حسن 💙
🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂
عابد 💙
🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂🍂
الفصل الرابع
وفي عيني كلام حزين
وبداخلي شوق أذاب القلب حزناً
وليس الهجر يؤلم
ولكن
جمال الذكريات يهز كياني******
في أرقى أحياء العاصمة .. يجلس شاب بلغ من العمر الثامنة والعشرون .. وملامحه تتسم بالقسوة .. وبريق عينيه يتسم بالإصرار .. لا يجرؤ كائن من كان أن يقف أمامه .. وخاصة بعد ما بدأ بأخذ ثأره بروية .. تحول لشخص لا يرحم من يُخطأ .. أمات قلبه .. أو بالمعنى الصحيح .. أمات الزمان قلبه .. وضع القلم من يده .. وينظر لأوراق الصفقة الجديدة بعين تقييمية .. الصفقة رقم أربعة التي يأخذها من غريمه دون أن يرف له جفن .. لو عليه لسلبه ليس عدة صفقات فقط .. وإنما حياته .. وأيضا بدون ذرة ندم .. لو علم الآخر حجم ما خسره نتيجة ما فعلوه به .. لحاسبوا أنفسهم ألف مرة قبل أن يقدموا على ما فعلوه .. ولكنه حدث .. ونتيجة ما حدث هذا .. سيدفع ابنه الثمن .. لن يتركه سوى قتيلا كما قُتِل أباه.. نعم يقول أباه رغم أنه لم يعش معه سوى سنوات معدودة .. ولكن ما رآه معه خلال هذه السنوات ... كان بعمره قبل أن يراه أو يدخل هذا الرجل لحياته ..
غامت عيناه بحزن لا يظهر إلا بذكر أناس معينين .. وهذا الرجل من ضمنهم .. ترك الأوراق واستدار بكرسيه .. جعل وجهه للحائط من ورائه .. وظهره أصبح للمكتب .. ينظر بعين يملأها الحنين لصاحب الصورة المعلقة على الجدار .. سيبقى هذا الرجل حي بداخله حتى لو دُفن تحت سابع أرض ..
تكالبت عليه ذكرياته التي غلفت كيانه .. ذكريات مع هذا الرجل .. ومع ..!!.. هذه الذكريات فقط ما تجعله مازال انساناً .. مازال هناك وتر داخله ينبهه أن هنا في صدره .. قلب .. حتى لو أنكر هو هذا .. وإدّعَى أن ما يحتويه داخل ضلوع صدره مجرد حجر صوان ..
شرد بذكرياته الي اليوم الأول له مع هذا الرجل .. بعد أن غادر الملجأ ..وترك قلبه هناك بين راحتيّ يدها .. وهناك بين أحضان صديقه ..
وأصبح منذ هذه اللحظة بدون قلب .. ركب السيارة مع الرجلين ولم ينطق بكلمة ..رغم توسلات ومواساة الرجل بجواره .. فقط ملامحه ..ملامحه كانت أبلغ من أي كلام.. ملامحه التي قُدت من النار وقتها .. تنطق بالشر .. وشيئا آخر ... قلة الحيلة .. ماذا كان بيده يمكن تقديمه لهما ..
وصلت السيارة بهم إلى بيت كبير .. عبست ملامحه في عدم فهم .. أسيعيش هنا .. وكأن الرجل بجواره قرأ تساؤله .. فأجابه ..
" سنمكث هنا يومين وبعدها نسافر "
وقد كان .. مكثوا بهذا البيت الكبير يومين ..وبعدها تفاجأ بهذا الرجل ..يخبره أنه سيسافر به للخارج .. لم يكن يدري وقتها ما يحدث ..
ولكنه علم بعد ذلك .. علم أنه تم تهريبه حتى لا يتم القبض عليه لأي سبب في المطار .. وأيضا بسبب سنه الصغير وخاصة أنه لا قرابة بينه وبين هذا الرجل .. وعَلِم أيضا أن الأخير تدبر أمره من إحدى الوساطات التي يشتريها المال وتمكن فعلا من الهرب به الي الخارج ..
وسافر عابد الى الخارج .. سافر ليرى ما لم يره في حياته ..
في أول أسبوع ..نأى بنفسه في غرفة تم إخباره أنها غرفته .. لم يكن يتحدث مع أحد .. حتي اليوم الثالث من الأسبوع الثاني .. دخل سليمان غرفة عابد ..حاملاً بين يديه صينية طعام للعشاء .. وجده يجلس بالشرفة الخارجية للغرفة ..وضع سليمان ما يحمله على طاولة بجانب الفراش ..
وسار بضع خطوات إليه .. حتى وصل لمكان جلوسه .. وجلس على الكرسي بجواره .. أحس به عابد ولم يلتفت .. سمع الذي بجواره يتحدث بهدوء ..
" أتعلم ... دوماً كنت أتخيل هذه الجلسة .. لكن القدر لما يعطها لي .. على الأقل قبل أن أجدك "
علت زاوية فم عابد ابتسامة استهزاء .. وقاطعه بتهكم ..
" قصدك قبل أن تشتريني "
الكلمة آلمت سليمان رغم حقيقتها .. نعم هو اشتراه .. وليس نادما .. ولو عاد به الزمان لفعل ما فعل .. ابتلع سليمان مرارة مجافاة عابد .. وتحدث بنبرة يشوبها الحزن ..
" اسمعني بني .. "
قاطعه عابد مرة ثانية قائلا بصياح ..
" لست ابنك .. لا تناديني هكذا .. أنا أكرهك .. لقد حطمتني .. فقدت روحي هُناك .. كياني ..لا أعلم لما أنت بهذا الجحود لتشتري ابن لك .. أصحابي .. تركتهم ولا أعلم ماذا سيفعلون بعدي .. هل يأكلون ..هل ينامون .. آمنين أم خائفين .. أعيش بنار تتآكل داخلي .. وإحساس بالذنب يملأني .. تركتهما بأنانية حتى رغبتي بحياة هانئة لهما دفعت ثمنها بُعدي عنهما .. وبُعدهما عني .. أنت لا شيء .. أتفهم .. لا ششششيء "
وغادر عائدا لداخل الغرفة هائجا غير عابئ بمن خلفه ينظر له في ذهول .. وكلماته التي سمعها ذبحت قلبه ذبحا .. أما عابد .. فكان يحطم كل ما تطاله يده .. يهاجم ..هو في هذا الموقف اتبع الهجوم نهج .. قرر أن يهاجم .. ولكن كان يهاجم من .. في الحقيقة كان يهاجم نفسه ..
كان غير راضي عن تودد سليمان له .. ومعاملته اللطيفة هذه .. هو لا يريد هذا .. لا يريد أن يعامله هذا الرجل بهذا الحنو في مقابل تركه لصديقيه .. وأيضا خائف .. نعم خائف .. يرتجف خوفا من تجاوبه مع هذا الرجل ..فيعتبر نفسه خائنا .. خائف أن يعتاد هذه معاملة .. أن يعامله أحدا كبشر ليس سهل .. خاصة مَنْ مثله ..
ظل يرمي الأشياء من حوله .. علّ من يقف مقابل له يغضب .. يثور .. يأتي إليه ويعاقبه .. يضربه مثلا .. ولكن أي من هذا لم يحدث .. واكتفى بالنظر ..
بعد أن انتهى عابد من رمي وتكسير ما تحتويه الغرفة من كماليات .. وقف ينظر لما صنعت يداه باستمتاع وكأنه حقق انجاز .. ظل ينظر للواقف على عتبة الشرفة في انتظار منه لرد فعل الآخر .. ولكن أيضا لا شيء .. رآه يتحرك باتجاهه ..فابتسم بانتصار .. الآن سيغضب ويضربه .. ويستطيع بعدها أن يكرهه .. ولكن الرجل ما إن اقترب منه ..حتى وقف أمام الطاولة الصغيرة بجوار الفراش .. وحمل صينية الطعام.. وتوجه بها لمنتصف الغرفة ووضع الصينية على طاولة أكثر راحة ولها كرسي ليستطيع الجلوس أثناء الطعام .. ولم ينسى أن يرمي بهدوء بقايا إحدى الأشياء المكسورة على الطاولة .. وعاد متوجها لعابد .. ولكنه تخطاه .. وفتح باب الغرفة ..وقبل أن يخطو خارجاً .. هتف دون أن يلتفت اليه ..
" لا تنسي تناول عشاءك .. "
سكت لحظة وأخرى .. وأكمل وكأنه مُصر على توصيل معلومة ما ..
" تصبح على خير بني "
وكم تألم عابد لهذه الكلمات .. ألمه نابع من حنان هذا الرجل .. وكم تساءل .. هل هذا عوض الزمان له بعدم معرفته لأبويه .. وأن القصة المتداولة عنه وعن حادثة والديه كانت الثمن الذي يدفعه في مقابل حصوله على هذا الرجل .. تألم عابد لأنه أحزن هذا الرجل .. هو لا يستحق هذا ..
********
صباحاً في غرفة عابد من ينظر اليها لا يقول أنها نفس غرفته بالأمس .. بعد أن غادر سليمان ليلاً .. جلس عابد أرضاً وبكى وكأنه لم يبكِ بحياته أبدا .. بكى حرمان .. وبكى فقدان.. وبكى روحه التي تركها هناك ..
بكى رجلا طيبا أساء إليه وصرح بكرهه أمام وجهه .. بكى وكأنه يبكى الحاضر والمستقبل .. وكأنه كان على علم أنه لن يبكى في المستقبل دموعاً وإنما سيبكي دماً ..
بعد أن هدأ بكاؤه .. مسح وجهه بعنف براحتي يده .. وكأنه يعاقب وجهه وعينيه على مشاركتهما سويا في هذه الجريمة الشنعاء .. كيف يضعفان ويبكيان هكذا .. استقام من مكانه ولملم ما صنعته يده .. وأعاد الغرفة كما كانت .. بإستثناء ما تم تكسيره بالطبع .. وصباحا .. حمل صينية الطعام التي أكل منها بعد أن انتهى من توضيب الغرفة .. ونزل بها للطابق السفلي للمنزل المقيمين به .. بيت عصري الى حد ما .. يحوطه حديقة .. والباب الرئيسي عبارة عن بوابة حديد .. يقف أمامها اثنان من الحراس
وبوسط الحديقة .. حوالي أربعة حراس .. وما فهمه من حوله أن هناك من يأتي لتنظيف المنزل.. وجلب الطعام .. لم يكن يخطر في أقصى أحلامه أن يترك وطنه بهذه الطريقة.. بل لم يخطر بباله أن يسافر من الأساس .. أقصى جماح طموحاته.. كان الهرب من ملجأ الأيتام الذي نشأ وكبر به ..
وأقصى مخاطرته ومغامراته هي أن يهرب بصديقيه .. والآن هو ترك الوطن ...وترك الصديق .. وترك القلب هناك .. وسافر لبلد أجنبي .. هاربا .. تم التستر على سفره وكانت مغامرة في حد ذاتها .. ثم المجيء به إلى بلد ليس بينها وبين وطنه تبادل هاربين .. هذا ما سمعه بالنص .. لا يعلم ما معنى هذا الكلام .. ولكنه يشعر بأن هناك خطر يتربص بهم يستدعي هذا الحذر .. كان قد وصل للمطبخ .. وجد هناك سيدة تتخطى الأربعون بعدة سنوات .. بالتأكيد هذه من تعد الطعام وتنظف المنزل .. تنحنح ليلف انتباهها .. التفتت تنظر اليه بابتسامة بشوشة ..
" أهلا بني .. صباح الخير "
أومأ لها محييا .. لم يستطع الابتسام .. وكأنه ينتظر شيء آخر .. ولكنه رد
" صباح الخير "
رغم استغرابه لهذه السيدة .. وكلامها العربي إلا انه أحبها .. مالِ الدنيا تعطيه بجود غريب عليها !! .. قطع شروده كلام هذه السيدة ..
" أنا اسمي روز .. وأنت عابد أليس كذلك ؟! "
أومأ لها بابتسامة صغيرة .. فأكملت السيدة ..
" لقد أخبرني السيد سليمان عنك .. بالمناسبة إنه في الحديقة يشرب قهوته .. تستطيع الخروج اليه وسآتيك بفطورك "
ثرثارة .. هتفها عقلة بابتسامة لا تكاد تظهر على محياه .. ثرثارة ولكنه أحبها ..
تحرك مغادرا المطبخ بعد أن أخذت منه روز ما يحمله .. وتوجه مباشرةً للحديقة .. وجد سليمان جالس وبجواره المحامي الذي لا يتذكر اسمه .. سار بخطواته إليه وعازم الأمر ليعتذر فهو أخطأ .. وليس عابد من يخطئ بهذا الشكل .. لمحه المحامي أولا والذي كان يتحدث للجالس بجواره .. ويمسك بيديه بعض الأوراق .. ولغرابة الموقف استقبله المحامي بابتسامة لفتت انتباه سليمان .. إلتفت نصف التفاته ..فلمح المُقبل عليهما .. فأشار لحمدي بالسكوت .. وأمره المغادرة .. لملم حمدي أوراقه ووقف ليغادر ..
كان عابد قد وصل لمكان جلوسهم .. سمع تحية المحامي له .. فرد تحيته بإيماءة صغيرة .. وقف بجوار الجالس .. وهتف بصوت آسف ..
" صباح الخير "
كلمتان كان في انتظارهما سليمان ليعرف كيف يتصرف .. هل ظل على مزاجه .. أم جد شيء ... استقام سليمان من مكان ليقف مقابلة لعابد .. الذي يقف بتوتر ..هو يريد الاعتذار .. ولكن ..
" اسمع "
هتفها عابد ليبدأ كلامه .. ولكن قاطعه الواقف أمامه عندما لمح توتره ..
" اسمعني أنت بني .. ما حدث بالأمس .. امسحه من ذاكرتك .. وكأنه لم يحدث .. وخاصة وأن الواقف أمامي الآن .. ليس من واجهني بالأمس .. أليس كذلك ؟! "
قال آخر كلماته بابتسامة .. مما جعل الابتسامة تزحف على شفتي عابد ..
" وكانت هذه هي البداية لسعادة لن تدوم "
******
عاد من ذكرياته ليستدير بكرسيه مرة أخرى .. ليقع بصره على ساعة رملية موضوعة على سطح مكتبه .. كانت كهدية .. قدمها له سليمان
وهتف بتوصية ..
" اسمعني بني .. الأيام ..لا تدوم .. والعمر مثل هذه الساعة .. والأيام تمثلها حبات الرمل .. إن سقطت حبة لا تعود لمكانها مرة أخرى .. فاغتنم حباتك يا صغير "
عاد من الذكرى مرة أخرى .. وابتسم بتهكم .. وهتفت بشيء من التأثر لا يظهر عادة ..
" صدقت أبي .. صدقت ..ليت أيامي معك تعود لأغتنمها كما يجب "
رفع مرفقيه على المكتب مستندا بكوعيه ... ووضع رأسه بين راحتّي يده
غارق في تفكيره ..وذكرياته ..
هذا الرجل أعطاه الكثير والكثير رغم قلة ما عاشه معه .. ولكنه أثبت له أن الأبوة ليست فقط بالاسم ..وإنما بما يعطيه الأب لأبنائه من حنان واهتمام ..
تذكر فطورهما يوميا .. حيث كان يُصر سليمان عليه أن وقت الطعام مقدس .. ابتسم في نفسه .. فقديما كان حتى الطعام الذي يأكله لا يصلح للتناول من الأساس .. تذكر حديثه حينما كان جالسان بتودد في الحديقة .. وأخبره سليمان قائلا ..
" أتدري يا عابد .. "
استرعى انتباه عابد .. فأكمل سليمان ..
" لقد أبقيت على اسمك الحقيقي حتى لا تكرهني يوما وتظن أني اشتريتك كما كنت تظن ... لا بني .. لو اشتريت شيئا .. فأنا اشتريت أيامي ولحظاتي معك .. وفي نظري .. هذه تساوي كنوز الدنيا "
سليمان عامله كبشر ..انسان ..منحه امتيازات هي في الأصل حقوق ..
رفع رأسه ينظر حوله ..لقد عمد أن يضع كل مقتنياته حوله ..ليراه في أشياءه .. شهاداته .. صوره .. حتى المكتبة الخاصة به .. نقلها معه لهنا .. حتى يتذكره دائما .. في حقيقة الأمر هو لا ينساه أبدا .. ولكنه يتشبث بالعطاء الذي منحته إياه الحياة .. أينعم أعطت بيد .. وأخذت بالأخرى .. ولكن هو ليس بهذا الجحود الذي يجعله ينكر فضل الحياة عليه عندما عاش في كنف هذا الرجل حتى ولو لبضع سنوات ..
استقام من مكانه ليلتف حول مكتبه .. يسير بضع خطوات حتى وقف أمام النافذة الزجاجية التي تتسع باتساع الجدار .. وقف ينظر للمنظر الخارجي.. ولكن عينيه تنظر للا مكان .. وعقله مازال عالق بذكرياته ..
يتذكر ويتذكر وكأن الذكريات تجلده باشتياقه للماضي .. ماضي جمع أناس اشتاقهم .. ناس غادروا .. ببساطة رحلوا كما دخلوا حياته .. واشتاق لأناس مازال يهوى اشتياقه لهم.. أناس ظل يسأل عنهم السنين الماضية مع والده ولكنه للأسف كان يتهرب من إجابة بحثه وسؤاله هذا غير انتقاله من بلد لآخر حفاظا على حياته .. لم يساعده حظه في البحث عنهم .. حتى اليوم الأخير وموت والده .. وبعدها أصبح وحيدا مرة أخرى .. وليس هذا فقط .. لقد أقسم أن ينال حق والده الذي سقط قتيلا بين ذراعيه .. انتقل الى بلد آخر وعمل على اعلاء وصنع اسمه .. وبعدها عاد لوطنه .. ومن وقتها لم يكل من بحثه .. بحث عنهم ومازال يبحث عن أحدهما ..
لفت نظره أب يمشي بجوار طفل بحنو .. ويعطيه حلوى آيسكريم .. والطفل يضحك بفرح .. هو أينعم لم يعش مثل هذه اللحظات ..
ولكنه تذكر موقف مناقض .. ابتسامة علقت على جانب شفتيه .. وعقله يسبح لذاكرة يوم استيقظ فيه ليجد سليمان يخبره أن لديه تدريب ..
أي تدريب هذا ؟!! .. رغم أن الرجل الكبير حرص على جلب المعلمين له .. وتم التحاقه بمدرسة بعد أن خاض عدة اختبارات لمعرفة قدراته
هذا بالطبع بعد أن ظل سنتين يدرس بالمنزل .. وتعلم الكثير والكثير من الأشياء .. خاض مرحلة ما قبل الجامعة .. ودخل الجامعة بالفعل ولم ينسى تعرفه بصديق الغربة " يونس " صديق الجامعة الذي تعرف عليه في هذه المرحلة ... تخصص عابد في التجارة وإدارة الأعمال عرفاناً منه لسليمان حين طلب منه النزول للعمل معه بعد أن افتتح شركة للاستيراد والتصدير .. والذي أصر على عابد أن ينزل للعمل معه ويبدأ من الصفر بجانب دراسته.. وهذا ما حدث .. وبجانب كل هذا لم يهمل تدريبه والتحاقه بنادي تعليم فنون القتال
لم يظن عابد أن اختيار سليمان لهذا النوع من التدريبات لغاية في نفسه .. ولكنه لم يدرك أنه يؤهله لما هو آت .. فاق تخيلاته هو هذا المدرب الذي أتى به .. وكان مدرب لأي ..
رماية .. وأي رماية ؟! .. استعمال المسدس .. كان يظن عابد وقتها ان سليمان يبالغ بعض الشيء .. ولكن لم يكن لديه حرية الرفض .. لقد امره سليمان وانتهى .. وأخبره أن هذا لمصلحته ..
تذكر أيضا بعد سفرهم من هنا ببضع شهور .. علم بالصدفة أن سليمان يجب أن يقوم بإجراء عملية خطيرة بالقلب . ونسبة نجاحها ضعيفة ..
وقتها ثار عابد عليه حين اقتحم عليه غرفة المكتب هاتفا بغضب ..
" أصحيح ما سمعته ؟! "
نظر له سليمان يضيق ما بين حاجبيه بتساؤل ..
" وما هذا الذي سمعته "
كان قد استقام سليمان من مكان ليتجه لعابد الذي يقف منتصبا .. غاضبا كما يتضح من ملامحه ..
" أن لك عملية بالقلب منذ شهور ولم تجريها !! .. "
هذا ما فهمه من فحوى مكالمة حمدي مع الدكتور المعالج لحالة سليمان .. وفجأة تخيل اختفاء هذا الرجل من حياته .. أيختفي الآن بعد أن تقبل عابد وجوده .. وعندما لم يرد سليمان هتف عابد بتكملة ..
" لماذا لم تجريها .. حسنا ولماذا أتيت بي لحياتك إن كنت تريد الموت .. لو كنت تريد الموت هنيئا لك به .. ولكن أعدني لحياتي السابقة قبلا "
ابتسم سليمان بملامح مرتاحة .. لقد فهم طريقة عابد .. هو خائف عليه ولكنه ينكر هذا .. هتف ..
" ولماذا أنت غاضب هكذا اذا كنت تتمنى موتي ؟! "
" أنا لا أتمنى موتك "
هتفها عابد بدون وعي منه ..وذكر الموت يقبض قلبه ..وتخيل حياته بدون هذا الرجل ..بعدما ذاق وجوده ..
ابتسم سليمان بمرح .. وهتف ليشاكس هذا الذي يخفي مشاعره ..
" وماذا تتمنى عابد ؟! .."
اتسمت ملامح عابد بالألم لمجرد تخيل فقدانه لمثل هذه اللحظات .. وهتف بنبرة لم يقوى على مدارة الترجي فيها ..
" لا أتمنى شيئا .. فقط أريدك أن تجري العملية "
إحساس سليمان في هذا الوقت لا يوصف .. وكم تمنى الآن فقط أن يأخذ عابد بين أحضانه .. كم يتشوق لمثل هذا العناق الأبوي .. ولكنه لا يضمن رد فعل عابد الذي قاطع تخيلاته وأمنياته عندما غادر من أمامه ..وكأنه هو الآخر يهرب من شعوره واحتياجه لهذا الرجل ..
أما عن سليمان .. فعاد لكرسي مكتبه .. يتطلع للورق بين يديه .. كان لابد من هذه الخطوة .. هو في كل الأحوال ليس له أحد .. وإن مات سيورثه أخوه .. وهذا لن يحدث أبدا .. يتذكر عندما طلب من محاميه .. حمدي صديقه الصدوق وكاتم أسراره .. أن يقوم بهذه الخطوة .. ثار وهاج ورفض .. ولكنه أصر عليه .. ليس لديه سوى حمدي .. سيقوم بكتابة جزء من ماله الذي جمعه بعد أن باع كل ممتلكاته في الوطن وسافر . تبرع بجزء من ماله لعدة جهات خيرية بداخل وطنه .. وأعطى روز مبلغ هي الأخرى ..روز .. يعرفها عن طريق زوجها ..كان يعمل معه سائق هنا .. عرفه حين أتى في وقت ما للاستجمام بداخل هذه القرية المتطرفة من هذا البلد .. ووقتها عرف روز وكان لديها ابن وابنه توأم .. كانوا عائلته بغربته هنا ..هذا المنزل الذي اشتراه في وقت ما ..ولم يبيعه مثل باقي ممتلكاته ولم يعرف أحدا عنه شيء حتى حمدي محاميه ... أما حمدي .. فكتب له مبلغ هو الآخر .. علاوة عن ذلك .. أودع المال في حساب بنكي بإسم حمدي .. الذي تنازل عنه بورق صوري بعد الايداع بوقت معين في حساب بنكي باسم .. عابد ..
وهذا الورق سيظهر اذا حدث له شيء .. أما اذا عاد من الموت .. فسيعود المبلغ له وله حرية التصرف .. لا يدري عابد أي من هذه الخطوات .. ولا يدري لا هو ولا حمدي أن سليمان يقوم بتأهيل عابد ليأخذ مكانه .. وإن عاد من الموت .. سينتظر حتى بلوغه السن القانوني في هذا البلد ... وسيتنازل وقتها لعابد لما سيضمن له مستقبله .. يرثه عابد ولا يرثه أخاه .. عابد الذي طالبه كثيرا بالتواصل مع أصدقائه من الملجأ ولكن في هذا خطورة على حياته .. وخاصة قبل سفرهم بيوم حضر إليه أخاه وهدده صراحةً أنه قام بالحجر عليه .. وإن لم يكسب القضية سيقتله .. وحين لمح عابد بحديقة بيته نظر له نظرة لن ينساها أبداااا .. عابد الذي سيتحمل ذنبه وضريبة أنانيته معه طوال حياته .. هذا إن عاش ..
أخفى عنه أنه رافض لتواصله مع أصدقائه من الأساس رغم أنه وعده والفتى لا يكف عن الطلب .. أنانية نعم .. ولكن ماذا بيده !! .. فلينعم بوجوده قليلا .. يخاف عليه بجنون .. إن أراد اخاه أن يصل إليه سيصل يدرك هذا جيدا ... لو عليه لأخفاه عن الدنيا جميعها .. لا يعلم كيف ولا متى أحبه وتعلق به هذا التعلق المرضي .. ولكن ما هو متأكد منه أن حبه لعابد بقلبه غُرِس من اللحظة الأولى .. ولن يتنازل عنه بسهولة ... أبداا ...
*****
عاد عابد من تذكره لهذا الموقف الذي جعل قلبه يخفق بجنون متذكرا يوم العملية عندما كان يقف بصحبة حمدي .. يرتجف داخلياً وكان على وشك الانهيار .. وخاصة عندما خرج الطبيب بوجهه متوتر .. مخبرا إياهم بلغته الأجنبية ..
" السيد سليمان بخير .. تمت العملية بنجاح .. ولكن .. "
حينها هتف حمدي يرد بأجنبية تماثل لغة الطبيب .. وعابد ينظر اليهما يحاول فهم ما يدور ..
" ولكن ماذا دكتور ؟! "
أكمل الطبيب ..
" مؤشراته الحيوية ضعيفة .. ووضعه الصحي غير مستقر.. والآن سينتقل لغرفة العناية المركزية لمتابعة نتيجة العملية ومؤشراته بدقة "
حين ترجم حمدي ما قيل لعابد الذي شحب وجهه .. واستند بظهره للحائط ورائه .. وعقلة يدور ويدور .. ويحسب خساراته بخسارة هذا الرجل .. وكم دعا من كل قلبه أن يعود اليه .. ولا يذيقه خسارته بعد أن ذاق صحبته .. مرّ يومين يتلظى فيهما بانتظاره وتضرعه لله أن يعود سليمان .. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها لله .. وكأن الله أراد أن يجزيه للجوئه له .. ارتفعت مؤشراته الحيوية .. وكانت فرص نجاة سليمان عالية وأول ما سأل ..سأل عن عابد الذي كان يقف خارج الغرفة يرتعب الدخول ويكون خبر استيقاظ سليمان محرد كذبه .. ولكن حمدي لم يتركه لخوفه كثيرا ..حين خرج له
يحثه للدخول للذي هلك من كثرة السؤال عنه .. وقد أذعن لزن حمدي ومطالبته له بالدخول .. ودخل بقلب يرتجف .. وأطراف ترتعش ..
يراه ممد على الفراش الأبيض .. عاري الصدر .. وينتصف صدره بلاصق طبي .. وجسده يلتصق به بعض الأسلاك المتصلة بالأجهزة الطبية .. اقترب من الفراش بتوتر عندما ناداه سليمان بوهن مادا له يده..
اقترب أكثر حتى أمسك يده يضغط عليها .. ولكم رغب الآن بعدة أشياء ..
رغب أن يرتمي بحضن هذا الرجل ليتشمم رائحة الأبوة التي لم يعشها قبلا .. وكم رغب أن يناديه " أبي " كلمة كم رددها بينه وبين نفسه .. كم نطقها لسانه بسكوت .. نُطق لم يتعدى الشفاه ...
اقترب أكثر من الفراش الأبيض ومال ليستطيع الآخر سماعه .. وقال بوعيد شديد
" لم أكن أسامحك أبدا لو لم تعد "
كل ما ناله هو ابتسامة مشرقة أنارت وجه المعني بالأمر ..
انتفض عائدا من ذكرياته على طرقات على باب مكتبه ..ليرى مقتحمه ..
انفرجت ملامحه بإشراق عندما وقع نظره على المشاغب الذي حضر ..
ولسان حاله يردد اسمه بسعادة ..
" حسن "******
أنت تقرأ
تراتيل الماضي.. ج١ سلسلة والعمر يحكي.. بقلمي راندا عادل..
Romanceرواية اجتماعية.. رومانسية..