المــــلخص
*****
" ألن تأكل يا عابد؟!! "
نطقها طفل لم يتعدى سنوات عمره الثالثة عشر موجهاً كلامه للذي يقبع
أمامه على الطاولة المشتركة بينهما وتعلو ملامحه تعبيرات العجز واليأس
وعدم الاحتمال .. فتى يبلغ من العمر الخامسة عشر عاماً .. ملامحه حادة
ناري الطباع.. سواد عينيه جعل نظرته تشبه الصقر في حدة بصرة
وشعره الحالك السواد.. وأنفه المستقيمة.. وفمه الرفيع الذي يطبقه
بطريقة تنم عن غضبه ... وأنه يحاول السيطرة عليه..
نطق أخيراً وهو يجاهد ألا يحرق المكان بمن فيه..
" لن آكل يا حسن .. لن آكل قبل أن أطمئن عليها.. "
إلتفت حسن حوله بريبة يحاول أن يرى إذا كان هنام أحداً ينظر إليهما
أم لا... وهتف بصوت منخفض يمد يده بطبقه ويأخذ منه بعض الطعام ويضعه في الطبق الموجود أمام رفيقه..
" خذ هذه أيضاً ..وكُل شيئاً وأترك الباقي لها.. "
نظر إليه عابد بنظرة لا تمت للطفولة بشئ ولكنها تنم عن الامتنان والشكر لهذا الطفل على وجوده بحياته... بالرغم من أنهما في نظر القانون والدولة أطفال
إلا أنهما أكبر من عمرهما بكثير... فوجودهم بين جدران هذا المكان العفن
جعلهم يكبرون سنوات مستقبلهم المظلم بكارةً ..
أخذ عابد ما وضعه حسن في الطبق وأعاده الى طبقه وهتف بشئ من الصرامة
" كُل أنت يا حسن ولا تحمل هم لي.. سأتدبر أمري.. أطمئن عليها قبلاً "
الاصرار في صوت عابد من المفروض جعل حسن يعيد تفكير للنطق مرة أخرى
ولكنه حزين من أجل صديقه .. فهو لم يأكل منذ الأمس ويقوم بتخبئة الطعام
بيت طيات ملابسه ويعود للعنبر الذي ينامون فيه ويقوم بإخراجه وتخبئته مرة
أخرى حتي يعطيه للفتاة الوحيدة القريبة منهم هنا .. فهم يُعتبروا أصدقاء
.. ثلاثتهم .. وعابد من يكبرهم ولذلك دائماً نزعة الحماية تملؤه تجاههم..
هتف حسن بشئ من القلق على صديقه..
" حسناً كل شيئاً ولو بسيطاً .. وهي سنطمئن عليها بعد ساعة ستخرج "
نظر إليه عابد ولم يتحدث فتفكيره جانح نحو صغيرة قاموا بحبسها في غرفة
" الحبس الانفرادي " .. والأطفال يطلقون عليها غرفة التعذيب... وقاموا بحرمانها
من الطعام منذ أمس.. فتاه رقيقة عذبة ... هشة.. بريئة الملامح
حمراء الشعر .. صهباء البشرة وتمتلك عينين بلونهم الذي يشبه لون حجر
الفيروز الذي شاهده مرة في برنامج أو إعلان علي شاشة التلفاز هو لا
يعرف في الحقيقة ..
لأن عينيه لا تتعلق بهذه الشاشة التافهة من وجهة نظره في حضور فتاته ..
يقوم بتسليط نظره عليها فقط ليحميها.. لا يريد أن يغفل عنها
الصغيرة البريئة التي تحتاج لحمايته .. لقد كرس وجوده حولها لأمانها
.. تذكر مرة الضرب الذي ناله بالسوط على ظهره عندما غرس سكين الأكل
الصغير في يد أحد مشرفين الملجأ عندما ضربها أمام باقي الأطفال مما جعلها
تسقط أرضاً أثر ضربة هذا الحيوان لها.. وتُضرب رأسها بطرف طاولة من
الحديد يأكلون عليها مما جعلها تنزف من رأسها تفقد الوعي بلحظتها ومنظر
الدم فقط كان كفيل بذهاب عقل عابد ..ولكنه بالفعل فقط سيطرته على
أعصابه عندما وجدها ملقاة علي الأرض بدون حراك ووجهها شاحب كالموتى
ودماءها تسيل من رأسها.. لم يفكر للحظة وهو يأخذ سكين الطعام الصغير من
أمامه ويندفع كالمجنون باتجاه المشرف الحقير ورفع يده الممسكة بالسكين
يريد غرسها بقلب المشرف ويحدث ما يحدث... ولكن المشرف كان أسرع منه
عندما رفع يده ليمسك بها يد عابد ولكن لسوء حظه غرست السكين بوسط كف
يد المشرف مما جعله يصرخ كالمجنون وهو يمسك بشعر عابد الأسود يجره
وراؤه يقوده لغرفة التعذيب تاركاً وراؤه أطفال يصرخون من ما يحدث
وفتاة فاقدة لوعيها وليس لديه عِلم إن كان هناك من سينقذها أم لا..
عاد لواقعه وهو ينظر لصديقه الصغير الذي يلح عليه بالطعام خوفاً عليه
ولكن هل سيقوى على تذوق شيئاً قبل معرفة ما حدث بداخل هذه الغرفة
المشؤومة
مرت الساعة بشق الأنفس وهو يرى باقي الاطفال يتحركون من حوله
لمغادرة غرفة الطعام.. متجهين لفناء الملجأ للعب.. وخاصة لعب كرة القدم
مقتنعين بأن هذه المساحة الخاصة باللعب تسمي " ملعب "
تنهد في سخط منه ومن عجزه لحمايتها.. استقام بانتفاضة وتبعه صديقه
ممسكاً بمرفقة.. هاتفاً به بخفوت وعينيه تدور حولهما يحاول أن يرى إذا كان
هناك من يتابعهم.. عالماً بحال صديقه وتفكيره وماذا ينوى
" اهدأ عابد.. ماذا تنوي فعله؟!! "
نظر له عابد وعينيه تغيم بغضب عارم.. هاتفاً به من بين أسنانه
" لابد وأن أطمئن يا حسن .. سأموت قلقاً عليها "
تحرك حسن أمامه ..يسبقه بخطوة.. ومازال ممسكاً بمرفقه وكأنه يسحبه
وراؤه.. هاتفاً به وواضعاً إياه أمام الأمر الواقع ..
" حسناً سآتي معك.. لن أتركك بمفردك "
يحبه لـحسن ... بل هو له السند .. إذا كان حسن يعتقد أن عابد بما أنه الاكبر
فهو سنده.. إذاً فهو مخطئ.. فهذا هو إحساس عابد الكبير ناحية
حسن الصغير.. وكأن ما هم فيه.. جعل كل منهما كبير بطريقته
تحرك بجوار صديقه .. متخفين بين مداخل الرواق.. ذهبا الي غرفة الأولاد
قبلاً يأتيان بالطعام المختبئ بين طيات ملابس عابد.. وعادا أدراجهما
متخفين أيضاً إلى أن وصلا غرفة
البنات... فهذه تقريباً الحسنة الوحيدة التي قام بتنفيذها إدارة الملجأ.. وهي
فصل البنات عن الأولاد عند وصولهم لسن معين.. رغم استياؤه ببعدها عنه
ففي الماضي.. كان الأطفال ينامون جميعاً في غرفة واسعة بها العديد من
الأَسرّة.. ولكن إلى سن معين يتم الفصل بينهم... تنهد بسخرية وكأنهم
يهتمون بما يليق بأطفال دون السن القانوني..
وصلا إلى غرفة البنات.. متخفين من الأعين.. ولكن كل منهم بحوار داخلي
يختلف عن الآخر.. فعابد كل ما يهمه الوصل إلى فتاته مهما كلفه الأمر من معاناة.. أما حسن فهمه الوصول بصديقه إلى غرفتها دون أن يراهم أحد...
وصلا بالفعل.. ودخل عابد بقلب مفطور وهو يراها مكومة على سرير مهترئ
معطية إياه ظهرها .. ابتلع ريقة بصعوبة وهو يتخيل حالها كيف ستبدو
سار إليها بخطوات مرتجفة.. تنم عن ذعر ما قد يراه... التف حول فراشها
نظر لعينيها المغمضة .. وملامحها الشاحبة.. وشفتيها الزرقاء.. شتم بداخله
لو عليه.. لأذاقهم جميعاً الويل والعذاب لما تقترف أيديهم القذرة في حق
أطفال مثل " لُقى " لُقياه كما يتحدث بينه وبين نفسه كثيراً .. نعم هي لُقياه
الذي يُحيه.. لُقياه الذي يجعل لحياته سبب وجيه ليحياها ..
أعاد نظره لصديقه كأنه يطلب دعمه.. ولم يخذله صديقه عندما نظر له بابتسامة
وكأنه يبثه أمانه.. وجده يرفع إحدى يديه ويشير له بإصبعيه السبابة
والوسطى ويوجههما لعينيه ويعود ويشير للخارج.. إشارة معناها أنه سيراقب
له الطريق لينتهي من ما يفعل.. أسبل عابد أهدابه لصديقه بإشارة لامتنانه
له..
فتح عينيه مرة أخرى موجهاً نظرته للنائمة بسكون وصوت تنفسها يكاد يكون
معدوم.. جثى بركبتيه على الأرض بجوار السرير ماداً لكف يده بارتعاش
يماثل ارتعاش روحه... مُدت أصابعه لبعض خصلات شعرها الملتصقة بجبهتها
وقطرات العرق المنثورة على جلدها الشاحب
فتحت عينيها بتكاسل هاتفة ببطء وتلعثم..
" عـ ..عابد "
" ششش لا تتحدثي يا صغيرة..."
ابتسامة باهته تطوف على شفتيها تأثرا بلقبها المحبب لقلبها.. دوماً يلقبها
بالصغيرة.. بالرغم أن فرق العمر بينهما خمس سنوات فقط.. ولكنه كبير..
نعم كبير كفاية حتى يستطيع حمايتها أغمضت عينيها مرة أخرى
ولكن بلحظة أخرى ... فتحتهما وكأنها تذكرت شيئاً .. مدت يدها الصغيرة وأمسكت مرفقه القريب.. هاتفة ..
" عابد.. أنا جائعة.. لم آكل شيئاً منذ البارحة "
أمسك يدها الممسكة بمرفقه.. وضغط عليها بمساندها. وهتف ممسد على رأسها بيده الأخرى..
" جلبت لكِ الطعام صغيرتي.. خذي حبيبتي "
أشرق وجهها بكلامه.. وهي تستقيم بضعف.. فأسرع مسنداً لها لتعتدل
بجلستها وهو يخرج لها الطعام من جيبي معطفه.. مد يده بالطعام لها..
فأخذته بلهفة مزقت قلبه .. أغمض عينيه ليسيطر على غضبه الذي يعتمر بداخله
يحثه على الذهاب الى من أمر بحبسها ولماذا.. لأنها تشاجرت مع طفلة أخرى
خبيثة قامت بسرقة أحد أغراضها.. وعندما رأته معها.. قامت باختطافه من
يدها.. فغضبت الأخرى وأخبرت المشرفين أن صغيرته من سرقت غرضها
يا للتربية الصالحة.. والعدل الذي ينفذوه.. قاموا بحبس صغيرته
دون حتي الاستماع اليها ..
قاطع شروده بها ومتابعته لها وهي تأكل بنهم حركات حسن المراقب للباب
وهو يخبره أن هناك من آتي إلى هنا.. استقام عابد من مكانه وملس على
شعرها وهي تنظر إليه.. هاتفه بحزن يؤلمه..
" هل ستغادر؟!! "
لو عليه لجلس بجوارها ولن يغادر مكانه ابداً ..
ابتسم لها يخفي حزنه لفراقها.. وقال..
" سأغادر لأمانك يا صغيرة.. حتي لا يؤذيكِ أحداً مرة أخرى .. واطمئني
سآتي كلما سنحت لي الظروف "
ابتسمت له.. وهي تؤكد على كلامه..
" ستأتي "
لم يكن يعلم هل تؤكد على كلامه.. أم تسأله ولكنه لم يملك الرد سوى بـ
" لا أملك إلا أن آتي يا صغيرة "**********
أنت تقرأ
تراتيل الماضي.. ج١ سلسلة والعمر يحكي.. بقلمي راندا عادل..
Romanceرواية اجتماعية.. رومانسية..