم واحدة تلو الاخرى فوق وجنتيها فبدت كالتمثال الذي لا حياة فيه حتى تحدثت وحدقتيها تحدقان الى باريش :
-هل انا مجنونة ايها الطبيب ؟
كانت الحيرة تظهر في عينيها فلم يعطها جواباً واحتار هو الاخرى بكيفية تفسير حالتها لتسئل من جديد بصوتها الهامس :
-هل انا سيئة ؟
ثبت نظره عليها ليبتسم مجيباً برزانته المعتادة :
-لستِ كذلكِ .
-لما يود الجميع اذيتي اذن ؟ هل ما فعلته كان خاطئ ؟
ابتلع ريقه ثم شابك اصابعه متنهداً ليجيب عليها وهو يختار كلماته بحذر خوفاً من ادخالها بنوبة جنون اخرى :
-لا احد يود اذيتكِ يا ايلين الكل يحبكِ .
-كاذب.
قالتها بحدة وحاجبيها انعقدا بغضب ليرتد الى الخلف ببطء مبتلعاً ريقه لتجيبه وقد علا صوتها وظهر الغضب من جديد على ملامحها وانفاسها بدأت بالتسارع :
-لا احد يحبني الكل يمقتني ويكرهني ويخافون مني كما لو كنتُ وحشاً ارى النبذ في عيون الاخرين اينما ذهبت ولا احد يقدر ما انا فيه من عذاب !
ثم نهضت لينهض ادهم فأشار له الطبيب بهدوء لتكمل صراخها ووجهها قد احمر بالكامل :
-هل تظنون انني مجنونة ؟ هل تظنون انني لا اعي ماذا فعلت ؟ لقد قتلت شخصان وبطرق بشعة ايضاً وانا بكامل وعيي ! ولكن لم يتسائل احدهم لما قتلتهما ولم يهتم اي شخص بما فعلاه بي لا احد يكترث لتلك الايلين النكرة في اعين الجميع وكأنها خُلقت لتكون لا شيء في محيطها ! انتم من جعلني هكذا انتم من حولني الى آلة مستعدة للقتل كما لو كنت حيواناً برياً مروضاً عند احدهم !
صمتت تأخذ انفاسها التي انقطعت عن رئتيها تمسح بقوة دموعها المنهمرة وهي تكمل هتافها تحت انظار الاثنان اضافة الى الممرضة الواقفة عند الباب المفتوح والتي وقف خلها تجمع الممرضين وعدد من الاطباء يستمعون بفضول لتتحدث لاوية شفتها بسخرية مريرة :
-حتى بعد قتلي اياهما لازالا يتبعانني بكل مكان يسكنان احلامي وكل زاوية وركن تسقط عليها عيناي ، لم اتخلص منهما على الرغم من فداحة ما فعلته بحقهما وفوق ذلك خسرت اهلي وناسي وكأنني وُلدت من العدم ولا احد قادر الى الان على اخراجي مما انا فيه ، صبرت عليك كثيراً جاوبت اسئلتك بصراحة شاركتك ما لم اشارك به اي شخص اخر فقط لأبدو بمنظر الطفلة الوديعة اراقب واراقب عسى ان تجد حلاً حقيقياً لما انا فيه ولكن كل هذه المسرحية من اجل كلام يُدون على ورق ليتصدر حكم اعدامي الجرائد ووسائل الاعلام -ثم اشارت بيديها وكأنها ترسم لافتة عريضة وهمية بتكشيرة قهر ظهرت على وجهها قائلة بصوت جهوري :
-ايلين عمر ديمير فتاة قاصر قتلت والدها بطريقة بشعة وبلا مبرر او سبب اضافة الى فتاة شابة بريئة كَتَب لها القدر ان تموت على يد هذه المجرمة التي بلا قلب وبلا ضمير .
ثم صمتت تأخذ نفساً اخر ترمق بسخرية طبيبها الذي فغر فاهه متعجباً حاله من حال ادهم الذي جلس من هول الموقف ترتسم الصدمة على كل انش من ملامح وجهه لتجلس بهدوء مباعدة ما بين قدميها متكئة على فخذيها ترمق طبيبها بسوداوتيها ولم تبارح السخرية ملامحها لوهلة لتتحدث بصوتها العالي ذو النبرة الحادة :
-هل تريدون اعترافاتي اذن لكم ذلك .
ثم اتكئت للخلف وقدميها لا زالتا متباعدتين بجلسة اشبه بجلسة الرجال ويديها مسترخيتين فوق ذراعي الكرسي ونظرها مثبت على الكاميرا وكأنها تعلم مسبقاً بوجودها واخذت تتحدث ببرود ساردة تفاصيل الجريمتين بدقة شديدة جعلت كل من في المكان يتصنم في مكانه كأنه حط الطير على رؤوسهم حتى انتهت ثم اخذت تمرر نظرها على الجميع ببطء وكأنها تدقق النظر في ردود افعالهم حتى تحدثت بنبرة آمرة وهي تبعد خصلة متمردة على وجهها :
-اريد الذهاب للحمام .
بعد لحظات توجهت الممرضة ناحيتها بحذر شديد تقودها الى حيث طلبت تاركة الجميع يتخبطون في صدمتهم !
يتبع ......" القاعدة السادسة والعشرون "
"احذر مما تخفيه النفوس "

أنت تقرأ
براءة مُدانة
Misteri / Thrillerخُلقتُ بشراً فجعلتوني شيطان وها أنتم تدفعون الثمن غالياً آيلين & أدهم الغلاف من تصميمي