Chapter-4

4.4K 102 8
                                    


كانت عقارب الساعة المعلقة على الحائط تتحرك ببطء تصدر تكتكتها بعلو بحيث اخترقت الصمت مببدة اياه تراقبها اعين آيلين البازغة بتعب من خلف القضبان والتي غدت حمراء ممتلئة بطبقة من الدموع بينما تشكلت جيوب سوداء أسفلها ، وجهها كان شاحباً بينما كانت جبهتها تتعرق بغزارة ، جسدها ينتفض بين فينة واُخرى كلما تناهى الى سمعها صوت احتكاك الحديد مع بعضه وكأنه يعزف سيمفونية نهايتها ! فهي ومنذ ثلاث ساعات تقبع في زنزانة مظلمة لا يصلها من الضوء شيئاً سوى حزمة ضئيلة صفراء اللون تجلس على مقعد خشبي ملتصق بالحائط المتفطر خلفها ولا يسلي خلوتها شيء سوى افكارها السوداء التي تبتلعها كثقب اسود ! تصلها رائحتها الممتزجة بالعرق والبول فتشعر بالقرف اكثر من نفسها لم يمنحها احد الفرصة لتتمكن على الأقل من تنظيف نفسها فبعد دوي صوت الرصاصة هرع الجيران مقتحمين المنزل عنوة لينصدموا من المنظر الذي وجدوه ! جثة ملقاة أرضاً غارقة بدمها تعود لرجل بدى مألوفاً لدى بعضهم والآخر لم يعرفه بينما كانت ترقد بجانبه ليلى وهي فاقدة لوعيها ممزقة الثياب وهي الاخرى ملطخة بالدماء بقربها آيلين التي كانت جالسة على ركبتيها تحيطها بقعة من الماء فاهها مفغور وهي تحدق الى الجثة بنظرات تخطت مراحل الصدمة بكثير واستوى بيدها مسدس مملوء بالبارود يدل على انه قد اُستخدم قبل لحظات فقط ! ثم بلمح البصر حضرت الشرطة واقتادوها بين أيديهم كالشاة وهي مكبلة اليدين وتكفل  الإسعاف بأخذ والدتها و تولوا حمل الجثة وأخذها أيضاً ، لم تعرف لحد الان ما هو مصيرها والى اين سيؤول بها الحال ولا تستطيع معرفة حال والدتها الراقدة بالمشفى ، ماذا لو اصابها مكروه ؟ ماذا لو فارقت الحياة ؟
اتسعت حدقتاها رعباً وهي تفكر بأحتمالية موت والدتها بسبب ما فعلته ! ولكن الم تفعل ذلك لأنها ارادت انقاذها ؟
انسكبت دموعها بقهر وتجهّمت ملامحها في بكاء مرير ،انحنى ظهرها وهي تحتضن نفسها بأناملها الملوثة بالبارود والممتلئة بالخدوش بفعل أظافرها الطويلة ، كانت تعتصر ملابسها بين قبضتيها ولا يصدر عن بكاءها شيئاً سوى دموعها المنسكبة على الارض وملامحها المتجعدة بألم شديد تحيطها خصلاتها السوداء القصيرة المملوءة بالعرق .
استمر بكاءها لنصف ساعة قبل ان يصل الى سمعها صوت فتح باب زنزانتها فرفعت راسها تحدق الى القادم والذي لم يكن سوى احد أفراد الشرطة جاء لأصطحابها اقترب منها وجرها خلفه وما ان خرجا من الزنزانة حتى كبل يديها وقبض على ذراعها بقسوة يسوقها معه بينما هي فلم تكن حتى قادرة على مجاراة خطواته فعقلها كان تائهاً يتخبط بعنف بين سيل من الأفكار وجسدها يترنح لا يستجاب لها ليمضي قدماً بل يسلم نفسه لقبضة الشرطي التي بدت كأنها صُنعت من الحديد حتى وجدت نفسها تقف برفقته امام باب خشبي عُلقت عليه لافتة لم تستطع قرائتها فدماغها في هذه اللحظة عاجز عن إعطاء اي رد فعل ولو كان بسيطاً كالقراءة ! سمعت من الداخل صوت رجل غليظ يأذن لهما بالدخول فدلفت برفقة الشرطي ذو القامة القصيرة والجسد البدين حيث وقفا كلاهما امام رجل أشيب الشعر حاد الملامح يملك عينين ماثلتا شعره لوناً جلس بخيلاء خلف مكتبه المصنوع من خشب بدى باهظ الثمن وُضعت عليه ملفات وسجلات واوراق مبعثرة تحتوي على كلام كثير وامام ناظريها استقرت لوحة كتب عليها :
"اسماعيل هاتان " وبجانب اسمه احرف متقطعة لم تفهم معناها "م.م.أ". خرج الشرطي بعد ان تكلم بكلام لم تفهمه فأصلاً عقلها لم يركز على اي شيء اخر سوى الرجل القابع امامها ، كان تنفسها سريعاً تزامناً مع دقات قلبها التي تطرق بعنف كطبول  قُرعت إعلاناً لحرب ضروس على وشك الابتداء !
اطلق نفساً خفيفاً وهو يشاهد ارتجاف جسدها وكأنها ورقة تعصف بها الريح فطلب منها الجلوس على الكرسي القابع قرب مكتبه امتثلت لأمره سريعاً ولم تزح ناظريها عنه وكأن عينيها قطبا مغناطيس انجذب لقطعة معدنية فلم يستطع تركها ! مضت دقائق معدودة بدت كسنوات طويلة مرت عليها وهي تحدق اليه بترقب بينما اكتفى هو بتجاهلها مولياً اهتمامه الى مجموعة اوراق استقرت في ملف بين يديه طالعها بتركيز شديد من خلف عدسات نظارته ذات الإطار الرقيق ،خلال لحظات رفع رأسه وخلع نظارته عن عينيه لتستقر فوق صدره  كالقلادة وهي متصلة بسلسلة فضية لبسها حول عنقه ثم شابك يديه على سطح مكتبه زافراً انفاسه بخفة فوصلتها رائحة النعناع وهي تفوح من بين شفتيه ، أولاها تركيزه وهو يحدثها بصوته الغليظ برسمية :
-قرأت ملفك قبل قليل انسة آيلين كُتب انكِ ووالدتكِ تعرضتما الى العنف من قبل والدكِ وتم إيداعه في السجن بسبب ذلك ثم تكفلت والدتكِ بجميع ديونه والبالغة " عشرة ملايين " .
أنهى حديثه وهي تنظر اليه بترقب ولم تصدر عنها ردة فعل واحدة حتى وبعد دقيقتين فقط اومأت له فبدا انها اخيراً بدأت تستوعب حديثه ، اتكئ للخلف مريحاً ذراعيه فوق ذراعي الكرسي الجلدي المريح خاصته سائلاً اياها ونبرته لم تتغير وازدادت نظراته لها تفحصاً :
-ما الذي حدث بالضبط انسة آيلين ؟
بقيت صامتة لعدة دقائق تلتها دقائق اخرى وهي لم تحرك ساكناً فزفر الرجل انفاسه بضيق ليشبك أصابعه فوق بطنه حينها تكلمت بخفوت ولا زالت تحدق اليه بعينيها المتورمتين واللتين طغا عليهما الاحمرار :
-انا لم اقصد فعلها .
زفر مجدداً وتحرك ليتكئ على مكتبه شابكاً أصابعه فوق ملفها سائلاً اياها مجدداً :
-ما الذي حدث يا انسة آيلين ؟
وعاد الصمت جوابها مجدداً وكانت هي تحدق في عينيه بلا اي رد فعل ثم حولت بصرها الى ذراعها الى تفوح منها رائحة البارود وكانت سوداء اللون قليلاً حيث تغطت أناملها بالسخام ، اخذت شفتها السفلى ترتجف وشرعت دموعها بالنزول معلنة عن بكاءها من جديد فأخذت تردد بهذيان :
-انا لم أقصد فعلها .
باتت تكررها ونظرها غارق في ذلك المشهد من جديد حيث ترى نفسها وهي تمسك بالمسدس بكلتا يديها وتراه يحدق اليها ساخراً تصلها صرخات والدتها ثم تبعه صوت دوي الرصاصة الذي غطى على كل ما حولها ولم تشعر بنفسها الا وهي تحدق الى جثة ووالدتها مغمى عليها بقربها ورأسها كان يستمع بصمت الى صرخات امتزجت مع طنين حاد جعل ذهنها متوقفاً عن العمل ، لم تشعر بنفسها الا وهي بين يدي ذلك الشرطي البدين مجدداً وهو يسحبها من ذراعها بقسوة وهي مكبلة اليدين وتصرخ بصوت عالي بتلك الجملة التي لم تفارق لسانها منذ ان وطئت قدمها المخفر " انا لم اقصد فعلها " ثم بلمح البصر وجدت نفسها داخل تلك الزنزانة الكئيبة مجدداً كانت مشتتة وضائعة ووحيدة تكاد حبالها الصوتية تتقطع وهي تصرخ بجملتها تلك وتضع يديها على اذنيها وذلك المشهد يتكرر في عقلها مرات ومرات لا تحصى !
***********
(10:010pm):في مخفر الشرطة :
كان سليم جالساً في مكتب مدير المخفر " اسماعيل هاتان " وأخبره بكل ما حصل بإيجاز ليخرج من مكتبه بعد لحظات وهو مهموم وما ان دلف الى الخارج حتى جلس على الدرج الخارجي للمخفر وهو يستذكر ما قاله له المدير عن آيلين ووضعها الحرج !
"قبل عدة لحظات ":
كان سليم ينصت بكل حواسه الى الرجل الأشيب امامه والذي بدى بصحة جيدة تجعله يبدوا شاباً فضلاً عن هيبته الشبيهة بهيبة ملوك العصر القديم ، حمل ملف آيلين بين يديه وهو يقرأهُ بشيء من الاختصار مُركزاً على حادثة القتل الغير متعمد فتحمحم ملفتاً انتباه سليم الذي شرد بفكره وهو يطالع ملف آيلين الملقى بين يدي اسماعيل الذي تحدث اليه مخرجاً اياه من شروده قائلاً بنبرته الغليظة الرسمية :
-حاولت استجواب الفتاة ولكنها لم تنطق ولا بكلمة واحدة حتى بل كل ما قالته كان " انا لم اقصد فعلها " وفقدت صوابها وباتت تصرخ بالكلمة ذاتها وهي بداخل الزنزانة حتى وجدها الشرطي احمد المسؤول عن التوقيف وهي فاقدة لوعيها !
فقاطعه سليم وبات قلبه يطرق عنفاً وقد تملكه الفزع :
-وهل اصابها مكروه ؟
رد عليه :
-تم اخذها للمشفى وانتهوا من فحصها وهي الان تقبع في زنزانتها على حالها ولكن لا أقول لكَ انها بخير بل وضعها جداً خطر !
ابتلع سليم ريقه بخوف وهو يسأله عاقداً حاجبيه :
-ما هو قصدك يا حضرة المحقق ؟
اطلق المعني انفاسه ورجع الى الخلف متكئاً ليجيبه :
-تم إرسال ملفها الطبي من قبل طبيب متخصص وقال انها مصابة بصدمة حادة اضافة الى ظهور أعراض كآبة بمراحل متقدمة لذا اذا لم تستطع التكلم وإخبارنا بما حصل فسيتم اعتبارها قاتلة وستمثل امام المحكمة !
خرج سليم من شروده وهو يرى والده قادماً نحوه فنهض محيياً اياه وقد اخبره بكل التفاصيل ثم وقف الاثنان في حالة من الصمت قاطعها الوالد قائلاً :
-ما العمل الان يا بني ؟
حرك رأسه يمنة ويُسرى دليلاً على جهله ثم علق قائلاً بيأس :
-لم يسمح لي برؤيتها قائلاً ان وضعها حرج ولا يمكن توقع ردود افعالها .
هز الوالد رأسه متفهماً ثم أردف بعد لحظات :
-وماذا سنفعل الان ؟
اجابه سليم وهو ينظر اليه بضياع :
-يجب ان نعين لها محامياً على الأقل .
وافقه والده في الرأي ثم علق بأبتسامة :
-صديقي محامي وهو من سيساعدنا .
انطلق الاثنان معاً ناحية سيارة سليم ذات التصميم القديم الطراز والتي كانت بيضاء اللون وما ان ركباها حتى انطلقا مسرعين يجوبان الشوارع حتى وصلا الى حي راقي من احياء اسطنبول خُصِّص للطبقة الراقية من الاثرياء ورجال الاعمال والمحامون كذلك فأوقف سليم سيارته في مكان قريب ثم نزل برفقة والده حتى وصلا الى فيلا كُتب على حائطها " المحامي احمد الكان اوغلو " سمح لهما الحارس بالدخول بعد ان اتصل بسيده واستقبلتهما الخادمة عند الباب دلفا الى داخل الفيلا ذات التصميم الذي اتخذ طابع العصر العثماني المميز بأرائكه وطاولاته فضلاً عن وجود تماثيل ذات أشكال غريبة ومبدعة انتشرت في تنسيق جميل وكذلك عُلقت اللوحات على الحوائط بترتيب متناسق انسجم مع لون الحائط المعلقة عليه وفِي واجهة غرفة الضيوف التي دلفا اليها بعد ان ارشدتهما الخادمة توسطت الحائط ساعة مصنوعة من الخشب العتيق بتصميم يشبه القصر وكانت اطرافها مزخرفة بالذهب وتصدر تكتكة عقاربها بصوت عالي ، وجدا لهما مجلساً فوق آرائك فخمة اتسمت بكونها مريحة ذات لون احمر قان تتخللها زخرفات ذات لون بني لامع تقبع فوقها وسائد تداخلت الوانها بين البني الداكن والأحمر القان والذهبي بدرجة داكنة ، توسطت الغرفة طاولة زجاجية وُضعت عليها صينية حملت كوبان من الشاي اضافة الى صحن يحتوي بعض الفطائر المحشوة بالمربى ، على الجانب الايسر يوجد تلفاز ذو نوعية حديثة استقر فوق منضدة مصنوعة من الخشب العتيق كذلك احتوت على تماثيل نُحتت عليها من الأسفل ،وعلى جانبي أطراف الغرفة استقر تمثالان متماثلان في الشكل وهو لأمرأة إغريقية تحمل دلواً ينسكب منه الماء عند قدميها ،كانا كلاهما مدهوشين من هذه التصاميم البديعة والاسرة للعقل حتى نسيا للحظات سبب وجودهما هنا ! خلال دقائق دلف اليهما المحامي احمد وهو رجل متوسط الطول ذو بنية رياضية شعره بني اللون تتخلله بعض خصل الشيب على الجانبين له قسمات وجه صارمة تلونت عيناه باللون الأخضر الزمردي وعلت شفتاه شوارب بنية ثخينة حياهما بحبور ليعانق والد سليم والذي كان صديقه المقرب في فترة من حياتهما ، بعدما جلس الثلاثة معاً تبادل الصديقان بعض الاحاديث والذكريات لتسود لحظات من الصمت قبل ان ينظف الوالد حلقه ثم شرع في الحديث قائلاً :
-لقد جئتك محتاجاً يا احمد واثق جيداً جداً انكِ لن تردني خائباً .
عقد الاخر حاجبيه بأهتمام قائلاً بصوته ذو البحة الخشنة :
-ما الامر يا يحيى مالذي حدث ؟
ابتلع ريقه لوهلة ثم أشار لأبنه كي يبدأ الحديث أومأ له سليم إيجاباً ثم سرد له بأختصار عن آيلين ووالدتها وكل ما تعرضتا له من احداث لحد الان وما ان انتهى حتى ابتلع غصة اعتلت عنقه ثم عاود الكلام برجاء وقد غلفت عينيه طبقة من الدموع :
-ما الحل الان يا سيد احمد ؟ انا متأكد ان شيئاً قد حصل فأيلين لم يسبق لها ان آذت ذبابة حتى .
زفر المعني انفاسه بهدوء ثم تكلم بجدية وهو يشابك يديه فوق قدميه حانياً ظهره للأمام :
-يجب ان اتحدث مع والدة الفتاة أولاً ونتأكد مما حدث وبعدها علينا إثبات برائتها فهي لن تودع في السجن بحكم كونها قاصر .
تحدث يحيى هذه المرة :
-وما الذي سنفعله الان ؟
أجابه مريحاً ظهره للخلف :
-سنذهب الان للقاء المدام ليلى فشهادتها جداً مهمة .
قاطعه سليم قائلاً :
-ولكنها بحالة مزرية لا تسمح لها بالحديث لذلك لم يتم اخذ أفادتها لحد الان !
رد عليه احمد وهو ينهض فنهض الاثنان معه :
-سآخذ أفادتها بطريقتي الخاصة والان انتظراني لبضعة دقائق لأجهز نفسي ونذهب سوياً .
أومأ له الاثنان إيجاباً وعاودا الجلوس بغية انتظاره ريثما ينتهي .
********
في المستشفى ( 11:035):
كانت ليلى في حالة يُرثى لها نفسياً وجسدياً فكلما تراءى لها ذلك المشهد كلما ضجت بالعويل مجدداً لتدلف اليها الممرضة وتقوم بحقنها لذا كان الثلاثة وهم يحيى وسليم والمحامي احمد ينتظرون خارج غرفتها التي حملت رقم ستة وثلاثون ليخرج اليهم الطبيب بعد لحظات فقط سامحاً لهم بالدخول بعد ان استقرت حالتها قليلاً .
هرع اليها سليم مقبلاً يدها وهو يطمئنها ان كل شيء سيكون على ما يرام وقف بجانبه والده الذي اتخذ قراراً بالصمت بينما جلس احمد على كرسي ابيض جلبته له الممرضة ليستقر بجانب سرير ليلى والتي كانت ترتدي لباس المستشفى وجهها كان محمراً مغطى بالدموع وعينيها كانتا متورمتين شعرها القصير متناثر فوق كتفيها بأهمال ، ما ان ابتعد عنها سليم حتى جلس بجانبها فوجهت نظرها ناحيته ، ابتسم لها بخفة ممسكاً بكفها بكلتا يديه قائلاً ببعض البشاشة :
-عَلَيْكِ ان تكوني قوية يا خالتي فَأنْا لم اعهدكِ يوماً بهذا الضعف .
تقوست شفتاها للأسفل بحزن وانسكبت دموعها بقهر قائلة بصوتها المبحوح :
-من اين لي بالقوة يا ولدي ابنتي عانت المر وها هي بعيدة عني لا اعرف لها سبيلاً ولا اعلم ما آلِ اليه حالها .
عاودت البكاء بهدوء ليضغط على كفها مواسياً ثم تحدث ببشاشة مجدداً :
-امي لا تقلقي المحامي احمد صديق قديم لوالدي وهو من سيساعدنا .
وجهت نظرها اخيراً الى الرجل الجالس بجوارها والذي ابتسم لها بخفة ثم تحدث بلباقة :
-مدام ليلى انا سأتكفل بقضية ابنتك واعدك بأنني سأخرجها من الحبس ولكن عَلَيْكِ مساعدتي لأتمكن انا من مساعدتها .
صمتت ولم ترد عليه فبدى وكأنها لم تستوعب حديثه فأكمل كلامه وهو يخرج من حقيبته الجلدية السوداء دفتر اسود اللون بغلاف جلدي مع قلم جاف اسود ثم ارجع ظهره الى الخلف متكئاً واضعاً قدماً فوق الاخرى وأخيراً وضع الدفتر فوق قدمه ليتمكن من تدوين ما ستقوله ثم نظر اليها بتركيز قائلاً ببعض الجدية التي لم تخلو من اللباقة :
-اخبريني بتفاصيل الحادثة لو سمحتِ .
احنت رأسها وأرتكزت بنظرها على كفها القابع بحضنها لتنظر الى الاخر القابع في داخل كف سليم الذي ضغط عليه بخفة وكأنه يواسيها بوجوده فتحدثت وهي تستعيد بعقلها تلك الحادثة للمرة الألف ربما :
-ابنتي كانت في المدرسة وهي تخضع لأمتحانها الاخير وانا كالعادة كنت استعد للرحيل الى عملي ، ما ان فتحتُ الباب حتى وجدت بشير في وجهي ! دفعني للداخل واغلق باب خلفه ثم حاول الاعتداء علي !
تجعدت ملامحها وانسكبت دموعها مجدداً فتحدثت بصوتها الذي أرهقه البكاء المستمر دون انقطاع فبات يصعب عليها الكلام :
-قاومت وصرخت كثيراً ولكن بلا جدوى فلقد كان الجميع في عمله في ذلك الوقت خلال لحظات وجدت آيلين وهي تحاول الدفاع عني !
سحبت نفساً عميقاً وهي تمسح دموعها بكف مرتجف لتكمل حديثها وقد ظهرت اللوعة في نبرة صوتها المنكسرة :
-لم تستطع فعل شيء كان أقوى منا نحن الاثنتين ، ابنتي أصلاً هزيلة الجسد بالكاد تملك بعض القوة لتتمكن من السير وأداء وظائفها بطبيعية !
أطلقت شهقة خافتة من بين شفتيها فزاد سليم من ضغطه على كفها وهو يحاول كبح دموعه المستقرة فوق جفنيه فأكملت حديثها يتخلله بكاءها :
-كلما سمعته هو دوي صوت الرصاصة ! خفتُ كثيراً وقتها وظننت ان ابنتي حدث لها شيء ، فوجدتها راكعة بقربي تحدق بلا انقطاع الى بشير المرمي جانباً بقربي وهو غارق في دمائه ! ثم لا اعلم مالذي حصل فلقد وجدت الظلام قد لفني من كل جانب ولم اجد نفسي الا وانا هنا لا اعلم مالذي اصاب فلذة كبدي !
ثم وجهت نظرها ناحية احمد الذي دون بالحرف الواحد كلما قالته لتتحدث معه برجاء ودموعها لم تتوقف لوهلة عن السقوط :
-ابنتي لم تفعل شيئاً يا حضرة المحامي ، صدقني هي بريئة فهي لم تؤذ أحداً ..
ثم انخرطت في نوبة من البكاء وهي تردد " ابنتي بريئة لم تتقصد فعلها " زفر احمد انفاسه وهو يرى الحال الذي آلت اليه الأمور ثم تحدث اخيراً وهو يقترب منها مربتاً على كتفها :
-سأخرجها وسأثبت برائتها اعدك بذلك .
حاول بعدها الاستفسار منها عن هوية بشير ومن يكون بالضبط ولكنه لم يلقى منها جواباً فخرج من غرفتها برفقة صديقه يحيى بينما آثر سليم البقاء بجانبها حتى تهدأ لربما تستكين وتقرر ان تخلد الى النوم .
ودع احمد رفيقه وخرج من المستشفى بأكملها وهذه المرة عزم على مقابلة المتهمة بجريمة القتل "آيلين" ، وصل الى مخفر الشرطة في وسط اسطنبول ودلف الى مكتب مدير المخفر "اسماعيل هاتان " وبعد ان تبادل الاثنان التحية جلس احمد على الكرسي الجلدي مقابل لمكتب اسماعيل شارحاً له بأختصار ما حصل ثم عرض عليه افادة ليلى وبعدها طلب ان يلتقي بالمتهمة وبالطبع تم السماح له بذلك فخرج يقوده احد أفراد الشرطة الى غرفة التحقيق فجلس على كرسي جلدي خلف الطاولة الخشبية ليُفتح الباب بعد لحظات ويكشف عن فتاة هزيلة الجسد مصفرة الوجه ذات عينين متورمتين تشبه الى حد كبير والدتها القابعة في المشفى ، شعرها القصير كان منفوشاً بينما ارتدت تيشيرت ابيض طويل الأكمام مع بنطال منزلي اسود اللون دلفت بخطى مترنحة وهي مقيدة اليدين ليقتادها الشرطي ويجلسها على الكرسي الاخر امام احمد الذي اخذ يحدق اليها بتفحص ثم خرج الشرطي مغلقاً الباب خلفه ، اخذت تحدق اليه بثبات ولم تصدر عنها ردة فعل واحدة حتى بل بدت له كقطعة من الجليد ، تحمحم قاطعاً الصمت الذي لف الارجاء ثم تحدث اليها بلباقته المعتادة :
-اهلا انسة آيلين انا محاميكِ الخاص واسمي هو احمد الكان اوغلو .
لم تحرك ساكناً واستمعت له بصمت فأكمل حديثه وهو يشابك يديه فوق الطاولة :
-لقد تمكنت من لقاء والدتكِ ..
وقبل ان يكمل قاطعته منتفضة قائلة بلهفة :
-هل هي بخير ؟
ابتسم قليلاً ثم تحدث اليها بود مبدداً خوفها :
-انها بخير لا تشغلي بالكِ لقد حكت لي كل ما حدث معكما .
عادت لصمتها مجدداً وهي تحدق اليه بأهتمام وقد التمعت طبقة شفافة من الدموع على سوداوتيها فأكمل حديثه :
-ما فعلته كان دفاع عن النفس فقط وهو يندرج تحت مسمى " القتل الغير متعمد " لذا سيأتي الان احد المحققين ليأخذ إفادتك وبعدها سنرى ما يمكننا فعله ونحن معاً سنعمل على إثبات برائتكِ انا وانتِ يا آيلين معاً ، اتفقنا ؟
اومأت له بسرعة ليشير بيده خلفها حيث قبعت نافذة زجاجية يرى انعكاسه فيها ومن خلفها قبع ثلاثة محققون برفقة كاميرات مراقبة ليروا سير الاحداث ، خلال لحظات دلف اليهم شاب بدى انه في أواخر العشرينيات ذو شعر اسود وعيون زرقاء حادة فجلب له الشرطي الواقف عند الباب كرسياً ليجلس عليه بجانب المحامي احمد ، جلس امامها معرفاً عن نفسه :
-انا المحقق يلماز وانا المسؤول حالياً عن قضيتكِ ، سأقوم الان بأخذ افادتكِ وعليكِ اخباري بأدق التفاصيل ، تمام ؟
اومأت له بهدوء ليبتسم لها برسمية قائلاً :
-جيد .
ثم اطلق نفساً خفيفاً ليبدأ بطرح أسئلته مراقباً اياها بدقة ليعلم بخبرته كمحقق ان كانت صادقة ام كاذبة :
-من هو بشير تشيسكين ؟
-لا اعلم .
حدق اليها رافعاً حاجبه الأيمن ببعض العجب فعلق على كلامها :
-لا تعلمين !
اومأت له إيجاباً مكملة حديثها :
-لقد ظهر فجأة وهو يطالب بأمواله حاله كحال غيره .
سحب نفساً عميقاً ثم أطلقه بهدوء ليسألها مجدداً :
-كم شخص انتم مدينون له ؟
-لا اعلم .
-مجدداً لا تعلمين !
قالها بأستنكار وهو يميل برأسه ناحية كتفه الأيمن قليلاً لتجيبه وقد بدأ الغضب يحتل ملامحها الذابلة :
-اسأل والدي فهو الذي أوقعنا في هذه البلوة التي لا تنتهي .
ثم عقدت حاجبيها غاضبة ليلوي شفته ساخراً سائلاً اياها :
-وأين والدكِ ؟
-في السجن .
توسعت عينيه بدهشة ليجيبه احمد مقاطعاً التوتر الذي بدأ يسود في الجو بينهما :
-تم سجن عمر ديمير بتهمة العنف ضد كل من ابنته وزوجته وستكون محكوميته لمدة سنة فقط !
أومأ له المحقق وهو يحدق اليه بطرف عينه ثم عاود النظر الى آيلين التي ترمقه بنظرات عدائية فتحدث بعد ان بلل شفته السفلى بطرف لسانه :
-قرأتُ سيرتكِ الذاتية وعرفتُ عنكِ الكثير ، منها انكِ فتاة حادة العصبية تعانين من كآبة في مرحلة متقدمة !
شعرت به يستفزها لذا تسارعت انفاسها غضباً بينما قاطعه احمد ملتفتاً ناحيته بكامل جسده قائلاً :
-يا حضرة المحقق رجاءاً لا داعي لكل هذا الان ..
اجابه الاخر بحدة وهو يطالعه بطرف عينه :
-لا تقاطعني رجاءاً ودعني أقوم بِع...
قاطعته هي بحدة بعد ان نفذ صبرها :
-هل ستأخذ إفادتي ام لا ؟
رمقها بنظرات هادئة قبل ان يتحدث مجدداً بذات النبرة الساخرة :
-انا مسبقاً اعلم بما حصل !
حينها هتفت به غاضبة :
-وما الجدوى من كل هذا الهراء الان ؟
حينها اعتدل في جلسته قائلاً بحدة :
-أنْتِ امام محقق ذو مكانة محترمة ومرموقة لذا انتبهي لكلامكِ .
نهضت وقد تملكها غضب شديد ليسقط الكرسي أرضاً خلفها ثم اصبحت تتحدث بصوت عالاً مخاطبة اياه وهي تضرب الطاولة بيديها المكبلتين بعنف :
-لا تهمني من أنتَ او من اين اتيت انا بريئة انا اتيت فقط لتأخذ إفادتي اللعينة وليس لأسمع هراء من طفل يحمل سلاحاً يعتقد نفسه محقق !
نهض هو الاخر غاضباً وقد علا صوته :
-من تنعتين بالطفل ايتها المجرمة ! أنْتِ بعين نفسكِ بريئة ولكنك مجرمة في نظر المجتمع وانتِ هنا في حضرة محقق له صيته يعمل على قضيتكِ بكل تفاني ، لذا أنْتِ هنا مرغمة على احترامي ولا تملكين اية حقوق سوى الصمت برضاكِ ، أفهمتِ؟
ردت عليه بصوت اعلى وهي تضرب الطاولة امامها وتدفعها بحيث تحركت للأمام مما أدى الى نهوض المحامي احمد الذي شعر بنفسه وهو يفقد السيطرة على الوضع :
-انا بريئة رغماً عنكَ وعن مجتمعكَ القذر ، انا حميتُ والدتي من قذر أراد هتكها لذا انا بريئة ولم اقتل احد عمداً لو كان بيدي لكنتُ قد قتلتكم واحداً واحداً واتخلص من امثالكَ ومن مجتمعكَ القذر هذا .
ثم فقدت السيطرة على نفسها لتصرخ في وجهه :
-سأخرج من هنا رغماً عن انفكَ لا توجد قضية لا يوجد محققين لا يوجد شيء انا فقط بريئة وسأخرج من هنا هل فهمت .
دخل شرطي من الخارج وتدخل احمد بعد ان فقد المحقق أعصابه وبات يرد على آيلين بقسوة حتى كاد يتهجم عليها وما ان خرج الجميع الى الممر حتى امسكها رجال الشرطة محاولين اقتيادها اما هو فلقد وقف امامه احمد حائلاً بينهما اضافة الى المحققين اللذين كانا في غرفة المراقبة فلقد امسكاه من يديه فنفض يديهما عنه قائلاً بحدة وهو يلهث انفاسه مشيراً بسبابته بعصبية نحوها :
-لن امرر هذا  لكِ سترين ايتها المجرمة سأجعل امثالكِ من مسوخ المجتمع يتعفنون في السجن .
لوت شفتها ساخرة لترد عليه بصوت عالي بثقة :
-هل تحسب إِنَّكَ تخيفني الان لست سوى طفل يحمل سلاحاً ويعتقد نفسه فاهماً كالبالغين ، أنتَ نكرة مقارنة لما حولكَ ولو كُنتَ محققاً يُعترف بكَ لمنحوكَ قضية حقيقية بدل ان يضعوك فوق رأسي وانتَ تردد هراء حفظته من كتب المدارس .
ثم أطلقت ضحكات ساخرة ليقتادوها الشرطة بعيداً عنه بينما فقد هو أعصابه وراح يشتمها بألفاظ سوقية فتركه المحامي ولحق بها ويلماز اقتاده زميلاه ناحية مكتبه المشترك معهما ، وصل احمد لعند آيلين التي كانت تتخبط في مشيها فأوقف الشرطيين على عجل لتقف امامه مطأطأة الرأس وكان جسدها يرتجف بخفة لقد علم حينها انها خائفة فربت على كتفها قائلاً بعتاب :
-مالذي فعلته يا آيلين هذا يعد تعدي على احد أفراد الشرطة وسيتم حسابه في ملفك وقد يظهر لنا مشاكل في المستقبل تحيل بيننا وبين برائتكِ .
وصله صوتها الخافت وهي تقول :
-اريد الذهاب .
سحبها الشرطيين سريعاً وتوقف هو في منتصف الطريق يحدق اليها ويشعر بنفسه قد وقع في عقدة لا حل لها .
وصلت الى زنزانتها ليتم فتح قيودها وإدخالها هناك فأرتمت أرضاً متكئة الى الحائط لتحتضن نفسها بيديها وبدأت دموعها تنسكب رويداً رويداً على وجهها ثم تجعدت ملامحها لتطلق شهقات متقطعة وهي تسترجع بعقلها ما حصل للتو ، كانت غارقة في خوفها والندم ينهشها ككلب جائع تهورها هذا جعلها تقع في مصيبة اخرى فوق ما هي فيه الان وبالتأكيد لن يمر الامر على خير ! فأصبحت تتخيل نفسها وهي بداخل زنزانة برفقة مجرمين خطرين لوحدها ولاحت امامها صورتها وهي تتعرض للضرب والاغتصاب من قبلهم فأقشعر بدنها وزاد نحيبها لتصرخ من بين شهقاتها :
-اين أنْتِ يا امي انا بحاجتكِ .







يتبع ....




                                                                  القاعدة الرابعة

                      "لا رحمة ، لا رأفة ، لا مغفرة هذا ما يسود العالم خارج احضان امك يا عزيزي "

********

اريد ان أوجه كلمة شكر الى متابعين روايتي الصامتين وأخبرهم انني سعيدة جداً بوجودكم حتى وان لم تتفاعلوا فيكفي انه كلما زاد عدد القراءة كلما اصبحت اسعد ❤️❤️
شكرا من كل قلبي ❤️

براءة مُدانة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن