الفصل السادس والعشرون
منذ وصولهما وهو لا يهدأ .. يأتي ويذهب من حوله وكل مرة يحاول سؤال حسن عن مكانها ولكته يتراجع باللحظة الأخيرة .. وحسن متتبع اللامبالاة .. ممسكا بهاتفه يعبث به .. ولا يعير الثور الهائج من ورائه أي اعتبار .. انتفض على صوت عابد من ورائه .. هاتفا ..
" حسسسن "
" يا الهي .. يا رجل أريد دخول دنيا وليس الخروج منها .. ارحمني "
" حسن .. أين هي ؟! "
قالها بتوسل .. قابله لامبالاة وإعادة للعبث بالهاتف ..
" لا أعلم "
تأفف عابد بغضب قائلا ..
" حسنا .. سأذهب لأبحث عنها بنفسي دون الحاجة إليك "
قالها عابد يريد استعطافه ولكن .. هناك .. يقبع برميل برود ..
" أتعرف طريق سلالم الخروج أم أدلك عليها "
وكل ما ناله .. وسادة مربعة موضوعة بوداعة على الأريكة ..ومصيرها كان رأس حسن الذي انتفض قائلا ..
" ثور .. متوحش "*******
خرج عابد .. رغم تعبه و إجهاده الا أنه لا يشعر بطعم الراحة ..أي راحة وهي ليست هنا .. أي راحة وهو لا يراها .. أصبح بها مجنون ..
وصل لشقته التي رُفع عنها الحراسة .. يلتمس أي شيء لها .. رائحتها العالقة بين حاجياتها البسيطة.. مشط لشعرها يرى شعرة وأخرى بين أسنان المشط .. ملابسها .. وسادتها .. عند الوسادة ولم يدرى بحاله وهو يتمدد على الفراش الذي كان يحتضن جسدها .. يمرغ وجهه على وسادتها .. ويتخيلها هنا ..
يتخيل وجهها ..
شفتيها ..
عينيها ..
يشم ويشم حتى لم يعد يدري ماذا يفعل ..
ولم يدري بالغصة التي أحكمت حلقه ..
ولكنه يشعر جيدا بتمزق قلبه في بُعدها .. لقد ذاق نعيم قربها .. وجودها يكفيه من سعادة الدنيا ..
كيف تخلت .. كيف ؟!..
لم يشعر بأن أداة الاستفهام خرجت من بين شفتيه بلوعة .. انتفض رافعا رأسه .. وملامحه تبدلت من الاشتياق والأنين إلى الحزم ..
سيجدها ولو كان بموته ..
سيجدها وسيحاسبها على تركها له وكأنه لا يساوي شيء .. هي ملكه هو ..وليس لأحد آخر الحق بها .. وبعزم وشموخ الجبال .. استقام يعدل من هيئته .. وبكل اصرار نطق ..
" سأجدك "*******
في مكان مرتب .. وراقي .. وعلى مستوى عالي من النظام والنظافة.. تجلس بحديقة المكان تتناول طعام وجبتها للغداء ..
وهذا المكان لم يكن سوى " دار مسنين " ملك لـ " السيدة حسناء " التي يعرفها حسن ...وكما عرفت منه أنه كان المسؤول عن تنظيم جميع حسابات الدار منذ سنتين .. ومن وقتها وهو المسؤول عن عمل هذا كل سنة .. بل ويأتي أيضا كل فترة وأخرى يطمئن على السيدة حسناء .. وحين طلب منها حسن عمل لها لم تتردد أبدا .. بل واستلمت العمل من اليوم التالي لكلامها مع حسن .. وأكثر ما يشعرها بالراحة أنها مقيمة بالدار .. حتى النوم .. تنام هنا .. وكأنه بيتها ..
تشعر بالفعل بالسلام الداخلي الذي ترجته يتسرب لداخلها .. تطلعت تنظر حولها .. الخضرة تملأ المكان .. وجوه المسنين بعضها الضاحك .. والبعض الآخر غاضب .. والفتيات المساعدات تحوم في المكان تساعد الجميع .. تنهدت بصوت مسموع ..
" تنهيدة راحة أم عذاب ؟! "
التفتت للسؤال الذي أتى من ورائها .. ولم يكن سوى رجل مسن بملابس بيتيه مريحة .. ابتسمت ووقفت احتراما .. ابتسم بدوره بعد أن قال ..
" اجلسي .. هل أستطيع الجلوس على طاولتك ؟! "
" بالطبع .. أكيد تفضل "
جلس الرجل مقابلا لها .. بملامح متسامحة .. مستريحة .. ظلت تنظر إليه .. لا تعرف ماذا تقول .. ولا لماذا طلب الجلوس معها .. وكأنه شعر بتساؤلاتها .. ابتسم بادئا الحديث ..
" أتعلمين لدي ابن ... وابنه .. في مثل سنك تقريبا أو أكثر بضع سنين "
نجح في جذب انتباهها المتسائل ..
" كيف يكون لديه أبناء .. ومقيم بدار مسنين "
ولكنها لم تفصح عن تساؤلها ..اكتفت بإسبال أهدابها .. ولكنها فتحتهما حين سمعته يُكمل حديثه ..
" وظيفة كل أب في الدنيا أن يُنشئ أبنائه .. ويربيهم التربية الصحيحة .. وعدم اطعامهم من حرام "
سكت الرجل يراقب زحف الاهتمام على ملامحها وكأنها جائعة لمثل هذا الحديث .. وأكمل ...
" كنت أقوم بالمستحيل من أجلهما .. وأستطيع تأمين مستقبلهما .. حتى بعد وفاة زوجتي .. لم أستطع الزواج مرة أخرى وجلب لهما زوجة أب الله عالم كيف كانت ستعاملهما .. نحيت احتياجاتي جنبا .. وصببت كل تركيزي مع عملي وأولادي .. حتى كبرا .. "
سكت الرجل والغصة تحكم قلبه وحلقه .. وتحدث مكملا ..
" نسيت أو تناسيت أن أهم من تأمين المستقبل .. تأمين الحب والود .. بدأ دوري بحياتهم يتضاءل حتى اختفى .. بداية من زوجة اختارها ابني أجبرته على تركي هنا .. وانتهاءً بابنتي التي رفضت أخذي عندما طلب أخيها منها أن أسكن معها في البلد الذي سافرت إليه بعد زواجها .. رفضت قائلة أن مسؤولياتها تكفي وتفيض .. "
سكت ثانيةً بلسان يحكي ببرود وكأنه اعتاد ... وبقلب دامي وكأنه جرح لا يلتئم .. يرى دموعها تجري على خديها ولا يمتلك سوى أن يُكمل .. وكأنه كان في احتياج للكلام .. أو وجدها فرصة يخرج بها آهاته ..
" جاء بي هنا بعد أن أخبرني أن زوجته لا تريدني بالمنزل .. أنا هنا منذ خمس سنوات .. أول ستة أشهر رأيته مرتين كل مرة منهما لم تُكمل النصف ساعة .. ومن بعد هاتان المرتان ... "
سكت يبتلع غصته ولم يستطع منع دمعتين تسللا خلسة منه .. مكملا ناظرا لعينيها وكأنه يريد أن تشاركه همه ..
" لم أراه للآن "
حينها فقط أفرجت شفتيها عن شهقة بكاء .. كانت البداية لشهقات أكثر .. وكان الذي أمامها يشاركها البكاء بصمت وكأنه يجاهد حتى لا يبكي .. ولكن للعين كلمة أخرى ..
أنت تقرأ
تراتيل الماضي.. ج١ سلسلة والعمر يحكي.. بقلمي راندا عادل..
Romanceرواية اجتماعية.. رومانسية..