Chapter-2

8.4K 119 4
                                    

#آيلين:
فتحتُ عيناي ببطء ليظهر امامي ضوء قوي اعمى بصيرتي لعدة دقائق حتى بتُ اعتاد عليه قليلاً  ثم فجأة تناهى الى سمعي أصوات متداخلة مع بعضها فهناك صوت نحيب وعويل و أصوات اخرى لأشخاص كانوا يتحدثون جميعهم في الوقت ذاته
كنتُ اسمع اصواتهم من الجهة اليسرى فقط اما من اليمنى فكان يصدر صوت طنين حاد رافقه الم شديد في طبلة أذني لينتشر في رأسي مسبباً لي صداعاً عنيفاً لم استطع تحمله اضافة الى الآلام الجسدية التي اخذت اشعر بها واحدة تلو الاخرى وكأنما جميع مواجعي قد استيقظت مع استيقاظي سرعان ما وصلت لأنفي رائحة المعقمات والادوية والتي جعلتني اعلم حالاً انني أرقد في المستشفى ولكن كيف وصلت ومتى ؟ لا اعلم ، اخذت اطرف جفناي محدقة الى السقف لينطلق لساني بالأنين بصوت منخفض سرعان ما علا بالإرجاء لأرى امامي رجل قد اقبل علي ولكنني لم اركز بملامحه بوضوح كان رأسي مشوش بالكامل وسمعي بات ثقيل وتلك الأصوات اخذت تعلو من حولي كل ما استطعت تمييزه من بينهم هو صوت نواح امرأة بالقرب مني على الجهة اليسرى ثم تلاشى صوت بكاءها ليحل محله صوت أنثوي اخر وهو يتحدث مع الرجل الذي على يميني تلا ذلك شعوري بوخزة قوية في ذراعي اليُسرى لأشعر بالخدر يسري في أطرافي ثم داهمني الظلام من كل جانب لأغط في سبات عميق أنقذني من تلك الآلام التي التهمتني مرة واحدة ومَدَني براحة لا مثيل لها .
*******
أستيقظت بعد مدة ، لا أعلم بالضبط كم لبثت نائمة ولكن فور استيقاظي عاد ذلك الطنين المزعج لينخر لي طبلة أذني اليمنى مسبباً لي التشوش اضافة الى صداع خفيف ، كان جسدي ثقيل قليلاً لذا اخذت احرك أطرافي ببطء متململة في سريري وكنتُ قد نسيت انني اقبع في المستشفى ! ما ان تراود ذلك الى ذهني حتى فتحتُ عيناي على اقصاهما ليقابلني ذلك الضوء مجدداً الا انه لم يؤذ بصري بل اعتدت عليه سريعاً ليقابلني السقف الابيض حركت مقلتاي في الارجاء في محاولة مني لأستكشاف مكاني ولأعلم أيضاً من يرقد بجانبي وان لم أكن في حاجة الى ذلك فَأنْا اعلم ان ذلك الجسد النائم على سريري في وضعية الجلوس وهو يحتضن قدماي لم يكن سوى والدتي ، لمحتها بطرف عيني ، نهضت رويداً رويداً لكي لا أتسبب في إيقاظها لأشعر بعظامي وهي تؤلمني وتراود الى سمعي صوت طقطقة  عمودي الفقري ، اسندتُ نفسي بيدي اليسرى لاتحرك بخفة وانا اعدل الوسادة خلفي فأتكئتُ عليها محاولة ان لا احرك يدي اليمنى التي تخترقها إبرة المغذي الذي كان على وشك النفاذ !
لا بد من انني نمتُ لأربع ساعات او اكثر فهو يستغرق وقتاً لكي ينفذ المحلول من العلبة ، ثم نظرتُ الى يدي الاخرى والتي كانت مضمدة ثم رفعتها وتحسستُ راسي لقد كان ملفوفاً بالكامل لدرجة انني لم استطع إمساك شعري حتى ظننتُ انني قد خضعتُ لعملية جراحية !
شعرتُ بالذعر وانا أفكر بذلك ثم أخرجني من غمرة افكاري حركة والدتي وهي تنهض على مهل وما ان شاهدتني حتى أنقضت علي وهي تحتضني ليصدر صوت بكائها بعد لحظات فقط رافقه سقوط دموعها بغزارة والتي شعرتُ بها تبلل ثوب المستشفى الذي غطى جسدي ، توترت ولم اعلم كيف اواسيها وحينئذ كان عقلي فارغاً لم يخطر ببالي لما والدتي تبكي وتحتضنني هكذا وكأنني كنتُ بعيدة عنها في رحلة طويلة وعدتُ اليها بعد لحظات فقط !
شردتُ مجدداً في قعر أفكاري محاولة أستذكار مالذي حصل بالضبط لي وبعدها انسابت الذكريات الى عقلي ليعود مشهد شجار والداي وضرب ابي لكلتينا ليمثل امام مخيلتي بوضوح ، وعيتُ على نفسي وعدتُ الى واقعي حينما رفعت والدتي ذقني بأناملها المرتجفة لم استعد وعيي بشكل كامل لذا كنتُ أحدق اليها مشدوهة ولا أعي ما الذي  كانت تتحدث به بالضبط كل ما اراه امامي هو شفتيها وهما تتحركان !
كنتُ مصدومة ! هل هذه حقاً والدتي ! اهذا حقاً ذلك الوجه الجميل الذي كنتُ أحدق اليه في المرآة ؟ لقد كانت مشوهة بالكامل ! عينيها السوداوتين كانتا متورمتين يغلب عليهما الحمار وبعض اللون البنفسجي شفتها السفلى مجروحة بجرح عميق يشقها من جانبها الايسر وهناك آثار دماء جافة تحت انفها ! لم أكن مستغربة كثيراً حالما بدأتُ بتفرسها رويداً رويداً فلقد اعتاد والدي على تشويه جمالها بتلك الكدمات التي لا تترك عليها سوى اثار زرقاء وحمراء وآثار خدوش تبقى ظاهرة لمدة طويلة حتى تختفي بعدها تدريجياً وخلال هذه الفترة تحبس والدتي نفسها في المنزل ولا تخرج منه حرجاً من منظرها امام الناس .
كانت الغصة قد علقت في حلقي وسببت لي الماً فظيعاً وشعرتُ بوخز عميق في قلبي لتنهمر دموعي لا ارادياً حيث لم استطع كبحها اكثر من ذلك ، لقد ارهقني ما حل بوالدتي ، قامت بأحتضاني فوراً ليتسلل صوتها الى مسامعي بقلق وقد كان مبحوحاً ومتعباً جداً كانت تسألني ان كنتُ أتألم ولكنني اكملت نواحي وانا احتضنها لأدفن رأسي في صدرها واصبحت شهقاتي متقطعة بينما اخذت والدتي تربت على رأسي وهي تواسيني وتعدني ان كل شيء سيكون على ما يرام ، هدأتُ بعد مدة لأرفع رأسي عن حضنها ثم حدقت اليها لتفعل هي المثل  ثم اخذت تمسح بأناملها البيضاء الطويلة دموعي التي أغرقت وجنتي ، كانت هذه مرتي الاولى التي انفجر بها بالبكاء امام والدتي فَأنْا معتادة على التصرف امامها بأعتيادية وأكبتُ ما بداخلي من ألم وما أن أختلي بنفسي حتى أخرج كل دمعة وشهقة وزفرة بداخلي ، ابتسمت لي وقد غلفت الدموع مقلتيها لتنسكب على خديها المتورمين وضعت يديها على وجنتي لتكور وجهي بين كفيها وهي تسألني وقد خف القلق من صوتها قليلاً :
-كيف تشعرين يا صغيرتي ؟ هل لا زلتِ تتألمين ؟
اومأت لها نفياً بهدوء ورسمتُ ابتسامة على شفتي ثم سألتها بصوت خافت لأنني لا أزال متعبة وقد نال مني التعب اكثر بعد بكائي :
-كيف حالكِ أنْتِ ؟ هل تتألمين ؟
ابتسمت بهدوء وقد استحلت الطمأنينة قسمات وجهها قائلة :
-انا بخير يا صغيرتي لا تشغلي بالكِ بي المهم انكِ بخير .
ثم طبعت قبلة على جبيني وقبل ان أهم بسؤالها مجدداً نهضت بخفة لتزيل ذلك الغطاء المرتمي على الارض وتقوم بطيه لتضعه على كرسي ابيض استقر بجانب سريري ثم اتجهت الى الباب وفتحته منادية على اي احد لينادي على الطبيب ، ثم عادت الي مجدداً بعد دخول ممرضة برفقة الطبيب والذي بدى بشكل ما مألوف لدي !
اقترب مني ملقياً السلام لأرد عليه وانا اخفض راسي فَأنْا لستُ معتادة على التحدث الى الغرباء ، جلس على حافة السرير ثم اقتربت مني الممرضة لتزيل إبرة المغذي من ذراعي بعدما طلب منها ذلك وكم تألمت حينما فعلت ذلك !
وضعتُ يدي على صدري وغطيتها بالأخرى لأمسد عليها محاولة تخفيف شعور الالم والخدر الذي اعتراها بينما نطق الطبيب الجالس امامي مُحدثاً اياي ببشاشة :
-كيف حالكِ اليوم يا آيلين هل تشعرين بتحسن ؟
اومأتُ له إيجاباً لأحول بصري بينه وبين والدتي بتوتر بينما الممرضة فلقد خرجت منذ لحظات فقط، اخذ نفساً عميقاً ثم نهض بخفة قائلاً :
-سأقوم الان بفحصكِ للاطمئنان عَلَيْكِ تمام .
كنتُ أحدق اليه بتوتر اكبر عن ذي قبل وزفرتُ أنفاسي بخفة فسمعتُ والدتي وهي تخاطبني من خلفه محاولة ان تبث في بعض الطمأنينة :
-لا تقلقي يا آيلين سيقوم الطبيب بفحصكِ قليلاً للأطمئنان عَلَيْكِ فلا تخافي .
اومأتُ مجدداً واخذ قلبي يطرق بعنف فسحب الطبيب الغطاء عني فخفتُ منه وقمتُ بأعادته فوراً فوقي ليطلق ضحكة خفيفة ثم عاد لطمأنتي مجدداً بعد ان ازال الغطاء بحركة بطيئة ، شعرتُ بالقشعريرة تسري في جسدي مسببة لي الشعور بالبرد عاود الجلوس على طرف السرير مجدداً حيثُ امتدتُ يده بخفة متناولة يدي ثم اخذ يضغط عليها قليلاً لأزالة الخدر الذي استولى عليها ثم تفحص الكدمات التي كانت تعلوها والتي لم انتبه لها سوى الان فقط فعل الامر ذاته مع يدي الاخرى ثم نزلت يداه الى قدمي محاولاً ابعاد ملابسي عني حينها ضربتُ يده بقوة وتكورت على نفسي وانا ارمقه بحدة فرفع يديه مستسلماً بينما اقتربت مني والدتي معانقة اياي محاولة التهدأة من روعي اطلق ضحكة اخرى ثم تحدث بنبرة ودودة :
-لا تقلقي يا آيلين عملي كطبيب هو ان أقوم بفحصكِ للتأكد من سلامتكِ ولن افعل لكِ اي شيء قد يضر بِكِ او يمسكِ بسوء .
زادت حدة تنفسي وكان كل تفكيري منصباً نحوه حيث لم أكن استمع الى ما كانت تقوله لي والدتي بعد لحظات عدتُ الى وضعيتي الاعتيادية في الجلوس لأحدث هذا الطبيب الذي يثير بي شعوراً بالريبة بنبرة حادة :
-اريد ان تقوم طبيبة بفحصي وليس أنتَ .
عاود الجلوس على حافة السرير ساحباً انفاسه بخفة قائلاً ببعض الجدية زاماً شفتيه واضعاً يديه واحدة على السرير والأخرى تقبع في حضنه :
-للأسف عدد الطبيبات عندنا قليل لذا لن نجد طبيبة لفحصك ولكن ..
اكمل كلامه وهو يرفع حاجبيه :
-سأطلب من مساعدتي ان تقوم بفحصكِ نيابة عني . اتفقنا ؟
ختم جملته بتساؤل وهو يزفر انفاسه براحة بعد ان رأى معالم الرضى ترتسم على ملامحي ولكنني لم ابعد تلك النظرة الحادة من عيناي كتحذير له !
كنتُ صامتة في تلك الفترة التي جائت بها مساعدته الممرضة الشابة وهي تقوم بفحص الكدمات التي تعرض لها جسدي على مهل بجانبها تقف والدتي التي تعلقت عيناي بها ولم استطع أبعادهما عنها ، كنتُ اهمس للممرضة مراراً وتكراراً انني بخير واطلب منها الاعتناء بوالدتي ولكنها كانت تومئ لي بتفهم وتقول انها ستفعل ذلك لاحقاً .
كنتُ شاردة في معظم الأوقات خاصة بعد ان اخبرني ذلك الطبيب بكوني قد بقيت نائمة يوماً كاملاً بسبب ما تعرضتُ  له من عنف على يدي والدي ثم تلا ذلك مدة بقيتُ فيها لوحدي حيث ذهبت والدتي للقيام بفحص للمرة الاخيرة بعد ان الححت عليها بذلك وفِي تلك الأثناء جاءت الشرطة للقيام ببعض التحقيقات معي فدخل ذلك الطبيب برفقة احدهم فشعرت بالذعر لفكرة وجودي وحدي معهما فوالدتي ليست بجانبي لتساندني كما اعتدتُ دائماً اتخذ الشرطي مكانه بقربي حيث جلس على ذلك الكرسي الابيض  يحمل بيده مذكرته وقلمه استعداداً لتدوين كل ما أقوله بينما جلس الطبيب بقربي على السرير معطياً اياي ابتسامة بثت بداخلي بعض الطمأنينة التي احتاجها قلبي ادرتُ رأسي ناحية الشرطي الذي بدأ بأستجوابي بنبرة جدية والصرامة كانت تملئ قسمات وجهه :
-ما الذي جرى بالضبط آنسة آيلين ؟
اخفضتُ رأسي الى حضني ومجدداً عادت تلك المشاهد تخترق مخيلتي وتمر امامها كفيلم سينمائي عنيف !
ثم انطلق صوتي على مهل تغلفهُ نبرة التعب وقد شعرتُ بالعبرة تخنقني :
-لقد تعرضنا للضرب انا ووالدتي على يد والدي .
ثم ابتلعت ريقي محاولة التخفيف من الم الغصة العالقة في عنقي لأكمل كلامي :
-ككل مرة .
عاود سؤالي مجدداً ولم يزح ناظريه عني للحظات حتى :
-وهل اعتاد والدكِ على تعنيفكما دائماً ؟
اومأت له إيجاباً فسأل مجدداً :
-لما يفعل ذلك ؟ هل هناك أسباب قوية تدفعه الى العنف ام لأنه معتاد على ذلك ؟
لم ارفع ناظري عنه وكان التوتر والحزن يجولان في داخلي لذا تحدثتُ اليه بصوت متقطع :
-لا اعلم ! لقد اعتاد على ذلك منذُ ان كنتُ صغيرة ولكنه ازداد عنفاً مؤخراً !
دون ما قلته ليردف قائلاً :
-قولي لي كل ما يتعلق بوالدكِ يا ابنتي ، من يكون وماذا يعمل ومتى بدأ بتعنيفكما .
صمتُ لعدة دقائق ،ملئني الحزن لسبب لم اعلمه ثم تساقطت دموعي رغماً عني وتجعدت ملامحي كان الهواء العليل يلفحني من خلال النافذة المفتوحة لكنه لم يزدني الا احتراقاً وكأنني كنتُ شعلة من النار لا شيء قادر على إطفاء لهيبها اخذت عدة دقائق فقط لأتحكم بنفسي قليلاً مانعة اياها من الانجراف في البكاء اكثر ثم تكلمت بصوتي الباكي ودموعي لم تهدأ لوهلة بل كانت تنساب بغزارة كلما حاولت السيطرة عليها اكثر وَكَأنْ بداخلي ينابيع تفجرت وخرجت للعلن بعد زمن طويل من كبتها :
-والدي ..عمر .. كان يعمل شرطياً وكنا نسكن ازمير في منزل جدي اي والده .
ابتلعتُ ريقي مجدداً وقد هدأتُ قليلاً لأتكلم بشكل افضل قليلاً :
-كان يحمل عبء كبير على عاتقه وقتها ، فجدي كان مريضاً وكان يعاني من مشاكل في القلب وعمي كان طالباً في الكلية في سنتهُ الثالثة .. كان يحتاج الى الكثير من المصاريف التي لم يستطع توفيرها لنفسه ولم تكن هناك وظائف شاغرة تمكنه من العمل والحصول على المال فضلاً عن وجودي انا ووالدتي حيث كنّا لوحدنا مسؤولية كبيرة على والدي .
مسحتُ دموعي بيدي اليمنى وشعرتُ بالطبيب وهو يربت على ظهري مواسياً لي لكنني اكملت ولم اعره اهتماماً :
-والدي لم يكن ينوي الزواج في ذلك الوقت ولكن جدي اصر عليه كثيراً لذا اضطر للزواج في ظل تلك الظروف الصعبة وأكثر ما اثقل كاهلهُ هو ولادتي في وقت مبكّر لم يكن يتوقعه !
قاطعني صوت الشرطي الذي أخرجني من ذكريات حياتي الماضية متسائلاً :
-وهل أنْتِ الابنة الوحيدة له ؟
اومأت له إيجاباً ليسود الصمت بعدها فعلمت انه ينوي مني الأكمال ففعلت :
-كان والدي عصبياً منذ ان وعيتُ على هذه الدنيا ، لم يكن يلعب معي كثيراً واصلاً لم يكن له وقت ليبقى معنا خاصة بعد ان تم نقله الى دائرة اسطنبول للعمل فيها وانتقلنا نحن معه ، كان والدي يتركنا لفترات طويلة للاعتناء بجدي  الذي توفي ولحق بجدتي بعدها بسنة بعد ان اشتد عليه المرض وعمي  انتقل للعيش في الأقسام الداخلية لكليته وبعد عشر سنوات تقاعد والدي من عمله .
همهم لي الشرطي لأوجه نظري اليه لأجده يدون تلك المعلومات ثم قال ناظراً الي :
-وما الذي حصل بعد ذلك ؟
اجبته واعدت بصري ناحية يداي المتشابكتان في حجري :
-كانت المعيشة في اسطنبول صعبة علينا فوالدي لم يحصل على وظيفة بتلك السرعة الا بعد أشهر عمل كقصاب وتلك الوظيفة لم تستطع ان توفر لنا مال كافي لاطعامنا حتى لذا اخذنا ننتقل كثيراً على مدار ثلاث سنوات حتى استقرينا اخيراً في منزلنا الذي يعود لاحد اصدقاء والدي حيث سمح لنا بدفع الايجار كل شهرين تقريباً ثم اصبح بعد  ذلك يقترض الأموال من بعض معارفه هنا ليدبر به وضعنا مؤقتاً حتى زادت عليه تلك الأموال ولم يعد يستطيع دفع ديونه فتركنا منزنا ذاك وانتقلنا للعيش في حي فقير في منطقة " سيفيل "  حيث سكنا منزل مستأجر اخر ولكن ثمنه بخس .
قاطعني صدوح صوت الشرطي الذي اخذت أحدق اليه وهو يدون مجدداً في مذكرته السوداء الصغيرة قائلاً :
-وكيف تمكنتم من دفع الايجار ؟
أطلقت نفساً عميقاً لأحول بصري للأمام لأجيبه وانا أكتف يداي الى صدري :
-لقد باع ذهب والدتي ودفع الايجار ثم قمنا ببعض الإصلاحات في المنزل في الباقي حتى اصبح قليلاً صالح للعيش فيه !
وجهت نظري اليه مجدداً ليغلق مذكرته ويحدق الي ولا زالت الجدية تعتلي ملامحه ومتى فارقته أصلاً !
ثم نطق بصوته الرجولي الخشن قائلاً :
-اسمعي يا صغيرتي سيتم البحث عن والدك واعتقاله بتهمة العنف الاسري وايضاً لأستدانته مبالغ مالية ضخمة وقيامه بعدم تسديدها فذلك يعد نوعاً من انواع السرقة  لذا سيتوجب عليكم بصفتكم عائلته بتسديد تلك الديون لتخفيف عقوبته .
كنتُ أحدق فيه فاغرة فاهي بتعجب وشعرت بسعادة غامرة بداخلي ممزوجة بالدهشة هل حقاً سنتخلص من والدي بتلك السهولة ! تحمحم مخرجاً اياي من غبطتي ليستأذن للخروج لم أكن منتبهة لكل ما يجري حولي فلقد عدتُ الى شرودي مجدداً وانا اتخيل حياتنا بدون والدي ، انا ووالدتي فقط نعيش لوحدنا نفعل ما نريده من دون تدخل من احد ! شعرت بالابتسامة تشق شفتاي من الإذن للإذن أخرجني من شرودي مجدداً صوت ذلك الطبيب الذي ناداني بهدوء فرفعتُ راسي ناحيته لاجده جالس امامي يطالعني بأعينه الزرقاء وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة لطيفة !
شعرتُ بالريبة منه فاخذت ابتلع ريقي بصمت منتظرة منه ان يتحدث ويقول ما عنده وكنتُ اشد على الغطاء بكلتا يدي بتوتر زفر نفساً عميقاً قائلاً بود :
-لا حاجة للتوتر هكذا يا آيلين ، ..
ابتلعتُ ريقي بتوتر اكبر هل يبدو الخوف جلياً على وجهي لهذه الدرجة ؟ اكمل حديثه وانا استمع له بصمت اترقب كل حركة تصدر منه مع دقات قلبي التي علت وهي تطرق بعنف :
-تبدين سعيدة بما قاله لكِ ذلك الشرطي قبل قليل !
اخفضتُ راسي عاقدة حاجباي وقد شعرت بالحرج لم أكن اعلم انه يراقبني أصلاً ! اكمل حديثه وقد اظهر بعض الحنية في صوته :
-لا الومكِ على ذلكِ يا آيلين فلا داعي لتخفضي رأسكِ بحرج هكذا .
استمعتُ له بصمتُ ولم ارفع راسي متجاهلة حديثه ليكمل هو على اي حال متجاهلاً هو الاخر ردة فعلي بعد ان اطلق نفساً عميقاً :
-اسمعي يا آيلين أنْتِ محقة في كرهكِ لأبيكِ ولكن جميع الأطراف هنا مظلومة أنْتِ ووالدتكِ ووالدكِ ، صدقيني لا يوجد رجل في هذا العالم يكره طفله من صلبه مهما ما بلغت قسوته فهو يكن له حباً عظيماً بداخله ولو كان في ظروف اخرى لوجدتِ فيه ذلك الأب الحنون الذي سيحسدكِ عليه الجميع قد يتم حالياً سجن والدكِ واتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه ولكنه لن يمكث في السجن طويلاً عاجلاً ام آجلاً سيخرج لذا اعطوه فرصة اخرى لربما يغير من نفسه ولو قليلاً ، تذكري يا آيلين ان كل إنسان يعيش في هذا العالم لا يملك له مأوى سوى عائلته
لذا مهما بلغت قساوة ابيك فقط سامحيه أريه انكِ تحبينه وان لم تكوني كذلك وقفي بجانبه حتى لربما توقظين شيئاً بداخله وتجبرينه على تغيير نفسه من اجل نفسه ومن اجلكما أيضاً .
اثر كلامه كثيراً بداخلي ووجدتُ طبقة من الدموع عادت لتحجب عني الرؤية فتساقطت على مهل للأسفل لتستقر فوق كفاي المتشابكان لم أجرؤ على رفع راسي حتى لكي لا يرى دموعي ولكنني شعرت بيده تربت بخفة على رأسي ليتحدث مجدداً بتلك النبرة الحانية والتي لسبب ما أشعرتني بالارتياح وارغمتني على البكاء اكثر !
-لا تبكي يا صغيرتي الحياة امامكِ طويلة صدقيني كل شيء سيمر وسيصبح على ما يرام وستبقى هذه كلها مجرد ذكريات سيئة تُمحى مع مرور الزمن وستعودون عائلة سعيدة مجدداً .
أطلقت تنهيدة عميقة وأخذت أحدق الى كفاي بلا انقطاع وكأنني احفظ تفاصيل يدي انشاً انشاً ، شعرت به ينهض من مكانه ليقف امامي كل ما اراه هو نصفه السفلي فقط حيث كان يضع يديه في جيبه ليتحدث قائلاً :
-داومي على راحتكِ من الان فصاعداً لتتعافي بسرعة ولا تشغلي ذهنكِ بشيء اخر فقط ركزي على دراستكِ وصحتكِ سأصف لكِ بعض الأدوية المشهية والفيتامينات لتسترجعي صحتكِ وتكتسبي بعض الوزن.
اومأتُ له إيجاباً ليرحل فرفعت راسي أحدق الى اثره اخذت اطلق تنهيدات متتالية وانا أحدق الى أركان الغرفة شبراً شبرًا وكأنني ابحث في زواياها عن شيء خفي ليُفتح الباب وتتوجه حدقتاي ناحيته حيث أقبلت من خلاله والدتي وهي تبتسم برفقتها ابن جيراننا " سليم " ووالدته " فهيمة " أعطيتهم ابتسامة صغيرة ليقبلا علي وهما يتحمدان لي السلامة ، جلست الخالة فهيمة بقربي على حافة السرير بعد ان طحنت عظامي بعناقها وقبلاتها ماسحة دموعها التي أغرقت وجهها بثواني وقفت الى جانبها والدتي اما سليم فلقد وقف على الناحية اليسرى من السرير وقد أهداني باقة ورود مع علبة شوكلاتة ثم علت ضحكاتنا الممتزجة بأحاديثنا حتى انستني كل ما حل بِنَا تلك الدقائق القليلة التي تحدثنا فيها كانت كافية لتمنحني بعض السرور والبهجة وبعضاً من الدفئ الذي لم أحظى به منذ زمن ، طويل ربما .
****************
الساعة (1:00am):
كنّا قد خرجنا من المشفى اخيراً بعد شراء الأدوية التي وصفها ذلك الطبيب الذي عرفت فيما بعد ان اسمه " علي"
والتي أغلبيتها كانت أدوية فاتحة للشهية من اجلي مع بعض المسكنات وها نحن ننطلق الان في سيارة سليم حيث يجلس في مقعد السائق بقربه والدته وانا وامي جلسنا في الخلف ، كان الثلاثة يتحدثون بينما انا استمع لهم بصمت واشترك في الحديث بين فينة واُخرى كنتُ اشعر بالراحة ونسمات شهر فبراير الباردة تلفحني جاعلة اياي استنشقها لتهوي في جوفي لأشعر بالراحة اكثر كان الجو غائماً شديد البرودة مع بعض ندفات الثلج التي بدأت بالتساقط بخفة بعد لحظات اشتد الجو برودة لاغلق النافذة وانا أحدق الى الثلج الذي غطى كل مكان تقريباً ليصطبغ كل شيء باللون الابيض ، كان الناس يرتدون معاطفهم الثقيلة يحملون مظلاتهم في أيديهم فقد قيل ان الليلة ستكون ماطرة وسيكون المطر غزيراً .
مررنا في طريقنا الى احد المطاعم لنأخذ بعض الطعام حتى وصلنا الى منزلنا كان هناك العديد من الضجة في الحي ! سيارة الشرطة كانت في الجوار وجميع الجيران مجتمعين امام منزلنا !
توقف سليم بسيارته ثم ترجل منها مسرعاً وهو يخطو نحوهم بسرعة تبعته والدته ووالدتي وسارتا في الثلج بصعوبة حتى وصلوا الى ذلك التجمع تبعتهم انا ببطء وجسدي كله اصبح يرتجف بعنف !
لم أكن أتوقع ان تصل الشرطة بهذه السرعة لأعتقال والدي فوقفت أحدق الى ما يحدث من بعيد حيث تناهى الى سمعي صوته الغاضب وهو يسب ويشتم حتى ظهر من بين الجموع مكبل اليدين يمسكه رجلان من الشرطة بينما كان رفيقهما الثالث يبعد الناس عن الطريق ، لم يرني ولم ينتبه الي وانا أساساً لم أتحرك من مكاني ، لم استطع وصف شعوري في هذه اللحظة الان بالذات والتي اطلق عليها بمسمى خيالية ! فها انا واقفة قرب سيارة سليم التي لا زالت تعمل تتساقط علي الثلوج بغزارة مغرقة اياي من رأسي لأخمص قدمي عيناي شاخصتان على والدي الذي يشق طريقه  بملابسه الخفيفة وحذائه المنزلي ! كان الغضب يفيض من جميع تحركات جسده من تلك المشية التي يتململ بها كأسد شرس ومن تلك العينان اللتان لطالما سببتا لي رعباً عظيماً وكوابيس سوداء بنظراتهما الميتة وذلك الصوت الهادر الذي لطالما خشيت من سماعه فكلما تناهى الى سمعي كلما خشيت ان يكون نذيراً اما لموتي أو لموت والدتي ! كنتُ أرتجف بشدة وعقلي كان غائباً عني وكأنه طار بعيداً كل شيء من حولي توقف وَكَأنْ الوقت توقف تماماً عن المشي ! كانت لحظات جداً بطيئة مرت علي او هكذا قد صورها لي ذهني فلقد افترق الحشد منذ زمن ولم يبق منه سوى والدتي الجاثية على ركبتيها وهي تبكي وتصرخ بمرارة يسندها سليم من جهة ووالدته من جهة أخرى .

" ما الذي سيحدث الان ؟" اخذ هذا التساؤل يتردد كالصدى داخل عقلي .

يتبع....





القاعدة الثانية

                                    "لا تتبع طريق القلب فهو دائماً يقود قدميك الى سبيل الهلاك "


_______

براءة مُدانة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن