كانت تقاوم بكل قوتها ولكن تلك القوة التي تملكها لا تعد شيء امام قوة الرجلان اللذان يمسكان بها ، كانا يجرناها بين ممرات الزنازين الخاصة بالقسم حتى تم القائها في زنزانة صغيرة ومظلمة بعد فتح قيودها وبعد ان أغلق احدهما باب الزنزانة ارتمت عليه وهي تقبض بكفيها الناعمين على القضبان الحديدية وهي تحدق الى ظهرهما تطالبهما بالعودة بصوت مبحوح ثم اخذت تردد بهستيريا :
-انا بريئة أخرجوني من هنا انا لم افعل اي شيء أخرجوني من هنا .
انزلقت تدريجياً حتى جلست على الارض ووجهها ملتصق بالقضبان لتتساقط دموعها مجدداً وهي تشهق بوجع منادية بصوت بدأ ينخفض رويداً رويداً حتى صار همساً :
-انا أحتاجك يا امي ، اين أنْتِ يا امي انا بحاجتكِ ، أنقذيني يا امي لا تجعلينني ابقى هنا لوحدي ،ارجوكِ .
ثم علا صوت شهقاتها اكثر مبددة السكون الذي احاط بها حتى مضت ربع ساعة صمت فيها صوتها تماماً ولم يتبق من بكائها سوى دموعها الجافة على وجنتيها المحمرتين ، كانت لا تزال جالسة متكئة على باب الزنزانة تحدق الى حجرها بشرود وكل شيء بداخلها كان ساكن تماماً حتى صوتها الذي يثرثر بداخلها بلا انقطاع لا اثر له اليوم وعقلها كان كالمشلول يحدق الى ما حوله بلا اي ردة فعل حتى اخرجها من حالتها هذه صوت احتكاك الحديد مع الارض لترفع حدقتيها تحدق الى الممر الذي يقود الى زنزانتها لتلمح ظلان يتجاوران في المشي قادمان نحوها ليهوي قلبها أرضاً من الخوف حتى بانت هيئتهما ليتضح إنهما امرأتان تعملان في الشرطة ، فتحت احداهما باب الزنزانة لتسقط آيلين عند قدميها فأنحنت بخفة وجرتها من ذراعها لتنهض بسرعة فكان وزنها وكأنه معدوم مقارنة بهذه الشرطية ذات البنية الضخمة ! ولم تبالي بنظرات الهلع المرسومة على وجه آيلين ولا الى تكشيرتها التي بينت مدى الالم الذي تعانيه ، كبلت الشرطية يديها وجرتها خلفها من ذراعها كالشاة التي تُقاد الى ذبحها ! اما رفيقتها فلقد سبقتها بالمشي ،كانت آيلين تقاومها بشدة ولكن مقاومتها كانت تعد مجرد حركة طفيفة لا تأثير لها كنملة تحاول منع فيل من دهسها ! وبالطبع كان القسم مملوء على آخره بأفراد الشرطة والمجرمين من النساء والرجال حتى خرجن من القسم بأكمله متجهات ناحية سيارة مخصصة لنقل المجرمين من الإناث فتقدمت احدى الشرطيتين لتجلس قرب السائق في الامام اما الاخرى فلقد فتحت البابان في الخلف لتكشف عن وجوه واجمة ذات نظرات كئيبة جميع صاحباتها مقيدات الايدي لتدخل آيلين عنوة الى الداخل وتحشرها مع النسوة وتغلق الباب خلفها بعد ان جلست بجوارها لتنطلق العربة بعد ذلك ، وطوال الطريق كانت آيلين ملتصقة بالشرطية وكأنها تلتمس منها الأمان وهي تحدق بطرف عينها الى النسوة داخل العربة حيث تراوحت أعمارهن بين الكهولة والشباب كُنَ حوالي ستة نسوة اضافة الى آيلين والشرطية .واحدة والتي جاورت آيلين بالجلوس كانت امرأة شابة شقراء الشعر نحيفة الجسد وجهها كان ذابلاً وعينيها محاطتين بهالات سوداء تفوح منها رائحة الكحول وكانت تحدق بشرود الى ما امامها وجسدها يتمايل مع حركة العربة قربها جلست امرأة بدت اكبر منها سناً وجهها كان غارقاً بدموعها عينيها متورمتين وينساب شعرها العسلي حول وجهها المدور كالقمر وكان حجابها ملفوفاً بطريقة فوضوية ترتدي ملابس رثة ، بقربها جلست صاحبة شعر اسود قصير كيرلي ذات نظرات حادة كالصقر زرقاوتين مكحلتين وتواجدت بعض لطخات الكحل أسفل عينيها كانت صاحبة جسد جميل مملوء بالوشوم ترتدي ملابس تكشف اكثر مما تستر فيبدوا انها كانت في حفلة في وقت ما قبل القبض عليها وطبعاً هي الاخرى تفوح منها رائحة الكحول امامها امرأة بدت في عقدها الستين ترتدي ملابس بسيطة وتلف شالاً على راسها عقدت طرفيه للخلف أسفل ظفيرتها البيضاء ذات الطول المتوسط والتي ارتمت على كتفها الأيمن ، وجهها مملوء بالتجاعيد ذات ملامح صارمة بقربها شابة بدت عشرينية سمراء البشرة بشعر متوسط الطول بني اللون وكان منفوشاً بطريقة الكيرلي وجهها نحيف وذابل انفها كان دقيقاً وعينيها واسعتين ذواتا لون بني غامق تطل منهما نظرة حقد كافية لأحراق بلد بأكمله لطخهما الكحل نتيجة لبكاءها ارتدت فستاناً ذهبي اللون بقماش لامع قصير وعاري فأظهر قوامها النحيل الذي شابه قوام آيلين وأخيراً بقربها فتاة مراهقة بدت كأنها بعمر الثمانية عشر صهباء الشعر بدينة الجسد ترتدي نظارات ذات إطار ثخين تحدق بعصبية ووجوم الى قدميها تقابلها آيلين ذات الهيئة الرثة بشعرها الاسود القصير الذي غطى نصف وجهها المصفر ، عينيها كانتا زائغتين محمرتان أسفلهما هالات سوداء وشفتيها مقوستين للأسفل بحزن بينما كانت شفتها السفلى ترتجف كأنها تمنع شهقاتها من الظهور للعلن كانت فتحة بلوزتها كبيرة قليلاً فأظهرت عظمتي كتفيها البارزتين بقوة وعظام قفصها الصدري حيث كان جلدها ملتصقاً بعظامها ! كان بنطلونها يصل لأسفل قدمها فلقد كان اطول من مقاسها بينما ارتدت صندل اسود اللون تجلس قربها الشرطية ذات الجسد البدين ذو القامة القصيرة وجهها مدور بخدين محمرين كالطماطم وعيونها خضراء بينما ربطت شعرها الكستنائي القصير كذيل حصان .كانت العربة ضيقة ومخنقة الى حد ما ويسودها جو من الكآبة والصمت الذي لا نهاية له حتى انقضت ساعة تقريباً توقفت بعدها السيارة وفتحت الشرطية الباب لتقابل رفيقتها بالخارج مع بضعة من نساء الشرطة ليدخلن السجينات الى السجن ، خرجت آيلين لتقابلها أشعة الشمس التي أعمتها لبضعة لحظات فرفعت يديها امام وجهها لتجرها الشرطية التي كانت بجوارها فأنزلت يديها مرغمة ثم اخذت تحدق الى البناء الضخم الذي يقفن امامه حيث طغى عليه اللون الرمادي وحوله تواجد سُوَر يعلوه سُوَر اخر من الشباك ذات الأشواك بوابته كبيرة يحرسها اثنان من رجال الشرطة وعُلقت على بنايته لوحة كُتب عليها "سجن اسطنبول للنساء " كان يقع في شارع فرعي بعيد كل البعد عن البنايات والمنازل القابعة امامه وبقربه على بعد مسافة ليست بكبيرة تقع مديرية الأمن بعد ان نزلت السجينات الستة اقتادتهن نساء الشرطة الى الداخل بعد ان فُتحت البوابة لأستقبالهن ، فدخلت آيلين بخطوات متعثرة تحدق الى كل ما حولها بحذر وهلع فرأت في الداخل حدائق مزروعة واسعة وبنايات اخرى تقع داخل أسوار السجن كانت على بعد مسافات متقاربة من بعضها كُنَ الشرطيات يتجولن هنا وهناك في ثنائيات وجماعات حتى دلفن جميعهن الى البناية الأكبر حجماً من البقية حتى استقر بهن المطاف في داخل مكتب مديرية السجن ليتم تسجيلهن ، تقدمن بعد ان تم تفتيشهن لأخذ ما لديهن من أغراض ثم وقفن في طابور كانت الاولى فيه الشابة السمراء التي كانت شبه شاردة تحدق بحزن عميق الى كل ما حولها لتقوم المرأة التي تجلس على المكتب بسؤالها عن اسمها وعن معلوماتها الشخصية لتجيبها بفتور وبعد ان تنتهي تتنحى جانباً لتفسح المجال لغيرها وهكذا حتى انتهين جميعهن ثم تم اقتيادهن الى غرفة اخرى ملحقة بهذه الغرفة حيث تم إعطائهن ملابس خاصة بالسجن ليقمن بأرتدائها ثم تم اقتيادهن الى شبكة الزنازين وتحديداً الى الزنزانة اللاتي سيمكثن فيها ، خلال لحظات فقط دخلن الى ممرات مظلمة في الداخل حتى وصلن الى الزنزانة المنشودة ، فتحت الشرطية الباب ودخلت لتلقي السلام على النسوة في الداخل لتعم لحظات من الصمت بعد ان رددن عليها السلام لتردف قائلة وهي تشير للمجموعة التي دخلت بعدها :
-لقد جاءكن مجموعة جديدة احسن إليهن يا فتيات .
ثم خرجت واغلقت الباب خلفها فدلفت ذات الشعر الاسود وهي ترمقهن بزرقاوتيها بحدة حيث ظهرت الثقة والقوة في مشيتها فأختارت سريراً عشوائياً مكون من طابقين وجلست في الطابق الأعلى ولم تكترث لنظرات الاستنكار لجارتها في الطابق السفلي ، بعدها بدأ الهرج والمرج من احاديث النساء وتحركهن كالنحلات هنا وهناك وانطلقن طبعاً للترحيب بالوافدات إليهن ، مشت المرأة العجوز واختارت سريراً منعزلاً حيث جلست في الطابق الأسفل والذي يعلوها كان لأمرأة أربعينية تبعتها الشقراء التي كانت تتمايل بمشيتها بتعب وجلست لوحدها على سرير تشاركته مع زميلة لها قريبة الى عمرها وانطلقت الصهباء بعد ان وجدت صهباء اخرى مثلها أيضاً بدينة فتعارفتا سريعاً وتشاركن السرير معاً ولم يتبق عند الباب سوى المحجبة وذات الشعر المنفوش وايلين ، تقدمت امرأة أيضاً أربعينية تضع شالاً على رأسها قسمات وجهها تنم عن الطيبة حيث رحبت بهن واقتادتهن للدخول حيث أمسكت بالمرأة المحجبة التي بدت متعبة لتسندها ثم طلبت منها ان تشاركها في السرير ومنحتها الطابق السفلي لتغير هي مكانها الى الطابق العلوي ، بينما آيلين فلقد مشت خلف السمراء ذات الشعر المنكوش حيث تشاركتا الاثنتان سريراً واحداً اتخذت آيلين الطابق السفلي منه والأخرى صعدت الى الطابق العلوي ، وتمددت عليه اما رفيقتها فلقد جلست ملتصقة بظهرها على الحائط تلم ركبتيها الى صدرها وتحوطهما بيديها لتتكئ عليهما بذقنها تراقب بأعين متسعة بنظرات حذرة كل إنش من المكان ، لقد كانت الزنزانة جداً واسعة تضم عدداً من النسوة ذوات الفئات العمرية التي تبدأ بنهاية العشرينات فما فوق جميعهن لهن جسد ممتلئ بعضهن طويلات القامة والبعض الاخر ذوات قامة قصيرة ، أغلبهن ذوات جمال حسن والنصف الاخر أشكالهن بدت مخيفة لايلين قليلاً ، كُنَ يتحركن في الارجاء فبدى لها السجن كأنه سوق شعبي بقرب الباب وُضع طباخ مع قنينة الغاز الخاصة به وبقربه دولاب يضم المواد الغذائية والطابق العلوي منه يضم الأواني ومعدات الطبخ وبقربه ثلاجة ، ثم على بعد مسافة استقرت خزانة يضعن فيها متعلقاتهن من الملابس الداخلية وملابس اخرى نظيفة وأكثر ما أخافها هو جلوس امرأة طويلة القامة ذات شعر محلوق نصفه كالرجال والنصف الاخر كان لا يتجاوز ذقنها لونه بني داكن بنيتها ضخمة وعضلية ذات بشرة حنطية عينيها طويلتان ذواتا طرف ناعس خضراوتا اللون انفها عظمي وشفتيها زهريتين ناعمتين ووجنتيها ممتلئتين وُجدت على احدهما غمازة كانت جالسة وهي تباعد بين قدميها تتكئ بذقنها على كفها بيدها المستندة على قدمها اليمنى ويدها الاخرى موضوعة على قدمها اليسرى حيث استقر كفها بين ساقيها كانت ترتدي ملابس السجينات ذات اللون الازرق الداكن المائل الى النيلي ولكن بلا أكمام وحدقتيها تراقب اجساد النسوة امامها بشقاوة كما لو كانت رجلاً وتمازحهن بصوتها الخشن بين فينة واُخرى ثم بعد لحظات لفت وجهها الى الناحية الاخرى تطالع الوافدات الجديدات بنظرات فضولية ، حتى التقت عينيها بعيني آيلين التي سرت قشعريرة بجسدها جعلتها تختض لا ارادياً حيث صنعت تواصلاً بصرياً معها ولكن الاخرى دارت حدقتيها بلا اهتمام فعلى ما يبدوا لم تهتم بها او لم ترها أصلاً فحولت هي الاخرى بصرها لتجد امرأة في عقدها الخامس حسبت ما قدرت بينها وبين نفسها كانت ترمق الجهات التي توزعن بها آيلين والنسوة اللاتي رافقنها بينما وقفت بجوارها امرأة قصيرة القامة بدت في أواسط الثلاثينيات ذات شعر بني فاتح قصير يصل لكتفيها تضع ربطة على رأسها وترتدي فستان مزركش يصل اعلى ساقيها تربطه من وسطها ذات وجه ممتلئ قسماته غير محببة وطل المكر من عينيها السوداوتين الصغيرتين وكانتا تتهامسان فيما بينهما وعلت كليهما ابتسامات غريبة فأنقبض قلبها وعرفت ان الايام القادمة لن تمر على خير !
******
اما في احدى مستشفيات اسطنبول وتحديداً في احدى غرف الطابق الاول رقدت ليلى على السرير وهي تغط بنوم عميق دموعها تملأ وجهها وتتساقط بين فينة واُخرى حتى اثناء نومها رقدت بقربها صديقتها فهيمة وهي الاخرى لم تتوقف عن النواح وفِي الكافتيريا الخاصة بالمستشفى جلس كلاً من يحيى وسليم والمحامي احمد وهم يناقشون مختلف الحلول علها تنقذ آيلين مما هي فيه ولكن جميعها على ما يبدو غير مفيدة حتى حلت لحظات من الصمت على الثلاثة وبدت الحيرة واضحة عليهم حتى قرر احمد اخيراً ان ينهض من مرقده مودعاً الاثنين دون ان يقول الى اين وجهته تحديداً وانطلق يعدو ناحية سيارته ليركبها وانطلق بها بسرعة فائقة .
***
وفِي بناية كبيرة رمادية اللون عُلقت عليها لافتة كُتب عليها "سجن اسطنبول " والذي كان مخصصاً للرجال يقع في شارع معزول تحيطه بنايات قديمة كبيرة الحجم ،ركن سيارته في مكان مناسب ثم طلب اذن الدخول ليفتح له الشرطي الواقف عند البوابة ليدلف للداخل حتى وصل الى مكتب المدير طالباً الإذن للقاء السجين عمر ديمير ، بعد ان اخذ الإذن انطلق نحو الغرفة المخصصة للزوار وجلس ينتظر حتى فُتح الباب وطل عمر منه وهو يحمل تلك النظرات الحادة في عينيه فنهض احمد بدوره مرحباً به ثم جلس الاثنان متقابلين ليفتتح احمد حديثه وهو يشابك يديه فوق حضنه :
-اسمع يا سيد عمر ابنتكَ حالياً تم ايداعها في السجن وهي متهمة بجريمة قتل !
عقد الاخر حاجبيه بعدم فهم للحظات ثم اتخذ من الصمت ملاذاً له لينطق بعدها :
-أتعني آيلين ؟
زفر الاخر برفق ثم اجابه بسرعة :
-وهل تملك غيرها ؟
زادت عقدة حاجبيه لينطق وقد ظهر الاستنكار من نبرة صوته العالية :
-ولكنها فتاة مغلوب على امرها ! أنتَ بالتأكيد تقصد واحدة اخرى .
ثم ادار وجهه للناحية الاخرى وقد سحب نفساً من سيجارته ليجيبه الاخر :
-انها ابنتكِ بحد ذاتها يا عمر ، آيلين المغلوب على امرها تم ايداعها في السجن بتهمة قتل غير متعمد .
حدق الاخر نحوه وقد علت الصدمة نظراته ليشرح له الاخر الموقف كاملاً حينها نهض غاضباً من مرقده رامياً سيجارته أرضاً ليسحقها بقدمه ثم اخذ يجول في الغرفة ذهاباً واياباً وهو يمسح وجهه بكفه محاولاً كبت غضبه بينما صمت الاخر تماماً وبعد عدة لحظات استدار عمر نحو احمد قائلاً بصوته العالي :
-والان مالحل ؟ هل ستتعفن بالسجن ؟
زفر الاخر مجدداً قائلاً بلباقته المعتادة :
-اجلس لو سمحتْ لنتحدث قليلاً .
ثم أشار له بيده على المصطب القابع امامه ليستجيب له الاخر ويجلس وهو يباعد بين ساقيه واضعاً ذراعيه عليهما وصدره يعلو ويهبط بعصبية مثبتاً عينيه الحمراوتين اثر التعب والسهر عليه ليستأنف الاخر حديثه وهو يحرك يديه في الهواء ليبيين مدى جديته وليركز معه الاخر اكثر :
-اسمع يا سيد عمر جئتكَ صباحاً ولكنني لم اخبركَ بهذا كله لأن المحاكمة كانت اليوم صباحاً وحالياً ابنتكَ مسجونة على ذمة التحقيق لقد عينت عائلة بشير محامية بارعة لذا لابد ان نستغل هذه الفترة لإيجاد ادلة ولو ضئيلة قد تساعدنا على اخراجها او ستمكث طيلة ست او سبع او حتى عشرة سنوات بين جدران السجن .
رد الاخر عليه :
-وما المطلوب مني الان ؟
اخرج الاخر دفتره الاسود الصغير برفقة قلمه الجاف قائلاً :
-اخبرني عن بشير هذا لو سمحت وما علاقتكَ به ؟
تراجع الاخر الى الخلف متكئاً على الحائط رافعاً قدمه اليمنى قرب صدره واضعاً ذراعه اليمنى عليها بينما أراح الاخرى على قدمه اليسرى ثم تحدث بصوت اكثر هدوءاً وقد انفكت عقدة حاجبيه :
-لقد كنّا معاً نعمل كرجلي شرطة في مخفر ازمير وكنتُ رجل ثلاثيني مدمن كحول فلا من اجرام يحدث ولا من قضايا تصلنا لذا غالباً ما كنّا نجتمع حوالي عشرة او خمسة عشر رجلاً حول طاولة واحدة لنشرب ونأكل ونتحدث عن الدنيا ومتاعبها وكان هو رفيقي في ذلك الوقت فلقد كان جاري وكنا نذهب ونأتيً معاً .
ختم كلامه بعد ان اطلق تنهيدة عميقة ثم اسند برأسه على الحائط مكملاً حديثه بينما كان الاخر يدون ما يقوله :
-في ذلك الوقت كانت والدتي متوفية ولي شقيق اصغر مني بخمسة أعوام رسب سنتين في المرحلة الثانوية الاخيرة لذا اضطررنا لأدخاله الى كلية أهلية وانتَ تعرف عادة الشباب حتى في ذلك الوقت كانوا طائشون وبما ان والدي كان عليلاً كُنتَ انا رجل البيت لذا راتبي لم يكن يكفينا فمن ناحية عامر شقيقي ومن ناحية والدي وعلاجه لذا اُرغمت على الاستدانة من كل من أصادفه امامي لأقوم بسداده لاحقاً وهكذا .
ابتلع ريقه واومأ له الاخر دليلاً على متابعته لحديثه فأكمل :
-ثم في احد الايام خرج لي والدي بفكرة الزواج واخذ يلح عليها بالرغم من رفضي لها حتى زوجني رغماً عن انفي لليلى التي سرعان ما كبرت بطنها مبشرة بقدوم طفلنا الاول ، لم أكن ارغب بهذا الجنين وحاولت معها كثيراً لأجهاضه لكنها لم تستمع .
عاود حاجبيه الالتحام مجدداً ثم اخذ يشير بيُمناه بعصبية ليكمل حديثه بصوته العالي :
-وهكذا فجأة زادت المسؤوليات وزادت الديون وزادت كل همومي ومشاكلي الى ان ساءت حالة ابي فلقد كان يعاني من مرض في القلب وقد احتاج الى عملية جراحية كنتُ قد حصلت مبلغ من المال وبقي لي فقط مئة الف لاكمله فتدينته من ذلك الوغد .
انزل يده زاماً شفتيه ثم عاود الكلام مزفراً انفاسه بغضب مكتوم :
-وبعد وفاة والدي جاء الى العزاء وأعطاني خمسة وسبعون الفاً علني احتاجها ثم انتقلنا معاً الى اسطنبول ودخلنا في قروض وسلف لأتمكن من توفير مسكّن وبالطبع لم اجد عملاً بتلك السهولة فكنتُ وقتها في بداية الأربعينات وخرج تقاعدي باكراً فأصلاً في ذلك الوقت كانت قدمي مصابة ولم أكن استطيع السير عليها .
قاطعه الاخر سائلاً بفضول بعد ان انتهى من التدوين :
-ماذا عن مبلغ المليونين ونصف ؟
عاود الاخر الاتكاء برأسه للخلف مجيباً وهو يثبت نظره عليه :
-لقد كنتُ أعاني من ركبتي فذهبت الى مستشفى حكومي بعد ان استلمت راتبي التقاعدي وطلبت منه مليون ليكمل المبلغ لإخضع للجراحة ، والمليون والنصف احتاجها اخي فأرسلتها اليه ولكنني بعد ذلك رددت له حوالي مئتان وخمسة وتسعون الفاً ولكنه التقى بي ذات يوم وقال انه اسقط المبلغ الباقي ولا يريد امواله !
عقد الاخر حاجبيه بتساؤل سائلاً اياه :
-ما هو السبب ؟
اجابه وهو يخرج سيجارة من جيب بنطلونه واضعاً اياها في فمه ليقوم بأشعالها :
-بحكم العشرة التي كانت بيننا .
ثم وضع قداحته مع السجائر في جيبه ليجلس كما كان قبل قليل وهو يتناول سيجارته بيده اليمنى زافراً دخانها ليتحدث الاخر قائلاً :
-ثم مالذي حدث ؟
تحدث مجدداً وهو يسحب نفساً من سيجارته :
-لقد كان ايجار البيت غالياً لذا انتقلت منه الى اخر سعره أرخص بكثير وبشير التهى بمشاكله مع زوجته لقد كان يريد ان يطلقها متعللاً بمشاكل زوجية بينهما .
اطلق دخان سيجارته في الهواء فضيق الاخر عينيه قائلاً :
-هل لاحظت بأي شكل من الأشكال ان عينه على .. زوجتك ؟
ختم كلامه بتوتر مبتلعاً ريقه فلوى الاخر شفته ساخراً مجيباً على سؤاله :
-لقد كان يزورني بكثرة فقط ليلمح ظلها ! زوجتي امرأة مرغوبة من قبل بني جنسي كثيراً لذا حاول التقرب منها ولكنها لم تعطه مجالاً .
أغلق الاخر دفتره ثم رمقه بنظرات غضوبة قائلاً بحدة :
-اذن لماذا كُنتَ تبرحها ضرباً هي وابنتكَ المسكينة ما دامت زوجة يحلم بها الف رجل ؟
انزل الاخر راسه مجيباً عليه :
-لم أكن اضربها على الدوام ، كنتُ اداريها كما تداريني ولكنني كنتُ اشعر بالذنب تجاهها لذا أعاملها على انها هي صاحبة الذنب لا انا .
ثم لوى شفته ساخراً وهو يطالع الاخر :
-لقد ظلمتها معي وظلمت تلك الطفلة والتي حُبست الان خلف جدران السجن بلا اي ذنب ، كما تعلم نحن الرجال لا نبرر اخطائنا بل نحاجج الجنس الاخر عليها وكأنهن السبب .
رد عليه الاخر وهو ينهض من مكانه :
-احرص على تهذيب نفسك جيداً جداً في هذه الفترة حتى عندما تخرج وتلتقي بعائلتك تعاملهم بالحسنى .
رد الاخر بحدة :
-لا دخل لكَ بعائلتي .
ثم نهض مصافحاً احمد قائلاً :
-سأنتظر منك اخباراً عن آيلين .
أومأ له الاخر قائلاً :
-ان شاء الله ستكون اخباراً حسنة .
ثم ودع كل منهما الاخر ليخرج عمر برفقة الشرطي عائداً الى زنزانته وخرج احمد من السجن بأكمله راكباً سيارته واضعاً دفتره في جيب معطفه برفقة القلم ثم ادار المحرك وانطلق بعيداً .
خلال مدة قصيرة وصل الى مستشفى حكومي قرب شارع الاستقلال فدلف اليها ووقف في مكتب الاستقبال قائلاً :
-لو سمحتِ اين يمكنني ان اجد الطبيب الخاص بالمريض بشير تشيسكين ؟
إشارت له على المصعد قائلة بأبتسامة ودودة :
-في الطابق الثاني يجلس في حجرة الأطباء .
أومأ لها شاكراً ثم انطلق ناحية المصعد ليصل الى الحجرة المنشودة ثم طلب من احد الأطباء الخارجين مناداة الطبيب ليمتثل لطلبه وخلال لحظات ظهر له الطبيب " البير " وكان شاب ثلاثيني اسمر البشرة ذو عيون تركوازية اللون وشعر اسود ورحب به لينطلق الاثنان الى حجرته الخاصة حيث جلس في مكتبه بينما جلس المحامي على الكرسي الجلدي القابع امام مكتبه وبعد ان طلب الطبيب القهوة لكلاهما ارتشف احمد القليل منها قبل ان يشرع بالكلام قائلاً :
-لقد جئتكَ يا حضرة الطبيب لأطلع على ملف بشير ولأستفسر عن حالته اكثر فهذا جداً مهم في مجريات قضية موكلتي .
أومأ له تفهماً ثم اخرج من درج مكتبه ملف ناوله اياه ليقوم بفتحه على الفور بينما تحدث الطبيب وهو يشابك كفيه فوق مكتبه :
-لقد تمت العملية بنجاح وتم اخراج الرصاصة وكل ما بقي هو استجابة المريض لنتائج هذه العملية .
انتهى الاخر سريعاً من قراءة الملف ليعيده الى صاحبه الذي أعاده الى الدرج مجدداً ثم سأله وهو يشابك أنامله مع بعضها فوق بطنه :
-اذن كيف حالته هلا أخبرتني بتفصيل اكبر :
-لحد الان هو موضوع تحت الملاحظة الدقيقة وقد يبقى فيها من عشرة الى خمسة عشرة يوماً ولكنه حالياً يرقد في غيبوبة لكون الرصاصة قد استقرت بمكان حساس لذلك قد تطول مدة هذه الغيبوبة كحد أقصى لمدة سنة حسب ملاحظاتنا !
زم الاخر شفتيه بخيبة امل ثم سأله مجدداً :
-هل يوجد اي خطر على المريض اي هل قد يكون معرض للموت ؟
سحب الاخر نفساً مجيباً اياه :
-لحد الان لا نعلم كل ما نعلمه انه يرقد في غيبوبة اما ستطول وقد نضطر الى ازالة الأجهزة عنه ليموت بسلام او قد يستيقظ بفعل معجزة !
بدت خيبة الامل كبيرة على قسمات وجهه حيث اخفض نظره محدقاً الى يديه لبضعة ثواني ثم رفع ناظريه الى الطبيب قائلاً :
-شيء اخير أرغبه منك يا حضرة الطبيب .
أومأ له الاخر ليتحدث وهو يتكئ بذراعه على المكتب :
-اريد منك عنوانه ورقم هاتفه وهاتف ذويه .
أومأ له الاخر واتصل عن طريق هاتفه بموظفة المكتب طالباً منها معلومات مفصلة عن مريضه ثم طلب منها ان تسلمها للمحامي حالما تراه وحينما أنهى المكالمة نهض الاثنان وتصافحا مودعان بعضهما ليخرج كلاهما لينطلق احمد الى المصعد وعاد الطبيب الى حجرة الأطباء وما ان مر بمكتب الاستقبال حتى ناولته الموظفة المسؤولة عن الحاسبة ورقة دونت بها ما طلبه الطبيب من معلومات ليضعها في جيبه ثم اتجه الى الخارج حيث سيارته كانت مركونة فركبها منطلقاً بها الى حيث العنوان المدون فيها .
*************
من ناحية اخرى تم اخراج ليلى عند الواحدة والنصف ظهراً من المستشفى يرافقها يحيى وابنه وزوجته لينطلقوا ناحية منزلهم حيث خلدت هي الى النوم في غرفة صديقتها بينما عملت فهيمة على ترتيب المنزل وتنظيفه وإعداد الطعام من اجل الفطور وزوجها خرج ليشتري بعض المشتريات اما ابنها سليم فلقد انزوى في غرفته وحيداً جالس على سريره وهو يقلب صور آيلين في هاتفه ودموعه تتساقط على شاشتها ، شفتيه مقوستان للأسفل ووجهه متجهم بحزن عميق حتى احتضن الهاتف على صدره حانياً رأسه للأمام قائلاً :
-سأبذل كل ما بوسعي لأخرجكِ من هناك اعدكِ بذلك .يتبع ......
"القاعدة السادسة"
" أغرق في مشاكلك حتى اخمص انفك ولكن احرص على الا تموت فلن يُنجدك غير نفسك"

أنت تقرأ
براءة مُدانة
Misteri / Thrillerخُلقتُ بشراً فجعلتوني شيطان وها أنتم تدفعون الثمن غالياً آيلين & أدهم الغلاف من تصميمي